نتائج البحث عن (أَخْبِرْنِي)
1-العربية المعاصرة (خبر)
خبَرَ يَخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خابِر وخبير، والمفعول مَخْبور.* خبَر الحياةَ: علِمها وعرَف حقيقتَها عن تجربة (لقد خَبَرْتك وعرفت صدقَ طويّتك- {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [قرآن]) (*) مِنْ أين خَبَرْت هذا الأمر؟: أي من أين عرفت حقيقتَه؟.
* خبَرَ الرَّجُلَ: اختبره، امتحنه ليعرفَ حقيقتَه.
خبُرَ/خبُرَ ب يخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خبير، والمفعول مَخْبُور به.
* خبُر الشَّخصُ: صار خبيرًا.
* خبُر بالأمرِ: عرفه معرفة جيِّدة (صاحب الكلام أخبر بمعناه- {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [قرآن]).
خبِرَ يَخبِر، خَبَرًا، فهو خابر، والمفعول مَخْبور.
* خبِر الشَّيءَ والشَّخصَ: علمه وعرفه على حقيقته.
أخبرَ يُخبر، إخبارًا، فهو مُخبِر، والمفعول مُخبَر.
* أخبره وقائع المؤتمر/أخبره بوقائع المؤتمر/أخبره عن وقائع المؤتمر: أعلمه وأنبأه بها (أخبر شخصًا بالتفاصيل- أخبرني عن جليّة الأمر: حقيقته).
اختبرَ يختبر، اختبارًا، فهو مختبِر، والمفعول مختبَر.
* اختبر الدَّواءَ: جرَّبه، أخضعه للاختبار، فحصه ليعرف حقيقتَه (اختبر السِّلاحَ).
* اختبر الشَّخصَ: امتحنه (اختبره في القراءة/الكتابة/القيادة/المعلومات العامّة- عقد المدرس اختبارًا مفاجئًا لطلابه).
* اختبر اللهُ النَّاسَ: ابتلاهم امتحانًا لقوّة إيمانهم، وهو أعلم بها.
استخبرَ يستخبر، استخبارًا، فهو مستخبِر، والمفعول مستخبَر.
* استخبره عن الأمر: طلب منه أن يخبره حقيقتَه، سأله عنه والتمس معرفتَه (استخبره عن صحّة/أحوال أبيه- استخبره عمّا يجري في فلسطين).
تخابرَ يتخابر، تخابُرًا، فهو متخابِر.
* تخابر مع صديقه: تبادل معه الأخبارَ (تخابر الشخصان هاتفيًّا- قُبض عليه بتهمة التخابر مع دولة أجنبيّة: بتهمة إمدادها بمعلومات عن بلده).
تخبَّرَ يتخبَّر، تخبُّرًا، فهو متخبِّر، والمفعول متخبَّر.
* تخبَّر الأمرَ: تعرَّفه على حقيقته.
خابرَ يخابر، مُخابَرَةً، فهو مخابِر، والمفعول مخابَر.
* خابر صديقَه:
1 - باحثه، بادله الأخبار (خابره في الأمر فوجد لديه كلّ تفهُّم).
2 - كالمه، اتّصل به هاتفيًّا (أرجو أن تخابرني حال نجاحك).
* خابر المالكُ الفلاَّحَ: [في القانون] سلّمه أرضَه لاستثمارها على نصيب معيّن كالثلث والربع وغيرهما، شاركه في زراعة أرض على نصيب معيَّن.
خبَّرَ يخبِّر، تخبيرًا، فهو مخبِّر، والمفعول مخبَّر.
* خبَّره الأمرَ/خبَّره بالأمر/خبَّره عن الأمر: أخبره به، أعلمه إيّاه وأبلغه به، أنبأه به (من خبَّر بنبأ فقد أنار- خبّره ما جرى في غيابه).
إخبار [مفرد]:
1 - مصدر أخبرَ.
2 - [في القانون] قيام سلطة رسميّة أو موظّف، أو قيام من شاهد اعتداء على الأمن العام أو حياة الناس بإبلاغ المدعي العام التابع له محلّ وقوع الجريمة.
أخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى أخبار: على غير قياس: مؤرِّخ (الطبري من أبرز الأخباريِّين العرب) (*) صحيفة أخباريّة: تُعنى بالأخبار والأحداث.
إخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إخبار: إعلاميّ، مهتمّ بنشر الأخبار (شريط إخباريّ- قام الإخباريّون بتغطية أحداث الحفل وبثِّه على الهواء مباشرة).
* الإخباريّ من الأفعال: الذي يعبِّر عن إخبار، كالفعل قال أو روى.
إخبارِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إخبار: (نشرة إخباريّة) (*) رسالة إخباريّة: تقرير مطبوع يُزوَّد بأخبار ومعلومات ذات أهميّة لجماعة مُعيَّنة.
2 - مصدر صناعيّ من إخبار: خبر منقول بطريقة سرِّيَّة (وصلت إلى الشُّرطة إخباريّة بوجود مهرِّبين على الحدود).
3 - [في الفلسفة والتصوُّف] فرقة من الإماميّة، وهم فرقة من الشِّيعة قالوا بالنصِّ الجليّ على إمامة علي رضي الله عنه، وكفَّروا الصحابةَ ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق.
اختبار [مفرد]: جمعه اختبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر اختبرَ.
2 - امتحان، تجربة (اجتاز الاختبارات جميعها بنجاح باهر- جرّبه على سبيل الاختبار- الاختبار مُعلِّم أخرس) (*) اختبار الطَّريق: اختبار يُجرى للمركبات لمعرفة مقدار صلاحيتها للسير على الطرق، فحص للشَّخص الذي يسعى للحصول على رُخصة قيادة لمعرفة قدرته على القيادة في الطرق- اختبار قيادة: امتحان في آداب المرور وقيادة السَّيارة- اختبار معاكس: اختبار يهدف إلى التحقق من أن نتائج اختبار أوَّلٍ صحيحةٌ- بالون اختبار: امتحان أو تجربة لجسّ نبض الرأي العام- تحت الاختبار: موضوع تحت الملاحظة؛ لمعرفة مدى صلاحيته- حَقْل اختبار: حقل للاختبارات الزراعيّة، ومجازًا: إخضاع مجتمع أو جماعات لتجربة أو تجارب يكون الغرض منها تحقيق شعارات- على سبيل الاختبار: للتجربة- ورقة اختبار: ورقة مشبَّعة بصبغة عبَّاد الشمس؛ لإجراء اختبارات كيميائيّة.
* اختبار القُدْرة: قياس قدرة العامل على أداء واجبات معيَّنة كالقدرة الميكانيكيّة، والقدرة الكتابيَّة، والقدرة الفنِّية.
* الاختبار الأحيائيّ: [في الكيمياء والصيدلة] تحديد نوع القوّة أو النَّشاط الحيويّ لمادَّة كالعقار أو الهرمون بمقارنة نتائجه مع تلك التي أجريت على حيوان في مختبر.
* أنبوب اختبار: [في الكيمياء والصيدلة] مخبار، أنبوب زجاجيّ أسطوانيّ مفتوح من جانب ودائريّ من الجانب الآخر ويستخدم في التَّجارب المخبريّة.
* اختبار الحساسيَّة: [في الطب] اختبار لبيان مدى التَّأثُّر بدواء مُعيّن أو بمرض مُعْدٍ، بوضع لزقات على الجلد، أو بإحداث خدوش جلديّة وتعريضِها لجرعاتٍ تُسَبِّبُ المرض أو العدوى.
* اختبار الذَّكاء: [في علوم النفس] نوع من الاختبارات لقياس مستوى الذكاء والقدرات العقليّة، اختبار معياريّ لتحديد مُستوى الذكاء عن طريق قياس القدرة الفرديّة على تكوين المفاهيم وحلّ المشكلات واكتساب المعلومات وتأدية عمليّات ذهنيّة أخرى.
اختباريّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى اختبار: تجريبيّ، قائم على الاختبار والملاحظة (أسلوب اختباريّ).
