نتائج البحث عن (أَخْبِرُوهُ)
1-شمس العلوم (خُرافَة)
الكلمة: خُرافَة. الجذر: خرف. الوزن: فُعَالَة.[خُرافَة]: يقال: «حديث خرافة»، وهو رجلٌ من عُذرة يقال: إِن الجن سبته، فإِذا استرقوا السمع أخبروه به فيخبر به الناس فيجدونه كما قال لهم.
ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال: «أصدق الحديث حديث خرافة» قيل: يعني يصدقه إِيمانه بالبعث لأنه كان يحدث العرب بذلك فتكذبه، وتضرب به المثل في الكذب.
قال بعض من ينكر البعث منهم:
حياة ثم موت ثم بعثٌ *** حديث خرافةٍ يا أم عمرو
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
2-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قيدون)
قيدونهي من قدامى البلاد، وهي موطن الشّيخ الكبير سعيد بن عيسى العموديّ.
وهو والفقيه المقدّم أوّل من سلك طريق التّصوّف بحضرموت، وقد ترجمه غير واحد من أهل العلم؛ كالشّرجيّ في «طبقاته» [145 ـ 146]، واليافعيّ في «تاريخه»، وصاحب «المشرع»، وعبد الله بازرعة.
وممّن ألّف في مناقبه: الشّيخ عليّ بن عبد الله باعكابة الهيننيّ، والشّيخ عبد الله باسودان.
وكان صادعا بالحقّ، لا يخاف فيه لومة لائم، وكان كثير التّردّد على حضرموت، حتّى لقد قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في كتابه «القرطاس»: (لا إله إلّا الله، عدد خروج الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ إلى حضرموت).
ولم يزل يسلّك الطّالبين، ويوصل الرّاغبين، إلى أن توفّي بقيدون سنة (671 ه)، وقصّته مع الشّيخ أحمد بن الجعد مع وصوله إلى حضرموت، مشهورة، وقد ابتلي إثرها بالجذام إلى أن وافاه الحمام.
وخلفه على منصبه ولده الشّيخ محمّد بن سعيد، وما زال أبناؤه يتوارثون منصبه حتّى انتهى إلى دولة ورئاسة دنيويّة، فاختلفوا وانقسموا؛ كما سبق في بضه.
وجرت بينهم وبين آل فارس النّهديّين، وبينهم وبين السّلطان بدر بوطويرق الكثيريّ.. حروب.
وتقلّبت بقيدون الأحوال، حتّى لقد خربت حوالي سنة (948 ه) من كثرة ما أخذ بدر بوطويرق الكثيريّ من أهلها من الضّرائب، ولم يبق فيها إلّا ستّة ديار، وهرب الباقون من أهلها إلى صيف. وهنا شاهد على أنّ صيفا لم تكن إذ ذاك في حوزته.
وجرت بين آل العموديّ وأعقاب بدر إلى أيّام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ ـ المتوفّى بعمان أوائل القرن الثّاني عشر ـ أحوال كثيرة، ذكرنا ب «الأصل» نتفا منها كافية للتّعريف.
وفي قيدون صهريج واسع يحفظ لأهلها الماء، تنطق وثائق أوقافه أنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب الطّاهريّ السّابق ذكره في بضه، والآتي ذكره في ثبي وغيرها.
وقد أنجبت قيدون كثيرا من العلماء والفضلاء، وكان السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم يدرّس بها علم التّوحيد أوائل القرن الحادي عشر.
ومن علمائها في القرن العاشر: الشّيخ محمّد بن عمر معلّم له ذكر في «مجموع الأجداد».
والشّيخ عبد الله بن سعيد العموديّ، في أيّام القطب الحدّاد، وقد امتحنه بشرح خطبة معقّدة، فشرحها شرحا جميلا قضى له فيه القطب الحدّاد بالنّجاح.
وفيها من ذرّيّة السّيّد محمّد بن عبد الله بن علويّ الحدّاد: الفاضل الصّالح، الحسن الخطّ عمر بن أبي بكر، المتوفّى بها.
وخلفه ابنه النّاسك الكريم طاهر بن عمر الحدّاد، المتوفّى بها سنة (1319 ه) كان آية في حفظ القرآن، وكانت في لسانه حبسة شديدة، حتّى لقد أراد أن يعقد بإحدى بناته فلم ينطلق لسانه إلّا بعد الفراغ من الطّعام، وكانت العادة والسّنّة تقديم العقد فلم يؤخّروه إلّا اضطرارا، ولكن متى شرع في القراءة في الصّلاة.. اندفع بسرعة السّهام المرسلة.
ولمّا مات ولده محمّد.. تحاشى النّاس عن إخباره؛ لأنّه الأمر العظيم، لكنّه لم يظهر بعد ما أخبروه إلّا بأكمل ما يكون من مظاهر الرّضاء التّامّ، فلم ينزعج ولم يتغيّر، ولم يحلّ حبوته، وما زاد على الاسترجاع والاستغفار للفقيد والتّرحّم عليه، فذكرت ما رواه أبو نعيم وغيره: أنّه لمّا مات ذرّ بن عمر بن ذرّ جاء أهله يبكون إلى أبيه، فقال لهم: ما لكم؟! إنّا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحقّ، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلمّا وضعه في قبره.. قال: رحمك الله يا بنيّ؛ لقد كنت بي بارّا، وكنت عليك شفيقا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعزّ، ولا أبقيت علينا من ذلّ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.. يا ذر؛ لو لا هول المطلع.. لتمنّيت ما صرت إليه، ليت شعري يا ذرّ ماذا قيل لك وماذا قلت.
وكذلك الحبيب طاهر لم يزد على التّرحّم على ولده والاستغفار له.
أمّا ولده محمّد بن طاهر الحدّاد: فقد كان طود المجد الرّاسخ، وركن الشّرف الشّامخ، تتحيّر الفصحاء في أخباره، وتندقّ أعناق الجياد في مضماره.
«متنقّل في سؤدد من سؤدد *** مثل الهلال جرى إلى استكماله »
لم يزل يتوقّل إلى العلا، ويتسوّر إلى الشرف.
«ويبيت يحلم بالمكارم والعلا *** حتّى يكون المجد جلّ منامه »
لا يصعد قلّة.. إلّا تسنّم ذراها، ثمّ اندفع إلى ما وراها.
«ما زال يسبق حتّى قال حاسده: *** له طريق إلى العلياء مختصر »
ينقطع دونه الكلام، وتتحيّر في وصفه الأقلام.
«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد »
له همم تنفسخ منها الجبال، فضلا عن قوائم الرّجال.
«همّة تنطح النّجوم بروقي *** ها وعزّ يقلقل الأجبالا »
وقد بلغ من شهامته وكبر همّته أنّه كان يحاول إغناء العلويّين بحضرموت من أدناها إلى أقصاها مع تحمّله من الدّيون الّتي أثقلت كاهله ولذاك، أشار عليه أبوه ـ من أجلها ـ أن يتوجّه إلى حيدرآباد، وكان له بها قدر عظيم، وشأن فخيم، وأسلم على يده كثير من النّاس، إلّا أنّه كان بين جنبيه نفس عظيمة، غالى بها عن الكرام حتّى لم يكن الطّغرّائيّ إلّا كالسّوقة في جنب الملك حيث يقول:
«غالى بنفسي عرفاني بقيمتها *** فصنتها عن رخيص القدر مبتذل »
فوقع بذلك وبموافقته للعلّامتين أبي بكر بن شهاب ومحمّد بن عقيل في الإعراض عن السّلطان عوض بن عمر أن لاقاه، واستعدّ لإنزاله في قصره، وعمل لقدومه ضيافة عظيمة، فتركها وكان في ذلك تمهيد السّبيل لمن كان يحسده من العلويّين ففتلوا في الذّرى والغوارب لفشله.. فلم يقع له ما يروم من أمله ولم يتيّسر قضاء دينه إلّا بعد انقضاء أجله، ومنهم حسبما يتعالم النّاس: حسين وحسين وأبو حسين ـ ولا أدري كم عددهم يومئذ؛ فإنّ المنايا تخطّفتهم، والبلدان توزّعتهم؛ فهم أقلّ بكثير ممّا انتهوا إليه سنة (1202 ه) إذ بلغ عددهم بالتّحقيق يومئذ عشرة آلاف نفس.
في «تاريخ ابن حميد»: (أنّ القطب الحدّاد أشار بإحصاء العلويّين في سنة (1118 ه)؛ لدراهم وصلت من الهند على اسمهم، فبلغوا نحوا من ألفين بعدّ الصّغار والكبار والذّكور والإناث، من السّوم شرقا.. إلى هينن غربا).
والعجب أنّهم لم يدخلوا دوعن في حضرموت في هذا العدّ، فلعلّ الدّراهم مخصوصة بأهل هذه النّاحية، وإلّا.. أشكل الأمر.
وأمّا في سنة (1202 ه).. فقد بلغ عددهم عشرة آلاف؛ إذ جاءت صلة صاحب المغرب ودفعوا لمن بدوعن ومن بالشّحر ومن بأسفل حضرموت حسبما فصّلناه بالجزء الأوّل من «الأصل» ولا إشكال؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بما انحطّ عليه اعتمادهم بإجماعهم آخرا، وقد أحضرت الأنفس الشّحّ في صلة المغربيّ، وهي متأخّرة عن تلك، والعلماء في أيّامها أكثر، ولا شكّ أنّهم مطّلعون على ما كان أيّام القطب الحدّاد من مثل ذلك فلا مجال للشّكّ، لا سيّما وأنّ القطب الحدّاد من أهل الاجتهاد لا يتقيّد بمنقول المذهب بخلافهم.
ومن كتاب سيّره السّيّد عليّ بن شيخ بن محمّد بن شهاب للشّريف سرور بن مساعد بن حسن صاحب مكّة بتاريخ (1199 ه) يقول: وصلت الدّراهم وقدرها ثمانون ألف ريال وفرّقت على جميع السادة القاطنين بحضرموت من ثمانية ريالات إلّا ربع، وتحديد حضرموت من عين بامعبد إلى ظفار.
وقد اتفق العلويون إذ ذاك على تفويض الأمر في قبض الدراهم وتحرير مشجّر للعلويّين ـ على حسابها ـ إلى السّيّد عليّ بن شيخ بن شهاب.
وأمضى في أعلى المسطور السّادة: سالم بن أحمد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم وأحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ العيدروس، وصادق بن شيخ العيدروس، وسالم بن صالح العطّاس، وحسين بن علويّ، وهاشم، وحسين وعبد الله ابنا أحمد، وحسين وزين وأحمد بنو حسين بن أبي بكر، وأحمد وعليّ ابنا محسن، وأبو بكر بن عليّ، وكافّة آل حسين بن عليّ العيدروس.
وفي أسفله: حسين بن أحمد بن سهل جمل اللّيل، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وعمر بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، ومحمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله، ومحمّد بن أبي بكر العيدروس، وإسماعيل بن عيدروس بن عليّ بن عمر بن حسين، وعليّ بن شيخ بن شهاب، وطالب بن حسين بن عمر العطّاس، وعبد الرّحمن ابن حسين العطّاس، وعمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه، وهادون بن عليّ الجنيد، وأحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وعبد القادر بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وخادم الشّرع بتريم عمر بن إبراهيم المؤذّن بافضل، وطالب بن عوض بن يحيى، والمكتوب إليهم من أمين الدّراهم عبد الله بن حسين بن سهل، وسالم بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر، ومحمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، ومحمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وحامد بن عمر بن حامد، وعليّ بن شيخ بن شهاب.
وفي حدود سنة (1311 ه) أصفق العلويّون ـ ومنهم سيّدنا الأستاذ الأبرّ فمن دونه ـ على تقديم صاحب التّرجمة السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد، فوضعوا في كفّه لواء نقابتهم، وعلى رأسه عصابة شرفهم، وعلى منكبه رداء زعامتهم، وأسجلوا له بذلك على أنفسهم، وكتبوا له عهدا وثيقا، فكان كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 119 من الطّويل]:
«وما زلت تسمو للمعالي وتجتني *** جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر »
«إلى أن بلغت الأربعين فأسندت *** إليك جماهير الأمور الأكابر»
«فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز *** ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر»
وقد جرت بينه وبين العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ مناقضات، منها: أنّ هذا جزم في كتاب سيّره إليه بدخوله تحت دائرته وإن لم يشعر، فأنكر الأوّل ذلك ـ وكان يتواضع أشدّ التّواضع بين يدي أستاذنا وأستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر ـ وتقدّم إليه بأسئلة جزلة تدلّ على صدق حال وغزارة مادّة، فأجابه الأستاذ بأفضل جواب.
وجرت بينه وبين علّامة جاوة السّيّد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى محاورات في الأوتار؛ لأنّ الأوّل يحضرها والسّيّد عثمان يشتدّ في منعها، وقد بسطت القول عن هذه المسألة في «بلابل التّغريد» بما لا يوجد في سواه.
وقد كان ما اشتهر من محاسن هذا الإمام، وملأ سمع الأرض وبصرها.. يملأ قلبي حسرة؛ إذ لم يقدّر لي الاجتماع به، مع أنّه قدم ذات المرّات إلى سيئون وأنا موجود، وقلّ من زارها من أهل الفضل إلّا زار والدي في مكانه علم بدر الّذي انجمع فيه بالآخرة عن النّاس. بل لا يوجد من يتخلّف عنه سوى من كان يتودّد إلى طائفة باطويح القاعدين بكلّ مرصد يصدّون البسطاء عن سبيله وعن سبيل سيّدنا الأستاذ الأبرّ ومن على شاكلتهم، ومعاذ الله أن يتأثّر بكلامهم السّيّد محمّد بن طاهر، وهو الّذي لا يقعقع له بالشّنان، ولكنّني لا أحفظ زيارته لوالدي مع أنّي لم أفارقه إلّا للحجّ في سنة (1322 ه)، وما كنت لأنسى زيارته لوالدي لو كانت، وأنا أحفظ كلّ من زاره من أهل الفضل منذ الرّابعة من عمري؛ لأنّه يقدّمني إليهم ـ ليبرّكوا عليّ ويلبسوني ولأقرأ عليهم شيئا من القرآن أو حديث معاذ في العلم وعلّ وصوله حضرموت صادف مرضي الشّديد في سنة (1313 ه)؛ فإن كان كذلك.. فقد انحلّ الإشكال ـ إلّا أنّه يبلّ من غليل تلك الحسرة ما كان يمثّله لنا السّيّد عبد القادر بن محمّد السّقّاف ـ الآتي ذكره ـ من كلامه وقراءته ومشيته.
