نتائج البحث عن (أَخْبَارِهِمْ)

1-العربية المعاصرة (حدث)

حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من يَحدُث، حُدوثًا، فهو حادث، والمفعول مَحْدُوث عنه.

* حدَث الأمرُ: وقع وحصَل (حدثتِ الواقعةُ تحت عينيه).

* حدَث عن كذا/حدَث من كذا: نتج عنه أو منه (يحدث الأمرُ الكبير عن/من الأمر الصَّغير).

حدَثَ يَحدُث، حُدوثًا وحَدَاثةً، فهو حادِث.

* حدَث الشَّيءُ: كان جديدًا، عكسه قدُم، وإذا استعمل مع قَدُم ضُمّت الدَّال للمزاوجة (حدَث الشِّعرُ العربيُّ بشكله ومضمونه- أخذ ما قَدُم وما حَدُث).

أحدثَ يُحدث، إحْداثًا، فهو مُحدِث، والمفعول مُحدَث (للمتعدِّي).

* أحدث الشَّخصُ: وقع منه ما يَنقض وضوءَه.

* أحدث الشَّيءَ:

1 - ابتدعه وابتكره (أحدث طريقةً جديدةً في التّدريب وخُطَّة في اللَّعب).

2 - أوجده (أحدث اضطرابات/انقلابًا- {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [قرآن]) (*) أحدث أثرًا: أثَّر- أحدث وَقْعًا: كان له تأثير متَّسم بالإعجاب والدَّهشة.

استحدثَ يستحدث، اسْتِحداثًا، فهو مُستحدِث، والمفعول مُستحدَث.

* استحدثَ الشَّيءَ:

1 - أحدثه، ابتدعه وابتكره (استحدث الاستعمارُ أساليبَ جديدة للهيمنة على الدول).

2 - عدَّه حَديثًا (استحدث الأمرَ).

3 - وجدَه حديث السِّنِّ صغيرًا (أراد أن يكلّفه بمهمَّة لكنَّه استحدثه).

تحادثَ يتحادث، تحادُثًا، فهو مُتحادِث.

* تحادث الطَّالبان/تحادث الطَّالبُ وصديقه/تحادث الطَّالبُ مع صديقه: حدَّث أحدهما الآخر، تكلَّما معًا، تبادلا الأفكار وأطراف الحديث (تحادَث الوفدان ليتَّفِقَا على الصِّيغة النِّهائيَّة للوثيقة- تحادثوا بالأمر).

تحدَّثَ/تحدَّثَ ب/تحدَّثَ عن يتحدَّث، تحدُّثًا، فهو مُتحدِّث، والمفعول مُتَحَدَّث به.

* تحدَّث الشَّخصُ/تحدَّث بالواقعة/تحدَّث عن الواقعة: تكلَّم عنها وأخبر بها (تحدَّث إلى زميله- تحدَّث بما جدَّ عليه- لأن تعمل بالحسنى خيرٌ من أن تتحدّث بها وتقعد [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى المثل العربيّ: الخير بالتَّمام) (*) مُتحدِّث رسميّ: من يتحدَّث باسم جهة رسميّة، ناطق رسميّ.

حادثَ يحادث، محادثةً، فهو محادِث، والمفعول محادَث.

* حادث فلانًا: كالمه، وشاركه في الحديث (ما كنت مصدِّقًا ما قيل لولا أنّه حادثني بنفسه) (*) حادث قلبَه بذكر الله: تعاهده بذلك.

حدَّثَ يحدِّث، تحديثًا، فهو محدِّث، والمفعول محدَّث (للمتعدِّي).

* حدَّث الشَّخصُ: روَى حديثَ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

* حدَّثه الشَّخصُ/حدَّثه الشَّخصُ بكذا/حدَّثه الشَّخصُ عن كذا: أخبره وتكلَّم إليه (حدَّثني صديقي عمّا رأى في رحلته الأخيرة- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [قرآن]: أَشِعْها واشكر عليها) (*) حدَّثته نفسُه: أوحت إليه ودعته إلى القيام بأمر من الأمور- حدَّثه قلبُه: أعلمه، أحسَّ مسبَّقًا بشيء، وخامره شعور به- حدِّث عنه ولا حَرَج: تكلَّم بحرية تامَّة.

* حدَّث الشَّيءَ: جعله حديثًا، جدَّده، بعث فيه الحداثة والتطوير (تمَّ تحديث المصنع لزيادة الإنتاج- تحديث وسائل التَّعليم/العقل العربي/الأمَّة).

إحداثيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إحْداث.

* إحداثيّ أفقيّ أو سينيّ: [في الهندسة] بُعد نقطة عن مستوى المِحْوَريْن العاديّ والعينيّ.

* إحداثيّ رأسيّ لنقطة: [في الهندسة] بُعْدها العموديّ عن المحور الأفقيّ.

إحداثيَّات [جمع]: مفرده إحداثيّة:

1 - [في الجبر والإحصاء] خطوط متقاطعة وعموديّة على أخرى عُملت لمعرفة علاقة الأجزاء بعضها ببعض في شكل ما.

2 - [في الهندسة] أبعاد يتعيَّن بها موضع نقطة ما بالنِّسبة إلى أساس الإسناد.

* إحداثيَّات جغرافيَّة: [في الجغرافيا] خطوط متقاطعة، وهي خطوط الطُّول وخطوط العرض التي تمكِّن من تحديد موقع نقطة من سطح الأرض.

* إحداثيَّات ذات قطبين: [في الطبيعة والفيزياء] نظام إحداثيّات تكون فيه نقطة في سطح مُسْتوٍ محدّدة بأبعادها عن نقطتين ثابتتين (قطبين).

أُحْدوثة [مفرد]: جمعه أحاديثُ:

1 - ما يكثُر التّحدُّث به بين النَّاس ({وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [قرآن]: أهلكوا ولم يبق إلاّ أخبارهم) (*) صار أحدوثة: كثر فيه الحديث- صاروا أحاديث: مُثِّل بهم.

2 - أقصوصة، حكاية قصيرة (حُسْن الأُحْدوثة).

تحديثيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تحديث: (أهداف/أفكار/نقلة/رؤية/نهضة تحديثيَّة) (*) النُّخبة التَّحديثيَّة: رجال الفكر والثقافة.

2 - مصدر صناعيّ من تحديث: نزعة تهتم بالتطوير والأخذ بأسباب العِلْم الحديث لتلبية حاجات العصر (يريد تحويل نزعته التحديثيّة إلى واقع ملموس- يُعَدّ الدكتور زكي نجيب محمود من رواد التحديثية في الفكر العربي).

حادِث [مفرد]: جمعه حَوَادِثُ:

1 - اسم فاعل من حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من وحدَثَ.

2 - كلُّ ما يجدُّ ويحدُث، ما يقع فجأةً (حادث طارئ/عرضيّ أو فجائيّ/مُؤلم- العالَم حادث: مخلوق) (*) الحوادث الجارية: مُجمل الوقائع الحالية أو اليوميّة التي يمكن ملاحظتها.

حادِثة [مفرد]: جمعه حادثات وحَوَادِثُ:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من: كلُّ ما يجدُّ ويحدث، ما يقع فجأة (حادثة سيّارة) (*) مَسْرَح الحادثة: المكان الذي تُجرى فيه أحداث المسرحيَّة أو الفيلم أو الرِّواية أو القصص الأخرى.

2 - مصيبة ونائبة (حوادِث الدَّهر: نوائبه ومصائبه).

حَداثة [مفرد]:

1 - مصدر حدَثَ.

2 - جِدَّة (اهتمَّ الناس بالأزياء العصريّة لحداثتها).

3 - صِبَا، سِنّ الشباب (على الرّغم من حداثة سنّه إلاّ أنَّه تحمّل المسئوليَّة- *وما الحداثة عن حِلم بمانعة*).

* الحداثة: [في الآداب] مصطلح أُطلق على عدد من الحركات الفكريَّة الدَّاعية إلى التَّجديد والثَّائرة على القديم في الآداب الغربيّة وكان لها صداها في الأدب العربيّ الحديث خاصّة بعد الحرب العالميّة الثَّانية (يميل كثير من المبدعين الآن إلى الحداثة باسم التَّجديد وتارة الصِّدق الفنيّ).

* اللاَّحداثة: [في الآداب] مبدأ يقول بوجوب اتِّباع التقاليد الموروثة في الإبداع الشِّعريّ وعدم إحداث أيّ تجديد (إنه من أنصار التبعيّة واللاّحداثة).

حداثويَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى حَداثة: على غير قياس.

2 - نزعة تميل إلى الاهتمام بكلّ ما هو عصريّ وجديد، وطرح كلّ ما هو قديم مطروق (كانت أعمالها تتّسق وتقاليد نزعتها الحداثويّة- هاجم البعض استعمال التقنيات الحداثويّة للمونتاج والريبورتاج في أعمال السينما).

حدَث [مفرد]: جمعه أحداث:

1 - صغير السّنّ (شابٌّ حَدَثُ السِّنّ) (*) مَحْكَمة الأحداث: مَحْكَمة مختَصَّة بقضايا صغار السِّنّ.

2 - ما يقع من الأمور غير المعتادة (شهر حافل بالأحداث) (*) أحداث السَّاعة: أهمّ الأحداث الجارية- حَدث الدَّهْر/أحداث الدَّهْر: نائبته أو نوائبه- عاش الأحداثَ: عاصرها، أدركها.

3 - [في الفقه] نجاسة حكميّة تزول بالوضوء أو الغُسل أو التيمُّم.

* الحدثان:

1 - اللَّيل والنَّهار.

2 - [في الفقه] الحدث الأكبر كالجنابة، والحدث الأصغر كالبول والغائط.

* إصلاحيَّة الأحداث: [في علوم الاجتماع] مؤسَّسة لإعادة الإصلاح وترسيخ النِّظام وتدريب مخالفي القانون من الأحداث وصغار السِّنّ وتأهيلهم.

حَدَثان [مفرد].

* حَدَثان الدَّهر: نوائبه وحوادثه (أفناهم حَدَثان الدَّهر).

حِدْثان [مفرد].

* حِدْثان الشَّباب: أوّلُه وابتداؤه.

حُدُوث [مفرد]: مصدر حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من وحدَثَ.

* حدوث العالم: مصطلح يعني أنِّ العالَم محدَث له صانع أحدثه وأوجده وليس بأزليّ.

حديث [مفرد]: جمعه أحاديثُ:

1 - كلّ ما يتحدَّث به من كلامٍ وخبر (حديث جانبيّ/صحفيّ/ذو شجون- {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [قرآن]) (*) جاذبه أطرافَ الحديث: شاركه في الحوار- حديث المائدة: حديث عفويّ وقت تناول الطعام- حديث النَّفس: ما يحدِّث به الإنسان نفسَه من خير وشرّ- حديث ذو شجون: متشعِّب متفرِّع يستدعي بعضُه بعضًا- قطع عليه حديثَه: اعترضه- ما لي معك حديث: لا شأن لي معك.

2 - [في الحديث] كُلُّ قول أو فعل أو تقرير أو صفة مِمَّا نُسب إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم (حفظت الأربعين حديثًا النوويّة) (*) حديث شريف: كلام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابته.

3 - حُلْم {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [قرآن].

4 - عِبْرة وعِظَة {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [قرآن].

* علم الحديث: علم يُعرف به أقوالُ النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأفعاله وأحواله (*) أصحاب الحديث/أهل الحديث/رجال الحديث: المحدِّثون.

* حديث قدسيّ: حديث يحكيه النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله عزّ وجلّ، ويُسند مضمونه إليه ويسمّى الحديث الإلهيّ أو الرَّبّانيّ.

* الحديث الحَسَن: [في الحديث] كلّ حديث اتصل سنده برواية عَدْلٍ قلّ ضبطه، من غير علّة ولا شذوذ، ومنه الحسن لذاته والحسن لغيره، وهو كالصحيح في الاحتجاج به غير أن رواته أقل ضبطًا من رواة الصحيح.

* الحديث الضَّعيف: [في الحديث] كلّ حديث فقد شرطًا من شروط القبول التي للصحيح والحسن.

* الحديث المتواز: [في الحديث] خبر ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه.

* الحديث الموضوع: [في الحديث] كلّ كلام ينسب إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلم افتراء وزورًا ولم يثبت أنه قاله أو فعله.

حديث [مفرد]: جمعه حِداث وحُدَثاءُ: جديد عصريّ، عكسه قديم (صدر هذا الكتاب حديثًا) (*) حديثًا: مؤخَّرًا- حديث البناء: بُني حديثًا- حديث العَهْد بالزَّواج: تزوَّج منذ وقتٍ قريب- حديث العَهْد بالشَّيء/حديث عَهْد بالشَّيء: عرفه حديثًا- حديث نعمة/حديث غِنى: أصبح ذا نعمة وثراء منذ وقت قريب، يتباهى بعرض ثروته ببذخٍ خالٍ من الذّوق ينمُّ عن تصنُّعٍ وغباءٍ مثيرَيْن للسُّخرية وهو ذو منشأ متواضع.

مُحادثة [مفرد]: جمعه محادثات:

1 - مصدر حادثَ (*) محادثة تلفونيّة: اتِّصال عبر الهاتف.

2 - مُناقشة أو مباحثة (لم تُسفر المحادثات بين الجانبين عن أيِّ تقدُّم- محادثات دبلوماسيّة).

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] عند الصُّوفيَّة، مخاطَبة الحقّ للعارفين من عالم الملك والشّهادة، كالنِّداء من الشَّجرة لموسى.

مُحدَث [مفرد]: جمعه مُحْدَثون ومُحْدَثات:

1 - اسم مفعول من أحدثَ.

2 - ما لم يكن معروفًا في كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع (وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا [حديث]).

3 - حَدِيث، جديد قريب العهد، عكس قديم (موضوع مُحدَث- {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [قرآن]) (*) مُحدَث الثَّراء/مُحدَث النِّعمة: شخص حديث الثَّراء.

* المُحدَثون: المتأخِّرون من العلماء والأدباء، وهم خلاف المتقدِّمين أو القدماء (لم يكن اللُّغويّون القدماء يستشهدون بشعر المحدثين).

مُحْدَثة [مفرد]: جمعه مُحْدَثات، والمذكر مُحْدَث:

1 - مؤنَّث مُحدَث.

2 - مُحْدَث، ما لم يكن معروفًا في كتابٍ ولا سُنَّة ولا إجماع (وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ [حديث]).

مُحدَّث [مفرد]:

1 - اسم مفعول من حدَّثَ.

2 - مُلهَم يرى الرَّأي ويظّنُّ الظّنَّ، فيكون كما رأى وكما ظنّ (إِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مُحدَّثٌ فَهُوَ عُمَرُ [حديث]).

مُحدِّث [مفرد]:

1 - اسم فاعل من حدَّثَ.

2 - راوي أحاديث النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم (تزخر المكتبات بكتب الرّواة والمحدِّثين).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (تحسّسَ)

[تحسّسَ] - الخبرَ: تَطلَّب معرفته.

ويُقال: تحسّس من القوم: تتبَّعَ أَخبارهم.

وفي التنزيل العزيز: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87].

و- للقوْم: سعى في جمع الأَخْبار والأَحادِيثِ لهم.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-معجم ما استعجم (طيستور)

طيستور: بفتح أوّله، وإسكان ثانيه، بعده سين مهملة مفتوحة، وتاء معجمة باثنتين من فوقها مضمومة، ثم واو وراء مهملة. وهى مدينة من مدن فارس، وفيها مات يزدجرد ملكهم، يأتى ذكرها فى أخبارهم.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


4-معجم متن اللغة (النقيب)

النقيب: عريف القوم يتعرف أخبارهم ويفتش عن أحوالهم: الرئيس الأكبر: المزمار: لسان المزمار: المنقوب.

ومنه كلب نقيب إذا ثقب غلصمته أو حنجرته ليضعف صوته فلا يرتفع نباحه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


5-جمهرة اللغة (دهي ديه هدي هيد يده يهد)

الدَّهْي: مصدر دَهِيَ الرجلُ يدهَى دَهْيًا ودهاءً، إذا صار داهيًا.

وقد سمّت العرب دُهَيًّا.

قال أبو زيد: دَهَيْتُ الرجلَ فأنا أدهاه دَهْيًا، وذلك أن تعيبه وتغتاله وتغتابه وتنقصه.

وأدهيتُ الرجلَ، إذا وجدته داهيًا.

وبنو دُهَيّ: بطن من العرب.

والدِّيَة ناقصة تراها في بابها إن شاء الله.

والهَدْي: ما أُهدي الى الكعبة، واحدتها هَدْيَة، ويقال: هَديّة.

والهَديّة: معروفة، والجمع هدايا.

والهَدِيّ: العروس إذا زُفَّت الى زوجها.

قال عنترة:

«ألا يا دارَ عبلةَ بـالـطَّـويِّ***كرَجْعِ الوَشْم في كفِّ الهَديِّ»

والهَديّ: الأسير.

قال المتلمّس:

«وطُرَيْفَةُ بنُ العبد كان هَديَّهم***ضَربوا صميمَ قَذاله بمهنَّدِ»

وهِيدْ هِيدْ: كلمة يقولها الحادي، وربما نوّنوها فيقولون هِيدٍ هِيدٍ.

وتقول العرب: هَيْدَ ما لك، وهِيدَ ما لك، في معنى: ما شأنك.

وأيامُ هَيْدٍ: أيام مُوتانٍ كانت في العرب في القديم، شبيه بالطاعون.

وفي بعض أخبارهم: هِيد وما هِيد، مات في اثنا عشرَ ألف قتيل.

وهَيْد: موت كان في الدهر قديمًا فقالوا: كان ذلك في زمان هَيدٍ، فيما ذكره ابن الكلبي، وأنه حفر في موضع باليمن فوجد فيه سريرين مضبَّبين بالذهب عليهما امرأتان في حُلَل منسوجة بالذهب عند رأس إحداهما لوح مكتوب: أنا حُبَّى بنت تُبَّع القَيْل إذ لا قيل إلا الله، مُتنا في زمان هَيْدٍ، مات فيه اثنا عشرَ ألف قَيْل فلجأنا الى هذا الشِّعب أن يجيرَنا من الموت فلم يُجِرْنا، ولا نشرك بالله شيئًا.

انقضى حرف الدال والحمد لله حقَّ حمده وصلواته على سيّدنا محمد نبيّ الرحمة وآله الطاهرين.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


6-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحزم وصداع)

الحزم وصداع

هو أرض واسعة من أعمال غيل باوزير، كانت بها عين ماء وشلة، فما زال الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ في علاجها حتّى انبثقت ماء غزيرا، وفيه اليوم معيانان، وله جامع.

ومن سكّانه: الشّيخ الصّالح المعمّر عمر بادبّاه، يقال: إنّ سنّة اليوم ينتهي إلى مئة وأحد عشر عاما.

وفي حوالي سنة (1260 ه‍): كانت المنافسات قائمة على قدم وساق بحيدرآباد الدّكن بين الأمير عمر بن عوض القعيطيّ والأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ وفي جانبه الأمير غالب بن محسن الكثيريّ، وكلّهم في خدمة الجيش الآصفيّ.

فاتّفق العولقيّ وغالب بن محسن على تكوين دولة لهم بحضرموت، وكان العولقيّ كثير المال، كريم النّفس، شجاع القلب، فطفق يرسل إلى حضرموت بكثير من الأموال؛ لمواصلة العلويّين، ولبناء المساجد والسّقايا وما أشبه ذلك.

ولمّا بدأ غالب بن محسن بشراء الغرف من أسافل حضرموت.. بدأ العولقيّ بشراء الحزم هذا، واختار القارة المعروفة هناك لبناء حصنه الحصين عليها، وهو المعروف بحصن صداع، الّذي يقول فيه شاعرهم:

«سلام الفين يا حصن مبني فوق قاره *** بناك العولقي ما يعوّل بالخساره »

ولمّا شعر القعيطيّ بذلك.. أرسل أولاده محمّدا وعبد الله وعليّا وعوضا إلى القطن من أرض حضرموت، وزوّدهم بالأموال الطّائلة، وبعث معهم بعبدين داهيين محنّكين، يقال لأحدهما: ألماس، وللآخر: عنبر، ووافق ذلك هوى من يافع، إلّا أنّهم اختلفوا مع عبديه في مخزن التّموين، فأراد العبدان أن يكون بسيئون، فامتنعت يافع خوفا من رسوخ قدم القعيطيّ فيها وهم لا يبغون بها بديلا.

ولمّا أحسّ آل كثير ـ بعد اللّتيا والّتي، وبعد هروج ومروج مستوفاة ب «الأصل» ـ بأنّهم عاجزون عن مناهضة القعيطيّ.. عقدوا حلفا ثلاثيّا من الكساديّ ـ الّذي استمالوه إليهم، وكان هو والقعيطيّ على رأي لأنّهم يافعيّون ـ ومن العولقيّ والكثيريّ، وكان ذلك في سنة (1290 ه‍).

وكانت للعولقيّ عدّة مراكب شراعيّة تمخر عباب البحر، وتنقل ما يحتاجه من الهند إلى الحزم وصداع.

وجرت بينهم حروب كثيرة، كانت النّهاية فيها ـ كما ب «الأصل» ـ انهزام العولقيّ والكساديّ وآل عمر باعمر، وتراجع آل كثير، واستيلاء القعيطيّ على الغيل وعلى الحزم وعلى صداع، وكان ذلك في سنة (1293 ه‍).

وسمعت من الثّقات: أنّ نفقات العولقيّ على الحزم وصداع بلغت ثمانية آلاف ألف روبيّة، وكان كثير النّدم على ما كان في أيّام حياته من ذلك، وتمنّى أن لو كانت في سبل الخيرات.

وللعامّة في تمنّيه ذلك أشعار كثيرة، ومن يك وكلاؤه آل كثير.. فإنّه جدير بمثل ذلك.

وما أدري، أكان ما أنفقه ولده محسن بعد وفاته في حروب الحزم وصداع داخلا في ذلك القدر، أم كان علاوة عليه؟

إلا أنّه انتبه لآل كثير واحتاط منهم، ولذا لم يحمد بينهم المآل ولم يبلغوا الآمال.

وينتهي نسب العولقيّ إلى ذي يزن الحميريّ، وقيل: إلى معن بن زائدة الشّيبانيّ، وقيل: إنّه من آل باحلوان، وهو من بني حلوان بن عمر بن الحاف بن قضاعة، وإنّ الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ من ذرّيّة عبد الله بن قيس بن زمليّ بن عمرو الفهميّ الآتي ذكره في الغرفة، والله أعلم بحقيقة ذلك، ومهما يكن من الأمر..

«فما سوّدته عامر عن وراثة *** أبى الله أن يسمو بأمّ ولا أب »

وله أخبار عظيمة، ومناقب كريمة، وأنف حميّ، وقدر سميّ.

«والله أعطاه المحبّة في الورى *** وحباه بالفضل الّذي لا يجهل »

«نفس مشيّعة ورأي محصد *** ويد مؤيّدة ورأي فيصل »

إلى جود ضخم، ومجد فخم، وعقل راجح، وسيف طامح.

«وزنوا الأصالة من حجاه وإنّما *** وزنوا بها طودا من الأطواد»

«ووراء ذاك الحلم ليث خفيّة *** من دون حوزته وحيّة وادي »

ولم تكن الهزائم المشار إليها في الحزم وصداع إلّا بعد خمود ريح دولته بموته في حيدرآباد الدّكن سنة (1284 ه‍).

والمشهور: أنّه مات على فراشه، وقال بعضهم: إنّها وقعت بينه وبين الشّاوش صلاح الضّبيّ اليافعيّ واقعة قتل فيها صلاح وجماعة من عسكر الطّرفين، ولكنّ ملك حيدرآباد أصلح بينهم، غير أنّ يافعا بعد عامين من الصّلح كادت للأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ مع خروجه لصلاة العصر، وأطلقت عليه الرّصاص، وكان كما قال الأوّل:

«مضى مثل ما يمضي السّنان وأشرقت *** به بسطة زادت على بسطة الرّمح »

«فتى ينطوي الحسّاد من مكرماته *** ومن مجده الأوفى على كمد برح »

وقد وقع رداؤه على ولده محسن، وكان على قدّة أبيه، جودا ونجدة وشهامة، ولكنّه لم يكن مثله ـ ولا بقريب منه ـ لا في العلم ولا في الدّين، فانطبق عليه قول ليلى الأخيليّة [من الطّويل]:

«فنعم فتى الدّنيا وإن كان فاجرا *** وفوق الفتى لو كان ليس بفاجر»

وهذا البيت من الكلام الجزل، الّذي لا يعلكه إلّا لحي بازل فحل، فمجيئه من لسان هذه المرأة يفتح للنّساء أبواب الفخر والاحتجاج على الرّجال بمصاريعها، فلقد أراد حبيب أن يتعلّق به.. فانهار رجاه، وأخطأته النّجاه؛ إذ لم يأت إلّا بقوله [في «ديوانه» 1 / 377 من الكامل]:

«إنّ الطّلاقة والنّدى خير لهم *** من عفّة جمست عليك جموسا »

«لو أنّ أسباب العفاف بلا ندى *** نفعت.. لقد نفعت إذا إبليسا »

وقوله [في «ديوانه» 1 / 427 ـ 428 من الكامل]:

«إن كان بالورع ابتنى القوم العلا *** أو بالتّقى صار الشّريف شريفا»

«فعلام قدّم وهو زان عامر *** وأميط علقمة وكان عفيفا؟»

ثمّ رأيت المبرّد يقول في أواخر «الكامل» [3 / 1410 ـ 1411]: (لقد كانت الخنساء وليلى متقدّمتين لأكثر الفحول، وربّما تتقدّم المرأة في الصّناعة، ولكنّه قليل، والأغلب ما قال تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ))، وأطال في هذا الباب، ويرد عليه: أنّ هذا ليس من كلام الله، وإنّما هو محكيّ عن فرعون، ولقائل أن يستثني منه بفرض الرّواية عند البحتريّ أو الشّجريّ في «الحماسة» إبدال (فاجر) بفاخر.. فقلت له: ليس الفخر بعاب عند العرب حتّى يسلك به فجه فهو ظاهر الغلط، لا سيّما وقد قال توبة [الخفاجيّ من الطّويل]:

«لقد زعمت ليلى بأنّي فاجر *** لنفسي تقاها أو عليها فجورها »

أمّا قول ليلى [من الطّويل]:

«معاذ النّهى قد كان والله توبة *** جوادا على العلّات جمّا نوافله »

«أغرّ خفاجيّا يرى البخل سبّة *** تحالف كفّاه النّدى وأنامله »

«عفيفا بعيد الهمّ صلبا قناته *** جميلا محيّاه قليلا غوائله »

إنّما جاءت به مكابرة لقول معاوية ـ أو عبد الملك ـ ويحك يا ليلى؛ يزعم النّاس أنّه كان عاهرا فاجرا. ورأيها مع النّاس أقوى حجّة من وصفه بالعفاف مع الضّعف؛ بأمارة الإيجاز الّذي لم يتجاوز اللّفظة الواحدة فيه.

وسمعت من غير واحد من أهل حيدرآباد أنّ بغيّا قالت لمحسن هذا: أتوجد مئة ألف روبيّة مجموعة معا في مكان واحد؟

فقال لها: نعم.

فقالت: أمّا أنا فلا أصدّق بذلك، وإن كان واقعا.. فإنّي أتمنّى أن أراه.

فأمر بإحضار مئة ألف روبيّة، ونثرها في بقعة واحدة، ثمّ أمرها أن ترقص عليها، لا أدري أبثيابها أم عريانة، ثمّ سوّغها إيّاها.

ومن محاسنه: وقفه ليشحر الآتي ذكره بموضعه.

وقد أثّرت على حياة محسن حادثة الهزيمة في الحزم والصداع، لا سيّما وأنّ آل القعيطيّ أحضروا سدّة صداع إلى حيدرآباد ووضعوها في الطّريق الواسعة، فمات غبنا في سنة (1294 ه‍) عن ولد يقال له: حسين، لم يكن بدون أبيه في الشّجاعة، ولكنّه مات بعده وشيكا بسمّ ـ حسبما يقال ـ دسّ إليه، وبموته انقرضوا عن غير وارث ثابت، فصارت نقودهم ـ المقدّرة بأكثر من عشرين ألف ألف روبيّة، فضلا عمّا يناسبها من المجوهرات والعقارات الكثيرة ـ طعمة لبيت المال.

«وأصبحوا لا ترى إلّا منازلهم *** قفرا سوى الذّكر والآثار إن ذكروا »

وسبحان من لا يدوم إلّا ملكه وما هنا ليس إلّا نموذجا لما في «الأصل» من أخبارهم الشّيّقة، وكلّه دون ما يستحقّون؛ لأنّ خبر الأمير عبد الله بن عليّ من أكبر أخباره، فلو أنّنا كتبنا كلّ ما سمعناه عمّن رآه.. لكان عجبا! وموته من غير وارث قد ينافي كونه من آل عبد الله باحلوان؛ لأنّهم معروفون في الغرفة بأنسابهم إلى الآن.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


7-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الشحر)

الشّحر

لها عدّة إطلاقات:

الأوّل: أنّها اسم لكلّ ما شمله حدّ حضرموت السّابق ذكره أوائل الكتاب.

الثّاني: أنّها اسم لساحل المشقاص بأسره، فما كان منه لبني ظنّة.. فهو داخل في حدّ حضرموت، وما كان منه للمهرة كبديعوت.. فهو شحر المهرة.

الثّالث: أنّها اسم لجميع ما بين عدن وعمان، كما ذكره ياقوت [3 / 327] عن الأصمعيّ.

وكثير من يقول: إنّ ظفار هي قاعدة بلاد الشّحر، وفي «الأصل» بسط ذلك.

الرّابع: اختصاص الاسم بالمدينة اليوم.

لكن نقل السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد عن الباب السّابع من «نخبة الدّهر»: (إنّ لحضرموت فرضتين على ساحل البحر، يقال لإحداهما: شرمة، وهي الآتي ذكرها. وللأخرى: الشّحر، ولم تكن بمدينة، وإنّما كانوا ينزلون بها في خصاص، حتّى بنى بها الملك المظفّر ـ صاحب اليمن في زماننا هذا ـ مدينة حصينة بعد سنة سبعين وستّ مئة) اه

وفي «صبح الأعشى» (5 / 16): (والشّحر ـ قال ياقوت الحمويّ: هي بليدة صغيرة ـ ولم يزد على ذلك. والّذي يظهر: أنّ لها إقليما ينسب إليها) اه

وما استظهره هو الواقع، ولا سيّما في الأعراف القديمة، وكانت وفاة ياقوت في سنة (626 ه‍)؛ أي: قبيل أن يجعلها المظفّر مدينة بمدّة ليست بالطّويلة.

وما جاء في «صبح الأعشى» عن ياقوت لعلّه من غير مادة الشّحر، أمّا فيها من «معجمه».. فقد أطال القول عن الشّحر، وقال: (هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وإليه ينسب العنبر الشّحريّ؛ لأنّه يوجد في سواحله، وهناك عدّة مدن يتناولها هذا الاسم، وإلى الشّحر ينسب جماعة منهم محمّد بن خويّ بن معاذ الشّحري) اه [3 / 327 ـ 328] باختصار.

وفي «مروج الذّهب» ذكر للنّسناس الّذي أفضت القول عنه ب «الأصل»، ثمّ قال المسعوديّ: ووجدت أهل الشّحر من بلاد حضرموت وساحلها ـ وهي تسعون مدينة على الشّاطىء من أرض الأحقاف، وهي أرض الرّمل وغيرها ممّا اتّصل بهذي الدّيار من أرض اليمن وغيرها، من عمان وأرض المهرة ـ يستظرفون أخبار النّسناس إذا ما حدّثوها، ويتعجّبون من وصفه، ويتوهّمون أنّه ببعض بقاع الأرض ممّا قد بعد عنهم؛ كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم، وهذا يدلّ على عدم كونه في العالم، وإنّما هو من هوس العامّة؛ كما وقع لهم من عنقاء مغرب، ونحن لا نحيل وجود النّسناس والعنقاء؛ لأنّ ذلك غير ممتنع في القدرة، غير أنّه لم يرد خبر قاطع للعذر بصحّة وجود ذلك في العالم.. فهذا داخل في حيّز الممكن الجائز... إلى آخر ما أطال به.

والذي يعنينا منه كون الشّحر فيما سلف من الزّمان تسعين مدينة، وكون هذه الأرض تسمّى كلّها أرض الأحقاف، وهو موافق لكثير ممّا سبق. والله أعلم.

وللشّحر ذكر في شعر سراقة بن مرداس البارقيّ، وذلك أنّه أخذ أسيرا يوم جبّانة السّبيع، فقدّم في الأسرى، فقال ـ كما عند الطّبريّ وغيره ـ [من الرّجز]:

«امنن عليّ اليوم يا خير معدّ *** وخير من حلّ بشحر والجند»

وخير من لبّى وصلّى وسجد

فعفا عنه المختار في قصّة طويلة تشهد لاستيلائه على الشّحر. وكانت دولة الشّحر لكندة إلى سنة (575 ه‍).. حيث هجم عليها الزّنجيليّ.

ثمّ تولّاها آل فارس المختلف في نسبهم: فقيل: إلى الأنصار، وهو أبعدها.

وقيل: إلى كندة، وهو أوسطها، ويؤيّده ما سبق في حجر أن لا تزال به طائفة من آل ابن دغّار الكنديّين، يقال لهم: آل فارس. وقيل: إلى المهرة، وهو الّذي رجّحته ودلّلت عليه.

وفي سنة (616 ه‍): انقضّ ابن مهديّ ـ وهو من صنائع آل رسول اليمانيّين ـ على آل فارس، وأخرجهم من الشّحر.

وفي سنة (621 ه‍): تولّى عليها عبد الرّحمن بن راشد، وكان يؤدّي الخراج لملوك الغزّ، فعزله نور الدّين الرّسوليّ برجل من الغزّ، وأضاف إليه نقيبا، فقتل الغزّيّ، واستولى على البلاد، وكان عبد الرّحمن بن راشد في ضيافة نور الدّين بتعز، فاستدعاه، وخلع عليه، وأمره أن يسير إلى الشّحر، فضبطها وبقيت تحت حكمه إلى سنة (678 ه‍) حيث دخلت الشّحر وحضرموت تحت حكم المظفّر الرّسوليّ، ولكنّه أبقى عبد الرّحمن بن راشد عليها نائبا عنه حتّى توفّي في سنة (664 ه‍)، ودفن بين تربة الشّيخ سعد الظّفاريّ وتربة عمرو، وقبره مشهور بها.

وخلفه أخوه راشد بن شجعنة، فبقي عليها إلى سنة (677 ه‍)، فتغيّر عليه المظفّر واعتقله بزبيد إلى أن مات.

وفي سنة (767 ه‍): وصل المظفّر بنفسه إلى الشّحر، فعمّرها ـ حسبما تقدّم ـ ثمّ لم يزل حكّامها من أسرته تحت أمر آل رسول حتّى ضعف أمرهم.

وصار النّفوذ بحضرموت لآل يمانيّ.

وفي سنة (812 ه‍): استولى دويس بن راصع على الشّحر، ثمّ عادت لآل فارس، حتّى انتزعها منهم آل كثير في سنة (867 ه‍)، وهي أوّل دولتهم بها.

ثمّ استردّها آل فارس منهم في سنة (894 ه‍).

ثمّ استرجعها آل كثير في سنة (901 ه‍)، وما زالت في أيديهم على مناوشات بينهم وبين أمراء العشائر حتّى استولى الإمام (المتوكّل على الله) على حضرموت وعليها في سنة (1070 ه‍).

وقال السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: (كان خروج الإمام أحمد بن حسن سنة «1072 ه‍»، وأقام بجيشه في حضرموت نصف شهر، ثمّ عاد طريق البحر من بندر الشّحر، واستخلف السّلطان بدر بن عمر الكثيريّ، وترك عنده جملة من عسكره الزيديّة، واستمرّ أمرهم نحو خمسين سنة إلى خروج يافع من الجبل سنة 1117 ه‍) اه

وقال السّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ في كتابه «المسالك اليمنيّة»: (وفي سنة «1064 ه‍»: خطب بدر بن عمر الكثيريّ للإمام، فقبض عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله، فهمّ الإمام بالتّجهيز، وأمر بحشد الجنود إلى بني أرض، ومنعت بلاد الرّصّاص ويافع والعوالق والجرش والواحديّ والفضليّ عن المرور فيها، فجدّ الإمام في جهادهم، واجتمع لأولاد إخوته زهاء عشرة آلاف راجل وألف عنان، واشتدّ القتال بينهم وبين حسين الرّصّاصيّ حتّى قتل، وانهزم أخوه صالح إلى البيضاء، وانتهب العسكر جميع ما في مخيّمهم.

وكان محمّد بن الحسين لم يشهد الوقعة، ولكنّه حضر بعدها، فتقدّم إلى يافع يوم الإثنين (19) جمادى الآخرة من السّنة إلى ذيل جبل العرّ، فاستولى على الجبل، وعادوا إلى عند الإمام.

ولمّا انتهى خبر هذا النّصر العظيم إلى بدر بن عبد الله الكثيريّ.. أطلق عمّه، وخطب للإمام، فأرسل الإمام صالح بن حسين الجوفيّ إلى حضرموت، فألفى الأمر على حقيقته، فوجّه بدر بن عمر إلى ظفار واليا عليها.

وفي سنة «1068 ه‍»: غدر بدر بن عبد الله بعمّه بدر بن عمر، وأخرجه عن ظفار، فقدم على الإمام فأكرمه.

وفي جمادى الأوّلى من سنة «1069 ه‍»: اختار المتوكل الصّفيّ أحمد بن حسن لفتح حضرموت والشّحر وظفار.

وفي شعبان: توجّه الصّفيّ إلى وادي السّرّ بمخلاف خولان، ثمّ إلى فحوان ورغوان، ثمّ إلى مأرب وحبّان، ثمّ دخل أطراف بلاد العوالق فوصل بلدة واسط، ثمّ سار إلى وادي حجر، ثمّ تجرّد منها تجرّد الحسام.

وكان سلطان حضرموت قدّم عساكره إلى أعلى عقبة حجر فانهزموا من أحمد بن الحسن، وبانهزامهم.. انهزم من بعدهم، وهذا المحلّ يقال له: ريدة بامسدوس، ثمّ تقدّم إلى الهجرين، ثمّ التقوا بعسكر سلطان حضرموت فهزموهم واستولوا على حضرموت، وعاد الصّفيّ إلى حضرة الإمام بضوران، في أبّهة فاخرة، ودولة قاهرة، وفتح قريب، ونصر عجيب) اه باختصار.

وإنّما استوفيته مع عدم ملاءمته للإيجاز؛ لأنّ فيه ما ليس في «الأصل»، على أنّ في «الأصل» ما ليس فيه، فليضمّ إلى كلّ ما نقص.

أمّا استيلاء يافع على الشّحر وحضرموت: فكما ذكر السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: كان في سنة (1117 ه‍)، وقد سبق في المكلّا أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهرة أمير ذلك الجيش أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، جبى فيها منها خمسة وثلاثين ألف ريال (35000).

وكان من يافع طائفة يقال لهم: آل عيّاش، سكن رئيسهم بحصن الشّحر الّذي كان يقال له: المصبّح، فأطلق عليه من ذلك اليوم: حصن ابن عيّاش.

وما زالت يافع على الشّحر حتّى أخذها الإمام المهديّ بالمهرة، ومعهم الأمير سعيد بن عليّ بن مطران، وحصل النّداء بالشّحر أنّ النّاس في أمان المهديّ.

واشترط يافع لأنفسهم أن يغادروا الشّحر بسلاحهم بعد ثمانية أيّام، فخرجوا منها إلى حضرموت، وانضمّوا إلى عسكر عمر بن جعفر.

وفي سنة (1118 ه‍): وصل السّلطان عمر بن جعفر من اليمن إلى الشّحر، وسلّمه النّقيب والعسكر حصن الشّحر، ونادى بالأمان، ثمّ كتب للعسكر بحضرموت: (إنّ سيّدي الإمام المهديّ وجّهني إلى حضرموت، فإن كنتم في الطّاعة.. سلّمتم النّاس من الضّرر، وإلّا.. فنحن واصلون بالجيش المنصور، وهو مؤلّف من ثلاث مئة من حاشد وبكيل، ونحو مئة من سائر عسكر الإمام، ونحو مئة من الحجاز، ونحو مئة وخمسين أخلاط من الخلق).

وكان السّلطان عيسى على سيئون وحضرموت، فانهزم.

ثمّ تغلّبت يافع على عمر بن جعفر، وعاد الأمر إليهم بالشّحر، إلى أن اختلفوا، فغلبهم آل بريك، وكانوا ولّوا رئيسهم بعض الأمر بالنّيابة عنهم، فلمّا اختلفوا.. استبدّ عليهم.

وأصل آل بريك من حريضة، وهم إمّا من بقايا بني ناعب الآتي ذكرهم في التّعريف بوادي عمد، وإمّا من بني جبر؛ قبيلة من يافع يسكنون جبلا في سرو حمير، يقال له: ذو ناخب، كما في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [173].

وأوّل ما ابتدأ به آل بريك المصالحة بين الحموم، والتّحالف معهم، حتّى قرّبوا النّاس وعاملوهم بالإحسان حتّى أحبّوهم.

وأوّل أمير لهم هو: ناجي بن عمر، وكانت يافع جعلت إليه الماليّة في أيّام نفوذها؛ لأنّهم تنازعوها وكادوا أن يقتتلوا عليها، ولمّا استقلّ شيئا فشيئا على حساب اختلافهم وتفرّق آرائهم.. أفاقوا، فناوشهم، ولكنّه انتصر عليهم لأنّهم كانوا متحاسدين.

ولمّا مات ناجي بن عمر في سنة (1193 ه‍).. خلفه ولده عليّ بن ناجي بن عمر بن بريك، فخالفه محسن بن جابر بن همّام، وانضمّ إليه آل عمر باعمر، فجهز عليهم عليّ ناجي وأجلى آل همّام إلى المكلّا، وآل عمر باعمر إلى الرّيدة، واستنجد آل همّام بعبد الرّبّ بن صلاح الكساديّ، ولكنّه انهزم هو وإيّاهم كما سبق في المكلّا.

وفي أيّام عليّ ناجي هذا: ظهر أنّ القاضي سعيد بن عمر بن طاهر كان يعمل الأسحار، فأغرقه في بالوعة الأقذار، وكان آخر العهد به.

ولمّا مات عليّ بن ناجي سنة (1220 ه‍).. خلفه أخوه حسين بن ناجي، ثمّ ولده ناجي بن عليّ بن ناجي.

وفي أيّامه جاءت الوهّابيّة في خمس وعشرين سفينة تحت قيادة ابن قملة، بأمر الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود، الّذي استفحل سلطانه لذلك العهد، فافتتح نجدا والحسا والعروض والقطيف والحجاز وغيرها، وكان أكثر فتوحه على يد القائد العظيم ابنه سعود المتوفّى سنة (1229 ه‍).. فامتلكوا البلاد، ولم يؤذوا أحدا في حال ولا مال، ولم يهلكوا حرثا ولا نسلا، وإنّما أخربوا القباب، وأبعدوا التّوابيت ـ وقد قرّرت في «الأصل» ما ذكره ابن قاسم العبّاديّ من حرمة التّوابيت.

وأمّا القباب: فإن كانت في مسبّلة.. فحرام، وإلّا.. فلا، بشرطه، ولم يعترضهم آل بريك.

وأقاموا بالشّحر أربعين يوما، ثمّ ركبوا سفائنهم وعادوا لطيّتهم.

وفي سنة (1227 ه‍): نشب الشّرّ ما بين الكساديّ ـ صاحب المكلّا ـ وآل بريك، وامتدّت المناوشات بينهم زمانا طويلا في البحر والبرّ.

وفي سنة (1242 ه‍): توفّي ناجي بن عليّ؛ وكان خادما للدّين، شديد الغيرة على شعائره، لا يخرج عن رأي الإمام الحبيب حسن بن صالح البحر في ذلك، حتّى لقد أمره أن لا يمكّن أحدا من البادية يدخل الشّحر ليمتار إلّا بعد أن يحلف اليمين على أن لا يقصّر في الصّلاة، فحصل بذلك نفع عظيم، وصلاح كبير، حتّى جاء العوابثة في قطار لهم، فلمّا أرادوا أن يدخلوا من سدّة العيدروس وهي باب الشّحر الشّماليّ.. عرضوهم على العهد، فأبوا، وصرفوا وجوه إبلهم إلى الغيل عند رفاقهم آل عمر باعمر، وارتجزوا بقول شاعرهم:

«قولوا لناجي بن عليّ *** كلّين يوخذ له ملاه »

«ماراس بن عوبث غلب *** ما بايعاهد عالصّلاه »

واختلفوا في تفسير هذا: فقوم يحملونه على العناد والمجاهرة بالفساد.

وآخرون يحملونه على أنّ الدّاعي إلى الصّلاة من الدّين، والسّائق لها من الضّمير، فلا تحتاج إلى عهد ولا إلى يمين. ولمّا مات ناجي بن عليّ.. خلفه ولده عليّ ناجي الثّاني.

وفي سنة (1267 ه‍): كانت حادثة مرير، وحاصلها: أنّ آل كثير أغاروا على الشّحر بعسكر مجر، وجاءتهم نجدة من الأتراك في البحر من مكّة المشرّفة، على رأسها شيخ العلويّين، السّيّد إسحاق بن عقيل بن يحيى، مؤلّفة تلك النّجدة من نحو خمس مئة جنديّ بعدّتهم وعتادهم، فبلغت العساكر البحريّة والبريّة نحوا من خمسة آلاف، إلّا أنّه لم يصحبها رفيق من التّوفيق، فكان عاقبتها الانهزام الشّامل، والفشل الشّائن، كما هو مفصّل ب «الأصل» [3 / 9 ـ 16].

وبعضهم يعلّل ذلك الانهزام بخيانة من سيبان الموجودين بكثرة في الجيش الكثيريّ؛ لأنّهم كانوا في طليعة الجيش المرابط بمرير، فلمّا هاجمتهم فرقة من عسكر الكساديّ جاءت من المكلّا لمساعدة آل بريك.. انهزموا وذهبوا بها عريضة وأكثروا من الأراجيف، فخلعوا قلوب الجيش الكثيريّ وملؤوا صدورهم رعبا، فركب كلّ منهم رأسه، وذهبوا عباديد لا يلوي أحدهم على شيء قطّ، وعادت النّجدة التّركيّة إلى أسطولها الرّاسي بشرمة؛ لأنّ مرسى الشّحر كان مكشوفا؛ وكان البحر هائجا، والوقت خريفا، وتفرّق الجيش الكثيريّ أيدي سبأ، وعاد بخيبة الرّجاء، ولم يبق بالمعسكر في اليوم الثّاني نافخ ضرم.

وكان من نتيجة ذلك الفشل: أنّ السّلطان عبد المجيد العثمانيّ أقال السّيّد إسحاق من مشيخة العلويّين بمكّة، وأبدله بالسّيّد محمّد بن محمّد السّقّاف.

وفي سنة (1283 ه‍): جهّز السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ على الشّحر، فاستولى عليها، وهرب عليّ ناجي بمن معه وما قدر عليه، في خمس من السّفن أعدّها لذلك من يوم علم بالغزو، وكان هربه إلى المكلّا فلم يمكّنه الكساديّ من النّزول بها؛ معتذرا بأنّه لا يصلح سيفان في جفير، فأبحر إلى يشبم، وأذن له النّقيب أن يبقي نساءه وصغاره في خلف، ومات كثير منهم بالبرد.. فانتقل بعضهم إلى الحرشيات، أمّا المكلّا.. فلم يمكّنهم من دخولها، وأقام عليّ ناجي عند الشّيخ فريد بن محسن العولقيّ عاما، ثمّ ركب إلى عدن، وعاد منها إلى الشّحر.

وكان عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بعد جلاء غالب بن محسن عنها، فأكرم وفادته، وتحفّى به حتّى لقد دخل بين البحّارة الّذين حملوه من القارب إلى السّاحل، وأحسن مثواه، إلّا أنّ فكرة الإمارة عادت تتحرّك في صدره، وكلّما ذكر أيّامه عليها بالشّحر.. قال بلسان حاله:

«فوالهفة كم لي على الملك شهقة *** تذوب عليها قطعة من فؤاديا»

فعزم إلى الآستانة؛ ليستنجد بالخليفة العثمانيّ على الكساديّ بالمكلّا وعلى القعيطيّ بالشّحر، فسافر إلى عدن، ثمّ خرج إلى لحج، وبها فاجأته المنيّة، وعاد كثير من أعقابه إلى الشّحر، ولا يزال بها ناس منهم إلى اليوم.

أمّا غالب بن محسن: فلو قنع بالشّحر كما أشار عليه المخلصون.. لأوشك أن تطول بها مدّته، لكنّه طمع في أخذ المكلّا من الكساديّ، فانكسر دونها.

وفي آخر ذي الحجّة من نفس السّنة الّتي أخذ فيها الشّحر ـ أعني سنة (1283 ه‍) ـ: جهز القعيطيّ بمساعدة الكساديّ على الشّحر، وافتتحها بأسرع وقت، وتفرّق عسكر السّلطان غالب شذر مذر، بعدها أخذت السّيوف منهم كلّ مأخذ ولو لا أنّ أحد عبيده ـ وهو صنقور سليمان، وكان من أهل القوّة والأيد ـ احتمله على ظهره.. لذهب مع شفرات يافع، فما نجا إلّا بجريعة الذّقن وخيط الرّقبة.

وفي رجب من سنة (1284 ه‍): استأنف السّلطان غالب بن محسن التّجهيز على الشّحر؛ إذ بقي قلبه بحسرة عليها، ودخل أكثر جيشه من كوّة فتحوها في سور البلد، فانحصروا وانقطع عليهم خطّ الرّجعة، وأصلتهم يافع ومن لفّهم من عسكر القعيطيّ نارا حامية، فأثخنوا فيهم قتلا، وخرج الباقون لا يلوي آخرهم على أوّلهم.

ورسخت أقدام القعيطيّ بالشّحر، وجلس عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، كما عرف ممّا سبق.

وبعد وفاته في سنة (1306 ه‍): خلفه عليها ولده حسين بن عبد الله؛ لأنّ أكثر إقامة السّلطان عوض بن عمر كانت بحيدرآباد الدّكن في خدمة النّظام الآصفي، ثمّ نزغ الشّيطان بين السّلطان عوض وأولاد أخيه عبد الله، وهما: منصّر وحسين، وجرى بينهم ما فصّلناه ب «الأصل».

وكانت النّهاية تحكيم المنصب السّيّد أحمد بن سالم بن سقّاف، فحكم بأن لا حظّ لهم في الإمارة، وتمّ جلاؤهم عن الشّحر والغيل بمساعدة الحكومة الإنكليزيّة في سنة (1320 ه‍).

ومن العجب أنّ التّحكيم كان خاصّا بما بينهم من الدّعاوى الماليّة، ومع ذلك فقد كان الحكم شاملا للإمارة! !.

واستتبّ الأمر للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ، فحل حضرموت، وطلّاع نجادها، ومزلزل أوتادها.

«مدبّر ملك أيّ رأييه صارعوا *** به الخطب ردّ الخطب يدمى ويكلم »

«وظلّام أعداء إذا بدىء اعتدى *** بموجزة يرفضّ من وقعها الدّم »

«ولو بلغ الجاني أقاصي حلمه *** لأعقب بعد الحلم منه التّحلّم »

وقد أطلقنا عليه لقب السّلطان؛ لأنّه به حقيق في اتّساع ملكه، وامتداد نفوذه، وفي «الأصل» بسط الكلام عمّن يسمّى سلطانا ومن لا يسمّى.

ونزيد هنا قول الإمام الرّازيّ في تفسير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو أنّ: (من ملك بلدا صغيرا لا يحسن فيه أن يقال فيه: جلس على العرش، وإنّما يحسن ذلك فيمن ملك البلاد الشّاسعة، والأقطار الواسعة. فالعرش والكرسيّ لا يكونان إلّا عند عظمة الملك) اه

وهو لا يخرج عمّا هناك.

وللسّلطان عوض محاسن جمّة، ومناقب مهمّة، وقد حجّ في سنة (1317 ه‍)، وأظهر من التّواضع والخضوع ما يدلّ على قوّة دين، وصحّة إيمان، وأكرمه الشّريف عون الرّفيق، وأعاد له الزّيارة، فأدركته عنده نوبة صرع، فانزعج القعيطيّ، وظنّها القاضية، حتّى هدّأه أصحاب الشّريف، وقالوا له: إنّما هي عادة تعتاده من زمن قديم، وقدّم للشّريف هدايا طائلة.

ومع قرب سفره.. طلبوا منه معونة لإجراء سكّة الحديد بين الشّام والمدينة، فدفع لهم ثلاثين ألف ربيّة، فأرجعوها إليه استقلالا لها، فركب إلى المدينة على وعد الرّجوع إلى جدّة، ثمّ سار إلى الشّام، وكان آخر العهد به، وسلمت الثّلاثون ألف.

وقد سبق في حجر أنّه تعلّق بأستار الكعبة وتاب من كلّ سيّئة إلّا من فتح حجر وحضرموت.

توفّي بالهند آخر سنة (1328 ه‍)، ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر ابن شهاب بقصيدة حمينيّة ولكنّها مؤثّرة.

ووقع رداؤه على ولده السّلطان غالب بن عوض، وكان شهما كريما ليّن الجانب، دمث الشّمائل، وديع القلب، شريف الطّبع، وافر الحرمة، سعيد الحظّ، ميمون النّقيبة، مبسوط الكفّ، ينطبق عليه قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 317 من الطّويل]:

«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »

وقوله [في «ديوانه» 1 / 316 من الوافر]:

«له خلق نهى القرآن عنه *** وذاك عطاؤه السّرف البدار »

وقول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 339 من الطّويل]:

«تغطرس جود لم يملّكه وقفة *** فيختار فيها للصّنيعة موضعا»

وقوله [في «ديوانه» 1 / 63 من الطّويل]:

«إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما *** لديه.. لأمسى حاتم وهو عاذله »

وقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 129 من الكامل]:

«ودعوه من فرط السّماح مبذّرا *** ودعوه من غصب النّفوس الغاصبا»

وفي أيّامه كانت حادثة الحموم في (27) ربيع الثّاني من سنة (1337 ه‍)، وحاصلها: أنّهم كانوا يخيفون السّابلة، والحكومة القعيطيّة تتوقّى شرّهم وتدفع لهم مواساة سنويّة يعتادونها من أيّام آل بريك.

وفي ذلك العهد انعقد الصّلح بين الحموم والحكومة القعيطيّة بدراهم بذلتها لهم الحكومة ـ لا يستهان بها ـ على العادة الجارية بينهم في ذلك، فبينا هم غارّون.. هاجمتهم سيبان، وكان لها عندهم ثار، فقتلت منهم عددا ليس بالقليل، فاتّهموا الحكومة بمساعدتهم، وظفروا بجماعة من يافع فقتلوهم، فما زال ناصر أحمد بريك أمير الشّحر يومئذ يداريهم ويستميلهم، ويظهر لهم أنّ قتلهم ليافع لم يثر حفاظه.. حتّى اجتمع منهم بالشّحر نحو من أربع مئة، وكانوا يعتدّون بأنفسهم وبهيبة الحكومة لهم.. فلم يبالوا بالدّخول من دون تجديد للصّلح الّذي وقع فيه ما وقع فألقى عليهم القبض أجمعين، وقتل سبعة وعشرين من رؤسائهم، ودفنهم في قبر واحد من غير غسل ولا صلاة ولا تكفين؛ منهم: سالم بن عليّ بن مجنّح، الملقّب (حبريش)، وحيمد بن عمرو بالفرج الغرابيّ، ومرضوح بن عوض اليمنيّ، وغيرهم. وأظهروا من الثّبات ساعة القتل ما أبقى لهم جميل الأحدوثة.

ومات في حبس القعيطيّ منهم مئة وسبعة، وأطلق بعد ذلك سراح الباقين، ولكن بعد ما وهن جانبهم، ونخرت عيدانهم، إلّا أنّ عليّ بن حبريش لم يزل يجمع جراميزه لأخذ الثّأر، ودار على حصون آل كثير فلم يجد عندهم منفعة، وإلّا.. فقد كانت بينهم وبين بعضهم أحلاف.

وبعد أن مضى لهذه الحادثة سبع سنين.. هجم على الدّيس فنهبها واستباحها، وقتل جماعة من عسكر القعيطيّ، وأسر ثمانية عشر منهم، ولم يقتل من أصحابه إلّا أربعة فقط، وطفق يتجاذب الحبال مع الدّولة القعيطيّة حتّى استعانوا عليه بالطّائرات الإنكليزيّة، فأضرّت بمكانه الواقع على مقربة من غيل ابن يمين، ولم يخضع مع ذلك.

وفي نحو سنة (1358 ه‍): كمن ولده في جماعة من الحموم بالمكان المسمّى حرو، فجاءتهم ثلّة من العساكر القعيطيّة في سيّارات، يتقدّمهم يافعيّ شجاع، يقال له: محمّد محسن السعديّ، فتبادلوا الرّصاص، لكن كانت يافع أثبت وأنفذ سلاحا، فاستأصلوهم قتلا، فانكسف بال عليّ بن حبريش، واستولى عليه الفراش، ومات غبنا.