2 - استقرائيّ، ناتج عن بحث وتتبُّع (حُكم اختباريّ).
اختباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اختبار: (يقضي المعيّنون الجدد فترة اختباريّة مدّتها ستة أشهر- حفرت الشَّركة عشرين بئرًا اختباريّة تنقيبًا عن البترول).
2 - مصدر صناعيّ من اختبار: قابلية شيء للسَّبْر والامتحان (اختباريّة ذاكرة).
3 - تجريبيّة، مذهب يقول بأن المعرفة كلّها مستمدّة من التّجربة والاختبار.
استخبار [مفرد]: جمعه استخبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر استخبرَ.
2 - مُحَرَّر يتضمّن أسئلة عن شئون خاصَّة بالمسئول للإجابة عنها (*) إدارة الاستخبارات/دائرة الاستخبارات: مركز لجمع المعلومات عن العدوّ حماية لأمن الدولة والسلامة العامّة- الاستخبارات العسكريَّة: مركز لجمع المعلومات العسكريَّة.
* جهاز الاستخبارات: مباحث، جهاز رسميّ يتولَّى أعمال التجسُّس على العدوّ والكشف عمّا يعرّض أمن الدولة الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (جنّدتهم أجهزة استخبارات العدوّ عملاء لها).
استخباراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبارات: على غير قياس (زعمت مصادر استخباراتيّة أمريكيّة أن لدى العراق أسلحة دمار شامل).
2 - مصدر صناعيّ من استخبارات: معلوماتيّة؛ مجموع التقنيَّات المتعلِّقة بالمعلومات ونقلها.
استخباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبار: (تم القبض عليه بتهمة القيام بنشاطات استخباريّة لصالح بلد أجنبيّ).
2 - مصدر صناعيّ من استخبار: تجسُّسيّة.
* دوائر استخباريَّة: مراكز لجمع المعلومات من أيّ مكان لحماية أمن الدَّولة أو المؤسَّسة العسكريّة.
خابور [مفرد]: جمعه خَوَابيرُ:
1 - قطعة من خشب أو مطّاط يُسَدّ بها ثقب في الحائط ليسهل دقّ المسمار وتثبيته فيه.
2 - قطعة معدنيّة مدبّبة تمكّن من قرن محورين بالطَّرف أو من فك تقارنهما (خابور ربط).
3 - [في النبات] شجيرة طبيَّة وتزيينيَّة ذات زهر أصفر طيِّب الرائحة وثمارها سوداء.
خَبَر [مفرد]: جمعه أخابيرُ (لغير المصدر) وأخبار (لغير المصدر):
1 - مصدر خبِرَ.
2 - نبأ، ما يُعَبَّر به عن واقعة ما، ما ينقل من معلومات ويُتحدَّث بها قولًا أو كتابةً وتعبّر غالبًا عن أحداث جديدة كتلك المذكورة في الصحف والإذاعة والتليفزيون (تسرّبت الأخبار- نشر خبرًا- سأله عن أخباره- عند جُهَيْنة الخَبَر اليقين [مثل]: يُضرب في معرفة حقيقة الأمر- {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [قرآن]) (*) أخبار مَحَلِّيَّة: داخليَّة أو خاصَّة ببلدٍ ما، عكسها أخبار أو شئون عالميَّة- أصبح في خبر كان: هلَك وفَنِي- تشويه الأخبار- خبر صاعق: سيِّئ، مفاجئ وغير منتظَر- سأله عن أخباره: استفسر عن أحواله- صادق الخبر: صحيح النبأ، صَدُوق المقال- على هامش الأخبار: تعليق على الأخبار- مُرَمّات الأخبار: أكاذيبها- نشرة الأخبار: ما يقرأه المذيع في الراديو والتلفاز من أخبار محليَّة وخارجيَّة ليطّلع عليها الجمهور أو الرأي العام.
3 - حديث نبويّ (*) خبر متواتر: حديث ترويه جماعة عن جماعة.
4 - عمل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [قرآن].
5 - [في البلاغة] قول يحتمل الصِّدق والكذب لذاته.
6 - [في النحو والصرف] لفظ مجرد عن العوامل اللفظيّة، أُسند إلى المبتدأ متمّمًا معناه ويصحّ السكوت عليه.
* خبر آحاد: حديث انفرد به راوٍ واحد وإن تعددتِ الطرق إليه.
خُبْر [مفرد]: مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) لأَخْبُرنَّ خُبْرك: لأعلمنَّ علمَك.
خِبْرة [مفرد]: جمعه خِبْرات (لغير المصدر) وخِبَر (لغير المصدر):
1 - مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) أهل الخِبْرة: الخُبراء ذوو الاختصاص الذين يعود لهم حقّ الاقتراح والتقدير.
2 - نتاج ما مرّ به الشَّخص من أحداث أو رآه أو عاناه، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته (له خِبْرة بالاقتصاد العالميّ- الشباب تنقصهم الخِبْرة) (*) تبادُل الخِبْرات: استفادة كلِّ شخص بخِبْرة الآخر.
* شهادة الخِبْرة: مستند لإثبات الخِبْرة.
خَبَرِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى خبَرَ.
2 - مصدر صناعيّ من خَبَر: نبأ (وصلته خبريّة كاذبة).
* الجملة الخبريَّة: (نح، بغ) الجملة التي تحتمل الصِّدق أو الكذب.
خَبير [مفرد]: جمعه خُبَراءُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب: (هم خبراءُ في مجال الطاقة/الزراعة- اختير خبيرًا بمجمع اللُّغة العربيَّة) (*) خبير تربويّ: مختصّ في نظريّات التربية والتعليم- هيئة الخُبَراء: مجموعة من الخُبراء غير الرسميِّين الذين يقومون بإسداء النصح والمشورة لواضعي السياسات خاصّة في حكومة.
2 - عارف بالأمر على حقيقته، عالم بالبواطن والظواهر {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [قرآن].
3 - [في القانون] مُخْبِر، شخص تعيِّنه محكمة وتكلِّفه بالكشف عن بعض الوقائع وإبداء ملاحظاته في تقرير تستند إليه في حكمها (فجّر تقرير الخبير مفاجأة في القضيّة) (*) خبير مُحلَّف: الذي يؤدِّي اليمينَ أمام المحكمة.
* الخبير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: العالم بكُنْه الشّيء، المطّلع على حقيقته، الذي لا تخفى عليه خافية {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [قرآن].
مُخابرات [جمع]: مفرده مُخابرة: اتِّصالات لجمع الأخبار (مخابرات سرِّيّة).
* جهاز المخابرات: جهاز الاستخبارات، جهاز رسميّ يتولّى جمع الأخبار لصالح دولة معيّنة لحفظ أمنها، والكشف عمّا يعرِّض أمنها الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (*) إدارة المخابرات/دائرة المخابرات/قلم المخابرات: مركز لجمع المعلومات حمايةً لأمن الدولة.
مخابراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى مُخابرات: على غير قياس (تلقَّى دورة مخابراتيّة في إحدى الدول الكبرى).
2 - مصدر صناعيّ من مُخابرات: استخباراتية، معلوماتيّة.
مُخابرة [مفرد]:
1 - مصدر خابرَ (*) مخابرة تليفونيّة/مخابرة سريّة.
2 - [في القانون] أن يُعطي المالكُ الفلاحَ أرضًا يزرعها على بعض ما يخرج منها كالرّبع أو الثلث.
مِخْبار [مفرد]: جمعه مَخابيرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الكيمياء والصيدلة] إناء أسطوانيّ مدرّج على شكل أنبوب تقاس به حجوم السوائل والمحاليل في المعامل (مخبار مدرّج).
مَخْبَر [مفرد]: جمعه مَخابِرُ: اسم مكان من خبَرَ: مكان الفحص والمراقبة والتحرِّي وإجراء التجارب (يعمل هذا الشابُّ في مخبر كيميائيّ).