ثمّ انحدر بعد ذلك إلى جاوة، وأدركته المنيّة بالتّقّل ـ إحدى مدنها ـ في سنة (1316 ه)، عن اثنين وأربعين ربيعا، فكان أكبر من قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 217 من الطّويل]:
«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »
«فتى جاءه مقداره، واثنتا العلا *** يداه، وعشر المكرمات أنامله »
«فتى ينفح الأيّام من طيب ذكره *** ثناء كأنّ العنبر الورد شامله »
وقد زرت قبره، وألفيت عليه من المهابة والجلال ما ذكّرني بقول الأوّل [من الطّويل]:
«على قبره بين القبور مهابة *** كما قبله كانت على ساكن القبر»
وبإثره تقيّض فريقه، وانتهج طريقه ولده الفاضل علويّ؛ فلقد أحيا قدّته، وأظهر جدّته، وأطال مدّته، وأعاد جوده ونجدته، فما زال طويل العماد، كثير الرّماد، فحماد له حماد.
«تنميه في قلل المكارم والعلا *** زهر لزهر أبوّة وجدود »
«فرع من النّبع الشّريف إذا هم *** نسبوا وفلقة ذلك الجلمود»
ويذكر أخوه الحسين بجود غزير، وفضل كبير، يأتي فيه بحقّ قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 8 من البسيط]:
«لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة *** تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف »
ومن الأسف أن تستأثر جاوة بأمثالهم، لكنّ الأمر كما قال حافظ [في «ديوانه» 1 / 269 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
وفي قيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ بن محمّد بن أحمد الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، منهم:
الصّالح الفاضل السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله، له أحوال غريبة، ودعاء مستجاب، يأخذه عند ذكر الموت حال عظيم يخرجه عن حسّه ويذهب به هائما على وجهه.
وعلى قريب من حاله كان ولده الدّاعي إلى الله محمّد، المتوفّى بسيئون في أوائل سنة (1324 ه).
وكان عيشه على قدم التّوكّل، ولا تخلو عصمته عن أربع زوجات، وله نوادر، منها:
أنّه تعشّى عند أمّه في حوطة آل أحمد بن زين، فقال: أريد السّمر عند بعض الإخوان.
فقالت: خذ مفتاح الدّار معك؛ حتّى لا توقظني بقرع الباب.
فعنّ له أن يذهب إلى الفجير على نحو تسعة أميال من الحوطة ودون الميل من سيئون، وكره أن يزعج أهل الفجير بالقرع، فعمد لجذع طويل ألفاه هناك، فتسلّق عليه منزل زوجته ابنة السّيّد شيخ بن أبي بكر مولى خيله، ولمّا قضى وطره منها.. عنّ له أن يذهب إلى سيئون، فحمل الجذع وتسوّر به على بيت امرأته الأخرى بسيئون ـ وهي أمّ السّيّدين: إبراهيم وموسى آل الحبشيّ ـ ولمّا أخذ مأربه منها.. ردّ الجذع إلى موضعه بالفجير، ثمّ سرى، ولمّا كان بالغرفة.. دخل جامعها وتطهّر وتهجّد ما شاء، ثمّ سرى إلى الحوطة، فلمّا وصلها.. عرف أنّه نسي مفتاح الدّار بجامع الغرفة، فرجع أدراجه وأخذه من الميضأة، وسار إلى الحوطة، ولم يصلها إلّا بعد مطلع الفجر.
ومن نوادره: أنّ زوجته الّتي بسيئون هي بنت عمّه، واسمها: شيخة بنت محمد الحدّاد، وكان كلّما زارها.. وجد عندها ابنيها إبراهيم وموسى ابني عمر بن شيخ بن هاشم بن محمّد بن أحمد الحبشيّ.. فلم يتمكّن من الخلوة بها، حتّى جاشت نفسه ذات يوم، فقال:
«خيره في العشق لي *** فيه النّكد والنّغص »
«حلّيت في حصن لكن *** فيه جملة لصص »
«خليّ خلي لي ول *** كنّه شرد وافتحص »
«جفل كما الصيد لا *** قد شاف همزة مقص »
«ولو معي قرش باقنص *** مثل من قد قنص »
وكان وجد منها فرصة، ولمّا جلس بين شعبها.. أحسّت بقدومهما، فنهضت من تحته فقال الأبيات.. فأجابته من حينها بقولها:
«قال ابن هاشم من ال *** مولى هي الّا حصص »
«لو حد قسم غير ربّي *** قلت قسمي نقص »
«لو كنت عاشق دهنت *** السير وارميت خص »
«لا جبت لي شرك في *** قادم ولا جبت قص »
«من يطعم الخيل وكّب *** به إذا شا ورصّ »
«كانّك بغيته على *** ذا الشور والّا خلص »
وذكرت عند هذا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّما دخل على أمّ سلمة بإثر بنائه عليها.. بكت بنتها، فأخذت تعلّلها بالرّضاعة حتّى أخذها عمّار بن ياسر ـ وكان لها محرما ـ وقال: لقد حرمت هذه المقبوحة المشقوحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يريد.
ومن ذرّيّة السّيّد عبد الله بن طه بقيدون: السّيّدان الجليلان: الواعظ العابد الصّالح عبد الله بن طاهر. والعلّامة الجليل علويّ بن طاهر، علم علوم، ونبراس فهوم.
«ويكنى باسمه عن فضل علم *** وكلّ اسم كنايته فلان »
فهو الخطيب المصقع، والفقيه المحقّق، والمحدّث النّقّاد، وله في التّفسير الفهم الوقّاد، ومؤلّفاته شاهدة وآثاره ناطقة، ولم أعرف مبلغ معرفته بالفقه، إلّا أنّه اختلف من نحو ثلاثين عاما هو والقاضي الشّيخ عبد الله سعيد باجنيد في مسألة في الشّفعة، وكتب في ذلك رسالة أسهب فيها حتّى انتهى إلى الثّناء على السّيّد الفاضل حسن بن عبد الله الكاف، ولمّا رفع إليّ كلام الاثنين للنّظر أظنّني ـ والعهد بعيد ـ رجّحت كلام القاضي، فرأيت منه جفوة من حينئذ ما كان له أن يتحمّلها؛ إذ لم يزل العلماء بين رادّ ومردود عليه، لكنّ الإنصاف عزيز، ولهذا لم أعامله بمثلها كما يعرف النّاس، وإن انضمّ إلى ذلك اختلاف الآراء بشأن الرّابطة حسبما فصّل ب «الأصل».
وكان على الإفتاء في بلاد جهور من ناحية الملايا، ثمّ انفصل في أيّام الحرب المشؤومة اليابانيّة.
وسبب كونهم بقيدون ما أخبرني به قاضي الحوطة الأسبق الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين بن عبد الله الحبشيّ: أنّ جدّه لأمّه شفاء وهو السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله بن طه بن عمر بن علويّ الحدّاد ـ السّابق ذكر تردّده إلى هناك ـ حمل معه ابنه طاهرا، فتزوّج على الشّريفة شفاء بنت عيسى أخت الحبيب عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، وأولدها عبد الله في سنة (1296 ه)، وعلويّا في سنة (1301 ه)، وفي نفاسها به مرّ عليه في قيدون عمّه جعفر بن طه ـ الآتي ذكره في الحاوي ـ وقال له: لماذا تجلس بقيدون تضع الأولاد؟! فتعال معي إلى جاوة، ففعل، ومات بعد وصوله بشهر ونصف شهر، فعاشا في كنف أمّهما وأبيها، وكانت أمّ أعمامهم محمّد وحسن وعليّ ـ وهي سعديّة بنت الحبيب محمّد بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ ـ تبعث لهم بالمواساة، ولمّا يفع عبد الله.. نجع إليها بحوطة آل أحمد بن زين، فكفلته، وكان يتردّد إلى الغرفة؛ فله أخذ عن الأستاذ الأبرّ الحبيب عيدروس بن عمر، ولمّا استغلظ علويّ.. قدم عليها أيضا، فآوته؛ إلّا أنّها شغلته بالخدمة حتّى أنّها لا تمكّنه من حضور الرّوحة بالحوطة. هذا آخر كلام القاضي عبد الله بن حسين.
وأشهر أولاد عبد الله بن طه حالا، وأعلاهم كعبا، وأكثرهم جمالا: هو شيخنا صاحب النّفس الأبيّة، والهمم العليّة، والشّهامة والأريحيّة، كثير العبادة والتّلاوة والأذكار، ظاهر السّيادة والسّعادة والأنوار، صالح بن عبد الله، زرته بداره في نصاب آخر سنة (1349 ه) فأجلّني وأكرمني وألبسني وأجازني وشابكني ودعا لي بدعوات عظيمة.
وممّن بقيدون من السّادة: آل بافقيه، وقد مرّ في الخريبة ذكر السّيّد أبي بكر بن محمّد بافقيه، وأثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة»، وقال: «إنّه توفّي بقيدون في سنة (1053 ه) ».
ثمّ رأيت الشّليّ ترجم له في «مشرعه» وأطنب في الثناء عليه، وذكر له علما جمّا وفضلا كثيرا.
وبقيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عقيل بن عبد الرّحمن السّقّاف، وهم: آل باعقيل:
منهم: السّيّد الصّالح عبد الرّحمن، صاحب المشهد المعروف بصيف، توفّي ببضه منقرضا.
ومنهم: السّيّد عمر بن علويّ باعقيل، جمع ثروة طائلة بسربايا من أرض جاوة، ولم ينس حقّ الله فيها، من إعانة الضّعيف، وإغاثة اللهيف، وبقي مع كثرة أمواله على حاله من التّواضع، توفّي بسربايا، لعلّه في سنة (1328 ه)، وخلّف أولادا، منهم: محمّد، السّابق خبره في الضّليعة.
ومنهم: أحمد، قتله السّيّد محمّد بن عبد الله بن عمر البارّ ظهر النّهار علنا، وهو راكب سيّارته في الطّريق العامّة بسربايا.
ومنهم: محسن وحسين، قامت بينهم منازعات تلفت فيها أكثر أموالهم. وقد سبق في خبر محمّد أنّ إخوانه دفعوا عنه بأمره خمسين ألف روبيّة للقعيطيّ، وهي الّتي توقّف إطلاقه من السّجن على دفعها، وقد تعهّد محمّد بتسليم مقابلها، وأعطاهم وثيقة بذلك وهو مختار، وعلّق طلاق نسائه بالثّلاث بتأخّره عن دفعها لهم مدّة معيّنة بعد القدرة، مضت تلك المدّة وهو رخيّ الخناق، وبقي مع نسائه مع عدم عذره في المطل، ولمّا وصلت سربايا سنة (1349 ه).. سألني أصهاره من بني عمّه.. فأفتيتهم بنفوذ الطّلاق.
ومنهم: السّيّد النّزيه النّديم، الخفيف النّسيم، صاحب النّوادر اللّطيفة، والحالات الشّريفة، عبد القادر بن محمّد السّقّاف، وهو من المعمّرين، عاش في أكناف الأكابر، وحظي باعتنائهم وصحّة ولائهم، وله دالّة عظيمة عليهم، وكثيرا ما يمثّل هيآتهم وأصواتهم وقراءاتهم، وكيفيّات مشيهم وحركاتهم، فيخفّف من حسرتنا على عدم الاجتماع بكثير منهم؛ كسيّدي طاهر بن عمر الحّداد، وابنه محمّد، وسادتي: عمر بن هادون، ومحمّد بن صالح، وعمر بن صالح، وأمثالهم. وفي ذلك التّمثيل نوع من الوصال ليس بالقليل، وهو الآن بمكّة المشرّفة على ضيافة صاحب المروءة الشّيخ عبد الله سرور الصّبّان، أحسن الله جزاءه.
وفي قيدون جماعة من السّادة آل الحبشيّ، من آخرهم: الفاضل الجليل، السّيّد عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، كان على قضائها في سنة (1329 ه) وعنده علم غزير، وتواضع كثير، ونزاهة تامّة، وصدر واسع، وجانب سهل.
وآل قيدون يتعالمون بأخبار كبيرة عن نجاح الشّيخ أحمد بن سعيد باداهية في علاج الأمراض بطبّه العربيّ، لو لا انتهاؤها إلى التّواتر المعنويّ.. لكذّبناها؛ لأنّها ممّا تدهش العقول.
وفي قيدون عدد ليس بالقليل من حفّاظ كتاب الله، وبينما أنا مرّة عند السّيّد حسين بن حامد المحضار بالمكلّا.. ورد شيخ من آل العموديّ، يقال له: بن حسن، عليه زيّ البادية، فإذا به يحفظ كتاب الله ويجيد قراءته! ولمّا اشتدّ إعجابي به.. قال لي العمّ حسين: لكنّه سارق! فسألته، فقال: نعم إنّي لأحد جماعة من الحفّاظ، إذا كان من أوّل اللّيل.. سرقنا رأس غنم على أحد أهل قيدون واشتويناه، ثمّ إذا كان من آخر اللّيل.. سرنا إلى الجامع نتدارس آيات القرآن بظهر الغيب.
