نتائج البحث عن (أَخْبِرُوا)

1-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نبط)

(نبط): {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]

"النَبَط والنبيطُ: الماء الذي ينبِط من قعر البئر إذا حُفِرَت أول ما تُحفَر. نَبَط ماؤها (قعد وجلس): نبع. ونبَط الركية وأنبطها واستنبطها: أماهها. وكل ما

أُظهر فقد أُنبط. النبَط: ما يتحلب من الجبل كأنه عَرَق يخرج من أعراض الصخر."

° المعنى المحوري

نبع لطيف نافع من باطن شيء وأثنائه بجهد: كالماء الذي يَخْرج من باطن البئر بالحفر، وكذا الذي يخرج من أعراض الصخر رشْحًا يوحي بعسر خروجه. ومنه: "استنبط الفرسَ: طلب نسلها ونتاجها ".

ومن مجازه: "استنبطه واستنبط منه علمًا وخبرًا ومالًا: استخرجه ": {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَو الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لعَلِم تدبيرَ ما أُخْبِروُا به الذين يستنبطونه أي يستخرجون تدبيره بفِطَنِهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها (وكذا غير الحرب من أمور الأُمة الماسّة لأَمنها) - بدلًا من إفشاء ما سمعوا، فتصل أخبار ما أفشوه إلى الأعداء فيستغلونه ضد مصلحة الدولة، فيعد ذلك مفسدة كبيرة [ينظر بحر 3/ 318 - 319].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


2-معجم الأفعال المتعدية بحرف (أرجف)

(أرجف) القوم بالشيء وأرجفوا فيه خاضوا فيه وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم وأسترجعت الإبل رؤسها في السير حركتها.

معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م


3-معجم البلدان (الواقوصة)

الوَاقُوصَةُ:

واد بالشام في أرض حوران نزله المسلمون أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، على اليرموك لغزو الروم، وقال القعقاع بن عمرو:

«ألم ترنا على اليرموك فزنا *** كما فزنا بأيام العراق؟»

«قتلنا الروم حتى ما تساوي *** على اليرموك مفروق الوراق»

«فضضنا جمعهم لما استحالوا *** على الواقوصة البتر الرقاق»

«غداة تهافتوا فيها فصاروا *** إلى أمر تعضّل بالذواق»

وفي كتاب أبي حذيفة: أن المسلمين أوقعوا بالمشركين يوما باليرموك، قال: فشد خالد في سرعان الناس وشد المسلمون معه يقتلون كل قتلة فركب بعضهم

بعضا حتى انتهوا إلى أعلى مكان مشرف على أهويّة فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون وهو يوم ذو ضباب، وقيل: كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفا فما أحصوا إلا بالقضيب، وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ حتى اليوم لأنهم واقصوا فيها، فلما أصبح المسلمون ولم يروا الكفّار ظنوا أنهم قد كمنوا لهم حتى أخبروا بأمرهم ورحل الروم وتبعهم المسلمون يقتلون فيهم وكانت الكسرة للروم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


4-موسوعة الفقه الكويتية (إسراف 1)

إِسْرَافٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْرَافِ فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَسْرَفَ فِي مَالِهِ أَيْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ، وَوَضَعَ الْمَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.وَأَسْرَفَ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْقَتْلِ: أَفْرَطَ.وَأَمَّا السَّرَفُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَلْيُوبِيُّ لِلْإِسْرَافِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ نَفْسَهُ، وَهُوَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.

وَخَصَّ بَعْضُهُمُ اسْتِعْمَالَ الْإِسْرَافِ بِالنَّفَقَةِ وَالْأَكْلِ.يَقُولُ الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الْإِسْرَافُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.

وَقِيلَ: أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، أَوْ يَأْكُلُ مَا يَحِلُّ لَهُ فَوْقَ الِاعْتِدَالِ وَمِقْدَارِ الْحَاجَةِ.

وَقِيلَ: الْإِسْرَافُ تَجَاوُزُ الْكَمِّيَّةَ، فَهُوَ جَهْلٌ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ.

وَالسَّرَفُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِفِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّقْتِيرُ:

2- وَهُوَ يُقَابِلُ الْإِسْرَافَ، وَمَعْنَاهُ: التَّقْصِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

ب- التَّبْذِيرُ:

3- التَّبْذِيرُ: هُوَ تَفْرِيقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ قَصْدٍ، وَمِنْهُ الْبَذْرُ فِي الزِّرَاعَةِ.

وَقِيلَ: هُوَ إِفْسَادُ الْمَالِ وَإِنْفَاقُهُ فِي السَّرَفِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْمَعَاصِي، وَتَفْرِيقُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ.

وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: عَدَمُ إِحْسَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَصَرْفُهُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، فَصَرْفُ الْمَالِ إِلَى وُجُوهِ الْبِرِّ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، وَصَرْفُهُ فِي الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ.

وَعَلَى هَذَا فَالتَّبْذِيرُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْرَافِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ يُسْتَعْمَلُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي السَّرَفِ أَوِ الْمَعَاصِي أَوْ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَالْإِسْرَافُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُجَاوِزٌ الْحَدَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْأَمْوَالِ أَمْ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِسْرَافُ فِي الْإِفْرَاطِ فِي الْكَلَامِ أَوِ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَدْ فَرَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: التَّبْذِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَشْهُورِ بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْرَافَ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدًا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالتَّبْذِيرُ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ نَقْلًا عَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، التَّبْذِيرُ: الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْلُ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ.

ج- السَّفَهُ:

4- السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ: خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالطَّيْشُ وَالْحَرَكَةُ.

وَفِي الشَّرِيعَةِ: تَضْيِيعُ الْمَالِ وَإِتْلَافُهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.

وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي بُلْغَةِ السَّالِكِ: أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَوَرَدَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ: الْمُبَذِّرُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّفَهَ سَبَبُ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُمَا أَثَرَانِ لِلسَّفَهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ طَوْرِ الْعَقْلِ وَمُقْتَضَى الشَّرْعِ.

وَجَاءَ فِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ عَادَةِ السَّفِيهِ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ.وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلسَّفَهِ مِنْ أَنَّهُ: خِفَّةُ الْعَقْلِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْإِسْرَافِ عَلَاقَةُ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.

حُكْمُ الْإِسْرَافِ:

5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِسْرَافِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقِهِ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي تَعْرِيفِ الْإِسْرَافِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ صَرْفَ الْمَالِ الْكَثِيرِ فِي أُمُورِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا.أَمَّا صَرْفُهُ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّرَفِ وَفِيمَا لَا يَنْبَغِي فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ جَبَلُ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا لِرَجُلٍ، فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا، وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا أَوْ مُدًّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا، وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي الشَّرِّ، يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْفَقَ جُذَاذَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِفِعْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِسْرَافِ إِذَا كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ عَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْمَحْظُورَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ، أَوْ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ وَالْعُقُوبَاتِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.

الْإِسْرَافُ فِي الطَّاعَاتِ

أَوَّلًا- الْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:

أ- الْإِسْرَافُ فِي الْوُضُوءِ:

وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَتَيْنِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: تَكْرَارُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ:

6- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ تَكْرَارَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ إِلَى ثَلَاثٍ مَسْنُونٌ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْوُضُوءَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يُجْزِئُ، وَالثَّلَاثُ أَفْضَلُ.وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَضِيلَتَانِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَغَسْلُ الْأَعْضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ.أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُوعِبَةِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنَ السَّرَفِ فِي الْمَاءِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُمْنَعُ.

وَالْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا، أَمَّا الْمَاءُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ- وَمِنْهُ مَاءُ الْمَدَارِسِ- فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ عَلَى الثَّلَاثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَأْذُونٍ بِهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْ نِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ».

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ لِمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الثَّلَاثِ سُنَّةٌ، أَمَّا إِذَا زَادَ- مَعَ اعْتِقَادِ سُنِّيَّةِ الثَّلَاثِ- لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ، أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَدَائِعِ: إِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الثَّلَاثَ سُنَّةٌ، لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ.ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، فَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَفْضَلِيَّةَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِأَلاَّ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ قَدْ صَلَّى بِالضَّوْءِ الْأَوَّلِ صَلَاةً، وَإِلاَّ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ وَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: الْوَجْهُ الْحُرْمَةُ.أَمَّا لَوْ كَرَّرَهُ ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا بِغَيْرِ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ صَلَاةٌ فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَحْضًا عِنْدَ الْجَمِيعِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ- اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ الْمُدُّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ.وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ فِيمَنِ اعْتَدَلَ جِسْمُهُ عَنْ مُدٍّ تَقْرِيبًا، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُوَضِّئُهُ الْمُدُّ» وَلَا حَدَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِسْبَاغُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ تَقْلِيلُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ: حَتَّى يَقْطُرَ الْمَاءُ أَوْ يَسِيلَ، يَعْنِي أَنْكَرَ السَّيَلَانَ عَنِ الْعُضْوِ لَا السَّيَلَانَ عَلَى الْعُضْوِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَعَ عَدَمِ السَّيَلَانِ مَسْحٌ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْقَدْرُ الْكَافِي فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، فَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَإِسْرَافٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَقَدْ أَدَّى السُّنَّةَ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِسْبَاغِ بِقَلِيلٍ أَنْ يُقَلِّلَ الْمَاءَ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ زِيَادَةً عَلَى الْإِسْبَاغِ، أَيْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَمِعْيَارُ الْإِسْرَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَكْثَرُ الْأَحْنَافِ أَنَّ تَرْكَ التَّقْتِيرِ- بِأَنْ يَقْتَرِبَ إِلَى حَدِّ الدَّهْنِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرَ ظَاهِرٍ- وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ- بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ- سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْإِسْرَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرِّ، لَكِنْ رَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ كَوْنَهُ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا.

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ».

وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُوَسْوَسِ، أَمَّا الْمُوَسْوَسُ فَيُغْتَفَرُ فِي حَقِّهِ لِمَا ابْتُلِيَ بِهِ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْغُسْلِ:

8- مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ التَّثْلِيثُ، بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى كُلِّ بَدَنِهِ ثَلَاثًا مُسْتَوْعِبًا، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَكْرُوهًا، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَاءُ الَّذِي يُجْزِئُ الْغُسْلُ بِهِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَمَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ فَهُوَ سَرَفٌ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» فَهُوَ بَيَانٌ لِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ بِهِ أَدَاءُ السُّنَّةِ عَادَةً، وَلَيْسَ تَقْدِيرًا لَازِمًا.

ج- الْإِسْرَافُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ:

9- الْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِصَادِ وَمُرَاعَاةِ الِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، حَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.فَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا مَشْرُوطَةً بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ هُنَا أُبِيحَ الْإِفْطَارُ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَالْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ عُسْرًا، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْعُسْرِ.فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْإِسْرَافُ وَالْمُبَالَغَةُ.وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أَيِ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأَمْرِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاَللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ إِتْعَابَ النَّفْسِ فِيهَا وَالتَّشْدِيدَ عَلَيْهَا يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَالدِّينُ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ أَحَدٌ الدِّينَ إِلاَّ غَلَبَهُ، وَالشَّرِيعَةُ النَّبَوِيَّةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ.

وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ وَصَوْمِ الدَّهْرِ، كَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» وَقَالُوا بِكَرَاهَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ».قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِحْيَاءِ اللَّيْلِ الِاسْتِيعَابُ، لَكِنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نِصْفَ اللَّيْلِ فَقَدْ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَيَتَرَجَّحُ إِرَادَةُ الْأَكْثَرِ أَوِ النِّصْفِ، وَالْأَكْثَرُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ.

وَأَوْضَحُ مَا جَاءَ فِي مَنْعِ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حُجْرَتِي، فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلَا تَفْعَلَنَّ، نَمْ وَقُمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَأَنَّهُ حَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثًا، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ كُلَّ اللَّيْلِ دَائِمًا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ- غَيْرِ أَيَّامِ النَّهْيِ- فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا يُضِرُّ الْعَيْنَ وَسَائِرَ الْبَدَنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْلِ مَا فَاتَهُ مِنْ أَكْلِ النَّهَارِ، وَلَا يُمْكِنُهُ نَوْمُ النَّهَارِ إِذَا صَلَّى اللَّيْلَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.هَذَا حُكْمُ قِيَامِ اللَّيْلِ دَائِمًا، فَأَمَّا بَعْضُ اللَّيْلِ فَلَا يُكْرَهُ إِحْيَاؤُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ» وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَانِيًا- الْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ:

أ- الْإِسْرَافُ فِي الصَّدَقَةِ:

10- الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْإِسْرَافُ، لِأَنَّ أَدَاءَهَا بِالْقَدْرِ الْمُحَدَّدِ وَاجِبٌ شَرْعًا.وَتَفْصِيلُ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَمِقْدَارِ مَا وَجَبَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهَا.

أَمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ- وَهِيَ الَّتِي تُعْطَى لِلْمُحْتَاجِينَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ- فَرَغْمَ حَثِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ التَّجَاوُزِ إِلَى حَدٍّ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْرِ الْمُنْفِقِ نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَفَّفَ النَّاسَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

وَكَذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا تُخْرِجْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِك مَعَ حَاجَتِكَ وَحَاجَةِ عِيَالِكَ إِلَيْهِ، فَتَقْعُدَ مُنْقَطِعًا عَنِ النَّفَقَةِ وَالتَّصَرُّفِ، كَمَا يَكُونُ الْبَعِيرُ الْحَسِيرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلَا انْبِعَاثَ بِهِ، وَقِيلَ: لِئَلاَّ تَبْقَى مَلُومًا ذَا حَسْرَةٍ عَلَى مَا فِي يَدِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَحَسَّرُ عَلَى إِنْفَاقِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي الْإِنْفَاقِ وَإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ مِنَ الْمَالِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ،، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَأَمَّا مَنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يُعَنِّفْهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِصِحَّةِ يَقِينِهِمْ وَشِدَّةِ بَصَائِرِهِمْ.

وَفِي ضَوْءِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يُمَوِّنُهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَمَنْ أَسْرَفَ بِأَنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُهُ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ- وَلَا كَسْبَ لَهُ- فَقَدْ أَثِمَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يُمَوِّنُهُ» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يُمَوِّنُهُ وَاجِبَةٌ، وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَيُذْهِبُ مَالَهُ، وَيُبْطِلُ أَجْرَهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.

أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا فِي حَقِّهِ إِسْرَافًا.لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَكَمَالِ إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْوَصِيَّةِ:

11- الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، أَوْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِالْمَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ، وَقَدْ حَدَّدَ الشَّرْعُ حُدُودَهَا بِأَنْ لَا تَزِيدَ عَنِ الثُّلُثِ، وَرَغَّبَ فِي التَّقْلِيلِ مِنَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِتَجَنُّبِ الْإِسْرَافِ، وَإِيقَاعِ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ.

فَإِذَا وُجِدَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَبَطَلَتْ فِي الزَّائِدِ مِنْهُ اتِّفَاقًا إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

فَالثُّلُثُ هُوَ الْحَدُّ الْأَعْلَى فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْحَدِّ الْأَدْنَى، مَعَ اسْتِحْبَابِهِمُ الْأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، لِتَكُونَ صَدَقَةً وَصِلَةً مَعًا.وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (وَصِيَّة).

ثَالِثًا: الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ:

12- الْإِسْرَافُ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، حَتَّى فِي الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ، فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ، حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ».

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ، أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ الْغَدْرُ وَالْغُلُولُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إِنْ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِمْ بِدُونِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}.

وَلَوْ حَاصَرْنَاهُمْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فِيهَا، وَإِلاَّ فَرَضْنَا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مِنَّا الْمُعَامَلَةُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ شُرُوطِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَغْلِبَهُمْ عَنْوَةً.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ر: (جِهَاد) (وَجِزْيَة).

الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ

أ- الْإِسْرَافُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ:

13- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ فَرْضٌ، وَهُوَ بِقَدْرِ الشِّبَعِ مُبَاحٌ، فَإِذَا نَوَى بِالشِّبَعِ ازْدِيَادَ قُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مَحْظُورٌ، عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحِي الضَّيْفُ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}.فَالْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بِحَيْثُ يَتَقَوَّى عَلَى أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْحَرَامِ، وَلَا يُكْثِرُ الْإِنْفَاقَ الْمُسْتَقْبَحَ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مِقْدَارًا كَثِيرًا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَلِأَنَّهُ إِضَاعَةُ الْمَالِ وَإِمْرَاضُ النَّفْسِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ».

وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْحَضِّ عَلَى تَقْلِيلِ الطَّعَامِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي جُحَيْفَةَ حِينَمَا أَتَاهُ يَتَجَشَّأُ: اُكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُطْلَبُ تَخْفِيفُ الْمَعِدَةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى قَدْرٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا كَسَلٌ عَنْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ سَبَبًا فِي عِبَادَةٍ فَيَجِبُ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَيَحْرُمُ، أَوْ تَرْكُ مُسْتَحَبٍّ فَيُكْرَهُ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ.فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْحَجْرِ كَمَا سَيَأْتِي.وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَبْذِيرًا مَا لَمْ يُصْرَفْ فِي مُحَرَّمٍ، فَيُعْتَبَرُ عِنْدَئِذٍ إِسْرَافًا وَتَبْذِيرًا إِجْمَاعًا.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَكْلَ الْمَتْخُومِ، أَوِ الْأَكْلَ الْمُفْضِي إِلَى تُخَمَةٍ سَبَبٌ لِمَرَضِهِ وَإِفْسَادِ بَدَنِهِ، وَهُوَ تَضْيِيعُ الْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ.وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِالشِّبَعِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ:

14- الْإِسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَلْبَسُ بَيْنَ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، إِذْ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَلِلنَّهْيِ عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ أَوِ الْخَسَاسَةِ.وَيُنْدَبُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْجَمِيلِ لِلتَّزَيُّنِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ».

الْإِسْرَافُ فِي الْمَهْرِ:

15- الْمَهْرُ يَجِبُ إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْعَقْدِ.فَإِذَا سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ، وُعِّينَ مِقْدَارُهُ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِلاَّ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أَقَلَّ الْمَهْرِ، وَحَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَقَلَّ الْمَهْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً.

وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الْمَهْرِ إجْمَاعًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}.لِأَنَّ الْقِنْطَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الْكَثِيرِ.

وَلَكِنْ حَذَّرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ، وَقَالُوا: تُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِي الصَّدَاقِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً» وَفَسَّرُوا الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ بِمَا خَرَجَ عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْثَالِهَا، إِذِ الْمِائَةُ قَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِامْرَأَةٍ، وَقَلِيلَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لأُِخْرَى.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِكَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَهْرِ بِأَنَّ الرَّجُلَ يُغْلِي بِصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ (أَيْ فَوْقَ طَاقَتِهِ)، حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي قَلْبِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَثُرَ بِمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَيَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (مَهْر).

الْإِسْرَافُ فِي التَّكْفِينِ وَالتَّجْهِيزِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَنِ هُوَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ.وَالْإِيتَارُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثٍ لِلرَّجُلِ، وَإِلَى خَمْسٍ لِلْمَرْأَةِ سُنَّةٌ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ...»

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّ عَدَدَ الثَّلَاثِ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَزِيدُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُلِ فِي السَّتْرِ، لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ لِلرَّجُلِ، وَالْخَمْسَةِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِسْرَافِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا»

وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَحْسِينِ الْكَفَنِ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».مَعْنَاهُ: بَيَاضَهُ وَنَظَافَتَهُ، لَا كَوْنَهُ ثَمِينًا حِلْيَةً.

وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالزِّيَادَةِ إِلَى خَمْسَةٍ فِي الرَّجُلِ، وَإِلَى سَبْعَةٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُلِ، وَالسَّبْعَةِ فِي الْمَرْأَةِ إِسْرَافٌ، وَثَلَاثَةٌ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَخَمْسَةٌ أَوْلَى مِنْ سِتَّةٍ.

فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْرَافَ مَحْظُورٌ فِي الْكَفَنِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَنَ يَكُونُ وَفْقًا لِمَا يَلْبَسُهُ الْمَيِّتُ حَالَ حَيَاتِهِ عَادَةً.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَنٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (أضحية 2)

أُضْحِيَّةٌ -2

27- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.وَهُنَاكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِلْأَنْعَامِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا تُجْزِئُ (الْبَكْمَاءُ) وَهِيَ فَاقِدَةُ الصَّوْتِ وَلَا (الْبَخْرَاءُ) وَهِيَ مُنْتِنَةُ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِهَا جَلاَّلَةً وَلَا بَيِّنَةَ الْبَشَمِ، وَهُوَ التُّخَمَةُ.وَلَا (الصَّمَّاءُ) وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْمَعُ.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ (الْهَيْمَاءَ) لَا تُجْزِئُ، وَهِيَ الْمُصَابَةُ بِالْهُيَامِ وَهُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لَا تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَرْعَى.

وَكَذَا (الْحَامِلُ) عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيَصِيرُ اللَّحْمُ رَدِيئًا.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ عَدَمِ إِجْزَاءِ (الْعَصْمَاءِ) وَهِيَ الَّتِي انْكَسَرَ غِلَافُ قَرْنِهَا (وَالْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ)، وَهُوَ مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا.

وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ كُلِّهَا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ مِنَ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي».وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ».

وَأَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلَّ مَا فِيهِ عَيْبٌ فَاحِشٌ.

28- أَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا لِأَنَّ عَيْبَهَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَهِيَ كَالْآتِي:

(1) الْجَمَّاءُ: وَتُسَمَّى الْجَلْحَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَمِثْلُهَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَظْمُ دِمَاغِهَا، لِمَا صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ: لَا بَأْسَ، أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى إِجْزَاءِ الْجَمَّاءِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تُجْزِئُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْكَسْرِ دَامِيًا، وَفَسَّرُوا الدَّامِيَ بِمَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ دَمٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ وَإِنْ أَدْمَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ، مَا لَمْ يُؤَثِّرْ أَلَمُ الِانْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ مَرَضًا مَانِعًا مِنَ الْإِجْزَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَتُسَمَّى عَضْبَاءَ الْقَرْنِ.

(2) الْحَوْلَاءُ، وَهِيَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا حَوَلٌ لَمْ يَمْنَعِ الْبَصَرَ.

(3) الصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغِيرَةِ الْأُذُنَيْنِ جِدًّا، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِدُونِهِمَا.

(4) الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَإِنْ زَادَ الشَّقُّ عَلَى الثُّلُثِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ إِلاَّ إِنْ كَانَ الشَّقُّ ثُلُثًا فَأَقَلَّ.

(5) الْخَرْقَاءُ وَهِيَ مَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَذْهَبَ بِسَبَبِ الْخَرْقِ مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.

(6) الْمُدَابَرَةُ وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَمْ يُفَصَّلْ، بَلْ تُرِكَ مُعَلَّقًا، فَإِنْ فُصِّلَ فَهِيَ مَقْطُوعَةُ بَعْضِ الْأُذُنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهَا.

(7) الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الْهُتْمُ عَنِ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا عَنْهُمَا لَمْ تُجْزِئْ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ مَكْسُورُ سِنَّيْنِ فَأَكْثَرُ أَوْ مَقْلُوعَتُهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ، أَمَّا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَتُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ نَقْصًا فِي الِاعْتِلَافِ، وَلَا ذَاهِبَةُ جَمِيعِهَا وَلَا مَكْسُورَةُ جَمِيعِهَا، وَتُجْزِئُ الْمَخْلُوقَةُ بِلَا أَسْنَانٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَ مِنَ الثَّنَايَا بَقِيَّةٌ.

(8) الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الثَّوْلُ عَنِ الِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الثَّوْلَاءُ، وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا الدَّائِمَةُ الْجُنُونُ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لَا تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلَا تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ جُنُونُهَا غَيْرَ دَائِمٍ لَمْ يَضُرَّ.

وَفَسَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا الَّتِي تَسْتَدِيرُ فِي الْمَرْعَى، وَلَا تَرَى إِلاَّ قَلِيلًا، فَتَهْزَلُ.

(9) الْجَرْبَاءُ السَّمِينَةُ، بِخِلَافِ الْمَهْزُولَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ مُطْلَقًا.

(10) الْمَكْوِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي كُوِيَتْ أُذُنُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.

(11) الْمَوْسُومَةُ وَهِيَ: الَّتِي فِي أُذُنِهَا سِمَةٌ.

(12) الْعَاجِزَةُ عَنِ الْوِلَادَةِ لِكِبَرِ سِنِّهَا.

(13) الْخَصِيُّ وَإِنَّمَا أَجْزَأَ، لِأَنَّ مَا ذَهَبَ بِخِصَائِهِ يُعَوَّضُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ «وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» أَيْ مَرْضُوضَيِ الْخُصْيَتَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِالْمَرَضِ الْخِصَاءُ، لِأَنَّ أَثَرَهُمَا وَاحِدٌ.

وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى إِجْزَائِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ.

وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُغْنِي» الْإِجْزَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَكَالْخَصِيِّ الْمَوْجُوءُ وَهُوَ الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَةُ.

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

(14) الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَا قُطِعَ ذَكَرُهُ وَسَبَقَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْبُوبَ الْخَصِيُّ- وَهُوَ: مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا- لَا يُجْزِئُ، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ (ف: 26).

(15) الْمَجْزُوزَةُ وَهِيَ الَّتِي جُزَّ صُوفُهَا.

(16) السَّاعِلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْعُلُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَيَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَصْحَبْهُ مَرَضٌ بَيِّنٌ.

29- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَجَاءَ فِي كُتُبِ غَيْرِهِمْ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِمَا يُجْزِئُ.

(وَمِنْهَا) مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمُقْعَدَةَ- وَهِيَ الْعَاجِزَةُ عَنِ الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ عَلَيْهَا- تُجْزِئُ.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَشْوَاءَ تُجْزِئُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَكَذَا الْعَمْشَاءُ وَضَعِيفَةُ الْبَصَرِ.

وَكَذَا الَّتِي قُطِعَ مِنْهَا قِطْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ، كَاَلَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا قَلِيلًا مِنْ فَخِذِهَا، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْبَيِّنِ الَّذِي يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْفَخِذِ.

طُرُوءُ الْعَيْبِ الْمُخِلِّ بَعْدَ تَعْيِينِ الْأُضْحِيَّةِ:

30- لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَعَجَفَتْ عِنْدَهُ عَجَفًا بَيِّنًا لَمْ تُجْزِئْهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مُوسِرًا مُقِيمًا، وَكَانَ شِرَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يُوجِبُهَا، لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَاهُ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا نَقَصَ لَمْ يَصْلُحْ لِهَذِهِ الْإِقَامَةِ فَيَبْقَى مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ.

فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا، أَوْ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ النَّحْرِ، أَجْزَأَتْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ إِيجَابًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ نَذْرِ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا يَسْقُطُ بِهِ إِيجَابُهَا.

وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَقِيرَ أَوِ الْغَنِيَّ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أُضْحِيَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، فَتَعَيَّبَتْ، لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ إِيجَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقَامَةٌ لِمَا يَشْتَرِيهِ مَقَامَ الْوَاجِبِ.وَمِنْ شَرْطِ الْإِقَامَةِ السَّلَامَةُ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِئْ إِقَامَتُهَا مَقَامَ الْوَاجِبِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ.

وَكَالشَّاةِ الَّتِي عَجَفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، كُلُّ النَّعَمِ الَّتِي يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ عَيْبٌ مُخِلٌّ، أَوْ تَمُوتُ، أَوْ تُسْرَقُ، فَفِيهَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ.

31- وَلَوْ قَدَّمَ الْمُضَحِّي أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا، فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوِ انْقَلَبَتْ فَأَصَابَتْهَا الشَّفْرَةُ فِي عَيْنِهَا فَاعْوَرَّتْ أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ عَادَةً، فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنَ اضْطِرَابِهَا.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ بِالنَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ إِذَا حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ لَمْ تُجْزِئْ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ كَانَتْ مَنْذُورَةً، وَيُسَنُّ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْذُورَةً.

هَذَا إِنْ تَعَيَّبَتْ قَبْلَ الْإِضْجَاعِ لِلذَّبْحِ، أَمَّا لَوْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ الْإِضْجَاعِ لَهُ فَيُجْزِئُ ذَبْحُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا- عَيْبٌ يَمْنَعُ إِجْزَاءَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا اعْتِدَاءٌ- لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً.

وَإِذَا طَرَأَ الْعَيْبُ بِاعْتِدَائِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الذَّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِتَبْرَأَ ذِمَّتَهُ.

وَلَوِ اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُبْقِيَهَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشُ النَّقْصِ مِنَ الْبَائِعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا لِشَبَهِهَا Bبِالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِهَذَا الذَّبْحِ، وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا بِسَلِيمَةٍ، لِتَحْصُلَ لَهُ سُنَّةُ التَّضْحِيَةِ.

وَلَوْ زَالَ عَيْبُهَا قَبْلَ الذَّبْحِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً إِذِ السَّلَامَةُ لَمْ تُوجَدْ إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا.

وَمَنْ عَيَّنَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ بِنَذْرٍ وَلَا جُعْلٍ، فَطَرَأَ عَلَيْهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالْإِجْزَاءِ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي طُرُوءِ الْعَيْبِ بَيْنَ كَوْنِهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا وَهِيَ، سَلِيمَةٌ فَاضْطَرَبَتْ، وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوْ عَرَجَتْ تَحْتَ السِّكِّينِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاجِبَةَ لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا بَلْ بِبَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ إِذَا عَيَّنَ شَاةً صَحِيحَةً لِلتَّضْحِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ.

32- (الشَّرْطُ الرَّابِعُ): أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلذَّابِحِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لَهَا وَلَا نَائِبًا عَنْ مَالِكِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَبْحِهَا عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ، وَلَا يَقَعَ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

فَلَوْ غَصَبَ إِنْسَانٌ شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ مَالِكِهَا- مِنْ غَيْرِ إِجَازَتِهِ- لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً عَنْهُ، لِعَدَمِ الْإِذْنِ مِنْهُ، وَلَوْ ضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ، ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، فَكَذَلِكَ لَا تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا صَاحِبُهَا، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، أَجْزَأَتْ عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ، فَصَارَ ذَابِحًا لِشَاةٍ هِيَ مِلْكُهُ، لَكِنَّهُ آثِمٌ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَا تُجْزِئُ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ.ر: (غَصْبٌ).

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً فَأَضْجَعَهَا، وَشَدَّ قَوَائِمَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِهَا، فَجَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّتْ أُضْحِيَّةً لِمَالِكِهَا، لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ دَلَالَةً.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا عَيَّنَ الْأُضْحِيَّةَ فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِإِجْزَائِهَا وُجُودَ الْإِذْنِ صَرَاحَةً أَوِ اعْتِيَادِهِ ذَلِكَ.

وَلَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا، فَلَمَّا ذَبَحَهَا تَبَيَّنَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ- أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ إِنْسَانٍ غَيْرِ الْبَائِعِ- فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ، وَشِرَاؤُهُ إِيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

34- وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ فَأَخَذَهَا، فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَنِ الذَّابِحِ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ هُوَ الذَّبْحُ، فَلَا يُعْتَبَرُ الذَّابِحُ مَالِكًا إِلاَّ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَحِينَ الذَّبْحِ لَمْ يَذْبَحْ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ أُضْحِيَّةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْأَخْذُ السَّابِقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَالضَّمَانُ يُوجِبُ الْمِلْكِيَّةَ كَمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ الذَّابِحُ فِي حَالَتَيِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ذَابِحًا مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيُجْزِئُ عَنْهُ.

وَمَا قِيلَ فِي الْوَدِيعَةِ يُقَالُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي

يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَحِّي لِصِحَّةِ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

35- (الشَّرْطُ الْأَوَّلُ): نِيَّةُ التَّضْحِيَةِ: لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».

وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْقُرُبَاتُ، ثُمَّ إِنَّ الْقُرُبَاتِ مِنَ الذَّبَائِحِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ إِلاَّ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَتَكْفِي النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِهَا كَمَا فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَا فِيهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ- مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِقَلْبِهِ- لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَإِنَّ نَذْرَهُ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ وَلَوْ بِلَا نِيَّةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا، بِخِلَافِ الْمَجْعُولَةِ، بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَإِنَّ إِيجَابَهُ يَنْعَقِدُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ.

وَقَالُوا: لَوْ وَكَّلَ فِي الذَّبْحِ كَفَتْ نِيَّتُهُ وَلَا حَاجَةَ لِنِيَّةِ الْوَكِيلِ، بَلْ لَا حَاجَةَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ.

وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُفَوِّضَ فِي نِيَّةِ التَّضْحِيَةِ مُسْلِمًا مُمَيِّزًا يَنْوِي عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ، لَكِنْ لَوْ ذَبَحَهَا غَيْرُ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَنَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمَا، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَتُجْزِئُ عَنِ الْمَالِكِ وَلَا أَثَرَ لِنِيَّةِ الْفُضُولِيِّ.

36- (الشَّرْطُ الثَّانِي): أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلذَّبْحِ أَوْ مُقَارِنَةً لِلتَّعْيِينِ السَّابِقِ عَلَى الذَّبْحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ أَمْ بِإِفْرَازِهَا مِمَّا يَمْلِكُهُ، Bوَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّطَوُّعِ أَمْ لِنَذْرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُهُ الْجُعْلُ كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَالنِّيَّةُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَكْفِي عَنِ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَلَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ.هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَتَكْفِي عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوِ التَّعْيِينِ.

37- (الشَّرْطُ الثَّالِثُ): أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُضَحِّي فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ.

وَإِيضَاحُ هَذَا، أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا مَرَّ.

فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا سَبْعَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُرِيدًا لِلْقُرْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهَا.فَلَوِ اشْتَرَى سَبْعَةٌ أَوْ أَقَلُّ بَدَنَةً، أَوِ اشْتَرَاهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، ثُمَّ شَرِكَ فِيهَا سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ، وَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَآخَرُ هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَثَالِثٌ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَرَابِعٌ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ، وَخَامِسٌ كَفَّارَةَ الدَّمِ عَنْ تَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَسَادِسٌ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَسَابِعٌ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدِهِ أَجْزَأَتْهُمُ الْبَدَنَةُ.بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُرِيدُ سُبْعَهَا لِيَأْكُلَهُ، أَوْ لِيُطْعِمَ أَهْلَهُ، أَوْ لِيَبِيعَهُ، فَلَا تُجْزِئُ عَنِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ. هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً مِنَ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنَ الْجَمِيعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتُهَا، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا وَاجِبًا وَبَعْضُهَا تَطَوُّعًا.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُ الذَّبْحُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرَبِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ مُتَّفِقِينَ فِي جِهَةِ الْقُرْبَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ، أَوْ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ جَزَاءَ الصَّيْدِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ لَمْ يَصِحَّ الذَّبْحُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ، إِذِ الذَّبْحُ فِعْلُ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لَكِنْ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ كَقُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْقِيَاسِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.

38- وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا فَقَدْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا غَيْرَهُ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا فَكَذَلِكَ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا بَعْدَ وَقْتِ Bالْوُجُوبِ فَإِنَّ شِرَاءَهَا لَا يُوجِبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا مَعَهُ سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَعْدًا أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا كُلَّهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَفَعَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، فَأَمَرَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ» هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِكَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ مَعَ مُرِيدِ اللَّحْمِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِمُرِيدِ التَّضْحِيَةِ سُبْعُ الْبَدَنَةِ، وَلِمُرِيدِ الْهَدْيِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ الْعَقِيقَةِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ اللَّحْمِ بَاقِيهَا، فَذُبِحَتْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ جَازَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ شَرِيكِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّمَنِ أَوِ اللَّحْمِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الثَّمَنِ، بِأَنْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي اللَّحْمِ، بِأَنْ كَانَتِ الشَّاةُ أَوِ الْبَدَنَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ إِشْرَاكِهِمْ فِي الثَّوَابِ مِمَّنْ ضَحَّى بِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ كَمَا مَرَّ.

وَقْتُ التَّضْحِيَةِ مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ

مَبْدَأُ الْوَقْتِ:

39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهَذَا الْوَقْتُ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ.لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمِصْرِ كَفَى فِي صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ الْفَرَاغُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ.

وَإِذَا عُطِّلَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَذْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ.وَأَمَّا مَنْ يُضَحِّي فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ غَيْرِ الْمِصْرِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَإِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ، وَوَكَّلَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْعِبْرَةُ بِمَكَانِ الذَّبْحِ لَا بِمَكَانِ الْمُوَكِّلِ الْمُضَحِّي، لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، فَلَوْ ذَبَحَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتَيْهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ ذَبَحَ النَّاسُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ، إِلاَّ إِذَا بَدَءُوا بَعْدَ بَدْئِهِ، وَانْتَهَوْا بَعْدَ انْتِهَائِهِ أَوْ مَعَهُ.

وَإِذَا لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ أَوْ تَوَانَى فِي الذَّبْحِ بَعْدَ فَرَاغِ خُطْبَتَيْهِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ بِعُذْرٍ تَحَرَّى النَّاسُ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ، ثُمَّ ذَبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ، فَتُجْزِئُهُمْ وَإِنْ سَبَقُوهُ لَكِنْ عِنْدَ التَّوَانِي بِعُذْرٍ، كَقِتَالِ عَدُوٍّ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ يُنْدَبُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ تَضْحِيَتِهِ، إِلاَّ إِذَا قَرُبَ زَوَالُ الشَّمْسِ فَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يُضَحُّوا وَلَوْ قَبْلَ الْإِمَامِ.ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَائِبُ الْإِمَامِ الْحَاكِمِ أَوْ إِمَامُ الصَّلَاةِ فَالْمُعْتَبَرُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَذَا وَذَاكَ، وَأَخْرَجَ نَائِبُ الْإِمَامِ أُضْحِيَّتَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِلاَّ فَالْمُعْتَبَرُ إِمَامُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ إِمَامِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ تَعَدَّدَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ لِبَلَدِهِمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْخِفَّةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ التَّضْحِيَةِ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتَيْهِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ يَخْتَلِفُونَ تَطْوِيلًا وَتَقْصِيرًا، فَاعْتُبِرَ الزَّمَانُ لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَضْبَطُ لِلنَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلَاةَ عِيدِ الْأَضْحَى عَقِبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ».

وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ التَّضْحِيَةِ عَنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِالْمِقْدَارِ السَّابِقِ الذِّكْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْتَدِئُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ انْتِظَارُ الْخُطْبَتَيْنِ.

وَلَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، بَلْ يَكْفِي الْفَرَاغُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ فِي جِهَةٍ لَا يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ- كَالْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الْخِيَامِ مِمَّنْ لَا عِيدَ عَلَيْهِمْ- فَالْوَقْتُ يَبْتَدِئُ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ Bارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ.

وَإِذَا فَاتَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ بِالزَّوَالِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا ضَحَّوْا مِنْ حِينِ الْفَوَاتِ.

نِهَايَةُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

40- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَنْتَهِي وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَنَسًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهم- أَخْبَرُوا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِالرَّأْيِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ سَمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- أَيَّامُ التَّضْحِيَةِ أَرْبَعَةٌ، تَنْتَهِي بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَيْضًا، وَمَرْوِيٌّ كَذَلِكَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه-، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الْأَسَدِيِّ وَمَكْحُولٍ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: « كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ».

التَّضْحِيَةُ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ:

41- أَمَّا لَيْلَةُ عِيدِ الْأَضْحَى فَلَيْسَتْ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ أَوِ اللَّيَالِي الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ أَيَّامِ النَّحْرِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ، وَهُمَا لَيْلَتَا يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّ التَّضْحِيَةَ فِي اللَّيَالِيِ الْمُتَوَسِّطَةِ تُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الذَّابِحَ قَدْ يُخْطِئُ الْمَذْبَحَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ.وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّضْحِيَةِ لَيْلًا مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ، كَاشْتِغَالِهِ نَهَارًا بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّضْحِيَةِ، أَوْ مَصْلَحَةٍ كَتَيَسُّرِ الْفُقَرَاءِ لَيْلًا، أَوْ سُهُولَةِ حُضُورِهِمْ.

مَا يَجِبُ بِفَوَاتِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

42- وَلَمَّا كَانَتِ الْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، Bوَكَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ لَا يُعْقَلُ السِّرُّ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا، وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي خَصَّهَا الشَّارِعُ بِهِ.فَلَا تُقْضَى بِعَيْنِهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ التَّغَرُّبُ إِلَى التَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً، أَوْ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِقِيمَةِ أُضْحِيَّةٍ مُجْزِئَةٍ، فَمَنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً شَاةً أَوْ غَيْرَهَا بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ بِهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ.إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ إِلَى إِرَاقَةِ دَمِهَا مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهَا لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (بدعة 1)

بِدْعَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْبِدْعَةُ لُغَةً: مِنْ بَدَعَ الشَّيْءَ يَبْدَعُهُ بَدْعًا، وَابْتَدَعَهُ: إِذَا أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ.

وَالْبِدْعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي.

وَالْبِدْعَةُ: الْحَدَثُ، وَمَا ابْتُدِعَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِكْمَالِ.

وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَأْتِي أَمْرًا عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَكُنْ، بَلِ ابْتَدَأَهُ هُوَ.وَأَبْدَعَ وَابْتَدَعَ وَتَبَدَّعَ: أَتَى بِبِدْعَةٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} وَبَدَّعَهُ: نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَالْبَدِيعُ: الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: الْمُبْدِعُ، لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْبِدْعَةِ وَتَنَوَّعَتْ؛ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِ الْعُلَمَاءِ فِي مَفْهُومِهَا وَمَدْلُولِهَا.

فَمِنْهُمْ مَنْ وَسَّعَ مَدْلُولَهَا، حَتَّى أَطْلَقَهَا عَلَى كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّقَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَتَقَلَّصَ بِذَلِكَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.

وَسَنُوجِزُ هَذَا فِي اتِّجَاهَيْنِ.

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:

2- أَطْلَقَ أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ الْبِدْعَةَ عَلَى كُلِّ حَادِثٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمِ الْعَادَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَذْمُومًا أَمْ غَيْرَ مَذْمُومٍ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَمِنْ أَتْبَاعِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو شَامَةَ.وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْقَرَافِيُّ، وَالزَّرْقَانِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ابْنُ عَابِدِينَ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ: ابْنُ حَزْمٍ.