* مَخْبَر الشّخص: دخيلته وحقيقته، عكس مظهره أو منظره (مخبر شيطان في مظهر ملائكيّ- منظره خير من مخبره).
مُخْبِر [مفرد]:
1 - اسم فاعل من أخبرَ.
2 - من يقوم بمهمّة جمع المعلومات أو الأخبار لغرض معيَّن (استعانت الشرطة بالمخبرين في القبض على اللصوص) (*) مُخبر خاصّ: من يقدم خدمات لأفراد أو شركات- مُخبر صحفيّ: من يزوّد الصَّحيفةَ بالأخبار.
مِخْبَرَة [مفرد]: جمعه مَخابِرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الطبيعة والفيزياء] أداة تتركّب من موصل يُجعل عادة على شكل قرص صغير، له يد عازلة تُستخدم في اختبار الشُّحنات الكهربائيّة.
مُخْتَبَر [مفرد]:
1 - اسم مفعول من اختبرَ.
2 - اسم مكان من اختبرَ.
3 - [في الكيمياء والصيدلة] مَعْمَل، مكان مجهَّز تُجرى فيه التجاربُ العلميَّة والاختبارات والتحليلات الكيماويَّة وغيرها (مختبر الكيمياء/الفيزياء/اللغة/الفضاء- مختبر نوويّ).
مُخْتَبَرِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مُخْتَبَر: قائم على التجربة والاختبار في المعامل والمُختبرات (أبحاث/تحاليل مختبريّة).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (رأى)
رأَى يَرَى، رَه، رُؤيةً، فهو راءٍ، والمفعول مَرئِيّ.* رأى الهلالَ: أبصره بالعَيْن (رأيتُ النجمَ يسبح في السماء- حجب الضبابُ الرُّؤية- {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [قرآن]) (*) ألم تر إلى كذا: كلمة تقال عند التعجُّب- داري ترى داره: تقع مُقابِلةً له- رأى النُّجومَ ظهرًا: حلَّ به مكروه لم يعهده من قبل- رأى منه عجبًا: رأى شيئًا لم يكن يتوقعه- لا يرى أَبْعَد مِن أَنْفه: قاصر الفهم، ليس لديه بُعْد نظر للأمور.
* رأى الشَّخصُ الأمرَ: تأمَّله، تروَّى فيه.
* رأى الشَّيءَ: وَجَدَه {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا} [قرآن].
رأَى يَرَى، رَه، رُؤْيا، فهو راءٍ، والمفعول مَرْئِيّ.
* رأى في منامه كذا: حَلَم (رأيْتُ فيما يرى النّائم أنّني أطوف حول الكعبة- {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [قرآن]).
رأَى يَرَى، رَه، رَأْيًا، فهو راءٍ، والمفعول مَرْئيّ.
* رأى العالِمُ شيئًا: اعتقده ونادى به (عبّر عن رأيه بصراحة- رأى في الفقه رأيًا).
* رأى فلانًا عالمًا: ظنّه أو علمه كذلك (يرى المؤمنُ الحسابَ حقًّا- رأيتُني على حقٍّ) (*) أرأيت: ماذا تظن؟ أخبرني- أُراه: أظنه- تُرى/يا تُرى/يا هل تُرى: يا رجل هل ترى وتظن؟ لإفادة التعجّب مع طلب الرأي من السامع.
أرى/أرى ب يُري، أرِ، إراءةً، فهو مُرٍ، والمفعول مُرًى.
* أراه طريقَ الصَّواب: عرَّفه به وأطلعه عليه، جعله ينظر إليه (أراه كيف تدور الآلة- أراه البضاعةَ- {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [قرآن]).
* أرى اللهُ بفلان: نكّل به، وأرى عدوَّه فيه ما يشمت به.
ارتأى يرتئي، ارْتإِ، ارْتِئاءً، فهو مُرْتَئٍ، والمفعول مُرْتَأًى.
* ارتأى الشَّخصُ الأمرَ:
1 - اعتقده ونادى به (ارتأى الفقهاءُ حلَّ كذا- ارتأى مَخْرجًا من مشكلته- ارتأى في الأمر رأيًا- ارتأى بالأمر رأيًا).
2 - شكّ فيه.
* ارتأى الشَّيءَ: رآه؛ أبصره بعينه.
استرأى يسترئي، اسْتَرْإِ، استرئاءً، فهو مُسْتَرْءٍ، والمفعول مُسْتَرْأًى.
* استرأى الشَّخصَ:
1 - عدَّه مُرائيًا (يُظهر أمامَ الناس خلاف ما يُبطن).
2 - استشاره (استرأى عالِمًا/أباه).
3 - طلب رؤيتَه (استرأى أمَّه وهو يُحتضَر).
* استرأى الشَّيءَ: أبصره.
تراءى يتراءى، تَراءَ، ترائيًا، فهو مُتراءٍ.
* تراءى القومُ: أبصر بعضُهم بعضًا ({فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [قرآن]: التقتا).
* تراءى الشَّيءُ: ظهَر وبدا (يتراءى لي أن مصلحتك في إكمال تعليمك: يبدو لي ذلك- تراءى المنظر في خيالي).
راءى يُرائي، راءِ، رِياءً ورِئاءً ومُراءاةً، فهو مُراءٍ، والمفعول مُراءًى.
* راءى النَّاسَ: نافَق، أظهر أمامهم خلاف ما هو عليه (راءَى رئيسَه- {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِيَاءَ النَّاسِ} [قرآن] - {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلًا} [قرآن] - {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [قرآن]: مرائين لهم التماسًا للجاه وطلبًا للثناء).
إراءة [مفرد]: مصدر أرى/أرى ب.
ارتئاء [مفرد]: مصدر ارتأى.
استرئاء [مفرد]: مصدر استرأى.
رِئة [مفرد]: جمعه رِئون ورِئات: [في التشريح] عضو التنفس وهما رئتان: رئة يُمنى ورئة يُسرى، للإنسان والحيوان تقعان في التجويف الصدريّ، تتّصفان بالمرونة، تمتصان الأكسجين من هواء الشهيق وتُخرجان ثاني أكسيد الكربون مع هواء الزفير (*) تنفَّس بملء رئتيه: شعر بالراحة.
* قصبة الرِّئة: [في التشريح] أنبوب رقيق الجدار من الأنسجة الغضروفيّة الغشائيّة ينحدر من الحنجرة إلى القصبات الهوائية ويحمل الهواء إلى الرِّئة.
* ذات الرِّئة: [في الطب] التهاب يصيب فصًّا أو فصوصًا من الرئة، وهو عبارة عن ورم حارّ ينتج عن دمٍ أو صفراء أو بلغم مالح عفن.
رِئويّ [مفرد]: اسم منسوب إلى رِئة: (تدرّن رِئويّ- سلٌّ رِئويّ).
* الصِّمام الرِّئويّ: [في التشريح] أحد صمامين أحدهما على فتحة الأورطي، والآخر على فتحة الشريان الرِّئوي، وكلّ منهما مصنوع من ثلاث شرفات هلاليّة الشَّكل تعمل على منع الدَّم من العودة إلى البطين.
* اضطرابات رئويَّة: [في الطب] مجموعة من الأمراض يصاحبها عدم القدرة على تنفُّس الأكسجين إلى الرئة، وطرد ثاني أكسيد الكربون، وهذه الاضطرابات تشمل أيضًا الربو والالتهاب الرئويّ وغيرها، ولها أسباب كثيرة كالتدخين ومرض الجهاز التنفُّسيّ وتعطُّل القوى التنفُّسيّة.
رَأْي [مفرد]: جمعه آراء (لغير المصدر):
1 - مصدر رأَى.