وكان أهل الشّحر يلاقون عناء من قلّة الماء، فأجراه إليهم السّلطان غالب من تبالة، فاستراحوا بذلك.

وفي أيّامه انعقدت بينه وبين سلاطين آل كثير صاحب سيئون وصاحب تريم المعاهدة المشهورة ذات الإحدى عشرة مادّة، المحرّرة (27) شعبان سنة (1336 ه‍) وقد اعترفوا في المادّة الأولى منها بانسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة عليهم.

ولقد بذلت جهدي في تحذير السّلاطين الكثيريّين ونصحهم عن الموافقة عليها، وذكرت لهم ما في ذلك من الوزر والخسر بما هو مبسوط في «الأصل»، ولكنّ السّيّد حسين بن حامد المحضار ألحّ في ذلك بسعي شديد، وجهد جهيد، وساعده ناس من أهل الثّروة.. فتمّ له ما أراد، ومعروف ومشهور ما لي في ذلك من المنظوم والمنثور.

وكانت بيني وبين السّلطان غالب هذا مودّة لو لا مكايدة السّيّد حسين بن حامد لها.. لكانت قويّة، وبيني وبينه مكاتبات ممتعة ذكرت بعضها في «الأصل»، ولي عليه عهود موثّقة بالنّصر على كلّ من عاداني، وبالإعفاء من الرّسوم عن ستّين طردا في كلّ عام، وبمرتّب سنويّ زهيد، ومع ذلك.. فقد كان وزيره المرحوم السّيّد حسين بن حامد المحضار يراوغني فيها، ويمانع العمل بها.

ولمّا توفّي.. أرسلتها إلى عند ولده السّيّد أبي بكر بن حسين أطالبه بإجرائها وتنفيذ ما فيها، فلم يردّها إليّ رأسا، وظنّها النّسخة الوحيدة، ولكن كانت عندي صورتها بإمضاء السّلطان غالب والسّيّد حسين، وشهادة السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار، والأمير عليّ بن صلاح، وطالما ذكّرت بها العلّامة السّلطان صالح بن غالب، فقلت له أمام الملأ: أهذه المعاهدات صحيحة معمول بها، أم تعتبر لاغية؟! فأجاب بصحّتها والتزام تنفيذها، وكان ذلك بمرأى ومسمع من وزيره المكرّم الفاضل سيف بن عليّ آل بو عليّ.

وقد تقدّمت إلى السّلطان صالح في سنة (1355 ه‍) بقصيدة [كما في «الدّيوان» ق / 167 ـ 169 من الطّويل] تزيد عن مئة وعشرين بيتا لم تعد فيها قافية، وأنشدتها له مرّات، أولاها بالمكلّا عامئذ، والثّانية بحورة في سنة (1360 ه‍)، والثّالثة بمنزلي في سنة (1365 ه‍). منها:

«وبين يدينا شرعة لا تزيدها *** تجاريب ذي عقل ولا عقد مؤتمر»

«هي القدّة المثلى العليّ منارها *** أتتنا بها غرّ الأحاديث والسّور »

«وحسبك بالإفرنج فالخطّة الّتي *** بها المشي فيما يحكمون به استمر»

«مدوّنة في الأصل من قول مالك *** وسائل تجدها في التّواريخ والسّير»

«ولكنّ أهل العلم والدّين داهنوا *** وباعوا حقوق الله بالماء والشّجر»

«فلن تلق منهم من نهى عن قبيحة *** ولا من بمعروف على مكره أمر»

«إذا انتهك الإسلام أغضى زعيمهم *** وإن أخذت شاة له اهتاج واستعر »

«فما شأنهم إلّا التّصنّع والرّيا *** وأعجب ما تلقى النّفاق لدى مضر»

«نفاق وأخلاق دقاق وذلّة *** بها شوّه الإدبار أيّامنا الأخر»

«تولّى الوفا والصّدق فاندكّ مجدهم *** وراحت عليهم كلّ مكرمة هدر»

«يقولون ما لا يعملون تصنّعا *** سواسية من قال شعرا ومن نثر»

«وقد كانت الآباء من قنّة العلا *** بشأو حثى في وجه كلّ من افتخر »

«تزلّ الوعول العصم عن قذفاتهم *** وكم من عقاب في مراقيهم انكسر »

«مضوا شهداء الحقّ في نصرة الهدى *** وما برحوا في هجرة وعلى سفر»

«ومن آل قحطان رجال على الوفا *** مضوا بسلام ذكرهم طاب واشتهر»

«إذا عاهدوا وفّوا العهود وإن دعوا *** أجابوا ولو كان الظّلام قد اعتكر»

«كرام يهابون الملام، ولذعة ال *** كلام لهم أشوى من الصّارم الذّكر »

«وجاءت خلوف سخنة العين بعدهم *** مشائيم قد ضمّوا إلى العجر البجر »

«مذاميم تطويل الإزار من العلا *** لديهم، وتصفيف الملابس والطّرر»

«إذا عقدوا عقدا وقالوا مقالة *** فلا عقدهم يرجى ولا القول يعتبر»

«فآه من الشّؤم الّذي مسّنا بهم! ! *** وآه على عقد الكرام الّذي انتثر! ! »

«ولمّا نصرت الحقّ بين بني أبي *** رأوا أنّه الذّنب الّذي ليس يغتفر»

«فدانوا ببغضي واستهانوا بحرمتي *** وكم قصدوني بالأذايا وبالضّرر»

«وكم حطّ من قدري حسود فلم ينل *** علاي لأنّي صنت نفسي عن القذر»

«فإن جاء عنّي فاسق بنميمة *** وألصق بي عيبا وأرجف وافتجر»

«فقولوا له: قابل، فذا هوّ حاضر *** وغبّ التّلاقي يعرف الصّفو والكدر»

«يعيبونني غيبا وأعلن ذمّهم *** وليس سواء من أسرّ ومن جهر»

«نناشدك الإسلام والحرمة الّتي *** نؤمّل فيها أن نلوذ إلى وزر»

«ولي بخصوصي في الذّمام وثائق *** أبوك بها ـ حيّاه مولاه ـ قد أقرّ»

«وأمضى بمرأى من رجال ومسمع *** عليها وعندي خطّه الآن مستطر»

«وأكّد إحداهنّ توقيعكم بها *** وشاع لدى أهل المدائن والوبر»

«فما بيّ من هضم يمسّ بمجدكم *** وأنت الحميّ الأنف والأمر قد ظهر»

«أترضى على هذا بواش يقول لي: *** كلام القعيطيّ الّذي قاله قصر؟! »

وكان الاقتصار أحقّ بالاختصار، لكن أخذ الكلام برقاب بعضه، واقتضاه سوق الحفيظة، والاستنجاز في هذا المعرض المناسب.

وقد توفّي السّلطان غالب بن عوض في سنة (1340 ه‍) ودفن بجانب أبيه بمقبرة أكبر شاه بحيدرآباد الدّكن.

وقد رثيته عن وجدان صحيح وودّ صادق، بقصيدة توجد بمكانها من «الدّيوان»

ورثاه شيخنا العلّامة ابن شهاب بأبيات، منها:

«جاء تاريخ موته *** عظّم الله أجركم »

وما سمعنا بسلطان بكته رعاياه بدموع حارّة، وأحزان متواصلة.. مثله، ولا جرم؛ فقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 49 من الطّويل]:

«ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى *** بكى بعيون سرّها وقلوب »

وقال يزيد المهلّبيّ [من البسيط]:

«أشركتمونا جميعا في سروركم *** فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف »

وخلفه أخوه السّلطان عمر بن عوض، وكان ثقة، حازما، صادقا، شجاعا، غيورا، وله وفادات مكرّرة إلى مكّة المعظّمة والمدينة المشرّفة، يتواتر عنه فيها ما يدلّ على صحّة الإيمان وقوّة الدّين، ولئن اتّهم بتقصير في العبادة، وانحراف في السّيرة.. فالنّدم أمارة صدق التّوبة.

وبقي على وزارته السّيّد حسين بن حامد المحضار، إلّا أنّه لم يكن في أيّامه وافر الحرمة نافذ الكلمة واسع الجاه، كما كان في أيّام السّلطان غالب الّذي لا يعترضه في أيّ أمر كان، بل يفوّض إليه الأمور تفويضا أعمى.

أمّا السّلطان عمر.. فقد أسمعه ما يكره، حتّى لقد أخبرني السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار: أنّ السّيّد حسين بن حامد قال لولده أبي بكر وهو على فراش الموت: (إنّني قتيل عمر بن عوض).

ولمّا مات السّيّد حسين في آخر سنة (1345 ه‍).. أبقى السّلطان عمر ولده أبا بكر، ثمّ عزله، ولم يثرّب عليه، ولم يؤذه في حال ولا مال.

واستوزر بعده المكرّم سالم بن أحمد القعيطيّ، وجعله موضع ثقته وأمانته.

توفّي السّلطان عمر بن عوض أواخر سنة (1354 ه‍) بحيدرآباد الدّكن، وخلفه العلّامة الجليل السّلطان صالح بن غالب، وكان غزير المادّة في العلم، كما تشهد له بذلك مؤلّفاته المنقطعة النّظير، وقد سبق في المكلّا شغفه بالعلم، وإنفاقه على المدارس ما يوازي ربع حاصلات البلاد بالتّقريب.

وقد تجدّدت بينه وبين الحكومة البريطانيّة معاهدة في الأخير ـ لعلّها في سنة (1358 ه‍) ـ قبل فيها أن يكون له مستشار إنكليزيّ، وعذره فيما يظهر: أنّ بعض آل حضرموت أكثروا الزّراية على وزارته، وتمضّغوها في الجرائد بحقّ وبغير حقّ، وأغدقوا العرائض في ذلك على دار الاعتماد بعدن، وعند ما أحسّ بالإصغاء إليها مع تردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى حضرموت ونزولهم على الرّحب والسّعة بأكثر ممّا يوافق هواهم، ويملأ رضاهم، ويوطّىء لهم المناكب، ويفتح لهم الأبواب.. لم يسعه ـ مع ما عرفه من الأحابيل المنصوبة له ولولده من بعده، مع حرصه على توثيق الأمر له ـ إلّا أن يقول بلسان حاله: (إذا سعيتم في موالاة الحكومة الإنكليزيّة برجل.. طرت فيها بجناح)، فكان ما كان، إلّا أنّه تنازل لهم عن أكثر ممّا التزمه.

ولقد كان السّلطان الكثيريّ ـ مع نزول درجته عنه وصغر مملكته بتفاوت عظيم ـ لا يزال ينازعهم، وقلّما يشتدّ في أمر إلّا وافقوه عليه، فتراه يتحمّل مع اتّساع ملكه ما لا يتحمّله الكثيريّ، والسّلطان صالح محبوب عند النّاس، مفدّى بالأرواح من سائر الأجناس:

«هو الملك الّذي جمعت عليه *** على قدر محبّات العباد»

«تولّته القلوب وبايعته *** بإخلاص النّصيحة والوداد »

وهو كآبائه، محبّ بنفسه للعدل، بعيد من الظّلم، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع، والحلم الشّامل.. أخذوا يتبسّطون في المظالم، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح، ويقول: (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات.. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه، ويقول: (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ)، قيل له: (ولم).. قال: (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.

وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك، وقد تقيّلها معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، فانتظمت الأمور، واندفعت الشّرور، وانعدم الجور، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره؛ لتثلج الصّدور، وتبرد الخواطر، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه، وألسنة تهتف بشكره، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم، لا لأمن ينبسط، ولا لعدل ينتشر، ولا لخير يعمّ، ولا لشرّ يندفع، ولا لعطاء يرجى، ولا لسيوف تخشى، ولكن لخصلة واحدة، وهي: جبر القلوب، وأخذ الخواطر، وحلاوة اللّسان، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة، وإن زاد على ذلك شيئا.. فما هو إلّا كرم الضّيافة، حسبما قلت له في القصيدة الآتي خبرها في أحوال سيئون السّياسيّة [من البسيط]:

«ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة *** بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل »

«وبالكلام الّذي نيط القبول به *** مع العناق لدى التّوديع والقبل »

وإنّما قلت: من جهة؛ لأنّ الجور في بعض الأماكن؛ كوادي الأيسر لعهده تكاد تنشقّ الأرض منه، وتخرّ الجبال هدّا، ومفاسد الاستبداد إذ ذاك فوق التّصوّر.

فإنكاري على عمّال الحكومة القعيطيّة جدّ شديد في جورهم وتنكّرهم للمناصب ولرؤساء يافع وآل تميم وآل كثير وغيرهم من حلفاء السّلطان القعيطيّ وأشياعه.

وقد كان السّبب الأكبر في سقوط دولة آل مروان: إدناء الأعداء، وإبعاد الأولياء؛ إذ صار الوليّ عدوّا بالإقصاء، ولم يعد العدوّ وليّا بالتّقريب.

وقد اتّفق أنّ بعض العمّال في سنة (1366 ه‍) أخذ أهل دوعن بالشّدّة والعنف، وحاول أن يضغط على سيبان وآل العموديّ والسّادة، ولم يدر أنّ الضّغط يورث الانفجار، فكانت النّتيجة أن تحالفت بطون سيبان من نوّح والحالكة والخامعة والمراشدة والقثم وآل باخشوين وآل باعمروش وآل نهيم، ودخلت معهم الدّيّن وناس من الحموم على إعلان الثّورة عندما يريد أحدهم عمّال الحكومة بالظّلم، وتعاقدوا أن لا يجيبوا باغي هضيمتهم إلّا بألسنة البنادق، وقالوا بلسان حالهم:

«إذا الملك الجبّار صعّر خدّه *** مشينا إليه بالسّيوف نخاطبه »

وعقدوا بينهم عهدا وثيقا وحلفا أكيدا، من قواعده: أن لا وفاء ولا بياض وجه لمن تأخّر عنه أو خاس به إلّا دفع ألف ريال وقتل أحد أقربائه على عوائدهم الجاهليّة.

وكان ذلك أواخر سنة (1366 ه‍) ببضه، وشهده الفاضل السّيّد علويّ بن محمّد بن أحمد المحضار، وأبو بكر بن حسين المحضار، وأحد السّادة آل البار.

فلم يكن من الحكومة إلّا أن عزلت ذلك وعملت بسياسة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ يقول: (لو كانت بيني وبين النّاس شعرة.. لم تنقطع؛ لأنّهم إن شدّوا.. أرخيت، وإن أرخوا.. قبضت)، ونعمّا فعلت الحكومة بذلك؛ لأنّه إذا التقى السيفان.. ذهب الخيار، ولكن الصّيف ضيّعت اللّبن؛ إذ لم يكن إلّا بعد أن خسرت من الهيبة، وفقدت من الأبّهة ما لا يمكن تلافيه إلّا بتحمّل منّة تتفسّخ منها القوائم لحكومة عدن، مع أنّها كانت في غنى عن ذلك؛ لانعقاد القلوب على محبّة السّلطان، لعفّته عن أموال النّاس.. فلا يحتاج إلى العنف إلّا اللّثام الّذين لا يصلحهم غيره.

«ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا *** مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى »

ولو أنّ عمّال القعيطيّ سايسوا الكرام من سيبان والعموديّ بالرّفق.. لاستقام الحال، وانحلّ الإشكال؛ إذ الكرام كما قال الأوّل:

«قوم إذا شومسوا لجّ الشّماس بهم *** ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا »

وقال سعيد بن ناسب [من الطّويل]:

«وما بي على من لان لي من فظاظة *** ولكنّني فظّ أبيّ على القسر»

هذا ما يحسن أن يعامل به الكرام، أمّا الرّذال.. فلا يصلحهم إلّا ضرب القذال وبمثل ذلك جاء القرآن العظيم، وسار عليه الشّارع الحكيم، ومعاذ الله أن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا ما أصلح أوّلها، ولا معرفة لي تكفي اليوم للحكم بحال القوم، ولكنّ من يردني من آل العموديّ وآل العطّاس يحدّثني عن شهامتهم ونخوتهم بما يبعد معه أن تذلّل معاطسهم الخطم، وقد قال بعض شعرائهم المتأخّرين ـ واسمه سعيد بن سالم بانهيم المرشدي ـ:

«لا حق بامدّه ولا منقود *** ولا شريعه عند قاضي »

«لمّا يغلّق كسبي الموجود *** هفوه لهم والقلب راضي »

ولا أشنوعة عليه بالتّمدّح بالامتناع عن استدعاء القضاة؛ لأنّهم لصوص.. فله من جورهم مخرج عن هذا، وفيه شبه من قول بعض الأوائل [من الطّويل]:

«بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغميم القوافيا »

«فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة *** فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا »

«ولكنّ حكم السّيف فينا مسلّط *** فنرضى إذا ما أصبح السّيف راضيا »

ولا أذكر قائلها الآن، ولكنّني أعرف أنّ موسى بن المهديّ تمثّل بها لمّا جيء برأس الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى، وجعل يوبّخ من أسر من أصحابه ويقتلهم.

والحسين هذا هو الفخي نسبة إلى محلّ واقعته، وهو بمكّة أو قريب منها، أو هو وادي الزّاهر.. فكلّ ذلك قيل، وهي أقوال متقاربة.

ولطالما حدّثني الواردون عن شهامة أولئك، غير أنّ قياس المشاهدة على ما نعرف من قبائل بلادنا.. يجعل السّعي مهلا، والصّعب سهلا، والعسر إلى المياسرة.

وبعد أن فرغت من هذا الكتاب بشهور أخبرني غير واحد بأنّ أحد رؤساء آل ماضي ـ وكان يحطب في حبل الحكومة ـ ابتزّ امرأة رجل غائب بالهند، ولمّا حضر.. امتلأ غيظا ـ وفيما دون هذا يحمى أنف الكريم ـ فلم يبخل بالمال في سبيل غسل العار، فقتل ذلك الباغي في بلاده، واتّهم بقتله اثنان من آل باصليب، فجهّزت عليهم الحكومة نحو سبع مئة جنديّ بدبّاباتهم فما دونها من الآلات والأسلحة والعتاد، فصبر لهم رئيس آل باصليب، وكان شهما، وأبلى فيهم أحسن البلاء، ثمّ قتل، وأشبل عليه أخوه وابنه فأصيبا، ولكنّهما احتملاه، رحمة الله عليه، لقد مات شهيدا وأبقى ذكرا مجيدا:

«فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة *** تقوم مقام النّصر إن فاته النّصر »

«وقد كان فوت الموت سهلا فردّه *** إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر »

«ونفس تعاف العار حتّى كأنّما *** هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر»

وكان كلّ ذلك ـ حسبما يقال ـ بخيانة من بعض آل باصليب أنفسهم، ثمّ لم يكن من الحكومة إلّا إهانتهم، وأخذ أسلحتهم.

وبإثر هذه الحادثة تراخى أمر ذلك الحلف؛ إذ تقنّعت الأحلاف، ولم يلبّ صوت المقدّم سعيد باصليب إلّا المشاجرة، جاؤوا من يبعث ونواحيها في نحو سبع مئة رام، يتقدّمهم باشقير، ولكن بعد ما سبق السّيف العذل، وفرغوا من سعيد باصليب.. فعادوا أدارجهم.

وكان عند آل العموديّ بعض مأجوري الحكومة يشاغلونهم بالكلام، حتّى قضي الأمر، وما أظنّه إلّا يتساوى النّاس، ويصحّ القياس.

وقال الطّيّب بامخرمة في التّعريف بالشّحر: (سمّيت الشّحر بهذا الاسم لأنّ سكّانها كانوا جيلا من المهرة يسمّون: الشّحرات ـ بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الرّاء، ثمّ ألف، فحذفوا الألف وكسروا الشّين، ومنهم من لم يكسرها، والكسر أكثر ـ وتسمّى: الأشحار أيضا؛ كالجمع. وتسمّى: الأشغاء؛ لأنّه كان بها واد يسمّى الأشغا، كان كثير الشّجر، وكان فيه آبار ونخيل، وكانت البلاد حوله من الجانب الشّرقيّ، والمقبرة القديمة في جانبه الغربيّ.

وتسمّى أيضا: سمعون؛ لأنّ بها واد يسمّى بذلك، والمدينة حوله من الشّرق والغرب، وشرب أهلها من آبار في سمعون. وتسمّى: الأحقاف أيضا.

وقد ذكر هذه الأسماء النّقيب أبو حنيفة، واسمه أحمد، كان من أولاد أحد تجّار عدن، ثمّ صار نقيبا لفقراء زاوية الشّيخ جوهر، ثمّ عزم إلى الشّحر، وامتدح سلطانها عبد الرّحمن بن راشد بأشعار كثيرة، معظمها على البال بال، وهو الّذي يسمّيه أهل حضرموت الدان دان.

وخرج من الشّحر جماعة من العلماء الفضلاء؛ كآل أبي شكيل، وآل السّبتيّ، وآل بن حاتم، وغيرهم. وإليها ينسب خلق كثير؛ منهم: محمّد بن معاذ الشّحريّ، سمع من أبي عبد الله الفزاريّ. والجمال محمّد بن عمر بن الأصفر الشّحريّ، سمع منه القواضي بماردين سنة «680 ه‍».

ومن شحر عمان: عمرو بن أبي عمر الشّحري، أنشد له الثّعالبيّ شعرا في «اليتيمة» اه

وقد أطلت القول على الأشحار ب «الأصل»، ومتى عرفنا أنّه من أسماء الشّحر.. انحلّ المشكل عليّ فيه، فهذا ممّا يستدرك على ما هناك.

وطالما استشكلت قولهم: (إنّ المظفّر هو الّذي جعل الشّحر مدينة)، مع عاديّ عمرانها، وتقادم أخبارها، والمفهوم: أنّها كانت مدينة عامرة ثمّ اندثرت حتّى عمّرها المظفّر، فهذا الجمع متعيّن.

ومرّ أوائل هذه المسوّدة عن ياقوت ذكر محمّد بن خويّ بن معاذ، ولكنّ الطّيّب بامخرمة نسبه إلى جدّه ولم يذكر أباه.

وقال الطّيّب أيضا في مادة (ذبحان)

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


8-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الضليعة)

الضّليعة

هي قاعدة ريدة الدّيّن، بينها وبين يبعث الواقع في غربيّها مسيرة يوم، وكان يقال لها: ريدة أرضين، ثمّ قيل: ريدة الدّيّن، نسبة إلى سكّانها المتأخّرين.

وفي «القاموس»: أنّ بحضرموت ريدتين، يعني هذه وريدة الصّيعر.

والواقع: أنّ بحضرموت ريدا كثيرة للجوهيّين والمعارّة وغيرهم، وإنّما خصّت الأوليان بالذّكر لشهرتهما وقدمهما. وسيأتي في ريدة الصّيعر عن الهمدانيّ: أنّ إليها الإشارة بقول طرفة بن العبد [من الطّويل]:

«وبالسّفح آيات كأنّ رسومها *** يمان وشته ريدة وسحول »

وقال أبو طالب ـ عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأبي أميّة بن المغيرة

[من الطّويل]:

«فيصبح أهل الله بيضا كأنّما *** كستهم حبيرا ريدة ومعافر »

والمعافر من أرض اليمن، وأمّا الرّيدة.. فهذه، أو ريدة الصّيعر، وإن كان في اليمن ريد مشهورة.

ولمّا وصلت جيوش المتوكّل على الله إسماعيل بقيادة الإمام أحمد بن الحسن إلى هذه الرّيدة سنة (1069 ه‍).. لاقاه الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن العموديّ، وساعده بكلّ من أطاعه، وكان الشّيخ إذ ذاك واليا على أكثر بلاد دوعن، وبهم انهزم بدر بن عبد الله الكثيريّ أشنع انهزام، حسبما فصّل بمواضعه من «الأصل».

والشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن العموديّ هذا هو غير سميّه العلّامة الشّهير المعمّر، وإنّما هما من قسم المتّفق المفترق فيما أظنّ؛ لأنّ هذا علّامة صوفيّ، وذاك أمير يقود الجيوش، ويذكي الحروب، وإنّما اتّفقا في أسمائهما وأسماء آبائهما.

وقد جاء في «عقد» سيّدي الأستاذ الأبرّ عندما ذكر مشايخ الحبيب عبد الله بن أحمد بلفقيه: أنّ العلّامة الصّوفيّ توفّي يوم السّبت (24) جمادى الأولى سنة (1072 ه‍)

وفي «الأصل»: أنّ الشّيخين حسين بن مطهّر ومحمّد بن مطهّر آل العموديّ لاقوا الشّيخ عمر بن صالح بن هرهرة ـ السّابق ذكره ـ في الضّليعة، وحالفوه على سلطان حضرموت عمر بن جعفر، ثمّ حالفوا عمر بن جعفر على الزّيديّة، وكان لهم كلّ حين لون.

وفي «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [170]: (أنّ ريدة العباد وريدة الحرميّة للأحروم من بني الصّدف، وأنّ مسكن بني معاوية الأكرمين كان بقبضين، ويستشفي بدمائهم الكلب) اه

وكلّما ذكر ابن الحائك ريدة أرضين أو قبضين.. فالظّاهر أنّه إنّما يعني ريدة الدّيّن هذه.

وقد قال فيها [168]: (ومن الهجرين إلى ريدة أرضين واد فيه قرى كثيرة ونخيل للعباد من كندة) اه

وهذا الوصف ينطبق على دوعن ووادي عمد، إلّا أنّه يشكل على إرادة دوعن بأنّ ذكر دوعن موجود بالصّريح في غير موضع من كتاب ابن الحائك، فلو عناه.. لذكر اسمه بالصّريح.

ويشكل على إرادة عمد قوله: (للعباد من كندة) مع ما تقرّر أنّه لقضاعة من حمير.

وقد يجاب عن هذا: بأنّ كندة اختلطت بحمير وخلفتها على كثير من منازلها، ويتأكّد هذا بأنّ وادي عمد كان أخصب مرعى في حضرموت، ولذا كانت الأعيان ترسل مواشيها من أسفل حضرموت لترعى منه، وقد ذكر غير واحد أنّ للحسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم عددا كثيرا من الخيل يرسلها إليه للرّعي.

ومن خطّ الشّيخ محمّد بن عبد الرّحيم بن قاضي، عن خطّ الفقيه عبد الله بن عليّ بن عبد العليم بانافع: (أنّ قبائل السّوط من حمير) اه

وقبائل السّوط كما سبق قبيل ذكر وادي عمد هم: آل باتيس، وآل سميدع، وآل بلعبيد، وهم: آل هميم، وآل باهيصمي ـ وهو الرّأس ـ وباساع، وباكرش، وباحيّان، وآل باغس، وآل باسمير، وآل باوهّاج، وغيرهم. وقد سبق أنّهم يناهزون ألف رام.

ويأتي آخر الكتاب ما يشير إلى أنّ آل بلعبيد من قضاعة، وهو موافق لما جاء عن بانافع؛ لأنّ قضاعة من حمير، وهي تمتدّ من رؤوس وادي جردان إلى رؤوس وادي رخية.

ومن خطّ الشّيخ أحمد بن محمّد مؤذّن باجمال، عن كتاب «الفرج بعد الشّدّة في أنساب فروع كندة» لعوض بن أحمد الجرو: (أنّ ريدة الحرميّة للأحروم من الصّدف، ومن آل لحروم: آل مروان وآل أبي سهل وبنو يمامة بنجران، والصّدف الّذين بريدة الدّيّن من ولده) اه

فيتحصّل أنّ سكّان الرّيدة ـ وهي من السّوط ـ أخلاط من حمير ومن الصّدف وغيرهم.

ومن أخبارهم الأخيرة: أنّ آل باصليب الضّاربين بالحيلة من وادي عمد كان لهم ثأر عند آل بامسدوس، فلم يقدروا عليه لمناعة أرضهم، حتّى صاروا ضحكة بين السّماسرة يؤذونهم بالكلام.

«والعار مضّاض وليس بخائف *** من حتفه من خاف ممّا قيلا »

فلم يكن منهم إلّا أن انتخبوا سبعة من رجالهم، فركبوا متن اللّيل حتّى وصلوا إلى حصن لهم بالضّليعة ـ بلغهم خلوّه من السّكّان ـ وكانوا استعدّوا بكثير من الماء والزّاد والعتاد، فتسوّروا الحصن، ولمّا بدر لهم المطلوب.. أطلقوا عليه الرّصاص، فخرّ صريعا لليدين وللفم، ولكنّهم لم يقدروا على الهرب، وتضرّر كلا الطّرفين: آل باصليب بالانحصار في الحصن، والدّيّن بانكشاف مواضع تصرّفهم لبنادق آل باصليب، حتّى توسّط بعض المناصب، وبعد أن طالت المراجعة في الارتجاز ـ الّذي لم يرض الخروج صلحا بدونه آل باصليب ـ سمحوا لهم به، فقال شاعرهم:

«سبعه سروا من حيلة احمد بن علي *** باروتهم عند السّما متحلّق »

«والدّيّني غافل ولا ظنّ الوفا *** جئته من الجو والفنا متغلّق »

ومن أخبارهم: أنّ السّيّد محمّد بن عمر بن علويّ باعقيل استجار بالدّيّن، هاربا من السّيّد حسين بن حامد المحضار، فبذلوا له الأمان، وهم: آل بامسدوس، وآل الهميم، والمشاجرة.

ولمّا جدّ الجدّ.. قال له الأخيرون: لا نجيرك من الدّولة، وأمّا ممّن دونهم.. فنعم.

وأمّا آل بامسدوس ورئيسهم سالم بن عليّ باغشمي.. فثبت مع باعقيل، فلم يكن من السّيّد حسين بن حامد إلّا أن زحف عليهم بعسكر من جند القعيطيّ يتألّف من ألفين وأربع مئة، على رأسهم أخوه السّيّد عبد الرّحمن بن حامد ومحمّد بن عمر بن أحمد باصرّة، فتقدّمت العساكر إلى مكان يقال له: الأبيضين، وإلى مكان آخر يقال له: وليجات، ودام الحرب نحوا من شهرين، حملت فيه العساكر القعيطيّة على آل بامسدوس مرّتين، في كلتيهما يصلونهم نارا حامية، فيتراجعون بعد أن قتل منهم في الهجمتين أكثر من العشرين بدون أن تراق من آل بامسدوس محجمة من الدّم.

فما زالوا بحامية ـ قارة صغيرة هناك ـ حتّى أرضوهم بما شاؤوا من الدّراهم، فسلّموها لهم، فانكشفت بطاح آل بامسدوس حينئذ لمدافع العسكر القعيطيّ، فطلبوا مساعدة ماليّة من محمّد بن عمر باعقيل؛ لشراء الذّخيرة حتّى يتمكّنوا من مواصلة الحرب، وكان مثريا.. إلّا أنّه لئيم، فلم يعطهم قليلا ولا كثيرا، فتوسّط السّيّد عمر بن طاهر بن عمر الحدّاد والشّيخ محمّد بن بو بكر باسودان، وذمّوا إليهم باعقيل، وزيّنوا لهم تسليمه، ومحالفة القعيطيّ إزاء ما يرضيهم من النّقود، ففعلوا، وعندها وصلوا بباعقيل مصفودا في القيود إلى مصنعة عوره.

قال السيّد حسين بن حامد المحضار:

«سلام منّي عالمناصب والدّول *** خصّ المقدّم والمسمّى باعقيل »

«يومه مطرّد من جبل لمّا جبل *** ما قايس أنّا با نردّه بالصّميل »

فأجابه أحد الدّيّن بما لا أذكره.. ثمّ قال السّيّد حسين:

«حيّا بكم يالّي قضيتوا شغبكم *** بالسّيف والقوّه وصرّات الخزين »

«ما الدّيّني شلّ الحموله مثقله *** كنّه طرحها بعد ذلك يا هوين »

فأجابه أحمد بن عبيد بن مسلّم بن ماضي بقوله:

«لو لا قروشك لي معك قدّمتها *** جيشك رجع مكسور يا سيّد حسين »

«ولّا الوعول المربعيّه شفتها *** عيال يافع في المقابر من ثنين »

أمّا الحلف.. فقد تمّ بين الدّيّن والقعيطيّ بواسطة الدّراهم والسّيّد حسين، وسلّمت لهم الدّيّن رهائن الرّضاء، وما زالت رهائنهم تحت المراقبة في مصنعة عوره حتّى جاء نحو ستّة نفر من آل بامسدوس ذات يوم في حدود سنة (1358 ه‍) فأخذوا رهائنهم، وهربوا ضحوة النّهار، ولم تحبق في ذلك ضأنة.

وأمّا باعقيل.. فبقي مقيّدا بسجن المكلّا، وظفروا بولد له بعد ذلك أوان البلوغ، فزجّوه معه في السّجن، وآلوا أن لا يطلقوه إلّا بغرامة الحرب المقدّرة بمئتي ألف ربيّة، حتّى وردت المكلّا في سنة (1346 ه‍) فتوسّطت في إطلاقه بخمسين ألف ربيّة فقط، فتمّ ذلك في قصص طويلة مستوفاة في «الأصل».

وكنت اجتمعت بالسّيّد حسين بن حامد بعد إلقائه القبض على باعقيل، فأنشدني كثيرا من المساجلات الّتي دارت بينه وبين الدّيّن، ولمّا أنشدني الزّامل الأوّل.. انتقدته، وقلت له: لا يليق زجّ باعقيل في السّجن والقيد، بعد أن خصصته بالسّلام، ولو أنّك استثنيته.. لكان لك بعض العذر، أمّا الآن.. فلا.

فسقط في يده، وما أحسّ بها إلّا تلك السّاعة، وكان يهاب الملام ويعرف مقادير الكلام، وكانت شهامته تقتضي إطلاقه، ولكنّ ولده أبا بكر لم يكن ليساعده على ذلك، لأنّ العداوة إنّما تأصّلت بين باعقيل وبينه.

ومن الضّليعة إلى دوعن يوم واحد، تنزل الطّرق من أعلى جبل السّوط الشّاهق إلى أكثر بلاد دوعن؛ كالخريبة والقويرة وبضه وقيدون. فمنه إلى كلّ واحدة منها طريق كلّها عقاب كأداء، إلّا أنّ أقلّها وعورة ـ بالنّسبة فيما يقال ـ: طريق بضه.

وبالنّجيدين من ريدة الدّيّن كثير من المشايخ آل العموديّ، منهم: الشّيخ عثمان بن محمّد بن عمر العموديّ، ذهب ولده هذا العام ـ أعني عام (1366 ه‍) ـ تاجرا يحمل ألف ريال إلى الحاضنة، وكان معه أحد آل باقطمي، وفي أثناء الطّريق صوّب الرّصاص إلى جوفه وهو يغطّ في نومه، فأرداه واستلب سلاحه وماله، إلّا أنّ المشايخ آل العموديّ اجتمعوا من كلّ صوب، واحتجّوا على آل باقطمي القاطنين بمحيد، الواقع في شرقيّ حوطة الفقيه، بينه وبينها كما مرّ في يبعث نصف يوم، ولا ندري ماذا صار بعد.

وفي شمال النّجيدين حوض عاديّ بديع الإصلاح والنّقب؛ لحفظ الماء طوال سنين الجدب، لا ينتهي أحد إلى قعره أبدا، ولا يذكر أحد نفاد مائه بأسره قطّ، والشّائع بينهم: أنّه من عمارة عاد، كذا أخبرني الشّيخ محمّد بن سالم باسودان، خطيب جامع الخريبة، والمكان الّذي هو به يسمّى: شويحطين.

وعلى مقربة من الضّليعة آثار قرية قديمة، على أنقاضها كتابات كثيرة بالمسند، يقال لها: عكرمة.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


9-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)

جحي الخنابشة

وهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.

وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.

وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.

وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.

ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.

ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.

ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه‍) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه‍)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.

وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.

وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.

ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه‍)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.

ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه‍)، وما كاد يستقرّ به المجلس

حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.

هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.

ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.

ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.

ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.

وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».

وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.

وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:

«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »

«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »

فأجابه بادحدح بقوله:

«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »

«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »

و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.

ثمّ قرى صغيرة.

ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.

وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.

وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.

ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.

وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.

ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.

وفي حدود سنة (1362 ه‍) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.

واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.

وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.

ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.

وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.

وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.

ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.

ثمّ حصن باخطيب.

ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.

وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.

وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه‍) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.

ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.

قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه‍) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.

ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه

وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.

وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.

وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.

ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.

وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه‍)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.

وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا

أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.

وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه

وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:

«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »

وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:

اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم

كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث

خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.

بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة

بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة

حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة

الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة

مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح

عرض باسويد /100/نوّح

ظاهر /200/نوّح

حزم آل خالد /20/آل العموديّ

حويبة /20/أخدام آل المحضار

حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد

القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة

الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة

باشعيب /15/الخامعة

حصن باعوم /7/آل باعوم

ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن

الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة

عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة

حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ

قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.

الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة

حصن تنسبه /0/فارغ

قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة

غيل باحكوم /60/آل باحكوم

قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة

غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ

قارة الخزب /50/آل بافنع

خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة

حصن الجبوب /30/قثم

هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة

رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة

القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة

عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة

الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان

باجاس /5/من سيبان

شويطة /50/من سيبان

شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد

حصن باحكيم /0/فارغ

حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط

حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح

منوه /40/سوقة

رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة

ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة

جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان

عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن

عرض باهيثم /100/آل باهيثم

الجديدة /220/الخنابشة

جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة

صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة

حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة

المشقعة /150/آل باوزير

حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان

حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة

تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة

حيد الجزيل /150/آل العموديّ

حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان

الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة

خيله /150/الحالكة من سيبان

ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم

حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة

خليف آل باعبود /50/آل العموديّ

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


10-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الهجرين)

الهجرين

هي واقعة في حضن جبل فارد جاثم على الأرض كالجمل البارك من غير عنق، تحفّ بسفوحه النّخيل من كلّ جانب، متجانف طرفه الغربيّ إلى جهة الجنوب، وطرفه الشّرقيّ إلى جهة الشّمال. وموقع الهجرين في جنبه الأيسر، تشرف على سفوحه الجنوبيّة ديار آل مساعد الكنديّين، وفي يسار سنامه ديار آل يزيد اليافعيّين، ومن فوق ديار آل يزيد آثار حصن، يقال له: حصن ابن ميمون.

وفي ضواحي الهجرين ثلاث حرار، يقال لإحداهما: حرّة ابن ميمون، وللأخرى: حرّة بدر بن ميمون، وللثّالثة: حرّة مرشد بن ميمون.

وعلى حارك ذلك الجبل بليدة صغيرة، يقال لها: المنيظرة، قليل منها يشرف على جهة الجنوب، والأكثر إنّما يشرف على جهتي الشّرق والشّمال، وفيها مسجد قديم كثير الأوقاف؛ لأنّ مساجد اندثرت هناك فتحوّلت إليه صدقاتها؛ لأنّه أقرب ما يكون إليها.

وفي جنب ذلك الجبل الشّبيه بالجمل من جهة الشّمال آثار دمّون المذكورة في قول امرىء القيس [في «الأغاني» 9 / 106]:

«تطاول اللّيل علينا دمّون *** دمّون إنّا معشر يمانون »

وإنّنا لأهلنا محبّون وهي المذكورة أيضا في قوله السّابق بعندل [من الطّويل]:

«كأنّي لم أله بدمّون ليلة *** ولم أشهد الغارات يوما بعندل »

ومتى عرفت هذا.. تقرب لك قول «القاموس»: (والهجران قريتان متقابلتان، في رأس جبل حصين قرب حضرموت، يقال لإحداهما: خيدون، وللأخرى: دمّون).

قال ابن الحائك: (وساكن خودون: الصّدف، وساكن دمّون: بنو الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار) اه

والظّاهر أنّه لم يأخذ سكنى بني الحارث عن نصّ، وإنّما استنتجه من شعر امرىء القيس، ولا دليل فيه؛ لأنّه إنّما لجأ إلى دمّون بعد ما طرده أبوه من أجل الشّعر، كما في شرح (اليوم خمر وغدا أمر) من «أمثال الميدانيّ» [2 / 417 ـ 418]، ما لم يكن ابن الحائك يعني أعقابا لامرىء القيس في هذه البلاد لم ينته خبرهم إلينا.

وقول «القاموس»: (قريتان متقابلتان) صحيح؛ لأنّ إحداهما في حضن الجبل الأيمن والأخرى في حضنه الأيسر، فهما متقابلتان في الموقع، أمّا في النّظر.. فيحول بينهما سنام الجبل، ومنه يتبيّن لك وهمه إذ قال: (في رأس الجبل) وإنّما هما في جنبيه، هذه حالتهما اليوم، أمّا في ما مضى.. فلا يبعد التّناظر؛ لاحتمال اتّصال العمارة إذ ذاك.

أمّا قوله: (قريب من حضرموت) فمن أخطائه في حدودها، وقد اضطرب كلامه وكلام «شرحه» في ذلك؛ ففي دوعن منه: (ودوعن كجوهر واد بحضرموت وهو أبعد من الهجرين).

وفي مادّة (مأرب) يوسّع حضرموت جدّا، فيقول: (إنّ مأرب في آخر جبال حضرموت). وفي (شبوة) يضيّق حدّها، ويقول: (إنّها بلد بين مأرب وحضرموت).

وجزم في وادي عمد بأنّه من حضرموت.

وذكر في مرباط أنّها من أعمال حضرموت، وهو الّذي جزم به صاحب «الخريدة»، وفي رحلة السّيّد يوسف بن عابد الفاسيّ المغربيّ ثمّ الحضرميّ ما يصرّح بأنّ مأرب من حضرموت.. إذن فما منوا به من فرط الهجرة ليس إلّا نتيجة قولهم: (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) كما هو موضّح ب «الأصل».

وفي الجزء الثّامن [ص 90] من «الإكليل»: أنّ دمّون من حصون حمير بحضرموت.

وهنا فائدة نفيسة، وهي: أنّ كلّ من ذكر طرد حجر لولده امرىء القيس ممّن رأيته يقول: إنّ السّبب في ذلك هو قوله الشّعر، وليس بمعقول؛ لأنّ الشّعر عندهم من الفضائل التي يتنافسون فيها سوقة وملوكا، لكنّ السّبب الصّحيح أنّه كان يشبّب بهرّ، وكنيتها أمّ الحويرث، وكانت زوجة والده، فلذلك طرده وهمّ بقتله من أجلها كما في (ص 181 ج 1) من «خزانة الأدب»، و (ص 539) من الجزء الأول منها.

وفي غربيّ جبل الهجرين: ساقية دمّون من أودية دوعن، وفي غربيّها مسيل واد عظيم، يقال له: وادي الغبر، ينهر إلى الكسر.

وفي غربيّ ذلك المسيل بلدة: نحوله لآل عمر بن محفوظ، وهي في سفح جبل، في حضنه إلى جهة الجنوب:

قزة آل البطاطيّ، وهم من بني قاصد، ورئيسهم بيافع بلعفيف، وآل يزيد وهم قبيلة واحدة، ولآل البطاطيّ نجدة وشجاعة، ومنهم: ناصر بن عليّ، كان يحترف بالرّبا فأثرى، وهو خال الأمير صلاح بن محمد بن عمر القعيطيّ، فزيّنت له نفسه أن يستأثر بالقزة ونخيلها وعيونها فناشب آل البطاطيّ الحرب، واستعان عليهم بأعدائهم آل محفوظ، وضمّ إليهم صعاليكا وذوبانا من الصّيعر ونهد.. فلم يقدر عليهم، واجتمعوا على حصاره، فزال من القزة إلى خريخر عند صهوره آل عجران، ولمّا كثروه.. استعان عليهم بابن أخته الأمير صلاح فأعطاه جماعة من عبيده يخفرونه، وقتلوا ولده قاسم بن ناصر بن عليّ في ثأر لهم عنده وعبيد صلاح في داره، فغضب صلاح وجمع يافع لحربهم، فوافقوه على ذلك إلّا بني أرض، وضيّق عليهم الحصار، وفي ذلك يقول شاعرهم الشّيخ ناصر بن جبران البطاطيّ:

«بركات طرّب من قتلني بااقتله *** ومن لقى في صوب، بالقي فيه صوب »

«والله ما بانسى شروع القبوله *** لو با ثمن في الدار هذا مية طوب »

ولمّا اشتدّ الحصر عليهم.. تداخل الحبيب حامد بن أحمد المحضار في آخر حياة أبيه، فسار بهم إلى الريّضة عند الأمير صلاح على أن يحكم عليهم بما شاء بعد أن تواضع هو وإياه على أن يكون الحكم بمسامحة آل البطاطي في قتيل لهم عند ناصر عليّ، وعلى أن يدفعوا خمس مئة ريال أيضا، ولمّا وصلوا فرط بني أرض والحبيب حامد أمامهم.. قال شاعرهم ابن جبران:

«يالفرط ما تستاهل التفريط *** لأنّ حبّك ما دخله السّوس »

«وأمّا الجماعه حبّوا التخليط *** لكنّنا باكيّس القنبوس »

ولمّا وصلوا الريضة.. قال:

«يا راد يا عوّاد هذي الرّيّضه *** قد ذكّرتني جمل في وادي حنين »

«والدرع والبيضه مع مولى بضه *** شلّ الثقيله يوم ضاقت بو حسين »

وأبو حسين هو الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، يشير بذلك إلى نجدته الّتي أعان بها آل البطاطيّ حتّى خلّصوهم من حصار آل كثير، كما فصّلناها ب «الأصل»، وأشرنا إليها فيما يأتي.

وفيها كان مسكن الشّيخ يحيى بن قاسم الجهوريّ اليافعيّ، رجل شهم، لا يقدع أنفه، ولا يتقنّع من مسوأة، وله من الأعمال ما يصدّق قوله:

«بو لحم قال كسّاب الجميل *** إذا النّوائب فتح لي بابها »

«ننفق على العزّ من كثر او قليل *** ومحنة الوقت ما ندرى بها»

«إنّ الكرم يفتح ابواب السّبيل *** ويمحي اوصال بعد اكتابها»

«والبخل قايد إلى الذّلّه ذليل *** مولى الكرم همّته يعلى بها»

«والله ما قطّ يتجمّل بخيل *** وان قام في حجّه ما أوشى بها»

«قومي بني مالك الحبّ النّصيل *** جهاوره من فروع أنسابها»

«يسمع لهم في علا الوادي صهيل *** كم من بلد زوّعوا بابوابها»

«لي يحكموا على الرّكب طيّ القتيل *** إذا النّفوس أكثرت جلّابها»

«قولي ونا مسكني غلب الدّويل *** في قرية العزّ ذي نزهى بها»

وكأنّما أخذ قوله: (لي يحكموا على الركب.. إلخ) من فعل العنابس يوم الفجار؛ إذ قيدوا أنفسهم خشية الهرب، أو من قول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 63 من الخفيف]:

«وكأنّ الإله قال لهم في ال *** حرب كونوا حجارة أو حديدا»

وفي كلام الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: أنّ الحبيب أبا بكر بن عبد الله العطّاس يحبّ الاستشهاد بأبيات من هذه القصيدة.

وقال لي بعض الثّقات: إنّ مسكن الشّيخ يحيى بن قاسم الجهوريّ ليس بالقزة، وإنّما هو بحصونهم أعمال القطن، وإنّما كان يتردّد إلى القزه لصهر أو صداقة. أمّا الدّويل: فلعلّه يعني به حصن سيئون، أو شبام؛ فكلّ منهما يقال له ذلك.

ومن آل البطاطيّ: أحمد بن ناصر، الموجود بالمكلّا الآن، وهو أدهى يافع وأرجحها عقلا فيما أراه اليوم، إلّا أنّه نفعيّ يؤثر مصلحة نفسه على منفعة حكومته، وربّما كان له عذر بإعراض موظّفي الحكومة بالآخرة عن إشاراته، وعدم اعتبارهم لنصائحه، وهو من أبطال بني مالك وشجعانها، حتّى لقد أغضبه حال من أحمد بن محمّد بن ريّس العجرانيّ ـ وهو خال الأمير عليّ بن صلاح وله منه وجه وكفالة فقتله أحمد بن ناصر غير حاسب لذلك حسابا، فتميّز الأمير عليّ بن صلاح من الغيظ، ولم يكن إلا أن أرسل السّيّد حسين بن حامد بأحمد بن ناصر مع ولده أبي بكر بن حسين إلى الريضة للتّرضية، فسوّيت المسألة.

وفي جنوب الهجرين أنف ممتدّ من جبل، ذاهب طولا إلى دوعن، وعليه بلدة لأناس من آل أحمد بن محفوظ، يقال لها: صيلع، وهي المذكورة في قول امرىء القيس

[من الطّويل]:

«أتاني وأصحابي على رأس صيلع *** حديث أطار النّوم عنّي وأفحما »

«أقول لعجليّ بعيد إيابه *** تبيّن وبيّن لي الحديث المجمجما»

«فقال: أبيت اللّعن عمرو وكاهل *** أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما»

وقد ظفرت منها بضالّة منشودة؛ لأنّها مقطع النّزاع في حضرميّة امرىء القيس؛ ولذا كرّرتها ب «الأصل» اغتباطا واعتدادا بتدليلي بها؛ إذ لم يقل أحد عند ذكرها ـ لا ياقوت ولا صاحب «التّاج» ولا شارح «الأمثال» ولا غيرهم ـ: إنّها تحاذي الهجرين بحضرموت غيري، فلله الحمد.

وفي أخبار بدر بوطويرق الكثيريّ أنّه بنى صيلعا هذي في سنة (941 ه‍)، وأسكن فيها آل محفوظ وآل باداس المطرودين من الهجرين.

ولا يحصى من أنبتته الهجرين من الرّجال؛ إذ كانت فيهم ثالثة شبام وتريم.

ومنها آل عفيف الكنديّون؛ منهم: الصّوفيّ الجليل، الشّيخ أحمد بن سعيد بن عليّ بالوعار، والشّيخ عمر بن ميمون الكنديّ، من معاصري الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف، والشّيخ فضل بن عبد الله بافضل، والشّيخ محمّد بن عليّ العفيف الهجرانيّ، كان من تلاميذ الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس، المتوفّى سنة (865 ه‍)، وكان الشّيخ محمّد هذا يعرف الاسم الأعظم.

ومن كتاب سيّره العلّامة عليّ بن حسن العطّاس ما نصّه: (إلى حضرة سيّدي الولد الأمجد الأرشد الصّادق الأودّ الأنجد الشّيخ الأكرم الفاضل المحترم عفيف الدّين وسلالة الصّالحين وبركة المسلمين عبد الله ابن سيّدي الشّيخ العفيف ابن الشّيخ عمر ابن الشّيخ عبد الله ابن الشّيخ العفيف ابن القطب الشّيخ عبد الله بن أحمد بن محمّد العفيف عفا الله عنه) اه وفي هذه الممادح ما يدلّ على أثيل مجد وعظيم فضل. وفي آل عفيف كثير من حفّاظ القرآن و «الإرشاد».

ومنهم: الشّيخ عليّ بن عمر باعفيف، جاء في «مجموع الأجداد» أنّه: (بعث بأسئلة إلى قاضي مكّة محمّد بن عبد الله بن ظهيرة، فأجابه عنها).

ومنها: آل بابصيل، وفيهم علماء أجلّاء؛ من آخرهم: مفتي الشّافعيّة بمكّة: الشّيخ محمّد سعيد بابصيل.

ومنها: آل بامخرمة، وإنّما هاجروا منها إلى عدن وإلى غيرها.

وأطال «النور السّافر» في ترجمة الشّيخ عبد الله بن أحمد بامخرمة، ثمّ استطرد إلى ترجمة ولده الصّوفيّ عمر بن عبد الله بامخرمة، ولم يفرده بالتّرجمة؛ لأنّه لم يعرف وقت وفاته، وسيأتي في سيئون أنّها سنة (952 ه‍)، وقد أفرد ولده العلّامة عبد الله بن عمر المتوفى سنة (972 ه‍) بالتّرجمة، وذكر فيها عمّه الطيّب ابن عبد الله بامخرمة.

ومن الهجرين: كان الشّيخ محمّد بن عمر باقضام بامخرمة يجتمع مع الشّيخ عبد الله بن أحمد في الأب السّادس، ولد ببلدة الهجرين، ثمّ ارتحل إلى عدن وأخذ عن إماميها: عبد الله بن أحمد بامخرمة، ومحمّد بن أحمد بافضل، ثمّ سار إلى زبيد، ثمّ عاد إلى عدن ولازم الإمام عبد الله بن أحمد بامخرمة، وولده أحمد. وإليه انتهت رئاسة العلم بعدن بعد الشّيخين: عبد الله بن أحمد بامخرمة، ومحمّد بن أحمد بافضل، إلّا أنّه كان يتساهل آخر عمره في الفتاوى، ويراعي أغراض السّلطان، وذلك ممّا عيب عليه. توفّي بعدن في سنة (952 ه‍).

وفي «شمس الظّهيرة» [2 / 419]: (أنّ للسّيّد محمّد بن أحمد الكاف عقبا بالهجرين، منهم: السّيّد الفاضل عليّ بن محمّد بن علويّ، المتوفّى سنة (1267 ه‍)، وابنا أخيه الآن: عبد الرّحمن وعلويّ، فقيهان فاضلان. وابن ابنه أحمد بن حسن بن عليّ، ذكيّ نبيه متفقّه) اه

ولقد كان سروري عظيما؛ إذ بقي إلى ساعتنا هذه من يثني عليه شيخنا المشهور في سنة (1307 ه‍) ممتّعا بالحواسّ والقوّة والعلم، ولم يبق ممّن ذكر فيها سواه، يخرج بمكتله صباح كلّ يوم إلى حقله فيؤدّي ما تعهّد به من الخدمة والتّنقية وإثارة الأرض على الثّيران، ثمّ يرجع ويتنظّف ويجلس في مجلس القضاء؛ لأنّه عليه بالهجرين وما قاربها منذ زمن بعيد.

وفيها جماعات من آل العطّاس، وآل الحامد، وآل باسلامة، وكثير من السّوقة.

ولا يزيد سكّانها عن ألفين وخمس مئة تقريبا، وفي تربتها من لا يحصى من الصّالحين والعلماء.

وكانت ولاية الهجرين لآل محفوظ الكنديّين، وهم من ذرّيّة آل جعفر الّذين امتدحهم الشّيخ عليّ بن عقبة الخولانيّ أثناء القرن السّابع بقصيدته السّائرة، الّتي تعدّ ـ ولا سيّما أبياتها السّتّة ـ غرّة في جبين الشّعر العربيّ، وهي [من الكامل]:

«أصبرت نفس السّوء أم لم تصبري *** بيني ومن تهوين يوم المحشر»

«إنّي امرؤ عفّ الإزار عن الخنا *** لم أغش منذ نشأت باب المنكر»

«والله ما صافحت كفّ بغيّة *** كلّا ولا نادمت شارب مسكر»

«لكن على كسب العلوم مخيّم *** وبكاي في طلب العلا وتحسّري »

«وقسمت حالاتي ثلاثا مثلما *** قد كان قسّمها أبي الشّهم السّري »

«كرم تدين له الأنام وحالة *** ظهر الحصان وحالة للمنبر»

«وتخذت أصحابا إذا نادمتهم *** لم أخش منهم من ينمّ ويفتري »

«علمي وحلمي والحصان وصارمي *** وندى يميني والعنان ودفتري »

كذا هي في حفظي، ولئن خالفت بعض ما هي عليه.. فإلى أحسن منه إن شاء الله تعالى.

وفيها ثلاثة أبيات مأخوذة من شعر الرّضيّ، وهي قوله:

«أعددتكم عونا لكلّ مكسّر *** عرضي فكنتم عون كلّ مكسّر»

«وتخذتكم لي محجرا فكأنّما *** ختل العدوّ مخاتلي من محجري »

«فلأنفضنّ الكفّ يأسا منكم *** نفض الأنامل من تراب المقبر»

وهي في «ديوان الرّضيّ» [2 / 220 ـ 221] هكذا:

«أعددتكم لدفاع كلّ ملمّة *** عنّي فكنتم عون كلّ ملمّة»

«وتخذتكم لي جنّة فكأنّما *** نظر العدوّ مقاتلي من جنّتي »

«فلأنفضنّ يديّ يأسا منكم *** نفض الأنامل من تراب الميّت »

وقد رأيت هذه الأبيات الثّلاثة في «معاهد التّنصيص» معزوّة لابن سناء الملك، وما هو إلّا وهم ظاهر؛ لأنّ قصيدة الرّضيّ الّتي منها الأبيات مشهورة؛ ومنها [في «ديوانه» 1 / 220 ـ 221 من الكامل]:

«قل للّذين بلوتهم.. فوجدتهم *** آلا وغير الآل ينقع غلّتي »

«تأبى ثمار أن تكون كريمة *** وفروع دوحتها لئام المنبت »

«لمّا رميت إليكم بمطامعي *** كثر الخلاج مقلّبا لرويّتي »

«ووقفت دونكم وقوف مقسّم *** حذر المنيّة راجي الأمنيّة»

«فلأرحلنّ رحيل لا متلهّف *** لفراقكم أبدا ولا متلفّت »

«يا ضيعة الأمل الّذي وجّهته *** طمعا إلى الأقوام بل يا ضيعتي »

وللرّضيّ في معنى هذه القصيدة كثير كالّتي منها قوله [في «ديوانه» 1 / 666 من الطّويل]:

«سأذهب عنكم غير باك عليكم *** وما لي عذر أن تفيض المدامع »

«ولا عاطفا جيدا إليكم بلهفة *** من الشّوق ما سار النّجوم الطّوالع »

«نبذتكم نبذ المخفّف رحله *** وإنّي لحبل منه بالعذر قاطع »

وكقوله [في «ديوانه» 1 / 261 من الوافر]:

«فيا ليثا دعوت به ليحمي *** حماي من العدا فاجتاح سرحي »

«ويا طبّا رجوت صلاح جسمي *** بكفّيه فزاد فساد جرحي »

ولإبراهيم بن العبّاس الصّوليّ في هذا المعنى عدّة مقاطيع، يعبث فيها بابن الزّيّات؛ منها قوله [من الطّويل]:

«وإنّي وإعدادي لدهري محمّدا *** كملتمس إطفاء نار بنافخ »

وقوله [من الطّويل]:

«وإنّي إذ أدعوك عند ملمّة *** كداعية عند القبور نصيرها»

وفي ترجمة ابن الزّيّات من «تاريخ ابن خلكان» [5 / 97] جملة منها.