وما أدري أقال ذلك مازحا، ليوافق هوى الوالد حسين، أم عن حقيقة؟ غير أنّني عند هذا تذكّرت ثلاثة أمور:
الأوّل: ما جاء في «مسند الإمام أحمد» [2 / 247] ونصّه: حدّثني عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، قال: أنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ فلانا يصلّي باللّيل، فإذا أصبح.. سرق! قال: «إنّه سينهاه ما تقول») وهذا السّند جيّد.
الثّاني: لمّا كنت بسربايا في سنة (1349 ه).. حضر مجلسنا رجل أصله من مكّة، يقال له: محمود، فقرأ لنا حصّة من الكتاب العزيز بصوت جميل كاد يقتلع قلبي من مكانه، فطربت لذلك، وأمرتهم بالاكتتاب له، فقالوا: إنّه يشرب الخمر! فقلت لهم: إنّ من أدرج كتاب الله بين جنبيه، وحبّره هذا التّحبير.. لجدير أن لا يموت إلّا على حسن الختام، وذكرت الحديث، فاكتتبوا له على قدر هممهم بنحو من ثلاث مئة ربيّة.
والثّالث: قول النّجاشيّ الحارثيّ يهجو أهل الكوفة [من البسيط]:
«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»
«التّاركين على طهر نساءهم *** والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا»
«والسّارقين إذا ما جنّ ليلهم *** والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا»
«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا»
وما إخاله في ذلك بارّا ولا راشدا، وكيف يصدق وقد بلغ به الفسوق إلى انتهاك حرمة رمضان بالسّكر في أوّل يوم منه، فحدّه مولانا عليّ بن أبي طالب وزاده عشرين فانسلّ إلى معاوية مع أحد نهد في خبر طويل ذكره شارح «النّهج».
وقد قال سفيان بن عيينة: (خذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة).
ومن النّوادر: ما أخبرني به منصب المشهد السيّد أحمد بن حسين: أنّ العبيد بدوعن ـ وفيهم كثرة لذلك العهد ـ يجتمعون ويتبعهم العتقاء لزيارة الشّيخ سعيد بن عيسى في آخر جمعة من رجب، ويدخلون والخطيب في خطبته بطبولهم ومزاميرهم، فقام لهم مرّة أحد آل العموديّ فكسرها عليهم، وهمّوا بقتله لكنّهم احترموه لأنّ خاله الشّيخ عمر بن عبد القادر العلّامة المشهور الشّبيه الحال بالشّيخ بامخرمة، ولكنّهم أجمعوا على الجلاء واجتمعوا بالسّويدا ـ وهي نخيل قيدون ـ فقال بعضهم: إنّ بالسّويدا رجالا.
وبينا هم معسكرون هناك للرّحيل بقضّهم وقضيضهم ـ وقد عجز أهل دوعن عن صدّهم، مع أنّ أكثر أعمالهم وخدمهم متوقّفة عليهم ـ.. إذ جاء العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس فسار إليهم ـ ومعه الشّيخ عمر بن عبد القادر العموديّ ـ وأعطاهم البنّ
ليطبخوا القهوة، وسألهم عن شأنهم فأخبروه، فقال لهم: لا تطيب لنا الأرض من بعدكم فسنرحل معا، وما زال يلاينهم حتّى تمّ الأمر على أن تبقى زيارتهم بحالها وعلى أن تحبسوا الشّيخ الّذي كسر طبولهم شهرا، وسوّيت القضيّة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر ـ أحد تلاميذ الأستاذ الحدّاد ـ قد قيل له: إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر يريد أن يكون مثل بامخرمة، فقال الأستاذ الحدّاد: إنّه لأعظم حالا منه، وكان يستعمل السّماع إذا وصل كحلان، أمّا في تريم.. فلا؛ أدبا. وقال مرّة للحبيب عليّ بن حسن العطّاس: ما قصرن إلّا القحيبات؛ يعني: البغايا.
وقد ترجمه السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وبالغ في الثّناء عليه، وترجمه أيضا الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس، وكانت وفاته سنة (1147 ه)، وهو من أهل التّخريب، وذكره الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في مواضع من كتبه ك «جواهر الأنفاس» وغيره.
عود إلى أخبار آل العموديّ ورئاستهم بعد انقسامهم: قد مرّ في بضه أنّ الكساديّ استولى على أكثر دوعن في حدود سنة (1286 ه)، غير أنّ العموديّين اجتمعوا إثر اغتيال الكساديّ أحد المشايخ، وهو الشّيخ محمّد بن شيخ العموديّ، في سنة (1288 ه)، ونجعوا بالرّئاسة العامّة للشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ، فتحمّل أثقالا فادحة، عهّد من أجلها أموالا طائلة بسهوة السّابق ذكرها في مرخة، وساعدهم جميع قبائلهم من القثم وسيبان والمراشدة والجعدة وغيرهم، فأيّدهم الله على عدوّهم، فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم تأت سنة (1300 ه) إلّا ووادي دوعن، حسبما قال الإمام المحضار [من مجزوء الرّجز]:
«انظر إلى الوادي فقد *** حلّت به السّبع الشّداد»
«الأخمعي والمرشدي *** هم والقثم بئس المهاد»
«والدّيّني والمشجري *** هو والعبيدي لا يعاد»
«وابن مطهّر سابع ال *** غلمه وهو رأس الفساد»
«الله يهديهم ويه *** دينا إلى طرق الرّشاد»
«والّا ينظّفهم من ال *** وادي ويجعلهم بعاد»
وقد سبق في بضه أنّهم منقسمون إلى قسمين: آل محمّد بن سعيد، ولهم قيدون وما نزل عنها إلى الهجرين.
وآل مطهّر، ولهم بضه وما إليها. وكان فيهم عدّة مناصب:
آل صالح بن عبد الله، ببضه. والشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم صاحب شرق، على مقربة من الخريبة. والشّيخ سعيد بن محمّد بن منصّر صاحب العرض، بالخريبة أيضا. والشّيخ محمّد باعمر صاحب البراز، قريبا من القرين.
وبينهم من المنافسات ما لا تبرك عليه الإبل، وكلّ منهم يوضع في سبيل الجور والظّلم، فلم يكن من أحد آل باسودان وأحد آل باعبيد.. إلّا أن رفعا شكوى إلى القعيطيّ بالمكلّا على الشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم، فاستدعاه القعيطيّ، فركب إليه مجلّلا محترما، ولم يزل في مفاوضة معه حتّى تمّ الكلام على أن تكون الرّئاسة العامّة للقعيطيّ، ولابن عبد الكريم استقلال داخليّ في الخريبة وأعمالها ضمن دائرة العدل، وعلى أن ليس له أن يأخذ شيئا من الرّسوم سوى مئتي ريال شهريّا.
وقبض إزاء ذلك الصّلح من يد القعيطيّ ما لا يستهان به من الدّراهم، وما كاد يصل إلى الخريبة حتّى حبس باسودان وباعبيد، فاغتاظ السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ، ورأى أنّ شرفه مسّ، وأنّ المعاهدة انخرمت بحبس ذينك، وكره أن يتعجّل بعقوبة ابن عبد الكريم، فأشار على الشّيخ صالح بن عبد الله أن يعذر إليه، فأرسل بأخيه عبد الرّحمن، وبالسّادة: حامد بن أحمد المحضار، وحسين بن محمّد البارّ، وحسين بن عمر بن هادون صاحب المشهد، فلم يقبل ابن عبد الكريم لهم كلاما.
واتّفق أن وصل الشّيخ عليّ بن محمّد بن منصّر إلى المكلّا يتذمّر من مخالفة القعيطيّ لابن عبد الكريم، فصادف سخطة القعيطيّ على الثّاني، فحالف ابن منصّر بشرط أن يساعده على ابن عبد الكريم، وما كاد يرجع إلى مكانه العرض.. حتّى أذكى نار الحرب على ابن عبد الكريم، وجاءته نجدة القعيطيّ بقيادة عبد الله بن امبارك القعيطيّ، فلم يثبت ابن عبد الكريم إلّا نحوا من أربعين يوما، ثمّ هرب إلى جهة القبلة، فصادف أحد زعماء العموديّين، وهو: الشّيخ محمّد بن عبد الرّبّ، فجمع له عسكرا كثيفا هاجم به الخريبة فاستولى عليها، ودارت المفاوضات بينه وبين ابن منصّر صاحب العرض فانضمّ إليه، وعند ذلك تراجعت عساكر القعيطيّ إلى الهجرين، وغضب السّلطان غالب لذلك، وأرسل عسكرا مجرا بقيادة عبد الخالق ابن الماس عمر مولاهم، ولاقاه صلاح بن محمّد القعيطيّ ـ من القطن ـ مددا له بمن كان معه، وبفلول العساكر الّتي بالهجرين، وعند ذلك قالوا لآل العموديّ: اهبطوا منها جميعا، فانهزموا ولم يجدوا لهم ملجأ ولا مدّخرا إلّا الشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ المحافظ على محايدته، فنزلوا عليه.. فآواهم، وكان ذلك في سنة (1317 ه).
وكان من رأي الأمير صلاح بن محمّد وعبد الخالق أن يطاردوهم وينتزعوهم من بضه، لكنّ السّلطان غالب بن عوض كان كريما، يجلّ الكرام، فنهاهم عن ذلك احتراما للشّيخ صالح بن عبد الله، وبإثر ذلك انتحر عبد الخالق الماس في القويرة، ولم تطل أيّام الأمير صلاح.. بل مات وشيكا في سنة (1318 ه). وب «الأصل» تفصيل تلك الحوادث.
وأسند القعيطيّ عمالة وادي الأيمن للمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ما قد أسلفناه في عوره، وبعد أن استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن.. حمل المقدّم باصرّة كلّ أسلحة الدّهاء لحمل القعيطيّ على التهام الوادي الأيسر، ولم يزل يتحيّن الفرص للوثوب عليه؛ لما في قلبه من البغضة للحالكة.
وكانت رئاسة الوادي الأيسر لآل الشّيخ محمّد بن سعيد ولقبائلهم الحالكة، ومن مناصبهم: الشّيخ محمّد عبود القحوم، السّابق ذكره في قرن ماجد، وله بلاد الماء وخديش وقرن ماجد، وهو من الوادي الأيمن، وله العرسمة ونصف صبيخ، وهي من الأيسر.
ومنهم: الشّيخ حسن بن بدر، وله صيف وفيل.
ومنهم: الشّيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن محمّد، وله حوفة وضري وتولبة.
ومنهم: الشّيخ عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمّد، وله العرض، ونصف صبيخ مثرى القحوم.
ومنهم: الشّيخ حسين بن محسن، وعمر بن عبد الله، ولهم حيد الجزيل.
وأوّل ما انفتح الباب لباصرّة إلى الوادي الأيسر: شرّ حدث بين الخنابشة وآل باهبري، سببه: أنّ أحمد بن سالم باشجيرة الخنبشيّ تزوّج امرأة من آل باهبري، يقال لها: قمر، بدون رضا من بني عمّها، فبينما امرأة من الخنابشة تستقي من غيل جريف.. إذ عمد لها بعض آل باهبريّ فأراق ماءها، فخفّت إلى أهلها، فكانت بينهم وقعتان، قتل في الأولى عمر بن سالم الخنبشيّ، وفي الثّانية أخوه عبد الله بن سالم الخنبشيّ، وكان ذلك أوائل سنة (1322 ه)، فخاف آل باهبريّ من الخنابشة، وكان شيخ قبائل الحالكة كلّها المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، فلجأ إليه آل باهبريّ، فأعطاهم بعض رجاله بصفة الخفارة، فسقط في يد الخنابشة، وأيقنوا بتعذّر الثّأر، فاستعانوا بالمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ينظر إلى واديهم نظر الجزّار إلى التّيس، وتحالفوا معه سرّا حلفا هجوميّا دفاعيّا، آثروا التّكتّم به؛ لئلّا ينتبه آل باهبريّ فيأخذوا حذرهم، ولمّا ظهر لهم قاتل أحد إخوانهم.. أطلقوا عليه الرّصاص فنضخ دمه في ثياب بلحمر، فاستشاط المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، وأحاط بجحي الخنابشة، ولمّا اشتدّ الأمر.. أمدّهم باصرّة بأربع مئة مقاتل، فأبلعوهم الرّيق.
وفي سنة (1325 ه) سار بلحمر وأهل ليسر ـ ومنهم: آل بقشان، ورؤساء الحالكة، والشّيخ أحمد بن حسين العموديّ ـ إلى المكلّا، وحالفوا القعيطيّ وأعطوه الوادي، وأعلنوا ذلك بالأسواق، ففتّ بذلك في أعضاد الخنابشة؛ إذ لا يستطيعون مقاومة بلحمر إلّا بالقعيطيّ، ومتى حالفه.. ماذا يفعلون؟ فبقوا ساكتين حتّى نزغ الشّيطان بينهم، ونشبت الحرب مرّة أخرى، وسرعان ما انعقد الصّلح بين الخنابشة وبلحمر على أن لا تكون مساعدة من القعيطيّ للخنبشيّ في مدّة الصّلح، ولمّا انتهى.. حصلت مساعدة قليلة استمرّ بها الخنبشيّ على الحرب عشرة أشهر، ولمّا اشتدّ الحصر على الخنابشة بالجحي.. جاءت نجدة المكلّا، وتقدّم باصرّة من الوادي الأيمن، وأحاط بالعرسمة فسلّمت في سنة (1328 ه)، ثمّ سلّمت الجديدة، ثمّ صبيخ، ثمّ جريف، ثمّ الدّوفة.