2 - حُكم وتقدير لعمل أو موقف معيّن وكثيرًا ما يتأثَّر بالظروف والملابسات (لا تتعجّل في إصدار رأيكَ- باتِّفاق الآراء- اختلاف الرَّأي لا يفسد للودّ قضيّة- لا رأي لمن لا إرادة له [مثل] - الرَأْي قبل شجاعة الشُّجعان.. هو أوّلٌ وهي المحلّ الثاني) (*) أخْذُ الرَّأي على أمر: إجراءُ تصويتٍ عليه- أصحاب الرَّأي والقِياس/أهل الرَّأي والقِياس: الفقهاء الذين يستخرجون أحكامَ الفتوى باستعمالهم رأيهم الشّخصيّ والقياس الشرعيّ فيما لا يجدون فيه حديثًا أو أثرًا- استطلاع رأي: طريقة فنِّيَّة لجمع المعلومات التي تُستخدم في معرفة رأي مجموعة من الناس في مكان مُعيَّن ووقت مُعيَّن عن موضوع مُعيَّن- الرَّأي العامّ: رأي أكثريَّة النَّاس في وقت مُعيَّن إزاء موقف أو مشكلة من المشكلات- ذو الرَّأي: الحكيم العاقل، ذو البصيرة والحذق بالأمور- رأي الإجماع: الرَّأي الذي تتَّحد فيه كل الآراء الفرديّة والجماعيَّة، وتظهر فيه عقيدة عامَّة يقف الجميع خلفها- رأي الأغلبيّة: هو الذي يُمثِّل ما يزيد على نصف عدد أفراد الجماعة، وهو في الواقع عبارة عن عدَّة آراء أقليَّات مختلفة اجتمعت حول هدف مُعيَّن- رأي الأقلِّيَّة: رأي ما يقلّ عن نصف عدد أفراد الجماعة ويُعبِّر عن آراء طائفة من هؤلاء الأفراد- رأيته رأي العين: وقع عليه بصري- سجين الرَّأي: من يُسجن بسبب اختلافه في الرَّأي مع النظام الحاكم- صاحب رأي/أصحاب رأي: شخص أو مجموعة أشخاص يجسِّدون خصائص ذهنيّة معيّنة- فلانٌ صُلْب الرَّأي/فلان عند رأيه: متمسك برأيه لا يتزحزح عنه- قويم الرَّأي: ذو آراء ووجهات نظر مبنيّة على ما هو صحيح أو المقصود بأن يكون صحيحًا.
3 - ما ارتآه الإنسان واعتقده.
4 - [في الفقه] استنباط الأحكام الشرعيّة في ضوء قواعد مقرّرة.
* صحافة الرأي: صحافة تختار من مادة الرأي العام ما يلائم دعوتها السياسيّة ويؤيِّد فكرتها الحزبيّة.
* قسم الرَّأي: [في القانون] إدارة الفتوى وأخذ الرَّأي القانونيّ.
رِئْي [مفرد]: ما رأته العين من حالٍ حسنة وكسوة ظاهرة {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [قرآن].
رُؤْيا [مفرد]: جمعه رُؤًى (لغير المصدر):
1 - مصدر رأَى (*) الرُّؤيا الصَّادقة: أول طريق لكشف الغيب، وقد بدأ الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلم نبوَّته بالرّؤيا الصادقة.
2 - ما يَحْلُم به النائم (رؤيا طيِّبة- {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [قرآن]).
رؤية [مفرد]: جمعه رُؤًى (لغير المصدر):
1 - مصدر رأَى.
2 - حالة أو درجة كون الشّيء مرئيًّا (*) اختلاط الرُّؤية: غموض الأمر وعدم ظهور الصواب فيه- ذو رؤية: مُظْهر أو مُبْدٍ آراء صائبة- رؤية ثاقبة: رأيٌ سديد- رؤية عربيّة موحَّدة- مدى الرُّؤْية: أبعد مسافة يمكن رؤيتها دون أيّة مساعدة من أيّة أداة تحت ظروف جويّة معيّنة.
* الرُّؤية:
1 - إبصار هلال رمضان لأوّل ليلة فيه (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يومًا) [حديث] (*) لَيْلَةُ الرؤية: الليلة التي يعقبها شهر رمضان.
2 - الرؤية بالعين؛ وهي إدراك الأشياء بحاسّة البصر وعليها المعوّل في الشهادة.
* رؤية مجسَّمة:
1 - [في الطبيعة والفيزياء] إدراك الأجسام مجسَّمة بكلتا العينين.
2 - [في الأحياء] نوع من الرؤية تتميَّز بها الحيوانات التي لها عينان موجَّهتان للأمام وترى صور الأشياء ذوات عمق.
رِياء [مفرد]:
1 - مصدر راءى.
2 - تظاهر بخلاف ما في الباطن (فعل ذلك رياءً- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ) [حديث].
مِرآة [مفرد]: جمعه مَراءٍ ومرايا: اسم آلة من رأَى1: [في الطبيعة والفيزياء] سطح مستوٍ أو منحنٍ يعكس الضّوء عكسًا تنشأ عنه صورة لما أمامه، وقد تُصنع من فلزّ أو من زجاج مُغطَّى ظهره بالفضَّة (مرآة عاكسة- الكلمة مرآة الفكر) (*) صورة المرآة: صورة منعكسة كما تظهر في مرآة.
مَرْأَى [مفرد]:
1 - اسم مكان من رأَى1: منظر، مظهر؛ مكان النّظر (يخبر مَرْآه عن داخله- امرأة حَسَنة المرأى).
2 - في حدود الرُّؤية والمشاهدة (فعله على مرأى ومَسْمَع من الجميع).
مَرْئيّ [مفرد]:
1 - اسم مفعول من رأَى ورأَى ورأَى (*) الصُّورة المرئيّة: الجزء المرئيّ للبثّ التليفزيونيّ- وسيلة مرئيّة: مساعدة بصريّة كالنموذج البيانيّ النسبيّ أو شريط من الصور أو شريط فيديو حيث تقدِّم هذه الوسائل المعلومات بصريًّا.
2 - مُنشأ أو مصمَّم لإبقاء الأجزاء المهمّة في مكان يمكّن رؤيته أو يسهل الوصول إليه.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (عرف)
عرَفَ/عرَفَ ب يَعرِف، عِرفانًا، فهو عارِف، والمفعول مَعْروف.* عرَف الحقيقةَ/عرَف بالحقيقة: علمها وأدركها (عرَف صديقَه من عدوِّه- عالم المَعرِفة- اعرف نفسك تعرف ربَّك [مثل] - {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [قرآن]) (*) خالِف تُعْرَف [مثل]: يُضرب في التّفرّد بالفعل حتَّى تُعْرَف- عرَف حقَّ المَعرِفة: عرَف دون شكٍّ- عرَف غَوْر المسألة: عرَف حقيقتَها- لا يعرف صرفًا ولا عدلًا: جاهل بالأمور- لا يعرف قبيلًا من دبيرٍ: جاهل بالأمور- يَعْرِف من أين تُؤكل الكتِف [مثل]: داهية يأتي الأمورَ مأتاها، يعرف كيف يستفيد من الفُرَص- يعرفه عن ظهر قَلْب: يقينًا.
* عرَف الشّيءَ لفلان: سمّاه وعيَّنه له {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَفَهَا لَهُمْ} [قرآن]).
اعترفَ إلى/اعترفَ ب يَعترف، اعترافًا، فهو مُعترِف، والمفعول مُعترَف إليه.
* اعترف إليَّ: أخبرني باسمه وشأنه.
* اعترف بذنبه: أقرَّ به على نفسه، دلَّ عليه (اعترف بالجميل: أقرَّ به وأعرب عن امتنانه- {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [قرآن]).
* اعترفت دولةٌ بدولةٍ أخرى: اعتبرتها دولةً شرعيَّةً وأقامت معها علاقاتٍ دبلوماسيَّةً.
تعارفَ/تعارفَ على يَتعارف، تعارُفًا، فهو مُتعارِف، والمفعول مُتعارَف عليه.
* تعارف الرَّجلان: تحقَّق كلاهما من الآخر وعرَفه (تعارف الصَّديقان بعد سنواتٍ من الفِراق- تعارف الطُّلاَّب: عرَف بعضُهم بعضًا- {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [قرآن]).