وقد جاء في قصيدة ابن عقبة ذكر المراحل من الجوف إلى الهجرين، وبينها ذكر منصح، ولعلّها الّتي يقول امرؤ القيس بن عانس السّكونيّ في ذكر روضتها [من الطّويل]:

«ألا ليت شعري هل أرى الورد مرّة *** يطالب سربا موكلا بغرار»

«أمام رعيل أو بروضة منصح *** أبادر أنعاما وأجل صوار»

«وهل أشربن كأسا بلذّة شارب *** مشعشعة أو من صريح عقار»

«إذا ما جرت في العظم خلت دبيبها *** دبيب صغار النّمل وهي سواري »

وقد تكون هذه الرّوضة في داخل حضرموت، بأمارة أنّها لبني وكيعة الكنديّين وهم من وسط حضرموت، وابن عانس من أسفلها فتكون غير التي ذكرها ابن عقبة إذن.

واسم ملك آل محفوظ لذلك العهد: محفوظ، عرفناه من قصّته مع الشّيخ عبد الرّحمن جدّ الشّيخ عبد الله بن محمّد القديم عبّاد ـ الآتية في الغرفة إن شاء الله ـ ومن اسمه نفهم أنّ آل جعفر ممدوحي ابن عقبة بتلك القصيدة هم آل محفوظ.

ثمّ خلفهم على الهجرين آل فارس النّهديّون، وقد ذكرنا ب «الأصل» من أخبارهم مع آل كثير وآل يمانيّ وآل سعد وغيرهم ما شاء الله أن نذكر.

ثمّ تغلّب عليها يافع كسائر بلاد حضرموت في سنة (1117 ه‍).

وفي آل عقبة الخولانيّين كثير من العلماء والشّعراء؛ منهم الشّيخ أحمد بن عقبة الزّياديّ الخولانيّ الهجرانيّ، أحد مشايخ الإمام محمّد بن مسعود باشكيل.

وفي حدود سنة (1276 ه‍) قدم الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد من بقايا آل محفوظ الكنديّين ـ وقيل: إنّه من آل بامطرف ـ بدراهم كثيرة، فحدّثته نفسه بملك آبائه، وتمنّى أن يخضع آل يزيد اليافعيّين السّاكنين بأعلى الهجرين، حتّى لقد ورده الشّيخ صالح باوزير في جملة الوفود الّتي تتابعت لتهنئته، فأكرم مثواه، وأطال معه السّمر، ولم يزل يتسقّطه الكلام ليرى ما قدره مع ثروته في نفس الشّيخ صالح، فقال له: (إنّك لفوق القبيليّ ودون السّلطان) فلم يقتنع بذلك، وجفاه ولم يقابله بعدها، فمرّ في خروجه على جماعة يتراجزون في شبوانيّ لهم، فقال:

«يا بن مساعد قال صالح نعنبوك *** يا الله متى الهوّاك في دارك يهوك »

«ولعاد باتنفع مياتك واللّكوك *** باتصبح الّا عند بامهلس تحوك »

والّا بعوره عند صالح بادكوك

وذهب الشّيخ صالح باوزير لطيّته، وبقي الشّيخ عمر بن مساعد يساور الأحلام والآمال، حتّى لجأ إلى آل عبد الله الكثيريّين بسيئون فنهضوا معه، ولم يزالوا يوالون التّجهيزات حتّى استولوا على الهجرين في سنة (1285 ه‍) ـ ومعلوم أنّ الهجرين مفتاح دوعن بأسره ـ ثمّ حطّوا على قزة آل البطاطيّ فانكسروا دونها؛ لنجدة جاءت لأهلها من الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بالشّحر، فطردوا من حواليها من أصحاب الدّولة الكثيريّة، وتراجعت فلولهم إلى الهجرين.

ثمّ لم يحسن المآل بين الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد والدّولة الكثيريّة؛ لأنّه استنفد أكثر ما في يده وعرف أنّ الدّولة لن تعطيه شيئا ممّا يتمنّاه، وتحقّق استبدادهم عند رسوخ أقدامهم، فاتّفق مع القعيطيّ وفتح له الطّريق فاقتحموها، وحصروا بها الأمير الكثيريّ ـ وهو صالح بن مطلق ـ حتّى سلّم بشرط أن يتحمّل بما معه ممّا تقدر عليه الجمال، ولهذا بقي بها مدفع الدّولة إلى اليوم؛ لأنّه لم يدخل تحت الشّرط.

وقد وفّى السّلطان القعيطيّ للشّيخ عمر بن سالم بن مساعد بما اشترطه عليه، والأخبار في ذلك طويلة شيّقة، وهي مستوفاة ب «الأصل».

وفيه: أنّ آل محفوظ عدّة قبائل؛ منهم آل عمر بن محفوظ أهل نحولة، وآل أحمد بن محفوظ أهل صيلع، وآل عجران منهم آل مرشد وآل ريّس وآل الشّيبة، ومنهم: آل عبد الله بن محفوظ رهط الشّيخ عمر بن مساعد السّالف الذّكر.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


11-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (وادي العين)

وادي العين

هو واد واسع في شرقيّ المشهد ووادي ليسر، تفصل بينها وبينه الجبال، فيه كثير من الحصون والقرى، ونحن نذكر ما يجمّع فيها.

وأكثر سكّانه من المشايخ آل باوزير والعوابثة. وقد مرّ في غيل باوزير ما يفهم منه أنّ الرّئاسة الدّينيّة كانت للمشايخ آل باوزير، وأنّ العوابثة المذحجيّين كانوا ينتسبون إليهم بالخدمة والموالاة، كأكثر قبائل حضرموت مع مناصبها.

وكان شيخ العوابثة حوالي سنة (858 ه‍) رجل يقال له: عمر بن أبي قديم، له ذكر في الحكاية (399) من «الجوهر الشّفّاف» للخطيب [2 / 162 ـ 163 (خ)]، وفي وادي عمد ذكر عوبث وناعب وريام.

وأعلى وادي العين قرية يقال لها: شرج الشّريف، فيها قرار ـ أعني: سوقة ـ وعوابثة، وبعده: غورب، مكان آل باذياب، وبعده: الهشم، فيه عوابثة، ومشايخ من آل باوزير، وبعده: الباطنة، للمشايخ آل باوزير، منصبهم: الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد باوزير. وبعده: البويرقات، فيها مشايخ من آل باوزير، وقرار وغيرهم. وبعدها: السّفيل، فيها مشايخ من آل باوزير وسوقة، والمنصب بها: أحمد بن صالح باوزير.

وبين البويرقات وغورب مكان لا جمعة فيه، يقال له: الرّابية، كانت تقيم فيه العرب سوقا.

قال اليعقوبيّ: (يقوم سوق صحار في أوّل يوم من رجب، ثمّ يرتحلون إلى دما، وهي من بلاد عمان كما في (ص 448) من آخر أجزاء «معجم البلدان» وغيرها.

ثمّ: سوق مهرة؛ وهو سوق الشّحر، يقوم تحت ظلّ الجبل الّذي عليه قبر هود عليه السّلام، ولم تكن بها خفارة، كانت المهرة تقوم بحفظها. ثمّ: سوق عدن أوّل يوم من رمضان. ثمّ: سوق صنعاء في النّصف من رمضان. ثمّ: سوق الرّابية بحضرموت، ولا وصول إليها إلّا بخفارة؛ لأنّها لم تكن أرضا مملّكة، بل كان كلّ من عزّ بها.. بزّ، وكانت كندة تخفر فيها، ثمّ يقوم بعدها سوق عكاظ) اه

وقد ذكرت ما يتعلّق به في «الأصل»، وقوله: (من عزّ.. بزّ) من الأمثال الّتي أرسلها عبيد بن الأبرص لمّا قدّمه المنذر اللّخميّ في يوم بؤسه للقتل.

وأبسط ما رأيت الكلام عن أسواق حضرموت بكتاب «الأمكنة والأزمنة» لأبي عليّ المرزوقيّ، وهو مطبوع بدائرة المعارف الدّكنيّة، وقد ذكر سوق الرّابية هذا.

ثمّ رأيت قول صاحب «قبائل العرب»: (تقوم سوق دومة الجندل أوّل يوم من ربيع الأوّل إلى النّصف منه. وتقوم سوق المشقر من أوّل يوم من جمادى الآخرة. ثمّ تقوم سوق صحار خمسة أيّام لعشر يمضين من رجب. ثمّ سوق الشّحر في النّصف من شعبان. ثمّ سوق صنعاء في النّصف من شهر رمضان إلى آخره. ثمّ سوق حضرموت في النّصف من ذي القعدة.

وتقوم سوق عكاظ بأعلى نجد قريبا من عرفات في نصف القعدة أيضا إلى آخرها، وهو أعظم أسواق العرب، تأتيها قريش وهوازن وغطفان وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب يبقون بها إلى هلال الحجّة فيأتون ذا المجاز ـ وهو قريب من عكاظ ـ فيقوم سوقه إلى التّروية فيصيرون إلى منى.

وتقوم سوق نطاه بخيبر، وسوق حجر ـ بفتح المهملة وسكون الجيم ـ يوم عاشوراء إلى آخر المحرّم) اه

وقريب منه في (ص 275 ج 2) من «خزانة الأدب» وفي الّتي قبلها منها: أنّ أوّل ما ترك من أسواق العرب سوق عكاظ، ترك في زمن الخوارج سنة (125 ه‍)، وآخر ما ترك منها سوق جاشة في زمن عيسى بن موسى العبّاسيّ سنة (197 ه‍).

وممّا يتأكّد به عدم النّصف والأمان في ذلك المكان: ما أخرجه البخاريّ، وأحمد، والتّرمذيّ، وأبو داود: عن خبّاب بن الأرتّ مرفوعا: «ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه»؛ لأنّ القوافل كانت تجيء لسوق الرّابية من صنعاء فتلاقي عناء من الخوف وخسارة من الخفارة، ولو لم تكن أشدّ الطّرق خوفا.. لما كان أمنها إعجازا.

وحوالي قعوضة مكان يقال له: الرّابية أيضا، قيل: إنّ السّوق إنّما كان فيه، وإنّما بنيت قعوضة من أجله. والله أعلم.

ووادي العين من أطول أودية حضرموت، من أعلاه ـ وهو شرج الشّريف ـ إلى السّفيل مسافة يوم للماشي.

ومن شرج الشّريف إلى أقصاه الجنوبيّ مسافة يوم كذلك للرّاجل، إلّا أنّه يضيق وتنتهي المحارث.

وفي أعلاه عين ماء نضّاخة، عليها نخيل تسقيها إلى مسافة ستّة أميال تقريبا، ثمّ تغور في الأرض، ولكن متى جاءت السّيول.. مدّت باللّيل إلى مسافة طويلة، وتجزر بالنّهار، ومن انحطّ عن مائها الدّائم المعتاد.. يحمي نخله عن مائها؛ لأنّه يضرّه فيما يقولون، وإنّما ينتفع به الّذي يألفه. وحيثما يجري ذلك الماء.. يكون الجوّ رديئا موبوءا، يغلب على أهله الضعف وانتفاخ البطون وقصر الأعمار، وقلّ من يبيت به ليلتين من غير أهله.. إلّا أصابته الحمّى، ثمّ منهم من يسلم، ومنهم من يذهب لما به.

وأهل النّخل به من غيره يبادرون بجذّ خريفهم وتحميله، تفاديا عن البيات؛ خوفا من أمّ ملدم.

ومن أخبار العوابثة الظّريفة: أنّ بعضهم أخفرت ذمّته، فلم يقدر على جلاء العار وغسله عن وجهه، وكان بينهم شاعر من الحاكة، لا يشهد زفافا ولا غيره من احتفالات الأفراح.. إلّا غمزة بشيء من الكلام، حتّى لقد توعّدوه بقطع لسانه إن بقي يعيّره، ولكنّه لم يصبر؛ ففي احتفال بفرح عندهم قال:

«لا الحول حولي ولا لي من قدا الحول حول *** لو شفت غربان سودا قلت ذولاك عول »

ومعناها: إنّني لا أقدر على تعيير صاحب الوجه الأسود، بل أقول: إنّه أبيض.

فأعادوا عليه الوعيد والتّهديد، وكادوا يسطون به، ولكنّه لم يصبر، فعاد مرّة أخرى يقول في احتفال:

«والله لا ثوّر النّائم إلمّا المقيل *** وان لا كفت فوقه الشّقّه طرحنا المكيل »

وأهل بلادنا يعرفون مغزى هذا الكلام.. فلا حاجة إلى الشّرح.

فلم يكن من العوابثة إلّا أن عيّروا صاحبهم وكان مثريا، فحمل ولده على ركوب اللّيل، واستأجر معه جماعة من أهل النّجدة، فذهبوا إلى مكان المطلوب، وكان آمنا؛ لبعدهم، ولما يعرفه من حال طالبه، وأنه كما قال جرير [في «ديوانه» 272 من الكامل]:

«زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا *** أبشر بطول سلامة يا مربع »

فلم يكن من الجماعة إلّا أن أمسكوه وكلّفوا الولد أن يطعنه، فما كاد يفعل إلّا بعد أمر ما، وعندما انتهى من العمل.. خرق وعقر، فاحتملوه حتّى أوصلوه إلى أبيه في

زفّ كبير، حضره ذلك الشّاعر، فألقى عليهم ما يمحو بوادره السّابقة.

ومن أخبارهم: أنّه كان بين عبد الله باذياب ـ صاحب غورب ـ وبين عبد الله بن عوض بن فاجع ـ صاحب الهشم ـ منافسات، فبينا أحمد بن عبد الله باذياب يمشي ذات يوم مع اثنين من أصحابه على مقربة من الهشم.. إذ خرج عليهم عبد الله عوض صاحب الهشم في سبعة من أصحابه، فأطلقوا الرّصاص على أحمد بن عبد الله فخرّ صريعا يتشحّط في دمه، وهرب صاحباه، فاحترق لذلك فؤاد والده عبد الله باذياب، وأخذه من الأسف على ولده ما كاد يفلق فؤاده، لا سيّما وقد أعياه الثّأر؛ إذ أخذ عبد الله بن عوض بن فاجع بالحزم الشّديد، فقلّما خرج من داره إلّا بعد الاستبراء.

ولمّا اشتدّ الأسف بباذياب.. خاطر ولده مانع بنفسه، واقتعد اللّيل وكمن في خربة بالهشم، ولمّا خرج أحمد بن عبد الله بافاجع.. قدر عليه، ولكنّه تركه رجاء أن يخرج أبوه ليشفي غيظه وغيظ أبيه من نفس القاتل الّذي اقتطف ثمار قلوبهم، فلم يكن من أحمد بن عبد الله إلّا أن نادى أباه وقال له: عارضني بمزحاة ومكتل.

فقال له: سآمر أحد العبيد.. يأتيك بها. فلمّا أيس من الأب.. أطلق بندقيّته على أحمد.. فخرّ صريعا لليدين وللفم، وانساب ابن ذياب انسياب أيم الرّمل، ولمّا دنا من دار أبيه.. أطلق الرّصاص؛ إشارة إلى الظّفر، فاستقبله أبوه في حفل كبير، وذبح الذّبائح وعمل ضيافة للنّاس.

«وساغ له الشّراب وكان قدما *** يكاد يغصّ بالماء الزّلال »

والنّاس يعدّون صنيع مانع بن ذياب من المعجزات، ولا بدع؛ فإنّه من سرّ قوله جلّ ذكره: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا)

ولم يعمّر بعدها عبد الله بن عوض بافاجع، بل مات غبنا عند ما أيس من آل باذياب.

وذلك أوّل شرّ نجم بين العوابثة، وإلّا.. فقد كانوا قبلها يتناصفون ويقتلون القاتل، ولهم قوانين عادلة، يحرسها في كلّ قرية رئيسها، ثمّ يكون الاستئناف لمن لم يقتنع عند المنصب العامّ.

وكان لعبد الله بن أحمد باذياب هذا بنت تسمّى: عبودة، تنافس عليها الخطّاب، وكان منهم: محمّد بن عمر باعقيل ـ السّابق خبره في الضّليعة ـ وأعطاهم ألف ريال، وشرطوا عليه معه هدايا طائلة، إن جاء بها على ميعاد عيّنوه.. كان الإملاك والبناء، وإلّا.. انفسخت وضاع الألف، فتأخّر عن وعده فتركوه.

ويقال: إنّهم رفعوا أمره إلى السّيّد حسين بن حامد المحضار فقضى عليه، وكلّفه مع ذلك غرامة الدّعوى ومقدارها مئتا ريال. وقيل: إنّه بنى بها، وإنّما كان النّزاع بعد الزّواج. والله أعلم.

ومن غرائب الصّدف: أنّ عبودة هذه تزوّجت من الشّيخ حسن بن أحمد القحوم العموديّ، وحملها إلى خديش، وأولدها بنتا، قضى الله أن تكون تلك البنت زوجة لأحد أولاد محمّد بن عمر باعقيل، لا تزال تحته إلى اليوم.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


12-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحاوي)

الحاوي

فيه جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، من أواخرهم: السّيّد جعفر بن طه الحدّاد، وكان مضرب المثل في القوّة والأيد، حتّى لقد اجتمع عليه أربعون من الصّينيّين في بتاوي فهزمهم، وأثخن فيهم ضربا ولكما، ولمّا رفعت عليه الدّعوى.. قضى له الحاكم الهولنديّ بالبراءة.

وأنشد بلسان حاله قول المرأة [من الطّويل]:

«تجمّعتم من كلّ صوب ووجهة *** على واحد لازلتم قرن واحد»

وكان يخرج باثني عشر جملا موقرة من عدن إلى مكانه الحاوي وحده، لا يعينه أحد ـ في حطّها وترحالها ـ من خلق الله، وله أولاد كثير:

منهم: السّيّد طه بن جعفر، يكرم الضّيوف، ويفعل المعروف، ويصل الأرحام، ويواسي المنقطعين من الأنام، وله محبّة في الخيل، ومهارة في ركوبها عليها كسائر أسرته وأولاده، وهو الآن بجاوة في قرية تقرب من بتاوي.

ومنهم: السّيّد طه بن عليّ، وصل الحاوي عمّا قريب، وهو رجل صالح مشارك في طرف من العلم، وقد سرّني لقاؤه في ربيع الأوّل من عامنا هذا بالحوطة؛ لأنّه يناهز الثّمانين، وقد أدرك الرّجال وأخذ عنهم، فأطربني بأحاديثه الشّهيّة عنهم، في أخبارهم حتى تذكّرت قول العباس بن الأحنف [من الطّويل]:

«وحدّثتني يا سعد عنهم فزدتني *** شجونا فزدني من حديثك يا سعد»

وممّا أفادني في ذلك اليوم أنّه قال: حضرت مجلسا ببتاوي شهده كثير من أعيان العلويّين؛ منهم الحبيبان محمّد بن أحمد المحضار ومحمّد بن عيدروس الحبشيّ فأنشد ولدي مشهور قصيدة بصوت شجيّ، أثلجت خواطرهم، وملكت سرائرهم، واستجلبت خشوعهم، واستمطرت دموعهم، ولمّا سألوا عنها.. قال ولدي مشهور: إنّها لك ـ يعنيني ـ قال: فأطنب الحبيب محمّد المحضار في تفضيلك وفي الثّناء عليها وعليك، حتّى استغرق ذلك المجلس الّذي حضره جماعة من أصحابك؛ منهم: السّيّد عبد الله بن أحمد بن طه السّقّاف، وما أظن ذلك إلّا قد بلغك من أحدهم.

فقلت له: كلّا وإنّ توكّن غربان الأحساد في صدورهم ليمنعهم عن مثل ذلك؛ إذ هم كما قال طريح بن إسماعيل الثّقفيّ [من البسيط]:

«إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا *** شرّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا»

وكما قال الشّريف الرّضيّ [من البسيط]:

«إن عاينوا نعمة ماتوا بها كمدا *** وإن رأوا غمّة طاروا بها فرحا»

وللسّيّد طه هذا ولد يقال له: أحمد مشهور، أديب ذكيّ، وهو الآن في ممباسا من السّواحل الأفريقيّة، وقاضي الحاوي الآن هو السّيّد عبد الله بن طه الحدّاد، حسن السّمت، كثير التّواضع.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


13-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصون العوانزه)

حصون العوانزه

هي واقعة في شرقيّ حصون آل الفاس. والعوانزه من العوامر، وهم قوم كرام، وفيهم صالحون فضلاء.

منهم: الشّيخ عوض بن عبد الله بن عانوز، له مناقب شهيرة، ومحاسن كثيرة، كان سيّدي الأستاذ الأبرّ يزوره، ويطلب دعاءه، ويتبرّك بالنّظر إليه.

وكان له الضّلع الأقوى في حادثة المحايل، ولمّا انتهت بانهزام يافع.. خرج السّلطان غالب بن محسن إلى عند الشّيخ عوض بن عبد الله بن عانوز، بكثير من الرّصاص والباروت، مكافأة له على ما أبلى وأنفق، فردّه وقال: إنّما أردت بمعونتي وجه الله تعالى، فعرض عليه ولاية تريس.. فلم يقبل، وقال له: لا أريد منكم إلّا الشّفقة بالّذين يحرثون آبارنا بأعمال تريس.

ومنهم: الشّيخ جعفر بن عليّ بن عانوز، كان كسابقه، كثير العبادة، شديد الورع، طويل الصّلاة. وكان سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر إذا كتب إليه.. يقول له: (الولد جعفر بن عليّ).

وكنت أقول له: هل قتلت أحدا بيدك في واقعة المحايل؟.. فيقول: إنّهم بغاة.

ولأبيه ذكر كثير في الحروب الواقعة بين يافع وآل كثير، يدلّ على أنّه صدر من صدور القبائل وأولي رأيها وزعامتها.

وكان العوانزه يسكنون المحترقه، فتنكّدوا من ملوحة مائها، ولحقهم من ذلك عناء شديد، فانتقلوا عنها إلى تلك الحصون الّتي لم يتمكّنوا من بنائها إلّا باجتماع خرق العادة من آل كثير والعوامر، ورابطوا حواليها إلى أن انتهى بناؤها بالرّغم من معاطس يافع بتريس وغيرها، وجرت بينهم في ذلك معارك، وأريقت فيه دماء.

ومع صلاح العوانزه وفضلهم.. فقد كانوا من أشجع النّاس وألدّهم على الأعداء، ولهم في واقعة المحايل المشهورة اليد البيضاء، والنّصيب الأوفى.

«أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا *** وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا »

«وإن قال مولاهم على جلّ حادث *** من الأمر: ردّوا فضل أحلامكم ردّوا»

ومنهم قوم منتشرون بوبار وعمان، ولا يزالون معهم على اتّصال، وفي الوقت الأخير ـ أي منذ نحو من خمس سنوات ـ زارهم شيخ من العوانزه بعمان، يظهر على وجهه وعينيه أثر الشّهامة والنّجدة، وقد قضى عندي سحابة يوم حدّثني عن أخبارهم وكثرتهم وعن وبار وخصوبتها.. بالتّعاجيب، ولكنّي نسيت اسمه حال رقم هذا.

ورجال العوانزه بحصنهم اليوم، لا يزيدون عن اثني عشر رجلا.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


14-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المسنده وما وراءها إلى عينات)

المسنّده وما وراءها إلى عينات

إذا خرج الخارج من تريم وذهب شرقا.. فأوّل ما يكون عن يمينه: المسنده، وإليها تنسب الحرب التّميميّة الكثيريّة، فيقال: (حرب المسنّدة)، ومن حديثها بالاختصار:

أنّه لمّا استقرّ عبود بن سالم في تريم.. طمع في مثاوي آل تميم، وكان يتوهّم سهولة إخضاعهم؛ لما كان يسمع به من غطرسة عبد الله عوض غرامة عليهم واحتمالهم إيّاها، ولمّا قرع النّبع بالنّبع.. أبت عيدانه أن تكسر، ودامت الحرب بينهم سبع سنين ـ وقد سبق في سيئون أنّ السّلطان غالب بن محسن قدم من الهند إلى تاربه غرّة جمادى الثّانية من سنة (1272 ه‍)، وبقيت تلك الفتنة إلى سنة (1274 ه‍)، حيث انعقد الصّلح لمدّة سبع سنين على شروط؛ منها: أن يدفع السّلطان غالب بن محسن عشرة آلاف ريال فرانصة غرامة الحرب للمقدّم أحمد بن عبد الله بن يمانيّ قائد رئاسة آل تميم.

وحدّدت بينهم يومئذ الحدود، ومن ذلك اليوم تحرّر آل تميم، وامتدّ سلطان المقدّم من شرقيّ تريم إلى ما وراء قبر نبيّ الله هود عليه السّلام، وتمرّن آل تميم على الحرب والضّرب، ونجّذهم عليها اختلاطهم بيافع؛ فكثيرا ما يهزّ آل كثير بالحملة في تلك الفتنة على آل تميم فينهزمون، ولكن متى حضر عندهم آل الظّبي من سيئون فهزّوا عليهم بالحملة سمعوا صليل سيوف آل الظّبي عند سلّها.. أحجموا وقالوا: إنّ في المكان غير أهله.

ولبس التّميميّون من بعد ذلك جلود النّمور، وعادوا أبطالا لا يهابون الموت، ولا تتخاذل أرجلهم عند الصّوت، وصار أكثر أهل تريم تحت رحمة آل تميم؛ لأنّ أكثر أموالهم تحت سيطرتهم، وكانوا يأخذون منها الشّيء الكثير، حتّى تواضعوا هم وإيّاهم بواسطة السّيّد حسين بن حامد المحضار وزير القعيطيّ على الخمس، وكتبت بينهم الوثائق بذلك.

ولمّا انبسط نفوذ آل عبد الله بواسطة الحكومة الإنكليزيّة وساعدهم القعيطيّ.. منعوا آل تميم من ذلك الرّسم، وحرّرت في ذلك فتوى من الشّيخ فضل بن عبد الله عرفان، وصادق عليها الجمّاء الغفير، وكنت ممّن صادق عليها عن غير تروّ ولا يزال ذلك مشكلا عليّ؛ لأنّني إذا رأيت ما جاء في غير موضع من «مجموع الأجداد»: (أنّ رجلا بيده نخل يقاسم آخر في ثمرته سنين، ثمّ امتنع بالآخرة وقال: لا أعطيك شيئا من ثمرته إذ لا حقّ لك فيها ولا في النّخل، فأقام المدّعي بيّنة بأنّه يقاسمه سنينا عديدة على الرّبع مثلا.. كان القول قول صاحب النّخل بيمينه، وإقامة البيّنة من المدّعي بمجرّد المقاسمة غير مسموعة، فلا يحكم له بشيء من النّخل ولا من ثمرته) اه بمعناه.

ويؤيّده ما في فقه السّادة الزّيديّة من أنّ الحقّ لا يثبت بالبيّنة باليد كما في (ص 135 ج 4) من «شرح الأزهار»، ويزيده قوّة قول جدّي علّامة وادي الأحقاف علويّ بن سقّاف: (وليس لشارح ولا لحرّاث ولا لمفخّط يد).

إذا رأيت مثل هذا.. سكن خاطري، ولكن يختلجني الشّكّ إذا رأيت قول «التّحفة» في (زكاة النّبات) [3 / 243]: (وصرّح أئمّتنا بأنّ النّواحي الّتي يؤخذ الخراج من أراضيها ولا يعلم أصله.. يحكم بجواز أخذه؛ لأنّ الظّاهر أنّه بحقّ). ونحوه في (البيع). ونحوه قولها في مبحث (أحكام الذّمّة): (والأراضي الّتي عليها خراج لا يعرف أصله.. يحكم بحلّ أخذه؛ لاحتمال أنّه وضع بحقّ).

وما جاء في «النّهاية» و «فتاوى ابن حجر» من قولهما: (إنّه لا يجوز لمالك جدار هدمه وفيه كوّة ينزل منها الضّوء إلى دار جاره؛ لاحتمال أنّ فتحها كان له بحقّ) اه.. فإنّها كالصّريح في خلاف الأوّل، لا سيّما وقد رأيت في بعض الوثائق القديمة أنّها مشتراة من باب السّلطنة، فدلّ ذلك على أنّه خراج سلطانيّ يباع ويشترى.

وفي «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم أنّه:

(كان لآل بن يحيى مال بالعجز، ساوم فيه الحبيب شيخ بن أحمد، فقالت له الشّريفة علويّة بنت الشّيخ عليّ بن أحمد: يا عمّ شيخ، لا تشتر مال الدّيوان لآل أحمد بن عليّ.

قال: إنّه مال واسع رخيص الثّمن. قالت له: لا تطفىء نورنا بنار الدّيوان. فترك ذلك ولم يشتره) اه

وفيه قيام الشّبهة مع اطّراد العادة ببيعه وشرائه.

فإن قيل: هلّا يكون ما اشتهر من انبناء اليد على الشّراحة كافيا في عدم اعتبار ترتّب اليد؟ قلت: غاية ما يمكن من ذلك الاشتهار بالتّرك أن يكون بمثابة الخبر الصّحيح، وقد صرّح ابن حجر بأنّه لا يرفع اليد الّتي لا يعرف أصلها ما لم يكن معه إقرار أو بيّنة، وقد بسطت القول على هذا في المسألتين (1418) و (1474) من «صوب الرّكام».

ثمّ رأيت الكبسيّ نقل في «تاريخه» عن كلّ من الخزرجيّ والجنديّ: أنّ طغتكين بن أيوب لمّا استولى على اليمن.. دعته نفسه إلى شراء أرضهم بأسرها، وأمر المثمّنين أن يثمّنوها لتكون الأرض كلّها للحكومة بعد دفع ثمنها، ومن أراد حرث شيء منها.. فليصل إلى الدّيوان، وليستأجر من وكلاء الحكومة، ولكن عاجلته المنيّة دون تنفيذ ذلك باليمن، ومعلوم أنّه وصل إلى حضرموت.

وأنّ موته لم يكن إلّا بعد رجوعه عنها، فلعلّه قد نفّذ فيها هذه الفكرة؛ لأنّ أهلها عبيد من غلبهم من غيرهم، فلن يمتنعوا من شيء، تصداق قول مروان بن أبي حفصة يخاطب معنا [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:

«وطئت خدود الحضرميّين وطأة *** بها ما بنو من عزّة قد تضعضعا»

«فأقعوا على الأستاه إقعاء معشر *** يرون اتّباع الذّلّ أولى وأنفعا»

«فلو مدّت الأيدي إلى الحرب كلّها *** لكفّوا وما مدّوا إلى الحرب إصبعا»

وأخرى: وهي أنّ النّجير وخبايه وأعمالهما فتحتا عنوة، فيأتي فيهما ما يأتي في سواد العراق.

ومن وراء المسنّده إلى الشّرق: خبايه

وفيها كانت رياض القطا، بشهادة قول ياقوت [3 / 109]: (والرّياض علم لأرض باليمن، كانت بها واقعة للبيد بن زياد البياضيّ بردّة كندة أيّام أبي بكر رضي الله عنه).

وقال الشّاعر [من المتقارب]:

«فما روضة من رياض القطا *** ألمّ بها عارض ممطر»

ومع هذا فقد تشكّك في [3 / 93 ـ 94] في موضع روض القطا، وذكر قول الأخطل [في «ديوانه» 230 من الطّويل]:

«وبالمعرسانيّات حلّ وأرزمت *** بروض القطا منه مطافيل حفّل »

ولعلّه متعدّد في جهات كثيرة.

وفي خبايه جماعة من آل قصير، ومن أخبارهم: أنّ اثنين من آل قصير وآل الجحيل ـ وهما ابنا مسعد بن عوض ـ وآخر من آل دحدح أهل خبايه ساروا إلى دمّون في طلب صلح من آل سلمه، وأخذوا معهم ولدا صغيرا جدّا من سوق تريم، ولمّا انتهوا إلى دمّون.. طلبوا منهم الصّلح في قتيل عندهم لآل سلمه طفل، فقال آل سلمه: سنتشاور، فقال لهم أحد آل قصير: باتشاورون نساكم. فغضبوا وقتلوا آل قصير، فبعث آل مرساف إلى حيمد سعيّد دلّال تريم: هل يلزمهم عار من وجود طفلهم مع آل قصير. فلم يكن إلّا إرسال ثلاث سود لهم، فحطّوا على آل سلمه ودخلوا الفجير، فأحاط بهم آل سلمه، فركبوا اللّيل وأخذوا على آل عبد الشّيخ بالمسيله، وأقاموا بها سبع سنين والحرب قائمة بينهم وبين آل سلمه، وقتل فيها نحو من أربعين ما بين قبائل ومساكين.

ومن المشهور: أنّ السّيول لا تفيض عنها وإن كثرت، ومن أمثال العامّة: (ماء خباية فيها ولا يكفيها)، وبعضهم يحمله على القلّة، وآخرون يقولون: إنّ بها أرصادا تمنع ذلك، وليس بأغرب ممّا ذكرناه في مواضعه عن سدبه والقارة واللّسك.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


15-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قسم)

قسم

هو في شرقيّ العجز، وهو أرض واسعة اشتراها سيّدنا عليّ بن علويّ بن محمّد بن علويّ بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بعشرين ألف دينار، وسمّاها: قسم باسم أرض كانت لأهله بالبصرة، وغرسها نخيلا، وبنى بها دارا ينزلها أيّام الرّطب، ثمّ بنى جماعة بيوتا عند داره حتّى صارت قرية، ولهذا سمّي: خالع قسم، توفّي بتريم سنة (527 ه‍).

وفي الحكاية (181) من «الجوهر» ما يفهم منه أنّها لا تقام جمعة بقسم في حدود سنة (786 ه‍)، وذلك أنّه قال فيها: (قال بعض الثّقات: طلعت مع الشّيخ محمّد بن أحمد بن عبد الله باعلويّ بعدما كفّ بصره من قسم إلى جامع العجز ليصلّي فيه الجمعة) اه

وما كان على ضعفه وذهاب بصره ليذهب من أجل صلاة الجمعة لو كانت تقام في بلده.

وكان الشيخ محمّد هذا كثير العبادة، شديد المجاهدة، أقام في آخر عمره بمدينة قسم واستوطنها، وبها توفّي سنة (787 ه‍)، ودفن بمقبرتها المسمّاة بالمصفّ، وهو الملقّب جمل اللّيل.

ومن ذرّيّته: علويّ بن أحمد قسم بن علويّ الشيبة ابن عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن محمّد جمل اللّيل، كان له عقب بقسم انقرضوا، ولم يبق إلّا شيخ بن عبد الله بمليبار.

وفي «الأصل» ما يعرف منه أنّ أمر قسم كان لمنصب عينات.

وآخر مناصبها ولاية على قسم: الحبيب أحمد بن سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، المتوفّى سنة (1236 ه‍)، فغلبه عليها المقدّم عبد الله بن أحمد بن عبد الشّيخ بن يمانيّ بن سعيد بن العبد بن أحمد، وهذا النّسب مقطوع به بينهم.

ثمّ إنّهم يقولون: إنّ أحمد ـ هذا ـ ابن عبد الله بن يمانيّ بن عمر بن مسعود بن يمانيّ بن سلطان بن دويس بن راصع بن مسعود بن يمانيّ بن لبيد الظّنّيّ.

وربّما سقط شيء من هذا النّسب؛ فإنّه ليس من المقطوع اتّصال سلسلته.

ثمّ صارت إلى ولده أحمد بن عبد الله، واتّسع نفوذه من ضواحي قسم الجنوبيّة إلى ماوراء شعب نبيّ الله هود عليه السلام. وكانت له ولأبيه شهامة ملك وأبّهة سلطان.

«لهم أوجه بيض حسان وأذرع *** طوال ومن سيما الملوك نجار»

وما سمعت والدي يذكر أحدا بالشّهامة وجمال الشّارة سواه؛ لانقطاعه بالعلم والعبادة عن مجاري الأخبار وعمّا النّاس عليه، ولكنّه استجهره لمّا رآه يتخلّع تخلّع الأسد في جنازة الحبيب محمّد بن إبراهيم سنة (1307 ه‍)، ووراءه زهاء الأربع مئة من أبطال آل تميم.

ثمّ خلفه ولده عليّ بن أحمد، وكان شهما كريما شجاعا متين الدّين، وله غلوّ في العلويّين حتّى لقد سمّى ولده: (عبد علويّ) يعني به شيخنا الجليل علويّ بن عبد الله الهندوان السّابق ذكره في روغه.

ولمّا عجز عن نفقات حاشيته وعبيده ـ وهم كثر ـ.. تفرّقوا في البلاد، وهاجر كثير منهم إلى السّواحل الأفريقيّة، وأوّل ذلك كان بإثر المجاعة الّتي اشتدّت بأسفل حضرموت سنة (1315 ه‍)، وعندئذ احتاج إلى مساعدة القعيطيّ، وما زالت المفاوضات جارية حتّى انعقد بينهم الحلف المؤكّد بتاريخ ذي الحجّة سنة (1337 ه‍).

وفي نفس هذا التّاريخ كتبت بينهم وثيقة حاصلها: أنّ المقدّم عليّ بن أحمد بن يمانيّ ـ عن نفسه وعن أولاده وإخوانه ـ وهب بلاده الّتي له الولاية عليها ـ وهي قسم والخون والسّوم وعصم وبرهوت وفغمة وسنا ونواحيها ومتعلقاتها ـ للمكرّم السّلطان غالب بن عوض بن عمر القعيطيّ، فتلقّاها بالقبول، وشلّ واعترف السّلطان غالب بن عوض بأنّ الأمير ـ من طرفه ـ عليّ بن أحمد وأولاده ما تناسلوا.

هذا حاصل تلك الوثيقة وعليها إمضاء السّلطان غالب والمقدّم، وشهادة السّيّد حسين بن حامد وعبد الكريم بن شملان وجماعة من يافع.

وفي (23) القعدة سنة (1355 ه‍) كتب السّلطان صالح بن غالب ما نصّه:

وبعد: فقد أيّد عظمة السّلطان صالح بن غالب القعيطيّ عبد علويّ بن عليّ بن أحمد بن يمانيّ مقدّما على كافّة آل تميم محلّ والده المرحوم عليّ بن أحمد بن يمانيّ، وله على الدّولة القعيطيّة ما لوالده، وعليه ما على والده، وبالله التّوفيق. وعليه إمضاؤه بخطّه.

ثمّ إنّ المقدّم لم يحصل على شيء يستحقّ الذّكر من المساعدة المرجوّة من الحكومة القعيطيّة سوى المواعيد ـ المعروف شأنها ـ من السّيّد حسين بن حامد في أيّامه، بل كثيرا ما كانت الحكومة القعيطيّة بعده ضدّ آل تميم كما يعرف بعضه ممّا سبق.

وقد أضرّ المقدّم عليّ بن أحمد بالآخرة، وثقل سمعه، ولم يمنعه ذلك أن حجّ في سنة (1354 ه‍)، وتوفّي مرجعه من الحجّ، وكان شهما شجاعا متواضعا لأهل العلم والدّين، منصفا للضّعفاء والمساكين، وخلفه ولده عبد علويّ، ولهم مع المناهيل أحوال طويلة مستوفاة في «الأصل»، ويأتي بعضه في العرّ إن شاء الله.

ومن أخبارهم: أنّه حصل بعد وفاة عبد الله بن أحمد نزاع على الإمارة بين ولده أحمد بن عبد الله وبين عوض بن صالح بن عوض بن صالح بن عبود بن عبد الشّيخ، وعبد الشّيخ هذا هو الجدّ الّذي يجتمعون فيه، باختلافهم افترق ملأ آل تميم، فكان آل عبد الشّيخ وآل مرساف وآل سعيد وآل عثمان في جانب عوض بن صالح، وآل سلمة وآل شيبان وآل شملان وآل قصير والقرامصة وآل محد في جانب أحمد بن عبد الله.

وفي تلك الأثناء كان تجهيز آل كثير على آل تميم بعد أن عقدوا حلفا مع عوض بن صالح ولمّا استولى السّلطان الكثيريّ على المسنّدة وعلى أمكنة الفلاهمة وضرب ديار آل شيبان بالمدافع وتحمّل نساءهم وأولادهم إلى سنا، وكان عوض بن صالح قد مات وخلفه ابنه صالح فأضأرته الرّحم، وسيّر قصيدة لأحمد بن عبد الله وهو مرابط بالسويريّ يقول فيها

«أحمد زميم الجيش ثاقل حمله *** مع القبيلة قد بلغ مجهوده »

«ذري الأسد جمع الملا تشهد له *** بأرض جاوه لا جهات هنوده »

«عصب بني مالك وربعه جمله *** في عار بن فلهوم لي مقصوده »

«خذوا كوات الخشم هن والسّهله *** معا عدانة باعلال اعبوده »

«خلّو ديرهم قايسوها سهله *** ترجع محلتهم بروس نجوده »

«ذا قول من صالح مراده فصله *** بن سالم اللّي طالبك مردوده »

فلمّا وصلته.. سرّ بها، وأمر المعلّم سعيد عبد الحقّ أن يتولّى الجواب، فأنشأ قصيدة جاء فيها قوله:

«قل له وزد قل له وعادك قل له *** ساعة أتتنا ابياتك المرصوده »

«الفجر وصلت والقبايل جمله *** في حضرتي أربع مئه معدوده »

«فرحو بحجّه من كلامك جزله *** حتى اصبحت كل القبل مقيوده »

«يا ريت لك عينا تشوف السّهله *** أيضا وشرقيها دير مهدوده »

«ونحن خوّه بيننا متّصله *** والمرء ما يتركه لحم زنوده »

فلم يكن من صالح بن سالم إلّا أن ردّ حلف الكثيريّ وانضمّ إلى أحمد بن عبد الله، فاستفحل أمرهم ثمّ قام الصّلح بينهم وبين الكثيريّ، ودفع غرامة الحرب، وحدّدت الحدود كما فصّل ب «الأصل».

ومن أخبارهم: أنّ عوض بن صالح بن عوض كان في أيّام حرب حصن العزّ في جانب آل تميم، وعليّ بن أحمد بن يمانيّ في جانب آل كثير وآل تريم. وفي عواد الحجّة سنة (1343 ه‍) جاء في أتباعه لمعايدة المقدّم عليّ بن أحمد بن يمانيّ، فبينا هو يلقي الزّوامل على أصحابه.. أصابته رصاصة بين عينيه، قيل: إنّها من حيدر بن حميد اسعيّد أحد دلل آل تريم، وكان وليّ دمه ـ وهو الشّهم العربيّ القحّ عبد الهادي بن سالم بن صالح بن سالم بن صالح بن عبود بن عبد الشّيخ ـ غائبا، فحضر وخاطبوا المناهيل وآل مرساف أن يعطيهم بعض حصونه ليحصروا عليّ بن أحمد، فلم يرض؛ لأنّه كان حليما، وأراد عليّ بن أحمد أن يبرّىء نفسه فلم يقدر، وقال له عبد الهادي: إن سلمتم من القتل.. فلن تسلموا من التّدبير، ولمّا رأى أنّ الزّمان قد حرب أبناء عمّه.. لم يرد أن يكون هو والزّمان عليهم وبينهم رحمة ماسّة، وصهر أكيد، فتوجّه إلى السّواحل الأفريقيّة في سنة (1348 ه‍) ومعه ابنه أحمد، ولا يزالان بها إلى اليوم على وجه نقيّ، وسير مرضيّ.

ومن أخبارهم: أنّ آل يمانيّ ذهبوا في سنة (1349 ه‍) لجذّ ما لهم من الخريف

بالسّوم، فاغتنم الفرصة مبخوت المنهاليّ، الملقّب ب: (البس) وقصد دار سالم بن أحمد بصفة الضّيف، فلمّا قابله.. أطلق عليه الرّصاص، وهرب، ولكنّه ـ أعني البس ـ غزا إلى القبلة في هذا العام، فلاقى حتفه، وكان قتله لسالم بن أحمد غدرا في أوفى صلح بينهم.

وفي قسم جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، المتوفّى بتريم سنة (857 ه‍)، وهم آل بن إبراهيم.

قال في «شمس الظّهيرة»: ومنهم: السّيّد الفاضل الكريم أبو بكر بن إبراهيم بن عبد الرّحمن، له أياد عظيمة، وأوقاف جسمية، وقف على مسجد السّقّاف مالا بنحو خمسة آلاف ريال، توفّي بقسم سنة (1227 ه‍).

ومنهم الآن بتريم: حفيده عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله، شريف فاضل متواضع.

ومنهم: السّيّد علويّ بن إبراهيم بن شيخ بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرّحمن ابن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، رجل صالح له ثروة، توفّي سنة (1352 ه‍) عن (81)، وله جملة أولاد؛ أكبرهم محمّد، له عدّة أولاد؛ أكبرهم عبد الرّحمن. ومنهم عمّهم عمر بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن شيخ، توفّي بعد أن رجع من الحجّ في سنة (1358 ه‍)، وكان عالما فاضلا.

وفي قسم ناس من آل فدعق.

قال في «شمس الظّهيرة» [1 / 367]: منهم محمّد بن عمر، سيّد جليل، توفّي سنة (1278 ه‍).

ومن آل فدعق الفاضل النّبيه السّيّد حسن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حسين بن فدعق، نزيل مكّة المشرّفة الآن، وله بها عدّة أولاد؛ منهم أربعة على أسماء الخلفاء الرّاشدين، أنجبهم عليّ.

وفي قسم أيضا ناس من ذرّيّة السّيّد امبارك مدهر بن عبد الله وطب بن محمّد المنفّر، المتوفّى سنة (884 ه‍).

قال في «شمس الظّهيرة» [1 / 364]: (منهم الشّريف النّجيب السّاعي للعلماء، والمحبّ لهم: عبد الله بن عبد الرّحمن، المتوفّى بمكّة سنة «1295 ه‍».

ومنهم: عبد الله بن محمّد، شريف نبيه مكرم للضّيفان.

ومنهم: عمّه المعمّر كثير الصّيام والذّكر: عمر بن عبد الله) اه

وعبد الله بن محمّد هذا هو ابن عقيل مطهر مدهر، راوية لأخبار الأوائل، توفّي بقسم سنة (1338 ه‍)، وكان بها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن أحمد بن أبي بكر الورع، يقال لهم: آل برهان الدّين، انقرضوا.

ومن أهل قسم: السّيّد الإمام محمّد بن سالم الجفريّ، أحد مشايخ الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى.

وفي قسم جماعة يقال: إنّهم من بقايا آل النّجّار أمراء سيئون في السّابق؛ منهم الآن: رجل يقال له: سعيد بن عبد الشّيخ.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


16-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (في نجود حضرموت من أعلاها إلى أسفلها)

في نجود حضرموت من أعلاها إلى أسفلها

اعلم: أنّ ما سبق في القسمين الأوّل والثّاني كلّه غور، إلّا ما كان من نحو الضّليعة وبعض ما قبلها في الثّاني؛ فإنّها من السّوط؛ فإنّه نجد في رأس جبل، فيه مضارب آل بلعبيد، وهم قبيلة لا تزال لها خشونتها إلى اليوم ـ كما سبق ـ لا يبالون بعسكر القعيطيّ، بل كلّما لاقوهم.. قتلوهم. وهم عدّة ديار: آل مزعب، وآل باكرش، والجهمة، وسلم، وبلّحول، يقدّر مجموعهم بثلاثة آلاف رام.

وفي «سبائك الذّهب»: (أنّ بني العبيد ـ بضمّ العين ـ: بطن من سليح من قضاعة، وهم من أشراف العرب، وإليهم يشير الأعشى بقوله [في «ديوانه» 135 من الوافر]:

«... *** ولست من الكرام بني العبيد»

والنّسبة إليهم: عبدي؛ كما قالوا في هذيل: هذلي).

وقال في «العبر»: (كان لهم ملك يتوارثونه بالحصن الحصين الباقية آثاره في برّيّة سنجار من الجزيرة الفراتيّة، إلى أن كان آخرهم الضّيزن بن معاوية بن العبيد) اه

والعبيد هو ابن الأبصر بن عمرو بن أشجع بن سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة.

وممّا يتأكّد به كون آل بلعبيد أهل السّوط هم من هؤلاء.. وجودهم في نواحي قضاعة، وقربهم من يبعث، وقد سبق فيه أنّ سكّانه الّذين كتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أبناء ضمعج، وهو قريب من ضعجم، وأنّ ضعجم هو ابن سعد بن سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة.

ولسليح القضاعيّ خبر مع غسّان استوفاه ابن شريّة، وسبق ذرو منه في يبعث.

وأمّا نجود حضرموت.. فقسمان:

أحدهما: الجنوبيّ؛ وفي أعلاه: كور سيبان، والحالكة، والعكابرة، والخربة، وبحسن.

ومنها تكون الطّريق من السّاحل إلى وادي حمم، ثمّ الخريبة، ودوعن.

ووادي حمم، هو واد طويل كثير النّخيل والأشجار والعيون، يسكنه آل باهبريّ، من قديم الزّمان، ولهم ذكر كثير ولا سيّما في حروب القرن العاشر، وفيه ناس من السّادة آل العطّاس وغيرهم.

ثم: حويرة.

ومنها تنشعب الطّرق إلى وادي العين، وإلى وادي بن عليّ.

وفي شمال حويرة إلى الشّرق: ريدة المعارّة وريدة الجوهيّين، ومنهما تشرع الطّرق إلى حضرموت، وإلى عقبة الفقره، وعقبة العرشه، وعقبة عبد الله غريب، وعقبة عثه، تنزل هذه كلّها إلى السّاحل، وقد أصلحت في الأخير طريق للسّيّارات في هذا الجبل.

والمسافة بمشي السّيّارة بالتّقريب من الغرف إلى أوّله ـ عقبة الغزّ ـ نحو ثلاث ساعات، ومنها إلى ريدة الجوهيّين والمعارّة ثلاث ساعات.

ومن الرّيدتين إلى عقبة الفقره يكثر الازورار والانعطاف؛ لكثرة القور والشّناخيب بذلك الطّرف، فبطن ذلك الجبل الّذي يلي حضرموت أشبه بظهر الضّبّ، وأمّا ما يلي عقبة الفقره في شمالها.. فأشبه بذنبه، والسّيّارات فيه يحيط بها خطر السّقوط إذا لم يمهر السّائقون.

والمسافة إلى الفقره نحو ثلاث ساعات.

ومنها إلى الشّحر نحو ساعتين.

وفي هذا النّجد جول عبول، وهو الّذي توفّي به سيّدنا العيدروس الأكبر مرجعه من الشّحر إلى تريم، على ثلاث مراحل من تريم ومرحلتين من الشّحر.

وفيه أيضا: مقد العبيد، سمّي بذلك لسبب يتعالم به الحضارمة ولا ندري ما نصيبه من الصّحّة، إلّا أنّ آثار القبول ظاهرة عليه؛ وهو: أنّ أحد سلاطين حضرموت بات به مع عبيده في ليلة شاتية، وهو ممّا ينطبق عليه قول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 18 من الكامل]:

«وعقاب لبنان وكيف بقطعها *** وهو الشّتاء وصيفهنّ شتاء»

فجمعوا عليه الرّحال والفراش، وباتوا هم في نقل الحجارة من مكان إلى آخر.. فاندفع عنهم البرد بحرارة الأعمال، وأصبح السّلطان ميتا من شدّته.

وفي أواخر هذا النّجد: غيل بن يمين، ولسويد بن يمين ذكر كثير في شعر إمام الإباضيّة إبراهيم بن قيس، وقلت في «الأصل»: يحتمل أن يكون سويد صاحب هذا الغيل، ويحتمل أن يكون المراد من شعر إبراهيم إنّما هو جدّ آل يمين النّهديّين الموجودين اليوم بالسّور، وسفولة اليمنة، على مقربة من طريق حريضة.

وقد سبق في حجر: أنّ طائفة من آل دغّار يقال لها: آل ابن يمين لا تزال بقاياها بقرية في حجر يقال لها: الحسين، فلا يبعد أن تكون هي، لا سيّما وأنّ القرائن المتوفّرة في شعر إبراهيم بن قيس تؤكّد ذلك.

ويقال للغيل المذكور: غيل الشّناظير أيضا؛ نسبة ليافع الّذين استولوا عليه وقت اقتسامهم لحضرموت.

وفي حوادث سنة (936 ه‍) استولى السّلطان بدر بوطويرق على غيل ابن يمين، ونهب أولاد يمين وطردهم، فلجؤوا إلى الحموم، وما كاد يتّصل هذا الخبر بالسّلطان محمّد أخي بدر بوطويرق.. إلّا وتكدّر واغتاظ وأظهر أنّه محشوم، واتّسع الخلاف بينه وبين أخيه، إلى أن سفر المصلحون، وأرجع بدر أمر الغيل إلى أخيه محمّد فردّه لأولاد يمين.

وفي رحلة السّلطان عمر بن صالح هرهرة أنّ جعفر بن يمين قتل مع السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ في المعركة الّتي كانت بين يافع وآل كثير في بحران سنة (1117 ه‍).

وللغيل هذا ذكر كثير في أخبارهم وحروبهم، ثمّ استولت عليه طائفة من يافع يقال لهم الشّناظير، ولذا ينسبه بعضهم إليهم كما سبق في تريم.

وسيول هذا الغيل تدفع إلى وادي سنا، وأمّا ماؤه الجاري.. فالغالب عليه الإهمال.

وهو من النّقاط المعيّنة لسلاطين آل عبد الله الكثيريّ في المعاهدة ذات الإحدى عشرة مادّة، ولم يذكر في وثيقة اقتسام الممالك بين السّلطانين منصور ومحسن ابني غالب بن محسن، المحرّرة فاتحة رجب سنة (1336 ه‍)، فهو باق بينهم على الشّركة الشّائعة، وأكثر معوّل الدّولة الكثيريّة في حمايته على الحموم إزاء امتيازات لهم فيه، وهم الّذين طردوا عنه الشّناظير من يافع سنة (1275 ه‍).

وفيه جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن أحمد بن قطبان، وبالبادية حواليه جماعة من بادية العلويّين كبيت سهل، وبيت حمودة، وبيت قرموص، وبيت عقيل، وبيت الحنشش، وبيت محسن، وبيت الأخسف، وبيت كدحوم.

منهم جماعة اشتهروا بالنّجدة والشّجاعة الخارقة؛ كالسّيّد حسن بالحنشش، والسّيّد عميّر؛ فقد كانا مضرب المثل في ذلك.

«... *** إنسا إذا نزلوا، جنّا إذا ركبوا»

لا، بل كانوا جنّا وشياطين دائما، حتّى إنّ الأمّهات ليروّعن بهم الصّبيان ليسكتوا عن البكاء؛ لأنّهم من أكثر النّاس شرّا وقيادة للغارات.

ومنها غارة سنة (1318 ه‍)؛ فقد نهبوا قافلة الحجيج الصّادرة من المكلّا إلى حضرموت، وفيها السّيّد سالم بن محمّد بن عليّ بن محمّد السّقّاف، والسّيّد عبد الرّحمن بن عبد القادر البحر، وكان السّيّد حسن بالحنشش هو القائد العامّ لتلك الغزوة، غير أنّهم بعد ما نهبوا الحاجّ.. هاجمتهم سيبان والعوابثة وهم غارّون فقتلت منهم نحوا من خمسين، وأخذت ما استولوا عليها من أموال الحجّاج على نيّة إرجاعه لهم، ثمّ خاسوا بتلك النّيّة، وبيناهم يقتسمون.. عطف عليهم السّيّد حسن بالحنشش بقومه وكثرت القتلى من الجانبين، ولم يحجز بينهم إلّا حرّ النّهار، وكان الوقت خريفا.

وهذه من كبريات حوادث بادية حضرموت إن لم تكن أكبرها على الإطلاق؛ فلقد أنتنت من جيفهم الجبال وسنقت الوحوش من لحومهم.

وفي النّاحية الغربيّة من هذا النّجد طريق أخرى للسّيّارات، تخرج من المكلّا، وتمرّ في أعلى وادي حمم إلى جبال دوعن، ثمّ تنزل بجحي الخنابشة، ومنه إلى الكسر، ثمّ إلى شبام.

وهناك تتّصل الطّريقان، وتدخل في كلّ واحد من النّجدين أودية كثيرة كعمد ووادي دوعن ووادي العين ووادي بن عليّ وشحوح ووادي تاربه وبايوت والقرى الّتي في جنوب الغرف إلى عقبة الغزّ.

فهذه كلّها داخلة في النّجد الجنوبيّ، وكوادي سر ويبهوض وجعيمه ووادي مدر ووادي الذّهب والخون وغيرها، فكلّها داخلة في النّجد الشّماليّ كما سنذكره بعد أسطر.