وَيَتَمَثَّلُ هَذَا الِاتِّجَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْبِدْعَةِ وَهُوَ: أَنَّهَا فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ وَاجِبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَنْدُوبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَكْرُوهَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُبَاحَةٍ.

وَضَرَبُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً:

فَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ: كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ أَمْثِلَتِهَا: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ.وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ: مِثْلُ إِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ.

وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ: مِثْلُ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ.

وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ: مِثْلُ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.وَاسْتَدَلُّوا لِرَأْيِهِمْ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:

(أ) قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ.فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ.فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ.يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ.وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.

(ب) تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةَ الضُّحَى جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً، وَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ.رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ- فَقَالَ: بِدْعَةٌ.

(ج) الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُفِيدُ انْقِسَامَ الْبِدْعَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

3- اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ، وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلَالَةٌ، سَوَاءٌ فِي الْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِمَامُ الشُّمُنِّيُّ، وَالْعَيْنِيُّ.وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ رَجَبٍ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ.

وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ يُمَثِّلُ هَذَا الِاتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّاطِبِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ بِتَعْرِيفَيْنِ:

الْأَوَّلُ أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُدْخِلِ الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ، بَلْ خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ، بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.

الثَّانِي أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُلُ الْعَادَاتُ فِي الْبِدَعِ إِذَا ضَاهَتِ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:

(أ) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ إِنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَتُوحِي بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

(ب) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

(ج) كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا.فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ.فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»

(د) أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: «اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ» وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُحْدَثَاتُ:

4- الْحَدِيثُ نَقِيضُ الْقَدِيمِ، وَالْحُدُوثُ: كَوْنُ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ: مَا ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى غَيْرِهَا.وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» وَالْمُحْدَثَاتُ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ: مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ.وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَلْتَقِي الْمُحْدَثَاتُ مَعَ الْبِدْعَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.

ب- الْفِطْرَةُ:

5- الْفِطْرَةِ: الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ.وَفَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُمْ، وَيُقَالُ: أَنَا فَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ: أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَأَهُ.وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْتَقِي مَعَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ.

ج- السُّنَّةُ:

6- السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ صَحْبِهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا تَمَامًا.

وَلِلسُّنَّةِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ بِهَا، مِنْهَا:

أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِمْ: الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ.وَمِنْهَا: مَا هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- غَيْرَ الْقُرْآنِ- مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.وَمِنْهَا: مَا يَعُمُّ النَّفَلَ، وَهُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ.

د- الْمَعْصِيَةُ:

7- الْعِصْيَانُ: خِلَافُ الطَّاعَةِ يُقَالُ: عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلَانٌ أَمِيرَهُ: إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ.

وَشَرْعًا: عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَهِيَ إِمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، أَوْ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا.

وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِذَا اجْتُنِبَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ تَشْمَلُ الْمَعْصِيَةَ، كَالْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَغَيْرَ الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ.

هـ- الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:

8- الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمَصَالِحِ.

وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلَاحًا هِيَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ.الْخَمْسِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ- رحمه الله-، أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الشَّاطِبِيِّ، أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ.أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الْأَمْرُ بِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا إِلْغَائِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ).

حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيُّ:

9- ذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَبُو شَامَةَ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنِيفَةِ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إِلَى: وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ.

وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً:

فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ: الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ، الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَتَدْوِينُ الْكَلَامِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ: إِحْدَاثُ الْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ.

وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.

هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إِلَى بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْبِدْعَةُ فِي الْعَقِيدَةِ:

10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعَقِيدَةِ مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى الْكُفْرِ.فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ أَنْ تُخَالِفَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيِّينَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وَحَدَّدُوا كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ: أَنْ يَتَّفِقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كُفْرٌ صُرَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ حَرَامًا وَمَعْصِيَةً، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا.

أ- الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ:

11- وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْجِمَاعِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ.لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الرَّهْطِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ.لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

ب- الْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ:

12- قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِيهَا وَذِكْرِ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِلتَّعْظِيمِ، أَمَّا لِلدُّعَاءِ فَسَائِغٌ، وَكَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ.جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كُبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَجَاءَ- وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا- فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- عِلْمًا.فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّنَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.

الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ:

13- الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ مِنْهَا الْمَكْرُوهُ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا.وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، مِثْلُ التَّوَسُّعِ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا اخْتِيَالٍ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الْعَادَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعِبَادَاتِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَتِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ لَوَجَبَ أَنْ تُعَدَّ كُلُّ الْعَادَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ- مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ- بِدَعًا مَكْرُوهَاتٍ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَادَاتِ الَّتِي بَرَزَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مُخَالِفَةٌ لَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَاتِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ مَعَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا:

14- دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا وَبَوَاعِثُهَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَأَحْكَامُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا وَاتِّبَاعُ سُبُلِ الشَّيْطَانِ فِي كُلِّ حُكْمٍ مُتَعَدِّدُ الْوُجُوهِ.وَكُلُّ خُرُوجٍ إِلَى وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْبَاطِلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ.وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْمُمْكِنِ إِرْجَاعُ الدَّوَاعِي وَالْأَسْبَابِ إِلَى مَا يَأْتِي:

أ- الْجَهْلِ بِوَسَائِلِ الْمَقَاصِدِ:

15- أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَارٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُفْهَمُ إِلاَّ إِذَا فَهِمَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَالْإِخْلَالُ فِي ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْبِدْعَةِ.

ب- الْجَهْلِ بِالْمَقَاصِدِ:

16- مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَجْهَلَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَمْرَانِ:

(1) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً تَامَّةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ بِهَا ارْتِبَاطَ ثِقَةٍ وَإِذْعَانٍ، فِي عَادَاتِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا، وَأَلاَّ يَخْرُجَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ.وَهَذَا الْأَمْرُ أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعَةُ فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الشَّرْعِ، وَكَذَبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ.وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَعْرُوفِ بِالْأُرْدُنِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ فِيهِ بَأْسًا، أَجْعَلُ لَهُ إِسْنَادًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

(2) أَنْ يُوقِنَ إِيقَانًا جَازِمًا أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ النَّبْعَ وَاحِدٌ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وَإِنَّ قَوْمًا اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ لِجَهْلِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»

فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا قَدَّمْنَا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ التَّضَادِّ بَيْنَ نُصُوصِهَا.

أَمَّا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

وَأَمَّا عَدَمُ التَّضَادِّ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُنَافٍ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.

ج- الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ:

17- مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ.

وَالْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ يَعْنِي أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ، جَهْلُ النَّاسِ بِأَصْلِ السُّنَّةِ.

وَالثَّانِي: جَهْلُهُمْ بِالصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ.

أَمَّا جَهْلُهُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجْعَلُهُمْ يَأْخُذُونَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ وَرَدَتِ الْآثَارُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».. وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ، جَهْلُهُمْ بِدَوْرِهَا فِي التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَكَانَةَ السُّنَّةِ فِي التَّشْرِيعِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.

د- تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ:

18- عَدَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ دَوَاعِي الْبِدْعَةِ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَيَتَأَتَّى هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَحْيِ وَإِخْبَارِ الْمَعْصُومِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَجُرُّهُ عَقْلُهُ الْقَاصِرُ إِلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَالِابْتِدَاعِ، وَيَظُنُّ أَنَّ عَقْلَهُ مُوَصِّلُهُ، فَإِذَا هُوَ مُهْلِكُهُ.

وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، مِنْ نَاحِيَةِ الْكَمِّ وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَيْفِ.أَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَتَنَاهَى، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.

وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ:

(1) أَنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُجْعَلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤَخِّرَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ.

(2) إِذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا خَرْقَ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ- الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَآهَا أَوْ عَلِمَ بِهَا عِلْمًا صَحِيحًا- لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ أَمَامَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيَكِلَ الْعِلْمَ فِيهِ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَخَصِّصِينَ فِيهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}

الثَّانِي: يَتَأَوَّلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ.وَيَحْكُمُ هَذَا كُلَّهُ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

هـ- اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ:

19- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ.وَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» وَقَدْ ذَكَرَهُمُ الْقُرْآنُ فِي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.فَلَيْسَ نَظَرُهُمْ فِي الدَّلِيلِ نَظَرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى.ثُمَّ أَتَى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ.

و- اتِّبَاعُ الْهَوَى:

20- يُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى مَيْلِ النَّفْسِ وَانْحِرَافِهَا نَحْوَ الشَّيْءِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَيْلِ الْمَذْمُومِ وَالِانْحِرَافِ السَّيِّئِ.

وَنُسِبَتِ الْبِدَعُ إِلَى الْأَهْوَاءِ، وَسُمِّيَ أَصْحَابُهَا بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.

21- مَدَاخِلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ:

أ- اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالْآبَاءِ وَجَعْلُهَا دِينًا.قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}

فَقَالَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}

ب- رَأْيُ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ وَالتَّعَصُّبُ لَهُمْ، فَقَدْ يُؤَدِّي هَذَا التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى إِنْكَارِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ أَوْ تَأْوِيلِهَا، وَعَدِّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ.

ج- التَّصَوُّفُ الْفَاسِدُ وَأَخْذُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ دِينًا وَشَرِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

د- التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ.فَإِنَّ مَحْصُولَ هَذَا الْمَذْهَبِ تَحْكِيمُ عُقُولِ الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهْلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلاَّ رُدَّ.

هـ- الْعَمَلُ بِالْأَحْلَامِ.فَإِنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُهْتَاجَةٍ.فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ النَّقِيَّةُ حَتَّى يُحْكَمَ بِهَا؟،. أَنْوَاعُ الْبِدْعَةِ:

تَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ مِنْ حَيْثُ قُرْبُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ بُعْدُهَا عَنْهَا إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ.

الْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:

22- هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّهَا شَيْءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ؛ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ وَلَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَفَقْدِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى الْمَذْكُورَةِ فِي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فَهَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نُسِخَتْ فِي شَرِيعَتِنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

وَمِنْهَا: أَنْ يَفْعَلَ الْمُسْلِمُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، مِثْلِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا وَالْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي زَعْمِهِمْ.

الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ:

23- وَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلاَّ مِثْلَ مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ شَائِبَتَانِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِأَحَدٍ الطَّرَفَيْنِ، وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى بِدْعَةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبِدَعِ هُوَ مَثَارُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ.وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، وَهِيَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْأُولَى مِنْ رَجَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ.وَكَذَا صَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَهِيَ: مِائَةُ رَكْعَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ.وَصَلَاةُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

وَوَجْهُ كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً: أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ» وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ.فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا، مُبْتَدَعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا.

الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ وَغَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ:

24- الْبِدَعُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ.فَقَدْ وُجِدَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَحْكَامِهَا، فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.

وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فَهَذَا وَأَضْرَابُهُ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ، لِابْتِدَاعِهِ أَشْيَاءَ أَنْكَرَتْهَا النُّصُوصُ وَتَوَعَّدَتْ عَلَيْهَا.

وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ كَبِدَعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ اتِّفَاقًا، كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ، لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضٌ مِنْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (تثبت)

تَثَبُّتٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّثَبُّتُ لُغَةً: هُوَ التَّأَنِّي فِي الْأَمْرِ وَالرَّأْيِ.

وَاصْطِلَاحًا: تَفْرِيغُ الْوُسْعِ وَالْجَهْدِ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْحَالِ الْمُرَادِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّحَرِّي:

2- التَّحَرِّي لُغَةً: الْقَصْدُ وَالطَّلَبُ.وَاصْطِلَاحًا: طَلَبُ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

لِلتَّثَبُّتِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:

أ- التَّثَبُّتُ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

3- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِالْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (أَيْ جِهَتَهُ) وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْلِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا. (ر: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ).

ب- التَّثَبُّتُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ:

4- يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ بِالسُّؤَالِ عَنْهُمْ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَدَالَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ. (ر: تَزْكِيَةٌ).

ج- التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ:

5- يُسْتَحَبُّ التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِتَحْدِيدِ بَدْئِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: رُؤْيَةُ هِلَالِهِ، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ خَالِيَةً مِمَّا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِهِمَا.

الثَّانِي: إِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وَبِهَذَا أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالِ الْغَيْمِ، فَأَوْجَبُوا اعْتِبَارَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَوْجَبُوا صِيَامَ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ، عَمَلًا بِلَفْظٍ آخَرَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»

أَيِ: احْتَاطُوا لَهُ بِالصَّوْمِ. (ر: أَهِلَّةٌ).

د- التَّثَبُّتُ مِنْ كَلَامِ الْفُسَّاقِ:

6- يَجِبُ التَّثَبُّتُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْفُسَّاقُ مِنْ أَنْبَاءٍ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَدْ قُرِئَ فَتَثَبَّتُوا بَدَلًا مِنْ تَبَيَّنُوا وَالْمُرَادُ بِالتَّبَيُّنِ: التَّثَبُّتُ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَهَابَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ.فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرَ عُيُونُهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»..

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (تحرف)

تَحَرُّفٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي التَّحَرُّفِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ.

يُقَالُ: حَرَّفَ عَنِ الشَّيْءِ يُحَرِّفُ حَرْفًا وَتَحَرَّفَ: عَدَلَ، وَإِذَا مَالَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ يُقَالُ: تَحَرَّفَ.وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ عَلَى التَّحَرُّفِ فِي الْقِتَالِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمَوْقِفِ إِلَى مَوْقِفٍ أَصْلَحَ لِلْقِتَالِ مِنْهُ، حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، أَوْ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى قِتَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَهَمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَوْ مُسْتَطْرِدًا لِقِتَالِ عَدُوِّهِ بِطَلَبِ عَوْرَةٍ لَهُ يُمْكِنُهُ إِصَابَتُهَا، فَيَكُرُّ عَلَيْهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

2- إِذَا الْتَقَى جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَكَانَ عَدَدُ الْكُفَّارِ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَقَلَّ يَحْرُمُ الْفِرَارُ وَالِانْصِرَافُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَيَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ بِقَصْدِ التَّحَرُّفِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

وَالْمُتَحَرِّفُ هُوَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَان ضَيِّقٍ إِلَى مَكَانٍ أَرْحَبَ مِنْهُ، لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ إِلَى مُتَّسَعٍ سَهْلٍ لِلْقِتَالِ، أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ غَيْرِ مَكْشُوفٍ لِيَكْمُنَ فِيهِ وَيَهْجُمَ، أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ لِأَصْوَنَ مِنْهُ عَنْ نَحْوِ رِيحٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ عَطَشٍ، أَوْ يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِتُنْتَقَضَ صُفُوفُهُمْ وَيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إِلَى جَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ إِذْ قَالَ: «يَا سَارِيَةَ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ»، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ إِلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ لِغَزْوِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَاقَوْا عَدُوَّهُمْ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَمِعُوا صَوْتَ عُمَرَ فَتَحَيَّزُوا إِلَى الْجَبَلِ، فَنَجَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ.

وَالتَّحَرُّفُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوهُ لِغَيْرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَالْإِمَامِ.أَمَّا هُمَا فَلَيْسَ لَهُمَا التَّحَرُّفُ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلَلِ وَالْمَفْسَدَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (جِهَادٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (طلب العلم)

طَلَبُ الْعِلْمِ

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّلَبُ فِي اللُّغَةِ: مُحَاوَلَةُ وِجْدَانِ الشَّيْءِ وَأَخْذِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْعِلْمُ لُغَةً: الْيَقِينُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ.

وَاصْطِلَاحًا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ: فَتَارَةً عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا عِلْمُ الْخَالِقِ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْجَهْلُ:

2- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ وَالْخَطَأِ، يُقَالُ جَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ.

وَالْجَهْلُ اصْطِلَاحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.

ب- الْمَعْرِفَةُ:

3- الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ يُقَالُ عَرَّفَهُ الْأَمْرَ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَعَرَّفَهُ بَيْتَهُ: أَعْلَمَهُ بِمَكَانِهِ.

وَالْمَعْرِفَةُ اصْطِلَاحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ دُونَ الْعَارِفِ.

وَفَرَّقَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُقَالُ لِلْإِدْرَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ، وَلِثَانِي الْإِدْرَاكَيْنِ إِذَا تَخَلَّلَهُمَا عَدَمٌ، وَلِإِدْرَاكِ الْجُزْئِيِّ، وَلِإِدْرَاكِ الْبَسِيطِ.وَالْعِلْمُ يُقَالُ لِحُصُولِ صُورَةِ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَلِلِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ الثَّابِتِ، وَلِإِدْرَاكِ الْكُلِّيِّ، وَلِإِدْرَاكِ الْمُرَكَّبِ.

حُكْمُ طَلَبِ الْعِلْمِ:

الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ.

أ- طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:

4- طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ طَلَبِهَا بِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.

فَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ.

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَجِبُ طَلَبُهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَيَجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، كَمَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ غَالِبًا، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَعَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ.

وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ.

وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيَعُمُّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ جَمْعٌ تَحْصُلُ الْكِفَايَةُ بِبَعْضِهِمْ فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ فِي الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ فَالْكُلُّ يَقَعُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلَوْ أَطْبَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ.

وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ نَفْلٌ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، وَالْإِمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ.

ب- الْعُلُومُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ:

5- يَعْتَرِي طَلَبُ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ الْخَمْسَةَ، إِذْ مِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالْعُلُومِ الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا، كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ الْأَبْدَانِ، وَالْحِسَابِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ طَلَبُهُ فَضِيلَةً وَهُوَ التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ.

وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ مُحَرَّمٌ، كَطَلَبِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَكُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الشُّكُوكِ، وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ.

فَضْلُ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ:

6- تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.

فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي نَدْبَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ وَهُوَ أَبْيَنُ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».

وَمِنَ الْآثَارِ قَوْلُ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ.

وَمِنَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه-: مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُدُوَّ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ فِي رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ النَّافِلَةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ لَا يُوَازِيهَا عَمَلٌ.

تَرْجِيحُ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى فَاعِلِهَا:

7- حَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِنَوَافِلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَوَافِلِ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ.

فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: الْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- قَالَا: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةِ تَطَوُّعٍ؛ وَلِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ يَعُمُّ صَاحِبَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالنَّوَافِلُ الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مُصَحِّحٌ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ تَبْقَى فَائِدَتُهُ وَأَثَرُهُ بَعْدَ صَاحِبِهِ، وَالنَّوَافِلُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ صَاحِبِهَا.

كَمَا أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ، وَعَدَمَ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ: كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ.

وَقْتُ طَلَبِ الْعِلْمِ:

8- لَيْسَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ الْعُمْرِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَضَّلُوا الطَّلَبَ فِي مَرْحَلَةِ الصِّغَرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاحِلِ، لِصَفَاءِ الذِّهْنِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى رُسُوخِ الْعِلْمِ فِي الذَّاكِرَةِ، قَالَ الْعَدَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُنَاوِيِّ: وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، فَقَدْ تَفَقَّهَ الْقَفَّالُ وَالْقُدُورِيُّ بَعْدَ الشَّيْبِ فَفَاقَا الشَّبَابَ.

وَأَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَبْلُغُ بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.

وَدَلِيلُ تَعْلِيمِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ وُجُوبَ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ يَبْدَأُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سَبْعِ سِنِينَ، لِحَدِيثِ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ السَّبْعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.

وَقَالَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ نَقْلًا عَنِ النَّوَوِيِّ: يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ.

كَمَا حَضَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِدَامَةِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَوْ مَعَ التَّقَدُّمِ فِي السِّنِّ، أَوِ التَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ، قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: حَتَّى الْمَمَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُمْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ أَقْبَحُ.

الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:

9- الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِمَا رَوَى «عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.قَالُوا قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ.ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ، أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ».

قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَجَوَازُ الْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِ الْعِلْمِ إِلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ، وَجَوَازُ إِيثَارِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَمَّا قَدِمَ مِصْرَ أَخْبَرُوا عُقْبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَتَى أَبُو أَيُّوبَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَهَا وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا حَلَّ رَحْلَهُ

وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تَرَى الرَّجُلَ أَنْ يَرْحَلَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَحَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كُنْتُ لأَُسَافِرُ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفَرَهُ ضَاعَ.

قَالَ الْحَطَّابُ: يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لَا عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ.

اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:

10- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بَيْنَ خَوْفِ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ هَذَا الْخُرُوجِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْهَلَاكِ.

فَإِنْ كَانَ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ كَانَ خُرُوجُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنَ الضَّيْعَةِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِأَنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَمَا لَهُ لَا يَفِي بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَتِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَيْهِمَا بِأَنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.

وَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ إِنْ كَرِهَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا خُرُوجَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ أَوْ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ.

وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْلَادٌ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ وَحِفْظِ الْعِيَالِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ مَنْعَ وَلَدِهِمَا مِنَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ فِي سَفَرِهِ خَطَرٌ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فُرُوضُ الْكِفَايَةِ كَالْعِلْمِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَاجَةِ، كَالتِّجَارَةِ، فَلَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ لِتَحْصِيلِهِ إِذَا كَانَ لَيْسَ فِي بَلَدِهِمَا مَنْ يُفِيدُهُ حَيْثُ كَانَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبِرِّ خَطَرًا وَإِلاَّ فَلَا مَنْعَ.