* تعارفوا على أمرٍ: أصبح متّفقًا عليه بينهم، تقال في السلوك والعادات والمعاملات ونحو ذلك حين تصبح مقبولة دون اتّفاق رسميّ (لُغةٌ مُتعارَفٌ عليها- أجرٌ مُتعارَفٌ عليه- هذا أمرٌ مُتعارَفٌ عليه).
تعرَّفَ/تعرَّفَ إلى/تعرَّفَ ب/تعرَّفَ على يَتعرَّف، تعرُّفًا، فهو متعرِّف، والمفعول متعرَّف إليه.
* تعرَّف الاسمُ: مُطاوع عرَّفَ: ضدّ تنكّر، لم يعد نكرة (يتعرَّف الاسم بدخول (أل) التّعريف عليه).
* تعرَّفَ إليه/تعرَّفَ عليه: عرَفه، تحقَّق منه بالنَّظر إلى صورته أو السَّماع إلى صوته أو بشبهٍ في معالمِه (تعرَّف إلى روائيٍّ من أسلوبه- تعرَّف إلى رجلٍ بالنَّظر إلى صورته- تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ) [حديث].
* تعرَّف بالعالِم: صار معروفًا عنده، جعله يعرفه.
عرَّفَ يُعرِّف، تعريفًا، فهو مُعرِّف، والمفعول مُعرَّف.
* عرَّف الشَّيءَ:
1 - حدَّد معناه بتعيين جنسه ونوعه وصفاته (عرَّف الجبلَ بأنّه كذا- عرَّف نبات كذا).
2 - طيَّبه وزيَّنه {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [قرآن].
* عرَّفه الأمرَ/عرَّفه بالأمر/عرَّفه على الأمر:
1 - أعلمه إيّاه، أخبره به وأطلعه عليه، هداه وأرشده إليه (عرَّفه ما حدث البارحة- عرَّفه نتيجة الامتحان- {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [قرآن]).
2 - نشده (عرَّف حقيبتَه المفقودة).
* عرَّفه بشخصٍ: أخبره باسمه (عرَّفه بزميله في العمل).
* عرَّف الاسمَ النَّكرةَ: [في النحو والصرف] أضاف إليه (أل) أو أضافه إلى معرفة، ضِدَّ نكَّرَه.
أعراف [جمع]: مفرده عُرْف:
1 - ظهر كلّ مرتفع من رمل أو جبل أو سحاب.
2 - ما تعارف عليه النَّاسُ في عاداتهم ومعاملاتهم (ينبغي احترام الأعراف السَّائدة) (*) الأعراف الاجتماعيَّة: العادات وما استقرّ عليه الناسُ في تصرُّفاتهم في المجتمع.
* الأعراف:
1 - الحاجز بين الجنَّة والنَّار {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [قرآن].
2 - اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 7 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ستٌّ ومائتا آية.
اعتراف [مفرد]: جمعه اعترافات (لغير المصدر):
1 - مصدر اعترفَ إلى/اعترفَ ب.
2 - [في القانون] إقرار المدّعي عليه أو المتَّهم صراحة أو ضمنًا بصحة الوقائع المنسوبة إليه أو المطلوبة منه (كان اعتراف الجاني مفاجأة للمحكمة) (*) الاعتراف سيِّد الأدلَّة: اعتراف الجاني بجريمته أقوى دليل.
* الاعتراف بالواقع: [في السياسة] اعتراف حكومة بحكومة ناشئة اعترافًا مؤقّتًا بالأمر الواقع دون أن ينشأ عنه تبادل التَّمثيل بين الدَّولتين.
تعريف [مفرد]: جمعه تعريفات (لغير المصدر {وتعاريفُ} [قرآن] لغير المصدر): مصدر عرَّفَ (*) أداة التَّعريف: الأداة التي تُعرِّف الاسم وهي (ال) في اللغة العربيّة.
* التَّعريف بالشَّيء: تقديم معلوماتٍ عنه (قدَّم تعريفًا بنبات كذا- قام المحاضر بتعريف السّامعين بمعنى اقتصاد السُّوق).
* تعريف الشَّيء: تحديد مفهومه الكلِّيّ بذكر خصائصه ومميّزاته (ورقة تعريف- اشتمل الكتاب على أبواب تتعلَّق بتعاريف القانون وأهدافه ونطاق تطبيقه) - غنِيّ عن التَّعريف: مشهور، لا يحتاج إلى تعريف.
تعريفة [مفرد]: جمعه تعريفات وتعاريفُ: [في الاقتصاد] قائمة تحدِّد أثمانَ السِّلع، أو أجورَ العمل، أو رُسومَ النَّقل، تسعيرة (التَّعريفة الجمركيَّة- وضعت الدَّولةُ تعريفة لأجور العُمّال).
عارف [مفرد]: اسم فاعل من عرَفَ/عرَفَ ب.
* العارف: (عند الصُّوفيّة) عابد منصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديمًا لشروق نور الحقّ في سرِّه.
عِرافة [مفرد]: حِرفة العرَّاف، وهي التّنجيم (*) عِرَافة الكفِّ: قراءة خطوط اليد للتّنبّؤ بالمستقبل.
عرَّاف [مفرد]: مُنجِّم، مَن يدَّعي القدرة على كشف المستقبل، متنبِّئ، متكهِّن (لم تتحقّق نبوءَةُ العرَّافين- فقلتُ لعرَّاف اليمامة داوني.. فإنّك إن أبرأتني لطبيبُ- مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَقْد كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) [حديث].
عَرْف [مفرد]: ريحٌ طيِّبة كانت أو منتنة، وأكثر استعماله للطَّيِّبة (لهذه الأزهار عَرْفٌ طيِّب- شَذا العَرْف- أَريجُ الزَّهر مِن عَرْفِكْ.. ومعنى السِّحْرِ في طَرْفِك).
عُرْف [مفرد]: جمعه أعراف:
1 - اسم ما تعطيه، معروف، جود {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [قرآن].
2 - ما اتَّفق عليه الناسُ في عاداتهم ومعاملاتهم واستقرّ من جيل إلى جيل (تصرُّفٌ خارج عن العُرْف- العُرْف الاجتماعيّ- للعُرْف قوّة القانون) (*) العُرْف الدُّوليّ: ما اتَّفقت عليه الدُّولُ في معاملاتها- العُرْف السِّياسيّ: تصرُّفات الحكَّام والسِّياسيّين الرَّسميّة (بروتوكول) - العُرْف القوليّ: هو أن يتعارف النَّاسُ على إطلاق اللَّفظ عليه- عُرْف الشَّرع: ما فُهم منه جملة الشَّرع وجعلوه مبنى الأحكام- عُرْف اللِّسان: ما يفهم من اللّفظ بحسب وضعه اللغويّ.
3 - شعر عُنق الخيل والبغال والحمير (عُرْف الفرس- {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا} [قرآن]: مُستعار من عُرْف الفرس).
4 - مكان مرتفع، زوائد زخرفيّة في أعلى البناء {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [قرآن].
* عُرْف الدِّيك: لحمة في أعلى رأسه.
عَرَفاتُ/عَرَفاتٌ [مفرد]: جبل مرتفع شرقيّ مكّة يقف به الحُجَّاج داعين، وهو من مناسك الحجّ خطب عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم خطبة الوداع (الوقوف بعرفات- {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ} [قرآن]).
* يوم عرفات: يوم عَرَفَة، اليوم التَّاسع من ذي الحجَّة.
عِرْفان [مفرد]: مصدر عرَفَ/عرَفَ ب (*) عِرفان الجميل: تقديره والاعتراف به وشكر صانعه.
عِرْفانيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى عِرْفان: (ظهرت لديه نزعات صوفيّة وعرفانيّة).
2 - مصدر صناعيّ من عِرفان.
3 - مذهب فلسفيّ صوفيّ باطنيّ قائم على العلم بأسرار الحقائق الدينيّة، وهو أرقى من العلم الحاصل لعامَّة المؤمنين (وصل إلى مرتبة العرفانيّة ببواطن الأمور).