وأمّا الثّاني: فالنّجد الشّماليّ؛ وهو جبل ينقاد من قرب سيحوت شرقا إلى محاذات العبر غربا، إلّا أنّه يستدقّ في طرفيه، وتعقبه في الغرب آكام وقور. وعرضه تارة ينبسط إلى مسافة ثمانية أيّام، وأخرى ينقبض إلى خمسة أيّام فقط، ومنه تنشعب الأودية إلى وادي الجابية، ووادي سور، ووادي هينن، وأودية سر، وجعيمه، ومدر، وثبي، ووادي الغبيرا الّذي ينهر إلى دمّون، ووادي الخون، وسويدف، ووادي عرده، ووادي طبوقم من أودية الظّنّيّ، وبعدهنّ وادي عشارهم، وهو من أودية المهريّ وغيرها.

وارتفاعه من جهة الشّمال إلى الرّمال أقلّ من ارتفاعه في جهة جنوبه إلى حضرموت بكثير، حتّى لقد تختلط أطرافه برمال الدّهناء، كما سيأتي عن بير ثمود.

وفي أوّل هذا النّجد غربا: ريدة الصّيعر، قال الهمدانيّ في عداد قرى حضرموت: (وريدة العباد وريدة الحرميّة).

وقال عمرو بن معديكرب الزّبيديّ [من الوافر]:

«أولئك معشري وهم خيالي *** وجدّي في كتيبتهم ومجدي »

«هم قتلوا عزيزا يوم لحج *** وعلقمة ابن سعد يوم نجد»

وما أظنّه يعني إلا هذا النّجد؛ لأنّه أقام طويلا على مقربة منه بالكسر.

والصّيعر ـ كما عند الهمدانيّ وأجمع عليه مؤرّخو حضرموت ـ: قبيلة من الصّدف تنسب إليها ريدة؛ ليفرّق بينها وبين ريدة أرضين.

وقال في موضع آخر: (وكان الصّدف بحضرموت من يوم هم، ثمّ فاءت إليهم كندة بعد مقتل ابن الجون يوم شعب جبلة لمّا انصرفوا عن غمر ذي كندة، وفيهم الصّدف، وتجيب، والعباد من كندة، وبنو معاوية بن كندة، ويزيد بن معاوية، وبنو وهب، وبنو بدّا بن الحارث، وبنو الرّائش بن الحارث، وبنو عمر بن الحارث، وبنو ذهل بن معاوية، وبنو الحارث بن معاوية، ومن السّكون فرقة، وفرقة من همدان يقال لهم: المحاتل، وفرقة من بلحارث بن كعب بريدة الصّيعر، وإليها تنسب الإبل الصّيعريّة، والأشلّة الصّيعريّة، وفيها يقول طرفة [في «ديوانه» 202 من الطّويل]:

«وبالسّفح آيات كأنّ رسومها *** يمان وشته ريدة وسحول) اه »

وقد ناقشته في «الأصل» إذ زعم أنّ فيئة كندة إلى الصّدف بحضرموت أوّل عهدهم بها؛ إذ لا يتّفق مع وجود السّبعين ملكا منهم بها متوّجين؛ آخرهم الأشعث بن قيس.

وقد صرّح بأنّ العباد من كندة، وفي «التّاج» [8 / 338] و «أصله»: (أنّ العباد من القبائل الشّتى الّتي اجتمعت على النّصرانيّة، مع احتمال أن يكون جدّ العباد الكنديّين أحد أولئك؛ فإنّه لا مانع منه).

وفي [8 / 78] من «خزانة الأدب» للبغدادي: (أنّ الصّدف بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت) اه

وقد تفرّع كثير من قبائل حضرموت عن الصّيعر كما تكرّر مثله في هذا المجموع كآل باجمّال، وآل باصهي، وآل بابقي، وآل باحنين، وآل باكثير، وآل الجرو، وآل باحلوان، وآل باغانم، وكانوا ببور، وآل بامطرف، وآل بامزروع.

وبقي أهل الرّيدة على حالهم لم يتغيّر اسمهم ولا اسم بلادهم، وقد سبق في الغرفة وغيرها أنّ آل باحلوان من قضاعة.

والصّيعر قبيلتان: آل مسلّم، وآل حاتم، وكلّ قبيلة تنقسم إلى بطون كثيرة، ورئيس الصّيعر كلّهم الآن: سعد بن طنّاف بن رميدان، ورئيس آل عليّ بلّيث منهم، يقال له: عليّ بن عيضة، ومقدّم آل يربوع منهم، يسلم بن محمّد، ومقدّم آل عبيدون: سعيد بالحاشدي.

وكثير منهم من ينتجع وبار، وبالأخصّ آل عبد الله بن عون؛ ففيها منهم نحو مئتي رام.

ووبار: هي الرّمال الّتي من وراء جبلهم، إلّا أنّ كلّا من أهل النّجد يسمّي ما يجاور نجده باسم غير الّذي يسمّيه الآخر، فالصّيعر يسمّون ما يلي نجدهم من الغرب إلى الشّرق: (عيوه) بكسر العين وسكون الياء وفتح الواو.

وفي الأخير رعاها آل معروف منهم، ثمّ نجعوا إلى مقربة من نجران بسبب الجدب، وأذن لهم أمير نجران وهو رجل شهم، وعربيّ قحّ من صميم تميم، له مروءة وشمم، يقال له: تركيّ بن محمّد بن ماضي ـ أن يضربوا خيامهم في أطرافها، كما أذنت الفرس لحاجب بن زرارة.

ثمّ وفد منهم أربعون على أربعين نجيبة، يرأسهم اثنان ـ يقال لأحدهم: قنيبر، والآخر هو: عبد الله بن سالم بن معيقل ـ حتّى وصلوا الرّياض، فتركوهم أربعة أيّام، وفي الخامس أو السّابع اجتمعوا بملك الحجاز ونجد ورأوا من بشره وإكرامه أكثر ممّا يؤمّلون، وقدّموا له مطيّة على سبيل الهديّة اشتروها عمّا يقولون بثلاث مئة ريال، لكنّه بعيد؛ لأنّ إبلهم لا تبلغ ذلك ولا نصيفه، وبعد اجتماعهم به أجروا عليهم حكم الضّيافة، وطلبوا منه أن يديم الإذن لهم بالإقامة في مشارف نجران، فأحالهم على ما يرى فيه المصلحة أميرها، ودفع لكلّ من الرّئيسين أربعين ريالا، ولكلّ واحد ممّن سواهم عشرين، مع ما يلزم من الزّاد، ولمّا عادوا إلى نجران.. أبقاهم أميرها مدّة، ثمّ طردهم، فعادوا إلى عيوه، هكذا أخبرني عنهم امبارك بن يسلم بن زيمة بن امبارك العوينيّ.

وكما رفعوا ثمن ناقتهم إلى ما لا يقبله العقل.. كتموا ـ فيما أرى ـ بعض ما أعطاهم الملك؛ لأنّ ذلك النّزر لا يتّفق مع ما سارت به من سماحته الرّكبان وضربت الأمثال؛ فهو الّذي:

«يهمي النّدى والرّدى في راحتيه فلا *** عاصيه ناج ولا راجيه محروم »

وعدد الصّيعر لا يزيد عن ألفي رام، وقد عاهدهم الضّابط السّياسيّ الإنكليزيّ انجرامس منذ أحد عشر عاما معاهدة اعترف لهم باستقلالهم، وأنّهم ليسوا تبعا لأحد من سلاطين حضرموت، وعلى أن لا رسوم عليهم في بلادهم، وعلى أنّ العبر من حدودهم، كذا أخبرني من اطّلع على المعاهدة.

والجاهليّة عندهم جهلاء، وشأنهم شأن العرب في السّلب والنّهب، وكثيرا ما يتناهبون هم والعوامر وآل كثير النّعم بأنواعها، ولكنّ أولاء لا يقدرون على الانتصاف منهم، إلّا إذا انضمّوا إلى المهرة والمناهيل، وتجمّعوا من كلّ صوب، وأمّا هم؛ أعني الصّيعر والمناهيل، والمهرة، ويام، ودهم، والكرب.. فلا يتناهبون إلّا الإبل؛ لبعد الشّقّة.

وفي الشّتاء من هذه السّنة غزت آل حاتم إلى بعض البوادي الدّاخلة في الحدود السّعوديّة، فغنموا إبلا كثيرا، فاحتجّت عليهم حكومة عدن، فقيل: إنّهم أرجعوها كلّها أو بعضها، وقيل: لم يردّوا شيئا.

وفي جمادى الآخرة من هذه السّنة غزت طائفة من قبيلة يقال لهم: (القحطانيّون) مكانا في شرقيّ العبر وشماله، يقال له: (شمال)، وفيه أخبية لكثير من الصّيعر والكرب ونهد، فالتحم القتال ودام نحو ثلاث ساعات، وأنجدهم عسكر البادية المحافظ على الأمن بطرف حضرموت من جهة الحكومة الإنكليزيّة، ولكنّه قليل جدّا، فلم ينجه مع ألفافه إلّا الهرب بعد أن قتل منهم ثمانية عشر، ونهبت إبلهم وسائر ما معهم، وبيان القتلى: سبعة من الكرب، وسبعة من الصّيعر، واثنان من نهد، واثنان من العسكر، ويزعم المنهوبون أنّهم ومن لفّهم قتلوا ثلاثة من القحطانيّين، ولكنّه زعم بدون تعيّن، وعلى هذه.. فقس ما سواها.

وعن امبارك بن يسلم العوينيّ عن صالح بالخليس الصّيعريّ الكسيليّ قال: غزوت على ظهر الجبل من نجدنا إلى نجد المهرة، فلمّا قارب الجبل الانتهاء.. استدقّ حتّى صار مثل السّيف، فنزلنا عنه ونحن ستّة على ستّ من المطايا، فلاقانا سوماليّ على جمل في طلب اللّبان، فهابنا، فآمنّاه، وسألناه: من أين أقبلت؟

قال: من عيان، وهو موضع قريب من سيحوت، يجري فيه غيل، تقام فيه الأسواق.

قلنا له: من هناك؟ قال: تجّار ببضائعهم يتأهّبون لقيام السّوق.

فأبقيناه مع أحدنا عند المطايا، ولمّا قاربناهم.. ألفينا عندهم مهريا يحلب ناقة له، فأرديناه وانتهبنا ستّين مطيّة مع ما قدرنا عليه من خفيف البضائع، وضربنا آباط الإبل مساءها واليوم الثّاني وردهة من اللّيلة الثّانية، فكلّ أصحابي وأرادوا التّعريس، فنهيتهم فلم يسمعوا، فأكلوا وأغفوا، ولم يكد يطرقني النّوم من الذّعر حتّى انتبهت فقمت أعسّ فشممت رائحة الوزيف من عرق جمال النّجدة؛ لأنّها تأكل منه، فأقبلت على أصحابي فسبقتني إليهم البنادق، واعتصمت بأكمة، وناديت القوم في أن يعود كلّ بحلاله، فأجابني الشّوص أحد آل عليّ بن كثير وكان معهم فقال: انتظر حتّى نتشاور، ولمّا ناديته مرّة أخرى.. قال: إنّ الّذين قتلتم أخاهم بالأمس وهو يحلب ناقته أبوا؛ فجاء موضع قول أبي مكعب [من البسيط]:

«إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم *** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما»

ولهذا البيت قصّة جاءت في (ج 10 ص 250) من «خزانة الأدب».

وأمر جماعة أن يكمنوا لي على الطّريق، وكان أحد أصحابي نجا براحلتين من النّهب، فاقتعدناهما، فلم يقدر علينا الكمين؛ لأنّهما كما قال القطاميّ [من البسيط]:

«يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة *** ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل »

وكانت هذه القضيّة في حدود سنة (1350 ه‍)، وآثار الصّدق لائحة عليها.

وفيها فوائد كثيرة؛ أهمّها: أنّ الجبل لا ينتهي إلّا على قرب سيحوت حسبما قدّمنا، وقد نقلنا في شرح البيت (36) في الجزء الأوّل من «الأصل» عن أبي شكيل: (أنّ مدينة تريم في شمال لسعا، وجبالها اثنان ممتدّان من الشّرق إلى الغرب، فيها قوم من المهرة كالوحوش، يتكلّمون بلغة عاد، وإليهم تنسب الإبل المهريّة) اه وما كان الخليسيّ مع أصحابه في المراجعة إلّا كدريد بن الصّمّة في الحادثة الّتي غزا فيها بني كعب بن الحارث بنجران فتبعوهم وقتلوا أخاه عبد الله في حبونن واستردّوا منهم ما أخذوا، وفي ذلك يقول قصيدته الّتي منها [من الطّويل]:

«بذلت لهم نصحي بمنعرج اللّوى *** فلم يستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد»

«وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد»

«تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا *** فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي؟! »

«لئن كان عبد الله خلّى مكانه *** فلا طائشا خلو الجنان ولا اليد»

وفي أرض الصّيعر بئر يقال لها: منوخ، فيها ماء، إلّا أنّه ينضب عند قلّة الأمطار، وهذه البئر في منطقة يقال لها: منوخ.

وقد بنت فيه الحكومة مركزا على أكمة صخريّة عالية، وهي في الجنوب الشّرقيّ لوادي عيوه.

وفي غربيّ هذه المنطقة على بعد خمسة وخمسين ميلا: منطقة زمخ، وفيها بئر مهمّة يستقي منها الغزاة القادمون من بوادي نجران، ويحملون ما يكفيهم من الماء في غزوهم للصّيعر، وآل كثير والعوامر والمناهيل والمهرة، وكذلك هؤلاء يتزوّدون منها لغزو يام والقبائل السّعوديّة وغيرهم.

ومركز زمخ يبعد عن مركز العبر بسبعة وثلاثين ميلا.

وعن قرية الحجر بريدة الصّيعر نحوا من أربعين ميلا.

وفي شمالها: رمال الدّهناء، أو الرّبع الخالي.

وموقع زمخ بمكان كبير من الأهمّيّة، ولذا بنت فيه الحكومة الإنكليزيّة على حساب الحكومة القعيطيّة مركزا لصدّ عوادي الغزاة أو تخفيفها.

وأمّا بير ثمود ـ الآتي ذكرها ـ فتبعد عن منطقة زمخ بمئتين وثلاثة وسبعين ميلا في جهة الشّرق.

وسكّان منطقة زمخ: آل عبد الله بن عون من الصّيعر، وهم بدو رحّل.

وفي وادي دهر مكان يسمّى: زمخا، وبئر تسمّى: ببئر زمخ، ولكنّها أقلّ شهرة من المكان الّذي نحن بسبيله.

وسكّان منطقة منوخ: آل عليّ بلّيث من الصّيعر، وسيأتي في وبار أنّها تمتّعت بالثّروة زمانا طويلا، وأنّها كانت طريق التّجارة الأهمّ بين الشّرق والغرب. وقد كانت كلّ من منطقة ثمود ومنوخ وزمخ مدنا عظيمة للتّجارة؛ ولكن أفناها ما أفنى القرون الماضية، ولا شكّ أنّ آثارها مطمورة بالرّمال.

ومنذ أربعين يوما غزت يام وقتلت ثلاثة من الكرب، وغنمت مئة راحلة، ولم يقتل منها إلّا واحد، ولم يصب إلّا اثنان.

وفي مكان المحارقة من أرض الصّيعر شيء من النّخل، ولا نخل في سواها من

أرضهم، والطّرق من ريدة الصّيعر مفتوحة إلى كلّ مكان، ومن أقربها طريق وادي هينن، ومن سرّ إلى مكان آل عليّ بلّيث في الرّيدة مسير يوم ونصف.

ومنذ ثمان سنوات تقريبا أمطرت الطّائرات الإنكليزيّة نارها على حصن يسلم بن يربوع ملهيّ، وحصن عبد الله بن عون فهدمتهما، ثمّ سوّيت القضيّة على ما تريد الحكومة من الموافقة على الحلف السّابق ذكره عمّا قريب.

وبلغني أنّ الحكومة جعلتهم بالآخرة تبعا للقعيطيّ برغم الاستقلال الّتي اعترفت لهم به في ذلك الحلف.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


17-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نقب)

(نقب): {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]

النَقْبُ -بالفتح: الثُقْبُ في أي شيء كان، والطَّريقُ الضيقُ في الجبل كالنُقْب- بالضم، والمنقَب والمَنْقبة- بالفتح. والمنقَبة- بالفتح: الطريقُ بين الدارين كأنه نُقِب من هذه إلى هذه. والنُقْبُ- بالضم: قرْحَة تَخْرُج في الجنب وتهجُم على الجَوف ورأسُها من داخل. والنَقِيبُ المزمار. نَقَبْتُ الحائط: بلغتُ في النَقْب آخره. ونَقِبَ الخفُّ الملبوسُ (تعب): تخَرقَ، والبعيرُ: حَفِيَ حتى يتخرق فِرْسنُه. والبيْطار يَنْقُب حافرَ الدابة ليُخْرج منه ما دخل فيه، وينقُب في بطن الدابة في سرته حتَّى يسيل منه ماء أصفر.

° المعنى المحوري

خرق نافذ في شيء غليظ يبلغ نهاية سمكه. كالثقب في الجِدار. والطَّريقُ والمنقبةُ المذكوران كأنهما كذلك.. إلخ، وعبارة [ل] "التأثير الذي له عمق ودخول [267/ 13] {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. وقوله تعالى {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: 36]: خَرقُوا البلادَ فساروا فيها طلبًا للمَهْرب " (هو من ذلك أو من تتبع الأنقاب: الطرق في الجبال). والنقيب (كما في آية التركيب): عريفُ القوم يتعرف أخبارهم وينقب

عن أحوالهم أي يفتش [ل / 267]، "وفي فلان مناقب جميلة أي أخلاق " (مستكنة فيه يكشف عنها حسنُ فعاله). و "النِقاب للمرأة " (كأن الرأس يخترقه أو لأنَّه يُنْقَب للعينين)، والبَطْنُ في مثل: "فرخان في نقاب "لأنهما في داخله، و "هو ميمون النقيبة أي النَّفْس أو الطبيعة والخليقة " (وكلها باطنة يكشف عنها التصرف).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


18-معجم البلدان (أبرق العزاف)

أَبْرَقُ العَزَّاف:

بفتح العين المهملة وتشديد الزاي وألف وفاء: هو ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة، مشهور، ذكر في أخبارهم، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة يجاء من حومانة الدّرّاج إليه، ومنه إلى بطن نخل ثم الطّرف ثم المدينة. قالوا:

وإنما سمّي العزّاف لأنهم يسمعون فيه عزيف الجنّ، قال حسّان بن ثابت:

«طوى أبرق العزّاف يرعد متنه، *** حنين المتالي فوق ظهر المشايع»

قال ابن كيسان: أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد لرجل يهجو بني سعيد بن قتيبة الباهلي:

«أبني سعيد! إنكم من معشر *** لا يعرفون كرامة الأضياف»

«قوم لباهلة بن أعصر، إن هم *** غضبوا، حسبتهم لعبد مناف»

«قرنوا الغداء إلى العشاء، وقرّبوا *** زادا، لعمر أبيك، ليس بكاف»

«وكأنني، لما حططت إليهم *** رحلي، نزلت بأبرق العزّاف»

«بينا كذاك أتاهم كبراؤهم، *** يلحون في التبذير والإسراف»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


19-معجم البلدان (تين ملل)

تِينُ مَلَّل:

الميم مفتوحة، واللام الأولى مشددة مفتوحة: جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البرابر، بين أولها ومراكش، سرير ملك بني عبد المؤمن اليوم، نحو ثلاثة فراسخ، بها كان أول خروج محمد بن تومرت المسمّى بالمهدي الذي أقام الدولة، ومات فصارت لعبد المؤمن ثم لولده، كما ذكرته في أخبارهم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


20-معجم البلدان (الجفار)

الجِفَارُ:

بالكسر، وهو جمع جفر نحو فرخ وفراخ والجفر: البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو وقال أبو نصر بن حمّاد: الجفرة سعة في الأرض مستديرة، والجمع جفار مثل برمة وبرام. والجفار: ماء لبني تميم وتدعيه ضبّة، وقيل: الجفار موضع بين الكوفة والبصرة قال بشر بن أبي خازم:

«ويوم النّسار ويوم الجفا *** ر كانا عذابا، وكانا غراما»

وقيل: الجفار موضع بنجد وله ذكر كثير في أخبارهم وأشعارهم، ويوم الجفار من أيام العرب معلوم بين بكر بن وائل وتميم بن مرّ، أسر فيه عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع، أسره قتادة بن مسلمة قال شاعرهم:

«أسر المجشّر وابنه وحويرثا *** والنهشليّ ومالكا وعقالا»

وقال الأعشى:

«وإن أخاك الذي تعلمين *** ليالينا، إذ نحلّ الجفارا»

«تبدّل، بعد الصبا، حلمه *** وقنّعه الشيب منه خمارا»

والجفار أيضا: من مياه الضباب قبلي ضريّة على ثلاث ليال، وهو من أرض الحجاز، وماء هذا الجفار أشبه بماء سماء يخرج من عيون تحت هضبة، وكأنه وشل وليس بوشل وفيه يقول بعض بني الضباب:

«كفى حزنا أني نظرت، وأهلنا *** بهضبي شماخير الطوال حلول، »

«إلى ضوء نار بالحديق يشبّها، *** مع الليل، سمح الساعدين طويل»

«على لحم ناب عضه السيف عضة، *** فخرّ على اللحيين، وهو كليل»

«أقول، وقد أيقنت أن لست فاعلا: *** ألا هل إلى ماء الجفار سبيل»

«وقد صدر الورّاد عنه، وقد طما *** بأشهب يشفي لو كرهت غليلي»

والجفار أيضا: أرض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر، أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل، وهي كلّها رمال سائلة بيض، في غربيّها منعطف نحو الشمال بحر الشام، وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم، وسمّيت الجفار لكثرة الجفار بأرضها، ولا شرب لسكانها إلا منها، رأيتها مرارا، ويزعمون أنها كانت كورة جليلة في أيام الفراعنة إلى المائة الرابعة من الهجرة، فيها قرى ومزارع، فأما الآن ففيها نخل كثير ورطب طيب جيد، وهو ملك لقوم متفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه وأيام إدراكه فيجتنونه، وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء، وفي الجادة السابلة إلى مصر عدّة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل، وهي رفح والقس والزّعقا والعريش والورّادة وقطية، في كل موضع من هذه المواضع عدّة دكاكين يشترى منها كل ما يحتاج المسافر إليه قال أبو الحسن المهلبي في كتابه الذي ألّفه للعزيز، وكان موته في سنة 386: وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والورّادة، والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان، وأهلها بادية محتضرون، ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنّة وأملاك وأخصاص فيها كثير منهم، ويزرعون في الرمل زرعا ضعيفا يؤدون فيه العشر، وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرع يصيدون منه ما شاء الله، يأكلونه طريّا ويقتنونه مملوحا، ويقطع أيضا إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدونه، منه الشواهين والصقور والبواشق، وقلّ ما يقدرون على البازي، وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحرّاس، لأنه لا يقدر أحد منهم أن يعدو على أحد لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئا من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه، وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيّب، فإن كان هذا حقّا فهو من أعجب العجائب.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


21-معجم البلدان (حرة الحمارة)

حَرَّةُ الحمَارَة:

لا أعرف موضعها، وقد جاءت في أخبارهم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


22-معجم البلدان (الري)

الرَّيّ:

بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، فإن كان عربيّا فأصله من رويت على الراوية أروي ريّا فأنا راو إذا شددت عليها الرّواء، قال أبو منصور:

أنشدني أعرابي وهو يعاكمني:

ريّا تميميّا على المزايد

وحكى الجوهري: رويت من الماء، بالكسر، أروى ريّا وريّا وروى مثل رضى: وهي مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محطّ الحاجّ على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخا ومن قزوين إلى أبهر اثنا عشر فرسخا ومن أبهر إلى زنجان خمسة عشر فرسخا، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة الريّ طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وست وثلاثون دقيقة، وارتفاعها سبع وسبعون تحت ثماني عشرة درجة من السرطان خارجة من الإقليم الرابع داخلة في الإقليم الخامس، يقابلها مثلها من الجدي في قسمة النسر الطائر ولها شركة في الشعرى والغميصاء رأس الغول من قسمة سعد بلع، ووجدت في بعض تواريخ الفرس أن كيكاوس كان قد عمل عجلة وركّب عليها آلات ليصعد إلى السماء فسخر الله الريح حتى علت به إلى السحاب ثمّ ألقته فوقع في بحر جرجان، فلمّا قام كيخسرو بن سياوش بالملك حمل تلك العجلة وساقها ليقدم بها إلى بابل، فلمّا وصل إلى موضع الريّ قال الناس: بريّ آمد كيخسرو، واسم العجلة بالفارسيّة ريّ، وأمر بعمارة مدينة هناك فسميت الريّ بذلك، قال العمراني: الرّي بلد بناه فيروز ابن يزدجرد وسمّاه رام فيروز، ثمّ ذكر الرّي المشهورة بعدها وجعلهما بلدتين، ولا أعرف الأخرى، فأمّا الرّي المشهورة فإنّي رأيتها، وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجر المنمق المحكم الملمع بالزرقة

مدهون كما تدهن الغضائر في فضاء من الأرض، وإلى جانبها جبل مشرف عليها أقرع لا ينبت فيه شيء، وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها، واتفق أنّني اجتزت في خرابها في سنة 617 وأنا منهزم من التتر فرأيت حيطان خرابها قائمة ومنابرها باقية وتزاويق الحيطان بحالها لقرب عهدها

«الرّيّ دار فارغه *** لها ظلال سابغة»

«على تيوس ما لهم *** في المكرمات بازغه»

«لا ينفق الشّعر بها *** ولو أتاها النّابغه»

وقال إسماعيل الشاشي يذمّ أهل الرّيّ:

«تنكّب حدّة الأحد *** ولا تركن إلى أحد»

«فما بالرّيّ من أحد *** يؤهل لاسم الأحد»

وقد حكى الاصطخري أنّها كانت أكبر من أصبهان لأنّه قال: وليس بالجبال بعد الريّ أكبر من أصبهان، ثمّ قال: والرّيّ مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها وإن كانت نيسابور أكبر عوصة منها، وأمّا اشتباك البناء واليسار والخصب والعمارة فهي أعمر، وهي مدينة مقدارها فرسخ ونصف في مثله، والغالب على بنائها الخشب والطين، قال: وللرّيّ قرى كبار كلّ واحدة أكبر من مدينة، وعدّد منها قوهذ والسّدّ ومرجبى وغير ذلك من القرى التي بلغني أنها تخرج من أهلها ما يزيد على عشرة آلاف رجل، قال: ومن رساتيقها المشهورة قصران الداخل والخارج وبهزان والسن وبشاويه ودنباوند، وقال ابن الكلبي: سميت الريّ بريّ رجل من بني شيلان ابن أصبهان بن فلوج، قال: وكان في المدينة بستان فخرجت بنت ريّ يوما إليه فإذا هي بدرّاجة تأكل تينا، فقالت: بور انجير يعني أن الدّرّاجة تأكل تينا، فاسم المدينة في القديم بورانجير ويغيره أهل الرّيّ فيقولون بهورند، وقال لوط بن يحيى:

كتب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، إلى عمار بن ياسر وهو عامله على الكوفة بعد شهرين من فتح

نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زيد الخيل الطائي إلى الرّيّ ودستبى في ثمانية آلاف، ففعل وسار عروة لذلك فجمعت له الديلم وأمدوا أهل الرّيّ وقاتلوه فأظهره الله عليهم فقتلهم واستباحهم، وذلك في سنة 20 وقيل في سنة 19، وقال أبو نجيد وكان مع المسلمين في هذه الوقا

«دعانا إلى جرجان والرّيّ دونها *** سواد فأرضت من بها من عشائر»

«رضينا بريف الرّيّ والرّيّ بلدة *** لها زينة في عيشها المتواتر»

«لها نشز في كلّ آخر ليلة *** تذكّر أعراس الملوك الأكابر»

قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهديّ الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الرّيّ التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا، وجرى ذلك على يد عمار بن أبي الخصيب، وكتب اسمه على حائطها، وتمّ عملها سنة 158، وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آجر، والفارقين: الخندق، وسمّاها المحمديّة، فأهل الرّيّ يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزينبدى في داخل المدينة المعروفة بالمحمدية، وقد كان المهدي أمر بمرمّته ونزله أيّام مقامه بالرّيّ، وهو مطلّ على المسجد الجامع ودار الإمارة، ويقال: الذي تولّى مرمّته وإصلاحه ميسرة التغلبي أحد وجوه قواد المهدي، ثمّ جعل بعد ذلك سجنا ثمّ خرب فعمره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثمّ خرّبه أهل الرّيّ بعد خروج رافع عنها، قال:

وكانت الرّيّ تدعى في الجاهليّة أزارى فيقال إنّه خسف بها، وهي على اثني عشر فرسخا من موضع الرّيّ اليوم على طريق الخوار بين المحمدية وهاشمية الرّيّ، وفيها أبنية قائمة تدل على أنّها كانت مدينة عظيمة، وهناك أيضا خراب في رستاق من رساتيق الرّيّ يقال له البهزان، بينه وبين الرّيّ ستة فراسخ يقال إن الرّيّ كانت هناك، والناس يمضون إلى هناك فيجدون قطع الذهب وربّما وجدوا لؤلؤا وفصوص ياقوت وغير ذلك من هذا النوع، وبالرّيّ قلعة الفرّخان، تذكر في موضعها، ولم تزل قطيعة الرّيّ اثني عشر ألف ألف درهم حتى اجتاز بها المأمون عند منصرفه من خراسان يريد مدينة السلام فلقيه أهلها وشكوا إليه أمرهم وغلظ قطيعتهم فأسقط عنهم منها ألفي ألف درهم وأسجل بذلك لأهلها، وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء قال: في التوراة مكتوب الرّيّ باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق، وقال الأصمعي: الرّيّ عروس الدنيا وإليه متجر الناس، وهو أحد بلدان الأرض، وكان عبيد الله ابن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الرّيّ إن خرج على الجيش الذي توجّه لقتال الحسين ابن عليّ، رضي الله عنه، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الرّيّ والقعود، وقال:

«أأترك ملك الرّيّ والرّيّ رغبة، *** أم ارجع مذموما بقتل حسين»

«وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الرّيّ قرّة عين»

فغلبه حبّ الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين، رضي الله عنه، ما كان. وروي عن جعفر الصادق، رضي الله عنه، أنّه قال: الرّيّ وقزوين وساوة ملعونات مشؤومات، وقال إسحاق بن سليمان: ما رأيت بلدا أرفع للخسيس من الرّيّ،

وفي أخبارهم: الريّ ملعونة وتربتها تربة ملعونة ديلمية وهي على بحر عجاج تأبى أن تقبل الحق، والرّيّ سبعة عشر رستاقا منها دنباوند وويمة وشلمبة، حدث أبو عبد الله بن خالويه عن نفطويه قال: قال رجل من بني ضبّة وقال المدائني:

فرض لأعرابي من جديلة فضرب عليه البعث إلى الري وكانوا في حرب وحصار، فلمّا طال المقام واشتدّ الحصار قال الأعرابي: ما كان أغناني عن هذا! وأنشأ يقول:

«لعمري لجوّ من جواء سويقة *** أسافله ميث وأعلاه أجرع»

«به العفر والظّلمان والعين ترتعي *** وأمّ رئال والظّليم الهجنّع»

«وأسفع ذو رمحين يضحي كأنّه *** إذا ما علا نشزا، حصان مبرقع»

«أحبّ إلينا أن نجاور أهلنا *** ويصبح منّا وهو مرأى ومسمع»

«من الجوسق الملعون بالرّيّ كلّما *** رأيت به داعي المنيّة يلمع»

«يقولون: صبرا واحتسب! قلت: طالما *** صبرت ولكن لا أرى الصبر ينفع»

«فليت عطائي كان قسّم بينهم *** وظلّت بي الوجناء بالدّوّ تضبع»

«كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها *** يدا سابح في غمرة يتبوّع»

«أأجعل نفسي وزن علج كأنّما *** يموت به كلب إذا مات أجمع؟»

والجوسق الملعون الذي ذكره ههنا هو قلعة الفرّخان، وحدث أبو المحلّم عوف بن المحلم الشيباني قال: كانت لي وفادة على عبد الله بن طاهر إلى خراسان فصادفته يريد المسير إلى الحجّ فعادلته في العماريّة من مرو إلى الريّ، فلمّا قاربنا الرّيّ سمع عبد الله بن طاهر ورشانا في بعض الأغصان يصيح، فأنشد عبد الله بن طاهر متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:

«ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر، *** وغصنك ميّاد، ففيم تنوح؟»

«أفق لا تنح من غير شيء، فإنّني *** بكيت زمانا والفؤاد صحيح»

«ولوعا فشطّت غربة دار زينب، *** فها أنا أبكي والفؤاد جريح»

ثمّ قال: يا عوف أجز هذا، فقلت في الحال:

«أفي كلّ عام غربة ونزوح؟ *** أما للنّوى من ونية فنريح؟»

«لقد طلّح البين المشتّ ركائبي، *** فهل أرينّ البين وهو طليح؟»

«وأرّقني بالرّيّ نوح حمامة، *** فنحت وذو الشجو القديم ينوح»

«على أنّها ناحت ولم تذر دمعة، *** ونحت وأسراب الدّموع سفوح»

«وناحت وفرخاها بحيث تراهما، *** ومن دون أفراخي مهامه فيح»

«عسى جود عبد الله أن يعكس النوى *** فتضحي عصا الأسفار وهي طريح»

«فإنّ الغنى يدني الفتى من صديقه، *** وعدم الغنى بالمقترين نزوح»

فأخرج رأسه من العمارية وقال: يا سائق ألق زمام البعير، فألقاه فوقف ووقف الخارج ثمّ دعا بصاحب

بيت ماله فقال: كم يضمّ ملكنا في هذا الوقت؟

فقال: ستين ألف دينار، فقال: ادفعها إلى عوف، ثمّ قال: يا عوف لقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث جئت، قال: فأقبل خاصة عبد الله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيّها الأمير شاعرا في مثل هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها! قال: إليكم عني فإنّي قد استحييت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول: عسى جود عبد الله، وفي ملكي شيء لا ينفرد به، ورجع عوف إلى وطنه فسئل عن حاله فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى والراحة من النوى، وقال معن بن زائدة الشيباني:

«تمطّى بنيسابور ليلي وربّما *** يرى بجنوب الرّيّ وهو قصير»

«ليالي إذ كلّ الأحبّة حاضر، *** وما كحضور من تحب سرور»

«فأصبحت أمّا من أحبّ فنازح *** وأمّا الألى أقليهم فحضور»

«أراعي نجوم اللّيل حتى كأنّني *** بأيدي عداة سائرين أسير»

«لعلّ الذي لا يجمع الشمل غيره *** يدير رحى جمع الهوى فتدور»

«فتسكن أشجان ونلقى أحبّة، *** ويورق غصن للشّباب نضير»

ومن أعيان من ينسب إليها أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم صاحب الكتب المصنفة، مات بالرّيّ بعد منصرفه من بغداد في سنة 311، عن ابن شيراز، ومحمد بن عمر بن هشام أبو بكر الرازي الحافظ المعروف بالقماطري، سمع وروى وجمع، قال أبو بكر الإسماعيلي: حدّثني أبو بكر محمد بن عمير الرازي الحافظ الصدوق بجرجان، وربّما قال الثقة المأمون، سكن مرو ومات بها في سنة نيف وتسعين ومائتين، وعبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد ابن أبي حاتم الرازي أحد الحفّاظ، صنف الجرح والتعديل فأكثر فائدته، رحل في طلب العلم والحديث فسمع بالعراق ومصر ودمشق، فسمع من يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان والحسن بن عرفة وأبيه أبي حاتم وأبي زرعة الرازي وعبد الله وصالح ابني أحمد بن حنبل وخلق سواهم، وروى عنه جماعة أخرى كثيرة، وعن أبي عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد محمد بن محمد ابن أحمد بن إسحاق الحاكم الحافظ يقول: كنت بالرّيّ فرأيتهم يوما يقرؤون على محمد بن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فلمّا فرغوا قلت لابن عبدويه الورّاق: ما هذه الضحكة؟ أراكم تقرؤون كتاب التاريخ لمحمد بن إسماعيل البخاري عن شيخكم على هذا الوجه وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم! فقال: يا أبا محمد اعلم أن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما هذا الكتاب قالا هذا علم حسن لا يستغنى عنه ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا أبا محمد عبد الرحمن الرازي حتى سألهما عن رجل معه رجل وزادا فيه ونقصا منه، ونسبه عبد الرحمن الرازي، وقال أحمد بن يعقوب الرازي: سمعت عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت مع أبي في الشام في الرحلة فدخلنا مدينة فرأيت رجلا واقفا على الطريق يلعب بحيّة ويقول: من يهب لي درهما حتى أبلع هذه الحيّة؟ فالتفت إليّ أبي وقال: يا بني احفظ دراهمك فمن أجلها تبلع الحيّات! وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الرحمن بن أحمد الحافظ القزويني: أخذ عبد الرحمن بن أبي حاتم علم أبيه وعلم أبي زرعة وصنّف

منه التصانيف المشهورة في الفقه والتواريخ واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وكان من الأبدال ولد سنة 240، ومات سنة 327، وقد ذكرته في حنظلة وذكرت من خبره هناك زيادة عمّا ههنا، وإسماعيل بن عليّ بن الحسين بن محمد بن زنجويه أبو سعد الرازي المعروف بال

كان عالما بالحديث ومعرفة الرجال ما رأيت مثله في معناه، وأبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم ابن الحكم بن عبد الله الحافظ الرازي، قال الحافظ أبو القاسم: قدم دمشق سنة 347 فسمع بها أبا الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي والد تمام، وبنيسابور أبا حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال وأبا الحسن علي بن أحمد الفارسي ببلخ وأبا عبد الله بن مخلد ببغداد وأبا الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني بمصر وعمر بن إبراهيم بن الحدّاد بتنّيس وأبا عبد الله المحاملي وأبا العباس الأصمّ، وحدث بدمشق في تلك السنة فروى عنه تمام وعبد الرحمن بن عمر بن نصر والقاضيان أبو عبد الله الحسين بن محمد الفلّاكي الزّنجاني وأبو القاسم التنوخي وأبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد الجارودي الحافظ وحمزة بن يوسف الخرقاني وأبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الزنجاني الهمداني وعبد الغني بن سعيد والحاكم أبو عبد الله وأبو العلاء عمر بن علي الواسطي وأبو زرعة روح بن محمد الرازي ورضوان بن محمد الدّينوري، وفقد بطريق مكّة سنة 375، وكان أهل الريّ أهل سنّة وجماعة إلى أن تغلب أحمد بن الحسن المارداني عليها فأظهر التشيع وأكرم أهله وقرّبهم فتقرّب إليه الناس بتصنيف الكتب في ذلك فصنف له عبد الرحمن بن أبي حاتم كتابا في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيّام المعتمد وتغلبه عليها في سنة 275، وكان قبل ذلك في خدمة كوتكين ابن ساتكين التركي، وتغلب على الرّيّ وأظهر التشيع بها واستمرّ إلى الآن، وكان أحمد بن هارون قد عصى على أحمد بن إسماعيل الساماني بعد أن كان من أعيان قواده وهو الذي قتل محمد بن زيد الراعي فتبعه أحمد بن إسماعيل إلى قزوين فدخل أحمد بن هارون بلاد الديلم وأيس منه أحمد بن إسماعيل فرجع فنزل بظاهر الري ولم يدخلها، فخرج إليه أهلها وسألوه أن يتولّى عليهم ويكاتب الخليفة في ذلك ويخطب ولاية الرّيّ، فامتنع وقال: لا أريدها لأنّها

مشؤومة قتل بسببها الحسين بن علي، رضي الله عنهما، وتربتها ديلمية تأبى قبول الحقّ وطالعها العقرب، وارتحل عائدا إلى خراسان في ذي الحجة سنة 289، ثمّ جاء عهده بولاية الرّيّ من المكتفي وهو بخراسان، فاستعمل على الرّيّ من قبله ابن أخيه أبا صالح منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد فوليها ستّ سنين، وهو الذي صنف له أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم كتاب المنصوري في الطبّ، وهو الكنّاشة، وكان قدوم منصور إليها في سنة 290، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


23-معجم البلدان (شمونت)

شَمّونَتُ:

بالفتح، والتشديد، وسكون الواو، وفتح النون، والتاء المثناة: قرية من أعمال مدينة سالم بالأندلس، لها ذكر في أخبارهم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


24-معجم البلدان (صفر)

صُفَّر:

بالضم ثمّ الفتح والتشديد، والراء، كأنّه جمع صافر مثل شاهد وشهّد وغائب وغيّب، والصافر الخالي، وهو مرج الصّفّر: موضع بين دمشق والجولان صحراء كانت بها وقعة مشهورة في أيّام بني مروان، وقد ذكروه في أخبارهم وأشعارهم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


25-معجم البلدان (عرس)

عُرُسٌ:

بالسين المهملة: موضع في بلاد هذيل ذكر في أخبارهم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


26-معجم البلدان (مدينة يثرب)

مَدينَةُ يَثْرِبَ:

قال المنجمون: طول المدينة من جهة المغرب ستون درجة ونصف، وعرضها عشرون درجة، وهي في الإقليم الثاني، وهي مدينة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، نبدأ أولا بصفتها مجملا ثم نفصّل، أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة، وهي في حرّة سبخة الأرض ولها نخيل كثيرة ومياه، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد، وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها، وقبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في شرقي المسجد وهو بيت مرتفع ليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود لا باب له وفيه قبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقبر أبي بكر وقبر عمر، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قد غشي بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر ومصلّى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان يصلّي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب وبقيع الغرقد خارج المدينة من شرقيّها وقباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة، وهي شبيهة بالقرية، وأحد جبل في شمال المدينة، وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين، وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيّها، وبها مسجد جامع، غير أن أكثر هذه الضياع خراب وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق، ذكر ابن طاهر بإسناده إلى محمد بن إسماعيل البخاري قال: المديني هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحول عنها وكان منها، والمشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول مدنيّ مطلقا وإلى غيرها من المدن مدينيّ للفرق لا لعلة أخرى، وربما ردّه بعضهم إلى الأصل فنسب إلى مدينة الرسول أيضا مدينيّ، وقال

الليث: المدينة اسم لمدينة رسول الله خاصة والنسبة للإنسان مدنيّ، فأما العير ونحوه فلا يقال إلا مدينيّ، وعلى هذه الصيغة ينسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي المعروف بابن المديني، كان أصله من المدينة ونزل البصرة وكان من أعلم أهل زمانه بعل

«نؤدي الخرج بعد خراج كسرى *** وخرج بني قريظة والنضير»

وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: من صبر على أوار المدينة وحرّها كنت له يوم القيامة شفيعا شهيدا، وقال، صلى الله عليه وسلم، حين توجّه إلى الهجرة: اللهم إنك قد أخرجتني من أحبّ أرضك إليّ فأنزلني أحب أرض إليك، فأنزله المدينة، فلما نزلها قال: اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا واسعا، وقال، عليه الصلاة والسلام:

من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإنه من مات بها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، وعن عبد الله بن الطّفيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمّى فما كان يصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا اليسير فدعا لهم وقال:

اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما كان بها من وباء بخمّ، وفي خبر آخر: اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ وصححها وبارك لنا في صاعها ومدّها وانقل حمّاها إلى الجحفة، وقد كان همّ، صلّى الله عليه وسلّم، أن ينتقل إلى الحمى لصحته، وقال: نعم المنزل الحمى لولا كثرة حيّاته، وذكر العرض وناحيته فهمّ به وقال: هو أصح من المدينة، وروي عنه، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال عن بيوت السّقيا: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ورسولك دعاك لأهل مكة وإن محمدا عبدك ونبيك ورسولك يدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم أن تبارك في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما بها من وباء بخمّ، اللهم إني قد

حرّمت ما بين لابتيها كما حرّم إبراهيم خليلك، وحرّم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخّص في الهش وفي متاع الناضح ونهى عن الخبط وأن يعضد ويهصر، وكان أول من زرع بالمدينة واتخذ بها النخل وعمّر بها الدور والآطام واتخذ

نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم فلما قربوا وسمع بنو إسرائيل بذلك تلقوهم وسألوهم عن أخبارهم فأخبروهم بما فتح الله عليهم، قالوا: فما هذا الفتى الذي معكم؟ فأخبروهم بقصته، فقالوا: إن هذه معصية منكم لمخالفتكم أمر نبيكم، والله لا دخلتم علينا بلادنا أبدا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال ذلك الجيش: ما بلد إذ منعتم بلدكم خير لكم من البلد الذي فتحتموه وقتلتم أهله فارجعوا إليه، فعادوا إليها فأقاموا بها فهذا كان أول سكنى اليهود الحجاز والمدينة، ثم لحق بهم بعد ذلك بنو الكاهن بن هارون، عليه السلام، فكانت لهم الأموال والضياع بالسافلة، والسافلة ما كان في أسفل المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى مسجد قباء وما إلى ذلك إلى مطلع الشمس، فزعمت بنو قريظة أنهم مكثوا كذلك زمانا ثم إن الروم ظهروا على الشام فقتلوا من بني إسرائيل خلقا كثيرا فخرج بنو قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون الحجاز الذي فيه بنو إسرائيل ليسكنوا معهم، فلما فصلوا من الشام وجّه ملك الروم في طلبهم من يردّهم فأعجزوا رسله وفآتوهم وانتهى الروم إلى ثمد بين الشام والحجاز فماتوا عنده عطشا فسمي ذلك الموضع ثمد الروم فهو معروف بذلك إلى اليوم، وذكر بعض علماء الحجاز من اليهود أن سبب نزولهم المدينة أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هارون وفي دينهم أن لا يزوّجوا النصارى فخافوه وأنعموا له وسألوه أن يشرّفهم بإتيانه، فأتاهم ففتكوا به وبمن معه ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز وأقاموا بها، وقال آخرون: بل علماؤهم كانوا يجدون في التوراة صفة النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرّتين، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة حرصا منهم على اتباعه، فلما رأوا تيماء وفيها النخل عرفوا صفته وقالوا:

هو البلد الذي نريده، فنزلوا وكانوا أهله حتى أتاهم تبّع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف، والله أعلم أيّ ذلك كان، قالوا: فلما كان من سيل العرم ما كان،

كما ذكرناه في مأرب، قال عمرو بن عوف: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، المدركات بالدّخل، فليلحق بيثرب ذات النخل، وكان الذين اختاروها وسكنوها الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثع

«لم يقض دينك مل حسا *** ن وقد غنيت وقد غنينا»

«الراشقات المرشقا *** ت الجازيات بما جزينا»

«أشباه غزلان الصّرا *** ثم يأتزرن ويرتدينا»

«الرّيط والديباج وال *** حلي المضاعف والبرينا»

«وأبو جبيلة خير من *** يمشي وأوفاهم يمينا»

«وأبرّهم برّا وأع *** لمهم بفضل الصالحينا»

«أبقت لنا الأيام وال *** حرب المهمّة يعترينا»

«كبشا له زرّ يف *** لّ متونها الذّكر السّنينا»

«ومعاقلا شمّا وأس *** يافا يقمن وينحنينا»

«ومحلّة زوراء تج *** حف بالرجال الظالمينا»

ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عبادتهم، فبلغه ذلك فقال:

«تحايا اليهود بتلعانها *** تحايا الحمير بأبوالها»

«وماذا عليّ بأن يغضبوا *** وتأتي المنايا باذلالها! »

وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها:

«بأهلي رمّة لم تغن شيئا *** بذي حرض تعفّيها الرياح»

«كهول من قريظة أتلفتهم *** سيوف الخزرجية والرماح»

«ولو أذنوا بأمرهم لحالت *** هنالك دونهم حرب رداح»

ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام وقد ذلّل الحجاز والمدينة للأوس والخزرج فعندها تفرّقوا في عالية المدينة وسافلتها فكان منهم من جاء إلى القرى العامرة فأقام مع أهلها قاهرا لهم، ومنهم من جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فبنى فيه ونزل ثم اتخذوا بعد ذلك القصور والأموال والآطام، فلما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة إلى المدينة مهاجرا أقطع الناس الدور والرباع فخطّ لبني زهرة في ناحية من مؤخر المسجد فكان لعبد الرحمن ابن عوف الحصن المعروف به وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطّة المشهورة بهم عند المسجد وأقطع الزبير بن العوّام بقيعا واسعا وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره ولأبي بكر، رضي الله عنه، موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفّان وخالد بن الوليد والمقداد وعبيد والطفيل وغيرهم مواضع دورهم، فكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقطع أصحابه هذه القطائع فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه، وأما مسجد النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيّره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه. وكان لما بناه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، جعل له بابين شارعين باب عائشة والباب الذي يقال له باب عاتكة وبابا في مؤخر المسجد يقال له باب مليكة وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل، وكان طول المسجد مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، فلما ولي عمر بن عبد العزيز زاد في القبلة من موضع المقصورة اليوم، وكان بين المنبر وبين الجدار في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلّم، قدر ما تمرّ الشاة، وكان طول المسجد في عهد عمر،

رضي الله عنه، مائة وأربعين ذراعا وارتفاعه أحد عشر ذراعا، وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة وجعل له ستة أبواب وحصّنه، وروي أن عمر أول من حصّن المسجد وبناه سنة 17 حين رجع من سرع وجعل طول جداره من خارج ستة عشر ذراعا، وكان أول عمل عثمان إياه في شهر ر

معدن النقرة، ومن الرّقّة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ومثله من فلسطين إلى المدينة على طريق الساحل، ولأهل مصر وفلسطين إذا جاوزوا مدين طريقان إلى المدينة أحدهما على شغب وبدا وهما قريتان بالبادية كان بنو مروان أقطعوهما الزهريّ المحدّث وبها قبره، حتى ينتهي إلى المدينة على المروة، وطريق يمضي على ساحل البحر حتى يخرج بالجحفة فيجتمع بهما طريق أهل العراق وفلسطين ومصر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


27-معجم البلدان (منارة الحوافر)

منارة الحوافِرِ:

وهي منارة عالية في رستاق همذان في ناحية يقال لها ونجر في قرية يقال لها أسفجين، قرأت خبرها في كتاب أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني قال: كان

سبب بنائها أن سابور بن أردشير الملك قال له منجموه:

إن ملكك هذا سيزول عنك وإنك ستشقى أعواما كثيرة حتى تبلغ إلى حدّ الفقر والمسكنة ثم يعود إليك الملك، قال: وما علامة عوده؟ قالوا: إذا أكلت خبزا من الذهب على مائدة من الحديد فذلك علامة رجوع ملكك، فاختر أن يكون ذلك في زمان شبيبتك أو في كبرك، قال: فاختار أن يكون في شبيبته وحدّ له في ذلك حدّا فلما بلغ الحدّ اعتزل ملكه وخرج ترفعه أرض وتخفضه أخرى إلى أن صار إلى هذه القرية فتنكّر وآجر نفسه من عظيم القرية وكان معه جراب فيه تاجه وثياب ملكه فأودعه عند الرجل الذي آجر نفسه عنده فكان يحرث له نهاره ويسقي زرعه ليلا فإذا فرغ من السقي طرد الوحش عن الزرع حتى يصبح، فبقي على ذلك سنة فرأى الرجل منه حذقا ونشاطا وأمانة في كل ما يأمره به فرغب فيه واسترجح عقل زوجته واستشارها أن يزوّجه إحدى بناته وكان له ثلاث بنات فرغبت لرغبته فزوّجه ابنته فلما حوّلها إليه كان سابور يعتزلها ولا يقربها، فلما أتى على ذلك شهر شكت إلى أبيها فاختلعها منه وبقي سابور يعمل عنده، فلما كان بعد حول آخر سأله أن يتزوّج ابنته الوسطى ووصف له جمالها وكمالها وعقلها فتزوّجها فلما حوّلها إليه كان سابور أيضا معتزلا لها ولا يقربها، فلما تمّ لها شهر سألها أبوها عن حالها مع زوجها فاختلعها منه، فلما كان حول آخر وهو الثالث سأله أن يزوّجه ابنته الصغرى ووصف له جمالها ومعرفتها وكمالها وعقلها وأنها خير أخواتها فتزوّجها، فلما حوّلها إليه كان سابور أيضا معتزلا لها ولا يقربها، فلما تمّ لها شهر سألها أبوها عن حالها مع زوجها فأخبرته أنها معه في أرغد عيش وأسرّه، فلما سمع سابور بوصفها لأبيها من غير معاملة له معها وحسن صبرها عليه وحسن خدمتها له رقّ لها قلبه وحنّ عليها ودنا منها ونام معها فعلقت منه وولدت له ابنا، فلما أتى على سابور أربع سنين أحبّ رجوع ملكه إليه، فاتفق أنه كان في القرية عرس اجتمع فيه رجالهم ونساؤهم، وكانت امرأة سابور تحمل إليه طعامه في كل يوم ففي ذلك اليوم اشتغلت عنه إلى بعد العصر لم تصلح له طعاما ولا حملت إليه شيئا، فلما كان بعد العصر ذكرته فبادرت إلى منزلها وطلبت شيئا تحمله إليه فلم تجد إلّا رغيفا واحدا من جاورس فحملته إليه فوجدته يسقي الزرع وبينها وبينه ساقية ماء فلما وصلت إليه لم تقدر على عبور الساقية فمدّ إليها سابور المرّ الذي كان يعمل به فجعلت الرغيف عليه فلما وضعه بين يديه كسره فوجده شديد الصّفرة ورآه على الحديد فذكر قول المنجمين وكانوا قد حدّوا له الوقت فتأمله فإذا هو قد انقضى فقال لامرأته: اعلمي أيتها المرأة أني سابور، وقصّ عليها قصته، ثم اغتسل في النهر وأخرج شعره من الرباط الذي كان قد ربطه عليه وقال لامرأته: قد تم أمري وزال شقائي، وصار إلى المنزل الذي كان يسكن فيه وأمرها بأن تخرج له الجراب الذي كان فيه تاجه وثياب ملكه، فأخرجته فلبس التاج والثياب، فلما رآه أبو الجارية خرّ ساجدا بين يديه وخاطبه بالملك، قال: وكان سابور قد عهد إلى وزرائه وعرفهم بما قد امتحن به من الشقاوة وذهاب الملك وأن مدة ذلك كذا وكذا سنة وبيّن لهم الموضع الذي يوافونه إليه عند انقضاء مدة شقائه وأعلمهم الساعة التي يقصدونه فيها فأخذ مقرعة كانت معه ودفعها إلى أبي الجارية وقال له: علّق هذه على باب القرية واصعد السور وانظر ماذا ترى، ففعل ذلك وصبر ساعة ونزل وقال: أيها الملك أرى خيلا كثيرة يتبع بعضها بعضا، فلم يكن بأسرع مما وافت الخيل أرسالا فكان الفارس إذا رأى مقرعة سابور نزل عن فرسه وسجد حتى اجتمع خلق من

أصحابه ووزرائه فجلس لهم ودخلوا عليه وحيوه بتحية الملوك، فلما كان بعد أيام جلس يحدث وزراءه فقال له بعضهم: سعدت أيها الملك! أخبرنا ما الذي أفدته في طول هذه المدة، فقال: ما استفدت إلّا بقرة واحدة، ثم أمرهم بإحضارها وقال: من أراد إكرامي فليكرمها، فأقبل الو

أيها الملك المظفّر فما أشد شيء مرّ عليك وأصعبه؟

قال: طرد الوحش بالليل عن الزرع فإنها كانت تعييني وتسهرني وتبلغ مني فمن أراد سروري فليصطد لي منها ما قدر لأبني من حوافرها بنية يبقى ذكرها على ممر الدهر، فتفرق القوم في صيدها فصادوا منها ما لا يبلغه العدد فكان يأمر بقطع حوافرها أولا فأولا حتى اجتمع من ذلك تلّ عظيم فأحضر البنّائين وأمرهم أن يبنوا من ذلك منارة عظيمة يكون ارتفاعها خمسين ذراعا في استدارة ثلاثين ذراعا وأن يجعلوها مصمّتة بالكلس والحجارة ثم تركب الحوافر حولها منظمة من أسفلها إلى أعلاها مسمرة بالمسامير الحديد، ففعل ذلك فصارت كأنها منارة من حوافر، فلما فرغ صانعها من بنائها مر بها سابور يتأملها فاستحسنها فقال للذي بناها وهو على رأسها لم ينزل بعد: هل كنت تستطيع أن تبني أحسن منها؟ قال: نعم، قال: فهل بنيت لأحد مثلها؟ فقال: لا، قال: والله لأتركنّك بحيث لا يمكنك بناء خير منها لأحد بعدي! وأمر أن لا يمكّن من النزول، فقال: أيها الملك قد كنت أرجو منك الحباء والكرامة وإذ فاتني ذلك فلي قبل الملك حاجة ما عليك فيها مشقّة، قال: وما هي؟ قال: تأمر أن أعطى خشبا لأصنع لنفسي مكانا آوي إليه لا تمزقني النسور إذا متّ، قال: أعطوه ما يسأل، فأعطي خشبا وكان معه آلة النجارة فعمل لنفسه أجنحة من خشب جعلها مثل الريش وضمّ بعضها إلى بعض، وكانت العمارة في قفر ليس بالقرب منه عمارة وإنما بنيت القرية بقربها بعد ذلك، فلما جاء الليل واشتدّ الهواء ربط تلك الأجنحة على نفسه وبسطها حتى دخل فيها الريح وألقى نفسه في الهواء فحملته الريح حتى ألقته إلى الأرض صحيحا ولم يخدش منه خدش ونجا بنفسه، قال: والمنارة قائمة في هذه المدّة إلى أيامنا هذه مشهورة المكان ولشعراء همذان فيها أشعار متداولة، قال عبيد الله الفقير إليه: أما غيبة سابور من الملك فمشهورة عند الفرس مذكورة في أخبارهم وقد أشرنا في سابور خواست ونيسابور إلى ذلك، والله أعلم بصحة ذلك من سقمه.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