وَصَرَّحَ الْعَدَوِيُّ: بِأَنَّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ أَهْلًا، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ فَلَا يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ لِتَعَلُّمِ الْفَرْضِ وَكُلِّ وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ مُتَّسِعًا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْأَبَوَانِ، كَمَا أَجَازُوا السَّفَرَ لِطَلَبِ الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ، كَدَرَجَةِ الْفَتْوَى، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَبَوَاهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ آمِنًا أَوْ قَلِيلَ الْخَطَرِ، وَلَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِكَمَالِ مَا يُرِيدُهُ، أَوْ رَجَا بِغُرْبَتِهِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ، أَوْ إِرْشَادَ أُسْتَاذٍ، وَيُشْتَرَطُ لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا، وَلَوْ لَزِمَتْهُ كِفَايَةُ أَصْلِهِ احْتَاجَ لِإِذْنِهِ، إِنْ لَمْ يَنُبْ مَنْ يَمُونُهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ، وَمِثْلُهُ الْفَرْعُ لَوْ لَزِمَتْ أَصْلَهُ مُؤْنَتُهُ امْتَنَعَ سَفَرُ الْأَصْلِ إِلاَّ بِإِذْنِ فَرْعِهِ إِنْ لَمْ يَنُبْ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَاجِبٍ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلَاةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلَا إِذْنِ أَبَوَيْهِ.

آدَابُ طَلَبِ الْعِلْمِ:

11- لِطَلَبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَكُونَ الطَّلَبُ فِي أَفْضَلِ صُورَةٍ وَتَكُونُ الْإِفَادَةُ مِنْهُ أَكْبَرَ، وَهَذِهِ الْآدَابُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَلِّمِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.

أَوَّلًا: آدَابُ الْمُعَلِّمِ:

وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي الْمُعَلِّمِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي دَرْسِهِ، أَوْ مَعَ طَلَبَتِهِ.

12- أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ:

أ- دَوَامُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَا أُودِعَ مِنَ الْعُلُومِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ، وَمِنْ ذَلِكَ دَوَامُ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعُ لِلَّهِ تَعَالَى.

ب- أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَيَقُومَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ، فَلَا يُذِلُّهُ بِذَهَابِهِ وَمَشْيِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَكَبِرَ قَدْرُهُ.قَالَ الزُّهْرِيُّ: هَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعَالِمُ إِلَى بَيْتِ الْمُتَعَلِّمِ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَوْ ضَرُورَةٌ أَوِ اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ بَذْلِهِ وَحَسُنَتْ فِيهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

ج- أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعِيَالِهِ.

د- أَنْ يُنَزِّهَ عِلْمَهُ عَنْ جَعْلِهِ سُلَّمًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ خِدْمَةٍ، أَوْ تَقَدُّمٍ عَلَى أَقْرَانِهِ.

هـ- أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ دَنِيءِ الْمَكَاسِبِ وَرَذِيلِهَا طَبْعًا، وَعَنْ مَكْرُوهِهَا عَادَةً وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ يَتَجَنَّبُ مَوَاضِعَ التُّهَمِ وَإِنْ بَعُدَتْ.

و- أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ، كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، صَادِعًا بِالْحَقِّ عِنْدَ السَّلَاطِينِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ بِإِظْهَارِ السُّنَنِ، وَإِخْمَادِ الْبِدَعِ، وَالْقِيَامِ لِلَّهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا فِيهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ.

ز- أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيُلَازِمُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَنَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.

ح- أَنْ يُدِيمَ الْحِرْصَ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَا لَا يَعْلَمُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَلُ مَا يَكُونُ، وَأَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّصْنِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ لَكِنْ مَعَ تَمَامِ الْفَضِيلَةِ وَكَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ.

وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ هِيَ:

13- أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَيَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ إِذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَارِزًا لِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَيُوَقِّرَ فَاضِلَهُمْ، وَيَتَلَطَّفَ بِالْبَاقِينَ، وَيُكْرِمَهُمْ بِحُسْنِ السَّلَامِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ.

وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبَحْثِ وَالتَّدْرِيسِ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا.

وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الدُّرُوسُ قَدَّمَ الْأَشْرَفَ فَالْأَشْرَفَ، وَالْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَلَا يَذْكُرُ شُبْهَةً فِي الدِّينِ فِي دَرْسٍ وَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا إِلَى دَرْسٍ آخَرَ؛ بَلْ يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيلَ الدَّرْسَ تَطْوِيلًا يُمَلُّ، وَلَا يُقَصِّرَهُ تَقْصِيرًا يُخِلُّ.

وَأَنْ يَصُونَ مَجْلِسَهُ عَنِ اللَّغَطِ وَعَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ.

وَأَنْ يُلَازِمَ الْإِنْصَافَ فِي بَحْثِهِ وَخِطَابِهِ. وَأَنْ لَا يَنْتَصِبَ لِلتَّدْرِيسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ.

وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ مَعَ طَلَبَتِهِ هِيَ:

14- أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَشْرَ الْعِلْمِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرْعِ.

وَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ الطَّالِبِ، لِعَدَمِ خُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مَرْجُوٌّ لَهُ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ إِخْلَاصَ النِّيَّةِ لَوْ شُرِطَ فِي تَعْلِيمِ الْمُبْتَدَئِينَ فِيهِ مَعَ عُسْرِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَفْوِيتِ الْعِلْمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ يُحَرِّضُ الْمُبْتَدِئَ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ.

وَأَنْ يُرَغِّبَ الطَّالِبَ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ.

وَأَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَفْهِيمِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيُحَرِّضَهُ عَلَى طَلَبِ الْفَوَائِدِ، وَحِفْظِ الْفَرَائِدِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَتَأَهَّلْ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبَدِّدُ ذِهْنَهُ وَيُفَرِّقُ فَهْمَهُ.

وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعْلِيمِ الطَّالِبِ وَتَفْهِيمِهِ بِبَذْلِ جَهْدِهِ، وَتَقْرِيبِ الْمَعْنَى لَهُ.

وَإِذَا سَلَكَ الطَّالِبُ فِي التَّحْصِيلِ فَوْقَ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَخَافَ الْمُعَلِّمُ ضَجَرَهُ أَوْصَاهُ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَنَاةِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ نَوْعُ سَآمَةٍ أَوْ ضَجَرٍ أَمَرَهُ بِالرَّاحَةِ وَتَخْفِيفِ الِاشْتِغَالِ.

وَأَنْ لَا يُظْهِرَ لِلطَّلَبَةِ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يُوحِشُ صُدُورَهُمْ وَيُنَفِّرُ قُلُوبَهُمْ.

وَأَنْ يَسْعَى فِي مَصَالِحِ الطَّلَبَةِ وَجَمْعِ قُلُوبِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا غَابَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ زَائِدًا عَنِ الْعَادَةِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ مَنْزِلَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ.

وَأَنْ يَتَوَاضَعَ مَعَ الطَّالِبِ وَكُلِّ مُسْتَرْشِدٍ سَائِلٍ فَفِي الْحَدِيثِ: «لِينُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ».

ثَانِيًا: آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:

وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ مُعَلِّمِهِ أَوْ فِي دَرْسِهِ. آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ:

15- أ- أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ لِيَصْلُحَ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَلَ بِهِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَقْصِدُ بِهِ الْأَغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ عِبَادَةٌ، فَإِنْ خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ قُبِلَ وَنَمَتْ بَرَكَتُهُ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى حَبَطَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُهُ.

ب- أَنْ يُبَادِرَ شَبَابَهُ وَأَوْقَاتَ عُمْرِهِ إِلَى التَّحْصِيلِ، وَأَنْ يَقْنَعَ مِنَ الْقُوتِ بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَمِنَ اللِّبَاسِ بِمَا يَسْتُرُ.

ج- أَنْ يَقْسِمَ أَوْقَاتَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهَا.

د- أَنْ يُقَلِّلَ نَوْمَهُ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ وَذِهْنِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ وَذِهْنَهُ إِذَا كَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ضَعُفَ، وَأَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْوَرَعِ فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ وَيَتَحَرَّى الْحَلَالَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَسْكَنِهِ.

آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ مُعَلِّمِهِ:

16- أ- يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.

ب- أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَعْتَمِدُ وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ تَوَاضُعَهُ لِمُعَلِّمِهِ عِزٌّ، فَقَدْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ نَسَبِهِ وَعِلْمِهِ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم- وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا،

وَأَنْ لَا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ، بَلْ يَقُولُ يَا أُسْتَاذِي، وَيَا شَيْخِي، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

ج- أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفْوَةٍ تَصْدُرُ مِنْ شَيْخِهِ أَوْ سُوءِ خُلُقٍ، وَلَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ وَحُسْنِ عَقِيدَتِهِ، وَيَتَأَوَّلُ أَفْعَالَهُ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهَا، وَيَبْدَأُ هُوَ عِنْدَ جَفْوَةِ الشَّيْخِ بِالِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْقَى لِمَوَدَّةِ شَيْخِهِ وَأَنْفَعُ لِلطَّالِبِ.

د- أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ جِلْسَةَ الْأَدَبِ، وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِطَابَهُ مَعَهُ، وَأَنْ لَا يَسْبِقَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابٍ، وَلَا يَقْطَعَ عَلَى الْمُعَلِّمِ كَلَامَهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ يَدَيْهِ. آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ:

17- أ- أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ فَيُتْقِنَهُ حِفْظًا، وَيَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِ تَفْسِيرِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ.

ب- أَنْ لَا يَشْتَغِلَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِمَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يُحَيِّرُ الذِّهْنَ.

ج- أَنْ يُصَحِّحَ مَا يَقْرَؤُهُ قَبْلَ حِفْظِهِ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا، إِمَّا عَلَى مُعَلِّمِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

د- أَنْ يَلْزَمَ مُعَلِّمَهُ فِي التَّدْرِيسِ وَالْإِقْرَاءِ، بَلْ وَجَمِيعِ مَجَالِسِهِ إِذَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلاَّ خَيْرًا وَتَحْصِيلًا.

هـ- أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ حَاضِرِي مَجْلِسِ الْمُعَلِّمِ فَإِنَّهُ أَدَبٌ مَعَهُ وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ.

و- أَنْ لَا يَسْتَحِيَ مِنْ سُؤَالِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَتَفَهَّمَ مَا لَمْ يَتَعَقَّلْهُ بِتَلَطُّفٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ وَأَدَبٍ.

ثَالِثًا: الْآدَابُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ:

18- أ- يَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُخِلَّ بِوَظِيفَتِهِ لِطُرُوءِ فَرْضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاشْتِغَالُ، وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدًا تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا، فَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنِ الْغُلُوطَاتِ.

ب- أَنْ يَعْتَنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَحْصِيلِ الْكُتُبِ شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ لِئَلاَّ يَفُوتَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِئَلاَّ يَكْسَلَ عَنْ تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَمْتَنِعَ مِنْ إِعَارَتِهِ غَيْرَهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الْإِعَارَةِ لِمَنْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مَعَ مَا فِي مُطْلَقِ الْعَارِيَّةِ مِنَ الْفَضْلِ، وَيُسْتَحَبُّ شُكْرُ الْمُعِيرِ لِإِحْسَانِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (عيافة)

عِيَافَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ الْعِيَافَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا: الْكَرَاهِيَةُ لِلطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ، يُقَالُ: عَافَ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ يَعَافُهُ عَيْفًا وَعِيَافَةً: كَرِهَهُ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَالْعَائِفُ لِلشَّيْءِ: الْكَارِهُ الْمُتَقَذِّرُ لَهُ.

وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى زَجْرِ الطَّيْرِ لِلتَّشَاؤُمِ أَوِ التَّفَاؤُلِ بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا.وَمِنْهَا الْعَائِفُ الَّذِي يَعِيفُ الطَّيْرَ فَيَزْجُرُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى زَجْرِ الطَّيْرِ وَالتَّفَاؤُلِ أَوِ التَّشَاؤُمِ بِأَسْمَائِهَا وَبِأَصْوَاتِهَا وَمَمَرَّاتِهَا كَانَتْ عَادَةً لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَرْجَعَ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ الْمُطْلَقَةِ، وَسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ فِي الْكَوْنِ.

جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «الْعِيَافَةُ، وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ». (ر: تَطَيُّر ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

أَمَّا الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ تَنَاوُلِهِ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَزَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ».

فَقَدْ أُكِلَ الضَّبُّ بِحَضْرَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَتَبَيَّنَ حِلُّهُ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَهُ لِعَدَمِ إِلْفِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة ف 54).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (فرق الأمة)

فِرَقُ الْأُمَّةِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْفِرَقُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ فِرْقَةٍ، وَالْفِرْقَةُ هِيَ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ.

وَالْأُمَّةُ مِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَجْمَعهُمْ أَمْرٌ مَا، إِمَّا دِينٌ وَاحِدٌ، أَوْ زَمَانٌ وَاحِدٌ، أَوْ مَكَانٌ وَاحِدٌ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا}.

وَفِرَقُ الْأُمَّةِ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ أُطْلِقَ عَلَى الْفِرَقِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأُلْفَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْفُرْقَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} أَيْ فِي دِينِكُمْ كَمَا افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَدْيَانِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ يَكُونُوا فِي دِينِ اللَّهِ إِخْوَانًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُمْ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِلَافًا، إِذْ الِاخْتِلَافُ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الِائْتِلَافُ وَالْجَمْعُ وَالَّذِي هُوَ سَبَبُ الْفَسَادِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».

قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ: إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُرِدْ بِالْفِرَقِ الْمَذْمُومَةِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ مِنْ أَبْوَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالذَّمِّ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الْحَقِّ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي تَقْدِيرِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي شُرُوطِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَفِي مُوَالَاةِ الصَّحَابَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَيَرْجِعُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فِي افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاخْتِلَافِ.

الْفِرَقُ الْمَذْمُومَةُ:

3- رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ بَعْضَ الْفِرَقِ قَبْلَ ظُهُورِهَا بِالِاسْمِ وَذَمَّهُمْ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَمَّ الْقَدَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَنْهُمْ: «إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُكَذِّبُونَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ» وَرُوِيَ عَنْهُ ذَمُّ الْمُرْجِئَةِ مَعَ الْقَدَرِيَّةِ.وَذَكَرَ آخَرِينَ بِأَوْصَافِهِمْ، وَقَالَ: «إِنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ»، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَوْ أَشَارُوا إِلَى افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ إِلَى فِرَقٍ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ وَاحِدَةٌ، وَسَائِرُهَا عَلَى الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا، وَالْبَوَارِ فِي الْآخِرَةِ.

أَهَمُّ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْفِرَقُ الْمَذْمُومَةُ:

4- اخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ الْمَذْمُومَةُ فِي أُمُورٍ مِنَ الْعَقِيدَةِ، أَهَمُّهَا: الصِّفَاتُ، وَالْقَدَرُ، وَالْعَدْلُ، وَالْوَعْدُ، وَالْوَعِيدُ، وَالسَّمْعُ، وَالْعَقْلُ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ، وَالرِّسَالَةُ، وَالْأَمَانَةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْعَقِيدَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِرَقِ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، إِلاَّ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ نَفْيِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الصِّفَاتِ، كَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَإِثْبَاتِ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، كَحُدُوثِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِدَمِ الْعَالَمِ، أَوِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ الْحُلُولِ وَالتَّنَاسُخِ، أَوِ اعْتَقَدَ أُلُوهِيَّةَ بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ، أَوْ أَنْكَرَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ الْقُرْآنُ بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَالزِّنَا، وَنِكَاحِ الْبَنَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِهِ أَوْ تَحْلِيلِهِ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْفِرَقِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الدِّينِ، وَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَرُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ، بَلْ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلاَّ وَجَبَ قَتْلُهُمْ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ.فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَدِّهَا عَلَى أَقْوَالٍ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلُ الْأَهْوَاءِ ف9) (وَبِدْعَةٌ ف 29)

وَأَمَّا رَدُّ رِوَايَتِهِمْ أَوْ قَبُولُهَا، وَحُكْمُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَصِحَّةُ وِلَايَتِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بِدْعَةٌ ف 30، 31، 32)

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 2)

نُشُوزٌ -2

ب- الْهَجْرُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ الرَّجُلُ بِهِ امْرَأَتَهُ إِذَا نَشَزَتِ الْهَجْرَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْهَجْرُ الْمَشْرُوعُ، وَفِي غَايَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَعَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَتَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ، قِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إِيَّاهَا، لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبُهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا، لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْهَجْرُ أَنْ يَتْرُكَ مَضْجَعَهَا، أَيْ يَتَجَنَّبَهَا فِي الْمَضْجَعِ فَلَا يَنَامُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، لَعَلَّهَا أَنْ تَرْجِعَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَحَسَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَغَايَةُ الْهَجْرِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَهْرٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلًا عُذْرًا لِلْمُولِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَعَظَهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا ظَاهِرًا فِي تَأْدِيبِ النِّسَاءِ، أَمَّا الْهُجْرَانُ فِي الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» إِلاَّ إِنْ قَصَدَ رَدَّهَا أَوْ إِصْلَاحَ دِينِهَا، إِذِ الْهَجْرُ- وَلَوْ دَائِمًا وَلِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ- جَائِزٌ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَفِسْقٍ وَابْتِدَاعٍ وَإِيذَاءٍ وَزَجْرٍ وَإِصْلَاحٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْهَجْرِ أَنْ يَهْجُرَ فِرَاشَهَا فَلَا يُضَاجِعَهَا فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا هُجْرًا أَيْ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا غَايَةَ لَهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، لِأَنَّهُ لِحَاجَةِ صَلَاحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ تُهْجَرْ وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلَحَتْ فَلَا هَجْرَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَظْهَرَتِ الْمَرْأَةُ النُّشُوزَ هَجَرَهَا زَوْجُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُضَاجِعُهَا فِي فِرَاشِكَ، وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» وَهَجْرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- السَّابِقِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: هَجْر.

ج- الضَّرْبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ بِهِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ نُشُوزِهَا الضَّرْبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ وَمَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ لِمُبَاشَرَتِهِ.

فَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُدْمٍ وَلَا مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِنٍ وَلَا مُخَوِّفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ.

وَقَالُوا: الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ مَا يَعْظُمُ أَلَمُهُ عُرْفًا، أَوْ مَا يُخْشَى مِنْهُ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ مَا يُورِثُ شَيْئًا فَاحِشًا، أَوِ الشَّدِيدُ، أَوِ الْمُؤَثِّرُ الشَّاقُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ مِنْ بَرِحَ الْخَفَاءُ إِذَا ظَهَرَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ».

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَةَ إِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتَدَعِ النُّشُوزَ إِلاَّ بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَوِ الْخَوْفِ لَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا تَعْزِيرُهَا لَا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَلَا بِغَيْرِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَيْئَةِ الضَّرْبِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الَّتِي تَحَقَّقَ نُشُوزَهَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» وَقَالَ الْهَيْتَمِيُّ: لَا تَضْرِبْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا، وَلَا يُوَالِيِهِ فِي مَوْضِعٍ لِئَلاَّ يَعْظُمَ ضَرَرُهُ، وَقَالُوا: لَا يَبْلُغُ ضَرْبُ حُرَّةٍ أَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا عِشْرِينَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجْتَنِبُ الْوَجْهَ تَكْرِمَةً لَهُ، وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ، وَالْمَوَاضِعَ الْمُسْتَحْسَنَةَ لِئَلاَّ يُشَوِّهَهَا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَوْجُهِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ بِضَرْبِهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُدْمٍ وَلَا شَائِنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤَدِّبُهَا بِضَرْبِهَا بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، لَا بِسَوْطٍ وَلَا بِعَصًا وَلَا بِخَشَبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ- إِنْ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا- فَالْأَوْلَى لَهُ الْعَفْوُ لِأَنَّ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَصْلَحَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الضَّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ أَفْضَلُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى تَرْكُ ضَرْبِهَا إِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ.

وَفِي ضَرْبِ الْمَرْأَةِ لِلنُّشُوزِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صَرَاحَةً إِلاَّ هُنَا- أَيِ الضَّرْبِ لِلتَّعْزِيرِ عَلَى النُّشُوزِ- وَفِي الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَضْرِبُ الْمُسْتَحِقُّ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ حَقَّهُ غَيْرَ هَذَا، وَالرَّقِيقُ يَمْتَنِعُ مِنْ حَقِّ سَيِّدِهِ.

هَلْ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ النُّشُوزِ حَتَّى يُشْرَعَ الضَّرْبُ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ لِضَرْبِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَ لِتَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ بِتَحَقُّقِ نُشُوزِهَا وَلَوْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ دُونَ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّشُوزُ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَتَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} وَالْأَوْلَى بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَرَّحَتْ بِنُشُوزِهَا فَكَانَ لِزَوْجِهَا ضَرْبُهَا كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ، وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ كَالْحُدُودِ.

وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَظْهَرْ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ ضَرْبِ النَّاشِزَةِ أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الضَّرْبَ يُفِيدُ فِي تَأْدِيبِهَا وَرَدْعِهَا عَنِ النُّشُوزِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ضَرْبُهَا وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا.

وَقَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ ضَرْبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ بِنَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ وَتَأْدِيبِهَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، وَإِلاَّ فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي لِتَأْدِيبِهَا.

الضَّمَانُ بِضَرْبِ التَّأْدِيبِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا- بِالْقُيُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ- هُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ أَوْ هَلَاكٍ وَجَبَ الْغُرْمُ وَالضَّمَانُ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَرْبُ إِتْلَافٍ لَا إِصْلَاحٍ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ مَا تَلِفَ بِالضَّرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا الْمَشْرُوعِ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى نُشُوزِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.

التَّرْتِيبُ فِي التَّأْدِيبِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِزَامِ الزَّوْجِ التَّرْتِيبَ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْوَعْظِ ثُمَّ الْهَجْرِ ثُمَّ الضَّرْبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، فَإِنْ تَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ ضَرَبَهَا، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلاَّ رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

وَقَالُوا: وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ: أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَعِظُ الزَّوْجُ مَنْ نَشَزَتْ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْوَعْظُ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْهَجْرُ جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ لِحَالَةٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُفِيدُ، وَيَفْعَلُ مَا عَدَا الضَّرْبَ وَلَوْ لَمْ يَظُنَّ إِفَادَتَهُ- بِأَنْ شَكَّ فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيدُ- لَا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْإِفَادَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ إِفَادَتَهُ لِشِدَّتِهِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ زَوْجَتَهُ إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا هَجَرَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا ضَرَبَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا، لَا إِنْ شَكَّ فِيهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ لِزَوَالِ مُبِيحِهِمَا، وَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَهَجَرَهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ وَلَمْ تَرْتَدِعْ بِالْهَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنَ الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ طُرُقِ التَّأْدِيبِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: مَرَاتِبُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ ثَلَاثٌ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا، أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلَاقَةٍ وَلُطْفٍ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلَا يَضْرِبُهَا وَلَا يَهْجُرُهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا، وَفِي جَوَازِ الضَّرْبِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ الْمَنْعَ، وَرَجَّحَ صَاحِبَا الْمُهَذَّبِ وَالشَّامِلِ الْجَوَازَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ بِلَا خِلَافٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا فِي جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَا يَجْمَعُ.وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي النُّشُوزِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ.

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَادَّعَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْلُ لَهَا فِي عَدَمِ النُّشُوزِ بِيَمِينِهَا حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ وَكَانَتْ فِي بَيْتِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نُشُوزٍ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهَا سُقُوطَ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي شَهْرٍ مَاضٍ- مَثَلًا- لِنُشُوزِهَا فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا أَيْضًا لِإِنْكَارِهَا مُوجِبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا، وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَنْكَرَ، أَوْ ثَبَتَ نُشُوزُهَا ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ- مَثَلًا- أَذِنَ لَهَا بِالْمُكْثِ هُنَاكَ هَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لَهَا أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ مَنْعَ الْوَطْءِ أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ لِعُذْرٍ وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَثْبَتَتْهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَأَمَّا مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَخُرُوجِهَا بِلَا إِذْنٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ: هِيَ تَمْنَعُنِي مِنْ وَطْئِهَا حَيْثُ قَالَتْ: لَمْ أَمْنَعْهُ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.

وَقَالُوا: إِنْ ضَرَبَهَا، فَادَّعَتِ الْعَدَاءَ وَادَّعَى الْأَدَبَ فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ، وَحِينَئِذٍ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَاءِ مَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَإِلاَّ قُبِلَ قَوْلُهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ ضَرَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهُ بِسَبَبِ نُشُوزٍ وَادَّعَتْ عَدَمَهُ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ فِي الْمَطْلَبِ قَالَ: وَالَّذِي يَقْوَى فِي ظَنِّي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ وَلِيًّا فِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا فَلَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ جَرَاءَتَهُ وَتَعَدِّيَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يُصَدَّقْ وَصُدِّقَتْ هِيَ، وَقَيَّدَ الشَّرْقَاوِيُّ تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نُشُوزِهَا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّسْلِيمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ.

نُشُوزُ الزَّوْجِ أَوْ إِعْرَاضُهُ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ خَافَتْ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا لِرَغْبَتِهِ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ بِهَا أَوْ كِبَرٍ أَوْ دَمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيَهُ بِذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتِ: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْكَوْنِ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَضَى بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَحْسَنَهُ وَوَلاَّهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ مِنَ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي، فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ أَوِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنْوَاعُ الصُّلْحِ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتَعَدَّى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لَكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسَنُّ لَهَا اسْتِعْطَافُهُ بِمَا يُحِبُّ، كَأَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا، كَمَا تَرَكَتْ سَوْدَةُ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- لَمَّا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا- صلى الله عليه وسلم-، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ إِذَا كَرِهَتْ صُحْبَتَهُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهَا بِمَا تُحِبُّ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَرَضٍ أَوْ دَمَامَةٍ، فَوَضَعَتْ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا أَوْ كُلَّ حُقُوقِهَا، تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقُّهَا وَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِي الْمَاضِي، وَإِنْ شَرَطَا مَالًا يُنَافِي نِكَاحًا لَزِمَ وَإِلاَّ فَلَا، فَلَوْ صَالَحَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ قَسْمِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَلَهَا ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَيَقُولُ لَهَا: إِنْ رَضِيتِ عَلَى هَذَا وَإِلاَّ فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَتَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ.

تَعَدِّي الزَّوْجِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى زَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْقَاضِيَ يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ الزَّوْجَ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا، فَشَكَتْ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا، سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ- وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ- فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ، فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِيَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَعَدَّى الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ بِضَرْبٍ أَوْ سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَعْظٍ فَتَهْدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْوَعْظِ ضَرَبَهُ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ فِي زَجْرِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَهَذَا إِذَا اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَعَظَهُ فَقَطْ دُونَ ضَرْبٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَقًّا لَهَا كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ لِعَجْزِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ نُشُوزِهَا فَإِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَهَا عَلَى إِفَاءِ حَقِّهِ لِقَدْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مُكَلَّفًا أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أُلْزِمَ وَلَيُّهُ تَوْفِيَتَهُ.

فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ وَآذَاهَا بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا سَبَبٍ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يُعَزِّرُهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَطَلَبَتْ تَعْزِيرَهُ مِنَ الْقَاضِي عَزَّرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ إِسَاءَةَ الْخُلُقِ تَكْثُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّعْزِيرُ عَلَيْهَا يُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَهُمَا، فَيَقْتَصِرُ أَوَّلًا عَلَى النَّهْيِ لَعَلَّ الْحَالَ يَلْتَئِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ وَأَسْكَنَهُ بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ.

وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ ظَنَّ الْحَاكِمُ تَعَدِّيَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا- لِكَوْنِهِ جَسُورًا- حَالَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ عَدْلٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّعْزِيرِ لَرُبَّمَا بَلَغَ مِنْهَا مَبْلَغًا لَا يُسْتَدْرَكُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ نُشُوزٌ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا.

تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَمْرَهُمَا يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرُهُ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَيَزْجُرُ الْمُتَعَدِّي، وَإِلاَّ نَصَّبَ حَكَمَيْنِ لِلنَّظَرِ فِي الشِّقَاقِ وَمُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ وَادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا، حِينَئِذٍ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَرُدَّا إِلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلَامَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ- عِنْدَ الْحَاكِمِ- وَعَظَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ذَلِكَ فَالْوَعْظُ فَقَطْ، وَسَكَّنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ يُوصَوْنَ عَلَى النَّظَرِ فِي حَالِهِمَا لِيُعْلَمَ مَنْ عِنْدَهُ ظُلْمٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَالَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، تَعَرَّفَ الْقَاضِي الْحَالَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمَا بِثِقَةٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُهُمَا وَيَكُونُ جَارًا لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ أَسْكَنَهُمَا فِي جَنْبِ ثِقَةٍ يَتَعَرَّفُ حَالَهُمَا ثُمَّ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَعْرِفُهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُمَا مَنَعَ الظَّالِمَ مِنْ عَوْدِهِ لِظُلْمِهِ، وَطَرِيقِهُ فِي الزَّوْجِ مَا سَلَفَ فِي «تَعَدِّي الزَّوْجِ» وَفِي الزَّوْجَةِ بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ كَغَيْرِهَا.

وَاكْتُفِيَ هُنَا بِثِقَةِ وَاحِدٍ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّوَايَةِ، لِمَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُسْرِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الثِّقَةِ أَنْ يَكُونَ عَدْلَ شَهَادَةٍ بَلْ يَكْفِي عَدْلَ الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمِ اعْتِبَارُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِخَبَرِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا الشَّهَادَةِ.

وَقَالُوا: إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَمَرَّ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ، وَفَحُشَ ذَلِكَ، بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَانِبِ مِنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافُ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

التَّحْكِيمُ عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خِلَافُ الزَّوْجَيْنِ، وَأَشْكَلَ أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا إِلَى حَدٍّ يُؤَدِّي إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.

وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّحْكِيمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ بِهَا الْفُقَهَاءُ، اتِّبَاعًا لِلْحُكْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَعَمَلًا بِهِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:

أ- الْحَالُ الَّتِي يُبْعَثُ عِنْدَهَا الْحَكَمَانِ:

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ نَشَزَتْ وَلَمْ يُجْدِ فِي تَأْدِيبِهَا وَكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ الضَّرْبُ أَوْ مَا يَسْبِقُهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ وَالرَّدْعِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إِلَيْهِمَا الْحَكَمَيْنِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَاسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ بَعْدَ إِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمُ ابْتِدَاءً، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ السُّكْنَى بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا اشْتَدَّ الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ وَفَحُشَ ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا وَخَشَى أَنْ يُخْرِجَهُمَا إِلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْقَاضِي الْحَكَمَيْنِ.

ب- الْخِطَابُ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَحُكْمُهُ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} لِلْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَمْنَعُونَ مِنَ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ.

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمَيْنِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ مَنْ عَيَّنَهُمَا الْقَاضِي لِذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْثَ الْحَكَمَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الظِّلَامَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْفُرُوضِ الْعَامَّةِ عَلَى الْقَاضِي، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ: ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ الْوُجُوبُ.

وَنَصُّ الْأُمِّ هُوَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا ارْتَفَعَ الزَّوْجَانِ الْمَخُوفُ شِقَاقُهُمَا إِلَى الْحَاكِمِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الجعل والعمل)

الْفرق بَين الْجعل وَالْعَمَل

أَن الْعَمَل هُوَ ايجاد الاثر فِي الشَّيْء على مَا ذكرنَا والجعل تَغْيِير بإيجاد الْأَثر فِيهِ بِغَيْر ذَلِك أَلا ترى أَنَّك تَقول جعل الطين خزفا وَجعل السَّاكِن متحركا وَتقول عمل الطين خزفا وَلَا تَقول عمل السَّاكِن متحركا لِأَن الْحَرَكَة لَيست بأثر يُؤثر بِهِ فِي الشَّيْء والجعل أَيْضا يكون بِمَعْنى الإحداث وَهُوَ قَوْله تَعَالَى (وَجعل الظُّلُمَات والنور) وَقَوله تَعَالَى (وَجعل لكم السّمع والأبصار) وَيجوز أَن يُقَال إِن ذَلِك يَقْتَضِي أَنه جعلهَا على هَذِه الصّفة الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا كَمَا تَقول جعلت الطين خزفا والجعل أَيْضا يدل على الِاتِّصَال وَلذَلِك جعل طرفا للْفِعْل فتستفتح بِهِ كَقَوْلِك جعل يَقُول وَجعل ينشد قَالَ الشَّاعِر من الْكَامِل

«فَاجْعَلْ تحلل من يَمِينك إِنَّمَا *** حنث الْيَمين على الأثيم الْفَاجِر... » فَدلَّ على تحلل شَيْئا بعد شَيْء وَجَاء أَيْضا بِمَعْنى الْخَبَر فِي قَوْله تَعَالَى (وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا) أَي أخبروا بذلك وَبِمَعْنى الحكم فِي قَوْله تَعَالَى (أجعلتم سِقَايَة الْحَاج) اي حكمتم بذلك وَمثله جعله الله حَرَامًا وجعهل حَلَالا أَي حكم بتحليله وتحريمه وَجعلت المتحرك متحركا أَي جعلت مَاله صَار متحركا وَله وُجُوه كَثِيرَة أوردناها فِي كتاب الْوُجُوه والنظائر والجعل أصل الدّلَالَة على الْفِعْل لِأَنَّك تعلمه ضَرُورَة وَذَلِكَ أَنَّك إِذا رَأَيْت دَارا مهدمهة ثمَّ رَأَيْتهَا مبينَة علمت التَّغَيُّر ضَرُورَة وَلم تعلم حُدُوث شَيْء إِلَّا بالاستدلال.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


14-المعجم الغني (أَرْجَفَ)

أَرْجَفَ- [رجف]، (فعل: رباعي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، أَرْجَفَ، يُرْجِفُ، المصدر: إِرْجَافٌ.

1- "أَرْجَفَتْهُ أَفْلَامُ الرُّعْبِ": أَرْعَبَتْهُ، أَخَافَتْهُ.

2- "أَرْجَفَتِ الأَرْضُ": زُلْزِلَتْ.

3- "أَرْجَفَ القَوْمُ": خَاضُوا في الأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وذِكْرِ الفِتَنِ.

4- "أَرْجَفُوا في الْمَدينَةِ بالإِشاعاتِ": أَخْبَرُوا بِها لِيُوقِعُوا في النَّاسِ الاضْطِرَابَ والبَلْبَلَةَ. ¨ "أَرْجَفُوا بالشَّيْءِ وبِهِ وَفيهِ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


15-تاج العروس (دق دقق دقدق)

[دقق]: دَقَّهُ يَدُقُّه دَقًّا: كَسَرَهُ بأَيِّ وَجْهٍ كان.

أَو دَقَّهُ: ضَرَبَهُ بشَيْ‌ءٍ فهَشَمَهُ فانْدَقَّ ذلِكَ الشَّي‌ءُ، مثل الدَّواءِ وغيرِه.

وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: دَقَّ الشَّي‌ءَ يَدُقُّه دَقًّا: إِذا أَظْهَرَهُ وأَنْشَدَ لزُهَيْرِ بن أَبِي سُلْمَى:

تدارَكْتُما عَبْسًا وذُبْيانَ بعدَ ما *** تَفَانَوْا ودَقُّوا بَيْنَهُم عِطْرَ مَنْشِمِ

أَي: أَظْهَرُوا العَداواتِ والعُيُوبَ. ويُقالُ في العَدَاواتِ: لأَدُقَّنَّ شُقُورَك، أَي: لأُظْهِرَنَّ أُمُورَكَ.

والمِدَقُّ، والمِدَقَّةُ* بكسرِهِما على القِياسِ.

والمُدُقُّ، بضمَّتَيْنِ وهو نادِرٌ قال سِيبَوَيْه: هو أَحدُ ما جاءَ من الأَدَواتِ الَّتِي يُعْتَمَلُ بِهَا على مُفْعُل بالضَّمِّ: ما يُدَقُّ به الشَّيْ‌ءُ، قال العُجَّاجُ يصِفُ الحِمارَ والأُتُنَ.

يَتْبَعْنَ جَأْبًا كمُدُقِّ المِعْطِيرْ

قالَ الجَوْهَرِيُّ: يَعْني مِدْوَكَ العَطّارِ، حَسِبَ أَنّه يُدَقُّ بهِ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: والمُدُقُّ: حَجَرٌ يُدَقُّ به الطِّيبُ، ضُمَّ الميمُ لأَنّه جُعِلَ اسْمًا، وكذلِكَ المُنْخُلُ، فإِذا جُعِلَ نَعْتًا رُدَّ إِلى مِفْعَل.

ج: مَداقُّ، والتَّصْغِيرُ مُدَيْقٌ والقافُ مشدّدَةٌ، وأَنْشَدَ ابنُ دُرَيْدٍ لرُؤبةَ:

يَرْمِي الجَلامِيدَ بجُلْمُودٍ مِدَقّ

بكسرِ الميم وفتح الدّال، قال الصاغانِيُّ: ويُرْوَى أَيضًا بضّمتين، واستظهرَ الأَزْهَرِيُّ الأَولَ، وجعلَه صفةً لِجُلْمُودٍ.

والدَّقَقَةُ، مُحَرَّكَةً: المُظْهِرُونَ أَقْذالَ، أَي: عُيُوبَ المُسْلِمينَ عن ابنِ الأَعْرابِيِّ، وقد دَقَّه يَدُقُّه دَقًّا.

والدَّقِيقُ: الطَّحِينُ فَعِيلٌ بمَعنَى مَفْعُولٍ، وفي اللّسانِ الطِّحْنُ.

وبائِعُه دَقّاقٌ كما في العُبابِ، وفي اللِّسانِ: الدَّقِيقِيُّ: بائِعُ الدَّقِيقِ، قال سِيبَوَيْه: ولا يُقال: دَقَّاقٌ، فتأَمل ذلك.

والدَّقِيقُ: ضِدُّ الغَلِيظِ، قالَ ابنُ بَرِّيٍّ: الفَرْقُ بينَ الدَّقِيق والرَّقِيق، أَنَّ الدَّقِيقَ: خلافُ الغَلِيظِ، والرَّقِيقَ: خِلافُ الثَّخِينِ، ولهذا يُقال: حَساءٌ رَقِيقٌ، وحسَاءٌ ثَخِينٌ، ولا يُقال فيه: حَساءٌ دَقِيقٌ، ويُقال: سَيْفٌ دَقِيقُ المَضْرِبِ، ورُمْحٌ دَقِيقٌ، وغُصْنٌ دَقِيقٌ، كما تقول: رُمْحٌ غَلِيظٌ، وغُصْنٌ غَلِيظٌ، وكذلك حَبْلٌ دَقِيقٌ، وحَبْلٌ غَلِيظٌ، قال: وقد يُوقَعُ الدَّقِيقُ من صِفَةِ الأَمْرِ الحَقِيرِ الصَّغِيرِ، فيكونُ ضِدُّه الجَلِيلَ، قال الشّاعِرُ:

فإِنَّ الدَّقِيقَ يَهِيجُ الجَلِيلَ *** وإِنّ الغَرِيبَ إِذا شاءَ ذَلّ

وقد دَقَّ يَدِقُّ دِقَّةً، بالكَسْرِ.

والدَّقِيقُ: الأَمْرُ الغامِضُ الخَفِيّ عن العُيُونِ.

ومن المَجازِ: الدَّقِيقُ: هو البَخِيلُ القَلِيلُ الخَيْرِ وهو دَقِيقٌ بَيِّنُ الدِّقِّ، قال:

وإِن جاءَكُم مِنّا غَرِيبٌ بأَرْضِكُمْ *** لَوَيْتُم له دِقًّا جُنُوبَ المَناخِرِ

والدَّقِيقَةُ في قَوْلِهِم: مالَهُ دَقِيقَةٌ ولا جَلِيلَةٌ: الغَنَمُ وهو مَجازٌ، ويُرِيدُونَ بالجَلِيلَةِ الإِبِلَ، ويَقُولُونَ: كَمْ دَقِيقَتُكَ؟ أَي: غَنَمُكَ، وأَعْطاهُ من دَقائِقِ المَالِ، وهو راعِي الدَّقائِقِ، أَي: الغَنَمِ، وقالَ ذُو الرُّمَّةِ يَهْجُو قَوْمًا:

إِذا اصطكت الحَرْبُ امْرَأَ القَيْسِ أخبروا *** عَضارِيطَ إِذ كانُوا رِعاءَ الدَّقائِقِ

والدَّقِيقَةُ في المُصْطَلَح النُّجُومِيِّ: جُزْءٌ من ثَلاثِينَ جُزْءًا من الدَّرَجَةِ هكذا في العُباب، وقَلَّدَه المُصَنِّفُ، وفيه نَظَرٌ، وقَدْ نَبَّهَ عليه الشيخُ أَبو الحَسَنِ المَقْدِسِيُّ في حَواشِيه بما نَصُّه: هذا سَبْقُ قَلَم، إِنَّما هِي من سِتِّينَ جُزْءًا من الدَّرَجَةِ، ونَقَلَهُ شَيْخُنا، وصَوَّبَه.

وأَبو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الله كذا في النُّسَخ، والذي في التَّبْصِير أَنّه: مُحمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ بنِ الحَكَم الدَّقِيقِيُّ الواسِطِيُّ سَكَنَ بَغْدادَ، ثِقَةٌ، وقولُه: شَيْخٌ لابنِ ماجَهْ قالَهُ الذَّهَبِيُّ، والذي في اللُّبابِ أَنَّه رَوَى عنه إِبْراهيمُ بنُ إِسْحاقَ الحَرْبِيُّ، وأَبو دَاوُدَ السِّجِسْتانِيُّ، ويَحْيَى بنُ محمَّدِ بن صاعِدٍ، ونِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، وأَبو عَبْدِ اللهِ بنُ المَحامِلِيِّ، وإِسماعيلُ الصَّفّارُ، قالَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أَبِي حاتِمٍ: كتَبْتُ عنهُ مع أَبِي بواسِطَ، ووَثَّقَه أَبو الحَسَنِ الدّارَقُطْنِيُّ، مات سنة 266 عن إِحْدَى وثَمانِين سنةً.