عَرَفة [مفرد]: عرفات؛ جبل قريب من مكّة يقف به الحُجَّاج داعين، وهو من مناسك الحجّ، خطب عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم خطبة الوداع (الحَجُّ عَرَفةُ) [حديث].
* يوم عَرَفة: يوم عَرَفَات، اليوم التَّاسع من ذي الحجَّة.
عُرْفيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى عُرْف.
* الزَّواج العُرْفيّ: زواج لم يُثبَت في السِّجلاَّت وإنّما وقع أمام الشُّهود فقط.
* حُكْم عرفيّ: [في السياسة] حكم عسكريّ لا يجري على قواعد القانون العام مراعاةً لمقتضيات الأمن (مجلس عُرْفيّ- تمّ إعلان الأحكام العُرْفيّة).
* قانون عُرْفيّ: القواعد القانونيَّة التي أقرّتها العادات وتعارف عليها النَّاسُ.
* محكمة عُرْفيّة: عسكريّة لا تخضع لقانون المحاكم.
عَريف [مفرد]: جمعه عُرَفاءُ:
1 - [في العلوم العسكرية] رُتْبة عسكريَّة، فوق الجنديّ ودون الرَّقيب (عَريف أول/بحريّ/مجنّد/متطوّع).
2 - عالم بالشّيء، من يعرف أصحابه، القيِّم بأمر القوم.
مَعارفُ [جمع]: مفرده مَعرفة: معلومات، علوم (اكتساب المَعارف- رجلٌ متعدِّد المَعارف- مَعارف ضئيلة) (*) دائرة مَعارف: موسوعة من عِدّة أجزاء تبحث بصورة منهجيَّة في كلّ العلوم والفنون- وزارة المَعارف: الوزارة التي ترعى شئون التَّربية والتَّعليم ويُطلق عليها الآن في معظم البلاد العربيَّة وزارة التربية والتَّعليم.
* مَعارف الشَّخص: النَّاسُ الذين يعرفهم، وبينه وبينهم مودَّة ومَعرفة (هذا الرَّجل مَعارفه كثيرة- له مَعارف من أصحاب النُّفوذ).
مُعرِّف [مفرد]:
1 - اسم فاعل من عرَّفَ.
2 - [في الفلسفة والتصوُّف] طريق موصِّل إلى معرفة الشّيء بحدّه أو برسمه.
مَعرِفة [مفرد]: جمعه معارفُ (لغير المصدر):
1 - مصدر ميميّ من عرَفَ/عرَفَ ب (*) مَعرِفة مباشرة: مَعرِفة تنتفي فيها الواسطة بين الذات العارفة والموضوع المعروف.
2 - إدراك الشَّيء على ما هو عليه (هو أكثر منك مَعرِفة لهذا الموضوع- المَعرِفة قوَّة- حدث هذا بمَعرِفته: بعلمه، واطِّلاعه- النَّشاط بغير مَعرِفة حُمْق) (*) يَعرِفُه حقَّ المَعرِفة: يعرفه جيِّدًا.
* المَعرِفة:
1 - حصيلة التَّعلُّم عبر العصور.
2 - ضدّ النّكرة، الاسم الدّال على مُعيَّن مثل: الكتاب، قلم الحبر.
* نظريَّة المَعرِفة: [في الفلسفة والتصوُّف] البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشّخص والموضوع، أو بين العارف والمعروف، وفي وسائل المعرفة الفطريّة أو المكتسبة.
* دوائر المَعارِف: موسوعة، كتاب يضمُّ معلومات عن مختلف ميادين المعرفة، أو عن ميدان خاصّ منها، ويكون عادة مرتَّبًا ترتيبًا هجائيًّا.
* مَعرِفة الذَّات: تفهُّم الشَّخص لطبيعته أو قدراته أو حدوده، وعي بالممِّيزات والخصائص المكوِّنة لذات الفرد.
معرفيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مَعرِفة.
* الانفجار المعرفيّ: النِّموّ السَّريع في معظم حقول المعرفة والذي أدَّى إلى خلق صعوبات ومشاكل في البحث عن المعلومات واسترجاعها.
معروف [مفرد]:
1 - اسم مفعول من عرَفَ/عرَفَ ب.
2 - كلُّ فعلٍ حسنٍ يُعرف بالعقل أو بالشَّرع، عكْس مُنْكَر (الأمر بالمعروف- اصنع المعروفَ في أهله وفي غير أهله- {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [قرآن]).
3 - مشهور، معلوم، محبوب لدى الجميع، عكْسه مغمور (كاتب/رجلٌ معروف- معلومةٌ معروفة- {لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [قرآن]).
4 - جميل، فضل، إحسان، مساعدة (لن أَنْسَى معروفك أبدًا- غمرني صديقي بمعروفه- ومن يجعل المعروف في غير أهلهِ.. يكن حمدُه ذمًّا عليه ويندمِ) (*) أولاه معروفًا: صنعه إليه- ناكر المعروف: من يسيء إلى أحد أحسن إليه.
5 - متعارف عليه {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [قرآن].
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-شمس العلوم (جَذِيمَة)
الكلمة: جَذِيمَة. الجذر: جذم. الوزن: فَعِيلَة.[جَذِيمَة]: من أسماء الرجال.
وجَذِيمَة الأبرشُ بن مالك بن فَهمْ بن دَوْس: ملك من ملوك الأزد، قتلته الزَّبَّاء بنت عمرو الملكة العَمْلَقِيّة، ولهما حديث.
وجَذِيمَة الوضَّاح: ملك من ملوك حِمْيَر.
وهو جذيمة بن الحارث بن زُرْعَة بن ذي غَيْمان من ولد صَيْفِيّ بن حِمْيَر الأَصغر، قال قُسُّ بن ساعدة:
وجَذِيمَةُ الوَضَّاحُ أَخْبَرَني أَبي *** عنه فيا لَجَذِيمةَ الوَضَّاحِ
وقال علقمة بن عمرو العُقْدِيّ:
يَسْمُو بِصَيدٍ من مَقَاوِل حِمْيَرٍ *** بيضِ الوجُوه مُنَعَّمِين صِباحِ
مِنْ شَمَّرٍ أو مِن مُهَتَّكِ عَرْشِهِ *** والغُرِّ آلِ جَذِيمَةَ الوَضَّاح
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
5-معجم ما استعجم (جنفاء)
جنفاء: مفتوح الحروف ممدود. هكذا ذكره سيبويه، على وزن فعلاء، وذكر معه فرماء. وذكره يعقوب مضموم الأوّل مقصورا: جنفى، مثل شعبى، وكذلك أورده أبو علىّ فى المقصور، وأتى به فى الممدود أيضا كما ذكره سيبويه؛ والشاهد لسيبويه قول أرطاة بن سهيّة:«قواصد للّوى وميمّمات *** جبا جنفاء قد نكّبن إيرا»
وقول ابن مقبل:
«رحلت إليك من جنفاء حتّى *** أنخت فناء بيتك بالمطالى»
ولا أعلم شاهدا على القصر، وهى من بلاد بنى فزارة. وكان أبو الشّموس البلوىّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل جنفاء. روى السّكونى من طريق أبى جعفر محمّد بن الحسن بن مسعود الزّرقى، قال: أخبرنى أعرابىّ من بنى جشم بن معاوية، أحد بنى مازن، قال: سعيت على بنى فزارة، فأوّل مجامعها الشّبيكة، لبنى زنيم بن عدىّ بن فزارة، ثم الغزيلة، وهى لبنى الصارد وناس من فزارة، ثم بزلنا النّقرة، وصدّقنا بنى سليم وبنى شمخ، ثم نزلنا الحسى ببطن الرّمّة، ثم نزلنا جنفاء، ثم نزلنا الضّلضلة، فصدقنا بنى عدى بن زنيم بن فزارة، ثم نزلنا الأنقرة، وأهلها مازن بن فزارة، ثم نزلنا قدة، وهى لبنى بدر، ثم نزلنا الجفر ببطن الجريب، ثم نزلنا حدمة،
وهى فى أصل طهيان، وطهيان: جبل، قال الشاعر:
«فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبرّدة باتت على طهيان»
يريد بدلا من ماء زمزم، كما قال علىّ رضى الله عنه لأهل العراق وهم مائة ألف أو يزيدون: لوددت أن لى منكم مائتى رجل من بنى فراس بن غنم، لا أبالى من لقيت بهم.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
6-معجم ما استعجم (الحزورة)
الحزورة: بزيادة هاء التأنيث: موضع بمكّة يلى البيت، وفيه دفن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله، ابن أخى طلحة بن عبيد الله، وكان قتل مع ابن الزّبير؛ فلمّا زيد فى المسجد الحرام، دخل قبره فى المسجد؛ ذكر ذلك الزبير بن أبى بكر.وقال الغنوىّ:
«يوم ابن جدعان بجنب الحزوره *** كأنّه قيصر أو ذو الدّسكره»
وروى الزّهرىّ قال: أخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عبد الله بن عدى ابن حمراء الزّهرىّ أخبره، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة فى سوق مكّة: (والله إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلىّ، ولولا أنّى أخرجت منك ما خرجت).