28-معجم البلدان (وبار)

وَبَارِ:

مبني مثل قطام وحذام، يجوز أن يكون من الوبر وهو صوف الإبل والأرانب وما أشبهها، أو من التوبير وهو محو الأثر، والنسبة إليها أباريّ على غير قياس، عن السهيلي، وقال أهل السير: هي مسمّاة بوبار بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، انتقل إليها وقت تبلبلت الألسن فابتنى بها منزلا وأقام به وهي ما بين الشّحر إلى صنعاء أرض واسعة زهاء ثلاثمائة فرسخ في مثلها، وقال الليث: وبار أرض كانت من محالّ عاد بين رمال يبرين واليمن فلما هلكت عاد أورث الله ديارهم الجنّ فلم يبق بها أحد من الناس، وقال محمد بن إسحاق: وبار أرض يسكنها النسناس، وقيل: هي بين حضرموت والسبوب، وفي كتاب أحمد بن محمد الهمذاني: وفي اليمن أرض وبار وهي فيما بين نجران وحضرموت وما بين بلاد مهرة والشّحر، وكان وبار وصحار وجاسم بني إرم، فكانت وبار تنزل وبار وجاسم الحجاز، ووبار بلادهم المنسوبة إليهم وهي ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وكانت أرض وبار أكثر الأرضين خيرا وأخصبها ضياعا وأكثرها مياها وشجرا وثمرا فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم فأشروا وبطروا وطغوا وكانوا قوما جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حقّ نعم الله تعالى

فبدّل الله خلقهم وجعلهم نسناسا للرجل والمرأة منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فخرجوا على وجوههم يهيمون في تلك الغياض إلى شاطئ البحر يرعون كما ترعى البهائم وصار في أرضهم كل نملة كالكلب العظيم تستلب الواحدة منها الفارس عن فرسه فتمزقه

«ولقد ضللت أباك تطلب دارما *** كضلال ملتمس طريق وبار»

«لا تهتدي أبدا ولو بعثت به *** بسبيل واردة ولا آثار»

ويزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادا وثمود أسكن الجن في منازلهم وهي أرض وبار فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا ونخلا وخيرا وأعذبها عنبا وتمرا وموزا فإن دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثا الجن في وجهه التراب وإن أبى إلا الدخول خبّلوه وربما قتلوه، وعندهم الإبل الحوشيّة وهي فيما يزعم العرب التي ضربت فيها إبل الجنّ، وقال شاعر:

«كأني على حوشية أو نعامة *** لها نسب في الطير أو هي طائر»

وفي كتاب أخبار العرب أن رجلا من أهل اليمن رأى في إبله ذات يوم فحلا كأنه كوكب بياضا وحسنا فأقرّه فيها حتى ضربها فلما ألقحها ذهب ولم يره حتى كان في العام المقبل فإنه جاء وقد نتج الرجل إبله وتحركت أولاده فيها فلم يزل فيها حتى ألقحها ثم انصرف، وفعل ذلك ثلاث سنين، فلما كان في الثالثة وأراد الانصراف هدر فتبعه سائر ولده ومضى فتبعه الرجل حتى وصل إلى وبار وصار إلى عين عظيمة وصادف حولها إبلا حوشية وحميرا وبقرا وظباء وغير ذلك من الحيوانات التي لا تحصى كثرة وبعضه أنس ببعض ورأى نخلا كثيرا حاملا وغير حامل والتمر ملقى حول النخل قديما وحديثا بعضه على بعض ولم ير أحدا، فبينما هو واقف يفكر إذ أتاه رجل من الجن فقال له: ما وقوفك ههنا؟ فقصّ عليه قصة الإبل، فقال له: لو كنت فعلت ذلك على معرفة لقتلتك ولكن اذهب وإياك والمعاودة فإنّ هذا جمل من إبلنا عمد إلى أولاده فجاء بها، ثم أعطاه جملا وقال له: انج بنفسك وهذا الجمل لك، فيقال إن النجائب المهرية من نسل ذلك الجمل، ثم جاء الرجل وحدث بعض ملوك كندة بذلك فسار يطلب الموضع فأقام مدة فلم يقدر عليه وكانت العين عين وبار، قال أبو زيد الأنصاري: يقال تركته ببلد اصمت وتركته بملاحس البقر وتركته بمحارض الثعالب وتركته بهور ذابر وتركته بوحش إضم وتركته بعين وبار وتركته بمطارح البزاة، وهذه كلّها أماكن لا يدرى أين هي، وقول النابغة:

«فتحمّلوا رحلا كأن حمولهم *** دوم ببيشة أو نخيل وبار»

يدلّ على أنها بلاد مسكونة معروفة ذات نخيل، وكان لدعيميص الرّمل العبدي صرمة من الإبل، فبينما هو ذات ليلة إذا أتاه بعير أزهر كأنه قرطاس

فضرب في إبله فنتجت قلاصا زهرا كالنجوم فلم يذلل منها إلا ناقة واحدة فاقتعدها، فلما مضت عليه ثلاثة أحوال إذا هو ليلة بالفحل يهدر في إبله ثم انكفأ مرتدّا في الوجه الذي أقبل منه فلم يبق من نجله شيء إلا تبعه إلا النّويقة التي اقتعدها فأسف فقال: لأموتنّ أو ل

وبوبار النسناس يقال إنهم من ولد النسناس بن أميم ابن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف أرض اليمن يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الأرض بالكلاب وينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم، وعن محمد بن إسحاق أن النسناس خلق في اليمن لأحدهم يد واحدة ورجل واحدة وكذلك العين وسائر ما في الجسد وهو يقفز برجله قفزا شديدا ويعدو عدوا منكرا، ومن أحاديث أهل اليمن أن قوما خرجوا لاقتناص النسناس فرأوا ثلاثة منهم فأدركوا واحدا فأخذوه وذبحوه وتوارى اثنان في الشجر فلم يقفوا لهما على خبر، فقال الذي ذبحه: والله إن هذا لسمين أحمر الدم، فقال أحد المستترين في الشجر: إنه قد أكل حبّ الضّرو وهو البطم وسمن، فلما سمعوا صوته تبادروا إليه وأخذوه فقال الذي ذبح الأول:

والله ما أحسن الصمت هذا لو لم يتكلم ما عرفنا مكانه، فقال الثالث: فها أنا صامت لم أتكلم، فلما سمعوا صوته أخذوه وذبحوه وأكلوا لحومهم، وقال دغفل: أخبرني بعض العرب أنه كان في رفقة يسير في رمل عالج، قال: فأضللنا الطريق ووقفنا إلى غيضة عظيمة على شاطئ البحر فإذا نحن بشيخ طويل له نصف رأس وعين واحدة وكذلك جميع أعضائه، فلما نظر إلينا مرّ يركض كالفرس الجواد وهو يقول:

«فررت من جور الشّراة شدّا *** إذ لم أجد من الفرار بدّا»

«قد كنت دهرا في شبابي جلدا، *** فها أنا اليوم ضعيف جدّا»

وروى الحسام بن قدامة عن أبيه عن جدّه قال:

كان لي أخ فقلّ ما بيده وأنفض حتى لم يبق له شيء فكان لنا بنو عمّ بالشحر فخرج إليهم يلتمس برّهم فأحسنوا قراه وأكثروا برّه وقالوا له يوما: لو خرجت معنا إلى متصيّد لنا لتفرّجت، قال: ذاك إليكم، وخرج معهم فلما أصحروا ساروا إلى غيضة عظيمة فأوقفوه على موضع منها ودخلوها يطلبون الصيد، قال: فبينما أنا واقف إذ خرج من الغيضة شخص في صورة الإنسان له يد واحدة ورجل واحدة ونصف لحية وفرد عين وهو يقول: الغوث الغوث الطريق الطريق عافاك الله! ففزعت منه وولّيت هاربا ولم أدر أنه الصيد الذي يذكرونه، قال: فلما جازني سمعته يقول وهو يعدو:

«غدا القنيص فابتكر *** بأكلب وقت السّحر»

«لك النجا وقت الذكر *** ووزر ولا وزر»

«أين من الموت المفرّ؟ *** حذرت لو يغني الحذر»

«هيهات لن يخطي القدر، *** من القضا أين المفرّ؟»

فلما مضى إذا أنا بأصحابي قد جاءوا فقالوا: ما فعل الصيد الذي احتشناه إليك؟ فقلت لهم: أما الصيد فلم أره، ووصفت لهم صفة الذي مرّ بي، فضحكوا وقالوا: ذهبت بصيدنا! فقلت: يا سبحان الله! أتأكلون الناس؟ هذا إنسان ينطق ويقول الشعر! فقالوا: وهل أطعمناك منذ جئتنا إلا من لحمه قديدا وشواء؟ فقلت: ويحكم أيحلّ هذا؟ قالوا: نعم إن له كرشا وهو يجتر فلهذا يحل لنا، قلت: ولهذه الأخبار أشباه ونظائر في أخبارهم والله أعلم بحق ذلك من باطله.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


29-موسوعة الفقه الكويتية (تجسس)

تَجَسُّسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الْأَخْبَارِ، يُقَالُ: جَسَّ الْأَخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْأَخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّحَسُّسُ:

2- التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْلُ الْإِحْسَاسِ: الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أَيْ: هَلْ تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ، وَقَدْ قُرِئَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بِالْحَاءِ «وَلَا تَحَسَّسُوا» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ.

ب- التَّرَصُّدُ:

3- التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ: الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الِانْتِقَالِ، أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.

التَّنَصُّتُ:

4- التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ.يُقَالُ: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ: اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛ لِأَنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:

5- التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالْإِبَاحَةُ.

فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} لِأَنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالِاسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.

وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بِالْهَرَبِ.وَطَلَبُهُمْ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.

وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَالِ صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَا يُكْشَفُ عَنْهُ.وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ وِلَايَةِ الْحِسْبَةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:

6- الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً.

وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا- مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ- عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ، لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ- رضي الله عنه- قَتْلَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرِ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا.أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى.وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الْأَمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَانَ لَكَ- وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا- فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ.

وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ.فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.

وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ.وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.

وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا.وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ.فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ، وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.

وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ، وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى.

7- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا Bدِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} مَا يَأْتِي:

مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ.وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ.وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ- وَهُوَ صَحِيحٌ- لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.

فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَلَّى سَبِيلَهُ.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ»

8- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ.وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ.

9- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَلُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:

10- التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ- يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى..أَنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ الرَّسُولُ: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا.قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا نَارٌ وَلَا بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ...» إِلَخْ فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.

تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:

11- سَبَقَ أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}

وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الْأُمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- Bقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».

وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.

أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ.وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ.فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ.فَقَالَ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَلْ يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْلَ طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لَا يُكْسَرُ.وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.

فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُهَنَّا الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ.ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ Bمَسْعُودٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ.

تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:

12- الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.

وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».

فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:

13- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ Bبَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِلُّ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَالَ الِاطِّلَاعِ، وَلَا ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَالَ لِبِلَالٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا حَتَّى لَا يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.

وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ: (دَفْعُ الصَّائِلِ).

أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (حبس 2)

حَبْسٌ -2

ب- حَبْسُ الْقَاتِلِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

47- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَبَعْضِ فُقَهَاءِ السَّلَفِ كَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا لَا يُحْبَسُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ.

ج- حَبْسُ الْمُتَسَبِّبِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ:

48- مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا: أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا لآِخَرَ لِيَقْتُلَهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ وَيُحْبَسُ الْمُمْسِكُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَرَبِيعَةُ لِحَدِيثِ: «يُصْبَرُ الصَّابِرُ وَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ».

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُمْسِكِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُمْسِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ سَيَقْتُلُ فَيُحْبَسُ سَنَةً وَيُضْرَبُ مِائَةً.وَمَنْ كَتَّفَ إِنْسَانًا وَطَرَحَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ فَقَتَلَتْهُ يُحْبَسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: حَتَّى يَمُوتَ.

وَمَنْ تَبِعَ رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَدْرَكَهُ آخَرُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْقَاطِعِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَيُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُمْسِكِ بِسَبَبِ قَطْعِ رِجْلِ الْمَقْتُولِ.

د- حَبْسُ الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِالْجُرْحِ وَنَحْوِهِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ:

49- مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لَا يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ، وَعُوقِبَ وَأُطِيلَ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ.

هـ- الْحَبْسُ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ:

50- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطَالَةِ حَبْسِ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ تَأْدِيبٍ لِعَظِيمِ مَا اقْتَرَفَ.وَقَالَ آخَرُونَ بِالتَّعْزِيرِ عَامَّةً.وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى الْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ.

و- حَبْسُ الْعَائِنِ:

51- يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَمْرُ الْعَائِنِ بِالْكَفِّ عَنْ حَسَدِهِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَبْسِهِ فِي بَيْتِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَكُفَّ عَنْ حَسَدِهِ وَتَصْفُوَ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ.

ز- حَبْسُ الْمُتَسَتِّرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ:

52- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ آوَى قَاتِلًا وَنَحْوَهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَمَنَعَهُ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ، وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

ح- الْحَبْسُ لِحَالَاتٍ تَتَّصِلُ بِالْقَسَامَةِ:

53- مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْحَبْسِ فِي الْقَسَامَةِ: أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ حَتَّى يَحْلِفَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَدَّدَ مُدَّةَ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ وَإِلاَّ أُطْلِقَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لَا يُحْبَسُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ لِنُكُولِهِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ.

ط- حَبْسُ مَنْ يُمَارِسُ الطِّبَّ مِنْ غَيْرِ الْمُخْتَصِّينَ:

54- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَذَلِكَ بِمَنْعِهِ مِنْ عَمَلِهِ حِسًّا مَخَافَةَ إِفْسَادِ أَبْدَانِ النَّاسِ.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ:

أ- الْحَبْسُ لِلرِّدَّةِ:

55- إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ حُبِسَ حَتَّى تُكْشَفَ شُبْهَتُهُ وَيُسْتَتَابَ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَبْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ قَتْلِ رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ فَقَالَ لِقَاتِلِيهِ: أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَدَّمْتُمْ لَهُ خُبْزًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْتُمُوهُ..اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.فَلَوْ كَانَ حَبْسُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَقَدْ سَكَتَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.ثُمَّ إِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْمُرْتَدِّ مُمْكِنٌ بِحَبْسِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ فَلَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.وَبِنَحْوِ هَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَتْ رِدَّتُهُ عَنْ تَصْمِيمٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ حَبْسُهُ لِاسْتِتَابَتِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ طَمَعًا فِي رُجُوعِهِ الْمَوْهُومِ.وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِفَتْحِ تُسْتَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: مَا أَخْبَارُهُمْ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مَا سَبِيلُهُمْ إِلاَّ الْقَتْلُ.فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ آخُذَهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.فَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ عُمَرُ: أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلاَّ اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ.وَيُرْوَى فِي هَذَا أَيْضًا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْيَمَنَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ، ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْجُلُوسِ فَقَالَ مُعَاذٌ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ هَذَا- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.

وَفِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي يُحْبَسُ، وَمُدَّةِ حَبْسِهِ وَمَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

ب- الْحَبْسُ لِلزَّنْدَقَةِ:

56- يُطْلَقُ لَفْظُ الزِّنْدِيقِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ حَتَّى بَدَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ.وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي حُكْمِ الزِّنْدِيقِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِذَا عُثِرَ عَلَى الزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى التَّوْبَةِ إِلاَّ إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.

وَعِلَّةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْ جَدِيدًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الزِّنْدِيقُ يُحْبَسُ لِلِاسْتِتَابَةِ كَالْمُرْتَدِّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ لُبَابَةَ.اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الْمُنَافِقِينَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الْأُسْوَةُ فِي إِبْقَائِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ.

ج- حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى بَيْتِ النُّبُوَّةِ:

57- مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ يُضْرَبُ وَيُشَهَّرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا؛ لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.وَمَنْ شَتَمَ الْعَرَبَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ سُجِنَ وَضُرِبَ.وَمَنِ انْتَسَبَ كَذِبًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ضُرِبَ وَسُجِنَ وَشُهِّرَ بِهِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّهِ- عليه الصلاة والسلام-، وَلَا يُخَلَّى عَنْهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ.وَمَنْ شَتَمَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يُسْجَنُ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ لِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ.وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا فَعَلَيْهِ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ وَالسَّجْنُ الطَّوِيلُ.وَمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوِ انْتَقَصَهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُحْبَسُ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ.

د- الْحَبْسُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ:

58- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جُحُودًا وَاسْتِخْفَافًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُحْبَسُ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ يُقْتَلْ.وَقَدْ ذَكَرُوا: أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ وَقْتُهَا دُونَ أَدَائِهَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا يُدْعَى إِلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَفِي عُقُوبَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَوَكِيعٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ كُفْرًا وَرِدَّةً، حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ جَحَدَهَا وَأَنْكَرَهَا لِعُمُومِ حَدِيثِ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالْمَارِقِ مِنَ الدِّينِ التَّارِكِ الْجَمَاعَةَ» وَتَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا لَيْسَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَحِلُّ دَمُهُ بَلْ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.

هـ- الْحَبْسُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:

59- مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ جُحُودًا وَاسْتِهْزَاءً حُبِسَ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.

وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَصْفُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصِّيَامِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَتُهُ.وَنَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ مُدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُضْرَبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ جَلْدَةً تَعْزِيرًا لِحَقِّ رَمَضَانَ.وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

و- الْحَبْسُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا:

حَبْسُ الْبِدْعِيِّ الدَّاعِيَةِ:

60- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبِدْعِيَّ الدَّاعِيَةَ يُمْنَعُ مِنْ نَشْرِ بِدْعَتِهِ، وَيُضْرَبُ وَيُحْبَسُ بِالتَّدَرُّجِ، فَإِذَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ جَازَ قَتْلُهُ سِيَاسَةً وَزَجْرًا؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، إِذْ يُؤَثِّرُ فِي الدِّينِ وَيُلَبِّسُ أَمْرَهُ عَلَى الْعَامَّةِ.وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى يَكُفَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْتَلُ، وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

حَبْسُ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ:

61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ وَضَرْبِهِ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الْبَيَانُ وَالنُّصْحُ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُعَزَّرُ.

وَاتَّجَهَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ قَتْلِهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ.وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ- رضي الله عنه- صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ وَضَرَبَهُ مِرَارًا لِتَتَبُّعِهِ مُشْكِلَ الْقُرْآنِ وَمُتَشَابِهَهُ بِقَصْدِ إِرْسَاءِ مَبْدَأِ الِابْتِدَاعِ وَالْكَيْدِ فِي الدِّينِ مُخَالِفًا بِذَلِكَ قَوَاعِدَ التَّسْلِيمِ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الصَّحَابَةُ.

ز- الْحَبْسُ لِلتَّسَاهُلِ فِي الْفَتْوَى وَنَحْوِهِ:

حَبْسُ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ:

62- نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ وَتَأْدِيبِ الْمُتَجَرِّئِ عَلَى الْفَتْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا.وَنَقَلَ مَالِكٌ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ.وَسُئِلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ رَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَى فَمَاذَا يَلْزَمُهُ؟ فَأَجَابَ: يَلْزَمُهُ التَّأْدِيبُ اللاَّئِقُ بِحَالِهِ كَالضَّرْبِ أَوِ السِّجْنِ لِتَجَرُّئِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْيِيرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَى قَطْعِيَّةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ، وَفِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ خِلَافٌ.

ح- الْحَبْسُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ:

63- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ يُحْبَسُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُحْبَسُ بَلْ يُؤَدَّبُ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الظِّهَارِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا إِذَا خَافَتْ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ لِيَمْنَعَهُ مِنْهَا، وَيُؤَدِّبُهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ.فَإِنْ أَصَرَّ الْمُظَاهِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِهَا بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُعَاشَرَةِ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ لَا إِلَى خَلَفٍ، فَاسْتَحَقَّ الْحَبْسَ لِامْتِنَاعِهِ.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ:

أ- حَبْسُ الْبِكْرِ الزَّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ:

64- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الزَّانِي مِائَةُ جَلْدَةٍ لِلْآيَةِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ الْوَارِدِ فِي «قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ زَنَى ابْنُهُ: وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيُبْعَدَانِ عَنْ بَلَدِ الْجَرِيمَةِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا خِيفَ إِفْسَادُ الْمُغَرَّبِ غَيْرَهُ قُيِّدَ وَحُبِسَ فِي مَنْفَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى أَيْضًا، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلَا تُغَرَّبُ خَشْيَةً عَلَيْهَا.وَيَنْبَغِي حَبْسُ الرَّجُلِ وُجُوبًا فِي مَنْفَاهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ لِلْمَنْقُولِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا تَعَذَّرَ تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ سُجِنَتْ بِمَوْضِعِهَا عَامًا، لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَدِّ الزِّنَى، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بَعْدَ أَنْ نَفَى رَجُلًا وَلَحِقَ بِالرُّومِ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا.وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً.وَقَالُوا: إِنَّ الْمُغَرَّبَ يَفْقِدُ حَيَاءَهُ بِابْتِعَادِهِ عَنْ بَلَدِهِ وَمَعَارِفِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ.لَكِنْ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ حَبْسَهُ فِي بَلَدِهِ مَخَافَةَ فَسَادِهِ فَعَلَ.

ب- حَبْسُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ:

65- لِلْفُقَهَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ مِنْهَا قَوْلٌ بِحَبْسِهِمَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، وَلِوَاطٌ).

ج- حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَذْفِ:

66- مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى قَذْفِهِ حُبِسَ قَاذِفُهُ لِاسْتِكْمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِالْقَذْفِ: لَا يُجْلَدُ بَلْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ بَلِ الشَّتْمَ وَالسَّبَّ وَالْفُحْشَ فِي الْكَلَامِ.وَقِيلَ: يُسْجَنُ سَنَةً لِيَحْلِفَ، وَقِيلَ: يُحَدُّ.

د- حَبْسُ الْمُدْمِنِ عَلَى السُّكْرِ تَعْزِيرًا بَعْدَ حَدِّهِ:

67- رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَلْزَمَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ السِّجْنَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَلَدَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، فَأُوثِقَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.

هـ- الْحَبْسُ لِلدِّعَارَةِ وَالْفَسَادِ الْخُلُقِيِّ:

68- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَتَبُّعِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِالسَّجْنِ حَتَّى يَتُوبُوا.فَمَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ بَاشَرَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ يُحْبَسُ إِلَى ظُهُورِ تَوْبَتِهِ.وَمَنْ خَدَعَ الْبَنَاتِ وَأَخْرَجَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَأَفْسَدَهُنَّ عَلَى آبَائِهِنَّ حُبِسَ.

وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ الدَّاعِرَةُ وَالْقَوَّادَةُ وَتُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهَا.

و- الْحَبْسُ لِلتَّخَنُّثِ:

69- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُخَنَّثِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رحمه الله- أَنَّهُ يُحْبَسُ إِذَا خِيفَ بِهِ فَسَادُ النَّاسِ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا نُفِيَ الْمُخَنَّثُ وَخِيفَ فَسَادُهُ يُحْبَسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.

ز- الْحَبْسُ لِلتَّرَجُّلِ:

70- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رحمه الله- أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَشَبِّهَةَ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ جِنْسَ هَذَا الْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ الزِّنَى.وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَبْسُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَتُحْبَسُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي دَارٍ وَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ.

ح- الْحَبْسُ لِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ:

71- نَصَّ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْقَاضِي الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى سَجْنِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ وَغَلْقِ حَمَّامِهِ إِذَا سَهَّلَ لِلنَّاسِ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ مَكْشُوفِي الْعَوْرَاتِ.

ط- الْحَبْسُ لِاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ صَنْعَةً:

72- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُغَنِّي حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً لِتَسَبُّبِهِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ غَالِبًا.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ:

أ- حَبْسُ الْعَائِدِ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِهِ:

73- إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ يُحْبَسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِمَنْعِ ضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَحْدِيدِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي يُقْطَعُ أَوْ يُحْبَسُ بَعْدَهَا. (ر: سَرِقَةٌ).

ب- حَبْسُ السَّارِقِ تَعْزِيرًا لِتَخَلُّفِ مُوجِبِ الْقَطْعِ:

74- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَالَاتٍ يُحْبَسُ فِيهَا السَّارِقُ لِتَخَلُّفِ مُوجِبَاتِ الْقَطْعِ وَمِنْ ذَلِكَ: حَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَحَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ بَزَابِيزِ الْمِيَضِ (صَنَابِيرِ الْمَاءِ) وَنِعَالِ الْمُصَلِّينَ.وَنَصُّوا عَلَى حَبْسِ الطَّرَّارِ وَالْقَفَّافِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَمَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ فَيَجْمَعُ الْمَتَاعَ فَيُمْسَكُ وَلَمَّا يُخْرِجْهُ.وَكُلُّ سَارِقٍ انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ وَنَحْوِهَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ.

ج- حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ:

75- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ لِوُجُودِ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَجَوُّلِهِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَمُعَالَجَتِهِ أُمُورًا تُعْتَبَرُ مُقَدِّمَاتٍ لِذَلِكَ.

د- الْحَبْسُ لِحَالَاتٍ تَتَّصِلُ بِالْغَصْبِ:

76- يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يَرُدَّهُ، فَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا لأَظْهَرَهُ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ.وَقِيلَ: بَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَا يُحْبَسُ.وَمَنْ بَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً حُبِسَ حَتَّى يَرْمِيَهُ لِصَاحِبِهِ.

هـ- الْحَبْسُ لِلِاخْتِلَاسِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ:

77- ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى حَبْسِ مَنِ اخْتَلَسَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- مَعَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ.

و- حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:

78- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ وُجُوبَهَا.

ز- الْحَبْسُ لِلدَّيْنِ: مَشْرُوعِيَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:

79- الْمَدِينُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا مُعْسِرٌ، وَإِمَّا مُوسِرٌ: فَالْمَدِينُ الَّذِي ثَبَتَ إِعْسَارُهُ يُمْهَلُ حَتَّى يُوسِرَ لِلْآيَةِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَالْمَدِينُ الْمُوسِرُ يُعَاقَبُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُقْصَدُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْحَدِيثِ الْحَبْسُ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسَوَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ غَالِبًا إِلاَّ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُلَازَمَةُ، حَيْثُ يَذْهَبُ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ أَنَّى ذَهَبَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَدِينَ لَا يُحْبَسُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْبِسْ بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَحْبِسْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ كَانُوا يَبِيعُونَ عَلَى الْمَدِينِ مَالَهُ.

مَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِين:

80- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الدَّيْنَ إِلَى أَقْسَامٍ: مَا كَانَ بِالْتِزَامٍ بِعَقْدٍ كَالْكَفَالَةِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ، وَمَا كَانَ بِغَيْرِ الْتِزَامٍ إِلاَّ أَنَّهُ لَازِمٌ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ، وَمَا كَانَ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ.وَلَهُمْ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ وَمَا لَا يُحْبَسُ بِهِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ أَقَلَّ مِقْدَارٍ يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ الْمُمَاطِلُ فِي دَيْنِ آدَمِيٍّ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلَا حَبْسَ فِيهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

الْمَدِينُ الَّذِي يُحْبَس:

81- تُحْبَسُ الْمَرْأَةُ بِالدَّيْنِ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهَا ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ أَجْنَبِيَّةً.وَاتَّجَهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ (الَّتِي تَلْزَمُ بَيْتَهَا وَلَا تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ) لَا تُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ، بَلْ يُسْتَوْثَقُ عَلَيْهَا وَيُوَكَّلُ بِهَا.

وَيُحْبَسُ الزَّوْجُ بِدَيْنِ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا.وَيُحْبَسُ الْقَرِيبُ بِدَيْنِ أَقْرِبَائِهِ، حَتَّى الْوَلَدُ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَالِدَيْهِ لَا الْعَكْسُ.وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ بَلْ يُؤَدَّبُ.وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَظَلَمَ.

وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ بِدَيْنِ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي مُمَاطَلَتِهِ.

مُدَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:

82- اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَبْسِ الْمَدِينِ، وَالصَّحِيحُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ شَهْرٌ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ.وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى سِتَّةٍ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُؤَبَّدُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ إِذَا عَلِمَ يُسْرَهُ.وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ح- الْحَبْسُ لِلتَّفْلِيسِ:

83- يَشْتَرِكُ الْمُفْلِسُ مَعَ الْمَدِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَيَفْتَرِقُ عَنْهُ- بِحَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ- فِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَدَخَّلُ لِشَهْرِ الْمُفْلِسِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْلَانِ عَجْزِهِ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَجَعْلِ مَالِهِ الْمُتَبَقِّي لِغُرَمَائِهِ.

وَلَا يُحْبَسُ الْمُعْسِرُ وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَإِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ حُبِسَ بِطَلَبٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ.وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ كَفَالَتِهِ بِوَجْهٍ أَوْ بِمَالٍ حَتَّى تَزُولَ الْجَهَالَةُ.وَقَالُوا: إِذَا أَخْبَرَ بِإِعْسَارِهِ وَاحِدٌ مِنَ الثِّقَاتِ أُخْرِجَ مِنْ حَبْسِهِ.

وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ وَظَهَرَ أَنَّ لَهُ مَالًا، أَوْ عُرِفَ مَكَانُهُ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ.فَإِنْ أَبَى أُبْقِيَ فِي الْحَبْسِ- بِطَلَبِ غَرِيمِهِ- حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ.فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَقَضَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ حَبْسِهِ لِإِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لَا يُجِيبُ الْغُرَمَاءَ إِلَى بَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ وَعُرُوضِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ عَلَيْهِ وَيَتَضَرَّرَ.بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُؤَبِّدُ حَبْسَهُ لِحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ أَوِ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ مَالٍ لِلْمَدِينِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ حُبِسَ حَتَّى يُظْهِرَهُ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهُ ذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الْآنِفِ ذِكْرُهُ.

حَبْسُ الْمُفْلِسِ بِطَلَبِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ:

84- إِنْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ حَبْسَ الْمُفْلِسِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ وَأَبَى بَعْضُهُمْ حُبِسَ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا مُحَاصَّةَ الْحَابِسِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ فَلَهُمْ ذَلِكَ.وَلَهُمْ أَيْضًا إِبْقَاءُ حِصَصِهِمْ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ.وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْحَابِسِ إِلاَّ حِصَّتُهُ.

ط- الْحَبْسُ لِلتَّعَدِّي عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

85- شُرِعَ الْحَبْسُ فِي كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّعَامُلِ بِالرِّبَا، وَبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْغِشِّ وَالِاحْتِكَارِ، أَوِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَبَيْعِ الْوَقْفِ، وَفِي كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَنْعِ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ مِنْ رِيعِهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَتَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ، أَوْ بَدَلِ الْخُلْعِ، أَوِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْخَرَاجِ، أَوِ الْعُشْرِ، وَجَحْدِ الْوَدِيعَةِ، وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَكَالَةِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مَا أَبْهَمَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ.

ي- حَبْسُ الْكَفِيلِ لِإِخْلَالِهِ بِالْتِزَامَاتِهِ:

الْكَفَالَةُ نَوْعَانِ بِالْمَالِ وَبِالنَّفْسِ، وَتَتَّصِلُ بِالْحَبْسِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: حَبْسُ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الْوَفَاءِ:

86- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ حَبْسِ الْكَفِيلِ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ إِذَا لَمْ يُوفِ الْمَكْفُولُ مَا عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، وَذَلِكَ لِتَخَلُّفِهِ عَمَّا الْتَزَمَهُ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مَضْمُومَةٌ إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ بِالْمُطَالَبَةِ، فَلِذَا جَازَ حَبْسُهُ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ.وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ: «الْحَمِيلُ غَارِمٌ».وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَوْلُهُ: لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ إِذَا غَابَ الْمَكْفُولُ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ.

ثَانِيًا: حَبْسُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ:

87- تُعْرَفُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَيْضًا بِكَفَالَةِ الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْكَفَالَةُ بِذَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يُنْتَظَرُ تَزْكِيَتُهُمَا، وَهَذِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِاسْتِكْمَالِ الْإِجْرَاءَاتِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُسْتَوْفَى مِنَ الْكَفِيلِ إِذَا تَعَذَّرَ إِحْضَارُ الْمَكْفُولِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْكَفَالَةُ بِإِحْضَارِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَقَذْفٍ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَهَذِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهَا حَقَّ الْعَبْدِ، وَيَحْتَمِلُ إِسْقَاطُهُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَيَجُوزُ كَفَالَةُ الْمَحْبُوسِ أَوْ مُسْتَحِقِّ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ.

أَحْوَالُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ:

88- تَنْتَظِمُ أَحْوَالُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ الْحَالَاتِ التَّالِيَةَ:

الْحَالَةَ الْأُولَى: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِمُمَاطَلَتِهِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُولَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَذْلُ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِاشْتِرَاطِهِ إِحْضَارَ النَّفْسِ لَا غَيْرِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ.وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ بَلْ يُلْزَمُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ، أَوْ يَغْرَمُ الْمَالَ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ وَصَرَّحَ بِضَمَانِهِ الْمَالَ إِذَا تَخَلَّفَ، فَإِنَّهُ لَا يُحْبَسُ بَلْ يَغْرَمُ الْمَالَ إِذَا لَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُولَ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ مَذَاهِبِ الْأَمْصَارِ.فَإِنْ مَاطَلَ فِي الدَّفْعِ وَكَانَ مُوسِرًا حُبِسَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ شَغَلَ ذِمَّتَهُ كَشَغْلِهِ ذِمَّةَ الْمَكْفُولِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنِ اسْتُحْفِظَ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ كَفِيلِ الْوَجْهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ.فَإِنْ أَطْلَقَهُ وَتَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ عُومِلَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْآنِفَتَيْنِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ النَّفْسِ الَّتِي كَفَلَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ وَقَصَّرَ فَلَمْ يُحْضِرْهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ يُحْبَسُ إِلَى حُضُورِ الْمَكْفُولِ أَوْ مَوْتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (سياسة)

سِيَاسَة

التَّعْرِيفُ:

1- لِلسِّيَاسَةِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:

الْأَوَّلُ: فِعْلُ السَّائِسِ، وَهُوَ مَنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ وَيُرَوِّضُهَا.

يُقَالُ: سَاسَ الدَّابَّةَ يَسُوسُهَا سِيَاسَةً.

الثَّانِي: الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ.يُقَالُ: سَاسَ الْأَمْرَ سِيَاسَةً: إِذَا دَبَّرَهُ.

وَسَاسَ الْوَالِي الرَّعِيَّةَ: أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السِّيَاسَةَ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّرْبِيَةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَأْتِي لَمَعَانٍ، 2- مِنْهَا: الْأَوَّلُ: مَعْنًى عَامٌّ يَتَّصِلُ بِالدَّوْلَةِ وَالسُّلْطَةِ.فَيُقَالُ: هِيَ اسْتِصْلَاحُ الْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُنَجِّي فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ.

وَقَالَ الْبُجَيْرِمِيُّ: «السِّيَاسَةُ: إِصْلَاحُ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ» وَقَدْ أَطْلَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى السِّيَاسَةِ اسْمَ: «الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ» أَوِ «السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ» أَوِ «السِّيَاسَةُ الْمَدَنِيَّةُ».

وَلَمَّا كَانَتِ السِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَسَاسَ الْحُكْمِ، لِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَفْعَالُ رُؤَسَاءِ الدُّوَلِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالسُّلْطَةِ «سِيَاسَةٌ» وَقِيلَ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى- رِئَاسَةَ الدَّوْلَةِ- «مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا» وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عِلْمَ السِّيَاسَةِ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ أَنْوَاعُ الرِّيَاسَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَحْوَالُهَا: مِنْ أَحْوَالِ السَّلَاطِينِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الِاحْتِسَابِ وَالْقَضَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَزُعَمَاءِ الْأَمْوَالِ وَوُكَلَاءِ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ.

وَمَوْضُوعُهُ الْمَرَاتِبُ الْمَدَنِيَّةُ وَأَحْكَامُهَا، وَالسِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَرْعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

وَلَعَلَّ أَقْدَمَ نَصٍّ وَرَدَتْ فِيهِ كَلِمَةُ «السِّيَاسَةِ» بِالْمَعْنَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُكْمِ هُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي وَصْفِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنهم-: إِنِّي وَجَدْتُهُ وَلِيَّ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ، وَالطَّالِبَ بِدَمِهِ، الْحَسَنَ السِّيَاسَةِ، الْحَسَنَ التَّدْبِيرِ.

3- الْمَعْنَى الثَّانِي: يَتَّصِلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ أَنَّ السِّيَاسَةَ: «فِعْلُ شَيْءٍ مِنَ الْحَاكِمِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلِيلٌ جُزْئِيٌّ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّعْزِيرُ:

هُوَ تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ غَالِبًا، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ.وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْعُقُوبَةِ قَالَ: هُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ.

أَوْ قَالَ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعَبْدِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: التَّعْزِيرُ لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ.بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا.وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ عَنِ الْحَدِّ.

وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْحَدَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ.

فَالتَّعْزِيرُ أَخَصُّ مِنَ السِّيَاسَةِ.

الْمَصْلَحَةُ:

4- الْمَصْلَحَةُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ.وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ:

وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ، وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ.فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ.وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.

أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ فَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاسَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ سُلُوكَ السِّيَاسَةِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ النَّاسِ وَتَقْوِيمِ الْعِوَجِ، وَفْقَ مَعَايِيرَ وَضَوَابِطَ يَأْتِي بَيَانُهَا، وَلَا تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: السِّيَاسَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ- بَعْدَ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ- عَلَى حَسْمِ مَوَادِّ الْفَسَادِ لِبَقَاءِ الْعَالَمِ.وَقَالَ الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَدِلَّةُ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا كَثْرَةُ الْفَسَادِ وَانْتِشَارُهُ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي قَالَ بِهَا مَالِكٌ وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لِلسُّلْطَانِ سُلُوكُ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ الْحَزْمُ عِنْدَنَا، وَلَا يَخْلُو مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ إِمَامٌ.وَلَا تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ؛ إِذِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ- رضي الله عنهم- قَدْ قَتَلُوا وَمَثَّلُوا وَحَرَقُوا الْمَصَاحِفَ.وَنَفَى عُمَرُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ خَوْفَ فِتْنَةِ النِّسَاءِ.وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.

وَقَدْ حَذَّرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ إِفْرَاطِ مَنْ مَنَعَ الْأَخْذَ بِالسِّيَاسَةِ، مُكْتَفِيًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَتَفْرِيطِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِهَا يُبِيحُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فَرْضَ مَا يَرَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ عَلَى هَوَاهُ..ثُمَّ قَالَ: وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ.فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ، فَهِيَ مِنَ الدِّينِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ لَا تَتَعَدَّاهَا.حَتَّى قَالُوا: لَا سِيَاسَةَ إِلاَّ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ.وَبِذَلِكَ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْأَخْذِ بِالسِّيَاسَةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصٌ بِخُصُوصِهِ.

أَقْسَامُ السِّيَاسَةِ:

6- تُقْسَمُ السِّيَاسَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: سِيَاسَةٍ ظَالِمَةٍ تُحَرِّمُهَا الشَّرِيعَةُ.وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتَدْفَعُ الْمَظَالِمَ وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ، وَتُوَصِّلُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ اعْتِمَادَهَا وَالسَّيْرَ عَلَيْهَا وَالسِّيَاسَةُ الْعَادِلَةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا، وَمَا يُسَمِّيهِ أَكْثَرُ السَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ- لَا بِالْعِلْمِ- سِيَاسَةً، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَكَانَ الْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ شَيْئًا وَاحِدًا».ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ ظَهَرَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالسِّيَاسَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّلْطَةِ صَارُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَهْوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: تَقْسِيمُ بَعْضِهِمْ طُرُقَ الْحُكْمِ إِلَى شَرِيعَةٍ وَسِيَاسَةٍ، كَتَقْسِيمِ غَيْرِهِمُ الدِّينَ إِلَى شَرِيعَةٍ وَحَقِيقَةٍ، وَكَتَقْسِيمِ آخَرِينَ الدِّينَ إِلَى عَقْلٍ وَنَقْلٍ..وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ؛ بَلِ السِّيَاسَةُ، وَالْحَقِيقَةُ، وَالطَّرِيقَةُ، وَالْعَقْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ.فَالصَّحِيحُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ لَا قَسِيمٌ لَهَا، وَالْبَاطِلُ ضِدُّهَا وَمُنَافِيهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مِنْ أَهَمِّ الْأُصُولِ وَأَنْفَعِهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عُمُومُ رِسَالَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ فِي مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْوِجْ أُمَّتَهُ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ بِهِ.

حُسْنُ سِيَاسَةِ الْإِمَامِ لِلرَّعِيَّةِ:

7- إِنَّ لِلسِّيَاسَةِ أَثَرًا كَبِيرًا فِي الْأُمَّةِ، فَحُسْنُ السِّيَاسَةِ يَنْشُرُ الْأَمْنَ، وَالْأَمَانَ فِي أَنْحَاءِ الْبِلَادِ.وَعِنْدَئِذٍ يَنْطَلِقُ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مُطْمَئِنِّينَ، فَتَنْمُو الثَّرْوَةُ، وَيَعُمُّ الرَّخَاءُ، وَيَقْوَى أَمْرُ الدِّينِ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلْإِمَامِ سِيَاسَةٌ حَازِمَةٌ، تَهْتَمُّ بِكُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَتُرَغِّبُ النَّاسَ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتُثِيبُ عَلَى الْفِعْلِ الْجَمِيلِ، كَمَا تُحَذِّرُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَتَقْطَعُ دَابِرَ دُعَاتِهِ وَمُقْتَرِفِيهِ، وَبِغَيْرِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَضْعُفُ الدَّوْلَةُ وَتَنْهَارُ وَتَخْرَبُ الْبِلَادُ.

وَالسِّيَاسَةُ الْحَازِمَةُ الْمُحَقِّقَةُ لِخَيْرِ الْأُمَّةِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْإِمَامُ بَيْنَ اللِّينِ وَالْعُنْفِ، وَيُقَدِّمُ اللِّينَ عَلَى الشِّدَّةِ، وَالدَّعْوَةَ الْحَسَنَةَ عَلَى الْعُقُوبَةِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

وَأَعْظَمُ عَوْنٍ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ.

وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ.

قَوَاعِدُ السِّيَاسَةِ:

أُسُسُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ: هِيَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْأَسَاسِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَلْهَمُ مِنْهَا النَّهْجُ السِّيَاسِيُّ لِلْحُكْمِ.

الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ: سِيَادَةُ الشَّرِيعَةِ:

8- يُؤَكِّدُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ السِّيَادَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وقوله تعالى: {ثُمَّرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ دُونَ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَذَلِكَ حَقٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى عَمَلِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُحَاسَبُ النَّاسُ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ عَلَى أَسَاسِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ أَحْكَامُهَا مُنَظِّمَةً لِلْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ وَأُمُورِ الْمُعَامَلَاتِ الْأُخْرَى.

9- وَمَا دَامَتِ الْحَاكِمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شُؤُونِ الْحَيَاةِ وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْآيَاتِ جَاءَتْ آمِرَةً بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِهَا وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَتْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَتْ عَنْهُ.مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْأَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَاتَّبِعْ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا لَكَ، وَلَا تَتَّبِعْ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ بِاَللَّهِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَتَعْمَلُ بِهِ فَتَهْلِكُ إِنْ عَمِلْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاتَّبِعْ شَرِيعَتَكَ الثَّابِتَةَ بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَاءِ الْجُهَّالِ وَدِينِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى هَوًى وَبِدْعَةٍ.وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.قَالَ تَعَالَى: {وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمَّتَهُ.وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ دُونَهُ؛ أَيِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ.وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ الْآرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.

10- وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخُصُّ الْقُرْآنَ فَحَسْبُ، بَلْ يَعُمُّ السُّنَّةَ أَيْضًا، مَا جَاءَ فِي عَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهَا وَتَطْبِيقِهَا.مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.

حَقُّ الْإِمَامِ فِي وَضْعِ الْأَنْظِمَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ:

11- تَقْرِيرُ مَبْدَأِ سِيَادَةِ الشَّرِيعَةِ لَا يَعْنِي حِرْمَانَ الْإِمَامِ وَمِنْ دُونِهِ أَهْلُ الْحُكْمِ وَالسُّلْطَةِ مِنْ حَقِّ اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَيْرِ أُمُورِ الدَّوْلَةِ.

ذَلِكَ لِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ مَحْدُودَةٌ وَمُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الْحَوَادِثُ وَتَطَوُّرُ الْحَيَاةِ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تُوَاجِهُ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ مَعًا، فَغَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلَا مُتَنَاهِيَةٌ.وَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ وَأَهْلِ الْحُكْمِ مِنْ مُوَاجِهَةِ كُلِّ ذَلِكَ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَنْظِمَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَيْسَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا لَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ، وَاَلَّتِي لِأَجْلِهَا قَامَتِ الدَّوْلَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالِاخْتِصَاصِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

الْأَسَاسُ الثَّانِي: الشُّورَى:

12- الْحُكْمُ أَمَانَةٌ، وَالْإِمَامُ وَمَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ مَسْئُولُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَمَانَةِ.لِذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيٍ وَلَا يَغْفُلُونَ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ النَّاصِحِينَ لِلدَّوْلَةِ وَلِلْأُمَّةِ، وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِ كَيْ يَدُومَ حُكْمُهُ وَيَقُومَ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (شُورَى).

الْأَسَاسُ الثَّالِثُ: الْعَدْلُ:

13- الْعَدْلُ هُوَ الصِّفَةُ الْجَامِعَةُ لِلرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الرُّسُلُ ( (لِتَحْقِيقِهَا، وَإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا.فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

{لَقَدْأَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ.

فَالْعَدْلُ أَمْرٌ فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ السَّعْيَ لِإِقَامَتِهِ فِي الْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنْ أَبْرَزِ خَصَائِصِهِمْ بَيْنَ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الْعَدْلِ.حَتَّى قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فِي قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ وَلَا فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَدْل).

مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ:

14- نَصْبُ الْإِمَامِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَيَتَعَيَّنُ الْإِمَامُ بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالْإِمَامُ مُكَلَّفٌ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمُلْزَمٌ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ كَأَيِّ مُسْلِمٍ فِي الْأُمَّةِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مَسْئُولٌ عَنْ تَطْبِيقِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْصِبِهِ أَقْوَى رَجُلٍ فِي الْأُمَّةِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَاعَة، الْإِمَامَة الْكُبْرَى، بَيْعَة).

أَنْوَاعُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ:

أَوَّلًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْحُكْمِ:

الْإِمَامَةُ:

15- مِنَ الثَّابِتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ وَدَوْلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ كِتَابُ عَقِيدَةٍ كَمَا هُوَ كِتَابُ أَحْكَامٍ وَقَوَاعِدُ تُنَظِّمُ صِلَةَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانِ بِالْمُجْتَمَعِ، وَالْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.

وَهُوَ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ يَحْوِي كُلَّ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ وَفُرُوعِهَا.فَالْحُقُوقُ الْمَدَنِيَّةُ إِلَى جَانِبِ الْحُقُوقِ الْجَزَائِيَّةِ، وَالِاقْتِصَادِيَّة، وَالْمَالِيَّةِ، وَالتِّجَارِيَّةِ، وَالدُّوَلِيَّةِ بِفَرْعَيْهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.

وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُقُوقُ مَوَاعِظَ مَتْرُوكَةً لِرَغْبَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ آمِرَةٌ وَاجِبَةُ التَّنْفِيذِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِقِيَامِ الدَّوْلَةِ.

وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ إِمَامٍ (رَئِيسٍ) يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، كَمَا يَسْهَرُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمَجِيدَةِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة...ً}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ؛ لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيقَةِ.

وَفِي السُّنَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلاَّ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ».

وَقَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَإِذَا شُرِعَ هَذَا لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ يُسَافِرُونَ، فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالْأَمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ، أَوْلَى وَأَحْرَى.وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ.وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ الْبِلَادِ وَأَمْنُ الْعِبَادِ وَقَطْعُ مَوَادِّ الْفَسَادِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ لِذَلِكَ وَجَبَ نَصْبُ إِمَامٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْإِمَامِ وَشُرُوطُهُ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ إِمَامَتُهُ فَتُنْظَرُ فِي (الْإِمَامَة الْكُبْرَى) (وَبَيْعَة).

حُقُوقُ الْإِمَامِ:

16- ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّيْنِ: الطَّاعَةَ وَالنُّصْرَةَ.

وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهَا عَشَرَةُ حُقُوقٍ: الطَّاعَةُ، وَالنَّصِيحَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالِاحْتِرَامُ، وَالْإِيقَاظُ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، وَالْإِرْشَادُ عِنْدَ الْخَطَأِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ، وَإِعْلَامُهُ بِسِيرَةِ عُمَّالِهِ، وَإِعَانَتُهُ، وَجَمْعُ الْقُلُوبِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَالنُّصْرَةُ.

وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لَا تَكُونُ لِلْإِمَامِ إِلاَّ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَلَزِمَ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ، وَأَدَّى لِلْأُمَّةِ حُقُوقَهَا الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ.وَبِرِعَايَةِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَصْفُو الْقُلُوبُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ.

وَأَمَّا فِيمَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَوِي مَعَهُمْ جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ.بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنَهُمْ قِيَامًا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الدَّوْلَةِ.

وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ:

17- حُقُوقُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْمَعَ فِي عَشَرَةٍ:

(1) حِفْظُ الدِّينِ وَالْحَثُّ عَلَى تَطْبِيقِهِ، وَنَشْرُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ.

(2) حِرَاسَةُ الْبِلَادِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا، وَحِفْظُ الْأَمْنِ الدَّاخِلِيِّ.

(3) النَّظَرُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.

(4) إقَامَةُ الْعَدْلِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ.

(5) تَطْبِيقُ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.

(6) إقَامَةُ فَرْضِ الْجِهَادِ.

(7) عِمَارَةُ الْبِلَادِ، وَتَسْهِيلُ سُبُلِ الْعَيْشِ، وَنَشْرُ الرَّخَاءِ.

(8) جِبَايَةُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَصَرْفُهَا فِي الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ وَعَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، مِنْ غَيْرِ سَرِفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.

(9) أَنْ يُوَلِّيَ أَعْمَالَ الدَّوْلَةِ الْأُمَنَاءَ النُّصَحَاءَ أَهْلَ الْخِبْرَةِ.

(10) أَنْ يَهْتَمَّ بِنَفْسِهِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يُرَاقِبَ أُمُورَ الدَّوْلَةِ وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا.

تَعْيِينُ الْعُمَّالِ وَفَصْلُهُمْ:

أ- تَعْيِينُ الْعُمَّالِ:

18- لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمَامُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْحُكْمِ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُعَاوِنَهُ فِي ذَلِكَ عُمَّالٌ يُعَيِّنُهُمْ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَتْ أُمُورُ الْحُكْمِ وَتَشَعَّبَتْ زَادَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُمَّالِ.«وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ بَيِّنَةٌ فِي ضَرُورَاتِ الْعُقُولِ لَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ بِهَا».

وَهَذَا «مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام- حِينَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ.فَقَدْ وَلَّى عَلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ- رضي الله عنه- وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ- رضي الله عنه-.وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى- رضي الله عنهم- إِلَى الْيَمَنِ.وَكَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ جُبَاةَ الزَّكَاةِ وَيُرْسِلُ السُّفَرَاءَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْقَبَائِلِ».وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ سَارَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَقَدْ أَقَرَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْعُمَّالِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ.

ب- صِفَاتُ الْعُمَّالِ:

19- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ أَهْلَ الدِّيَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْأَصَالَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْحَزْمِ وَالْكِفَايَةِ، وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْعَمَلِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ».وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ التَّعْيِينَ وَفْقَ هَوَاهُ.

وَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُمْ إِلاَّ بَعْدَ امْتِحَانٍ وَتَجْرِبَةٍ.

ج- مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَحْوَ عُمَّالِهِ:

20- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ بِعَدَمِ الظُّلْمِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ الظَّالِمَ أَعْدَى عَدُوٍّ لِلدَّوْلَةِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ عُمَّالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْقِيَةَ رَقَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ التَّرْقِيَةَ قَفْزًا دُونَ سَبَبٍ.

وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مُسِيئًا حَاسَبَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَا أَتَاهُ يُوجِبُ حَدًّا، أَوْ تَعَدَّى عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الرَّعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ كُلَّ مَنْ يُخِلُّ بِوَاجِبِ الْعَمَلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ.

وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِدَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْعَامِلِينَ فِي الدَّوْلَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أُمُورِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَعَلَاقَتِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنَ السِّيَاسَةِ..وَيُعِينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ جِهَازٌ دَقِيقٌ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ

د- دِيوَانُ الْمُوَظَّفِينَ:

21- يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّوْلَةِ دِيوَانٌ يَخُصُّ الْعَامِلِينَ فِي أَجْهِزَتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دِيوَان).

ثَانِيًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْمَالِ:

22- يُقْصَدُ بِالْأَمْوَالِ فِي هَذَا الْمَجَالِ: أَمْوَالُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ إِلَى خَزِينَةِ الدَّوْلَةِ.

وَهِيَ تَتَأَلَّفُ مِنْ أَنْوَاعٍ يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَكَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْت الْمَالِ).

ثَالِثًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْوِلَايَاتِ:

وِلَايَةُ الْجَيْشِ:

23- لَمَّا كَانَ الْجَيْشُ لِلْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبِلَادِ، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعِنَايَةُ بِتَرْتِيبِهِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَنْظِيمِ قِيَادَتِهِ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ، وَتَعَرُّفِ أَحْوَالِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَأْمِينِ الْأَمْوَالِ اللاَّزِمَةِ لِتَسْلِيحِهِ وَإِدَارَتِهِ وَدَفْعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَفْرَادُهُ بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَمُلَائِمٍ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جِهَاد).

النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْقُضَاةِ:

24- إِنَّ الْقَضَاءَ مَنْصِبٌ جَلِيلٌ وَخَطِيرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ الْعَدْلَ فِي الْأُمَّةِ، وَعَلَى الْعَدْلِ تَقُومُ الدَّوْلَةُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ أَحَاطَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْمَنْصِبَ بِاحْتِرَامٍ شَدِيدٍ وَنَظَّمَتْ أَحْكَامَهُ وَقَوَاعِدَهُ وَصِفَاتِ مَنْ يَتَوَلاَّهُ وَأُصُولَ التَّقَاضِي.

وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْقُضَاةِ وَيَتَحَرَّى عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَعَنْ سِيرَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَعَنْ أَحْكَامِهِمْ، وَيَسْأَلَ الثِّقَاتِ الصَّالِحِينَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَضَاء).

النَّظَرُ فِي وِلَايَةِ الصَّدَقَاتِ:

25- الزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَكَفَّلَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِبَيَانِ مَحِلِّهَا وَنِصَابِهَا وَجِبَايَتِهَا وَأُصُولِ صَرْفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا.

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى رَئِيسِ الدَّوْلَةِ أَنْ يُوَلِّيَ أُمُورَ الزَّكَاةِ الْمُسْلِمَ الْعَدْلَ الْعَالِمَ بِأَحْكَامِهَا لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِهَا.وَقَدْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ شَامِلَةً جِبَايَةَ الزَّكَاةِ وَقِسْمَتَهَا، وَقَدْ تَكُونُ لِلْجِبَايَةِ دُونَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً، فَلَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَهَا، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِسْمَةَ.أَمَّا إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِأَخْذِ مَالٍ مُحَدَّدٍ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، لِأَنَّهُ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ كَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة).

السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ بُغَاةٍ وَغَيْرِهِمْ:

26- قَدْ تَخْرُجُ فِئَةٌ مُسَلَّحَةٌ مُنَظَّمَةٌ.فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الدِّينِ كَانَتْ مُرْتَدَّةً.

وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الْإِمَامِ كَانَتْ فِئَةً بَاغِيَةً.

وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ (انْظُرْ: رِدَّة.بُغَاة.حِرَابَة).

رَابِعًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْعُقُوبَةِ:

أ- الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً:

27- تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى: عُقُوبَاتٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَهِيَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ.

وَعُقُوبَاتٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ التَّعْزِيرُ.

أَمَّا الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً: فَتَكُونُ عِنْدَ اقْتِرَافِ جَرِيمَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَبِهَذَا تُرَادِفُ التَّعْزِيرَ:

فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النَّبَّاشَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنِ اعْتَادَ النَّبْشَ أَمْكَنَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ.ر: مُصْطَلَحَ (سَرِقَة).

كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ تُزَادُ الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً.فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ السَّرِقَةِ- مَثَلًا- فَقُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ جَازَ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ.

كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَبْسَ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِارْتِكَابِ جَرَائِمَ ضِدَّ الْأَشْخَاصِ، أَوِ الْأَمْوَالِ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِفْ جَرِيمَةً جَدِيدَةً، وَيَسْتَمِرُّ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ.

وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مَعَ مَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْأَذَى وَخِيفَ أَذَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ. (ر: عُقُوبَة- تَعْزِير).

التَّغْرِيبُ سِيَاسَةً:

28- ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَنَفْيِهِمْ».

وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي شَارِبَ الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِ.

وَنَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لَمَّا خَافَ فِتْنَةَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ بِجَمَالِهِ، بَعْدَ أَنْ قَصَّ شَعْرَهُ فَرَآهُ زَادَ جَمَالًا.

وَلِذَلِكَ جَازَ نَفْيُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِلَى بَلَدٍ يُؤْمَنُ فَسَادُ أَهْلِهِ.فَإِنْ خَافَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُبِسَ.وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ، وَإِنَّمَا مِنْ قَبِيلِ الْخَوْفِ مِنَ الْفَاحِشَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا. (ر: تَغْرِيب).

وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيبُ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ بَعْدَ جَلْدِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِّ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يُغَرَّبُ حَدًّا، وَأَجَازُوا تَغْرِيبَهُ سِيَاسَةً، دُونَ تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ، بَلْ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَبْسِهِ بَعْدَ الْحَدِّ.فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ جَازَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ.وَقِيلَ: حَتَّى يَمُوتَ.

الْقَتْلُ سِيَاسَةً:

29- يُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقَتْلَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير).

مَنْ لَهُ حَقُّ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً:

30- لِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي تَحْدِيدِ مَنْ لَهُ حَقُّ فَرْضِ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً..هَلْ هُوَ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ، أَمْ هُوَ الْقَاضِي؟.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُقُوبَة، تَعْزِير).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-المعجم الغني (تَجَسَّسَ)

تَجَسَّسَ- [جسس]، (فعل: خماسي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، تَجَسَّسَ، يَتَجَسَّسُ، المصدر: تَجَسُّسٌ.

1- " تَجَسَّسَ الخَبَرَ": بَحَثَ فِي صِحَّتِهِ وَسِرِّهِ. {لَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]:

2- " تَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ فِي عَمَلِهِمْ": جَاءَ يَسْتَطْلِعُ أَخْبَارَهُمْ وَأَسْرَارَهُمْ وَتَعَرُّفُها لِيَنْقُلَهَا إِلَى مَنْ يَهُمُّهُ الأَمْرُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


33-المعجم الغني (تَحْدِيثٌ)

تَحْدِيثٌ- [حدث]، (مصدر: حَدَّثَ):

1- "يَنْبَغِي تَحْدِيثُ النَّاسِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ": تَكْلِيمُهُمْ، إِخْبَارُهُمْ.

2- "تَحْدِيثُ الأَطْفَالِ بِحِكَايَاتٍ عَجِيبَةٍ": رِوَايَتُهَا.

3- "تَحْدِيثُ النَّفْسِ": إِخْطَارُهَا، إِشْعَارُهَا.

4- "التَّحْدِيثُ بِالنِّعَمِ": نَشْرُهَا وَحَمْدُ الله وَشُكْرُهُ عَلَيْهَا.

5- "تَحْدِيثُ الْمُجْتَمَعِ": تَجْدِيدُهُ وَتَطْوِيرُهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


34-المعجم الغني (مُكَاتَبَةٌ)

مُكَاتَبَةٌ- [كتب]، (مصدر: كَاتَبَ)، "اِسْتَمَرَّ فِي مُكَاتَبَةِ أَهْلِهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ انْقِطَاعِ أَخْبَارِهِمْ": مُرَاسَلَتِهِمْ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


35-معجم الرائد (تَحَسَّسَ)

تَحَسَّسَ تَحَسُّسًا:

1- تَحَسَّسَ الخبر: حاول معرفته.

2- تَحَسَّسَ الشيء: تطلبه بالحاسة.

3- تَحَسَّسَ: تسمع وتبصر.

4- تَحَسَّسَ من القوم: تتبع أخبارهم.

5- تَحَسَّسَ للقوم: سعى في جمع الأخبار لهم.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


36-تاج العروس (نقب)

[نقب]: النَّقْبُ: الثَّقْبُ في أَيّ شَيْ‌ءٍ كان، نَقَبَه، يَنْقُبه، نَقْبًا.

وشي‌ءٌ نَقِيبٌ: منقوبٌ، قال أَبو ذُؤَيْبٍ:

أَرِقْتُ لِذِكْرِهِ من غيْرِ نَوْبٍ *** كما يَهْتَاجُ مَوْشِيٌّ نَقِيبُ

يَعني بالمَوْشِيِّ يَرَاعةً. ج: أَنْقابٌ ونقَابٌ، بالكسر في الأَخير.

والنَّقْبُ: قَرْحَةٌ تَخْرُجُ بالجَنْب، وتَهْجُم على الجَوْف، ورأْسُها في داخل، قاله ابْنُ سيدَهْ، كالنَّاقِبَةِ.

ونَقَبَتْهُ النَّكْبةُ، تَنْقُبه، نَقْبًا: أَصابتْه فبَلَغَتْ منه، كنَكَبَتْه.

والنَّقْبُ: الجَرَبُ عامّة، ويُضَمُّ وهو الأَكْثَرُ، وبه فسَّرَ ثعلبٌ قولَ أَبي محمَّد الحَذْلَمِيّ:

وتَكْشِفُ النُّقْبَةَ عن لِثَامِهَا

يقولُ: تُبْرِئُ من الجَرَب. وفي الحديث: أَنَّ النَّبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، قال: «لَا يُعْدِي شي‌ءٌ شيئًا؛ فقال أَعرابيٌّ: يا رسُولَ اللهِ، إِنَّ النُّقْبَةَ قد تَكُونُ بمِشْفَرِ البَعِيرِ، أَو بذَنَبهِ، في الإِبِلِ العظيمةِ، فَتجْرَبُ كلُّهَا؛ فقال النَّبيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: فمَا أَعْدَى الأَوَّلَ»؟ قال الأَصْمَعِيُّ: النُّقْبَةُ هي أَوَّلُ جَرَبٍ يَبْدَأُ، يُقَالُ للبَعِير: به نُقْبَةٌ، وجَمعُها نُقْبٌ، بسكون القاف، لِأَنَّهَا تَنْقُبُ الجِلدَ نَقْبًا، أَي: تَخْرِقُهُ؛ وقال دريد بْنِ الصِّمَّةِ:

مُتَبَذِّلًا تَبْدُو محاسِنُه *** يَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ

وفي الأَساس: ومن المَجَاز: يقالُ: فلانٌ يَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقُب: إِذا كان ماهِرًا مُصِيبًا. أَو النُّقْبُ: القِطَعُ المُتَفَرِّقةُ، وهي أَوَّلُ ما يَبْدُو مِنْهُ أَي: من الجَرَب، الواحدة نُقْبةٌ. وعن ابن شُمَيْلٍ: النُّقْبَةُ: أَوّلُ بدْءِ الجَرَب، ترى الرُقْعَة مِثْلَ الكَفِّ بجَنْبِ البعيرِ، أَو وَرِكهِ، أَو بمِشْفَرِه، ثم تَتمَشَّى فيه حتَّى تُشْرِبَهُ كُلَّهُ، أَي: تَمْلأَهُ، كالنَّقَبْ، كَصُرَدٍ، فيهِمَا؛ أَي في القَوْلَيْنِ، وهما: الجَرَبُ، أَو أَوّل ما يَبدو منه.

والنَّقْبُ: أَنْ يَجْمَعَ الفَرَسُ قَوائِمَهُ في حُضْرِهِ، ولا يَبسُطَ يَدَيْهِ، ويكون حُضْرُهُ وثْبًا.

والنَّقْبُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ فِي الجَبَلِ، كالمَنْقَبِ والمَنْقَبَةِ، أَي: بِفَتحِهِمَا مع فتح قافهما، كما يدُلُّ لِذلك قاعدتُه. وقد نبَّهْنا على ذلك في: ن ض ب. وفي اللِّسان: المَنْقَبةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بينَ دارَيْنِ، لا يُسْتطاعُ سُلُوكُه وفي الحديثِ: «لا شُفْعةَ في فَحْلٍ، وَلَا مَنْقبَة» فسَّرُوا المَنْقَبة بالحائط. وفي روايةٍ: «لا شُفْعَةَ في فِنَاءٍ ولا طَرِيقٍ ولا مَنْقَبَة». المَنْقَبَةُ هي الطَّرِيقُ بين الدّارَيْنِ، كأَنّهُ نُقِبَ من هذه إِلى هذه، وقيلَ: هُو الطَّرِيقَ الّتي تعلُو أَنْشَازَ الأَرْضِ. والنُّقْبُ، بالضَّمِّ فسكون. والجمع: المَنْقَبِ والمنْقَبَةِ: المَنَاقِبُ، وجمعُ ما عداهُمَا: أَنقَابٌ، ونِقَابٌ بالكَسر في الأَخير. وأَنشد ثعلبٌ لِابْنِ أَبي عاصِيةَ:

تَطَاوَلَ لَيْلِي بالعِرَاقِ ولم يَكُن *** عليَّ بأَنْقَابِ الحِجازِ يَطُولُ

وفي الحديث: «إِنّهُمُ فَزِعُوا من الطّاعون، فقال: أَرْجُو أَنْ لا يَطْلُعَ إِلينا من نِقَابِها» قال ابْنُ الأَثِير: هي جمعُ نقْب، وهو الطَّرِيقُ بينَ الجَبلَيْنِ. أَراد أَنّهُ لا يَطْلُعُ إِلينا من طُرُقِ المَدِينَة. فأَضمر عن غير مذكورٍ. ومنه‌الحديثُ: «عَلَى أَنْقابِ المدِينةِ ملائكةٌ، لا يدْخُلُها الطّاعُونُ، ولا الدَّجّال» هو جمع قِلّة لِلنَّقْبِ.

ونَقْب، بلا لامٍ: موضع، قال سُلَيْكُ بْنُ السُّلَكةِ:

وهُنَّ عِجالٌ من نُبَاك ومن نَقْبِ

وفي المُعْجَمِ: قَرْيةٌ باليَمَامَةِ لبنِي عَدِيِّ بْنِ حَنيفةَ، وسيأْتي بقيّة الكلام.

والمِنْقَبُ، كَمِنْبَر: حَدِيدَةٌ، يَنْقُبُ بها البَيْطَارُ سُرَّةَ الدّابَةِ لِيَخْرُجَ منها ماءٌ أَصفرُ. وقد نَقَبَ يَنْقُبُ؛ قال الشَاعرُ:

كالسِّيدِ لَمْ يَنْقُبِ البَيْطَارُ سُرَّتَهُ *** ولَم يُسِمْهُ ولم يَلمِسْ له عَصَبَا

والمَنْقَبُ، كَمَقْعَدِ: السُّرَّةُ نفْسُها. قال النَّابغةُ الجعْدِيُّ يَصِفُ الفَرسَ:

كَأَنَّ مَقَطَّ شَراسِيفِهِ *** إِلى طَرفِ القُنْبِ، فالمَنقَبِ

وأَنشد الجَوْهَرِيُّ لِمُرَّةَ بْنِ مَحْكانَ:

أَقَبّ لم يَنْقُبِ البَيْطَارُ سُرَّتَهُ *** ولَم يَدِجْهُ ولمْ يَغمِزْ له عَصَبَا

أَو هو من السُّرَّة: قُدَّامُها حيث يُنقَبُ البَطنُ، وكذلك هو من الفَرَس.

وفَرَسٌ حسَنُ النُّقْبَةِ هو بالضَّمِّ: اللَّوْنُ.

والنُّقْبَةُ: الصَّدَأُ، وفي المُحْكَم: النُّقْبةُ: صَدَأُ السَّيْفِ والنَّصْل، قال لَبِيدٌ:

جُنُوحَ الهالِكِيّ على يَدَيْهِ *** مُكِبًّا يَجْتَلِي نُقَبَ النِّصَالِ

وفي الأَساس: ومن المَجَاز: جَلَوْتُ السَّيْفَ والنَّصْلَ من النُّقَب: آثارِ الصَّدإِ، شُبِّهت بأَوائلِ الجَرَبِ، والنُّقْبَة: الوَجْهُ، قال ذُو الرُّمَّةِ يَصِف ثَورًا:

ولاحَ أَزْهَرُ مشْهُورٌ بنُقْبَتِهِ *** كأَنَّهُ حِينَ يعْلُو عاقِرًا لَهَبُ

كذا في الصّحاح. وفي لسان العرب النُّقْبَةُ: ما أَحاطَ بالوَجْهِ من دَوائِره. قال ثعلب: وقيل لِامرَأَة: أَيُّ النسَاءِ أَبغضُ إِليكِ؟ قالت: الحَدِيدَةُ الرُّكْبَةِ، القَبِيحَةُ النُّقْبَةِ، الحاضِرَةُ الكِذْبَةِ.

والنُّقْبَةُ، أَيضًا: ثَوْبٌ كالإِزارِ، تُجْعَلُ له حُجْزَةٌ مُطِيفَةً هكذا في النُّسْخ، والذي في الصَّحاح ولسان العرب والمُحْكم: مَخِيطةٌ ـ من خاطَ ـ من غيرِ نَيْفَقٍ، كحَيْدَرِ، ويُشَدُّ كما يُشَدُّ السَّراوِيلُ.

ونَقَبَ الثَّوْب، يَنْقُبُه: جَعَلَهُ نُقْبةً وفي الحديث: «أَلْبَسَتْنَا أُمُّنا نُقْبَتَهَا» هي السَّرَاويلُ الّتي تكونُ لها حُجْزَةٌ من غير نَيْفَقٍ، فإِذا كان لها نَيْفَقٌ فهي سَراويلُ. وفي لسان العرب: النُّقْبَة: خِرْقَة يُجْعَلُ أَعْلاها كالسَّراويل [وأَسفلُها كالإِزار]، وقيل: هي سراوِيلُ بلا سَاقيْنِ. وفي حديثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ مولاةَ امْرأَةٍ اختَلَعتْ من كُلِّ شَيْ‌ءٍ لها، وكُلِّ ثوْب عليها، حتّى نُقْبَتِها، فلم يُنْكِرْ ذلك».

والنُّقْبَةُ: واحِدَةُ النُّقَبِ، للجَرَب أَو لِمَبادِيه، على ما تقدّمَ.

وقد تَنقَّبَتِ المَرْأَةُ، وانْتَقَبَتْ، وإِنَّها لحَسَنَةُ النِّقْبَةِ، بالكسْرِ، وهي هَيْئةُ الانْتِقابِ، وجَمْعُه: النِّقَب، بالكسر؛ وأَنشد سِيبَويْهِ:

بِأَعْيُنٍ منها مَلِيحاتِ النِّقَبْ *** شَكْلِ التِّجَارِ وحَلَالِ المُكْتَسَبْ

وَروَى الرِّياشِيّ: النُّقَب، بالضَّمّ فالفتح، وعنَى دَوائرَ الوَجْهِ، كما تقدّم.

ورجلٌ ميْمُونُ النَّقِيبةِ: مباركُ النفْسِ، مُظفَّر بما يُحاوِلُ.

نقله الجوهريُّ عن أَبي عُبيْد. وقال ابْن السكِّيتِ: إِذا كان مَيْمُونَ الأَمْرِ، يَنجَحُ فيما حاولَ، ويَظفَرُ.

والنَّقِيبةُ: العَقْلُ، هكذا في النُّسخ، وتَصفَّحْتُ كُتُب الأُمّهات، فلم أَجِدْه فيها، غيرَ أَنّي وجدتُ في لسان العرب ما نَصُّه: والنَّقِيبَةُ: يُمْنُ الفِعْلِ، فلعلَّهُ أَراد الفِعْلَ ثمّ تصحَّف على النّاسخ، فكتب «العقْل» محل «الفعل». وفي حديث مَجْدِيّ بْنِ عمْرٍو: «إِنَّهُ مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ» أَيْ: مُنْجَحُ الفِعَالِ، مُظَفَّرُ المَطَالبِ. فليُتَأَمَّلْ. وقال ثَعْلَب: إِذا كان مَيْمَونَ المشورَةِ ومحمودَ المُخْتَبَرِ.

وعن ابْنِ بُزُرْجَ: مالَهُم نَقيبةٌ أَي نفاذ الرأْيِ.

وقيل: النَّقِيبة: الطَّبِيعَة.

وقيل: الخَلِيقة.

وفي لسان العرب: قولُهم: في فلان مَنَاقِبُ جميلَةٌ: أَي أَخلاق وهو حَسَنُ النَّقيبةِ: أَي جميلُ الخَليقة.

وفي التهذيب في ترجمة عرك: يقال: فلانٌ ميمونُ العَرِيكَةِ والنَّقِيبةِ والنَّقيمةِ، والطَّبِيعة، بمعنًى واحدٍ.

والنَّقِيبة: العَظِيمَة الضَّرْعِ من النُّوقِ، قال ابْن سِيدَه، وهي المُؤْتَزِرَةُ بضَرْعِها عِظَمًا وحُسْنًا، بَيِّنَة النِّقَابَةِ. قال أَبو منصور: هذا تصحيفٌ، إِنَّمَا هي الثَّقِيبة، وهي الغَزيرةُ من النُّوقِ، بالثّاءِ المُثَلَّثَة.

والنَّقِيبُ: المِزْمارُ، ولِسَانُ الميزَانِ والأَخيرُ نقله الصّاغانيّ.

والنَّقِيبُ مِنَ الكِلَاب: ما، نكرة موصوفة، أَي: كَلْبٌ نُقِبَتْ غَلصَمَتُه، أَو حَنجَرَتُه، كما في الأَساس، ليَضْعُفَ صَوْتُه، يَفعَلُه اللَّئيمُ، لِئَلَّا يَسْمَع صَوتَهُ صوتُ نُبَاحِه، وإِنّما يَفعل ذلك البُخَلاءُ من العرب، لئَلَّا يَطْرُقَهم ضَيفٌ، باسْتِمَاعِ نُباحِ الكلابِ.

والنَّقِيب: شاهدُ القَوْمِ، و. هو ضَمِينُهم وعَرِيفُهم ورأسهم: لأَنه يُفَتِّش أَحوالَهم ويَعْرِفُها، وفي التنزِيل العزيز {وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} قال أَبو إِسحاقَ: النَّقِيبُ، في اللُّغَة، كالأَمينِ والكفيل.

وقَدْ نَقَبَ عليهم نِقَابَةً، بالكَسْر من باب: كَتَب كِتَابَةً: فَعَلَ ذلِكَ أَي: من التَّعرِيف، والشُّهودِ، والضَّمَانَة، وغيرِها. وقال الفرّاءُ: نَقُبَ ككَرُمَ، ونقله الجماهيرُ. ونَقِبَ مثل عَلِمَ حكاها ابْنُ القطّاع، نَقَابةً، بالفتحِ: إِذا أَردت أَنه لَمْ يَكُنْ نَقِيبًا، فصار. وعبارةُ الجَوْهَرِيّ وغيرِه: فَفعَلَ.

والنِّقَابة بالكَسْرِ، الاسْمُ، وبالفَتْح: المَصْدرُ، مثل الوِلَايَةِ، والولايَة، نقله الجَوْهَرِيّ عن سِيبَويْه.

وفي لسان العرب: في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصّامت: «وكانَ من النُّقَبَاءِ» جَمْعُ نَقيبٍ، وهو كالعرِيف على القوم، المُقَدَّم عليهم، الّذي يَتعرَّفُ أَخبارهُمْ، ويُنَقِّبُ عن أَحْوالهم؛ أَي يُفَتِّش. وكان النّبيُّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، قد جعَلَ، ليْلَةَ العَقَبَةِ، كلَّ واحدٍ من الجماعة الّذين بايَعوه بها نَقيبًا على قومِه وجماعته، ليأْخذوا عليهم الإِسلامَ، ويُعرِّفوهم شَرائِطَهُ، وكانوا اثْنَيْ عشَرَ نقيبًا، كُلُّهُم من الأَنصار؛ وكان عُبَادةُ بْنُ الصّامِتِ منهم.

وقيل: النَّقِيبُ: الرَّئيسُ الأَكبرُ.

وإِنّما قِيلَ للنَّقِيب: نَقيبٌ، لِأَنَّهُ يَعلَمُ دَخِيلَةَ أَمرِ القوم، وَيَعْرِفُ مَنَاقِبَهم، وهو الطَّريق إِلى معرفةِ أُمورهم.

قال: وهذا الباب كُلُّه أَصلُهُ التَّأْثِيرُ الّذِي له عُمْقٌ ودُخُولٌ. ومن ذلك يقالُ: نَقَبْتُ الحائطَ: أَي: بَلَغْتُ في النَّقْبِ آخِرَهُ.

والنِّقَابُ، بالكَسْرِ: العالمُ بالأُمور. ومن كلام الحَجّاجِ في مُناطَقَتِه للشَّعْبِيّ: إِنْ كانَ ابْنُ عَبّاس لَنِقَابًا، وفي: رواية إِنْ كانَ ابْنُ عَبّاس لَمِنْقَبًا.

النِّقَاب، والمِنْقَبُ، بالكَسْر والتَّخْفيف: الرَّجُلُ العالمُ بالأَشْيَاءِ، الكثيرُ البَحْثِ عنها، والتَّنْقِيبِ عليها، أَي: ما كانَ إِلَّا نِقابًا. قال أَبو عُبَيْدٍ: النِّقَابُ هو الرَّجُلُ العَلَّامَةُ وهو مَجَازٌ. وقال غيرُهُ: هو الرَّجُلُ العالم بالأَشياءِ، المُبَحِّث عنها، الفَطِنُ الشَّدِيدُ الدُّخُولِ فيها؛ قال أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يمدَحُ رَجُلًا:

كَرِيمٌ جَوَادٌ أَخُو مَأْقِطٍ *** نِقَابٌ يُحَدِّثُ بالغَائِبِ

قال ابْنُ بَرِّي: والرِّوايةُ «نَجِيحٌ ملِيحٌ»، قال: وإِنّمَا غَيَّرَهُ مَنْ غيْرَه، لأَنّهُ زَعَمَ أَنّ المَلَاحَةَ الّتي هي حُسْنُ الخَلْقِ، ليست بموضعٍ للمدْحِ في الرِّجال، إِذْ كانت المَلاحةُ لا تَجرِي مَجْرَى الفضائلِ الحَقيقيّة، وإِنّمَا المليحُ هنا هو المُسْتشفَى بِرَأْيِهِ، على ما حُكِيَ عن أَبي عَمْرو. قال: ومنه قولُهم: قُريْشٌ مِلْحُ النّاسِ: أَي يُسْتَشْفَى بهم. وقال غيرُهُ: الملِيحُ في بَيْتِ أَوْسٍ، يُرَادُ به المُسْتَطَابُ مُجالَسَتُه.

وقال شيخُنَا: وهذا من الغَرَائِبِ اللُّغَويّة ورُودُ الصِّفَة على فِعَال، بالكَسر فإِنّه لا يُعْرَفُ.

والنِّقابُ، أَيضًا: مَا تَنْتَقِبُ به المَرْأَةُ، وهو القِنَاعُ على مارِنِ الأَنْف، قاله أَبو زيد. والجَمْعُ نُقُبٌ. وقد تَنَقَّبَتِ المرأَةُ، وانْتَقَبَتْ.

وفي التّهْذِيب: والنِّقابُ على وُجوه. قال الفَرّاءُ: إِذا أَدْنَتِ المرأَةُ نِقابَها إِلى عينها فتِلْكَ الوَصْوصَةُ، فإِنْ أَنزَلَتْهُ دُونَ ذلك إِلى المَحْجِرِ فهو النِّقَابُ، فإِنْ كان على طَرَفِ الأَنْفِ فهو اللِّفَامُ. وفي حديثِ ابْنِ سِيرِينَ: «النِّقَابُ مُحْدَثٌ» أَرادَ: أَنّ النِّسَاءَ ما كُنَّ يَنْتَقِبْن، أَي: يَخْتَمْرِنَ. قال أَبُو عُبَيْد: لَيْس هذا وجهُ الحديثِ، ولكِنَّ النِّقابَ عند العرب هو الذي يَبدو منه مَحْجِرُ العَينِ؛ ومعناه: أَنَّ إِبْداءَهُنَّ المَحاجِرَ مُحْدَثٌ، إِنّما كان النِّقابُ لاصِقًا بالعين، وكانت تَبدُو إِحدَى العينَيْنِ، والأُخْرَى مستورَةٌ. والنِّقابُ لا يَبْدُو منه إِلّا العينانِ. وكان اسمه عِنْدهُم الوَصْوَصَةَ، والبُرْقُعَ وكان من لِبَاسِ النّساءِ، ثمّ أَحْدَثْنَ النِّقَابَ [بَعْدُ].

والنِّقَابُ: الطَّرِيقُ في الغِلَظِ، قال:

وتَرَاهُنَّ شُزَّبًا كالسَّعَالِي *** يتَطَلَّعْنَ من ثُغُور النِّقَابِ

يكون جَمعًا، ويكون واحدًا، كالمِنْقَبِ، بالكسر، أَي: فيهما ولو لم يُصَرِّحْ. وقد تقدَّم بَيانٌ كُلٍّ منهما. وإِطلاقه على العالِم، ذكرَه ابْنُ الأَثِير والزَّمخْشَرِيُّ. وهو في ابْنِ عَبَّاس، لا في ابْنِ مَسعودٍ كما زَعمَه شيخُنا. وقد صرَّحْنَا آنفًا.

والنِّقَابُ: موضع قُرْبَ المدِينَةِ المُشْرَّفَةِ، على ساكِنها أَفضلُ الصَّلاةِ والسّلام، من أَعمالها، يَتشعبُ منه طَريقانِ إِلى وادي القُرَى ووادِي المِياهِ، ذكره أَبو الطَّيِّب فقال:

وأَمْسَتْ تُخَبِّرُنا بالنِّقَابِ *** ووادِي المِياهِ ووادِي القُرَى

كذا في المعجم.

ومن المَجَاز: النِّقَابُ: البَطْنُ، ومنه المثَلُ: فَرْخَانِ في نِقَاب، يُضْرَبُ لِلمُتَشابِهَيْن، أَورده في المُحْكم والخُلاصة.

ويقال: كانا في نِقَابٍ واحِدٍ: أَي كانا مِثْلَيْنِ ونَظِيرينِ. كذا في الأَساس.

ونَقَبَ في الأَرْضِ، بالتّخفيف: ذَهَبَ، كأَنْقَبَ رُبَاعِيًّا، قال ابْنُ الاعْرابيّ: أَنْقَب الرَّجُلُ: إِذا سار في البلادِ.

ونَقَّب، مُشَدَّدًا: إِذا سارَ في البلاد طَلَبًا للمهْرَب، كذا في الصَّحِاح وفي التنزيل العزيز: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} قالَ الفَرّاءُ: قرَأَهُ القُرّاءُ مُشَدَّدًا، يقولُ: خَرَقُوا البِلادَ، فسارُوا فيها طَلَبًا للمَهْرَبِ، فهل كان لهم مَحِيصٌ من الموت؟ [ومَن قرأَ فَنَقِّبوا بكسر القاف، فإِنه كالوعيد؛ أَي اذْهبُوا في البلاد وَجِيئُوا؟] وقال الزَّجّاجُ: فنَقِّبُوا: طَوِّفُوا وفَتِّشُوا. قال: وقرأَ الحَسَنُ بالتَّخْفِيف؛ قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

وقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ، حَتَّى *** رَضِيتُ من السَّلامةِ بالإِيابِ

أَي: ضَربْتُ في البلاد، وأَقبلْتُ، وأَدبرْتُ.

ونَقَّبَ عَنِ الأَخْبَارِ، وغيرِها: بَحَثَ عَنْها، وإِنّمَا قَيَّدْنا «غيرها» لئَلا يَردَ ما قالَهُ شيخُنَا: ليس الأَخبار بقيْد، بل هو البحث عن كُلِّ شيْ‌ءٍ والتَّفْتيشُ مطلقًا. أَو نَقَّبَ عن الأَخبار: أَخْبَرَ بِها. وفي الحديث: «إِنِّي لمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عن قُلُوب النّاس» أَي: أُفَتِّشَ، وأَكْشِفَ.

ونَقَّبَ الخُفَّ المَلبوسَ: رقَّعَهُ.

ونَقَبَتِ النَّكْبةُ فُلانًا، تَنْقُبُه، نَقْبًا: أَصَابتْهُ فبلَغَتْ منه، كنَكَبَتْه.

ونَقِبَ الخُفُّ، كَفَرِحَ، نَقَبًا: تَخَرَّقَ، وهو الخُفُّ الملبُوسُ.

ونَقِبَ خُفُّ البَعِيرِ: إِذا حَفِيَ حتى يَنْخَرقَ فِرْسِنُه، فهو نَقبٌ. أَو نَقِبَ البعيرُ، إِذا رَقَّتْ أَخْفَافُه، كَأَنْقَبَ.

والّذي في اللسان، وغيرِه: نَقِبَ خُفُّ البَعِيرِ إِذَا خَفِيَ، كأَنْقبَ؛ وأَنشد لِكُثيِّرِ عَزَّةَ:

وقد أَزْجُرُ العَرْجَاءَ أَنْقَبَ خُفُّها *** مَناسمُهَا لا يَسْتَبِلُّ رَثِيمُهَا

أَراد: ومناسِمُها، فحذفَ حرْفَ العَطْفِ. وفي حديثِ عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه «أَتاه أَعْرَابيّ فقال: إِنّي على ناقةٍ دَبْراءَ عَجْفاءَ نَقْباءَ، واسْتَحْمَلُه، فظَنَّهُ كاذِبًا، فلم يَحْمِلْهُ، فانْطَلَقَ وهو يقول:

أَقسَم باللهِ أَبو حَفْصٍ عُمَر *** ما مَسَّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ

أَراد بالنَّقَب هنا: رِقَّةَ الأَخْفَافِ، وفي حديث عليٍّ، رضي ‌الله‌ عنه: «ولْيَسْتَأْنِ بالنَّقِبِ والظَّالِعِ» أَي: يَرْفُق بهما.

ويجوزُ أَن يكون من الجَرَب. وفي حديثِ أَبِي موسى: «فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا» أَي: رَقَّتْ جُلُودُها، وتَنَفَّطَتْ من المشْيِ.

كذا في لسان العرب.

ونَقَّب في البِلادِ: سارَ، وهو قولُ ابْن الأَعْرابِيِّ، وقد تقدّم. ولا يَخْفَى أَنَّه أَغنَى عنه قولُهُ السّابق: ونَقَبَ في الأَرْض: ذَهب. لِرجوعِهما إِلى واحدٍ. ثُمَّ رأَيتُ شيخَنا أَشار إِلى ذلك أَيضًا.

ولَقِيتُهُ نِقَابًا، بالكسر: أَي مُوَاجَهَةً، أَو من غَيْرِ مِيعَادٍ، ولا اعتماد، كناقَبْتُهُ نِقَابًا، أَي: فَجْأَةً، ومَرَرْتُ على طريق فناقَبَنِي فيه فلانٌ نِقَابًا: أَي لَقِيَني على غيرِ مِيعَاد. وانتصابُهُ على المصدر، ويجوز على الحال، كذا في مَجمع الأَمثال.

ونَقَبْتُ الماءَ نَقْبًا، ونِقَابًا مثل التِقاطًا. هَجَمْتُ عَلَيْه، وورَدْتُ من غيرِ أَن أَشْعُرَ وقيلَ: وَردْتُ عَلَيْهِ من غَيْرِ طَلَب.. والمَنْقَبَةُ: المَفخَرَةُ، وهي ضِدُّ المَثْلَبَةِ. وفي اللّسان: المَنْقَبَةُ: كَرَمُ الفِعْلِ، وجَمعُها المَنَاقِبُ، يقال: إِنّه لَكَرِيمُ المَنَاقِبِ، من النَّجَدات، وغيرِهَا، وفي فلانِ مَناقِبُ جَمِيلَةٌ: أَي أَخلاقٌ حسَنَةٌ. وفي الأَساس: رجلٌ ذُو مَنَاقِبَ وهي المآثِرُ والمَخابِرُ.

والمَنْقَبَةُ: طَرِيقٌ ضَيِّقُ بين دارَيْنِ، لا يُستطاعُ سُلُوكُه.

وفي الحديث «لا شُفْعَةَ في فَحْلٍ ولا مَنْقَبَةٍ» فَسَّرُوا المَنْقَبَةَ الحائطِ وفي رواية: «لا شُفْعَةَ في فِنَاءٍ، ولا طَرِيقٍ، ولا مَنْقَبَةٍ» المَنْقَبَةُ هي الطَّرِيقُ بينِ الدّارَيْن، كأَنّه نُقِبَ من هذِه إِلى هذِه. وقيلَ: هِي الطَّرِيقُ الّتي تعلو أَنْشَازَ الأَرْضِ.

والأَنْقابُ: الآذانُ، لا يُعْرَفُ لها واحِدٌ، كذا في المُحْكَم وغيرِه، قال القُطامِيُّ:

كانتْ خُدُودُ هِجَانِهِنَّ مُمَالَةً *** أَنْقابُهنَّ إِلى حُدَاءِ السُّوَّقِ

ومنهم مَنْ تكلَّف وقال: الواحدُ نُقْبٌ، بالضَّمّ، مأْخوذ من الخَرْق، ويرْوى: أَنَقًا بِهنَّ، أَي: إِعجابًا بِهِنّ.

والنّاقِب، والنّاقِبةُ: دَاءٌ يَعْرِضُ للإِنسان من طُولِ الضَّجْعَةِ. وقيل: هي القُرْحةُ الّتي تَخْرجُ بالجَنْبِ.

ونُقَيْبٌ، كَزُبيْر: موضع بَيْنَ تَبُوكَ وَمَعَانَ في طريق الشّام على طريق الحاجّ الشّاميّ.

ونَقِيبٌ أَيضًا: شِعْبٌ من أَجَإِ، قال حاتِم:

وسالَ الأَعَالي مِنْ نَقِيبٍ وَثَرْمَدٍ *** وَبَلِّغْ أُنَاسًا أَنّ وَقْرَانَ سَائِلُ

وَنَقَبَانةُ، محرَّكَةً، ماءَةٌ بِأَجَإِ أَحَدِ جَبَلَيْ طَيّئٍ، وهي لِسِنْبِسٍ منهم.

والمَنَاقِبُ: جَبَلٌ مُعْتَرِضٌ، قالوا: وسُمِّي بذلك لِأَنّه فيه ثَنَايَا وطُرُقٌ إِلى اليَمَامَةِ واليَمَنِ وغيرِها، كأَعَالِي نَجْدٍ والطّائف، ففيه ثلاثةُ مَناقبَ، وهي عِقَابٌ، يقالُ لإِحْداهَا الزَلّالةُ، وللأُخْرَى قِبْرَيْن، وللأُخْرَى: البيضاءُ. قال أَبو جُؤَيَّةَ عائذُ بْنُ جُؤَيَّةَ النَّصْرِيُّ:

أَلا أَيُّها الرَّكبُ المُخِبُّونَ هلْ لَكُمْ *** بأَهْلِ العقِيقٍ والمناقِبِ مِنْ عِلْمِ

وقال عَوْفُ بن عبدِ الله النصْرِيّ:

نهارًا وإِدْلاجَ الظَّلامِ كأَنَّه *** أَبو مُدْلِجٍ حتَّى تَحُلُّوا المنَاقِبَا

وقال أَبو جُنْدَب الهُذَليّ أَخو أَبي خِرَاش:

وحيٌّ بالمَناقِبِ قد حَمَوْها *** لَدَى قُرَّانَ حتَّى بَطْنِ ضِيمِ

فإِذا عَرَفْتَ ذلك، ظَهر أَنَّ قولَ المُصَنِّف فيما بعدُ:

والمناقِبُ: اسْم طَريق الطّائفِ من مكَّةَ المشرَّفة حَرَسَها اللهُ تعالَى، تَكرارٌ معَ ما قبلَهُ.

وأَنْقَبَ الرجلُ: صارَ حاجِبًا، أَو أَنْقبَ، إِذا صار نَقِيبًا، كذا في اللسان وغيرِهِ.

وأَنْقَبَ فُلانٌ، إِذا نَقِبَ بَعِيرُهُ. وفي حديثِ عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه، قال لامرأَةٍ حاجَّة: «أَنْقَبْتِ، وأَدْبَرْتِ»، أَي: نَقِب بَعِيرُكَ، ودَبِرَ. وقد تقدَّمَ ما يتعلَّقُ به.

* ومِمَّا يُستدركُ عليه: نَقْبُ العيْنِ: هو القَدْحُ، بلسانِ الأَطِبّاءِ، وهو مُعَالَجَةُ الماءِ الأَسودِ الّذِي يَحْدُثُ في العينِ. وأَصلُهُ من نَقْبِ البيْطَارِ حافر الدّابَّةِ، لِيَخْرُجَ منه ما دَخَل فيه. قاله ابْنُ الأَثيرِ في تفسيرِ حدِيثِ أَبي بكر، رضي ‌الله‌ عنه: «أَنَّه اشْتَكَى عيْنَهُ، فكَرِه أَن يَنْقُبَها».

وفي التَّهْذِيب: إِنَّ عليه نُقْبَةً؛ أَي أَثرًا، ونُقْبَةُ كُلِّ شَي‌ءٍ: أَثَرُهُ وهَيْئَتُهُ.

وقال ابْنُ الأَعْرَابيّ: فُلانٌ ميمونُ النَّقِيبَةِ، والنَّقِيمةِ: أَي اللَّونِ. ومنه سُمِّيَ نِقَابُ المَرْأَةِ؛ لأَنَّهُ يَسْتُرُ لَونَها بلَونِ النِّقابِ.

ونَقْبُ ضاحِك: طَريقٌ يُصْعِدُ في عارضِ اليَمَامةِ؛ وإِيّاهُ، فيما أَرى، عَنَى الرّاعِي:

يُسَوِّقُهَا تِرْعِيَّةٌ ذو عباءَةٍ *** بما بَيْنَ نَقْبٍ فالحَبِيسِ فأَفْرَعا

ونَقْبُ عازِبٍ: موضعٌ، بينَه وبين بيتِ المَقْدسِ مسِيرَةُ يوم للفارِس من جِهةِ البَرِّيَّةِ، بينَهَا وبين التِّيهِ.

وجاءَ في الحديث؛ «أَنَّ النَّبِيَّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، لَمّا أَتَى النَّقْبَ» [وفي حديث آخر: حتى إِذا كان بالشعب] قال الأَزْرقيُّ: هو الشِّعْبُ الكبيرُ الّذي بينَ مَأْزِمَيْ عَرفَةَ عن يَسَار المُقْبِلِ من عَرَفَةَ، يُرِيد المُزْدَلِفَةَ ممّا يَلِي نَمِرَةَ.

وقال ابْنُ إِسحاقَ: وخرج النَّبيّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، في سنة اثنتينِ للهجرة، فسلَكَ على نَقْبِ بَني دِينارٍ، من بني النَّجَار، ثُمَّ على فَيْفَاءِ الخَبَارِ.

ونَقْب المُنَقَّى بَيْن مَكَّةَ والطّائفِ، في شعر محمّد بْنِ عبدِ اللهِ النُّميْريّ:

أَهاجَتْكَ الظَّعائِنُ يَوْمَ بانُوا *** بِذِي الزِيِّ الجَمِيلِ من الأَثاثِ

ظَعائِنُ أُسْلِكَتْ نَقْبَ المُنَقَّى *** تُحَثُّ إِذا ونَتْ أَيَّ احتِثاث

ونَقْبُونُ: قريةٌ من قُرَى بُخَارَى، كذا في المُعْجَم.

ونيقب: موضعٌ، عن العِمرانيّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


37-تاج العروس (عزف)

[عزف]: عَزَفَتْ نَفْسِي عنه تَعْزِفُ بالكسرِ وتَعْزُفُ بالضمِّ، عَزْفًا، وعُزُوفًا: تَرَكَتْه بعدَ إِعْجابِها به.

وزَهِدَتْ فِيه، وانْصَرَفَتْ عنه وقِيلَ: سَلَتْ.

أو عَزَفَتْ: مَلَّتْهُ وهذه عن ابنِ دُرَيْدٍ.

أو صَدَّتْ عنهُ فهو عَزُوفٌ عنه: أي عن الأَمرِ، إذا أَباهُ، وَأَنْشَدَ اللَّيْثُ:

أَلَم تَعْلَمِي أَنِّي عَزُوفٌ عن الهَوَى *** إذا صاحِبِي في غَيْرِ شَي‌ءٍ تَعَصَّبَا

وَأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ للفَرَزْدَقِ يُخاطب نفسَه:

عَزَفْتَ بأَعْشاشٍ وما كِدْتَ تَعْزِفُ *** وَأَنْكَرْتَ من حَدْراءَ ما كُنْتَ تَعْرِفُ

وَقد تَقَدَّم البَحْثُ فيهِ في: «عشش» وفي «حدر».

والعَزْفُ، والعَزِيفُ: صوتُ الجِنِّ، وهو جَرْسٌ يُسْمَعُ في المَفاوِزِ باللَّيْلِ.

وَقِيلَ: هو صَوْتٌ يُسمَعُ باللَّيْلِ كالطَّبْلِ.

وَقِيلَ: هو صَوْتُ الرِّياح في الجَوِّ، فتَوَهَّمَه أَهلُ البادِيَةِ صَوْتَ الجِنِّ، وفيه يَقُولُ قائِلُهم:

وإِنِّي لأَجْتابُ الفَلاةَ وبَيْنَها *** عوازِفُ جِنّانٍ وهامٌ صَواخِدُ

وَقد عَزَفَت الجِنُّ تَعَزِفُ عَزْفًا، وعَزِيفًا، ومن حديثِ ابنِ عبّاسٍ: «كانَت الجِنُّ تَعْزِفُ اللَّيْلَ كُلَّه بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ».

والعَزّافُ كشَدّادٍ: سَحابٌ يُسْمَعُ فيه عَزِيفُ الرَّعْدِ وهو دَوِيُّهُ، قال جَنْدَلُ بنُ المُثَنَّى يَدْعُو على رَجُلٍ:

يا رَبَّ رَبَّ المُسْلِمِينَ بالسُّوَرْ *** لا تَسْقِه صَيِّبَ عَزّافٍ جُؤَرْ

ذِي كِرْفِئٍ وذي عِفاءٍ مُنْهَمِرْ

هكَذا أَورَدَه الأَصْمَعِيُّ والفارِسيُّ، وروايةُ ابنِ السّكِّيتِ «غَرّاف» بالغين معجمة.

والعَزّافُ: رَمْلٌ لبَنِي سَعْدٍ صفةٌ غالبةً، مشتَقَّةٌ من عَزِيفِ الجنِّ.

أَو جَبَلٌ بالدَّهْناءِ قال السُّكَّرِيُّ: على اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا مِنَ المَدِينَةِ قيل: سُمِّيَ به لأَنّه كانَ يُسْمَعُ به عَزِيفُ الجِنِّ وهو يسْرَةَ طَرِيقِ الكُوفَةِ من زَرُودَ، قال جرِيرٌ:

بين المُخَيْصِرِ فَالعَزّافِ منْزِلةً *** كالوَحْيِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى في القَراطِيسِ

وَفي الصِّحاحِ: ويُقال: أَبْرقُ العَزّافِ، وهو قَرِيبٌ من زرُودَ.

وفي العُبابِ: ويُقال: أَبْرَقُ العزّافِ: ماءٌ لبَنِي أَسَد بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ مَشْهُورٌ، له ذِكْرٌ في أَخبارِهِمْ وهو في طَرِيقِ القاصِدِ إلى المَدِينةِ من البَصْرَةِ يُجاءُ مِنْ حَوْمانَةِ الدَّرّاجِ إِليهِ، ومنه إلى بَطْنِ نَخْلٍ، ثُم الطَّرْفِ، ثُم المَدِينَةِ وَمِثْلُه في المُعْجَم، قال الشاعِرُ:

لِمَن الدِّيارُ بأَبْرَقِ العَزّافِ *** أَضْحَت تَجُرُّ بِهَا الذُّيُولَ سوافِ

وَقالَ ابنُ كَيْساني: أَنْشَدَنِي المَبرِّدُ لرَجُلٍ يَهْجُو بنِي سَعِيدِ ابنِ قُتَيْبةَ البِاهِليِّ:

وَكأَنَّنِي لمّا حَطَطْتُ إِليهِمُ *** رَحْلِي نَزَلْتُ بأَبْرَقِ العَزّافِ

وعَزْفُ الرِّياحِ: أَصْواتُها نقله الجوهرِيُّ.

والمَعازِفُ: المَلاهِي التي يُضْرَبُ بها، كالعُودِ وَالطُّنْبُورِ والدُّفِّ، وغَيْرِها، وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «إذا سَمِعْنَ صَوْتَ المَعازِفِ أَيْقَنَّ أَنّهُنَّ هَوالِكُ» الواحِدُ عُزْفٌ على غيرِ قِياسٍ، ونَظِيرُه مَلامِحُ ومَشابِهُ في جمعِ لَمْحَةٍ وَشَبَهٍ أَو مِعْزَف، كمِنْبَرٍ، ومِكْنَسَةٍ قِيلَ: إذا أُفْرِدَ المِعْزَفُ فهو ضَرْبٌ من الطّنابِيرِ، وتتَّخِذُه أَهْلُ اليَمَن، قلتُ: وهو المُسَمَّى بالقبوس الآن، وغيرُهم يَجْعلُ العُودَ مِعْزَفًا.

والعازِفُ: اللّاعِبُ بِها.

وأَيضًا: المُغَنِّي وقد عَزَف عَزْفًا.

وعازِف: موضع، سُمِّيَ بِهِ لأَنَّه تَعْزِفُ بِهِ الجِنُّ قال ذُو الرُّمَّةِ:

وَعَيْناءَ مِبْهاجٍ كأَنّ إِزارَها *** على واضِحِ الأَعْطافِ مِنْ رَمْلِ عازِفِ

وقال ابنُ الأَعرابِيِّ: عَزَفَ يَعْزِفُ عَزْفًا: إذا أَقامَ في الأَكْلِ والشُّرْبِ.

وقال ابنُ عَبّادٍ: عَزَفَ البَعِيرُ: إذا نَزَتْ حَنْجَرَتُه عندَ المَوْتِ قلتُ: وكأَنَّه لغةٌ في عَسَفَ بالسين، كما سَيَأتِي.

والعُزْفُ، بالضَّمِّ: الحَمامُ الطُّورانِيَّةُ وهي الّتِي لها صَوْتٌ وهَدِيرٌ، وبه فُسِّرَ قولُ الشَّمّاخِ:

حَتّى اسْتَغاثَ بأَحْوَى فَوْقَه حُبُكٌ *** يَدْعُو هَدِيلًا بِهِ العُزْفُ العَزاهِيلُ

وقال ابنُ الأَعرابِيِّ: أَعْزَفَ: سَمعَ عَزِيفَ الرِّمالِ زادَ غيرُه: والرِّياح وهو ما يُسْمَعُ من دَوِيِّها، وأما عَزِيفُ الرِّمالِ فهو صَوْتٌ فيه لا يُدْرَى ما هُو، وقيل: هو وُقُوعُ بعضِه على بعضٍ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

العَزْفُ: الطَّرْقُ والضَّرْبُ بالدُّفُوفِ، ومنه حدِيثُ عُمَر: «أَنَّه مَرَّ بعَزْفِ دُفٍّ، فقَالَ: ما هَذا؟ قالُوا: خِتانٌ، فَسَكَتَ» وَقال الرّاجِزُ:

للخَوْتَعِ الأَزْرَقِ فِيها صاهِلْ *** عَزْفٌ كعَزْفِ الدُّفِّ والجَلاجِلْ

وَكُلُّ لَعِبٍ عَزْفٌ.

وَتَعازَفُوا: أي تَناشَدُوا الأَراجِيزَ، أو هَجَا بَعْضُهم بَعْضًا، وَقِيلَ: تَفاخَرُوا.

وَرَجُلٌ عَزُوفٌ عن اللهْوِ: إذا لم يَشْتَهِه، وعن النِّساءِ: إذا لم يَصْبُ إِلَيْهِنَّ.

وَعَزَفَت القَوْسُ عَزْفًا، وعَزِيفًا: صَوَّتَتْ، عن أَبِي حَنِيفَةَ.

وَرَمْلٌ عازِفٌ وعَزّافٌ: مُصَوِّتٌ.

وَمَطَرٌ عَزّافٌ: مُجَلْجِلٌ.

وَعَزَفَ نَفْسَه عَنْ كذا: مَنَعَها عنه.

وَقَوْلُ أُمَيَّةَ بنِ أَبِي عائِذٍ:

وَقِدْمًا تَعَلَّقْتُ أُمَّ الصَّبِيْ *** يِ مِنِّي عَلَى عُزُفٍ واكْتِهالِ

أَرادَ عَلَى عُزُوفٍ، فحَذَفَ.

وَالعَزُوفُ، كصَبُورٍ: الَّذِي لا يكادُ يثْبُتُ على خُلَّةٍ.

وَاعْزَوْزَفَ للشَّرِّ: تَهَيَّأَ، عن اللِّحْيانِيِّ وقد سَمَّوْا عازِفًا، وَعُزَيْفًا، كزُبيْرٍ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


38-تاج العروس (برق)

[برق]: البَرْقُ: فَرَسُ ابن العَرَقَة قاله أَبو النَّدَى.

والبَرْقُ: واحدُ بُروقِ السَّحاب وهو الذي يَلْمَع في الغَيْمِ، جمعُه بُرُوقٌ.

أَو هو: ضَرْبُ مَلَكِ السَّحابِ، وتَحْرِيكُه إِيَّاه ليَنْساقَ، فتُرَى النِّيرانُ نَقَل ذلِك عن مُجاهِدٍ، والذي رُوِيَ عن ابن عَبّاسٍ: أَنَّه سَوْطٌ من نُورٍ يَزْجُر به المَلَكُ السَّحابَ.

وبَرَقَت السَّماءُ تَبْرُقُ، بَرْقًا، وبُرُوقًا بالضمِّ وبَرَقَانًا محرَّكَةً، وهذِه عن الأَصْمَعيِّ: لَمَعَتْ، أَو جاءَت بَبَرْقٍ.

وبَرَقَ البَرْقُ: إِذا بَدَا.

ومن المجاز: بَرَقَ الرَّجُلُ ورَعَدَ: إِذا تَهَدَّدَ وتَوعَّدَ، كأَبْرَقَ قال ابنُ أَحمرَ:

يا جَلَّ ما بَعُدَتْ عليكَ بلادُنا *** وطِلابُنا فابْرُقْ بأَرْضِكَ وارْعُدِ

كأَنّه أَراه مَخِيلَةَ الأَذَى، كما يُرِي البَرْقُ مَخِيلةَ المَطَرِ. وكان الأَصْمَعيُّ يُنْكِر أَبْرَقَ وأَرْعَدَ، ولم يكُ يَرَى ذَا الرُّمَّةِ حُجَّةً، يُشِيرُ بذلِك إِلى قولِه:

إِذا خَشِيَتْ منه الصَّريمَةَ أَبْرَقَتْ *** له بَرْقَةً مِن خُلَّبٍ غيرِ ماطِرِ

وكذلك أَنْشدَ بيتَ الكُمَيْتِ:

أَبْرِقْ وأَرْعِدْ يا يَزي *** دُ فما وَعِيدُكَ لي بضائِرْ

فقال: هو جُرْمُقانيُّ، إِنّما الحُجَّةُ قولُ عَمْرِو بن أَحْمَرَ الباهليِّ:

يا جَلَّ ما بَعُدَتْ عليكَ بلادُنا *** وطِلابُنا فابْرُقْ بأَرضِكَ وارْعُدِ

وقد تقدَّم البحثُ في ذلِك في «ر موضع د».

وبَرَقَ الشي‌ءُ كالسَّيْفِ، وغيرِه، يَبْرُق بَرْقًا، وبَرِيقًا، وبَرَقانًا الأَخِيرة مُحرَّكَة: لَمَعَ وتَلأْلَأَ، وفي الصِّحاح: بَرَق السيفُ وغيرُه يَبْرُقُ بُروقًا، أَي: تَلأْلَأَ، والاسمُ البَرِيقُ.

وبَرَقَ طَعامَه بزَيْتٍ، أَو سَمْنٍ بَرْقًا: جَعَلَ فيه مِنْه قَلِيلًا ولم يُسَغْسِغْهُ، أَي: لم يُكْثِرْ دُهْنَه، وهي التَّبارِيقُ.

ويُقال: لا أَفْعَلُه ما بَرَقَ النَّجْمُ في السَّماءِ، أَي: ما طَلَعَ عن اللِّحْيانيَّ.

ومن المَجاز: رَعَدَت المَرْأَةُ رَعْدًا، وبَرَقَت بَرْقًا. إِذا تَعَرَّضَت وتَحَسَّنَتْ وقيل: أَظْهَرَتْه على عَمْدٍ وفي الصِّحاحِ: تَزَيَّنَتْ، كبَرَّقَتْ تَبْريقًا، وهذِه عن اللِّحْيانيِّ، ومنه قولُ رُؤْبَةَ.

يَخْدَعْنَ بالتَّبْرِيقِ والتَّأَنُّثِ

وبَرَقَت النّاقَةُ فهي بارِقٌ: تَشَذَّرَت بذَنَبِها من غيرِ لَقْحٍ، عن ابن الأَعْرابِيِّ، وقال اللِّحْيانيُّ: هو إِذا شالَتْ بذَنَبِها وتَلَقَّحَتْ وليسَتْ بلاقِحٍ.

كأَبْرَقَت فِيهمَا أَي: في المَرْأَةِ والنّاقَةِ، يُقال: أَبْرَقَت المرأَةُ بوَجْهِها وسائِرِ جِسْمِها، وأَبْرَقَت الناقة بذَنَبِها فهي بَرُوقٌ وهذِه شاذَّةٌ، ومُبْرِقٌ على القِياسِ مِن نُوقٍ مَبارِيقَ: شالَتْ به عندَ اللِّقاحِ، وتقولُ العَرَب: دَعْنِي من تَكْذابِكَ وتَأْثامِكَ شَوَلانَ البَرُوقِ، نَصَبَ شَوَلان على المَصْدرِ، أَي: إِنَّك بمَنْزِلَةِ النّاقَةِ التي تَبْرِقُ بذَنَبِها، أَي: تَشُولُ به، فتُوهِمُك أَنَّها لاقِحٌ، وهي غيرُ لاقِحٍ، وجمعُ البَرُوقِ: بُرْقٌ بالضم، ومنه قولُ ابنِ الأَعرابيِّ وقد ذَكَر شَهْرَزُورَ ـ: «قَبَّحَها اللهُ! إِنّ رِجالَها لنُزْقٌ، وإِنّ عَقارِبَها لبُرْقٌ» أَي: أَنَّها تَشُولُ بأَذْنابِها، كما تَشُولُ الناقةُ البَرُوق.

وبَرَقَ بَصَرُه: تلَأْلأَ ومنه حَدِيثُ الدُّعاءِ: «إِذا بَرَقَت الأَبْصارُ» أَي: لَمَعَت، هذا على الفَتْحِ، وإِذا كَسَرْتَ الراءَ فبمَعْنَى الحَيْرَةِ.

و {بَرِقَ الْبَصَرُ} كفَرِحَ وعليه اقتَصَر الجَوْهريُّ، قال الفَرّاء: وهي قراءَةُ عاصِمٍ وأَهْلِ المَدِينة في قَوْلِه تَعالى: {فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ} ومثل نَصَرَ أَيضًا، قال الجوهريُّ: يعنِي بَرِيقَه إِذا شَخَصَ، قال الفَرّاءُ: فَقَرَأَها نافعٌ وحدَه من البَرِيقِ، أَي: شَخَص، وقالَ غيرُه: أَي فَتَح عَيْنَه من الفَزَعِ. قلتُ: وقَرأَها أَيضًا أَبو جَعْفَرٍ هكذا.

بَرْقًا ظاهِرُه أَنَّه بالفَتْحِ، والصوابُ أَنّه بالتَّحْرِيكِ، وبُرُوقًا كقُعُودٍ، وهذِه عن اللِّحْيانِيِّ، ففيه لَفُّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، أَي: تَحَيَّرَ حَتَّى لا يَطْرفَ كما في الصِّحاحِ، أَو دَهِشَ فلَمْ يُبْصِرْ وأَنْشَدُوا لِذِي الرُّمَّةِ:

ولو أَنَّ لُقمانَ الحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ *** لعَيْنَيْهِ مَيٌّ سافِرًا كادَ يَبْرَقُ

أَي: يَتَحَيَّرُ، أَو يَدْهَش.