ثمّ انعقد الصّلح بين القعيطيّ والحالكة على بقائهم بمساكنهم وأموالهم في الوادي الأيسر مجلّين محترمين، إلّا أنّ المقدّم عمر بن أحمد بلحمر لم يطب له المقام مكتوف اليد، فذهب إلى سيئون ثمّ إلى وادي العين ثمّ إلى ريدة الجوهيّين ثمّ إلى لبنة بارشيد عند نوّح، فلم يعثر بطائل فعاد إلى بلاده، وأجرى له السّلطان غالب بن عوض ما يكفيه، وتفصيل هذه الأخبار ب «الأصل».
ومن وراء قيدون عدّة قرى وشراج، ومنها:
مسه، وهي قرية صغيرة على يسار الذّاهب إلى دوعن، يسكنها ناس قليل من آل بامحرز، وفيها غيل جار، عليه نخيل لآل بامحرز ولآل العموديّ، وعليه تزرع الخضراوات، وحواليها كانت وقعة مسه، وحاصلها: أنّ السّلطان عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق أغرى ولده جعفرا على الشّيخ محمّد بن مطهّر العموديّ في ألف وثمان مئة.. فلاقاه العموديّ في عدد قليل، ولمّا رأى عسكر جعفر.. انهزم، فتبعه عسكر جعفر، ثمّ لم يشعروا إلا بكمين من العموديّ يركب أكتافهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وفرّ الأمير جعفر بمن بقي معه إلى الهجرين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
سبعة ومئتين غلبوا سبعة عشر مية
وكان ذلك في حدود سنة (1115 ه) كما فصّل ب «الأصل».
ومنها: نسرة، فيها آثار ديار قديمة، وقد بني فيها مسجد ومدرسة على نفقة الشّيخ أحمد بن مساعد ـ أو مداعس ـ الموجود الآن فيما يقال بالحديدة.
وقد رجوت أن يحصل من هذه المدرسة ما كنت أؤمّله؛ إذ لا يرجى الخير من مدرسة يختلط أبناؤها بالأوساط الفاسدة، وإنّما يرجى من مدرسة داخليّة ينتخب لها معلّمون صالحون، على أبلغ ما يكون من النّزاهة والتّقوى، حسبما اقترحته على السّلطان القعيطيّ في أواخر ذكر المكلّا؛ لأنّ الخلطة الدّاء، وإنّما التّلميذ هو ظلّ المعلّم.. ينحو نحوه، ويقتصّ أثره، ولكن بلغني ـ ويا للأسف ـ أنّ تلك المدرسة أقفلت، وطاحت تلك العبارات، وفنيت تلك الإشارات، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وما شاء الله.. كان، وما لم يشأ.. لم يكن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
3-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 3)
إِقْرَارٌ -3و- تَعْقِيبُ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:
48- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ بِأَنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ): هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ.وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ.وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ.
وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ- لَا يَجِبُ.وَلَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَهُوَ مُنْكِرٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلَا يَرْفَعُهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ.وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ- عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ- فَمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ.
ز- تَقْيِيدُ الْإِقْرَارِ بِالْأَجَلِ:
49- إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ صِدْقَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ، وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو قُضَاةِ مِصْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ح- الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِقْرَارِ:
50- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَقِيلَ: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ.وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِلَ الِاسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ.بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ لَا يَقَعُ فِيهِ عَادَةً.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ، إِذْ يَقَعُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَنْقَصِهِمَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ أَرْجَعَ الِاسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ- أَيِ الثَّانِي- لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي، لِإِتْلَافِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلْأَوَّلِ.
هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا.
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ:
51- الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُولُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، فَالْإِقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْلَ رَدِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ.أَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ، وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ.وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ فَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ.فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ.
الصُّورِيَّةُ فِي الْإِقْرَارِ:
52- لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لُزُومًا.فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا لَا يُقْبَلُ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ، وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَلَ شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَالَ لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ.أَيْ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامُهُ إِقْرَارًا.
وَيَقُولُ الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الْإِقْرَارُ- صُورَةً- بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَالَ لِصَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّلَ فِي إِقْرَارِهِ، بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ.وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا.وَعَلَى هَذَا فَالْإِقْرَارُ لَا يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ:
53- الْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْإِخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً، وَمِنَ الْوَكِيلِ حُكْمًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ
بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَنْفُذُ، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ جَعَلَ لَهُ الْإِقْرَارَ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَجُوزُ.نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَشَاهِدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا نَصَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ الْإِقْرَارُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْإِقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ يَصِحُّ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيلِ مُقِرًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَيَقُولَ: خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ بِمُجَرَّدِ الْوَكِيلِ.
أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الْإِقْرَارِ:
54- الشُّبْهَةُ لُغَةً: الِالْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ: خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَهِيَ بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ.فَلَوِ احْتَمَلَ الْإِقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيلَ أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة).
55- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ.
يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ.وَإِنْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ.وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.
56- وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْإِقْرَارِ.كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ- كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ مَجْبُوبًا- مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ الْإِقْرَارِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً لِلتَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ لَهُ، كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ.وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَطَلَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُهُ كَالْمَالِ الضَّائِعِ.
وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ.
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لِإِبْطَالِ الْإِقْرَارِ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ.
كُلُّ هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ.فَوُجُودُ الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ لَا يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ.
الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:
57- جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لَا يُبْطِلُ التَّقَادُمُ الْإِقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا.وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا.وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ.فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
58- أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، لَا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ.
الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:
59- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلَالَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ.وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الْإِقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ- يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُتْرَكُ، لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ.
وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ « مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ »؟ فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ.أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَالَ: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ شُبْهَةً.
وَقَيَّدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ قَبُولَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ.وَلَا يَرَوْنَ مِثْلَ الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لَا تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْلَ حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَلَّ لَمْ يُضْمَنْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي خَبَرِ مَاعِزٍ.
60- أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ- كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ- ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الْإِقْرَارَ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ.وَضَابِطُ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ.
وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ- أَوْ مَعَ يَمِينِهِ- فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ.وَيَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
هَلِ الْإِقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟
61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ.
وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
أ- أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب- الْإِقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.
ج- الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ، قِيلَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.
د- الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ:
62- إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ.وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِهِ فَلَزِمَهُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ.وَيَجِبُ لَهُ فَضْلُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلَاثًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً)، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ.وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ...وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رضي الله عنها- أَنَّ « سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ:
أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ:
هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ » وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ.
شُرُوطُ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
63- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ.
(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لِأَنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.
(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ.فَإِنْ كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلَا يَسْقُطُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
64- وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ كَالشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ، يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ.فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ حَائِزٍ فَخِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ جَمِيعُ الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَمْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَقٌّ.
65- وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ.وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ...وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.لِأَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ الْمُقِرِّ، فَيُبْطِلُ إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الْإِقْرَارِ.يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، مِثْلَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الْإِرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَيَبْطُلُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
4-موسوعة الفقه الكويتية (بكاء)
بُكَاءٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً.
قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ.قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا.قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ.وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:
2- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغَاثَةِ.
ب- النِّيَاحُ:
3- النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَالَ، وَالِاسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيلَ: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الِاسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ.
ج- النَّدْبُ:
4- النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ.وَالِاسْمُ: النُّدْبَةُ.
د- النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:
5- النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ.
الْعَوِيلُ:
6- الْعَوِيلُ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَالُ: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالًا وَعَوِيلًا.هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيلَ مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.
أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:
7- لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:
8- الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْلِ الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».
أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.
الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:
9- الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَلُ: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.
10- فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ.لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ الرَّسُولِ وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا.فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي...».وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ».الْحَدِيثَ.وَلَمْ يَقُلْ: زَعَقْنَا وَلَا رَقَصْنَا وَلَا زُفْنَا وَلَا قُمْنَا.
وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِإِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلَالِ عَلَيْهَا.
11- وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ الْأَحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ» أَيْ لَا تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَدًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْرَبَانِ النَّارَ».
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ».
الْبُكَاءُ فِي الصَّلَاةِ:
12- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ.وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ».
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ أَصْلِيٌّ، لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِيِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِلْ، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَلَ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلَامِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ.وَعَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ:
لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلَامِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلَا.
الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
13- الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِلُّ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.وَيَخِرُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لِأَذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ.
وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».
الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ.وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِلَ فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَلُ، أَوْ لِصَلَاحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ.وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَخَذَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لَا.وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ.قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ».
الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:
15- الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «زَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ...» إِلَخِ الْحَدِيثِ.
اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:
16- اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلَا صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ.وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الْحَنَابِلَةُ لِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ.عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الِاجْتِمَاعُ لَهُ.
هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ.
أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ:
17- إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِلْ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ.فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْأَحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلَال).
أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:
18- إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةً:
أ- فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
ب- وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الْأَبِ مَثَلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا.
ج- وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الِاسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ.وَالْبُكَاءُ يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لَا الْكَرَاهَةِ.وَلَوْ كَرِهَتْ لَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِي مِنَ الِامْتِنَاعِ.
بُكَاءُ الْمَرْءِ هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:
19- بُكَاءُ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}.فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى.كَمَا قَالَ حَكِيمٌ:
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ
تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
5-موسوعة الفقه الكويتية (دعوى 2)
دَعْوَى -222- ثَالِثًا: الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى غَيْرُ الصَّحِيحَةِ
أَصْلًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، لِأَنَّ إِصْلَاحَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ.وَتَعُودُ أَسْبَابُ الْبُطْلَانِ فِي الدَّعَاوَى إِلَى فَقْدِ أَحَدِ الشُّرُوطِ الْأَسَاسِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا.وَمِنْ أَمْثِلَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الدَّعْوَى الَّتِي يَرْفَعُهَا الشَّخْصُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي رَفْعِهَا صِفَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ فُضُولِيًّا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً.وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالدَّعْوَى الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إِلَى حَقٍّ وَلَوْ فِي الظَّاهِرِ، كَمَنْ يَطْلُبُ فِي دَعْوَاهُ الْحُكْمَ عَلَى آخَرَ بِوُجُوبِ إِقْرَاضِهِ مَالًا لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَدَعْوَى مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، كَدَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِثَمَنِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ.وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ عَامٌّ عِنْدَهُمْ يَدْخُلُ تَحْتَهُ جَمِيعُ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلَّةِ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا الْأَسَاسِيَّةِ، وَقَدْ صَنَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِنْفَيْنِ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِامْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَجُعِلَ هَذَا الصِّنْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: دَعْوَى مَا لَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دَعْوَى مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ، وَلَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسَّمَادِ النَّجِسِ، فَهَذِهِ تُقَرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ، لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَبِالسِّمَادِ فِي الزُّرُوعِ وَالشَّجَرِ، فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ وَلَا قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى، كَأَنْ يَدَّعِيَهَا بِالِابْتِيَاعِ، كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا، فَتَكُونَ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ، وَيَكُونَ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ.أَمَّا إِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَقَدْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: دَعْوَى غَصْبِهَا، وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَدَعْوَى هِبَتِهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: دَعْوَى مَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ مِلْكًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، وَهَذَا كَالْوَقْفِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ، لِاسْتِحَالَةِ انْتِقَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ.
23- الدَّعَاوَى الْمَمْنُوعُ سَمَاعُهَا: وَهَذِهِ الدَّعَاوَى صَحِيحَةٌ فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْقُضَاةُ مِنْ سَمَاعِهَا، لِاقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَدَعْوَى مَا تَقَادَمَ زَمَانُهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: (الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ، حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا لَمْ يَنْفُذْ) قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ يَأْمُرُونَ قُضَاتَهُمْ فِي جَمِيعِ وِلَايَاتِهِمْ أَنْ لَا يَسْمَعُوا دَعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سِوَى الْوَقْفِ وَالْإِرْثِ، وَنَقَلَ فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِهَا بَعْدَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ هَلْ يَبْقَى النَّهْيُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ الَّذِي نَهَى بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى نَهْيٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلَا يَسْتَمِرُّ...).
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَيَكُونُ الْقَاضِي مَعْزُولًا عَنْ سَمَاعِهَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ، فَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِسَمَاعِهَا بِالرَّغْمِ مِنْ مُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُسْمَعُ، وَالْغَرَضُ مِنَ النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ، وَعَدَمُ سَمَاعِ الْقَاضِي لَهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ تُسْمَعُ، إِذْ لَا تَزْوِيرَ مَعَ الْإِقْرَارِ.
وَعَدَمُ سَمَاعِهَا لَا يَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ، فَلَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي أَثْنَائِهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ ثَانِيَةً، مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدَّعْوَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَشَرْطُ الدَّعْوَى الْقَاطِعَةِ لِلْمُدَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا تَرَكَ دَعْوَاهُ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَدَّعِ عِنْدَ الْقَاضِي، بَلْ طَالَبَ خَصْمَهُ بِحَقِّهِ مِرَارًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُ.وَتَرْكُ الدَّعْوَى إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّ طَلَبِهَا، فَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَثَلًا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَلَهَا طَلَبُ مُؤَخَّرِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ حَقَّ طَلَبِهِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ، لَا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مُدَّةَ التَّقَادُمِ لِإِعْسَارِ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ ثَبَتَ يَسَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ الْيَسَارِ.