وفاتَه: ذِكْرُ أَبِي بكرِ بنِ إِسماعِيلَ بنِ عبدِ الحَمِيدِ الدَّقِيقيِّ، المَعْرُوفِ بصاحبِ الدَّقِيقِ، من أَهْلِ البَصْرَةِ، رَوَى عنه أَبو زُرْعَةَ، وهو صَدُوقٌ.

وبالتَّصْغِيرِ مع التَّثْقِيلِ أَبُو مُحَمَّد الدُّقَيِّقِيُّ: فاضِلٌ عِراقِيٌّ مُتَأَخِّرٌ، تَلا عَلَى الجَمَالِ البَدَوِيّ، وسَمِع ابنَ أُمِّ مُشَرِّفٍ.

وقالَ ابنُ عَبّادٍ: الدَّقّاقَةُ: ما يُدَقُّ به الأُرْزُ ونَحْوُه.

قالَ: والدَّقُوقَةُ: الدّوائِسُ مِنَ البَقَرِ والحُمُرِ.

قالَ: والدَّقُوق: دَواءٌ يُدَقّ للعَيْنِ فيُذَرُّ فِيها.

ودَقُوق: د، بينَ بَغْدادَ وإِرْبِلَ له ذِكْرٌ في الفُتُوحِ، وبه كانَتْ وَقْعَةٌ للخَوارِجِ.

ويُقال: دَقُوقَى بالقَصْرِ ويُمَدُّ فهي ثَلاثُ لُغات، قالَ الجَعْدُ بنُ أَبِي ضَمّامٍ الذُّهْلِيُّ يَرْثِي الخَوارِجَ:

بنَفْسِيَ قَتْلَى في دَقُوقاءَ غُودِرَتْ *** وقد قُطِّعَتْ مِنْها رُؤُوسٌ وأَذْرُعُ

منه أَبو مُحَمَّد عبدُ المُنْعِمِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَبي المَضاءِ الدَّقُوقِيُّ، نَزِيلُ حَماةَ، حَدَّثَ عن ابْنِ عَساكِر بعدَ الأَرْبَعِينَ وستِّمائةٍ.

ومُحَدِّثُ بَغْدادَ في السَّبْعِمائَةِ، تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحْمُودِ الدَّقُوقِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَذْبُ القِراءَةِ، فَصْيح العِبارَةِ، يحضُرُ مجلِسَهُ نحوُ الأَلْفَيْنِ، قالَهُ الذَّهَبِيُّ.

ودُقاقُ العِيدانِ، بالكسرِ والضَّمِّ، كُسارُها، وقِيلَ: الدُّقاقُ كغُرابٍ: فُتاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ دَقَّ.

والدُّقاقُ: الدَّقِيقُ، كالدِّقِّ، بالكَسْرِ ومنه حُمَّى الدِّقِّ، أَجارَنا اللهُ مِنْها.

وقَوْلُهم: أَخَذْتُ دِقَّهُ وجِلَّهُ، كما يُقال: أَخَذْتُ قَلِيلَهُ وكَثِيرَهُ، وفي حَدِيثِ الدُّعاءِ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّه وجِلَّهُ».

والدِّقَّةُ، بالكَسْرِ: هَيْئَةُ الدَّقِّ.

ومن المَجازِ: الدِّقَّةُ: الخَساسَةُ وقد دَقَّ يَدِقُّ دِقَّةً: صارَ دَقِيقًا، أَي: خَسِيسًا وحَقِيرًا.

والدِّقَّةُ: ضِدُّ العِظَمِ.

والدُّقَّةُ بالضَّمِّ: التُّرابُ اللَّيِّنُ الذي كَسَحَتْهُ الرِّيحُ من الأَرْضِ، والجَمْعُ دُقَقٌ، قال رُؤْبَة:

تَبْدُو لَنَا أَعْلامُه بعدَ الغَرَقْ *** في قِطَعِ الآلِ وهَبْواتِ الدُّقَقْ

وقالَ ابنُ دُرَيْد: الدُّقَّةُ: التَّوابِلُ وما خُلِطَ به من الأَبْزارِ مثلِ القِزْحِ وما أَشْبَهَه، نقله ابنُ سِيدَه، قالَ الصّاغانِيُّ: وأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَ تَوابِلَ القِدْر كُلَّها دُقَّةً، كما قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ.

وقِيلَ: الدُّقَّةُ: هو المِلْحُ مع ما خُلِطَ بهِ من أَبْزارِه نقَلَهُ ابنُ سِيدَه عن بَعْضٍ. قلتُ: هو المَشْهُورُ المُسْتَعْمَلُ الآنَ.

أَو هو: المِلْحُ المَدْقُوقُ وَحْدَه، قالَهُ اللَّيْثُ، قالَ: ومنه قَوْلُهم: ما لَها دُقَّةٌ أَي: ما لَها مِلْحٌ، أَو: هِيَ قَلِيلَةُ الدُّقَّةِ، أَي: غَيْرُ مَلِيحَةٍ وهو مَجازٌ.

والدُّقَّةُ: حَلْيٌ لأَهْلِ مَكَّةَ حَرَسَهَا اللهُ.

ومن المَجازِ: الدُّقَّةُ: الجَمالُ والحُسْنُ وبه فُسِّرَ قَوْلُهم: ما لَها دُقَّةٌ، أَي: ما لَها حُسْنٌ ولا جَمالٌ.

ودُقَّةُ بنُ عُبابَةَ كثُمامَةٍ يُضْرَبُ بجُنُونِهِ المَثَلُ فيُقال: «هو أَجَنُّ من دُقَّةَ».

وقالَ المُفَضَّلُ: الدَّقْداقُ: صِغارُ الأَنْقاءِ المُتَراكِمَةِ.

قلتُ: وقولُ ابنِ مَيّادَةَ:

أَو كُنْتَ ذا بَزٍّ وبَغْلٍ دَقْداقْ

من ذلك، كأَنّه شَبَّهَهُ بتلكَ الأَنْقاءِ.

ويُقال: أَدَقَّهُ: إِذا جَعَلَه دَقِيقًا يَحْتَمِلُ المَعانِيَ المَذْكُورَةَ آنِفًا.

وأَدَقَّ فُلانًا: أَعْطاهُ غَنَمًا، كما يُقال: أَجَلَّه: إِذا أَعْطاهُ إِبِلًا، وهو مَجازٌ، يقالُ: أَتَيْتُهُ فما أَدَقَّنِي ولا أَجَلَّنِي، أَي: ما أَعطانِي إِحْدَاهُما، وقِيل: أَي ما أَعْطانِي دَقِيقًا ولا جَلِيلًا.

ودَقَّقَ تَدْقِيقًا: أَنْعَمَ الدَّقَّ هذا هو الأَصْلُ في اللُّغَة، ثمّ نُقِلَ إِلى مَعْنًى آخرَ، وهو إِثباتُ المَسْأَلَةِ بدَليلٍ دَقَّ طَرِيقُه لناظِرِيه، كذا في مُهِمّاتِ التَّعْرِيف للمَناوِيِّ.

والمُدَقَّقَةُ من الطَّعامِ: لُغَةٌ مُوَلَّدةٌ نقله الصاغاني.

ومن المَجازِ: المُداقَّةُ: أَنْ تُداقَّ صاحِبَكَ الحِسابَ وهو فِعْلٌ بينَ اثْنَيْنِ.

واسْتَدَقَّ الشي‌ءُ كالهِلالِ وغيرِه: صارَ دَقِيقًا.

ومُسْتَدَقُّ كُلِّ شَي‌ءٍ: ما دَقَّ منه واسْتَرَق.

ومن السّاعِدِ: مُقَدَّمُه مما يَلِي الرُّسْغَ.

والتَّداقُّ: تَفاعُلٌ من الدِّقَّةِ نقله الصاغانِيُّ.

والدَّقْدَقَةُ: جَلَبَةُ النّاسِ عن ابنِ عَبّادٍ.

وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الدَّقْدَقَةُ: حِكايةُ أَصْوات حَوافِرِ الدّوابِّ أَي: في سُرْعَة تَرَدُّدِها، مثل الطَّقْطَقَةِ.

* ومما يُسْتَدْركُ عليه:

رَجُلٌ مِدَقٌّ، بكسرِ الميمِ، أَي: قَوِيٌّ.

وحافِرٌ مِدَقٌّ، أَي: يَدُقُّ الأَشياءَ.

والدِّقُّ بالكسرِ، في الكَيْلِ: هو أَن يُدَقَّ ما فِي المِكْيالِ من المَكِيلِ حَتّى يَنْضَمَّ بعضُه إِلى بَعْضٍ.

والدُّقاقَةُ، كثُمامَةٍ: كُساحَةُ الأَرْضِ، كالدُّقَّةِ، بالضمِّ.

وقالَ ابنُ بَرِّيّ: الدُّقَقُ واحِدَتُها دُقَّى، كجُلَّى وجُلَلٍ، ذكره عند تفسيرِ قَوْلِ رُؤْبَةَ السابِقِ.

ودُقاقُ، كغُرابٍ: اسمُ مُغَنِّيَةٍ لها ذِكْرٌ في الأَغانِي.

وقال كُراع: رَجُلٌ دِقِمٌّ: مَدْقُوقُ الأَسْنانِ على المَثَلِ، مُشْتَقٌّ من الدَّقِّ، والميمُ زائِدَةٌ.

وقال أَبو حَنِيفَةَ: الدِّقُّ، بالكسرِ: ما دَقَّ على الإِبِلِ من النَّبْتِ ولانَ، فيأْكُلُه الضَّعِيفُ من الإِبِلِ والصَّغِيرُ والأَدْرَدُ والمَرِيضُ، وقِيلَ: دِقُّه: صِغارُ وَرَقِه.

والعَرَبُ تَقُولُ للحَشْوِ من الإِبِلِ: الدُّقَّةُ، بالضمِّ.

والدَّقّاقُ: الكَثِيرُ الدَّقِّ.

وجاءَ بكَلامٍ دِقٍّ ودَقِيقٍ، ودَقَّ في كَلامِه، وهو مَجازٌ.

ويُقالُ لمَنْ يَمْنَعُ الخَيْرَ: أَدَقَّ بك خَلْقُك، من أَدَقَّ: إِذا اتَّبَعَ دَقِيقَ الأُمُورِ، أَي: خَسِيسَها، وبهم هِمَمٌ دِقاقٌ، أَي: خِساسٌ.

ويَتْبَعُونَ مَداقَّ الأُمُورِ، أَي: غَوامِضَها، وهم قَوْمٌ أَدِقَّةٌ، وأَدِقّاءُ. وعبدُ الرَّحْمنِ بنُ أَبِي القاسِمِ الحَرْبِيِّ، عُرِفَ بابنِ دَقِيقَة: مُحَدِّثٌ مات سنة 607 وأَخُوه إِسماعِيلُ سَمِعَ أَبا البَدْرِ الكَرْخِيَّ، قال ابنُ نُقْطَة: ماتَ قبلَ أَخِيه.

وأَبُو عليٍّ الدَّقّاقُ: من رجالِ الرِّسَالَةِ القُشَيْرِيَّةِ، وأَبو القاسِم عِيسَى بنُ إِبراهيمَ الدَّقّاقُ، روى عنه أَبو القاسِمِ الأَزَجِيُّ.

والدُّقِّيّ بالضمِّ: قريةٌ صَغِيرةٌ على شاطِي‌ءِ النِّيلِ تُجاهَ الفُسطاط.

وقَطِيعَةُ الدَّقِيق، ذُكِرَ في «ق ط ع».

وأَبو العَبّاسِ أَحمَدُ بنُ إِبراهيمَ بن الدقوق، حَدَّثَ عن المواقِ، وعنه أَبُو العَبّاسِ السُّولي.

وأَبو بَكْر مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ الدُّقِّيّ الدِّينَوَرِيّ ثم البَغْدادِيُّ: صُوفِيٌّ كبِيرٌ، قَرأَ القُرآنَ على ابنِ مُجاهِدٍ، وسَمِعَ من الخَرائِطِيِّ، وصَحِبَ أَبا بَكْرٍ الدَّقّاقَ.

وأَبو بَكْرٍ أَحمدُ بنُ محمَّدِ بنُ إِبراهِيمَ، عُرِفَ بابنِ دُقٍّ الدُّقِّيّ، من أَهْلِ أَصْبَهانَ، توفي سنة 354 ذكره ابنُ مَرْدَوَيْهِ الحافِظُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


16-تاج العروس (قل قلل قلقل)

[قلل]: القُلُّ، بالضَّمِّ، والقِلَّةُ بالكسرِ: ضِدُّ الكَثْرَةِ والكُثْرِ، وفيه لَفَ ونَشْر غيرُ مُرَتَّب.

قالَ شيْخُنا: وأَجازَ البرهان الحلبيُّ في شرْحِ الشفاءِ الكَسْرَ في القلِّ والكثْرِ، ونَقَلَه الشَّهابُ في إِعْجازِ القُرْآن.

قلْتُ: ونَقَلَه ابنُ سِيْدَه أَيْضًا، ومنه قَوْلُهم: الحَمدُ لله على القُلِّ والكُثْرِ، بالوَجْهَيْن.

وفي الحدِيْثِ: «الرِّبا وإِن كَثُر فهو إِلى قُلٍّ أَي إِلى قِلَّة؛ وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد للبيدٍ:

كلُّ بَني حُرَّةٍ مَصِيرُهُمْ *** قُلٌّ وإِن أَكثرتْ من العَدَدِ

وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ لخالدِ بنِ عَلْقمَةَ الدَّارميّ:

قد يَقْصُر القُلُّ الفَتى دُونَ هَمِّه *** وقد كان لولا القُلُّ طَلَّاعَ أَنْجُدِ

وقد قَلَّ يَقِلُّ قِلَّةً وقُلًّا، فهو قليلٌ كأَميرٍ وغُرابٍ وسَحابٍ، الأَخيرَةُ عن ابنِ جنيِّ.

وأَقَلَّهُ: جَعَلَهُ قليلًا كقَلَّلَهُ. وقيلَ: أَقَلَّ الشي‌ءَ: صادَفَه قَليلًا؛ وأَيْضًا: أَتَى بقَلِيلٍ، وكذلِكَ قَلَّلَه.

والقُلُّ، بالضَّمِّ: القَلِيلُ.

قالَ شيْخُنا: حَكَى فيه الفتحَ القاضِي زَكَريا في حَواشِي البَيْضاوِي أَثْناء يضل به كَثيرًا.

ويقالُ: ماله قُلٌّ ولا كُثْرٌ.

والقُلُّ من الشَّي‌ء: أَقَلُّهُ.

والقَلِيلُ مِن الرِّجالِ، كأَميرٍ: القَصيرُ الجثَّةِ النحيفُ الدَّقيقُ، وهي بهاءٍ، كذلِكَ: ونِسْوَةٌ قَلائِلُ وقومٌ قَليلونَ وأَقِلّاءُ وقُلُلٌ بضمَّتينِ كسَرِيرٍ وسُرُر، وقُلُلونَ جَمْعُ السَّلامَة؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} وقالَ تعالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، يكونُ ذلِكَ في قِلَّةِ العَدَدِ. وأَيْضًا في دِقَّةِ الجُثّةِ والنَّحافَةِ.

والإِقْلالُ: الافْتِقارُ وقِلَّةُ الجِدَةِ؛ وقد أَقَلّ صَارَ مُقِلًّا أَي فَقِيرًا بعْدَ الاكْثارِ.

ورجُلٌ مُقِلُّ وأَقَلُّ: فَقيرٌ وفيه بَقِيَّةٌ، وضِدُّه المثْرِي؛ ومنه قوْلُهم: هذا جُهْد المُقلّ.

وقالَلْتُ له الماءَ إِذا خِفْتَ العَطَشَ فأَرَدْتَ أَن يُسْتَقَلَّ ماؤُكَ، وفي نسخةٍ: أَن تستقِلَّ ماءَكَ. ويقالُ: هو قُلُّ بنُ قُلٍّ، بضَمِّهِما، وكذا ضُلُّ بنُ ضُلٍّ أَيْضًا إِذا كان لا يُعْرَفُ هو ولا أَبوهُ.

قالَ سِيْبَوَيْه: ويقالُ قُلُّ رَجُلٍ يقولُ ذلِكَ إِلَّا زيدٌ، بالضَّمِّ؛ أَي بضمِ القافِ؛ وأَقَلُّ رَجُلٍ يقولُ ذلِكَ إِلَّا زيدٌ، مَعْناهُما: ما رجُلٌ يقولُه إِلَّا هو، فالقلَّةُ فيه بمعْنَى النَّفي المَحْض.

وقالَ ابنُ جنيِّ: لمَّا ضارَعَ المُبْتدَأُ حَرْفَ النَّفْي بَقَّوْا المُبْتدأ بِلا خَبَرِ.

ويقالُ: رجُلٌ قُلٌّ بالضَّمِّ: أَي فَرْدٌ لا أَحَدَ له.

وقَدِمَ علينا قُلُلٌ من النَّاسِ بضمَّتين أَي ناسٌ مُتَفَرِّقونَ من قَبائِلَ شَتَّى أَو غيرِ شَتَّى فإِذا اجتمعوا جَمْعًا فهم قُلَلٌ كصُرَدٍ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه.

والقِلَّةُ، بالكسرِ: الرِّعْدَةُ مُطْلقًا، أَو مِن غَضَبٍ وطمعٍ ونَحْوه تَأْخذُ الإِنسانَ كالقِلِّ كما سَيَأْتي وهو مجازٌ.

وقالَ الفَرَّاءُ: القَلَّة، بالفتحِ، النَّهْضَةُ من عِلَّةٍ أَو فَقْرٍ.

والقُلَّة، بالضَّمِّ: أَعْلَى الرَّأْسِ والسَّنامِ والجَبَلِ [أو كُلِّ شَي‌ءٍ] *، وعَمَّمَه بعضُهم قالَ: قُلَّة كلِّ شي‌ءٍ: رأْسُه وأَعْلاه، وأَنْشَدَ سِيْبَوَيْه في القُلَّة بمعْنَى رأْسِ الإنسانِ:

عَجائب تُبْدِي الشَّيْبَ في قُلَّةِ الطِّفْل

والجَمْعُ قُلَلٌ؛ قالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ فِراخَ النَّعامَةِ ويشبِّه رُؤُوسَها بالبَنادِقِ:

أَشداقُها كصُدُوع النّبْع في قُلَلٍ *** مثل الدَّحارِيج لم يَنْبُت لها زَغَبُ

والقُلَّةُ أَيْضًا: الجماعَةُ منَّا إِذا اجْتمعوا جَمْعًا، والجَمْعُ كالجَمْعِ.

والقُلَّةُ: الحُبُّ العَظيمُ؛ أَو الجَرَّةُ العَظيمةُ؛ أَو الجَرَّةُ عامَّةً؛ أَو الجَرَّةُ الكبيرَةُ من الفَخَّارِ.

وقيلَ: هو الكوزُ الصَّغيرُ، وهذا هو المَعْرُوف الآنَ بمِصْر ونَواحِيها، فهو ضِدٌّ، الجمع: قُلَلٌ وقِلالٌ، كصُرَدٍ وجِبالٍ؛ قالَ جميلُ بنُ معمرٍ:

فظَلِلْنا بنِعمة واتَّكَأْنا *** وشَرِبْنا الحَلالَ من قُلَلِهْ

وقالَ حسَّان، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه:

وأَقْفَر من حُضَّارِه وِرْدُ أَهْلِهِ *** وقد كان يُسقَى من قِلالٍ وحَنْتَم

وفي الحدِيْث: «إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل خَبَثًا»؛ قالَ أَبو عُبَيْد: يعْني هذه الحِبَاب العِظَام، وهي مَعْروفَة بالحِجَازِ وقد تكونُ بِالشأمِ.

وفي صفَةِ سِدْرَةِ المُنْتَهَى: «ونَبِقُها كقِلالِ هَجَر»، وهَجَر: قَرْيةٌ قُرْبَ المدِينَةِ وليْسَتْ هَجَر البَحْرَيْن، وكانت تُعْمَل بها القِلالُ.

ورَوَى شَمِرٌ عن ابنِ جُرَيْج: أَخْبَرَني مَن رَأَى قِلالَ هَجَر تَسَع القُلَّة منها الفَرَق؛ قالَ عبدُ الرَّزَّاق: الفَرَق أَرْبَعة أَصْوُعِ بصَاعِ النبيِّ، صلَّى اللهُ تعالَى عليه وسلَّم.

ورُوِي عن عيسَى بن يونُس قالَ: القُلَّة يُؤْتى بها مِن ناحِيَة اليَمَن تَسَع يها خَمْس جِرَارٍ أَو سِتًّا.

قالَ أَحْمدُ بنُ حَنْبل: قَدْر كلّ قُلَّة قِرْبتان.

وقالَ إِسحاقُ: القُلَّة نَحْو أَرْبَعِين دَلْوًا أَكْثر ما قِيلَ في القُلَّتَيْن.

وقالَ الأَزْهرِيُّ: وقِلالُ هَجَر والأَحْساء ونَواحِيها مَعْروفَة تأْخُذ القُلَّة منها مَزَادة كَبيرَة مِن الماءِ، وتملأُ الرَّاويةُ قُلَّتَيْن، وكانوا يُسَمُّونها الخُرُوس؛ قالَ: وأَرَاها سُمِّيت قِلالًا لأَنَّها تُقَلُّ أَي تُرْفَعُ إِذا مُلِئَت وتُحْمَل.

والقُلَّةُ من السَّيفِ: قَبيعَتُه؛ ومنه سَيفٌ مُقَلَّل إِذا كانت له قبِيعة.