وأَنشدَ الفَرّاءُ شاهِدًا لمَنْ قَرأَ بَرِقَ ـ بالكسرِ بمعنى فَزعَ ـ قولَ طَرَفَةَ:

فنَفْسَكَ فانْعَ ولا تَنْعَنِي *** وداوِ الكُلُومَ ولا تَبْرَقِ

يَقُول: لا تَفْزَعْ من هَوْلِ الجِراحِ التي بِكَ.

وقال الأَصمَعِيُّ: بَرَقَ السِّقاءُ يَبْرُقُ بَرْقًا، وذلِك إِذَا أَصابَه الحَرُّ، فذابَ زُبْدُه، وتَقَطَّعَ فلم يَجْتَمعْ، ويُقال: سِقاءٌ بَرِقُ، ككَتِفٍ كذا في العُبابِ، والَّذِي في اللِّسانِ: بَرَق السِّقاءُ بَرْقًا وبُروقًا، فهذا يدُلُّ على أَنَّه من بابِ نَصَرَ، وقَوْلُهم: سِقاءٌ بَرِقٌ، يَدُلُّ على أَنَّه من بابِ فَرِحَ.

وبَرِقَت الإِبِلُ والغَنَمُ، كفَرِحَ تَبْرَقُ بَرَقًا: إِذا اشْتَكَتْ بُطونَها مِنْ أَكْلِ البَرْوَقِ وسيأْتي البَرْوقَ قريبًا.

والبُرْقانُ، بالضّمِّ: الرَّجُل البَرَّاقُ البَدَنِ.

والبُرْقانُ: الجَرادُ المُتَلَوِّنُ ببياضٍ وسَوادٍ الواحِدَةُ بُرْقانَةٌ وقد خالَفَ هنا اصْطِلاحَه سَهْوًا.

وبِرْقانُ بالكسرِ: قرية، بخَوارَزْمَ قال ياقُوت في المُعْجَم: بَرْقان، بفتح أَوّلِه، وبعضُهم يكْسِرُه: من قُرى كاث شَرْقيَّ جَيْحُونَ على شاطِئِه، بينَها وبينَ الجُرْجانِيَّةِ ـ مدينةِ خُوارَزْمَ ـ يَومان، وقد خَرِبَتْ بَرْقانُ، ونُسِبَ إِليها الحافِظُ أَبو بكرٍ أَحمدُ بنُ محمَّدِ بنِ غالِبٍ الخُوارَزْمِيُّ البَرْقانِيُّ، استَوْطَنَ بَغدادَ، وكتَبَ عنه أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ، وكانَ ثِقَةً ورِعًا، تُوفِّيَ سنة 425.

وبَرْقانُ أَيْضًا: قرية، بجُرْجانَ نُسِب إِليها حَمْزَةُ بنُ يوسفَ السَّهْمِيُّ، وبَعْضُ الرُّواةِ، قال ياقوت: ولستُ منها على ثِقَةٍ.

ويُقال: جاءَ عِنْدَ مَبْرَقِ الصُّبْحِ، كمَقْعَدٍ أَي: حينَ بَرَقَ وتَلَأْلَأَ، مصدرٌ ميمِيٌّ.

وبَرَقَ نَحْرُه: لَقَبُ رَجُلٍ كَتأَبَّطَ شَرًّا، ونَحْوِه.

وذُو البَرْقَةِ: لقبُ أَميرِ المُؤْمنينَ عَلِيّ بنِ أَبي طالِب ـ رضِيَ الله تَعالَى عنه ـ لقَّبَه به عَمُّه العَبّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ رضيَ اللهُ تَعالَى عنه يومَ حُنَيْنٍ.

والبَرْقَةُ: الدَّهْشَةُ والحَيْرةُ.

و: قرية، بقُمَّ.

و: قرية، تُجاهَ واسِطِ القَصَبِ.

و: قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ بنواحِي دُوانَ.

وبَرْقَةُ: إِقْلِيمٌ مُشتَمِلٌ على قُرًى ومُدُنٍ أَو ناحِيَةٌ بينَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ وإِفْرِيقِيَّةَ مَدِينَتُها أَنْطابُلُسُ، وبينَ الإِسكَنْدَرِيَّةِ وبَرْقَةَ مَسِيرةُ شَهْرٍ، وهي مِمّا افْتُتِحَ صُلْحًا، صالَحَهُم عَلَيها عَمْرُو بنُ العاصِ، وقد نُسِبَ إِليها جَماعةٌ من أَهلِ العِلْمِ.

وكجُهَيْنَةَ اسمٌ للعَنْزِ تُدْعَى به للحَلَبِ وذُو بارِقٍ الهَمْدانِيُّ جَعْوَنَةُ بنُ مالِكٍ والبارِقُ سَحابٌ ذُوا بَرْقٍ وع بالكُوفَةِ ولَقَبُ سَعْدِ بنِ عَدِيٍّ أَبِي قَبِيلَةٍ باليَمَنِ.

ومن المَجَازِ: البارِقَةَ: السُّيُوفُ سُمِّيَتْ لبَرِيقِها، ومنه حَدِيثُ عَمّارٍ: «الجَنَّةُ تَحْتَ البارِقَةِ» وهو مُقْتَبَسٌ من قولِه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ».

وقالَ اللِّحْيانِيُّ: رَأَيْتُ البارِقةَ، أَي: بَرِيقَ السِّلاحِ.

والبَرْوَقُ، كجَرْوَلٍ: شُجَيْرَةٌ ضَعِيفةٌ إِذا غامَتِ السَّماءُ اخْضَرَّتْ قالهُ ابنُ حَبِيبٍ، الواحدةُ بهاءٍ، ومنه قولُهم: «أَشْكَرُ من بَرْوَقَةٍ» وكَذا: «أَضْعَفُ مِنْ بَرْوَقَةٍ» قال أَبُو حَنِيفَةَ: وأَخْبَرَنِي أَعْرابِيُّ أَنَّ البَرْوَقَ نبتٌ ضَعِيفٌ رَيّان، له خِطَرَةٌ دِقاقٌ في رُؤُوسِها قَماعِيلُ صِغارٌ مثلُ الحِمَّصِ، فيها حَبُّ أَسودُ، قال: ومِن ضَعْفِها إِذا حَمِيَتْ عليها الشَّمْسُ ذَبُلَت على المَكانِ، قالَ: ولا يَرْعاها شَيْ‌ءٌ، غير أَنَّ الناسَ إِذا أَسْنَتُوا سَلَقُوها، ثم عَصَرُوها من عَلْقَمَةٍ فيها، ثم عالَجُوها مع الهَبِيدِ أَو غَيْرِه، وأَكَلُوها، ولا تُؤْكَلُ وَحْدَها لأَنَّها تُورِثُ التَّهَيُّجَ، قالَ: وهي ممّا يُمْرِعُ في الجَدْبِ، ويَقِلُّ في الخِصْبِ، فإِذا أَصابَها المَطرُ الغَزِيرُ هَلَكَت، قال: وإِذا رَأَيناها قد كَثُرتْ وخَشُنَت خِفْنا السَّنَةَ.

وقال غَيرُه من الأَعْراب: البَرْوَقَةُ: بقلةُ سَوْءٍ، تَنْبُتُ في أَوّلِ البَقْلِ، لها قَصَبَةٌ مثلُ السِّياطِ، وثَمَرةٌ سوداءُ.

وفي ضَعْفِ البَرْوَقِ قالَ الشّاعِرُ:

تَطِيحُ أَكُفُّ القومِ فيها كأَنَّما *** يَطِيحُ بها في الرَّوعِ عِيدانُ بَرْوَقِ

ويَقُولون أَيضًا: «أَشْكَرُ مِنْ بَرْوَقٍ» لأَنه يَعِيشُ بأَدْنَى نَدًى يَقعُ من السَّماءِ، وقيل: لأَنّه يَخْضَرُّ إِذا رَأَى السَّحابَ.

والبَرْواقُ، بزِيادَةِ أَلِفٍ: نَباتٌ يُعْرَفُ بالخُنْثَى، وأَكْلُ ساقِه الغَضِّ مَسْلُوقًا بزيتٍ وخَلٍّ تِرْياقُ اليَرَقانِ، وأَصلُه يُطْلَى به البَهَقانِ فُيزِيلُهُما.

والإِبْرِيقُ: إِناءٌ مَعْرُوفٌ، فارِسِيٌّ مُعَرَّب: آبْ رِي قال ابنُ بَرِّيّ: شاهِدُه قولُ عَدِيِّ بنِ زَيْدٍ:

ودعَا بالصَّبُوحِ يَوْمًا فقامَتْ *** قَيْنَةٌ في يَمِينِها إِبْرِيقُ

وقال كُراع: هو الكُوز، وقالَ أَبو حَنِيفَةَ مَرَّةً: هو الكُوزُ، وقال مرَّةً: هو مِثْلُ الكُوزِ، وهو في كُلِّ ذلك فارِسِيٌّ ج: أَبارِيقُ وفي التَّنْزِيلِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ} وأَنْشدَ أَبُو حَنِيفَةَ لشُبْرُمَةَ الضَّبِّيّ:

كأَنَّ أَبارِيقَ الشَّمُولِ عَشِيَّةً *** إِوَزٌّ بأَعْلَى الطَّفِّ عُوجُ الحَناجِرِ

والعَرَبُ تُشَبِّهُ أَبارِيقَ الخَمْرِ برِقابِ طَيْرِ الماءِ، قال أَبو الهِنْدِيّ:

مُفَدَّمَةٌ قَزًّا كأَنَّ رِقابَها *** رِقابُ بَناتِ الماءِ تَفْزَعُ للرَّعْدِ

وقالَ عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ:

بأَبارِيقَ شِبْهِ أَعْناقِ طَيْرِ الْم *** اءِ قَدْ جِيبَ فَوْقَهُنَّ خَنِيفُ

ويُشَبِّهُونَ الأَبارِيقَ أَيضًا بالظَّبْيِ، قال عَلْقَمةُ بنُ عَبَدَةَ:

كأَنَّ إِبْرِيقَهُم ظَبْيٌ على شَرَفٍ *** مُفَدَّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مَلْثُومُ

وقالَ آخرُ:

كأَنَّ أَبارِيقَ المُدامِ لَدَيْهِمُ *** ظِباءٌ بأَعْلَى الرَّقْمَتَيْنِ قِيامُ

وشَبَّه بعضُ بني أَسَدٍ أُذُنَ الكُوزِ بياء «حُطِّي» فقالَ أَبو الهِنْدِيّ اليَرْبُوعِيُّ:

وصُبِّي فِي أُبَيْرِيقٍ مَلِيحٍ *** كأَنَّ الأُذْنَ مِنْهُ رَجْعُ حُطِّي

والإِبْرِيقُ أَيضًا: السَّيْفُ البَرّاقُ أَي: الشَّديدُ البَرِيقِ، عن كُراع، وقال غيرُه: سَيْفٌ إِبْرِيقٌ: كَثِيرُ اللَّمَعانِ والماءِ.

والإِبْرِيقُ في قَوْلِ عَمْرِو بنِ أَحْمَرَ:

تَقَلَّدْتَ إِبْرِيقًا، وأَظْهَرْت جَعْبَةً *** لتُهْلِكَ حَيًّا ذا زُهاءٍ وجامِلِ

قِيلَ: هي القَوْسُ فِيها تلامِيعُ هكَذا ذَكَرَه الأَزْهَرِيُّ، قالَ الصاغانِيُّ: والصَّوابُ أَنّه السَّيفُ البَرّاقُ.

والإِبْرِيقُ: المَرْأَةُ الحَسْناءُ البَرّاقَةُ اللَّوْنِ، قاله اللِّحْيانِيُّ، وقِيلَ: هي التي تُظْهِرُ حُسْنَها على عَمْدٍ.

والأَبْرَقُ: غِلَظٌ فيه حِجارَةٌ ورَمْلٌ وطِينٌ مُخْتَلِطَةٌ، ج: أَبارِقُ كَسَّرَه تَكْسِيرَ الأَسْماءِ لغَلَبَتِه.

كالبَرْقاءِ، ج: بَرْقاواتٌ هذا قولُ الأَصْمَعِيِّ وابنِ الأَعرابِيِّ.

والأَبْرَقُ: جَبَلٌ فيه لَوْنان من سَوادٍ وبَياضٍ.

وقال ابنُ الأَعْرابِيِّ: الأَبْرَقُ: الجَبَل مَخْلُوطًا برَمْلِ، وهي البُرْقَةُ، وفي العُباب والصِّحاح: الأَبْرَقُ: الجَبْلُ الّذِي فيه لَونان، ومنه الحَدِيث: «انَّه رأَى رَجُلًا مُحْتَجِزًا بحَبْلٍ أَبْرَقَ وهو مُحْرِمٌ، فقالَ: وَيْحَكَ أَلْقِه، وَيْحَكَ أَلْقِه، مَرَّتينِ». أَو كُلُّ شَيْ‌ءٍ اجْتَمَع فيه سَوادٌ وبَياضٌ فهُوَ أَبْرَقُ، يُقالُ: تَيْسٌ أَبْرَقُ، وعَنْزٌ بَرْقاءُ وقالَ اللِّحْيانيُّ: من الغَنَمِ أَبْرَقُ، وبَرْقاءُ للأُنْثَى، وهو من الدَّوابِّ أَبْلَقُ وبَلْقاءُ، ومن الكِلابِ أَبْقعُ وبَقْعاءُ.

والأَبْرَقُ: دَواءٌ فارِسِيٌّ جَيِّدٌ للحِفْظِ نَقَلَهُ الصّاغانِيُّ.

والأَبْرقُ: طائرٌ كما في التَّكْمِلة.

وأَبْرقَا زِيادٍ: تَثْنِيةُ أَبْرَقَ، وزيادٌ: اسمُ رَجُلٍ: موضع جاءَ في رَجزِ العَجّاجِ:

عَرَفْتُ بينَ أَبْرَقَيْ زِيادِ *** مَغانِيًا كالوَشْيِ في الأَبْرادِ

والأَبْرقانِ، إِذا ثَنَّوْا، فالمُرادُ به غالبًا: أَبْرقا حِجْرِ اليَمامةِ، وهو مَنْزِلٌ بينَ هكَذا في النُّسخِ، والصوابُ بعدَ رُمَيْلَةِ اللِّوَى بطَرِيقِ البَصْرَةِ للقاصِدِ إِلى مَكَّةَ زِيدَتْ شَرَفًا، ومنها إِلى فَلْجَةَ.

والأَبْرَقانِ: ماءٌ لبَنِي جَعْفَرٍ قالَ أَعْرابِيٌّ:

أَلِموا بأَهْل الأَبْرَقَيْنِ فسَلِّمُوا *** وذاكَ لأَهْلِ الأَبْرَقَيْنِ قَلِيلُ

وقالَ آخَرُ:

سُقْيًا لأَيْامٍ مَضَيْنَ مِنَ الصِّبا *** وعَيْشٍ لنا بالأَبْرَقَيْنِ قَصِيرِ

والأَبْرَقُ البادِي: من الأَبارِقِ المَعْرُوفَةِ، قال المَرّارُ بنُ سَعِيدٍ:

قِفا واسْأَلا مِن مَنْزِلِ الحَيِّ دِمْنَةً *** وبالأَبْرَقِ البادِي أَلِمّا عَلَى رَسْمِ

وأَبْرَقُ ذِي الجُموعِ بناحِيةِ الكُلابِ، قال عُمَرُ بنُ لَجَأَ:

بأَبْرَقِ ذي الجُموعِ غداةَ تَيْمٌ *** تَقُودُكَ بالخِشاشَةِ والجَدِيلِ

وأَبْرَقُ الحَنّانِ ماءٌ لبَني فَزارَةَ، قالُوا: سُمِّيَ بذلِكَ لأَنَّه يُسْمَعُ فيه الحَنِينُ، ويُقالُ: إِنَّ الجِنَّ فيه تَحِنُّ إِلى مَنْ قَفَلَ عنها، قالِ كُثِّيرٌ:

لِمَنِ الدِّيارُ بأَبْرَقِ الحَنّانِ *** فالبُرْقِ فالهَضَباتِ من أُدْمانِ

وأَبْرَقُ الدَّآثَى بوزن دَعاثَى، قال كُثَيِّرٌ:

إِذا حَلَّ أَهْلِيَ بالأَبْرَقَيْ *** نِ أَبْرَقِ ذِي جُدَدٍ أَو دَآثَى

وجَعَله عَمْرُو بنُ أَحْمَرَ الباهِلِيُّ الأَدْأَثِينَ للضَّرُورةِ، فقال:

بحَيْثُ هَراقَ في نَعْمَانَ مَيْثٌ *** دوافِعُ في بِراقِ الأَدْأَثِينَا

وأَبْرَقُ ذِي جُدَدٍ بوزن صُرَدٍ، هو بالجيمِ، وقد مَرَّ شاهدُه في قولِ كُثَيِّرٍ.

وأَبرَقُ الرَّبَذَةِ مُحَرَّكةً، كانت به وَقْعَةٌ بينَ أَهْلِ الرِّدَّةِ وأَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ ذُكِرت في كِتابِ الفُتُوحِ، كانَ من مَنازلِ بني ذُبْيانَ، فغَلَبَهُمْ عليهِ أَبو بَكْرٍ رضي ‌الله‌ عنه لَمَّا ارْتَدُّوا، وجَعَلَه حِمىً لخُيولِ المُسْلِمين، وإِيَّاهُ عَنىَ زِيادُ بنُ حَنْظَلَة بقَوْلِه:

ويَوْمٍ بالأَبارِقِ قد شَهِدْنا *** عَلَى ذُبْيانَ يَلْتَهِبُ الْتِهابَا

أَتَيْناهُم بداهِيَةٍ ونارٍ *** مع الصِّدِّيقِ إِذ تَرَكَ العِتابَا

وأَبْرَقُ الرَّوْحان قال جَرِيرٌ:

لمَن الدِّيارُ بأَبْرَقِ الرَّوْحانِ *** إِذا لا نَبِيعُ زمانَنا بزَمانِ

وأَبْرَقُ ضَحْيانَ كذا في النُّسَخ، ومثلُه في العُبابِ، والَّذِي في المُعْجَم: ضَيْحانَ، بتقدِيم الياءِ على الحاء، هكَذا ضَبَطه، وأَنشَد لجَرِيرٍ:

وبأَبْرَقَيْ ضَيْحانَ لاقَوْا خِزْيَةً *** تلكَ المَذَلَّةُ والرِّقابُ الخُضَّعُ

وأَبْرَقُ الأَجْدَلِ، وأَبْرقُ الأَعْشاشِ وقَدْ ذُكِر في الشِّينِ بما أَغْنَى عن إِعادَتِه هنا.

وأَبْرَقُ أَلْيَةَ بفَتْحٍ فسُكُون وأَبْرَقُ الثُّوَيْرِ مُصَغَّرًا وأَبْرَقُ الحَزْنِ بالفَتْح، قال:

هَلْ تُؤْنِسانِ بأَبْرَقِ الحَزْنِ *** والأَنْعَمَيْنِ بَواكِرَ الظُّعْنِ

وأَبْرَقُ ذات سلاسِل هكذا في النُّسخِ، وصوابُه ذاتُ مَأْسَلٍ، قال الشَّمَرْدَلُ بنُ شَرِيكٍ اليَرْبُوعِيّ:

سَقَيْناه بعدَ الرِّيِّ حتى كأَنّما *** يُرَى حِينَ أَمْسَى أَبْرَقَيْ ذاتِ مَأْسَلِ

وأَبْرَقُ مازِن والمازِنُ: بَيْضُ النَّمْلِ، قالَ الأَرْقَطُ:

إِنّي ونَجْمًا يومَ أَبْرَقِ مازِنٍ *** عَلَى كَثْرةِ الأَيْدي لمُؤْتَسِيانِ

وأَبْرَقُ العَزّافِ كشَدّادٍ؛ لأَنّهم يَسْمَعُونَ فيه عَزِيفَ الجِنِّ، وهو ماءٌ لبَني أَسدِ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ، له ذِكْرٌ في أَخْبارِهم، وقد ذُكِر فِي «ع ز ف» قال ابنُ كَيْسانَ: أَنْشَدَنا المُبَرِّد لرَجُلٍ يهجُو بَنِي سَعِيدِ بنِ قُتَيْبَةَ الباهِليّ:

وكأَنَّني لما حَطَطْتُ إِلَيْهمُ *** رَحْلِي نَزَلْتُ بأَبْرَقِ العَزّافِ

وأَبْرقُ عَمْرانَ بفتح العَيْنِ كما ضَبَطه ياقوت، وأَنشَد لدَوْسِ بنِ أُمِّ غَسّانَ اليَرْبُوعِيِّ:

تَبَيَّنْتُ من بينِ العِراقِ وواسِطٍ *** وأَبْرَقِ عَمْرانَ الحُدُوجَ التَّوالِيَا

وأَبْرَقُ العَيْشُوم قال السَّريُّ بنُ مُعتِّبٍ الكِلابِيُّ:

وَدِدْتُ بأَبْرقِ العَيْشُوم أَنَّي *** وإِيّاها، جمِيعًا، في رِداءِ

أُباشِرُهُ، وقَدْ نَدِيَتْ رُباهُ، *** فأُلْصِقُ صِحَّةً منه بدائِي

والأَبْرَقُ الفَرْدُ قال:

خَلِيلَيَّ مُرّا بِي على الأَبْرَقِ الفَرْدِ *** عُهُودًا لِلَيْلي حَبَّذا ذاكَ مِن عَهْدِ

وأَبْرقُ الكِبْرِيتِ وكانَتْ فيه وقْعَةٌ، قال:

على أَبْرَقِ الكِبْرِيتِ قَيْسُ بنُ عاصِمٍ *** أَسرْتُ وأَطرافُ القَنا قِصَدٌ حُمْرُ

وأَبْرَقُ المُدَى جمع مُدْيَةٍ، قال الفَقْعَسِيُّ:

بذاتِ فَرْقَينِ فأَبْرَقِ المُدَى

وأَبْرقُ النَّعّارِ كشَدّادٍ، وهو ماءٌ لطَيِّئٍ وغَسّانَ قُرْبَ طَرِيقِ الحاجِّ، قال:

حيِّ الدِّيارَ فقد تقادمَ عَهْدُها *** بينَ الهَبِيرِ وأَبْرَقِ النَّعّارِ

وأَبْرَقُ الوَضّاحِ قالَ الهُذَلِيُّ:

لِمن الدِّيارُ بأَبْرَقِ الوَضّاحِ *** أَقْوَيْنَ من نُجْل العُيُونِ مِلاحِ

وأَبْرقُ الهَيْجِ قال ظُهَيْرُ بنُ عامِرٍ الأَسَدِيُّ:

عَفا أَبْرقُ الهَيْجِ الَّذِي شَحنَتْ بهِ *** نواصِفُ من أَعْلَى عَمايَةَ تَدْفعُ

وهي أَسماءُ مَواضِع في دِيار العَرَب.

ومما فاته: أَبْرَقُ الخَرْجاءِ، قال:

حَيِّ الدِّيارَ عَفاها القَطْرُ والمُورُ *** حيثُ ارْتَقى أَبرقُ الخَرْجاءِ فالدُّورُ

والأَبْرَقُ، غيرَ مُضافٍ: من مَنازِل عمرِو بنِ رَبِيعةَ. وأَبْراقٌ: جَبَلٌ بنَجْدٍ لبَنِي نَصْرِ بنِ هَوازِنَ، وقال الشَّرِيفُ عُلَيُّ بنُ عِيسَى الحَسَنِيُّ: أَبراقٌ: جَبَلٌ في شَرْقِيِّ رَحْرَحانَ، وإِيَّاه عَنَى سَلامةُ بنُ رِزْقٍ الهِلالِيُّ:

فإِنْ تَكُ عَلْيَا يومَ أَبْراقِ عارِضٍ *** بَكَتْنا وعَزَّتْها العَذارَى الكَواعِبُ

والأَبْرَقَةُ: ماءٌ من مِياهِ نَمْلَةَ هكذا في النُّسَخ، وصوابُه نَمَلَى، قُرْبَ المَدِينة، نقله الزَّمَخْشَرِيُّ وضَبَطه.

والأُبْرُوقُ، كأُظْفُورٍ وضبَطَه ياقُوت بفَتْحِ الهَمْزَة: موضع، بِبلادِ الرُّوم، يَزورُه المُسْلِمُونَ والنَّصارَى من الآفاقِ، قال أَبو بَكْرٍ الهَرَوِيُّ: بَلغَنِي أَمرُهُ فقَصَدْتُه، فوَجَدْتُه في لِحْفِ جَبَلٍ يُدْخَلُ إِليه من بابِ بُرْجٍ، ويَمْشِي الدَّاخِلُ تحتَ الأَرضِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى موضعٍ واسِعٍ، وهو جبلٌ مَخْسُوفٌ، تَبِينُ منه السَّماءُ من فَوْقِه، وفي وسَطِه بُحَيْرةٌ، وفي دائِرَها بُيوتٌ للفَلّاحِين مِنَ الرُّوم، وزَرْعُهم ظاهِرُ الموضع، وهُناكَ كَنِيسَةٌ لطيفةٌ، ومَسْجِدٌ، فإِنْ كانَ الزائرُ مُسْلِمًا أَتَوْا به إِلى المَسْجِدِ، وإِن كانَ نَصْرانِيًّا أَتوْا به إِلى الكَنِيسةِ، ثُمَّ يَدْخُلُ إِلى بَهْوٍ فيه جَماعةٌ مَقْتُولون، فيهم آثار طَعَناتِ الأَسِنّةِ، وضَرَباتِ السُّيوفِ، ومِنْهُم من فُقِدَت بعضُ أَعضائِه، وعليهم ثِيابُ القُطْنِ لم تَتَغَيَّرْ، إِلى آخِرِ ما ذكَره من العَجائِب، انْظُرْه في المعجم.

وأَبارِقُ غير مُضافٍ: موضع، بكِرْمانَ عن مُحَمَّدِ بنِ بَحْرٍ الرُّعَيْنِيّ الكِرْمانِيِّ.

وأَبارِقُ الثَّمَدَيْنِ مُثَنَّى الثَّمَدِ، وهو الماءُ القَلِيلُ، وقد ذُكِر الثَّمَدُ في مَوْضِعِه، قال القَتّالُ الكِلابِيُّ:

سَرَى بدِيارِ تَغْلِبَ بينَ حَوْضَى *** وبينَ أَبارِقِ الثَّمَدَيْنِ سارِ

سِماكِيٌّ تَلَأْلَأَ فِي ذُراهُ *** هَزِيمُ الرَّعْدِ رَيّانُ القَرارِ

وأَبارِقُ طِلْخامٍ بكسرِ الطّاءِ، والخاءُ معجمةٌ، ويُرْوَى بالمُهْملةِ أَيضًا، وسَيُذْكَرُ في موضِعه، قال ابنُ مقبِلٍ:

بَيْضُ الأَنُوقِ برَعْنٍ دُونَ مَسْكَنِها *** وبالأَبارِقِ من طِلْخامَ مَرْكُومُ

وأَبارِقُ النَّسْرِ قالَ العِتْرِيفُ:

وأَهْوَى دِماثَ النَّسْرِ أَنْ حَلَّ بَيْتُها *** بحيثُ الْتَقَتْ سُلّانُه وأَبارِقُه

وأبارِقُ اللِّكاكِ ككِتابٍ، قال:

إذا جاوَزَتْ بطْنَ اللِّكاكِ تجاوَبَتْ *** به ودَعاها رَوْضُه وأبارِقُه

وهَضْبُ الأَبارِقِ في قولِ عَمْرِو بنِ مَعْدِي‌كَرِبَ:

أَأَغْزُو رجالَ بني مازِنٍ *** بهَضْبِ الأَبارِقِ، أَمْ أَقْعُدُ؟

مواضِعُ وقد فاتَه: أَبارِقُ بُسْيانَ، كعُثْمانَ، قالَ جَبّارُ بنُ مالِكٍ الفَزارِيّ:

ويلُ امِّ قومٍ صَبَحْناهم مُسَوَّمَةً *** بين الأَبارِق من بُسْيانَ فالأَكَمِ؟

الأَقْرَبِينَ فلم تَنْفَعْ قرابَتُهم *** والمُوجَعِينَ فلم يَشْكُوا من الأَلَمِ

وأَبارِقُ حَقِيلٍ، كأَمِيرٍ، قال عُمَرُ بنُ لَجَأَ:

أَلَمْ تَرْبَعْ على الطَّلَلِ المُحِيلِ *** بغَرْبِيِّ الأَبارِقِ مِنْ حَقِيلِ

وأَبارِقُ قَنا، بالفَتْحِ مَقْصورًا، قالَ الأَشْجَعِيُّ:

أَحِنُّ إِلى تِلْك الأَبَارِقِ مِنْ قَنا *** كأَنَّ امْرَأً لم يَجْلُ عن دارِه قَبْلِي

والبَرَقُ، مُحرَّكَةً: الحَمَلُ، معرَّبُ بَرَهْ بالفارِسِيَّةِ، ومنه الحَدِيثَ: «تَسُوقُهم النّارُ سَوْقَ البَرَقِ الكَسِير». أَي: المَكْسُورِ القَوائِم، يَعْنِي تَسُوقُهم النّارُ سَوْقًا رَفِيقًا، كما يُساقُ الحَمَلُ الظالِعُ ج: أَبْراقٌ، وبِرْقانٌ، بالكسرِ والضَّمِّ الأَوّلُ كسَبَبٍ وأَسْبابٍ، وعلى الأَخِير اقتصرَ الجَوْهَرِيُّ.

وقالَ الفَرَّاءُ: البَرَقُ: الفَزَعُ زادَ غَيْرُه: والدَّهَشُ والحَيْرَةُ وقد بَرِقَ الرجُلُ بَرَقًا، وتَقدَّم شاهِدُه، ومنه أَيضًا حديثُ عَمْرِو بنِ العاصِ: «إِنَّ البَحْرَ خَلْقٌ عَظِيم، يَرْكَبُه خَلْقٌ ضَعِيفٌ، دُودٌ على عُودٍ، بينَ غَرَقٍ وبَرَقٍ».

وبَرّاقٌ، كشَدّادٍ: ظَرِبٌ، أَو جَبَلٌ بينَ سَمِيراءَ وحاجِرٍ عنده المَشْرَفة.

وعَمْرُو بنُ بَرّاقٍ: من العَدّائِينَ وإِيّاهُ عَنَى تأَبَّطَ شَرًّا بقولهِ:

ليلَةَ صاحُوا وأَغْرَوْا بي كِلابَهُمُ *** بالعَيْكَتَيْنِ لَدَى مَعْدَى ابنِ بَرّاقِ

أَي: لَدَى مَوْضِعِ عَدْوِه، ويُقالُ: لَدَى عَدْوِه نَفْسِه، فيكونُ مَوْضِعًا، ويكونُ مَصْدَرًا.

والبَرّاقَةُ: المرأَةُ لها بَهْجَةٌ وبَرِيقٌ أَي: لَمَعانٌ، وقِيلَ: هي التي تُظْهِر حُسْنَها عَلَى عَمْدٍ، وقالَ ذُو الرُّمَّةِ:

بَرّاقَةُ الجِيدِ واللَّبّاتِ واضِحَةٌ *** كأَنَّها ظَبْيَةٌ أَفْضَى بها لَبَبُ

وأَبُو عَبْدِ الله جَعْفَرُ بنُ بُرْقان الجَزَرِيُّ بالكسرِ والضَّمِّ الأَخيرُ هو المَشْهُور: مُحَدِّثٌ كِلابِيٌّ من شُيُوخِ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، ووَكِيعِ بنِ الجَرّاحِ، وقد حَدَّثَ عن زِيادِ بنِ الجَرّاحِ الجَزَرِيِّ.

والبُراقُ كغُرابٍ: اسم دابَّة رَكِبَها رَسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم ليلَةَ المِعْراجِ، وكانَتْ دُونَ البَغْلِ وفَوْقَ الحِمارِ سُمِّيَ بذلِكَ لنُصُوع لَوْنِه، وشِدَّةِ بَرِيقِه، وقِيلَ: لسُرْعَةِ حَرَكَتِها، شَبَّهه فيهِما بالبَرْقِ.

وبُراق: قرية بحَلَبَ بينَهُما نحو فَرْسَخٍ، وبها مَعْبَدٌ يقصِدُه المَرْضَى والزَّمْنَى فيَبِيتُونَ فيه، فيَرَى المَريضُ مَنْ يَقُولُ له: شِفاؤُك في كَذَا وكَذَا، ويَرَى شَخْصًا يَمْسَحُ بيَدِه على رَأْسِه أَو جَسَدِه فيَبْرَأُ، وهذا مُسْتَفاضٌ في أَهْلِ حَلَبَ، ولعَلَّ الأَخْطَلَ إِيّاه عَنَى بقولِه:

وماءٍ تُصْبِحُ القَلَصاتُ منه *** كخَمْرِ بُراقَ قد فَرَطَ الأُجُونا

والبُرْقَةُ، بالضّمِّ: غِلَظٌ فيه حِجارَةٌ ورَمْلٌ وطِينٌ مختَلِطٌ بعضُها ببعض كالأَبْرَقِ وحِجارَتُها الغالبُ عليها البياض، وفيها حجارةٌ حُمرٌ وسُودٌ، والتُّرابُ أَبيضُ وأَعْفَرُ، يكونُ إِلى جَنْبِها الرَّوْضُ أَحيانًا، والجمعُ بُرَقٌ.

وبُرَقُ دِيارِ العَربِ تُنِيفُ على مائةٍ وقد سُقْتُ في شَرْحِها ما أَمْكَنَنِي الآن منها: بُرْقَةُ الأَثْمادِ قال رُدَيْحُ بن الحارِثِ التَّمِيمِيُّ:

لِمَن الدِّيارُ ببُرْقَةِ الأَثْمادِ *** فالجَلْهَتَيْنِ إِلى قِلاتِ الوادِي؟

وبُرْقَةُ الأَجاوِلِ جمعُ الأَجْوالِ، والأَجْوالُ: جَمْعُ جَوْلٍ، لجِدارِ البِئْرِ، قال كُثَيِّرٌ:

عَفا مَيْثُ كُلْفَى بعَدَنا فالأَجاوِل *** فأَثْمادُ حَسْنَى فالبِراقُ القَوابِلُ

وقال نُصَيْبٌ:

عَفا الحُبُجُ الأَعْلَى فبُرْقُ الأَجاوِلِ

وبُرْقَةُ الأَجْدادِ جمع جَدٍّ، أَو جَدَدٍ، قال:

لمَنِ الدِّيارُ ببُرْقَةِ الأَجْدادِ *** عَفَّتْ سَوارٍ رَسْمَها وغَوادِي

وبُرْقَةُ الأَجْوَلِ أَفْعَلُ، من الجَوَلانِ، قال المُتَنَخِّلُ الهُذَليُّ:

فالْتَطَّ بالبُرْقَةِ شُؤْبُوبُه *** والرَّعْدُ حَتّى بُرْقَةِ الأَجْوَلِ

وبُرْقَةُ أَحجارٍ قال:

ذَكَرْتُكِ والعِيسُ العِتاقُ كأَنّها *** ببُرْقَةِ أَحْجارٍ قِياسٌ من القُضْبِ

وبُرْقَةُ أَحْدَب قالَ زَبّانُ بنُ سَيّارٍ:

تَنَحَّ إِلَيْكُم يا ابْنَ كُرْزٍ فإِنَّه *** وإِن دِنْتَنا راعُونَ بُرْقَةَ أَحْدَبَا

وبُرْقَةُ أَحْواذٍ جمع حاذَةٍ: شَجَرٌ يَأْلفُه بقرُ الوَحْشِ، قال ابنُ مُقْبِلٍ:

طَرِبْتَ إِلى الحَيِّ الّذِينَ تَحَمَّلُوا *** ببُرْقَةِ أَحْواذٍ وأَنْتَ طَرُوبُ

وبُرْقَةُ أَخْرَم قالَ ابنُ هَرْمَة:

بلِوَى كُفافةَ أَو ببُرْقَةِ أَخْرَمٍ *** خِيَمٌ على آلائِهِنَّ وَشِيعُ

ويُرْوَى «بلِوَى سُوَيْقَةَ» وهكذا أَنْشَدَه ابنُ بَرِّيّ.

وبُرْقَةُ أَرْمامٍ قال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ رضي ‌الله‌ عنه:

فبُرْقَةُ أَرْمامٍ فجَنْبا مُتالِعٍ *** فوادِي المِياهِ، فالبَدِيُّ فأَنْجَلُ

وبُرْقَةُ أَرْوَى من بلادِ تَمِيم، وهو جَبَلٌ، قال حامِيَةُ بنُ نَصْرٍ الفُقَيْمِيُّ:

ببُرْقَةِ أَرْوَى والمَطِىُّ كأَنَّها *** قِداحٌ نَحاهَا باليَدَيْنِ مُفِيضُها

وبُرْقة أَعيار قالَ عُمَرُ بنُ أَبي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيُّ:

أَلَمْ تَسْأَلِ الأَطْلالَ والمَنْزِلَ الخلَقْ *** ببُرْقَةِ أَعْيارٍ فَيُخْبِرَ إِنْ نَطَقْ؟

وبُرْقَةُ أَفْعَى قال زَيْدُ الخَيْلِ الطّائِيُّ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ:

فبُرْقَة أَفْعَى قد تَقادَمَ عَهْدُها *** فما إِنْ بِها إِلا النِّعاجُ المَطافِلُ

وبُرْقَةُ الأَمالِح قال كُثَيِّرٌ يذكُر رسمَ الدّارِ:

وَقَفْتُ بهِ مُسْتَعْجِمًا لبَيانِها *** سِفاهًا كحَبْسِي يومَ بُرْقِ الأَمالِحِ

وبُرْقَةُ الأَمْهارِ قال ابنُ مُقْبِلٍ:

ولاحَ ببُرْقَةِ الأَمْهارِ مِنْها *** لعَيْنِك ساطِعٌ من ضَوْءِ نارِ

وبُرْقَةُ أَنْقَذ بالذّالِ والدّالِ، ومن الأَخِيرِ قولُ الأَعْشَى:

إِنّ الغَوانِي لا يُواصِلْنَ امْرَأً *** فقَدَ الشَّبابَ وقد تُواصِلُ أَمْرَدَا

يا ليتَ شِعْرِي هَلْ أَعُودَنْ ثانيًا *** مِثْلِي زُمَيْنَ هُنا ببُرْقَةِ أَنْقَدَا

ويُرْوَى: «زُمَيْنَ أَحُلُّ بُرْقَةَ أَنْقَدَا» وزُمَيْنَ هنا أَي: يومَ الْتَقَيا، وقِيلَ: هُنا بمَعْنَى أَنا، وزَعَم أَبو عُبَيْدَةَ أَنّه أَرادَ بُرْقَةَ القُنْفُذِ الذي يَدْرُجُ، فكَنَى عنه للقافِيَةِ؛ إِذْ كان مَعْناهُما واحِدًا، والقُنْفُذُ لا يَنامُ اللّيلَ، بل يَرْعَى. وبُرْقَةُ الأَوْجَر قال:

بالشِّعْبِ من نَعْمانَ مَبْدًى لنا *** والبُرْقِ من خُضْرَةِ ذِي الأَوْجَرِ

وبَرْقَةُ ذي الأَوْداتِ جمع أَوْدَة، وهي الثِّقَلُ، قال جَرِيرٌ:

عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوْداتِ رَسْمًا *** مُحِيلًا طالَ عَهْدُكَ من رُسُومِ

هكذا أَنْشَدَه ابنُ فارِسٍ في كِتاب الدّاراتِ والبُرَقِ، وفي شِعْرِ جَرِيرٍ ببُرْقَةِ الوَدّاءِ، وسيأْتِي ذكرُها قَرِيبًا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


39-لسان العرب (نقب)

نقب: النَّقْبُ: الثَّقْبُ فِي أَيِّ شيءٍ كَانَ، نَقَبه يَنْقُبه نَقْبًا.

وشيءٌ نَقِيبٌ: مَنْقُوب؛ قَالَ أَبو ذؤَيب:

أَرِقْتُ لذِكْرِه، مِنْ غيرِ نَوْبٍ، ***كَما يَهْتاجُ مَوْشِيٌّ نَقِيبُ

يَعْنِي بالمَوْشِيِّ يَراعةً.

ونَقِبَ الجِلْدُ نَقَبًا؛ وَاسْمُ تِلْكَ النَّقْبة نَقْبٌ أَيضًا.

ونَقِبَ البعيرُ، بِالْكَسْرِ، إِذا رَقَّتْ أَخْفافُه.

وأَنْقَبَ الرجلُ إِذا نَقِبَ بعيرُه.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَتاه أَعرابيّ فَقَالَ: إِني عَلَى نَاقَةٍ دَبْراءَ عَجْفاءَ نَقْباءَ»، واسْتَحْمَله فَظَنَّهُ كَاذِبًا، فَلَمْ يَحْمِلْه، فانطَلَقَ وَهُوَ يَقُولُ:

أَقْسَمَ باللهِ أَبو حَفْصٍ عُمَرْ: ***مَا مَسَّها مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ

أَراد بالنَّقَبِ هَاهُنَا: رِقَّةَ الأَخْفافِ.

نَقِبَ البعيرُ يَنْقَبُ، فَهُوَ نَقِبٌ.

وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ قَالَ لامرأَةٍ حَاجَّةٍ: «أَنْقَبْتِ وأَدْبَرْتِ»؛ أي نَقِبَ بعيرُك ودَبِرَ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ولْيَسْتَأْنِ بالنَّقِبِ والظَّالِع» أَي يَرْفُقْ بِهِمَا، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنَ الجَرَب.

وَفِي حَدِيثِ أَبي مُوسَى: «فنَقبَتْ أَقْدامُنا»أَي رَقَّتْ جُلودُها، وتَنَفَّطَتْ مِنَ المَشْيِ.

ونَقِبَ الخُفُّ الملبوسُ نَقَبًا: تَخَرَّقَ، وَقِيلَ: حَفِيَ.

ونَقِبَ خُفُّ الْبَعِيرِ نَقَبًا إِذا حَفِيَ حَتَّى يَتَخَرَّقَ فِرْسِنُه، فَهُوَ نَقِبٌ؛ وأَنْقَبَ كَذَلِكَ؛ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

وَقَدْ أَزْجُرُ العَرْجاءَ أَنْقَبَ خُفُّها، ***مَناسِمُها لَا يَسْتَبِلُّ رَثِيمُها

أَراد: ومَناسِمُها، فَحَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: قَسَمَا الطَّارِفَ التَّلِيدَ؛ وَيُرْوَى: أَنْقَبُ خُفِّها مَناسِمُها.

والمَنْقَبُ مِنَ السُّرَّة: قُدَّامُها، حَيْثُ يُنْقَبُ البَطْنُ، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الْفَرَسِ؛ وَقِيلَ: المَنْقَبُ السُّرَّةُ نَفْسُها؛ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ يَصِفُ الْفَرَسَ:

كأَنَّ مَقَطَّ شَراسِيفِه، ***إِلى طَرَفِ القُنْبِ

فالمَنْقَبِ، لُطِمْنَ بتُرْسٍ، شَدِيدِ الصِّفَاقِ، ***مِنْ خَشَبِ الجَوْز، لَمْ يُثْقَبِ

والمِنْقَبةُ: الَّتِي يَنْقُب بِهَا البَيْطارُ، نادرٌ.

والبَيْطارُ يَنْقُبُ فِي بَطْنِ الدَّابَّةِ بالمِنْقَبِ فِي سُرَّته حَتَّى يَسيل مِنْهُ مَاءٌ أَصْفر؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

كالسِّيدِ لَمْ يَنْقُبِ البَيْطارُ سُرَّتَه، ***وَلَمْ يَسِمْه، وَلِمَ يَلْمِسْ لَهُ عَصَبا

ونَقَبَ البَيْطارُ سُرَّة الدَّابَّةِ؛ وَتِلْكَ الحديدةُ مِنْقَبٌ، بِالْكَسْرِ؛ وَالْمَكَانُ مَنْقَبٌ، بِالْفَتْحِ؛ وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ لمُرَّة بْنِ مَحْكَانَ:

أَقَبّ لَمْ يَنْقُبِ البَيْطارُ سُرَّتَه، ***وَلَمْ يَدِجْهُ، وَلَمْ يَغْمِزْ لَهُ عَصَبا

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه اشْتَكَى عَيْنَه، فكَرِهَ أَنْ يَنْقُبَها»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: نَقْبُ العَيْنِ هُوَ الَّذِي تُسَمِّيه الأَطباءُ القَدْح، وَهُوَ مُعالجةُ الماءِ الأَسْودِ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ؛ وأَصله أَن يَنْقُر البَيْطارُ حَافِرَ الدَّابَّةِ ليَخْرُجَ مِنْهُ مَا دَخل فِيهِ.

والأَنْقابُ: الآذانُ، لَا أَعْرِفُ لَهَا وَاحِدًا؛ قَالَ القَطامِيُّ:

كانتْ خُدُودُ هِجانِهِنَّ مُمالةً ***أَنْقابُهُنَّ، إِلى حُداءِ السُّوَّقِ

وَيُرْوَى: أَنَقًا بِهنَّ أَي إِعْجابًا بِهنَّ.

التَّهْذِيبُ: إِن عَلَيْهِ نُقْبةً أَي أَثَرًا.

ونُقْبةُ كُلِّ شيءٍ: أَثَرُه وهَيْأَتُهُ.

والنُّقْبُ والنُّقَبُ: القِطَعُ المتفرّقَةُ مِنَ الجَرَب، الْوَاحِدَةُ نُقْبة؛ وَقِيلَ: هِيَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الجَرَب؛ قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:

مُتَبَذِّلًا، تَبدُو مَحاسِنُه، ***يَضَعُ الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ

وَقِيلَ: النُّقْبُ الجَربُ عَامَّةً؛ وَبِهِ فَسَّرَ ثَعْلَبٌ قولَ أَبي محمدٍ، الحَذْلَمِيِّ:

وتَكْشِفُ النُّقْبةَ عَنْ لِثامِها يَقُولُ: تُبْرِئُ مِنَ الجَرَب.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُعْدي شيءٌ شَيْئًا»؛ فَقَالَ أَعرابيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النُّقْبةَ تَكُونُ بِمِشْفَرِ البَعيرِ، أَو بذَنَبِه فِي الإِبل الْعَظِيمَةِ، فتَجْرَبُ كُلُّها؛ فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا أَعْدى الأَوّلَ؟ قَالَ الأَصمعي: النُّقْبةُ هِيَ أَوَّل جَرَبٍ يَبْدُو؛ يُقَالُ لِلْبَعِيرِ: بِهِ نُقْبة، وَجَمْعُهَا نُقْبٌ، بِسُكُونِ الْقَافِ، لأَنها تَنْقُبُ الجِلْد أَي تَخْرِقُه.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: والنُّقْبةُ، فِي غَيْرِ هَذَا، أَن تُؤْخذَ القِطْعةُ مِنَ الثَّوْبِ، قَدْرَ السَّراويلِ، فتُجْعل لَهَا حُجْزةٌ مَخِيطَةٌ، مِنْ غَيْرِ نَيْفَقٍ، وتُشَدّ كَمَا تُشَدُّ حُجْزةُ السَّرَاوِيلِ، فإِذا كَانَ لَهَا نَيْفَقٌ وساقانِ فَهِيَ سَرَاوِيلُ، فإِذا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَيْفَقٌ، وَلَا ساقانِ، وَلَا حُجْزة، فَهُوَ النِّطاقُ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: النُّقْبَةُ أَوَّلُ بَدْءِ الجَرَب، تَرَى الرُّقْعَة مِثْلَ الكَفِّ بجَنْبِ البَعير، أَو وَرِكِه، أَو بِمِشْفَره، ثُمَّ تَتَمَشَّى فِيهِ، حتَّى تُشْرِيَه كُلَّهُ أَي تَمْلأَه؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ يَصِفُ فَحْلًا:

فاسْوَدَّ، مِنْ جُفْرتِه، إِبْطاها، ***كَمَا طَلى، النُّقْبةَ، طالِياها

أَي اسْوَدَّ مِنَ العَرَق، حينَ سَالَ، حَتَّى كأَنه جَرِبَ ذَلِكَ الموضعُ، فطُلِيَ بالقَطِرانِ فاسْوَدَّ مِنَ العَرَق؛ والجُفْرةُ: الوَسَطُ.

والناقِبةُ: قُرْحة تَخْرُجُ بالجَنْب.

ابْنُ سِيدَهْ: النُّقْب قرْحة تَخْرج فِي الجَنْب، وتَهْجُمُ عَلَى الْجَوْفِ، ورأْسُها مِنْ دَاخِلٍ.

ونَقَبَتْه النَّكْبةُ تَنْقُبه نَقْبًا: أَصابته فبَلَغَتْ مِنْهُ، كنَكَبَتْه.

والناقبةُ: داءٌ يأْخذ الإِنسانَ، مِنْ طُول الضَّجْعة.

والنُّقْبة: الصَّدَأُ.

وَفِي الْمُحْكَمِ: والنُّقْبة صَدَأُ السيفِ والنَّصْلِ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

جُنُوءَ الهالِكِيِّ عَلَى يَدَيْهِ، ***مُكِبًّا، يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ

وَيُرْوَى: جُنُوحَ الهالِكِيِّ.

والنَّقْبُ والنُّقْبُ: الطريقُ، وَقِيلَ: الطريقُ الضَّيِّقُ فِي الجَبل، وَالْجَمْعُ أَنْقابٌ، ونِقابٌ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ لِابْنِ أَبي عَاصِيَةَ:

تَطَاوَلَ لَيْلي بالعراقِ، وَلَمْ يَكُنْ ***عَليَّ، بأَنْقابِ الحجازِ، يَطُولُ

وَفِي التَّهْذِيبِ، فِي جَمْعِهِ: نِقَبةٌ؛ قَالَ: وَمِثْلُهُ الجُرْفُ، وجَمْعُه جِرَفَةٌ.

والمَنْقَبُ والمَنْقَبةُ، كالنَّقْبِ؛ والمَنْقَبُ، والنِّقابُ: الطَّرِيقُ فِي الغَلْظِ؛ قَالَ:

وتَراهُنَّ شُزَّبًا كالسَّعالي، ***يَتَطَلَّعْنَ مِنْ ثُغُورِ النِّقابِ

يَكُونُ جَمْعًا، وَيَكُونُ وَاحِدًا.

والمَنْقَبة: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بَيْنَ دارَيْنِ، لَا يُسْتطاع سُلوكُه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا شُفْعةَ فِي فَحْل، وَلَا مَنْقَبةٍ»؛ فسَّروا المَنْقبةَ بِالْحَائِطِ، وسيأْتي ذِكْرُ الْفَحْلِ؛ وَفِي رِوَايَةٍ:

لَا شُفْعةَ فِي فِناءٍ، وَلَا طريقٍ، وَلَا مَنْقَبة؛ المَنْقَبةُ: هِيَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ، كأَنه نُقِبَ مِنْ هَذِهِ إِلى هَذِهِ؛ وَقِيلَ: هُوَ الطَّرِيقُ الَّتِي تَعْلُو أَنْشازَ الأَرض.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنهم فَزِعُوا مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: أَرْجُو أَن لَا يَطْلُع إِلينا نِقابَها»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هِيَ جُمَعُ نَقْبٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ؛ أَراد أَنه لَا يَطْلُع إِلينا مِنْ طُرُق الْمَدِينَةِ، فأَضْمَر عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «عَلَى أَنْقابِ المدينةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُها الطاعُونُ، وَلَا الدجالُ»؛ هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ للنَّقْب.

والنَّقْبُ: أَن يَجْمَعَ الفرسُ قَوَائِمَهُ فِي حُضْرِه وَلَا يَبْسُطَ يَدَيْهِ، وَيَكُونَ حُضْرُه وَثْبًا.

والنَّقِيبةُ النَّفْسُ؛ وَقِيلَ: الطَّبيعَة؛ وَقِيلَ: الخَليقةُ.

والنَّقِيبةُ: يُمْنُ الفِعْل.

ابْنُ بُزُرْجَ: مَا لَهُمْ نَقِيبةٌ أَي نَفاذُ رَأْيٍ.

وَرَجُلٌ مَيْمونُ النَّقِيبة: مباركُ النَّفْسِ، مُظَفَّرٌ بِمَا يُحاوِلُ؛ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: إِذا كَانَ مَيْمونَ الأَمْرِ، يَنْجَحُ فِيمَا حاوَل ويَظْفَرُ؛ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِذا كَانَ مَيْمُون المَشُورة.

وَفِي حَدِيثِ مَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: «أَنه مَيْمُونُ النَّقِيبة»أَي مُنْجَحُ الفِعَال، مُظَفَّرُ المَطالب.

التَّهْذِيبُ فِي تَرْجَمَةِ عَرَكَ: يُقَالُ فُلَانٌ مَيْمُونُ العَريكَة، والنَّقِيبة، والنَّقِيمة، والطَّبِيعَةِ؛ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

والمَنْقَبة: كَرَمُ الفِعْل؛ يُقَالُ: إِنه لكريمُ المَناقِبِ مِنَ النَّجَدَاتِ وَغَيْرِهَا؛ والمَنْقَبةُ: ضِدُّ المَثْلَبَةِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّقِيبةُ مِنَ النُّوقِ المُؤْتَزِرَةُ بضَرْعِها عِظَمًا وحُسْنًا، بَيِّنةُ النِّقابةِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: هَذَا تَصْحِيفٌ، إِنما هِيَ الثَّقِيبَةُ، وَهِيَ الغَزيرَةُ مِنَ النُّوق، بالثاءِ.

وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: نَاقَةٌ نَقِيبةٌ، عظيمةُ الضَّرْع.

والنُّقْبةُ: مَا أَحاطَ بِالْوَجْهِ مِنْ دَوائره.

قَالَ ثَعْلَبٌ: وَقِيلَ لامرأَة أَيُّ النساءِ أَبْغَضُ إِليكِ؟ قَالَتِ: الحَديدَةُ الرُّكْبةِ، القَبيحةُ النُّقْبةِ، الحاضِرَةُ الكِذْبةِ؛ وَقِيلَ: النُّقْبة اللَّوْنُ والوَجْهُ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا:

ولاحَ أَزْهَرُ مَشْهُورٌ بنُقْبَتهِ، ***كأَنَّه، حِينَ يَعْلُو عاقِرًا، لَهَبُ

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: فلانٌ مَيْمُونُ النَّقِيبة والنَّقِيمة أَي اللَّوْنِ؛ وَمِنْهُ سُمِّيَ نِقابُ المرأَةِ لأَنه يَسْتُر نِقابَها أَي لَوْنَها بلَوْنِ النِّقابِ.

والنُّقْبةُ: خِرْقةٌ يُجْعَلُ أَعلاها كَالسَّرَاوِيلِ، وأَسْفَلُها كالإِزار؛ وَقِيلَ: النُّقْبةُ مِثْلُ النِّطَاقِ، إِلا أَنه مَخِيطُ الحُزَّة نَحْوُ السَّراويلِ؛ وَقِيلَ: هِيَ سَرَاوِيلُ بِغَيْرِ ساقَيْنِ.

الْجَوْهَرِيُّ: النُّقْبة ثَوْبٌ كالإِزار، يُجْعَلُ لَهُ حُجْزة مَخِيطةٌ مِنْ غَيْرِ نَيْفَقٍ، ويُشَدُّ كَمَا يُشَدُّ السَّرَاوِيلُ.

ونَقَبَ الثوبَ يَنْقُبه: جَعَلَهُ نُقْبة.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلْبَسَتْنا أُمُّنا نُقْبَتَها»؛ هِيَ السراويلُ الَّتِي تَكُونُ لَهَا حُجْزةٌ، مِنْ غَيْرِ نَيْفَقٍ، فإِذا كَانَ لَهَا نَيْفَقٌ، فَهِيَ سَراويلُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ مَوْلاةَ امْرَأَةٍ اخْتَلَعَت مِنْ كُلِّ شيءٍ لَهَا»، وكلِّ ثَوْبٍ عَلَيْهَا، حَتَّى نُقْبَتِها، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ.

والنِّقابُ: القِناع عَلَى مارِنِ الأَنْفِ، وَالْجَمْعُ نُقُبٌ.

وَقَدْ تَنَقَّبَتِ المرأَةُ، وانْتَقَبَتْ، وإِنها لَحَسَنة النِّقْبة، بِالْكَسْرِ.

والنِّقابُ: نِقابُ المرأَة.