وهذا من الأحاديث الصحاح، التى خرّجها الدار قطنىّ، وذكر أن البخارىّ ومسلما أغفلا تخريجه فى كتابيهما، على ما شرطاه. وهذا الحديث من أقوى ما يحتجّ به الشافعىّ فى تفضيل مكّة على المدينة. قال أبو الحسن على بن عمر الدار قطنىّ: (نا) أبو بكر النيسابورى، (نا) أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، (نا) عمّى، قال: (نا) يونس، عن الزّهرى، الإسناد بلفظه. قال
الدار قطنىّ: والمحدّثون يقولون الحزوّرة، بالتشديد، وهو تصحيف، إنّما هو الحزورة بالتخفيف.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت فى منامى أبا بكر حزينا، فسألته عن شأنه فقال: وكّل بى هذان لمحاسبتى وإذا صحف يسيرة؛ ورأيت عمر كذلك، وإذا صحف مثل الحزورة؛ ورأيت عثمان كذلك، وإذا صحف مثل الخندمة؛ ورأيتك يا معاوية وصحفك مثل أحد وثبير. فقال له معاوية: أرأيت ثمّ دنانير مصر؟
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
7-معجم ما استعجم (دير بولس)
دير بولس: قال أبو الفرج: هو بناحية الرّملة: أخبرنى الحلبىّ قال: حدثنى أبى، قال: نزلت مع الفضل بن إسماعيل بن صالح بن علىّ بن عبد الله ابن عباس، دير بولس ونحن خارجان إلى جهة الرّملة، فرأى فيه جارية حسنة، بنتا لقسّ هناك، فخدمته ثلاثة أيام، وسقته شرابا عتيقا؛ فلمّا أراد الانصراف أعطاها عشرة دنانير، وقال فى طريقه:«عليك سلام الله يادير من فتى *** بمهجته شوق إليك طويل»
«ولا زال من نوء السّماكين وابل *** عليك يروّى من ثراك هطول»
«يعلّك منها برهة بعد برهة *** سحاب بإحياء الرياض كفيل»
«إذا جاد أرضا دمعه بان منظر *** به لعيون الناظرين جميل»
«ألا ربّ ليل حالك قد صدعته *** وليس معى غير الحسام خليل»
«ومشمولة أوقدت فيها لصحبتى *** مصابيح ما يخبو لهنّ فتيل»
«تعلّلنى بالراح هيفاء غادة *** يخال عليها للقلوب وكيل»
«تجول المنايا بينهنّ إذا غدت *** لواحظها بين القلوب تجول»
«أيا بنت قسّ الدير قلبى مولّه *** عليك وجسمى مذ بعدت عليل»
دير بولس آخر، ودير بطرس
: وهما معروفان بظهر دمشق، فى نواحى بنى حنيفة، فى ناحية الغوطة؛ وإياهما عنى جرير بقوله:
«لمّا تذكّرت بالديرين أرّقنى *** صوت الدّجاج وقرع بالنواقيس»
«فقلت للرّكب إذ جدّ الرحيل بنا: *** يا بعد يبرين من باب الفراديس»
وإيّاهما أيضا عنى بقوله فى أبيات يرثى ابنا له:
«لكن سوادة يجلو مقلتى لحم *** باز يصرصر فوق المرقب العالى»
«إلّا يكن لك بالدّيرين باكية *** فربّ باكية بالدار معوال»
«قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم: *** كيف العزاء وقد فارقت أشبالى»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
8-معجم ما استعجم (دير القائم الأقصى)
دير القائم الأقصى: قال أبو الفرج: هو على شاطىء الفرات من الجانب الغربىّ، على طريق الرّقّة، قال: وقد رأيته ورأيت القائم الأقصى، وهو مرقب من المراقب التى كانت بين الفرس والروم، على أطراف الحدود، مثل عقر قوف من بغداد وما جرى مجراه؛ وعنده هذا الدّير؛ وهو الآن خراب؛ دخلته وليس فيه أحد، ولا عليه سقف ولا باب.وأخبرنى هاشم بن محمد الخزاعىّ، قال: أخبرنى عمى عبد الله بن مالك، عن أبيه، قال: خرجنا مع الرشيد إلى الرّقة، فممرنا بالقائم الأقصى، فاستحسن الرشيد الموضع، وكان ربيعا، وكانت تلك المروج مملوءة بالشقائق، وأصناف الزهر، فشرب على ذلك ثلاثة أيام. ودخلت الدير فطفنه، فإذا فيه ديرانية حين نهد ثدياها، عليها مسوح، ما رأيت قطّ أحسن منها وجها وقدّا واعتدالا؛ وكأن تلك المسوح عليها حلىّ، فدعوت بنبيذ، فشربت على وجهها أقداحا، وقلت فيها:
«بدير القائم الأقصى *** غزال شادن أحوى»
«برى حبّى له جسمى *** ولا يدرى بما ألقى»
«وأخفى حبّه جهدى *** ولا والله ما يخفى»
ثم دعوت العود، وغنّيت فيه صوتا حسنا، ولم أزل أكرره وأشرب على وجهها حتى سكرت.
فلما كان الغد دخلت على الرشيد وأنا ميت سكرا فاستخبرنى، فأخبرته بقصتى، فقال: طيب وحياتى! ودعا بالشراب، فشرب سائر يومه، فلما كان العشىّ قال: قم حتى أتنكّر وأدخل معك على صاحبتك، فأراها. فركب حمارا، وتلثم بردائه، فدخلنا، فرآها، وقال: مليحة والله! فامر فجىء بكأس، وأحضرت عودى، وغنّيته الصوت ثلاث مرات، وشرب ثلاثة أرطال وأمر لى بعشرة آلاف درهم؛ فقلت له: يا سيدى، فصاحبة القصة؟ فأمر لها بمثل ذلك؛ وأمر ألّا يؤخذ من مزارع ذلك الدير خراج، وأقطعهم إياه، وجعل عليه خراج عشرة دنانير فى كل سنة، تؤدّى عنه ببغداد، وانصرفنا.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
9-معجم ما استعجم (زوراء)
زوراء: معرفة لا تدخلها الألف واللام: دار كانت بالحيرة لملوكهم، قال الأصمعىّ: أخبرنى من رآها، وهدمها أبو جعفر، وإياها عنى النابغة بقوله:«وتسقى إذا ما شئت غير مصرّد *** بزوراء فى حافاتها المسك كانع»
وقال ابن الأعرابى: قوله «بزوراء» هو مكّوك مستطيل من فضّة، يشربون به.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
10-معجم ما استعجم (السبع)
السّبع: على لفظ الواحد من السّباع. وهى قرية عمرو بن العاصى من فلسطين بالشام، وبها بعض أهله. قاله أبو زكرياء يحيى بن عثمان بن صالح السّهمىّ، فى كتاب الفوائد له.قال: (ونا) أبى، قال (نا) ابن لهيعة، حدثنى إسحاق بن ربيعة بن لقيط التّجيبى، عن أبيه، قال: خرجت إلى عبد الله بن عمرو فى الفتنة وهو بالسّبع، حين أخرجه أهل مصر، فلقيت على بابه مطعم بن عبيدة البلوىّ، فقال: أين تريد؟ قلت: أردت هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأكون معه، حتّى يجمع الله أمر الناس. قال: فاجتذبنى وقال: وفّقك الله من غلام! ثم قال: عهد إلىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع وإن كان علىّ أسود مجدّع، فو الله لا يزال بينى وبين النار منهم ستر أبدا.