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى:
24- الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَعُودُ فِي مُجْمَلِهَا إِمَّا إِلَى حِفْظِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَإِمَّا إِلَى حِفْظِ الْفَرْدِ الْإِنْسَانِيِّ وَمَا يَتَّبِعُهُ مِنْ حِفْظِ عِرْضِهِ وَعَقْلِهِ وَدِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ شُرِعَتِ الدَّعَاوَى مِنْ أَجْلِ حِمَايَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، فَتَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
25- أَوَّلًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَقَعَ مِنْ شَخْصٍ وَيُوجِبُ عُقُوبَتَهُ، كَالْقَتْلِ، أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِهَا.فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَقْسِيمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ هُمَا: دَعَاوَى التُّهْمَةِ، وَدَعَاوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَظْهَرُ فِي الْإِجْرَاءَاتِ وَطُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْمُتَّبَعَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ:
1- فَإِنَّ بَعْضَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الشُّهُودِ يَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ الْمَطْلُوبِ فِي الدَّعَاوَى الْأُخْرَى.وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
2- ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَجَازُوا فِي حَقِّ الْمُتَّهَمِ فِي دَعَاوَى التُّهْمَةِ أَسَالِيبَ مِنَ الْإِجْرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا فِي الدَّعَاوَى الْأُخْرَى، وَذَلِكَ كَحَبْسِ الْمُتَّهَمِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْحَقُهُمُ التُّهْمَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ.
26- ثَانِيًا: الْمُدَّعَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا شَرْعِيًّا مَحْضًا.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الدَّعَاوَى إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: دَعَاوَى الْعَيْنِ: وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ مَحَلُّهَا عَيْنًا مِنَ الْأَعْيَانِ، وَالْعَيْنُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَقَارًا فَتُسَمَّى بِدَعْوَى الْعَقَارِ، أَوْ تَكُونَ مَنْقُولًا فَتُسَمَّى دَعْوَى الْمَنْقُولِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: دَعَاوَى الدَّيْنِ: وَهِيَ مَا يَكُونُ مَحَلُّهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدَ قَرْضٍ، أَمْ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ ضَمَانًا لِشَيْءٍ أَتْلَفَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: دَعَاوَى الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُقْصَدُ بِهَا الدَّعَاوَى الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْحُقُوقُ الْأُخْرَى الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ الْأَعْيَانِ وَلَا زُمْرَةِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَ لَهَا خَصَائِصُهَا مِنْ قَابِلِيَّةِ الِانْتِقَالِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُقُوقِ الْعَائِلِيَّةِ مِنْ نَسَبٍ وَنِكَاحٍ وَحَضَانَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَمِنْهَا دَعَاوَى الشُّفْعَةِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ لِأَنْوَاعِ الدَّعَاوَى أَمْرَانِ هُمَا:
1- مَعْرِفَةُ الْخَصْمِ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ- سَيَأْتِي ذِكْرُهَا- لَتَعْيِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ نَوْعٍ قَاعِدَةً خَاصَّةً، لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الْخَصْمُ فِي الدَّعْوَى.
2- مَعْرِفَةُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى فِي كُلِّ نَوْعٍ، فَجَعَلُوا لِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّعَى فِي دَعَاوَى الدَّيْنِ قَاعِدَةً عَامَّةً، وَكَذَلِكَ لِدَعَاوَى الْعَيْنِ، وَدَعَاوَى الْحُقُوقِ الْمَحْضَةِ.وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُرِيدُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هِيَ. 27- ثَالِثًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ حَقًّا أَصْلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ يَدًا وَتَصَرُّفًا، وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَنْقَسِمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ: دَعَاوَى الْحَقِّ، وَدَعَاوَى الْحِيَازَةِ أَوْ دَعَاوَى وَضْعِ الْيَدِ، وَفِي الْأُولَى يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُطْلَبُ فِي الثَّانِي الْحُكْمُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ مَحَلِّ الدَّعْوَى.
وَالْحِيَازَةُ مَصْلَحَةٌ يَرْعَاهَا الشَّارِعُ وَيَحْمِيهَا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ارْتِكَازُهَا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، فَلَا يُعْتَرَفُ بِهَا عِنْدَئِذٍ وَإِنْ طَالَتْ.وَلِذَلِكَ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْيَدَ أَوِ (الْحِيَازَةَ) حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلْإِنْسَانِ، فَيَصِحُّ أَنْ تُطْلَبَ بِالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَطُلِبَ الْحُكْمُ بِهَا أَمْ طُلِبَتْ إِعَادَتُهَا لِمَنْ سُلِبَتْ مِنْهُ، أَمْ طُلِبَ دَفْعُ التَّعَرُّضِ لَهَا أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ.وَمِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي شُرِعَتْ لِهَذَا الْغَرَضِ:
28- أ- دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ: وَالتَّعَرُّضُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنْ يُحَاوِلَ غَيْرُ ذِي حَقٍّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَا هُوَ لِغَيْرِهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَيَرْفَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ دَعْوَى يَطْلُبُ بِهَا مَنْعَ تَعَرُّضِهِ لَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّعَرُّضَ هُوَ كُلُّ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُدَّعَى: إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ إِلَى مِلْكِهِ.أَوْ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ بِمُلَازَمَتِهِ عَلَيْهِ وَقَطْعِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ.
وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الدَّعْوَى مَهْمَا كَانَ مَحَلُّهَا عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا، بَلْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا لِدَفْعِ تَعَرُّضٍ مُوَجَّهٍ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، كَأَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنٍ يَدَّعِيهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَتَضَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ، كَأَنْ يُلَازِمَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُشَنِّعَ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ لَا تَضُرُّهُ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ مِنْهُ.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ دَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِنْسَانٍ غَيْرَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بِدُونِ أَنْ يُعَارِضَهُ فِي شَيْءٍ يَضُرُّهُ، وَيَقُولُ لِلْقَاضِي: بَلَغَنِي أَنَّ فُلَانًا يُرِيدُ مُنَازَعَتِي وَمُخَاصَمَتِي، وَأُرِيدُ قَطْعَ النِّزَاعِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَطْلُبُ إِحْضَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ فَلْيُبَيِّنْهُ أَمَامَكَ بِالْحُجَّةِ، وَإِلاَّ فَلْيَعْتَرِفْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَدَّعِيهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ.
29- ب- دَعْوَى اسْتِرْدَادِ الْحِيَازَةِ: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِعَادَةَ حِيَازَتِهِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ بِالْقَهْرِ أَوِ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِدَاعِ، فَلِمَالِكِ الْعَيْنِ أَوْ مُسْتَعِيرِهَا أَوْ مُسْتَأْجِرِهَا أَوْ مُرْتَهِنِهَا أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى لِاسْتِرْدَادِ مَا سُلِبَ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَالِبُ الْحِيَازَةِ مُحِقًّا فِيمَا فَعَلَ فَيُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ وَحِيَازَتِهِ.
شُرُوطُ الدَّعْوَى:
30- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى جُمْلَةُ شُرُوطٍ بَعْضُهَا فِي الْقَوْلِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ لِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعَى بِهِ، وَبَعْضُهَا فِي رُكْنِ الدَّعْوَى.
أَوَّلًا: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي وَيَطْلُبُ بِهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عِدَّةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ:
31- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا تَكُونَ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِأَمْرٍ سَبَقَ صُدُورُهُ عَنِ الْمُدَّعِي.
وَالتَّنَاقُضُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَسْبِقَ مِنَ الْمُدَّعِي مَا يُعَارِضُ دَعْوَاهُ بِحَيْثُ بِهِ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّابِقِ وَاللاَّحِقِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلَا تُقْبَلُ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ، إِذِ الْوَقْفُ لَا يَصِيرُ مِلْكًا.
وَالتَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى قَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ شِرَاءَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتَهُ مِنْهُ، أَوْ إِيدَاعَهُ عِنْدَهُ أَوْ إِجَارَتَهُ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ هَذَا الشَّيْءِ، وَكَمَا لَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً يُرِيدُ نِكَاحَهَا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُهَا.وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَفْعٍ مِنَ الدُّفُوعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا، كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ وَدِيعَةً، فَأَنْكَرَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيدَاعِ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّهَا أَوْ هَلَاكِهَا، فَلَا يُقْبَلُ دَفْعُهُ، لِتَنَاقُضِهِ مَعَ إِنْكَارِهِ السَّابِقِ.
وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ وَأَشْبَاهَهَا أَنَّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ الْإِسْقَاطِ، لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
32- أ- أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ (وَهُمَا الدَّعْوَى وَمَا صَدَرَ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) صَادِرَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُدَّعِي، أَوْ عَنْ شَخْصَيْنِ هُمَا فِي حُكْمِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ، وَالْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ.فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ ادَّعَى عَيْنًا لِمُوَكِّلِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُوَكِّلُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِغَيْرِهِ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْوَكِيلِ لِمُنَاقَضَتِهَا لِإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ.
33- ب- أَنْ لَا يَقَعَ مِنَ الْمُدَّعِي تَوْفِيقٌ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَمَا صَدَرَ عَنْهُ مِمَّا يُنَاقِضُهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ).
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِثْلُ رَأْيِ الْجُمْهُورِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُدَّعِي بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّنَاقُضِ، وَسَوَاءٌ أَوَقَعَ فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، أَمْ وَقَعَ فِي الدَّفْعِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيِّنًا أَمْ مُبْهَمًا.
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا دَفَعَ الْخَصْمُ بِتَنَاقُضِ خَصْمِهِ فِي دَعْوَاهُ اكْتُفِيَ لِرَدِّ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَاضِي إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ سُؤَالُ الْمُتَنَاقِضِ- ظَاهِرًا- أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا.
فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى دَارًا بِهِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا إِرْثًا مِنْهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدِ ابْتَاعَ الدَّارَ مِنْ أَبِيهِ، فَعَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ وَرِثَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.غَيْرَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَوَّلًا انْتِقَالَ الدَّارِ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بِالشِّرَاءِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ الْأُخْرَى، لِلتَّنَاقُضِ وَتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي كَلَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَيْ: فِي دَفْعِهِ لِلدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ).أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي اعْتِبَارِهِ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ وُقُوعِ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ.وَيُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا، إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِالتَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ بَيْنَ أَقْوَالِهِ الْمُتَنَاقِضَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ لِاعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لِنَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، وَكَانَ التَّوْفِيقُ خَفِيًّا، وَإِلاَّ فَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى لِغَيْرِهِ عَيْنًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ تَأْرِيخِ الدَّعْوَى السَّابِقَةِ، فَإِنْ وَفَّقَ بِهَذَا فِعْلًا، وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ وَسُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْأُولَى إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَنَفْيٌ لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَدَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِيجَابُ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَتَنَاقَضَ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ وَخَفَاءِ التَّوْفِيقِ.
بِخِلَافِ مَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالِ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ لَهُ فِي مَكَانِ كَذَا، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ دَفَعَ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ الدَّيْنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ الْأَوَّلِ، فَيُقْبَلُ دَفْعُهُ الثَّانِي، لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ يَكُونَ أَدَّاهُ مَرَّتَيْنِ لِقَطْعِ مُطَالَبَتِهِ.
34- ج- وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ لَا يَكُونَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ قَدْ كُذِّبَ شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ، فَأَنْكَرَ الْكَفَالَةَ، وَبَرْهَنَ الدَّائِنُ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ مَدْيُونِهِ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاضِي، وَأَخَذَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْهُ الْمَالَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَفِيلَ ادَّعَى عَلَى الْمَدْيُونِ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَبَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ، قُبِلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ إِنْكَارِ الْكَفَالَةِ عِنْدَمَا ادَّعَاهَا عَلَيْهِ الدَّائِنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْكَارَهُ السَّابِقَ بَطَلَ أَثَرُهُ بِتَكْذِيبِ الْحَاكِمِ لَهُ.
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِي الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَخْفَى أَسْبَابُهَا مِثْلُ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا.
مَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ.
35- يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا: التَّوْفِيقُ الْفِعْلِيُّ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَصْدِيقُ الْخَصْمِ.فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِينَارٍ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، فَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ بِالرَّغْمِ مِنْ تَنَاقُضِهِ.
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ.
فَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (م 1655): «يُعْفَى عَنِ التَّنَاقُضِ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَلَّ خَفَاءٍ».
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ، وَخَلَّفَ حِصَّتَهُ مِنْ دَارٍ، وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمُ الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي حَالِ صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ، وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ، لِأَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَلِّ الْخَفَاءِ فَيَكُونُ عَفْوًا.
وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ أَوِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ النَّسَبَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ، إِذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلَاقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ.وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلَاقِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْخُلْعِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ: إِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَى مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ، ثُمَّ جَاءَ بِشُهُودٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، أَوْ أَقَرَّ الْأَبُ أَنَّهُ مَلَكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ التَّرِكَةَ كُلَّهَا مَوْرُوثَةٌ إِلاَّ هَذِهِ الدَّارَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهَا دُونَ الْوَرَثَةِ وَاعْتَذَرَ بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، بِذَلِكَ بَلْ أَقَرَّ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُقْبَلُ عُذْرُهُ وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ عَادِيٌّ يُسْمَعُ مِثْلُهُ.
وَنُقِلَ عَنْ سَحْنُونَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تُقْبَلُ لِلْمُنَاقَضَةِ.
وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالْقَلْيُوبِيِّ.
وَفِي حَوَاشِي الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَقَرَّ مَدِينٌ لآِخَرَ، ثُمَّ ادَّعَى أَدَاءَهُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ حَالَةَ الْإِقْرَارِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ لِلتَّحْلِيفِ فَقَطْ.فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْأَدَاءِ قُبِلَتْ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ، فَلَا تَنَاقُضَ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ إِبْرَاءَ الْمُدَّعِي لَهُ سَابِقًا عَلَى زَمَنِ إِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَقَالَ: مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَمَا اشْتَرَيْتُ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اقْتَرَضَ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَقَالَ: قَضَيْتُهُ أَوْ أَبْرَأَنِي قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، لِأَنَّ إِنْكَارَ الْحَقِّ يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَضَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ إِلاَّ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ.
36- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِتَعْبِيرَاتٍ جَازِمَةٍ وَقَاطِعَةٍ وَلَا تَرَدُّدَ فِيهَا، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِنَحْوِ: أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ مَبْلَغَ كَذَا، أَوْ أَنَّهُ غَصَبَ مِنِّي دَابَّتِي.
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعَاوَى الِاتِّهَامِ (الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةُ)، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ، فَإِذَا قَالَ: أَتَّهِمُهُ بِسَرِقَةِ دِينَارٍ مَثَلًا، فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، لِأَنَّ دَعَاوَى الِاتِّهَامِ تَرْجِعُ فِي أَسَاسِهَا إِلَى الشَّكِّ وَالظَّنِّ.
37- الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَفِي مُعْظَمِ الْمَذَاهِبِ قَوْلَانِ بِخُصُوصِهِ.الرَّاجِحُ مِنْهُمَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ.وَاشْتَرَطَهُ أَصْحَابُ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَصْحِيحِهِ، بَيْنَمَا صَرَّحَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى مِنْهُمْ بِتَصْحِيحِ خِلَافِهِ.
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِهِ بِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ، وَالْحُكْمُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَالِاسْتِفْتَاءِ، فَإِذَا طَلَبَهُ تَبَيَّنَ غَرَضُهُ، وَبِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، لَا لِإِنْشَائِهَا، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ لَهُ بِحَقِّهِ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ، فَإِنْ نَظَرَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ مَا طُلِبَ لِلْحَقِّ مِنَ الْمُدَّعِي كَانَ مُنْشِئًا لِلْخُصُومَةِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُجْعَلِ الْقَضَاءُ لِأَجْلِهِ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَدَلَائِلَ الْحَالِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَقْصِدُ بِدَعْوَاهُ إِلاَّ الْحُكْمَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَتَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعِي يَقُولُ ذَلِكَ حِكَايَةً بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ مَجَالِسَ الْقَضَاءِ لَمْ تُنْشَأْ لِهَذَا الْغَرَضِ.
38- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِلِسَانِ الْمُدَّعِي عَيْنًا: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَصَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَجُزِ التَّوْكِيلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّعِي عُذْرٌ مَقْبُولٌ، أَوْ يَرْضَى خَصْمُهُ بِالتَّوْكِيلِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ شَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ أَبَى.
39- الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى الْعَيْنِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ الْخَصْمِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعْوَى مَنْعِ التَّعَرُّضِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيهَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُدَّعِي وَيَكُونُ الْعَيْنُ فِي يَدِ هَذَا الْأَخِيرِ.
ثَانِيًا: شُرُوطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ: شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ، وَشَرْطُ الصِّفَةِ.
40- شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ: لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى تَصَرُّفًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فَيُطَالِبُ لَهُ بِحَقِّهِ مُمَثِّلُهُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَشْتَرِطُونَ كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْتَفُونَ بِالْأَهْلِيَّةِ النَّاقِصَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَيُشْتَرَطُ الرُّشْدُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَسْتَثْنُونَ بَعْضَ الْحَالَاتِ وَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
1- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى وَأَنْ يَكُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَى وَالْجَوَابَ عَلَيْهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَلَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ.
2- وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّشْدُ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمَهَا أَوْ نَاقِصَهَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِ.
3- وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمْ بِهِ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ عَلَى السَّفِيهِ.
4- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى السَّفِيهِ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ حَالَ سَفَهِهِ، فَتَصِحُّ عَلَيْهِ دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ.
وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا بِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً لَدَيْهِ وَبِشُرُوطٍ أُخْرَى سَتَأْتِي.وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي يَمِينًا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ «يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ»، وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَا ادَّعَى بِهِ مِمَّنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَبْرَأَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَلِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الدَّعْوَى إِلاَّ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَمُكَلَّفٍ، وَلَا يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَوْلَى لَا يُجِيزُونَ سَمَاعَ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَيِّتِ، حَيْثُ هُمْ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْغَائِبِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (سجود السهو)
سُجُودُ السَّهْوِالتَّعْرِيفُ:
1- السَّهْوُ لُغَةً: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ.وَسُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا لِجَبْرِ خَلَلٍ، بِتَرْكِ بَعْضِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ بَعْضِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ دُونَ تَعَمُّدٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَمْسًا، فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: فَإِنَّك قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَانْفَتَلَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، أَثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».
وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُمَا اشْتَمَلَا عَلَى الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلِيًّا أَمْ بَعْدِيًّا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: بِوُجُوبِ الْقَبْلِيِّ، قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً وَالسَّجْدَتَانِ».
أَسْبَابُ سُجُودِ السَّهْوِ:
أ- الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَمَّدَ الْمُصَلِّي أَنْ يَزِيدَ فِي صَلَاتِهِ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا أَوْ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا، أَوْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْكَانِهَا شَيْئًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.لِأَنَّ السُّجُودَ يُضَافُ إِلَى السَّهْوِ فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ فِي السَّهْوِ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ».
فَإِذَا زَادَ الْمُصَلِّي أَوْ نَقَصَ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَائِهِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ.
ب- الشَّكُّ:
4- إِذَا شَكَّ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، أَوْ شَكَّ فِي سَجْدَةٍ فَلَمْ يَدْرِ أَسَجَدَهَا أَمْ لَا، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ (الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَرِوَايَةً لِلْحَنَابِلَةِ) ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلَاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» وَلِحَدِيثِ «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً وَالسَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ تَمَامًا لِصَلَاتِهِ، وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَيِ الشَّيْطَانِ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَأْنَفَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى فَلْيَسْتَقْبِلِ الصَّلَاةَ».وَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ كَثِيرًا بَنَى عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلَاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ».
وَالِاسْتِقْبَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ أَوِ الْكَلَامِ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ مِمَّا يُنَافِي الصَّلَاةَ، وَالْخُرُوجُ بِالسَّلَامِ قَاعِدًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عُرِفَ مُحَلِّلًا دُونَ الْكَلَامِ، وَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَلْ يَلْغُو، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ يَقْعُدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الصَّلَاةِ تَحَرُّزًا عَنْ تَرْكِ فَرْضِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ رُكْنٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقُ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَاخْتَارَ الْخِرَقِيُّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.فَجَعَلَ الْإِمَامُ يَبْنِي عَلَى الظَّنِّ وَالْمُنْفَرِدُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ.وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَذْهَبِ نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَثْرَمِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ وَيُذَكِّرُهُ إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ، فَلْيَعْمَلْ بِالْأَظْهَرِ عِنْدَهُ، فَإِنْ أَصَابَ أَقَرَّهُ الْمَأْمُومُونَ، فَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ صَوَابُ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَيَحْصُلُ لَهُ الصَّوَابُ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُهُ فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، لِيَحْصُلَ لَهُ إِتْمَامُ صَلَاتِهِ وَلَا يَكُونُ مَغْرُورًا بِهَا.وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ».فَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ:
5- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلًا عَنِ التتارخانية الْأَصْلُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فَرْضٌ، وَسُنَّةٌ، وَوَاجِبٌ، فَفِي الْفَرْضِ إِنْ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ يَقْضِي وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَفِي السُّنَّةِ لَا تَفْسُدُ، لِأَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ بِأَرْكَانِهَا وَقَدْ وُجِدَتْ، وَلَا يُجْبَرُ تَرْكُ السُّنَّةِ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَفِي الْوَاجِبِ إِنْ تَرَكَ سَاهِيًا يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَإِنْ تَرَكَ عَامِدًا لَا.وَنُقِلَ عَنِ الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا قَبْلَهَا، وَلَوْ قَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ السُّجُودُ لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِالرُّكُوعِ فَيُفْرَضُ إِعَادَتُهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الرُّكْنِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَدَارُكَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّدَارُكُ مَعَ سُجُودِ السَّهْوِ وَذَلِكَ إِذَا أَتَى بِهِ فِي الرَّكْعَةِ نَفْسِهَا إِلَى مَا قَبْلَ عَقْدِ رَكْعَةٍ أُخْرَى بِالرُّكُوعِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ الرُّكْنَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكُ بِأَدَاءِ الْمَتْرُوكِ بَلْ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ أَوْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَرَكَ رُكْنًا سَهْوًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ، فَإِنْ تَذَكَّرَ السَّهْوَ قَبْلَ فِعْلِ مِثْلِ الْمَتْرُوكِ اشْتَغَلَ عِنْدَ الذِّكْرِ بِالْمَتْرُوكِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ فِعْلِ مِثْلِهِ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى تَمَّتِ الرَّكْعَةُ السَّابِقَةُ بِهِ وَلَغَا مَا بَيْنَهُمَا.فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ أَخَذَ بِأَدْنَى الْمُمْكِنِ وَأَتَى بِالْبَاقِي.وَفِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا غَيْرَ التَّحْرِيمَةِ فَذَكَرَهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بَطَلَتِ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَهُ مِنْهَا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا وَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِدْرَاكُهُ فَصَارَتِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا عِوَضًا عَنْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ الرُّكْنَ الْمَنْسِيَّ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَادَ لُزُومًا فَأَتَى بِهِ وَبِمَا بَعْدَهُ. الْوَاجِبَاتُ وَالسُّنَنُ الَّتِي يَجِبُ بِتَرْكِهَا سُجُودُ السَّهْوِ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي: فِيمَا يُطْلَبُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَهْوًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا تَفْسُدُ بِتَرْكِهَا وَتُعَادُ وُجُوبًا فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا يَكُونُ فَاسِقًا آثِمًا.
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمُ: الْقَعْدَةُ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَدُعَاءُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهَا.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَسَّمُوا الصَّلَاةَ إِلَى فَرَائِضَ وَسُنَنٍ.فَالْمَالِكِيَّةُ يُسْجَدُ عِنْدَهُمْ لِسُجُودِ السَّهْوِ لِثَمَانِيَةٍ مِنَ السُّنَنِ وَهِيَ: السُّورَةُ، وَالْجَهْرُ، وَالْإِسْرَارُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّشَهُّدَانِ، وَالْجُلُوسُ لَهُمَا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: أَبْعَاضٌ وَهَيْئَاتٌ، وَالْأَبْعَاضُ هِيَ الَّتِي يُجْبَرُ تَرْكُهَا بِسُجُودِ السَّهْوِ، فَمِنْهَا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالْقُعُودُ لَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَالْقُنُوتُ الرَّاتِبُ فِي الصُّبْحِ، وَوِتْرُ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيَامُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْقُنُوتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِرُكْنٍ نَوْعَانِ: وَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ، فَالْوَاجِبَاتُ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا، وَتَسْقُطُ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا، وَيُجْبَرُ تَرْكُهَا سَهْوًا بِسُجُودِ السَّهْوِ كَالتَّكْبِيرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُكَبِّرُ كَذَلِكَ، «وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».وَالتَّسْمِيعُ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالتَّحْمِيدُ وَغَيْرُهَا.
مَوْضِعُ سُجُودِ السَّهْوِ:
7- لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِ السَّهْوِ: فَقَدْ رَأَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَوْضِعَ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ فِي الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَصَحِّ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ كَذَلِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ سَقَطَ السُّجُودُ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ». وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنْ وَقَعَ السَّهْوُ بِالنَّقْصِ فِي الصَّلَاةِ فَالسُّجُودُ يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ.وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ».وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَمْسًا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا! «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ، وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ»، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ شَكَكْتَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِكَ مِنْ نُقْصَانٍ مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاسْتَقْبِلْ أَكْثَرَ ظَنِّكَ، وَاجْعَلْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ السَّهْوِ فَاجْعَلْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ فَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ النَّقْصِ.
وَالْجَدِيدُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ.وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَأُبَيٍّ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ».كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ قَبْلَ السَّلَامِ كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، إِلاَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ وَرَدَ النَّصُّ بِسُجُودِهِمَا بَعْدَ السَّلَامِ.وَهُمَا إِذَا سَلَّمَ مِنْ نَقْصِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ».وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ».
وَالثَّانِي إِذَا تَحَرَّى الْإِمَامُ فَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَمَا تَحَرَّى «فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ». وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ قَبْلَ السَّلَامِ وَإِنْ شَاءَ بَعْدَهُ.
تَكْرَارُ السَّهْوِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ:
8- إِذَا تَكَرَّرَ السَّهْوُ لِلْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ، لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ سَجْدَتَانِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَكَلَّمَ ذَا الْيَدَيْنِ».