التَّهْذِيبُ: والنِّقابُ عَلَى وُجُوهٍ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذا أَدْنَتِ المرأَةُ نِقابَها إِلى عَيْنها، فَتِلْكَ الوَصْوَصَةُ، فإِن أَنْزَلَتْه دُونَ ذَلِكَ إِلى المَحْجِرِ، فَهُوَ النِّقابُ، فإِن كَانَ عَلَى طَرَفِ الأَنْفِ، فَهُوَ اللِّفَامُ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: النِّقابُ عَلَى مارِنِ الأَنْفِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سِيرِين: «النِّقاب مُحْدَثٌ»؛ أَراد أَنَّ النساءَ مَا كُنَّ يَنْتَقِبْنَ أَي يَخْتَمِرْن؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: لَيْسَ هَذَا وجهَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ النِّقابُ، عِنْدَ الْعَرَبِ، هُوَ الَّذِي يَبْدُو مِنْهُ مَحْجِرُ الْعَيْنِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ إِبداءَهُنَّ المَحَاجِرَ مُحْدَثٌ، إِنما كَانَ النِّقابُ لاحِقًا بِالْعَيْنِ، وَكَانَتْ تَبْدُو إِحدى الْعَيْنَيْنِ، والأُخْرَى مَسْتُورَةٌ، والنِّقابُ لَا يَبْدُو مِنْهُ إِلا الْعَيْنَانِ، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَهُمُ الوَصْوَصَةَ، والبُرْقُعَ، وَكَانَ مِنْ لباسِ النساءِ، ثُمَّ أَحْدَثْنَ النِّقابَ بعدُ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده سِيبَوَيْهِ:

بأَعْيُنٍ منها مَلِيحاتِ النُّقَبْ [النِّقَبْ]، ***شَكْلِ التِّجارِ، وحَلالِ المُكْتَسَبْ

يُرْوَى: النُّقَبَ والنِّقَبَ؛ رَوَى الأُولى سِيبَوَيْهِ، وَرَوَى الثانيةَ الرِّياشِيُّ؛ فَمَن قَالَ النُّقَب، عَنَىدوائرَ الْوَجْهِ، ومَن قَالَ النِّقَب، أَرادَ جمعَ نِقْبة، مِن الانتِقاب بالنِّقاب.

والنِّقاب: الْعَالِمُ بالأُمور.

وَمِنْ كَلَامِ الْحَجَّاجِ فِي مُناطَقَتِه للشَّعْبِيِّ: إِن كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ لنِقابًا، فَمَا قَالَ فِيهَا؟ وَفِي رِوَايَةٍ: إِن كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لمِنْقَبًا.

النِّقابُ، والمِنْقَبُ، بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ: الرَّجُلُ الْعَالِمُ بالأَشياءِ، الكثيرُ البَحْثِ عَنْهَا، والتَّنْقِيبِ عَلَيْهَا أَي مَا كَانَ إِلا نِقابًا.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: النِّقابُ هُوَ الرَّجُلُ العَلَّامة؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّجُل العالمُ بالأَشياءِ، المُبَحِّث عَنْهَا، الفَطِنُ الشَّديدُ الدُّخُولِ فِيهَا؛ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَر يَمْدَحُ رَجُلًا:

نَجِيحٌ جَوادٌ، أَخُو مَأْقِطٍ، ***نِقابٌ، يُحَدِّثُ بالغائِبِ

وَهَذَا الْبَيْتُ ذِكْرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: كَرِيمٌ جَوَادٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَالرِّوَايَةُ:

نَجِيحٌ مَلِيحٌ، أَخو مأْقِطٍ قَالَ: وإِنما غَيَّرَهُ مَنْ غَيَّرَهُ، لأَنه زَعَمَ أَن الْمَلَاحَةَ الَّتِي هِيَ حُسْن الخَلْق، لَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلْمَدْحِ فِي الرِّجَالِ، إِذ كَانَتِ المَلاحة لَا تَجْرِي مَجْرَى الْفَضَائِلِ الْحَقِيقِيَّةِ، وإِنما المَليحُ هُنَا هُوَ المُسْتَشْفَى برأْيه، عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبي عَمْرٍو، قَالَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قريشٌ مِلْح الناسِ أَي يُسْتَشْفَى بِهِمْ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: المَلِيحُ فِي بَيْتِ أَوْسٍ، يُرادُ بِهِ المُسْتَطابُ مُجالَسَتُه.

ونَقَّبَ فِي الأَرض: ذَهَبَ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} ؟ قَالَ الفَرَّاء: قرأَه القُراء فَنَقَّبوا، مُشَدَّدًا؛ يَقُولُ: خَرَقُوا البلادَ فَسَارُوا فِيهَا طَلَبًا للمَهْرَبِ، فَهَلْ كَانَ لَهُمْ محيصٌ مِنَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: وَمَنْ قرأَ فنَقِّبوا، بِكَسْرِ الْقَافِ، فإِنه كَالْوَعِيدِ أَي اذْهَبُوا فِي الْبِلَادِ وجِيئُوا؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فنَقِّبُوا، طَوِّفُوا وفَتِّشُوا؛ قَالَ: وقرأَ الْحَسَنُ فنَقَبُوا، بِالتَّخْفِيفِ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ، حَتَّى ***رَضِيتُ مِنَ السَّلامةِ بالإِيابِ

أَي ضَرَبْتُ فِي البلادِ، أَقْبَلْتُ وأَدْبَرْتُ.

ابْنُ الأَعرابي: أَنْقَبَ الرجلُ إِذا سَارَ فِي الْبِلَادِ؛ وأَنْقَبَ إِذا صَارَ حاجِبًا؛ وأَنْقَبَ إِذا صَارَ نَقِيبًا.

ونَقَّبَ عَنِ الأَخْبار وَغَيْرِهَا: بَحَثَ؛ وَقِيلَ: نَقَّبَ عَنِ الأَخْبار: أَخْبر بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِني لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ الناسِ»أَي أُفَتِّشَ وأَكْشِفَ.

والنَّقِيبُ: عَريفُ الْقَوْمُ، والجمعُ نُقَباءُ.

والنَّقيب: العَريفُ، وَهُوَ شاهدُ الْقَوْمِ وضَمِينُهم؛ ونَقَبَ عَلَيْهِمْ يَنْقُبُ نِقابةً: عَرَف.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}.

قَالَ أَبو إِسحاق: النَّقِيبُ فِي اللغةِ كالأَمِينِ والكَفِيلِ.

وَيُقَالُ: نَقَبَ الرجلُ عَلَى القَومِ يَنْقُبُ نِقابةً، مِثْلَ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتابةً، فَهُوَ نَقِيبٌ؛ وَمَا كَانَ الرجلُ نَقِيبًا، وَلَقَدْ نَقُبَ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذا أَردتَ أَنه لَمْ يَكُنْ نَقِيبًا ففَعَل، قُلْتَ: نَقُبَ، بِالضَّمِّ، نَقابة، بِالْفَتْحِ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: النِّقَابَةُ، بِالْكَسْرِ، الِاسْمُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، مِثْلُ الوِلاية والوَلاية.

وَفِي حَدِيثِ عُبادة بْنِ الصَّامِتِ: «وَكَانَ مِنَ النُّقباءِ»؛ جَمْعُ نَقِيبٍ، وَهُوَ كالعَرِيف عَلَى الْقَوْمِ، المُقَدَّم عَلَيْهِمُ، الَّذِي يَتَعَرَّف أَخْبَارَهم، ويُنَقِّبُ عَنْ أَحوالهم؛ أي يُفَتِّشُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعلَ، ليلةَ العَقَبَةِ، كلَّ وَاحِدٍ مِنَ الجماعة الذينبَايَعُوهُ بِهَا نَقيبًا عَلَى قَوْمِهِ وَجَمَاعَتِهِ، ليأْخُذوا عَلَيْهِمُ الإِسلامَ ويُعَرِّفُوهم شَرائطَه، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقيبًا كُلُّهُمْ مِنَ الأَنصار، وَكَانَ عُبادة بْنُ الصَّامِتِ مِنْهُمْ.

وَقِيلَ: النَّقِيبُ الرئيسُ الأَكْبَرُ.

وَقَوْلُهُمْ: فِي فلانٍ مَنَاقِب جميلةٌ أَي أَخْلاقٌ.

وَهُوَ حَسَنُ النَّقِيبةِ أَي جميلُ الْخَلِيقَةِ.

وإِنما قِيلَ للنَّقِيب نَقيبٌ، لأَنه يَعْلَمُ دخيلةَ أَمرِ الْقَوْمِ، وَيَعْرِفُ مَناقبهم، وَهُوَ الطريقُ إِلى مَعْرِفَةِ أُمورهم.

قَالَ: وَهَذَا الْبَابُ كلُّه أَصلُه التأْثِيرُ الَّذِي لَهُ عُمْقٌ ودُخُولٌ؛ وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ: نَقَبْتُ الْحَائِطَ أَي بَلغت فِي النَّقْب آخرَه.

وَيُقَالُ: كَلْبٌ نَقِيبٌ، وَهُوَ أَن يَنْقُبَ حَنْجَرَةَ الكلبِ، أَو غَلْصَمَتَه، ليَضْعُفَ صوتُه، وَلَا يَرْتَفِع صوتُ نُباحِه، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ البُخلاء مِنَ الْعَرَبِ، لِئَلَّا يَطْرُقَهم ضَيْفٌ، بِاسْتِمَاعِ نُباح الْكِلَابِ.

والنِّقَابُ: البطنُ.

يُقَالُ فِي المَثل، فِي الِاثْنَيْنِ يَتَشَابَهانِ: فَرْخَانِ فِي نِقابٍ.

والنَّقِيبُ: المِزْمارُ.

وناقَبْتُ فُلَانًا إِذا لَقِيتَه فَجْأَةً.

ولَقِيتُه نِقابًا أَي مُواجَهة؛ وَمَرَرْتُ عَلَى طَرِيقٍ فَناقَبَني فِيهِ فلانٌ نِقابًا أَي لَقِيَني عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَا اعْتِمَادٍ.

وورَدَ الماءَ نِقابًا، مِثْلُ التِقاطًا إِذا ورَد عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَن يَشْعُرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَقِيلَ: وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ.

ونَقْبٌ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ سُلَيْكُ بنُ السُّلَكَة:

وهُنَّ عِجَالٌ مِنْ نُباكٍ، وَمِنْ نَقْبِ """"نكب: نَكَبَ عَنِ الشيءِ وَعَنِ الطَّرِيقِ يَنْكُب نَكْبًا ونُكُوبًا، ونَكِبَ نَكَبًا، ونَكَّبَ، وتَنَكَّبَ: عَدَلَ؛ قَالَ:

إِذا مَا كنتَ مُلْتَمِسًا أَيامَى، ***فَنَكِّبْ كلَّ مُحْتِرةٍ صَناعِ

وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَعراب، وَقَدْ كَبِرَ، وَكَانَ فِي دَاخِلِ بَيْتِهِ، ومَرَّتْ سَحابةٌ: كيفَ تَراها يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: أَراها قَدْ نَكَّبَتْ وتَبَهَّرَتْ؛ نَكَّبَتْ: عَدَلَتْ؛ وأَنشد الْفَارِسِيُّ:

هُمَا إِبلانِ، فِيهِمَا مَا عَلِمْتُمُ، ***فَعَنْ أَيِّها، مَا شِئْتُمُ، فتَنَكَّبُوا

عدَّاه بِعَنْ، لأَن فِيهِ مَعْنَى اعْدلوا وتباعَدُوا، وَمَا زَائِدَةٌ.

قَالَ الأَزهري: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ نَكَبَ فلانٌ عَنِ الصَّوَابِ يَنْكُبُ نُكُوبًا إِذا عَدَل عَنْهُ.

ونَكَّبَ عَنِ الصَّوَابِ تَنْكِيبًا، ونَكَّبَ غيرَه.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه قَالَ لِهُنَيّ مَوْلَاهُ: «نَكِّبْ عَنَّا ابْنِ أُمّ عَبدٍ»أَي نَحِّه عَنَّا.

وتَنَكَّبَ فلانٌ عَنَّا تَنَكُّبًا أَي مَالَ عَنَّا.

الْجَوْهَرِيُّ: نَكَّبه تَنْكيبًا أَي عَدَل عَنْهُ وَاعْتَزَلَهُ.

وتَنَكَّبَه أَي تَجَنَّبَه.

ونَكَّبَه الطريقَ، ونَكَّبَ بِهِ: عَدَلَ.

وطريقٌ يَنْكُوبٌ: عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ.

والنَّكَبُ، بِالتَّحْرِيكِ: المَيَلُ فِي الشيءِ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: شِبْهُ مَيَل فِي المَشْي؛ وأَنشد: عَنِ الحَقِّ أَنْكَبُ أَي مائلٌ عَنْهُ؛ وإِنه لَمِنْكابٌ عَنِ الحَقِّ.

وقامةٌ نَكْبَاءُ: مَائِلَةٌ، وقِيَمٌ نُكْبٌ.

والقامةُ: البَكْرَةُ.

وَفِي حَدِيثِ حَجَّة الْوَدَاعِ: «فَقَالَ بأُصْبُعه السَّبَّابة يَرْفَعُها إِلى السماءِ، ويَنْكُبُها إِلى النَّاسِ»أَي يُميلُها إِليهم؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَن يُشْهِدَ اللهَ عَلَيْهِمْ.

يُقَالُ: نَكَبْتُ الإِناءَ نَكْبًا ونَكَّبْتُه تَنْكيبًا إِذا أَماله وكَبَّه.

وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «نَكِّبُوا عَنِ الطَّعام»؛ يُريد"""" الأَكُولةَ وذواتِ اللَّبَنِ ونحوَهما؛ أي أَعْرِضُوا عَنْهَا، وَلَا تأْخذوها فِي الزَّكَاةِ، ودَعُوها لأَهلها، فَيُقَالُ فِيهِ: نَكَبَ ونَكَّبَ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: نَكِّبْ عَنْ ذَاتِ الدَّرِّ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، قَالَ لوَحْشِيٍّ: تَنَكَّبْ عَنْ وَجْهي """"أَي تَنَحَّ، وأَعْرِضْ عَنِّي.

والنَّكْبَاءُ: كلُّ ريحٍ؛ وَقِيلَ كلُّ رِيحٍ مِنَ الرِّيَاحِ الأَربع انْحَرَفَتْ ووقَعَتْ بَيْنَ رَيِحَيْنِ، وَهِيَ تُهلِكُ المالَ، وتحْبِسُ القَطْرَ؛ وَقَدْ نَكَبَتْ تَنْكُبُ نُكُوبًا، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: النَّكْبَاءُ الَّتِي لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا، هِيَ الَّتِي تَهُبُّ بَيْنَ الصَّبَا والشَّمَال.

والجِرْبِيَاءُ: الَّتِي بينَ الجَنُوب والصَّبَا؛ وَحَكَى ثعلبٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: أَنَّ النُّكْبَ مِنَ الرِّيَاحِ أَربعٌ: فنَكْبَاءُ الصَّبا والجَنُوبِ مِهْيَافٌ مِلْوَاحٌ مِيباسٌ للبَقْلِ، وَهِيَ الَّتِي تجيءُ بَيْنَ الرِّيِحَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تُسَمَّى الأَزْيَبَ؛ ونَكْبَاءُ الصَّبا والشَّمَال مِعْجَاجٌ مِصْرَاد، لَا مَطَر فِيهَا وَلَا خَيْرَ عِنْدَهَا، وَتُسَمَّى الصَّابِيةَ، وَتُسَمَّى أَيضًا النُّكَيْبَاءَ، وإِنما صَغَّروها، وَهُمْ يُرِيدُونَ تَكْبِيرَهَا، لأَنهم يَسْتَبْرِدُونها جِدًّا؛ ونَكْبَاءُ الشَّمَال والدَّبُور قَرَّةٌ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهَا مَطَرٌ قَلِيلٌ، وَتُسَمَّى الجِرْبِياءَ، وَهِيَ نَيِّحَةُ الأَزْيَبِ؛ ونَكْبَاءُ الجَنُوبِ والدَّبُور حارَّة مِهْيافٌ، وَتُسَمَّى الهَيْفَ، وَهِيَ نَيِّحَةُ النُّكَيْبَاء، لأَن الْعَرَبَ تُناوِحُ بَيْنَ هَذِهِ النُّكْبِ، كَمَا ناوحُوا بَيْنَ القُوم مِنَ الرياحِ؛ وَقَدْ نَكَبَتْ تَنْكُبُ نُكُوبًا.

ودَبور نَكْبٌ: نَكْباءُ.

الْجَوْهَرِيُّ: والنَّكْباءُ الرِّيحُ النَّاكِبَةُ، الَّتِي تَنْكُبُ عَنْ مَهَابِّ الرياحِ القُومِ، والدَّبُور رِيحٌ مِنْ رِيَاحِ القَيْظِ، لَا تَكُونُ إِلا فِيهِ، وَهِيَ مِهْيَافٌ؛ والجَنوبُ تَهُبُّ كلَّ وَقْتٍ.

وَقَالَ ابنُ كِناسَةَ: تَخرج النَّكْباءُ مَا بَيْنَ مَطْلَعِ الذِّراع إِلى القُطْب، وَهُوَ مَطْلَع الكَواكب الشَّامِيَّةِ، وجعَلَ مَا بَيْنَ القُطْبِ إِلى مَسْقَطِ الذِّرَاعِ، مَخْرَجَ الشَّمال، وَهُوَ مَسْقَطُ كُلِّ نَجْمٍ طَلَعَ مِنْ مَخْرج النَّكْباءِ، مِنَ الْيَمَانِيَةِ، وَالْيَمَانِيَةُ لَا يَنْزِلُ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ، إِنما يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَهِيَ شَامِيَّةٌ.

قَالَ شَمِرٌ: لِكُلِّ رِيحٍ مِنَ الرِّيَاحِ الأَربع نَكْباءُ تُنْسَبُ إِليها، فالنَّكْباءُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلى الصَّبا هِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّمَالِ، وَهِيَ تُشْبِهُهَا فِي اللِّينِ، وَلَهَا أَحيانًا عُرامٌ، وَهُوَ قَلِيلٌ، إِنما يَكُونُ فِي الدَّهْرِ مَرَّةً؛ والنَّكْباءُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلى الشَّمال، وَهِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّبُور، وَهِيَ تُشْبِهها فِي البَرْد، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الشَّمال: الشامِيَّةُ، كلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عِنْدَ الْعَرَبِ شَامِيَّةٌ؛ والنَّكْباءُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلى الدَّبُور، هِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الجَنُوب، تجيءُ مِنْ مَغِيبِ سُهَيْل، وَهِيَ تُشْبِه الدَّبور فِي شِدَّتها وعَجاجِها؛ والنَّكْباءُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلى الجَنوب، هِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّبا، وَهِيَ أَشْبَهُ الرِّياح بِهَا، فِي رِقَّتِهَا وَفِي لِينِهَا فِي الشتاءِ.

وَبَعِيرٌ أَنْكَبُ: يَمْشي مُتَنَكِّبًا.

والأَنْكَبُ مِنَ الإِبل: كأَنما يَمْشِي فِي شِقٍّ؛ وأَنشد:

أَنْكَبُ زَيَّافٌ، وَمَا فِيهِ نَكَبْ """"ومَنْكِبا كلِّ شيءٍ: مُجْتَمَعُ عَظْمِ العَضُدِ والكتِفِ، وحَبْلُ العاتِق مِنَ الإِنسانِ والطائرِ وكلِّ شيءٍ.

ابْنُ سِيدَهْ: المَنْكِبُ مِنَ الإِنسان وَغَيْرِهِ: مُجْتَمَعُ رأْسِ الكَتِفِ والعَضُدِ، مُذَكَّرٌ لَا غَيْرَ، حَكَى ذَلِكَ اللِّحْيَانِيُّ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ اسْمٌ للعُضْو، لَيْسَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَلَا الْمَكَانِ، لأَن فِعْلَه نَكَبَ يَنكُبُ، يَعْنِي أَنه لَوْ كَانَ عَلَيْهِ، لَقَالَ: مَنْكَبٌ؛ قَالَ: وَلَا يُحْمَل عَلَى بَابِ مَطْلِع، لأَنه نَادِرٌ، أَعني بابَ مَطْلِع.

وَرَجُلٌ شديدُ المَناكِبِ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُفَرَّقُ فَيُجْعَلُ جَمِيعًا؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا كَثِيرًا، وقياسُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَنيَكُونُوا ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إِلى تَعْظِيمِ الْعُضْوِ، كأَنهم جَعَلُوا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُ مَنْكِبًا.

ونَكِبَ فلانٌ يَنْكَبُ نَكَبًا إِذا اشْتَكى مَنْكِبَهُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «خِيارُكم أَلْيَنُكُمْ مَناكِبَ فِي الصَّلَاةِ»؛ أَراد لزُومَ السَّكِينَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَقِيلَ أَراد أَن لَا يَمْتَنِعَ عَلَى مَنْ يجيءُ لِيَدْخُلَ فِي الصَّفِّ، لِضِيقِ الْمَكَانِ، بَلْ يُمَكِّنُه مِنْ ذَلِكَ.

وانْتَكَبَ الرجلُ كِنانَتَهُ وقَوْسَه، وتَنَكَّبها: أَلْقاها عَلَى مَنْكِبِه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ إِذا خَطَبَ بالمُصَلَّى، تَنَكَّبَ عَلَى قَوْسٍ أَو عَصًا»أَي اتَّكأَ عَلَيْهَا؛ وأَصله مِن تَنَكَّبَ القوسَ، وانْتَكَبها إِذا عَلَّقها فِي مَنْكبه.

والنَّكَبُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْكَافِ: داءٌ يأْخذ الإِبلَ فِي مَناكبها، فَتَظْلَعُ مِنْهُ، وَتَمْشِي مُنْحَرِفةً.

ابْنُ سِيدَهْ: والنَّكَبُ ظَلَعٌ يأْخذ البعيرَ مِنْ وَجَع فِي مَنْكِبه؛ نَكِبَ البعيرُ، بِالْكَسْرِ، يَنْكَبُ نَكَبًا، وَهُوَ أَنْكَبُ؛ قَالَ:

يَبْغِي فيُرْدِي وخَدانَ الأَنْكَبِ """"الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ العَدَبَّسُ: لَا يَكُونُ النَّكَبُ إِلا فِي الكَتِفِ؛ وَقَالَ رجلٌ مِنْ فَقْعَسٍ:

فهَلَّا أَعَدُّوني لمِثْلي تَفاقَدُوا، ***إِذا الخَصْمُ، أَبْزى، مائِلُ الرأْسِ أَنكَبُ

قَالَ: وَهُوَ مِنْ صِفَةِ المُتَطاوِل الجائرِ.

ومَناكِب الأَرضِ: جبالُها؛ وَقِيلَ: طُرُقها؛ وَقِيلَ: جَوانِبُها؛ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ فِي جَوَانِبِهَا؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ فِي جِبَالِهَا؛ وَقِيلَ: فِي طُرُقها.

قَالَ الأَزهري: وأَشبَهُ التَّفْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعلم، تَفْسِيرُ مَنْ قَالَ: فِي جِبَالِهَا، لأَن قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، مَعْنَاهُ سَهَّلَ لَكم السُّلوكَ فِيهَا، فأَمكنكم السُّلُوكُ فِي جِبَالِهَا، فَهُوَ أَبلغ فِي التَّذْلِيلِ.

والمَنْكِبُ مِنَ الأَرض: الموضعُ الْمُرْتَفِعُ.

وَفِي جَناح الطائرِ عِشْرُونَ رِيشَةً: أَوَّلُها القَوادِمُ، ثُمَّ المَناكِبُ، ثُمَّ الخَوافي، ثُمَّ الأَباهِرُ، ثُمَّ الكُلى؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَعْرِفُ للمَناكب مِنَ الرِّيشِ وَاحِدًا، غَيْرَ أَن قِيَاسَهُ أَن يَكُونَ مَنْكِبًا.

غَيْرُهُ: والمَناكِبُ فِي جَناحِ الطَّائِرِ أَربعٌ، بَعْدَ القَوادِم؛ ونَكَبَ عَلَى قَوْمِهِ يَنْكُبُ نِكابَةً ونُكوبًا، الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، إِذا كَانَ مَنْكِبًا لَهُمْ، يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ.

وَفِي الْمُحْكَمِ عَرَفَ عَلَيْهِمْ؛ قَالَ: والمَنْكِبُ العَرِيفُ، وَقِيلَ: عَوْنُ العَريفِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: مَنْكِبُ الْقَوْمِ رأْسُ العُرَفاءِ، عَلَى كَذَا وَكَذَا عَرِيفًا مَنْكِبٌ، وَيُقَالُ لَهُ: النِّكابةُ فِي قَوْمِهِ.

وَفِي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ: «كَانَ يَتَوَسَّطُ العُرَفاءَ والمَناكِب»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: المَناكِبُ قومٌ دُونَ العُرَفاءِ، واحدُهم مَنْكِبٌ؛ وَقِيلَ: المَنْكِبُ رأْسُ العُرفاءِ.

والنِّكابةُ: كالعِرافَةِ والنِّقابة.

ونَكَبَ الإِناءَ يَنْكُبُه نَكْبًا: هَراقَ مَا فِيهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ شيءٍ غَيْرِ سَيّالٍ، كَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ.

ونَكَبَ كِنانَتَه يَنْكُبُها نَكْبًا: نَثَرَ مَا فِيهَا، وَقِيلَ إِذا كَبَّها ليُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ السِّهام.

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ، قَالَ يَوْمَ الشُّورَى: «إِني نَكَبْتُ قرَني»، فأَخَذْتُ سَهْمِي الفالِجَ أَي كَبَبْتُ كِنانَتي.

وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: «أَن أَمير المؤْمنين نَكَبَ كنانَتَه»، فَعَجَم عِيدانَها.

والنَّكْبَةُ: المُصيبةُ مِنْ مَصائب الدَّهْرِ، وإِحْدى """"نَكَباتِه، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا.

والنَّكْبُ: كالنَّكْبَة؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ ذُرَيْح:

تَشَمَّمْنَه، لَوْ يَسْتَطِعْنَ ارْتَشَفْنَه، ***إِذا سُفْنَهُ، يَزْدَدْنَ نَكْبًا عَلَى نَكْبِ

وَجَمْعُهُ: نُكُوبٌ.

ونَكَبه الدهرُ يَنْكُبه نَكْبًا ونَكَبًا: بَلَغَ مِنْهُ وأَصابه بنَكْبةٍ؛ وَيُقَالُ: نَكَبَتْهُ حوادثُ الدَّهْر، وأَصابَتْه نَكْبَةٌ، ونَكَباتٌ، ونُكُوبٌ كَثِيرَةٌ، ونُكِبَ فلانٌ، فَهُوَ مَنْكُوبٌ.

ونَكَبَتْه الحجارةُ نَكْبًا أَي لَثَمَتْه.

والنَّكْبُ: أَن يَنْكُبَ الحجرُ ظُفْرًا، أَو حَافِرًا، أَو مَنْسِمًا؛ يُقَالُ: مَنْسِمٌ مَنْكوبٌ، ونَكِيبٌ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

وتَصُكُّ المَرْوَ، لمَّا هَجَّرَتْ، ***بِنَكِيبٍ مَعِرٍ، دَامِي الأَظَلّ

الْجَوْهَرِيُّ: النَّكِيبُ دائرةُ الحافِر، والخُفِّ؛ وأَنشد بَيْتَ لَبِيدٍ: ونَكَبَ الحَجرُ رِجْلَهُ وظُفْره، فَهُوَ مَنْكُوبٌ ونَكِيبٌ: أَصابه.

وَيُقَالُ: لَيْسَ دونَ هَذَا الأَمر نَكْبة، ولا ذُياحٌ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: النَّكْبةُ أَن يَنْكُبه الحَجَرُ؛ والذُّياحُ: شَقٌّ فِي بَاطِنِ القَدَم.

وَفِي حَدِيثِ قُدوم المُسْتَضْعَفين بِمَكَّةَ: «فجاؤُوا يَسُوقُ بِهِمُ الوليدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَسَارَ ثَلَاثًا عَلَى قَدَمَيْه، وَقَدْ نَكَبَتْه الحَرَّةُ»أَي نَالَتْهُ حجارتُها وأَصابته؛ وَمِنْهُ النَّكْبةُ، وَهُوَ مَا يُصيبُ الإِنسان مِنَ الحَوادث.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه نُكِبَتْ إِصبَعُه»أَي نَالَتْهَا الْحِجَارَةُ.

ورجلٌ أَنْكَبُ: لَا قَوْسَ مَعَهُ.

ويَنْكُوبٌ: ماءٌ معروفٌ؛ عَنْ كُرَاعٍ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


40-لسان العرب (قصف)

قصف: القَصْف: الْكَسْرُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: كَسَرَ القَناة وَنَحْوَهَا نِصفين.

قَصَفَ الشيءَ يَقْصِفه قَصْفًا: كَسَرَهُ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَصِف أَباها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَلَا قَصَفُوا لَهُ قَناة»أَي كَسَرُوا.

وَقَدْ قَصِفَ قَصَفًا، فَهُوَ قَصِفٌ وقَصِيفٌ وأَقْصَفُ.

وانْقَصَفَ وتَقَصَّفَ: انْكَسَرَ، وَقِيلَ: قَصِفَ انْكَسَرَ وَلَمْ يَبِن.

وانْقَصَفَ: بَانَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " وأَسْمَرٌ غيرُ مَجْلُوزٍ عَلَى قَصَفِ "وقَصَفَتِ الرِّيحُ السَّفِينَةَ.

والأَقْصَفُ: لُغَةٌ فِي الأَقْصَم، وَهُوَ الَّذِي انْكَسَرَتْ ثَنِيّته مِنَ النِّصْفِ.

وقَصِفَتْ ثنِيّتُه قَصَفًا، وَهِيَ قَصْفَاء: انْكَسَرَتْ عَرْضًا؛ قَالَ الأَزهري: الَّذِي نَعْرِفُهُ فِي الَّذِي انْكَسَرَتْ ثَنِيَّتُهُ مِنَ النِّصْفِ الأَقصم.

والقَصْفُ: مَصْدَرُ قصَفْتُ العُود أَقْصِفُه قَصْفًا إِذَا كَسَرْتَهُ.

وقَصِفَ العودُ يَقْصَف قَصَفًا، وَهُوَ أَقْصَفُ وقَصِفٌ إِذَا كَانَ خَوّارًا ضَعِيفًا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ رَجُلٌ قَصِف سَرِيعُ الِانْكِسَارِ عَنِ النَّجْدةِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شَاهِدُهُ قَوْلُ قَيس بْنِ رِفاعة:

أُولو أَناةٍ وأَحْلامٍ إِذَا غَضِبُوا، ***لَا قَصِفُونَ وَلَا سُودٌ رَعابيبُ

وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ إِذَا خَلَوْا عَنْ شَيْءٍ فَترةً وخِذلانًا: انْقَصَفُوا عَنْهُ.

وَرَجُلٌ قَصِفُ البَطن عَنِ الْجُوعِ: ضَعِيف عَنِ احْتِمَالِهِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

وَرِيحٌ قَاصِف وقَاصِفَة: شَدِيدَةٌ تُكَسِّر مَا مرَّت بِهِ مِنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الرِّياحُ ثَمَانٍ: أَربعٌ عَذَابٌ وأَربع رَحْمَةٌ، فأَما الرَّحمة فالناشِراتُ والذَّارِياتُ والمُرْسَلاتُ والمُبَشِّرات، وأَما الْعَذَابُ فالعاصِفُ والقَاصِفُ وَهُمَا فِي الْبَحْرِ، والصَّرْصَر والعَقيمُ وَهُمَا فِي البرِّ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ}؛ أَي رِيحًا تَقْصِف الأَشياء تَكْسِرُها كَمَا تُقْصَف العِيدان وَغَيْرُهَا.

وَثَوْبٌ قَصِيف: لَا عَرْض لَهُ.

والقَصْفُ والقَصَفَة: هَدِيرُ الْبَعِيرِ وَهُوَ شِدَّةُ رُغائه.

قَصَفَ البعيرُ يَقْصِفُ قَصْفًا وقُصُوفًا وقَصِيفًا: صَرَفَ أَنيابه وهَدر فِي الشِّقْشِقة.

ورَعْدٌ قَاصِفٌ: شَدِيدُ الصَّوْتِ.

قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: إِذَا بلَغ الرَّعد الْغَايَةَ فِي الشدَّة فَهُوَ القَاصِف، وَقَدْ قَصَفَ يَقْصِفُ قَصْفًا وقَصِيفًا.

وَفِي حَدِيثِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وضَرْبه الْبَحْرَ: «فانتَهى إِلَيْهِ وَلَهُ قَصِيف مَخافة أَن يَضْرِبه بعَصاه»؛ أي صَوْتٌ هَائِلٌ يُشبه صَوْتَ الرَّعْد؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَعْد قَاصِف؛ أي شَدِيدٌ مُهْلك لِصَوْتِهِ.

والقَصْف: اللَّهْو واللَّعِب، وَيُقَالُ: إِنَّهَا مُولَّدة.

والقَصْفُ: الجَلَبة والإِعْلان بِاللَّهْوِ.

وقَصَفَ عَلَيْنَا بالطَّعام يَقْصِفُ قَصْفًا: تابَعَ.

ابْنُ الأَعرابي: القُصُوف الإِقامة فِي الأَكل وَالشُّرْبِ.

والقَصْفَة: دَفْعة الْخَيْلِ عِنْدَ اللِّقاء.

والقَصْفةُ: دَفْعة النَّاسِ وقَضَّتُهم وزَحْمتهم، وَقَدِ انْقَصَفوا، وَرُبَّمَا قَالُوهُ فِي الْمَاءِ.

وقَصْفَة الْقَوْمِ: تَدافُعُهم وَازْدِحَامُهُمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ نَابِغَةُ بَنِي جَعدةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: أَنا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطٌّ لقَاصِفِينَ، وَذَلِكَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُمُ الَّذِينَ يَزْدَحِمُونَ حَتَّى يَقْصِف بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِنَ القَصْف الكسرِ والدَّفْعِ الشديد، لفَرْطالزِّحام؛ يُرِيدُ أَنهم يتقدَّمون الأُممَ إِلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ عَلَى إِثْرِهِمْ بِدارًا مُتدافعين ومُزْدَحِمين.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الانْقِصَافُ الانْدِفاع.

يُقَالُ: انْقَصَفُوا عَنْهُ إِذَا تَرَكُوهُ ومرُّوا؛ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَن النَّبِيِّينَ يَتَقَدَّمُونَ أُممهم فِي الْجَنَّةِ والأُمم عَلَى أَثرهم يُبَادِرُونَ دُخُولَهَا فيَقْصِفُ بعضُهم بَعْضًا أَي يَزْحَمُ بعضُهم بَعْضًا بِدارًا إِلَيْهَا.

وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: مَعْنَاهُ أَنا وَالنَّبِيُّونَ مُتَقَدِّمُونَ فِي الشَّفَاعَةِ كَثِيرِينَ مُتَدَافِعِينَ مُزْدَحِمين.

وَيُقَالُ: سَمِعْتُ قَصْفَة الناسِ أَي دَفْعَتهم وزَحْمتَهم؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " كقَصْفَةِ الناسِ مِنَ المُحْرَنْجِمِ وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما يَهُمُّني مِنِ انْقِصَافِهِم عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شفاعَتي "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: أَي أَنّ اسْتِسْعادَهم بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وأَن يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ أَهمُّ عِنْدِي مِنْ أَن أَبلغ أَنا مَنْزِلَةَ الشَّافِعِينَ المُشَفَّعين، لأَن قَبُولَ شَفَاعَتِهِ كَرَامَةٌ لَهُ، فَوُصُولُهُمْ إِلَى مُبْتَغَاهُمْ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ نَيل هَذِهِ الْكَرَامَةِ لفَرْط شفَقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمته.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ يُصَلِّي ويَقرأُ الْقُرْآنَ فتَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وأَبناؤهم»؛ أي يَزْدَحِمون.

وَفِي حَدِيثِ الْيَهُودِيِّ: «لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: تَرَكْتُ بَنِي قَيْلة يَتَقَاصَفُون عَلَى رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنه نَبِيٌّ».

وَفِي الْحَدِيثِ: «شَيَّبَتْني هُود وأَخواتُها قَصَّفْن عليَّ الأُمم»أَي ذُكر لِي فِيهَا هَلَاكُ الأُمم وقُصَّ عليَّ فِيهَا أَخبارهم حَتَّى تَقَاصَفَ بعضُها عَلَى بَعْضٍ، كأَنَّها ازْدَحَمَتْ بِتتابُعها.

وَرَجُلٌ صَلِفٌ قَصِفٌ: كأَنه يُدافع بِالشَّرِّ.

وانْقَصَفُوا عَلَيْهِ: تتابَعُوا.

والقَصْفَةُ: رِقَّةٌ تَخْرُجُ فِي الأَرْطى، وَجَمْعُهَا قَصْفٌ، وَقَدْ أَقْصَفَ، وَقِيلَ: القَصْفَة قِطعة مِنْ رَمْلٍ تَتَقَصَّفُ مِنْ مِعْظَمِه؛ حَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَالْجَمْعُ قَصْف وقُصْفانٌ مِثْلَ تَمْرة وتَمْر وتُمْران، والقَصْفَة: مِرْقاة الدَّرَجَةِ مِثْلُ القَصْمة، وَتُسَمَّى المرأَة الضَّخْمة القِصَاف.

وَفِي الْحَدِيثِ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَعْدةٍ يَتْبَعُهَا حُذاقيٌّ عَلَيْهَا قَوْصَفٌ لَمْ يَبق مِنْهُ إِلَّا قَرْقَرُها»؛ قَالَ: والصَّعْدة الأَتانُ، والحُذاقيُّ الجَحْش، والقَوصَفُ القَطِيفة، والقَرْقر ظَهْرُهَا.

والقَصِيف: هَشيم الشَّجَرِ.

والتَّقَصُّفُ: التكسُّر.

وَيُقَالُ: قَصِفَ النبْتُ يَقْصَفُ قَصَفًا، فَهُوَ قَصِفٌ إِذَا طَالَ حَتَّى انْحَنَى مِنْ طُوله؛ قَالَ لَبِيدٍ:

حَتَّى تَزَيَّنَتِ الجِواءُ بفاخِرٍ ***قَصِفٍ، كأَلوان الرِّجال، عَميم

أَي نَبْتٍ فاخِر.

والبَرْدِيُّ إِذَا طَالَ يُقَالُ لَهُ القَصِيفُ.

وبنو قِصَافٍ: بطن.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


41-لسان العرب (ظبا)

ظبا: الظُّبَة: حَدُّ السَّيْفِ والسِّنانِ والنَّصْل والخَنجر وَمَا أَشْبه ذَلِكَ.

وَفِي حَدِيثِ قَيْلة: « أَنها لمَّا خَرَجَتْ إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدركها عمُّ بناتِها قَالَ فأَصابَتْ ظُبَةُ سيفِه طَائِفَةً مِنْ قُرون رأْسه »؛ ظُبَة السَّيْفِ: حَدُّه، وَهُوَ مَا يَلي طَرَف السَّيْفِ، وَمِثْلُهُ ذُبابه؛ قَالَ الكميت:

يَرَى الرَّاؤُونَ، بالشَّفَرات، مِنَّا ***وَقُودَ أَبي حُباحِبَ والظُّبِينا

وَالْجَمْعُ ظُبَاتٌ وظِبُونَ وظُبُونَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَإِنَّمَا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْوَاوِ لِمَكَانِ الضَّمَّةِ لأَنها كأَنها دَلِيلٌ عَلَى الْوَاوِ، مَعَ أَن مَا حُذِفَتْ لَامُهُ وَاوًا نَحْوَ أَب وأَخ وحَمٍ وهَنٍ وسَنَة وعِضَة فِيمَنْ قَالَ سَنَوات وعِضَوات أَكثر مِمَّا حُذِفَتْ لامُه يَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِنْهَا فَاءً وَلَا عَيْنًا، أَما امْتِنَاعُ الْفَاءِ فلأَن الْفَاءَ لَمْ يَطَّرِد حَذْفُهَا إِلا فِي مَصَادِرِ بَنَاتِ الْوَاوِ نَحْوَ عِدَة وزِنَة وحِدَة، وَلَيْسَتْ ظُبَة مِنْ ذَلِكَ، وأَوائل تِلْكَ الْمَصَادِرِ مَكْسُورَةٌ وأَول ظُبَةٍ مَضْمُومٌ، وَلَمْ يُحْذَفْ فَاءٌ مِنْ فُعْلة إِلا فِي حَرْفٍ شَاذٍّ لَا نَظِيرَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي الصِّلة صُلة، وَلَوْلَا الْمَعْنَى وأَنَّا قَدْ وَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ صِلَة فِي مَعْنَاهَا، وَهِيَ مَحْذُوفَةُ الْفَاءِ مِنْ وَصَلْت، لَمَا أَجَزْنا أَن تَكُونَ مَحْذُوفَةَ الْفَاءِ، فَقَدْ بَطَلَ أَن تَكُونَ ظُبَة مَحْذُوفَةَ الْفَاءِ، وَلَا تَكُونُ أَيضًا مَحْذُوفَةَ الْعَيْنِ لأَن ذَلِكَ لَمْ يأْت إِلا فِي سَهْ وَمَهْ، وَهُمَا حَرْفَانِ نَادِرَانِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا.

وظُبَةُ السَّيْفِ وظُبَةُ السَّهْم: طَرَفُه؛ قَالَ بَشامة بْنُ حَرَى النَّهْشلي:

إِذا الكُماةُ تَنَحَّوْا أَن يَنالهُم ***حَدُّ الظُّبَات، وصَلْناها بأَيدينا

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: « نَافِحُوا بالظُّبَى »؛ هِيَ جَمْعُ ظُبَة السَّيْفِ، وَهُوَ طَرَفُه وحَدُّه.

قَالَ: وأَصل الظُّبَة ظُبَوٌ، بِوَزْنِ صُرَد، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وعوّض مِنْهَا الْهَاءُ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: « فوضَعْتُ ظَبيبَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ »؛ قَالَ الْحَرْبِيُّ: هَكَذَا رُوِيَ وإِنما هُوَ ظُبَة السَّيْفِ، وَهُوَ طَرَفه، وَتُجْمَعُ عَلَى الظُّبَات والظُّبِين، وأَما الضَّبيب، بِالضَّادِ، فَسَيَلانُ الدَّمِ مِنَ الْفَمِ وَغَيْرِهِ؛ وَقَالَ أَبو مُوسَى: إِنَّمَا هُوَ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ.

وَيُقَالُ لِحَدِّ السِّكِّينِ: الغِرار والظُّبَة والقُرْنَةُ، ولِجانِبِها الَّذِي لَا يَقْطَعُ: الكَلُّ.

والظُّبَة: جِنْسٌ مِنَ المَزاد.

التَّهْذِيبَ: الظَّبْيَة شِبْهُ العِجْلة والمَزادة، وإِذا خَرَجَ الدجَّال تَخْرُجُ قُدَّامه امرأَة تُسَمَّى ظَبْيَةَ، وَهِيَ تُنْذِر الْمُسْلِمِينَ بِهِ.

والظَّبْية: الجِراب، وَقِيلَ: الْجِرَابُ الصغير خاصة، وقيل: هو مِنْ جِلْدِ الظِّباء.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه أُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَبْيَة فِيهَا خَرَزٌ فأَعطى الآهِلَ منها والعَزَبَ »؛ " الظَّبْيَةُ: جِراب صَغِيرٌ عَلَيْهِ شَعْرٌ، وَقِيلَ: شِبْه الخَريطة والكِيس.

وَفِي حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبي أُسيد قَالَ: « التَقَطْتُ ظَبْيَةً فِيهَا أَلف وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وقُلْبانِ مِنْ ذَهَبٍ »أَي وَجَدْت، وتُصَغَّر فَيُقَالُ ظُبَيَّة، وَجَمْعُهَا ظِبَاء؛ وَقَالَ عَدِيّ:

بَيْتِ جُلُوفٍ طَيِّبٍ ظِلُّهُ، ***فِيهِ ظِبَاءٌ ودَواخِيلُ خُوصْ

وَفِي حَدِيثِ زَمْزَم: « قِيلَ لَهُ احْفِرْ ظَبْيَة، قَالَ: وَمَا ظَبْيَةُ؟ قَالَ: زَمْزَم »؛ سُمِّيَتْ بِهِ تَشْبِيهًا بالظَّبية الخَريطة لِجَمْعِهَا مَا فيها.

الظَّبْيُ: الْغَزَالُ، وَالْجَمْعُ أَظْبٍ وظِبَاءٌ وظُبِيٌّ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَظْبٍ أَفْعُلٌ، فأَبدلوا ضَمَّةَ الْعَيْنِ كَسْرَةً لِتَسْلَمَ الْيَاءُ، وظُبِيٌّ عَلَى فُعُول مِثْلَ ثَدْيٍ وثُدِيّ، والأُنثى ظَبْيَة، وَالْجُمْعُ ظَبَيَاتٌ وظِبَاء.

وأَرض مَظْبَاةٌ: كَثِيرَةُ الظِّباء.

وأَظْبَتِ الأَرض: كثرَ ظِباؤها.

وَلَكَ عِنْدِي مائةٌ سِنَّ الظَّبْيِ أَي هنَّ ثُنْيان لأَن الظَّبْيَ لَا يَزِيدُ عَلَى الإِثْناء؛ قَالَ:

فَجَاءَتْ كسِنِّ الظَّبْي، لَمْ أَرَ مِثْلَها ***بَوَاءَ قَتيل، أَو حَلُوبَة جَائِعِ

وَمِنْ أَمثالهم فِي صِحَّة الْجِسْمِ: بِفُلَانٍ دَاءُ ظَبْيٍ؛ قَالَ أَبو عَمْرٍو: مَعْنَاهُ أَنه لَا دَاءَ بِهِ، كَمَا أَن الظَّبْيَ لَا دَاءَ بِهِ؛ وأَنشد الأُموي:

فَلَا تَجْهَمِينا، أُمَّ عَمْرٍو، فإِنما ***بِنا داءُ ظَبْيٍ، لَمْ تَخُنه عَوامِلُه

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: قَالَ الأُموي وداء الظَّبي أَنه إِذا أَراد أَن يَثِبَ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ وَثَب.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ أَن يأْتي قَوْمَهُ فَقَالَ إِذَا أَتَيْتَهم فارْبِضْ فِي دَارِهِمْ ظَبْيًا »؛ وتأْويله أَنه بَعَثَهُ إِلى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ ليَتَبصَّر مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَتَجَسَّسَ أَخبارهم وَيَرْجِعَ إِلَيْهِ بِخَبَرِهِمْ وأَمره أَن يَكُونَ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَرَاهُمْ ويَتَبَيَّنُهُم وَلَا يَسْتَمْكِنُونَ مِنْهُ، فإِن أَرادوه بِسُوءٍ أَو رابَه مِنْهُمْ رَيْبٌ تَهَيّأَ لَهُ الهَرَب وتَفَلَّتَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ مِثْلَ الظَّبْي الَّذِي لَا يَرْبِض إِلا وَهُوَ مُتَبَاعِدٌ مُتَوَحِّشٌ بِالْبَلَدِ القَفْر، وَمَتَى ارْتَابَ أَو أَحَسَّ بفَزَع نَفَر، وَنَصَبَ ظَبْيًا عَلَى التَّفْسِيرِ لأَن الرُّبوض لَهُ، فَلَمَّا حُوِّلَ فِعْلُهُ إِلى الْمُخَاطَبِ خَرَج قَوْلُهُ ظبْيًا مفسِّرًا؛ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: قَالَ ابْنُ الأَعرابي أَراد أَقِم فِي دَارِهِمْ آمِنًا لَا تَبْرح كأَنك ظَبْيٌ فِي كِناسه قَدْ أَمِن حَيْثُ لَا يَرَى إِنْسًا.

وَمِنْ أَمثالهم: لأَتْرُكَنَّه تَرْكَ الظَّبْي ظِلَّه، وَذَلِكَ أَن الظَّبْيَ إِذا تَرَك كِناسه لَمْ يَعُد إِليه؛ يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ تأْكيد رَفْضِ الشَّيْءِ، أَيَّ شَيْءٍ كَانَ.

وَمِنْ دُعَائِهِمْ عِنْدَ الشَّماتة: بهِ لَا بِظَبْيٍ أَي جَعَلَ اللهُ تَعَالَى مَا أَصابه لَازِمًا لَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ فِي زِيَادٍ:

أَقُولُ لَهُ لمَّا أَتانا نَعِيُّه: ***بِهِ لَا بِظَبْيٍ بالصَّرِيمةِ أَعْفَرَا

والظَّبْيُ: سِمَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ؛ وإِياها أَراد عَنْتَرَةُ بِقَوْلِهِ:

عَمْرَو بْنَ أَسْوَدَ فَا زَبَّاءَ قاربةٍ ***ماءَ الكُلابِ عَلَيْهَا الظَّبْيُ، مِعْناقِ

والظَّبْيَة: الحَيَاء مِنَ المرأَة وكلِّ ذِي حافِرٍ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: والظَّبْيَة جَهاز المرأَة وَالنَّاقَةِ، يَعْنِي حَيَاءَها؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الظَّبْيَة للكَلْبة؛ وخَصَّ ابْنُ الأَعرابي بِهِ الأَتانَ والشاةَ والبَقَرةَ.

والظَّبْيَةُ مِنَ الفَرس: مَشَقُّها وَهُوَ مَسْلَكُ الجرْدان فِيهَا.

الأَصمعي: يُقَالُ لكلِّ ذَاتِ خُفٍّ أَو ظِلْفٍ الحَيَاءُ، ولكلِّ ذَاتِ حافرٍ الظَّبْيَة؛ وَلِلسِّبَاعِ كُلِّهَا الثَّفْر.

والظَّبْيُ: اسْمُ رَجُلٍ.

وظَبْيٌ: اسمُ مَوْضِعٍ، وَقِيلَ: هُوَ كَثِيبُ رَمْل، وَقِيلَ: هُوَ وادٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَمْلة؛ وَبِهِ فُسِّر قولُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وتَعْطُو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأَنه ***أَسارِيعُ ظَبْيٍ، أَو مَسَاويكُ إِسْحِل

ابْنُ الأَنباري: ظُبَاء اسْمُ كَثِيبٍ بِعَيْنِهِ؛ وأَنشد:

وكَفّ كَعُوَّاذِ النَّقا لَا يَضيرُها، ***إِذا أُبْرِزَتْ، أَن لا يكونَ خِضابُ

وعُوَّاذ النَّقا: دوابُّ تُشْبِهُ العَظَاء، وَاحِدَتُهَا عَائِذَةٌ تَلْزم الرملَ لَا تَبْرَحُه، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الظُّبَاءُ وادٍ بِتهامة.

والظَّبْيَة: مُنْعَرَج الْوَادِي، وَالْجَمْعُ ظِبَاء، وَكَذَلِكَ الظُّبَة، وَجَمْعُهَا ظُباءٌ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الْعَزِيزِ؛ وَقَدْ رَوَى بَيْتَ أَبي ذُؤَيْبٍ بِالْوَجْهَيْنِ:

عَرَفْتُ الديارَ لأُمّ الرَّهينِ ***بينَ الظُّبَاء فَوَادِي عُشَرْ

قَالَ: الظُّبَاء جَمْعُ ظُبَة لمُنْعَرج الْوَادِي، وَجَعَلَ ظُبَاءً مِثْلَ رُخالٍ وظُؤارٍ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي جَاءَ عَلَى فُعال، وأَنكر أَن يَكُونَ أَصلَه ظُبًى ثُمَّ مَدَّه لِلضَّرُورَةِ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ ابْنُ جِنِّي يَنْبَغِي أَن تَكُونَ الهمزةُ فِي الظُّبَاءِ بَدَلًا مِنْ ياءٍ وَلَا تَكُونُ أَصلًا، أَمّا مَا يَدْفَعُ كونَها أَصلًا فلأَنهم قَدْ قَالُوا فِي واحِدِها ظُبَة، وَهِيَ مُنْعَرَج الْوَادِي، واللامُ إِنما تُحْذَف إِذا كَانَتْ حرفَ علَّة، وَلَوْ جَهِلْنا قولَهم فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا ظُبَة، لَحَكَمْنَا بأَنها مِنَ الْوَاوِ اتِّباعًا لِمَا وَصَّى بِهِ أَبو الْحَسَنِ مِنْ أَن اللَّام الْمَحْذُوفَةَ إِذا جُهِلَت حُكم بأَنها واوٌ، حَمْلًا عَلَى الأَكثر، لكنَّ أَبا عُبَيْدَةَ وأَبا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ رَوَيَاهُ بَيْنَ الظِّبَاء، بِكَسْرِ الظَّاءِ وَذَكَرَا أَن الْوَاحِدَ ظَبْية، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْيَاءُ لَامًا فِي ظَبْيَةٍ وَجَبَ القَطْع بِهَا وَلَمْ يَسُغ العدولُ عَنْهَا، وَيَنْبَغِي أَن يَكُونَ الظُّباء الْمَضْمُومُ الظَّاءِ أَحدَ مَا جَاءَ مِنَ الجُمُوع عَلَى فُعال، وَذَلِكَ نَحْوُ رُخال وظُؤَارٍ وعُراق وثُناء وأُناسٍ وتُؤَامٍ ورُباب، فَإِنْ قُلْتَ: فَلَعَلَّهُ أَراد ظُبًى جَمْعَ ظُبَة ثُمَّ مَدَّ ضَرُورَةً؟ قِيلَ: هَذَا لَوْ صَحَّ الْقَصْرُ، فأَما وَلَمْ يَثْبُتِ القصرُ مِنْ جِهَةٍ فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ لِتَرْكِكَ القياسَ إِلى الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَقِيلَ: الظِّبَاءُ فِي شِعْرِ أَبي ذُؤَيْبٍ هَذَا وادٍ بِعَيْنِهِ.

وظَبْيَةُ: موضعٌ؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ ذُرَيْحٍ:

فغَيْقَةُ فالأَخْيافُ، أَخْيافُ ظَبْيةٍ، ***بِهَا مِنْ لُبَيْنى مَخْرَفٌ ومَرابِعُ

وعِرْقُ الظُّبْيَة، بِضَمِّ الظَّاءِ: مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَميال مِنَ الرَّوْحاء بِهِ مسجدُ سَيِّدِنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: « مِنْ ذِي الْمَرْوَةِ إِلى الظَّبْيَة »؛ وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي دِيَارِ جُهينة أَقْطعه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْسَجَة الجُهَني.

والظُّبْيَة: اسْمُ مَوْضِعٍ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ.

وظَبْيَان: اسْمُ رجل، بفتح الظاء.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


42-المحيط في اللغة (سطر)

السَّطْرُ: سَطْرٌ من كُتُب وشَجَرٍ مَغْرُوسٍ.

وأسْطَرَ فلانٌ اسْمي: تَجَاوَزَ السطْرَ.

فإذا كَتَبَه قيل: سَطَرَه.

وسَطرَ علينا فلانَ تَسْطِيْرًا: إذا جاءَ بأحادِيثَ تُشبِهُ الباطِلَ.

ووَاحِدُ الأساطِيْرِ: إسْطَارٌ وأُسْطُوْرَة وإسْطِيْرَةٌ وأُسْطُوْر وإسْطِيْرٌ، وهي الأحادِيْثُ لا نِظَامَ لها.

وهو يُسَطرُ: أي يَكْذبُ وُيؤلف، ومنه: (أسَاطِيْر الأولِيْنَ).

وإذا أخْطَأ الرجُلُ فَكُنِيَ عن خَطَائه قيل: أسْطَرَ.

وأسْطَارُ الأوليْنَ: أخْبَارُهم وما سُطِّرَ منها وكُتِبَ، واحِدُها سَطْرٌ ثُمَّ أسْطَارٌ ثُم أسَاطِيْرُ جَمْعُ الجَمْعِ.

والسيْطَرَةُ: مَصْدَرُ المُسَيْطِرِ وهو كالرَّقِيْبِ الحافِظِ الكاتِبِ، من قَوْلِه عَزَ وجَل: (لست عليهم بمُسَيْطِرٍ).

وسَيْطَرَ علينا فلانٌ وسُوْطِرَ؛ ولا يُقال سنيْطِرَ.

والمِسْطَارُ من الشرَابِ: ما فيه حُمُوْضَةٌ، وقيل: الصّارِعُ لشارِبِه.

والمَسْطور: المَصْرُوْعُ.

وسُطْرَةٌ وسُطَرٌ من الأمَاني.

وقد سَطَّرَ فلان: أي مَنى صاحِبَه تَمْنِيَةً.

والساطِرُونُ: مَلِكٌ من مُلُوْكِ الأعاجِمِ؛ وهو صاحِبُ الحَضْرِ.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


43-الحضارة (كاشيون)

كاشيون: kassitesأقوام جبلية، لا يعرف شيء عن أصلهم ولغتهم قبل نـزوحهم الى العراق وإلى بلاد بابل من الجبال الشمالية الشرقية في منطقة لورستان، واحتلوا مدينة بابل بعد أن تراجع عنها الحيثيون.

فأسسوا فيها مملكة كاشية680 ا-1157 ق.

م ورثت جميع ممتلكات الدولة البابلية القديمة في العراق، ولقب ملوكهم انفسهم بلقب " ملك أكد وبابل.

أشهر ملوكهم " كور يكلزو " 1438-1412 ق.

م.

وقد عاصر أخناتون فرعون مصر.

شيد عاصمة جديدة له سماها باسمــه " دور كوريكلزو"، وتعرف أطلالها اليوم باسم " عقرقوف "، وهي على نحو25 كيلو مترا شمال غربي بغداد.

وأبرز ما فيها زقورتها (مادة) الشــاهقـة، القائمة حتى يومنا هذا.

وكانت لعبادة الاله الأعظم " أنليل ".

لم يضف الكاشيون شيئًا متميزًا الى حضارة وادي الرافدين، وانما اقتبسوا من الحضارات التي كانت سائدة في عهدهم.

وقد كانت لهم صلات واسعة مع اقطار الشرق القديم في عصر أخناتون، فقد وجدت أخبارهم في ألواح تل العمارنة في العراق.

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com