واسْتَقَلَّه: حَمَلَه ورَفَعَه كقَلَّه وأَقَلَّهُ، الثانِيةُ عن ابنِ الأَعْرابيِّ.

وفي الصِّحاحِ: أَقَلَّ الجَرَّة: أَطَاقَ حَمْلَها. وفي العُبَابِ: قَوْلُه تعالَى: {أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا}؛ أَي حَمَلَت الرِّيحُ سَحابًا ثِقالًا بالماءِ.

ومن المجازِ: استَقَلَّ الطَّائِرُ في طَيَرانِه أَي نَهَضَ للطَّيَران وارْتَفَعَ في الهَواءِ.

ومن المجازِ: استَقَلَّ النباتُ إِذا أَنافَ.

ومن المجازِ: استَقَلَّ القومُ: ذَهَبُوا واحْتَمَلوا سَائِرِين وارْتَحَلوا، وكذا اسْتَقَلّوا عن دِيارِهم، واسْتَقَلّت خِيامُهم، واسْتَقَلّوا في مَسِيرِهم.

واستَقَلَّ الشَّي‌ءَ؛ عَدَّهُ قَلِيلًا، أَو رَآه كذلِكَ، كتَقالَّهُ؛ ومنه الحدِيْث: «فلمَّا أَخبروا كأَنَّهم تَقَالُّوها».

ومن المجازِ: استقَلَّ الرجُلُ أَي غَضِبَ.

وفي الأَساسِ: استَقَلَّ فلانٌ غَضَبًا إِذا شَخَصَ مِن محلِّه لفَرْطِ غَضَبِه.

والقِلُّ، بالكسرِ: النَّواةُ التي تَنْبُتُ مُنْفَرِدَةً ضَعيفَةً، نَقَلَه الصَّغانيَّ.

والقِلُّ: شبْهُ الرِّعْدَةِ، كما في الصِّحاحِ؛ أَو إِذا كانت غَضَبًا أَو طَمَعًا ونَحْوه يأْخُذ الإنسانَ، كالقِلَّةِ، وقد تقدَّم ذِكْرُها؛ الجمع: كعِنَبٍ.

والقِلالُ، ككِتابٍ: الخُشُبُ المَنْصوبَةُ للتَّعْريشِ، حَكَاه أَبو حَنيفَة، وأَنْشَدَ:

من خَمر غانَةَ ساقِطًا أَفنانُها *** رفَع النَّبيطُ كُرُومَها بقِلال

أَرادَ بالقِلالِ أَعْمِدة تُرْفَع بها الكُرُوم مِن الأَرْضِ، ويُرْوى بظِلالِ.

وقد أَقَلَّتْه الرِّعْدَةُ واسْتَقَلَّتْه واستَقَلَّ أَيْضًا، كما في الصِّحاحِ؛ قالَ الشاعِرُ:

وأَدْنَيْتنِي حتى إِذا ما جَعَلْتنِي *** على الخَصْرِ أَو أَدْنى اسْتَقَلَّك راجِفُ

وأَخَذَ بِقِلِّيلَتِه وقِلِّيلاهُ مُشَدَّدتينِ مَكْسورَتَيْنِ، وإِقْليلاهُ، مَكْسورَةً أَي بجُمْلَته.

ويقالُ: ارْتَحَلوا بِقِلِّيَّتِهم أَي بجَماعَتِهم لم يَدَعوا وراءَهُم شَيئًا.

ويقالُ: أَكلَ الضَّبَّ بقِلِّيَّتِهِ أَي بِعِظامِهِ وجِلْدِه، عن ابنِ سِيْدَه.

والقَلْقالُ: المِسْفارُ، عن أَبي عُبَيْد؛ أَي الكثيرُ السَّفَرِ، وهو مجازٌ. وقد قَلْقَلَ في الأرْضِ قَلْقَلَةً وقِلْقالًا، عن اللّحْيانيّ.

والقُلْقُلُ، كهُدْهُدٍ: الخَفيفُ في السَّفَرِ؛ وذَكَرَه المصنِّفُ ثانِيًا فيمَا بعْدُ.

وقالَ أبو الهَيْثم: رجُلٌ قُلْقُل بُلْبُل إذا كانَ خَفِيفًا ظَريفًا، والجَمْع قَلاقِل وبَلابِل.

والقِلْقِلُ، كزِبْرِجٍ: نَبْتٌ له حَبٌّ أَسْوَدُ؛ وفي نُسخَةِ شيْخِنا: حَبٌّ سودٌ، وخَطَّأَ المصَنِّف؛ حَسَنُ الشَّمّ محرِّكٌ للباءَةِ جِدًّا لا سِيَّما مَدْقوقًا بسِمْسِمٍ مَعْجونًا بعَسَلٍ.

وقالَ دَاود الحَكِيم: يقربُ شجرُه مِن الرُّمَّان عودُه أَحْمر وفُرُوعُه تمتدُّ كَثيرًا ويَحْمِل حَبًّا مُسْتديرًا في حَجْمِ الفُلْفُل وأَكْبَر يَسِيرًا؛ ويقالُ إنَّه حَبُّ السمْنَةِ يسمنُ ويهيِّجُ الباءَةَ كيفَ اسْتُعْمِل، وأَجْودُه ما اسْتُعْمِل محمَّصًا؛ انتَهَى قالَ الراجزُ.

أَنْعَتُ أَعْيارًا بأَعْلَى قُنَّهْ *** أَكَلْنَ حَبَّ قِلْقِلٍ فَهُنَّهْ

لهنَّ من حُبّ السِّفادِرَنَّهْ

وقالَ أَبو حَنيفَةَ: هو نَبْتٌ يَنْبتُ في الجَلَدِ وغَلْظ السَّهْل ولا يَكادُ ينبُتُ في الجِبالِ، وله سِنْف أُفَيْطِحُ ينبُت في حَبَّات كأَنهنَّ العدَس، فاذا يَبِسَ فانْتَفَخ وهبَّت له الرِّيحُ سَمِعْت تَقَلقُلَه كأنَّه جَرَس، وله وَرَق أَغْبَرُ أَطْلس كأَنَّه وَرَق القَصَب، ويقالُ له: القُلْقُلانُ والقُلاقِلُ بضمِّهِما؛ هذا قَوْل أَبي حَنيفَةَ، فإنّه قالَ: كلُّ ذلِكَ نَبْتٌ واحِدٌ؛ وذَكَرَ عن الأَعْرابِ القُدُم أَنَّه شجرٌ أَخْضَر ينهَضُ على ساقٍ، ومَنابتُه الآكَام دُوْن الرِّياض، وله حبٌّ كحبِّ اللُّوبياء طيِّب يُؤْكَل، والسائمةُ حَرِيصَة عليه؛ وأَنْشَدَ:

كأَنَّ صوتَ حَلْيِها إذا انْجَفَلْ *** هَزُّ رِياحٍ قُلْقُلانًا قد ذَبَلْ

وقالَ اللَّيْثُ: القِلْقِلُ شجرٌ له حبٌّ عِظامٌ ويُؤْكَل، وأَنْشَدَ.

أَبْعارُها بالصَّيْفِ حَبُّ القِلْقِل

وقالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وساقَتْ حَصادَ القُلْقُلان كأَنَّما *** هو الخَشْلُ أَعْرافُ الرِّياح الزَّعازِع

أَو هُما نَبْتانِ آخَرانِ، فقالَ بعضُهم: القُلاقِلُ بَقْلة بَرِّيَّة يُشْبِه حَبُّها حبَّ السِّمْسِم ولها أَكَمامَ كأَكْمامِها، قالَ الرَّاجِزُ:

بالصمد ذي القلاقل

وعِرْقُ هذا الشَّجرِ هو المُغاثُ؛ ومنه المَثَلُ:

دَقَّك بالمِنْحازِ حبَّ القِلْقِل

والعامَّةُ تقولُه بالفاءِ وهو غَلَطٌ.

وفي الصِّحاحِ: قالَ الأصْمَعِيُّ: هو تَصْحيفٌ إنما هو بالقافِ، وهو أَصْلَب ما يكونُ مِن الحُبُوب، حَكَاه أَبو عُبَيْد.

قالَ ابنُ بَرِّي: الذي رَوَاه سِيْبَوَيْه حبّ الفُلْفُلِ بالفاءِ، قالَ وكذا رَوَاه عليُّ بنُ حَمْزة، وأَنْشَدَ:

وقد أَرَاني في الزمانِ الأَوَّلِ *** أَدُقَّ في جارِ اسْتِها بِمعْوَلِ

دَقَّك بالمِنْجازِ حبَّ الفُلْفُلِ

والقُلْقُلانيُّ، بالضَّمِّ، طائِرٌ كالفاخِتَةِ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.

وقَلْقَلَ قَلْقَلَةً: صَوَّتَ وهو حكايَةٌ.

وقَلْقَلَ الشَّي‌ءَ قَلْقَلَةً وقِلْقالًا، بالكسرِ ويُفْتَحُ، عن كراعٍ وهي نادِرَةٌ؛ أَي حَرّكَهُ؛ أَو بالفَتْحِ: الاسمُ، وبالكسرِ: المَصْدَرُ كالزِّلْزال والزَّلْزال.

وقالَ اللَّحْيانيُّ: قَلْقَلَ في الأَرْضِ قَلْقَلَة وقِلْقالًا: ضَرَبَ فيها، فهو قَلْقالٌ، وقد تقدَّمَ.

والقُلْقُلُ والقُلاقِلُ، بضمِّهِما، الرجُلُ الخَفيفُ في السَّفرِ، المِعْوانُ السَّريعُ التَّقَلْقُلِ أَي التحرُّكِ والاضْطِرَاب في الحاجَةِ.

وحُروفُ القَلْقَلَةِ: جطد قب؛ قالَ سِيْبَوَيْه: وإمَّا سُمِّيت بذلِكَ للصَّوت الذي يَحْدثُ عنها عنْدَ الوَقْف لأنَّك لا تَسْتَطِيع أَنْ تقِفَ عنْدَه إلَّا معه لشدَّةِ ضَغْطِ الحَرْف؛ ووُجِدَ في بعضِ النسخِ: قحط دب، وفي أُخْرى: قطب جد؛ وكلُّ ذلِكَ صَحِيحٌ.

والقِلِّيَّةُ، بالكسرِ وشَدِّ اللَّامِ: شِبْهُ الصَّوْمَعَةِ؛ ومنه كتابُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، لنَصَارَى الشامِ لمَّا صالَحَهُم أَن لا يحْدِثوا كَنِيسةً ولا قِلّيَّة.

والقِلُّ: الحائِطُ القَصيرُ. وبهاءٍ: النَّهْضَةُ مِن عِلَّةٍ أَو فَقْرٍ، وهذا قد تقدَّمَ للمصنِّفِ، وهو قَوْل الفرَّاء.

والقُلَّى، كُربَّى: الجارِيَةُ القَصيرَةُ.

وتَقالّتِ الشَّمسُ: تَرَحَّلَتْ. وفي الحدِيْث: «حتى تَقالَّتِ الشمسُ» أَي اسْتَقَلَّت في السَّماءِ وارْتَفَعَت وتعَالَتْ.

ولَقُلَّ ما جِئْتُكَ، بضمِ القافِ: لُغَةٌ في الفَتْح، نَقَلَه الفرَّاءُ.

قالَ بعضُ النَّحَويِّين: قَلَّ مِن قوْلِك قَلَّما فِعْلٌ لا فَاعِل له، لأنَّ ما أَزَالَتْه عن حُكْمِه في تَقَاضِيه الفاعِلِ، وأَصارَتْه إلى حُكْم الحَرْفِ المُتَقاضِي للفِعْل لا الاسْمِ نَحْو لولا وهلَّا جَميعًا، وذلِكَ في التَّخْضيضِ، وإِن في الشَّرْط وحَرْف الاسْتِفْهام؛ ولذلِكَ ذَهَبَ سِيْبَوَيْه في قوْل الشاعِرِ:

صَدَدْت فأَطْولت الصُّدودَ وقَلَّما *** وِصالُ على طُولِ الصُّدودِ يَدُومُ

إلى أَن وِصالٌ يَرْتفِع بفِعْل مُضْمَر يَدُلُّ عليه يَدُومُ، حتى كأَنَّه قالَ: وقَلَّما يَدُوم وِصالٌ، فلمَّا أَضْمر يَدُوم فسَّره فيمَا بَعْدُ بقوْلِه يَدُومُ، فَجَرَى ذلِكَ في ارْتِفاعِه بالفِعْل المُضْمَر لا بالابْتِدَاء مجْرَى قوْلك: أَوِصالٌ يَدُومُ أَو هلَّا وِصالٌ يُدُومُ؟ وقالَ أَبو زَيْدٍ: قالَلْتُ له إذا قَلَّلْتُ عَطاءَهُ.

ويقالُ: سَيْفٌ مُقَلَّلٌ، كمُعَظَّمٍ: له قَبيعَةٌ؛ قالَ عَمْرُو بنُ هِميل الهُذَليُّ:

وكُنَّا إذا ما الحربُ ضُرِّس نابُها *** نُقَوِّمُها بالمَشْرَفيِّ المُقَلَّل

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

تَقَلَّل الشي‌ءَ: رَآه قَلِيلًا. وفي الحدِيْث: «أَنَّه كان يُقِلُّ اللَّغْوَ» أَي لا يَلْغُو أَصْلًا فالقِلَّةُ للنَّفْي المَحْض.

وقوْلُهم: لم يترُك قَليلًا ولا كَثيرًا؛ قالَ أَبو عُبَيْد يَبْدَأُون بالأَدْوَن كقَوْلِهم القَمَران، والعُمَران، ورَبِيعة ومُضَر، وسُلَيم وعامِر، كما في الصِّحاحِ.

والقُلُّ مِن الرِّجال: الخَسيسُ الدَّني‌ءُ.

وقومٌ أقِلَّةٌ: خِسَاسٌ، وهو مجازٌ، وأَنْشَدَ بنُ بَرِّي للأَعْشَى:

فأَرْضَوْهُ إنْ أَعْطَوْه مِنِّي ظُلامَةً *** وما كُنْتُ قُلًّا قبلَ ذلك أَزْيَبا

وقَلَّلَه في عَيْنِه: أَرَاه قَلِيلًا؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}.

ويقالُ: فَعَل ذلِكَ مِن أَثْرَى وأَقَلَّ أَي مِن بَيْن الناسِ كُلّهم.

وقِلالَةُ الجَبَلِ، بالكسرِ: كقُلَّته؛ قالَ ابنُ أَحْمر:

ما أُمُّ غَفْرٍ في القِلالةِ لم *** يَمْسَسْ حَشاها قبله غَفْرُ

واسْتقَلَّت السَّماء: ارْتَفَعَتْ؛ نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.

والاسْتِقلالُ: الاسْتِبْدادُ، ويقالُ: هو مُسْتقلٌّ بنفْسِهِ أَي ضَابِط أَمْرَه وهو لا يَسْتَقلُّ بهذا أَي لا يطيقُه.

وقالَ أَبو زَيْدٍ: يقالُ ما كانَ مِن ذلك قَلِيلةٌ ولا كَثِيرةٌ، وما أَخَذْت منه قَلِيلةً ولا كَثِيرة بمعْنى لم آخُذ منه شيئًا، وإنَّما تَدْخل الهاءُ في النَّفْي.

وقَلَّ الشي‌ءُ إذا عَلا، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

وبَنُوقُلٍّ بالضمِ: بَطْنٌ.

وتَقَلْقَل في البِلادِ إذا تَقَلَّب فيها. وفي الحدِيْث: «خَرَجَ علينا عليّ وهو يَتَقَلْقَل» أي يخفُّ ويُسْرعُ؛ ويُرْوَى بالفاءِ، وقد تقدَّمَ.

وفَرَسٌ قُلْقُل وقُلاقِلٌ: جوادٌ سَريعٌ.

ونَفْسُه تَقَلْقَل في صدْرِه أَي تَتَحَرَّك بصَوْت شَدِيدٍ.

وتَقَلْقَل المِسْمارُ في مَكانِه إذا قَلِق.

والقُلْقُةُ، بالضمِ: ضَرْبٌ مِن الحَشَراتِ، كما في العُبَابِ.

ورجُلٌ طَويلُ القُلَّة أَي القَامَة.

وهو يَقلُّ عن كذا أَي يَصْغُرُ.

وقَلْقَلَ الحزنُ دَمْعَه، أَسَالَه، وهو مجازٌ.

والقُلَقيل مُصَغَّرًا: قطْعَةٌ مِن الطِّيْن.

وأبو سعْدٍ قُلْقُلُ بنُ عليِّ القزْوينيُّ، كهُدْهُدٍ، حدَّثَ بهَمَذان عن إسْمعيل الصفَّار. وكزبْرِجٍ، إبراهيمُ بنُ عليٍّ بنِ قِلْقِلٍ الفَقِيهُ الزُّبَيْديُّ، كان في صدْرِ المائَةِ السابعةِ ذَكَرَه الجنديّ في تاريخِ اليَمَنِ.

ومحل القلقل: غَرْبي زبيد.

وقَلَّين بالفتحِ وشَدِّ اللامِ المَكْسورَة: قَرْيةٌ بمِصْر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


17-لسان العرب (دفق)

دفق: دفَق الماءُ والدَّمْعُ يَدْفِق ويدْفُق دَفْقًا ودُفُوقًا وانْدفَق وتدَفَّق واستَدْفَقَ: انْصبَّ، وَقِيلَ: انصبَّ بمرَّة فَهُوَ دَافِقٌ أَيْ مَدْفُوقٌ كَمَا قَالُوا سِرٌّ كاتِمٌ أَي مكتُوم، لأَنه مِنْ قَوْلِكَ دُفِق الْمَاءُ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ وَمِنْهُمْ مَن قَالَ: لَا يُقَالُ دفَق الماءُ.

وكلُّ مُراقٍ دافِقٌ ومُنْدَفِق، وَقَدْ دفَقَه يدْفِقُه ويَدْفُقُه دَفْقًا ودَفَّقَه.

والانْدِفاقُ: الانْصِباب.

والتدفُّق: التَّصَبُّبُ.

التَّهْذِيبُ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى دَافِقٌ مَدْفُوقٌ، قَالَ: وأَهل الْحِجَازِ أَفْعلُ لِهَذَا مِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا الْمَفْعُولَ فَاعِلًا إِذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ نَعْتٍ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هَذَا سرٌّ كاتمٌ وهمٌّ ناصبٌ وَلَيْلٌ نَائِمٌ، قَالَ: وأَعان عَلَى ذَلِكَ أَنها وَافَقَتْ رؤُوس الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مَعَهُنَّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ ماءٍ دافِقٍ"، مَعْنَاهُ مِنْ ماءٍ ذِي دَفْق، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَلِكَ سرٌّ كَاتِمٌ ذُو كِتْمان.

وَانْدَفَقَ الْكُوزُ إِذَا دُفِق ماؤُه.

وَيُقَالُ فِي الطِّيرَة عِنْدَ انْصِبَابِ الإِناء: دَافِقُ خَيْرٍ وَقَدْ أَدْفَقْت الكوزَ إِذَا بَدَّدْت مَا فِيهِ بمرَّة.

قَالَ الأَزهري: الدَّفْق فِي كَلَامِ الْعَرَبِ صَبُّ الْمَاءِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ.

يُقَالُ: دَفَقْتُ الْكُوزَ فَانْدَفَقَ وَهُوَ مَدفُوق، قَالَ: وَلَمْ أَسمع دفَقْت الماءَ فدَفَق لِغَيْرِ اللَّيْثِ، قَالَ: وأَحسبه ذَهَبَ إِلى قَوْلِهِ تعالى: {خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ}، وَهَذَا جَائِزٌ فِي النُّعُوتِ، وَمَعْنَى دافِقٍ ذِي دَفْق كَمَا قَالَ الخليل وسيبويه.

ابْنُ الأَعرابي: رَجُلٌ أَدفَقُ إِذَا انْحَنَى صُلْبُه مِنْ كِبَر أَوْ غَمٍّ؛ وَأَنْشَدَ المفضَّل: " وَابْنُ مِلاطٍ مُتَجافٍ أَدفَق وَفِي الدُّعَاءِ عَلَى الإِنسان بِالْمَوْتِ: دَفَق اللهُ روحَه أَي أَفاظه.

ودفَّقتْ كَفَّاه النَّدَى أَيْ صبَّتا، شَدَّدَ لِلْكَثْرَةِ.

ودفَق النهرُ وَالْوَادِي إِذَا امتلأَ حَتَّى يَفيض الماءُ مِنْ جَوَانِبِهِ.

وسَيْلٌ دُفاق، بِالضَّمِّ: يملأُ جَنَبَتَيِ الوادِي.

وَفِي حَدِيثِ الاسْتِسقْاء: «دُفاق العَزائلِ»؛ الدُّفاقُ: الْمَطَرُ الْوَاسِعُ الْكَثِيرُ، والعَزائل: مَقْلُوبُ العَزالي، وَهِيَ مَخارج الْمَاءِ مِنَ المَزاد.

وفَمٌ أَدْفقُ إِذَا انْصبَّت أَسنانه إِلى قُدَّام.

ودَفِقَ البعيرُ دَفَقًا وَهُوَ أَدْفَقُ: مالَ مِرْفَقه عَنْ جَانِبِهِ.

وَبَعِيرٌ أَدفَق بيِّن الدفَقِ إِذَا كَانَتْ أَسنانه مُنتصِبةً إِلَى خارج.

وَرَجُلٌ أَدْفقُ: فِي نِبْتة أَسنانِه ***وتدفَّقتِ الأُتُن: أَسرعَت.