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَدَاخَلْ لَسَجَدَ عَقِبَ السَّهْوِ فَلَمَّا أَخَّرَ إِلَى آخِرِ صَلَاتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَّرَ لِيَجْمَعَ كُلَّ سَهْوٍ فِي الصَّلَاةِ.وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
نِسْيَانُ سُجُودِ السَّهْوِ:
9- إِذَا سَهَا الْمُصَلِّي عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ فَانْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ دُونَ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيُؤَدِّيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ إِنْ سَلَّمَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ مَعَ التَّحَوُّلِ عَنِ الْقِبْلَةِ أَوِ الْكَلَامِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ إِنْ سَلَّمَ نَاسِيًا السَّهْوَ سَجَدَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي حُكْمِ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلِذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ مِنْ خَلْفِهِ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ يَتَقَدَّمَ عَلَى مَوْضِعِ سُتْرَتِهِ أَوْ سُجُودِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ وَالْبَعْدِيِّ، فَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ الْبَعْدِيَّ يَقْضِيهِ مَتَى ذَكَرَهُ، وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ، وَلَا يَسْقُطُ بِطُولِ الزَّمَانِ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ (تَرْغِيمُ الشَّيْطَانِ) كَمَا فِي الْحَدِيثِ.وَأَمَّا السُّجُودُ الْقَبْلِيُّ فَإِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِعَدَمِ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَطُلِ الزَّمَانُ، وَهُوَ فِي مَكَانِهِ أَوْ قُرْبِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَلَّمَ سَهْوًا أَوْ طَالَ الْفَصْلُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَإِنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَسْقُطُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بِالسَّلَامِ وَتَعَذُّرِ الْبِنَاءِ بِالطُّولِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَتَى بِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ، إِلاَّ بِطُولِ الْفَصْلِ (وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ) أَوْ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ، أَوْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ، كَمَا لَوِ انْتَقَضَ وُضُوءَهُ
وَإِنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ سَجَدَ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَحَرَّى، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا شَكَّ هَلْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ ثَانِيًا لِهَذَا الشَّكِّ.وَكَذَلِكَ لَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ لَا، فَيَسْجُدُهُمَا وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعِيدُهُ.
سَهْوُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ تَنْبِيهِ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ إِذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ».
وَفَرَّقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَيْنَ تَنْبِيهِ الرِّجَالِ وَتَنْبِيهِ النِّسَاءِ.فَالرِّجَالُ يُسَبِّحُونَ لِسَهْوِ إِمَامِهِمْ، وَالنِّسَاءُ يُصَفِّقْنَ بِضَرْبِ بَطْنِ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيَصْفَحِ (يَعْنِي لِيُصَفِّقِ) النِّسَاءُ».
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ تَنْبِيهِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَالْجَمِيعُ يُسَبِّحُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ».
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ تَصْفِيقُ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ. اسْتِجَابَةُ الْإِمَامِ لِتَنْبِيهِ الْمَأْمُومِينَ وَمُتَابَعَتِهِمْ:
11- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا زَادَ فِي صَلَاتِهِ وَكَانَ الْإِمَامُ عَلَى يَقِينٍ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُصِيبٌ، حَيْثُ إِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَأْمُومُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ بِحَيْثُ يُفِيدُ عَدَدُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ فَيَتْرُكُ يَقِينَهُ وَيَرْجِعُ لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ كَمَالٍ، وَإِلاَّ لَمْ يَعُدْ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا شَكَّ وَلَمْ يَغْلِبْ ظَنُّهُ عَلَى أَمْرٍ عَادَ لِقَوْلِ الْمَأْمُومِينَ إِذَا كَانُوا ثِقَاتٍ أَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ.لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ عِنْدَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ فَأَجَابُوهُ.وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ الشَّافِعِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَكَّ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا أَتَى بِرَكْعَةٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِتْيَانِهِ بِهَا وَلَا يَرْجِعُ لِظَنِّهِ وَلَا لِقَوْلِ غَيْرِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا كَثِيرًا، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ بِقَرِينَةٍ.وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ.
سُجُودُ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ:
12- إِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ فَعَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَهَا مَعَهُ أَوِ انْفَرَدَ الْإِمَامُ بِالسَّهْوِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ السَّلَامِ.لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ...وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ»
وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ إِذَا سَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَسْهُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَهَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى صَلَاتِهِ بِالسَّهْوِ فَإِذَا لَمْ يَجْبُرِ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ جَبَرَ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ.وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.
سُجُودُ الْمَسْبُوقِ لِلسَّهْوِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْمَسْبُوقِ لِإِمَامِهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إِذَا سَبَقَهُ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي مِقْدَارِ الْإِدْرَاكِ مِنَ الصَّلَاةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ إِمَامِهِ أَيَّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ قَبْلَ سُجُودِ السَّهْوِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ إِمَامِهِ فِي سُجُودِهِ لِلسَّهْوِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا السَّهْوُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَإِنِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السَّهْوِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ اقْتَدَى الْمَسْبُوقُ بِالْإِمَامِ بَعْدَ السَّجْدَةِ الْأُولَى هَلْ يَقْضِيهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بَلْ تَكْفِيهِ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ نَصًّا إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْأُولَى بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ، يَسْجُدُهَا ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السُّجُودُ بَعْدِيًّا أَوْ قَبْلِيًّا.وَإِذَا سَجَدَ مَعَ إِمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُومٍ حَقِيقَةً، لِذَا لَا يَسْجُدُ بَعْدَ تَمَامِ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَعْدِيُّ فَتَبْطُلُ بِسُجُودِهِ وَلَوْ لَحِقَ رَكْعَةً.قَالَ الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ الصَّوَابُ.
سَهْوُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ:
14- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَيْسَ عَلَى مَنْ سَهَا خَلَفَ الْإِمَامِ سُجُودٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ» وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ لِإِمَامِهِ، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ وَتَرْكُهُ.
سَهْوُ الْإِمَامِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ:
15- مَنْ سَهَا عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَسَبَّحَ لَهُ الْمَأْمُومُونَ أَوْ تَذَكَّرَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ قَائِمًا لَزِمَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِلتَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِرُكْنٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَامَ الْإِمَامُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، فَإِنِ اسْتَوَى قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ».وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا، فَمَضَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ»
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَلَكِنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِيمَا لَوْ عَادَ بَعْدَ أَنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ عَادَ إِلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعُودَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ».وَلِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِوَاجِبٍ أَوْ مَسْنُونٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «وَإِذَا اسْتَوَى فَلَا يَجْلِسْ» وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِنْ عَادَ وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ، وَكُرِهَ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ الْمُضِيَّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا لَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ إِنْ عَادَ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الرُّكُوعِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا عَادَ لِلتَّشَهُّدِ بَعْدَ أَنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ.لِلْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (صوم 6)
صَوْمٌ -6أَوَّلًا: الْقَضَاءُ:
86- مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ- كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ- قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلُّهُ، قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ.قَالَ الْأَبِيُّ: الْقَضَاءُ لِمَا فَاتَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْعَدَدِ: فَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ ثَلَاثِينَ، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ بِالْهِلَالِ، وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، صَامَ يَوْمًا آخَرَ.وَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ- وَكَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا- فَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ صَامَ بِالْهِلَالِ، كَفَاهُ مَا صَامَهُ، وَلَوْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَرَمَضَانُ ثَلَاثِينَ.
وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَضَى شَهْرًا هِلَالِيًّا أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يَقْضِ شَهْرًا، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.
قَالَ الْمَجْدُ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَ: هُوَ أَشْهَرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، بِأَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ، وَهَذَا لِعُمُومِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِطْلَاقِهَا.
وَقَضَاءُ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي.
لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِلَّ رَمَضَانُ آخَرُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، لِمَكَانِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا لَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَأْثَمُ بِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا فَإِنْ أَخَّرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- قَالُوا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ لِلتَّأْخِيرِ، أَمَّا فِدْيَةُ الْمُرْضِعِ وَنَحْوِهَا فَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ، وَفِدْيَةُ الْهَرَمِ لِأَصْلِ الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِطْلَاقُ التَّرَاخِي بِلَا قَيْدٍ، فَلَوْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَلَمْ يَقْضِ الْفَائِتُ، قَدَّمَ صَوْمَ الْأَدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ عَنِ الْقَضَاءِ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ عَنِ الْأَدَاءِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَظَاهِرِ قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، بَلْ يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ:
الْأُولَى:
87- إِنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ- وَكَذَا النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ- لِعُذْرٍ، بِأَنِ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ الْمُبَاحُ إِلَى مَوْتِهِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا تَدَارُكَ لِلْغَائِبِ بِالْفِدْيَةِ وَلَا بِالْقَضَاءِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَلَا إِثْمَ بِهِ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ رَمَضَانَ بِهَذَا الْعُذْرِ أَدَاءً، فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى- كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ.
وَسَوَاءٌ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ إِلَى الْمَوْتِ، أَمْ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ كَمَا قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ الصَّوْمُ عَنْهُ أَوِ التَّكْفِيرُ
الثَّانِيَةُ:
88- لَوْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَاتَّصَلَ الْعُذْرُ بِالْمَوْتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا زَالَ الْعُذْرُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَا يُقْضَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَالصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْإِطْعَامِ، وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الصَّوْمُ بَلْ هُوَ إِلَى خِيرَتِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
أَمَّا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ آخَرَ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ مِنَ السَّفَرِ وَالصِّحَّةِ مِنَ الْمَرَضِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ، وَلَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْجَدِيدِ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ إِذَا فَرَّطَ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا خَالِيًا مِنَ الْأَعْذَارِ.
ثَانِيًا: الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى:
89- ثَبَتَتِ الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى بِالنَّصِّ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ زَوْجَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْوِقَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَجِبُ- فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا- بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، طَائِعًا مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُضْطَرٍّ، قَاصِدًا انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يُكَفِّرُ إِذَا نَوَى الصِّيَامَ لَيْلًا، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَطْرَأْ مُسْقِطٌ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.
فَلَا كَفَّارَةَ فِي الْإِفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَلَا عَلَى النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلَا عَلَى الْمُرْهَقِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا عَلَى الْحَامِلِ، لِعُذْرِهِمْ، وَلَا عَلَى الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ، لَا حُرْمَةَ الصِّيَامِ خُصُوصًا.
فَتَجِبُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، لَا نَاسِيًا- خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَتَجِبُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَتَقَدَّمَتْ مُوجِبَاتٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، كَالْإِصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَرَفْضِ النِّيَّةِ نَهَارًا، وَالِاسْتِقَاءِ الْعَامِدِ، وَابْتِلَاعِ مَا لَا يُغَذِّي عَمْدًا.
أَمَّا خِصَالُ الْكَفَّارَةِ فَهِيَ: الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْجَدُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
قَالُوا: فَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا هَذِهِ فَبِالسُّنَّةِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّرْتِيبِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَقَلَهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ التَّخْيِيرِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ تَرْتِيبَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ وَجَوَابِ السُّؤَالِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ.وَإِلَى الْقَوْلِ بِالتَّرْتِيبِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.وَأَنَّهَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَعْتِقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِهَذَا الْحَدِيثِ.
ثَالِثًا: الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى:
90- الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى: هِيَ الْفِدْيَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفِطْرَةِ قَدْرًا، وَتَكْفِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمْلِيكُ هُنَا، بِخِلَافِ الْفِطْرَةِ.
وَتَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَعَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَة).
رَابِعًا: الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
91- مِنْ لَوَازِمِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ: الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، فَلَا إِمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ، وَفِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا أَصْلَيْنِ لِهَذَا الْإِمْسَاكِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ، لَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهَا لَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ.
ثَانِيهِمَا: كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ طُلُوعُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ قَبِيحٌ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ.
وَأَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هَذَا الْإِمْسَاكُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَا عَلَى مُسَافِرٍ أَقَامَ، وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَمَرِيضٍ صَحَّ، وَمُفْطِرٍ وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ خَطَأً، وَصَبِيٍّ بَلَغَ، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ.
وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، لَا مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مُبِيحٍ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ لَهُ الْإِمْسَاكُ، كَمَنِ اضْطُرَّ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، مِنْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَأَفْطَرَ، وَكَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا نَهَارًا، وَمَرِيضٍ صَحَّ نَهَارًا، وَمُرْضِعٍ مَاتَ وَلَدُهَا، وَمُسَافِرٍ قَدِمَ، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَصَبِيٍّ بَلَغَ نَهَارًا، فَلَا يُنْدَبُ الْإِمْسَاكُ مِنْهُمْ.
وَقُيِّدَ الْعِلْمُ بِرَمَضَانَ، احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَعَمَّنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، كَصَبِيٍّ بَيَّتَ الصَّوْمَ، وَاسْتَمَرَّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِانْعِقَادِ صَوْمِهِ لَهُ نَافِلَةً، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا قَبْلَ بُلُوغِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ.
وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ قَالُوا: لِأَنَّ فِعْلَهُ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ، لَا يَتَّصِفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ أَسْلَمَ، لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ بِسُرْعَةٍ، وَلَمْ يَجِبْ، تَأْلِيفًا لَهُ لِلْإِسْلَامِ، كَمَا نُدِبَ قَضَاؤُهُ، وَلَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا لَيْسَ فِي صَوْمٍ وَضَعُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَلَ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ- وَقُلْنَا إِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ- كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إِبَاحَةً حَقِيقِيَّةً، كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضِ إِذَا بَرِئَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ.
وَنَظَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ:
الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ، لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
الْأُولَى: أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ، وَيَدُومَا كَذَلِكَ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ، فَلَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ- كَمَا يَقُولُ الْمَحَلِّيُّ- فَإِنْ أَكَلَا أَخْفَيَاهُ، لِئَلاَّ يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً، بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ، وَيَزُولَ الْعُذْرُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا، فَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ: لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ فِي الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ مَنْ أَصْبَحَ تَارِكًا لِلنِّيَّةِ فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَلَ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ.وَإِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائِمٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ إِمْسَاكُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِعُذْرِهِ.
أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْأَكْلِ، فَقَدْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِلُزُومِهِ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَثْنَاءَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ قَضَاؤُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ، بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ.وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، لِتَقْصِيرِهِ.
وَالرَّابِعُ: يَلْزَمَ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ- كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ- دُونَ الْمَجْنُونِ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالنَّهَارِ صَائِمًا، بِأَنْ نَوَى لَيْلًا، وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِلَا قَضَاءٍ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ.
وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِفُرُوعِهَا:
مَنْ صَارَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَلِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَلِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ.
وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَفْطَرَ، وَالصَّوْمُ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، أَوِ النَّاسِي لِلنِّيَّةِ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا.أَوْ تَعَمَّدَتْ مُكَلَّفَةٌ الْفِطْرَ، ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ، أَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ؛ لِمَا سَبَقَ.
فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَطَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَصَحَّ الْمَرِيضُ، فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ مَعْنَى لَوْ وُجِدَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ، كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْبُهُوتِيُّ، فِي كَشَّافِهِ وَرَوْضِهِ.
وَالْأُخْرَى: لَا يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ)، وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَوَّلَ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ، بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ:
1- فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إِذَا جَامَعَ.
2- وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ، فَأَصَابَهَا.
خَامِسًا: الْعُقُوبَةُ:
92- يُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِفْطَارِ وَمُوجِبَاتِهِ.
وَفِي عُقُوبَةِ الْمُفْطِرِ الْعَامِدِ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ تَارِكَ الصَّوْمِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ، إِذَا كَانَ عَمْدًا كَسَلًا، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَصُومَ، وَقِيلَ: يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ، وَلَا يُقْتَلُ إِلاَّ إِذَا جَحَدَ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِأَحَدِهِمَا.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشَّرَنْبَلَالِيِّ، أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ الْأَكْلَ جِهَارًا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالدِّينِ، أَوْ مُنْكِرٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي حِلِّ قَتْلِهِ، وَالْأَمْرِ بِهِ.
وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعُقُوبَةِ قَوْلَهُ: هِيَ لِلْمُنْتَهِكِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَقَالَ خَلِيلٌ: أُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا.
وَكَتَبَ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ: أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ عَمْدًا اخْتِيَارًا بِلَا تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ، يُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ: مِنْ ضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِطْرُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، كَزِنًا وَشُرْبِ خَمْرٍ، حُدَّ مَعَ الْأَدَبِ، وَقُدِّمَ الْأَدَبُ.
وَإِنْ كَانَ فِطْرُهُ يُوجِبُ رَجْمًا، قُدِّمَ الْأَدَبُ، وَاسْتَظْهَرَ الْمِسْنَاوِيُّ سُقُوطَ الْأَدَبِ بِالرَّجْمِ، لِإِتْيَانِ الْقَتْلِ عَلَى الْجَمِيعِ.
وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَدَبِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- فَإِنْ جَاءَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا، قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، حَالَ كَوْنِهِ تَائِبًا، قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ، فَلَا يُؤَدَّبُ.
وَالشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا- بِتَفْصِيلٍ- عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ، غَيْرَ جَاحِدٍ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، كَأَنْ قَالَ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لَا أَصُومُ حُبِسَ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا، لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصَّوْمِ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ مَعْلُومٌ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا صَارَ كَالضَّرُورِيِّ فِي عَدَمِ خَفَائِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَوْنُهُ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
سَادِسًا: قَطْعُ التَّتَابُعِ:
93- التَّتَابُعُ هُوَ: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَيَّامِ الصِّيَامِ، بِحَيْثُ لَا يُفْطِرُ فِيهَا وَلَا يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ.
تَتَأَثَّرُ مُدَّةُ الصَّوْمِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّتَابُعُ نَصًّا، بِالْفِطْرِ الْمُتَعَمَّدِ، وَهِيَ- بِعَدِّ الْكَاسَانِيِّ-: صَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارُ الْعَامِدُ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ:
94- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، بَلْ يَجِبُ لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
فَإِذَا أَخْبَرَهُ الثِّقَاتُ بِدُخُولِ شَهْرِ الصَّوْمِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِمْ، وَإِنْ أَخْبَرُوهُ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَجْتَهِدُ بِنَفْسِهِ فِي مَعْرِفَةِ الشَّهْرِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَيَصُومُ مَعَ النِّيَّةِ وَلَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مِثْلَهُ.
فَإِنْ صَامَ الْمَحْبُوسُ الْمُشْتَبَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحَرٍّ وَلَا اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ الْوَقْتَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَتَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّوْمِ لِتَقْصِيرِهِ وَتَرْكِهِ الِاجْتِهَادَ الْوَاجِبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَصَامَ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: الْحَالُ الْأُولَى: اسْتِمْرَارُ الْإِشْكَالِ وَعَدَمُ انْكِشَافِهِ لَهُ، بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ صَوْمَهُ صَادَفَ رَمَضَانَ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ وَلَا يُكَلَّفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ؛ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ قَبْلَ وَقْتِ رَمَضَانَ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَنِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، وَوَافَقَهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِيهِ لِقِيَامِهِ عَلَى الشَّكِّ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ.
الْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِذَا وَافَقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَيَجْزِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْإِجْزَاءِ: هَلْ يَكُونُ صَوْمُهُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً؟ وَجْهَانِ، وَقَالُوا: إِنْ وَافَقَ بَعْضُ صَوْمِهِ أَيَّامًا يَحْرُمُ صَوْمُهَا كَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَقْضِيهَا.
الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمَّا يَأْتِ رَمَضَانُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ إِذَا جَاءَ بِلَا خِلَافٍ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يُجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْحُجَّاجِ يَوْمُ عَرَفَةَ فَوَقَفُوا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
الْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ بَعْضَ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمَةُ.
وَالْمَحْبُوسُ إِذَا صَامَ تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ صَوْمُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لِانْعِدَامِ نِيَّةِ صَوْمِ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ ظَرْفٌ لَا يَسَعُ غَيْرَ صَوْمِ فَرِيضَةِ رَمَضَانَ، فَلَا يُزَاحِمُهَا التَّطَوُّعُ وَالنَّذْرُ.
صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ نَهَارُ رَمَضَانَ بِلَيْلِهِ:
95- إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْأَسِيرُ أَوِ الْمَحْبُوسُ فِي رَمَضَانَ النَّهَارَ مِنَ اللَّيْلِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ ذَكَرَهَا، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلصَّوَابِ:
أَحَدُهَا: يَصُومُ وَيَقْضِي لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ.
الثَّانِي: لَا يَصُومُ، لِأَنَّ الْجَزْمَ بِالنِّيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْوَقْتِ.
الثَّالِثُ: يَتَحَرَّى وَيَصُومُ وَلَا يَقْضِي إِذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَحْبُوسِ الصَّائِمِ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا صَادَفَ صَوْمُهُ اللَّيْلَ ثُمَّ عَرَفَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ كَيَوْمِ الْعِيدِ.
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-المعجم الغني (مُعْتَقَلٌ)
مُعْتَقَلٌ(مُعْتَقَلَةٌ )- الجمع: (مُعْتَقَلُونَ، مُعْتَقَلَاتٌ ). [عقل]، (اسم مفعول مِن: اِعْتَقَلَ)، "أَخْبَرُوهُ أَنَّ ابْنَهُ مُعْتَقَلٌ": أَيْ تَمَّ اعْتِقالهُ، حَبْسُهُ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
9-لسان العرب (سول)
سول: سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ كَذَا: زَيَّنَتْه لَهُ.وسَوَّل لَهُ الشيطانُ: أَغْواه.
وأَنا سَوِيلُكَ فِي هَذَا الأَمر: عَدِيلُك.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اللَّهُمَّ إِلا أَن تُسَوِّلَ لِي نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لَا أَجِدُه الْآنَ»؛ التَّسْوِيل: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وتزيينُه وتَحْبِيبُه إِلى الإِنسان لِيَفْعَلَهُ أَو يَقُولَهُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}؛ هَذَا قَوْلُ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِوَلَدِهِ حِينَ أَخبروه بأَكل الذِّئْبِ يوسفَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا أَكَلَهُ الذئْب بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفسكم فِي شأْنه أَمرًا أَي زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنفسكم أَمرًا غَيْرَ مَا تَصِفُون، وكأَنَّ التَّسْوِيلَ تَفْعِيلٌ مِنْ سُوِلَ الإِنسان، وَهُوَ أُمْنِيَّته أَن يَتَمَنَّاها فتُزَيِّن لِطَالِبِهَا الباطلَ وغيرَه مِنْ غُرور الدُّنْيَا، وأَصل السُّول مَهْمُوزٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، اسْتَثْقَلُوا ضَغْطة الْهَمْزَةِ فِيهِ فَتَكَلَّمُوا بِهِ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزِ؛ قَالَ الرَّاعِي فِيهِ فَلَمْ يَهْمِزه:
اخْتَرْنَك الناسُ، إِذ رَثَّتْ خَلائِقُهُم، ***واعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجى عِنْدَه السُّولُ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَن أَصل السُّول هَمْزٌ قراءةُ القُرَّاء قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى}؛ أَي أُعْطِيت أُمْنِيَّتك الَّتِي سَأَلْتَها.
والتَّسَوُّلُ: استرخاءُ الْبَطْنِ، والتَّسَوُّنُ مِثْلُهُ.
والسَّوَلُ: استرخاءُ مَا تَحْتَ السُّرَّة مِنَ الْبَطْنِ، ورجُل أَسْوَلُ وامرأَة سَوْلاء قوم سُولٌ.
ابْنُ سِيدَهْ: الأَسْوَلُ الَّذِي فِي أَسفله اسْتِرْخَاءٌ؛ قَالَ المُتَنَخِّل الهُذلي:
كالسُّحُل البيضِ، جَلا لَوْنَها ***سَحُّ نِجاءِ الحَمَل الأَسْوَل
أَراد بالحَمَل السَّحابَ الأَسود.
وسَحابٌ أَسْوَلُ أَي مُسْتَرْخٍ بَيِّنُ السَّوَل، وَقَدْ سَوِلَ يَسْوَلُ سَوَلًا، وامرأَة سَوْلاء.
والأَسْوَل مِنَ السَّحَابِ: الَّذِي فِي أَسفله اسْتِرْخَاءٌ ولهُدْبهِ إِسْبالٌ.
ودَلْوٌ سَوْلاء: ضَخْمة؛ قَالَ: " سَوْلاء مَسْك فارضٍ نَهِيٍ "وسَلْتُ أَسالُ سُولًا: لُغَةٌ فِي سأَلْت؛ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: سُوالًا وسِوالًا كجُوَارٍ وجِوار، وَحَكَى أَبو زَيْدٍ: هُمَا يَتَساوَلانِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنها وَاوٌ فِي الأَصل عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ، وَلَيْسَ عَلَى بَدَلِ الْهَمْزِ.
ورَجُل سُوَلةٌ على هذه اللغة: سَؤول، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي سُوَال وأَسْوِلَة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
10-تهذيب اللغة (سول)
سول: أبو العبّاس عن ابن الأعرابي: رجل أسْوَل، وامرأةٌ سَوْلاء: إذا كان فيهما استرخاء.قال: واللَّخَا مِثْلُه، وقد يَسْوَلُ سَوَلا، وقال المتنخِّل:
كالسُّحُلِ البِيضِ جَلَا لَوْنَها *** هَطْلُ نِجَاءِ الحَمَلِ الأَسْوَلِ
أراد بالحَمل: السَّحابَ الأسوَد، والأسْوَل من السحاب: الّذي في أسفله استرخاء ولهَدبه إِسْبال، وقد سَوِلَ يَسْوَلُ سَوَلا، وقولُ الله جلّ وعزّ: {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، هذا قولُ يعقوبَ عليهالسلام لولدِه حين أخبَروه بأَكلِ الذِّئب يوسف، فقال لهم:
ما أَكلَه الذئب، (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) في شأنه، أي: زَيَّنتْ لكم أنفسُكم أمرا غيرَ ما تَصِفون، وكأنّ التَّسْوِيلَ تفعيلٌ من سُوِلَ الإنسان وهو أمنِيَّتُه التي يتمنّاها فتُزيِّن لطالبها الباطلَ والغُرور.
وأصلُ السُّؤَال مهموزٌ غير أنَّ العرب استثقلوا ضَغْطَةَ الهمزة فيه فخفَّفوا الهمزَة قال الراعي في تخفيف همزِه:
اخْتَرْتُكَ الناسَ إِذْ رَثَّت خَلائقُهمْ *** واعتَلَّ من كان يُرجَى عنده السُّولُ
والدّليل من كان يُرجَى عنده السُّولُ والدّليل على أنّ الأصلَ فيه الهمز قراءة القرّاء: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} [طه: 36]، أي: أُعطيتَ أمنيتَكَ التي سأَلتَها.
وقال الزّجّاج: يقال: سَأَلْتُ أسأَل وَسلْتُ أَسَلُ، والرَّجُلانِ يَتَساءَلان ويَتَسايَلان.
وقال اللّيث: يقال: سَأَل يَسْأَلُ سُؤَالا ومَسْألَةً.
قال: والعربُ قاطبةً تحذِف همزَ سَلْ فإذا وَصلتْ بالفاء والواو همزتْ كقولك: فاسأل، واسأل: وجمعُ المَسْأَلَة مَسَائِل، فإذا حذَفوا الهمزة قالوا: مَسَلَة، والفقيرُ يسمَّى سَائِلا.
وقرأ نافع وابنُ عامر {سَالَ} غير مهموز «سائِلٌ» وقيل معناه: بغير همز: سال وادٍ {بِعَذابٍ واقِعٍ}.
وقرأ سائر القرّاء: ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون {سَأَلَ سائِلٌ} [المعارج: 1] مهموز بالهمز على معنى دَعا
داعٍ.
وجمع السَّائِل الفقيرِ: سُؤَّال.
وجمع مَسِيل الماء: مَسَايِل بغير همز.
وجمع المَسْأَلة: مَسَائِل بالهمز.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