وَسَيْرٌ أَدفقُ: سَرِيعٌ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

بَيْن الدِّفِقَّى والنَّجاءِ الأَدْفَقِ وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَقصى العَنَق.

يُقَالُ: سَارَ القومُ سيْرًا أَدفقَ أَيْ سَرِيعًا.

وَجَمَلٌ دِفَقٌّ، مِثْلُ هِجَفّ: سَرِيعٌ يَتدفَّق فِي مَشيه، والأُنثى دَفُوق ودِفاق ودِفَقَّةٌ ودِفِقَّى ودِفَقَّى.

وَهُوَ يَمْشِي الدِّفِقَّى إِذَا أَسرعَ وباعَدَ خَطْوَه، وَهِيَ مِشْية يتدفَّق فِيهَا ويُسْرِع؛ وأَنشد:

تَمْشِي العُجَيْلى مِنْ مَخافةِ شَدْقَمٍ، ***يَمْشِي الدِّفِقَّى والخَنِيف ويَضْبِرُ

وَقَوْلُهُ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ: عَلَى دِفِقَّى المَشْيِ عَيْسَجورِ فَسَّرَهُ بأَن الدِّفِقَّى هُنَا الْمَشْيُ السَّرِيعُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لأَن الدِّفقَّى إِنَّمَا هِيَ هُنَا صِفَةٌ لِلنَّاقَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَيْسجور، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ.

وَفِي حَدِيثِ الزِّبْرِقانِ: «أَبْغضُ كَنائني إِليَّ الَّتِي تَمْشي الدِّفِقَّى»؛ هِيَ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْقَصْرِ: الإِسراع فِي الْمَشْيِ.

وَنَاقَةٌ دِفاقٌ، بِالْكَسْرِ: وَهِيَ المُتدفِّقة فِي سَيْرِهَا مُسْرِعةً.

وَقَدْ يُقَالُ جَمَلٌ دِفاقٌ وَنَاقَةٌ دفْقاءُ وَجَمَلٌ أَدْفقُ، وَهُوَ شدَّةُ بَيْنونةِ المِرْفَق عَنِ الْجَنْبَيْنِ؛ وأَنشد:

بعَنْتَرِيسٍ تَرَى فِي زَوْرِها دَسَعًا، ***وَفِي المَرافِقِ مِن حَيْزُومِها دَفَقا

وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَتدفَّق فِي الْبَاطِلِ تدفُّقًا إِذَا كَانَ يُسارع إِلَيْهِ؛ قَالَ الأَعشى:

فَمَا أَنا عَمَّا تَصْنَعُون بغافِلٍ، ***وَلَا بسَفِيهٍ حِلْمُه يَتدفَّقُ

وجاؤوا دُفْقة وَاحِدَةً، بِالضَّمِّ، أَيْ دُفْعةً وَاحِدَةً ودُفاقٌ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ ساعدةُ:

وَمَا ضَرَبٌ بَيْضاء يَسْقِي دَبُوبَها ***دُفاقٌ فعُرْوانُ الكَراثِ فَضِيمُها

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وادٍ.

وَيُقَالُ: هِلَالٌ أَدفقُ إِذَا رَأَيْتَهُ مَرْقونًا أَعْقَفَ وَلَا تَرَاهُ مُسْتَلْقِيًا قَدِ ارْتَفَعَ طرَفاه؛ وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: هِلَالٌ أَدفق خَيْرٌ مِنْ هِلَالٍ حاقِن؛ قَالَ: الأَدفق الأَعوج، وَالْحَاقِنُ الَّذِي يَرْتَفِعُ طرَفاه ويَستلقي ظهرُه.

وَفِي النوادرِ: هلالٌ أَدفقُ أَيْ مُستوٍ أَبيض ليس يمُتَنَكِّب عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْعَرَبُ تَسْتَحِبُّ أَنْ يَهِلَّ الهلالُ أَدفقَ، وَيَكْرَهُونَ أَن يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا قَدِ ارْتَفَعَ طَرَفَاهُ.

ابْنُ بَرِّيٍّ: ودَوفَقُ قَبِيلَةٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

لَوْ كُنْت مِنْ دَوْفَقَ أَو بنِيها، ***قَبِيلة قَدْ عَطِبَتْ أَيْدِيها،

مُعَوِّدِينَ الحَفْرَ حافِرِيها "دقق: الدَّقُّ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ دَقَقْت الدَّواءَ أَدُقُّه دَقًّا، وَهُوَ الرَّضُّ.

والدَّقُّ: الكَسر والرَّضُّ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَضْرِبَ الشيءَ بِالشَّيْءِ حَتَّى تَهْشِمَه، دَقَّه يَدُقُّه دَقًّا ودقَقْتُه فانْدَقَّ.

والتَّدْقيقُ: إنعامُ الدَّقّ.

والمِدَقُّ والمِدَقَّةُ والمُدُقُّ: مَا دقَقْتَ بِهِ الشيءَ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا المُدُقُّ لأَنهم جَعَلُوهُ اسْمًا لَهُ كالجُلْمُود، يَعْنِي أَنه لَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَكَانَ قِيَاسُهُ المِدَقَّ أَوِ المِدَقَّة لأَنه مِمَّا يُعتمل بِهَا، وَهُوَ أَحد مَا جَاءَ مِنَ الأَدوات الَّتِي يُعتمل بِهَا عَلَى مُفعُل بِالضَّمِّ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ الحِمار والأُتُن: " يَتْبَعْنَ جأْبًا كَمُدُقِّ المِعْطِيرْ "يَعْنِي مِدْوَكَ العَطّار، حَسِب أَنه يُدَقُّ بِهِ، وَتَصْغِيرُهُ مُدَيْق، وَالْجَمْعُ مَداقُّ.

التَّهْذِيبُ: والمُدق حَجَرٌ يُدّق بِهِ الطِّيبُ، ضُمَّ الْمِيمُ لأَنه جُعِلَ اسْمًا، وَكَذَلِكَ المُنْخُل، فَإِذَا جُعِلَ نَعْتًا رُدَّ إِلَى مِفْعل؛ وَقَوْلُ رُؤْبَةَ أَنشده ابْنُ دُرَيْدٍ: " يَرْمي الجَلامِيدَ بِجُلْمُود مِدَقّ "اسْتَشْهَدَ بِهِ عَلَى أَنَّ المِدقّ ما دققت به الشيء، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَمِدَقٌّ بَدَلٌ مِنْ جُلْمُودٍ، والسابقُ إِلَيَّ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مِفعل مِنْ قَوْلِكَ حَافِرٌ مدَق أَي يدُقُّ الأَشياء، كَقَوْلِكَ رَجُلٌ مِطْعَن، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِجُلْمُودٍ؛ قَالَ الأَزهري: مُدُقٌّ وأَخواته وَهِيَ مُسْعُط ومُنخل ومُدْهُن ومُنْصُلٌ ومُكْحُلةٌ جَاءَتْ نوادِرَ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَمَوْضِعُ الْعَيْنِ مِنْ مفعُل، وَسَائِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ جَاءَ عَلَى مِفْعل ومفْعلة فِيمَا يُعْتَمَلُ بِهِ نَحْوَ مِخْرَز ومِقْطَع ومسَلّة وَمَا أَشبهها.

وَفِي حَدِيثِ عَطَاءٍ فِي الكَيل قَالَ: «لَا دَقَّ وَلَا زَلْزَلةَ»؛ هُوَ أَنْ يَدُقَّ مَا فِي الْمِكْيَالِ مِنَ المَكيل حَتَّى يَنْضَمَّ بعضُه إِلَى بَعْضٍ.

والدَّقّاقةُ: شَيْءٌ يُدَقُّ بِهِ الأَرزُّ.

والدَّقوقةُ والدَّواقُّ: الْبَقَرُ وَالْحُمُرُ الَّتِي تَدُوس البُرَّ.

والدُّقاقةُ والدُّقاقُ: مَا انْدَقَّ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ التُّرَابُ اللَّيِّن الَّذِي كَسَحَته الرِّيحُ مِنَ الأَرض.

ودُقَقُ التُّرَابِ: دُقاقهُ، وَاحِدَتُهَا دُقَّة؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

تَبْدو لَنَا أَعْلامُه بَعْدَ الغَرَقْ، ***فِي قِطَعِ الآلِ وهَبْوات الدُّقَقْ

والدُّقاقُ: فُتات كُلِّ شَيْءٍ دُقَّ.

والدُّقَّةُ والدُّقَقُ: مَا تَسْهَك بِهِ الرِّيحُ مِنَ الأَرض؛ وَأَنْشَدَ: " بساهِكاتٍ دُقَقٍ وجَلْجالْ وَفِي مُنَاجَاةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَلْنِي حَتَّى الدُّقّة "؛ هِيَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ: المِلح الْمَدْقُوقُ.

وَهِيَ أَيضًا مَا تسحَقه الرِّيحُ مِنَ التُّرَابِ.

والدّقّةُ: مَصْدَرُ الدَّقِيق، تَقُولُ: دَقَّ الشَّيْءُ يدِقّ دِقّة، وَهُوَ عَلَى أَربعة أَنْحَاءٍ فِي الْمَعْنَى.

والدَّقِيقُ: الطَّحِينُ.

وَالرَّجُلُ الْقَلِيلُ الْخَيْرِ هُوَ الدَّقِيق.

والدَّقِيق: الأَمر الْغَامِضُ.

وَالدَّقِيقُ: الشَّيْءُ لَا غِلَظَ لَهُ.

وأَهل مَكَّةَ يُسَمُّونَ توابِل القِدْر كُلَّهَا دُقّة؛ ابْنُ سِيدَهْ: الدُّقّة التَّوَابِلُ وَمَا خُلط بِهِ مِنَ الْأَبْزَارِ نَحْوَ القِزْح وَمَا أَشبهه.

والدُّقة: الْمِلْحُ وَمَا خُلِطَ بِهِ مِنَ الأَبزار، وَقِيلَ: الدُّقَّةُ الْمِلْحُ الْمَدْقُوقُ وَحْدَهُ.

وَمَا لَهُ دُقة أَي مَا لَهُ مِلْح.

وامرأَة لَا دُقة لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَلِيحة.

وَإِنَّ فُلَانَةَ لَقَلِيلَةُ الدُّقَّةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَلِيحَةً، وَقَالَ كُرَاعٌ: رَجُلٌ دَقِمٌ مَدْقوق الأَسنان عَلَى المثَل مُشْتَقٌّ مِنَ الدقِّ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَهَذَا يُبْطِلُهُ التَّصْرِيفُ.

والدِّقُّ: كُلُّ شَيْءٍ دَقَّ وصغُر؛ تَقُولُ: مَا رَزأْتُه دِقًّا وَلَا جِلًّا.

والدِّقُّ: نَقِيضُ الجِلِّ، وَقِيلَ: هُوَ صِغَارُهُ دُونَ جَلّه وجِلّه، وَقِيلَ: هُوَ صِغَارُهُ ورَدِيئه، شَيْءٌ دِقٌّ ودَقِيق ودُقاق.

ودِقُّ الشَّجَرِ: صِغَارُهُ، وَقِيلَ: خِساسه.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الدِّق مَا دَقّ عَلَى الإِبل مِنَ النَّبْتِ ولانَ فيأْكله الضَّعِيفُ مِنَ الإِبل وَالصَّغِيرُ والأَدْرَد وَالْمَرِيضُ، وَقِيلَ: دِقُّه صِغَارُ ورَقه؛ قَالَ جُبَيْها الأَشجعي:

فَلَوْ أَنَّها قامَتْ بِظِنْبٍ مُعَجَّمٍ، ***نَفَى الجَدْبُ عَنْهُ دِقّه، فَهْوَ كالِحُ

وَرَوَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ:

فَلَوْ أَنها طَافَتْ بنَبْتٍ مُشَرْشَرٍ، ***نَفَى الدِّقَّ عَنْهُ جَدْبُه، فَهْوَ كالحُ

المُشرشَر: الَّذِي قَدْ شَرْشَرتْه الْمَاشِيَةُ أَي أَكلته.

والدَّقيق: الطِّحْن.

والدَّقِيقيُّ: بَائِعُ الدَّقِيقِ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَا يُقَالُ دَقّاق.

ورجلْ دَقِيقٌ بيِّن الدِّقّ: قَلِيلُ الْخَيْرِ بَخِيلٌ؛ قَالَ:

وَإِنْ جَاءَكُمْ مِنّا غَرِيبٌ بأَرضكم، ***لَوَيْتُم لَهُ، دِقًّا، جُنوبَ المَناخرِ

وَشَيْءٌ دَقِيق: غَامِضٌ.

وَالدَّقِيقُ: الَّذِي لَا غِلظَ لَهُ خِلَافُ الْغَلِيظِ، وَكَذَلِكَ الدُّقاقُ بِالضَّمِّ.

والدِّق، بِالْكَسْرِ، مِثْلُهُ، وَمِنْهُ حُمّى الدِّقّ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّقيق والرّقِيق أَن الدقِيق خِلَافُ الْغَلِيظِ، وَالرَّقِيقَ خِلَافُ الثَّخين، وَلِهَذَا يُقَالُ حَساء رَقيق وحَساء ثَخِينٌ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ حَسَاءٌ دَقِيقٌ.

وَيُقَالُ: سَيْفٌ دَقِيقُ المَضْرِب، ورُمْح دَقِيق، وغُصن دَقِيقٌ كَمَا تَقُولُ رُمح غَلِيظٌ وَغُصْنٌ غَلِيظٌ، وَكَذَلِكَ حَبْلٌ دَقِيقٌ وَحَبْلٌ غَلِيظٌ، وَقَدْ يُوقَع الدَّقِيقُ مِنْ صِفَةِ "الأَمر الْحَقِيرِ الصَّغِيرِ فَيَكُونُ ضِدَّهُ الْجَلِيلُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فإنَّ الدَّقِيقَ يهِيجُ الجَلِيلَ، ***وإنَّ الغَرِيب إِذَا شَاءَ ذَلْ

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ قَالَ: «اسْتَدِقَّ الدُّنْيَا واجْتَهِد رأْيَك» أَي احْتقِرها واستصغِرْها، وَهُوَ استَفْعل مِنَ الشَّيْءِ الدَّقِيقِ.

وَقَوْلُهُمْ: أَخذتُ جِلّه ودِقَّه كَمَا يُقَالُ أَخذت قَلِيلَهُ وَكَثِيرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كلَّه: دِقَّه وجِلَّه».

وَمَا لَهُ دَقِيقة وَلَا جَلِيلة أَي مَا لَهُ شاةٌ وَلَا نَاقَةٌ.

وأَتيته فَمَا أَدَقَّني وَلَا أَجلَّني أَي مَا أَعطاني إِحْدَاهُمَا، وَقِيلَ أَي مَا أَعطاني دَقِيقًا وَلَا جَلِيلًا؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَهْجُو قَوْمًا:

إذا اصْطَكَّت الحَرْبُ إمْرأَ القَيْسِ، أَخْبَروا ***عَضارِيطَ، إِذْ كَانُوا رِعاء الدَّقائقِ

أَراد أَنهم رِعَاءُ الشَّاءِ والبَهْم.

ودقَّقْت الشيءَ وأَدْقَقْته: جَعَلْتُهُ دَقيقًا.

وَقَدْ دَقَّ يَدِقُّ دِقَّةً: صَارَ دَقِيقًا، وأَدقَّه غَيْرُهُ ودقَّقَه.

المُفَضَّل: الدَّقْداقُ صِغَارُ الأَنْقاء الْمُتَرَاكِمَةِ.

ابْنُ الأَعرابي: الدَّقَقةُ المُظهرون أقْذالَ النَّاسِ أَي عُيوبهم، وَاحِدُهَا قَذَلٌ.

ودَقَّ الشيءَ يدُقُّه إِذَا أَظْهَرَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: " ودَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشِمِ "أَيْ أَظهروا العُيوب والعَداوات.

وَيُقَالُ فِي التَّهَدُّدِ: لأَدُقَّنَّ شُقورَك أَيْ لأُظهِرنَّ أُمورَك.

ومُسْتَدَقُّ السَّاعِدِ: مُقَدَّمه مِمَّا يَلِي الرُّسْغَ.

ومستدَقُّ كُلِّ شَيْءٍ: مَا دَقَّ مِنْهُ واسْترَقَّ.

واستَدَقَّ الشيءُ أَيْ صَارَ دَقِيقًا؛ وَالْعَرَبُ تَقُولُ للحَشْو مِنَ الإِبل الدُّقَّة.

والمِدَقُّ: الْقَوِيُّ.

والدَّقْدَقةُ: حِكَايَةُ أَصْوَاتِ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ فِي سُرعة تردُّدها مِثْلَ الطَّقْطَقةِ.

والمُداقَّةُ فِي الأَمر: التَّداقُّ.

والمُداقَّة: فِعْلٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ: إنه ليُداقُّه الحِساب.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


18-أساس البلاغة (رجف)

رجف

رجف البحر: اضطربت أمواجه، ومن اسمائه الرجّاف. قال:

المطعمون الشحم كل عشية *** حتى تغيب الشمس في الرجاف

ورجفت الأرض. «فأخذتهم الرجفة» «يوم ترجف الأرض والجبال» ورجف الشجر، وأرجفته الريح. ورجف البعير تحت الرحل. والمطيّ تحت رحالها رواجف ورجف. ورجفت الأسنان: نغضت أسناخها. وجاءنا شيخ ترجف عظامه. وأرجفت الإبل، واسترجفت رءوسها في السير. قال ذو الرمة:

واسترجفت هامها الهيم الشغاميم

ومن المجاز: خرجوا يسترجفون الأرض نجدة. وارتجفت بهم دفتا الشرق والغرب. وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. وهذا من أراجيف الغواة. والإرجاف مقدّمة الكون. وتقول: إذا وقعت المخاويف، كثرت الأراجيف.

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


19-تهذيب اللغة (دق)

دق: قال الليث: الدّقُ مصدر قولك دَقَقْتُ الدَّواء أدُقُّهُ دقًّا، وهو الرَّضُّ، والدَّقاقُ فُتاتُ كل شيءٍ دُقَ.

قال: والمُدُقُ حجرٌ يُدَقَ به الطِّيب ضم الميم لأنه جُعل اسمًا، وكذلك الْمُنْخُلُ، فإذا جُعل نعتًا رُدَّ إلى مِفعلٍ كقول رؤبة:

يرمي الجلامِيدَ بِجُلمودٍ مِدَقّ

قلت: مُدُقٌ ومُسْعُطٌ ومُنْخُلٌ، ومُدْهُنٌ ومُكْحُلَةٌ جاءت نوادر بضم الميم، وسائرُ كلامِ العرب جاءَ على مِفعلٍ ومِفعلةٍ فيما يعتملُ به نحو مِخْرَزٍ ومِقْطَعٍ ومِسَلَّةٍ.

وقال الليث: الدِّقُ كلُّ شيءٍ دَق وصغُر.

يقال: ما رَزَأتُهُ دِقًّا ولا جِلا، والدِّقَّةُ مصدرُ: الدّقيق، تقول: دقّ الشيءُ يَدِقُ دِقَّةً وهو على أربعةِ أنحاءٍ في المعنى، فالدقيق الطحين والرجلُ القليلُ الخيرِ هو الدّقيقُ، والدّقيقُ الأمرُ الغامِضُ، والدّقيقُ الشيءُ الذي لا غلظ له، والدُّقَّة الملح المدقوقُ حتى إنهم يقولون ما لفلانٍ دُقّةٌ وإن فلانةَ لقليلة الدُّقّة إذا لم تكن مليحةً، والدُّقَّةُ والدُّقَقُ ما تسهكهُ الريح من الأرض، وأنشد:

بساهِكات دُقَقٍ وجَلْجَال

وقال غيره: الدُّقَّةُ دقاقُ التراب.

وقال رؤبة:

في قطعِ الآلِ وهَبْواتِ الدُّقَق

وسمعتُ العرب تقول للحشْوِ من الإبل الدُّقَّةَ، وأهلُ مكة يُسَمُّون تَوابلَ القِدْرِ مجموعةَ الدُّقَّة، والمُدَاقَّةُ فِعْلٌ بين اثنين.

يقال: إنّه لَيُداقُّهُ الحسابَ، والدَّقْدَقَةُ حكايةُ أصْوَات حوافر الدَّوابَ في سُرعة تَرَدُّدها.

والعربُ تقول: ما لِفُلانٍ دقيقةٌ ولا جَليلةٌ، أي ما له شاءٌ ولا إِبلٌ.

ويقال: أتَيْتُهُ فما أجَلَّ ولا أدقَ، أي: ما أعطَى شاةً ولا بعيرًا.

وقال ذو الرُّمَّة يَهجو قومًا:

إذا اصْطَكَّتِ الحربُ امْرَأَ القيس أخبَرُوا *** عَضارِيطَ إذْ كانوا رِعاءَ الدَّقائق

أراد أنهم رِعاءُ الشّاءِ والبَهْمِ.

وقال الْمُفَضَّلُ: الدَّقْدَاقُ صغارُ الأنقَاءِ المتراكِمة.

ثعلبٌ، عن ابن الأعرابي: الدَّقَقَةُ: المُظْهِرُونَ أَقذَالَ المسلمين أي: عيوبهم واحدُها قَذَلٌ، قال: ودَقَ الشيءَ يدُقُّه إذا أظهَرَه.

ومنه قول زُهَير:

ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِمِ

أي: أظهَروا العيوبَ والعَدَاواتِ، ويقال في التهدُّدِ لأَدقَّنّ شُقُورَكَ أي: لأظْهرنّ أمورَكَ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com