قال أبو زكرياء يحيى بن عثمان: لم يرو مطعم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا هذا الحديث الواحد.
وبأرضه بالسّبع مات عبد الله بن عمرو. وهذه الفوائد يرويها أبو عمر النّمرىّ عن خلف بن قاسم. قال: (نا) بكر بن عبد الرحمن الخلّال بمصر، (نا) أبو زكرياء. وروى البخارىّ (نا) أبو اليمان (أنا) شعيب عن الزهرىّ أخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينما راع فى غنمه عدا عليها الذّئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعى، فالتفت إليه الذئب فقال: من لها يوم السّبع، يوم ليس لها راع غيرى.
وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه، فكلمته، فقالت: إنّى لم أخلق لهذا، ولكنّى خلقت للحرث. فقال الناس. سبحان الله! فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فإنّى أو من بهذا وأبو بكر وعمر.
قال الهروىّ وذكر هذا الحديث: قال ابن الأعرابىّ: السّبع: الموضع
الذي عنده المحشر يوم القيامة.
وروى هذا الحديث عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهرىّ. وقال فيه عند ذكر السّبع: يعنى مكانا، من لفظ الزهرىّ، أو من لفظه.
وحدّثنى الحكم بن محمد قال: (نا) أبو الطيّب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون قال: سمعت أحمد بن عمرو بن جابر الرملىّ يقول: سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنّى يقول، وذكر حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم، حتّى إذا أخذ الذئب الشاة وأخذت منه، فقال: من لها يوم السّبع، يوم لا راعى لها غيرى؟ قال: السّبع:
هو عيد كان لهم فى الجاهليّة، يشتغلون فيه بأكلهم ولعهم، فيجىء الذئب فيأخذها.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
11-معجم ما استعجم (السرر)
السّرر: بكسر أوّله: موضع مذكور فى رسم الحجون. وقال أبو محمّد الفقعسىّ:«تندّح الصّيف على ذات السّرر *** ترعى المباهيل إلى الثّور الأغرّ»
الثور الأغرّ: شبه الأبرق من الرمل، وليس برمل فيه حصباء، وهو بين بنى عبد الله بن غطفان وبين بنى حذلم. والمبهلان: واديان هناك. وقال ابن قتيبة: أخبرنى الرياشى فى بيت أبى ذؤيب:
«بآية ما وقفت والرّكا *** ب بين الحجون وبين السّرر»
قال: هو الموضع الذي سرّ فيه الأنبياء فى حديث ابن عمر، وهو على أربعة أميال من مكّة، وأهل الحديث يروونه بضمّ الراء.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
12-معجم ما استعجم (سرف)
سرف: بفتح أوّله، وكسر ثانيه، بعده فاء: على ستة أميال من مكّة، من طريق مرّ وقيل سبعة، وتسعة، واثنا عشر، وليس بجامع اليوم. وهناك أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مرجعه من مكّة، حين قضى نسكه. وهناك ماتت ميمونة لأنّها اعتلّت بمكّة، فقالت: أخرجونى من مكّة، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنى أنى لا أموت بها. فحملوها حتّى أتوا بها سرفا، إلى الشجرة التى بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلمتحتها، فى موضع القبّة، فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين، وهناك عند قبرها سقاية.
وروى الزّهرىّ أن عمر حمى السّرف والرّبذة. هكذا ورد الحديث:
السّرف، بالألف واللام، ذكره البخارىّ. وبسرف كان منزل قيس بن ذريح الكنانىّ الشاعر، ولذلك قال حين نقلت لبنى عنه:
«الحمد لله قد أمست مجاورة *** أهل العقيق وأمسينا على سرف»
«حىّ يمانون والبطحاء منزلنا *** هذا لعمرك شكل غير مؤتلف»
«قد كنت آليت جهدا لا أفارقها *** أفّ لأكثر ذك القيل والحلف»
«حتّى تكنّفنى الواشون فافتلتت *** لا تأمنن أبدا إفلات مكتنف»
وقال الأحوص:
«إنّى وإن أصبحت ليست تلائمنى *** أحتلّ خاخا وأدنى دارها سرف»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
13-معجم ما استعجم (الشقرة)
الشّقرة: بضمّ أوّله، وإسكان ثانيه، بعده راء مهملة: قرية قد تقدّم ذكرها فى رسم ذات السّلم. قال الزّبير: أخبرنى عمّى مصعب بن عبد الله، قال: سمعت أعرابيّا يستقى على بئر أبيك أبى بكر بن عبد الله بالشّقرة، وهو يقول:«بئر أبى بكر وربّ الغبر *** تزداد طيبا فى أداوى السّفر»
«يدعو له الناس غداة النّحر *** وليلة الأضحى ويوم الفطر»
قال الزّبير وسألت سليمان بن عيّاش السّعدىّ: لم سمّى الحجاز حجازا؟
قال لأنّه حجز بين تهامة ونجد. قلت: فأين منتهاه؟ قال: ما بين بئر أبيك بالشّقرة إلى أثاية العرج. فما وراء بئر أبيك فمن نجد؛ وما وراء أثاية العرج فمن تهامة.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
14-معجم ما استعجم (عمواس)
عمواس: بفتح أوّله وثانيه، بعده واو وألف وسين مهملة: قرية من قرى الشام، بين الرّملة وبيت المقدس، وهى التى ينسب إليها الطاعون، لأنّه منها بدا. هكذا قال أبو الحسن الأثرم. وقال الأصمعىّ: إنّما هى قرية فى عربسوس. وقال الأصمعىّ: أخبرنى بذلك عبد الملك بن صالح الهاشمىّ، قال امرؤ القيس بن عابس:«ربّ خرق مثل الهلال وبيضا *** ء لعوب بالجزع من عمواس»
وذكر عن الأصمعىّ أنه إنما سمّى الطاعون بذلك لقولهم: عمّ وآسى؛ ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفا.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
15-معجم ما استعجم (قباء)
قباء: بضمّ أوّله، ممدود، على وزن فعال؛ من العرب من يذكّره ويصرفه، ومنهم من يؤنثّه ولا يصرفه، وهما موضعان: موضع فى طريق مكة من البصرة. وقباء آخر المدينة، قال ابن الزّبعرى فى صرفه:«حين حكّت بقباء بركها *** واستحرّ القتل فى عبد الأشل»
وقال الأحوص:
«ولها مربع ببرقة خاخ *** ومصيف بالقصر قصر قباء»
وقال ابن الأنبارىّ فى كتاب التذكير والتأنيث، وقاسم بن ثابت فى الدلائل، قالا: وقد جاءت قبا مقصور، وأنشدا:
«فلأبغينّكم قبا وعوارضا *** ولأقبلنّ الخيل لاية ضرغد»
وهذا وهم منهما، لأنّ الذي فى البيت إنما هو «قنا» بفتح القاف، بعدها النون، وهو جبل فى ديار بنى ذبيان وهو الذي يصلح أن يقرن ذكره بعوارض، وكذلك أنشده جميع الرّواة الموثوق بروايتهم ونقلهم فى هذا البيت.
وحدّث ابن كريم المازنىّ، عن مازن بن عمرو بن النّجّار، عن أبيه، قال:
سأل معاوية جدّى عن أموال المدينة، فقال: أخبرنى عن قباء. قال: إن صببت بها صبّا، وكددتها كدّا، سدّت لك مسدّا. قال: أخبرنى عن خطمة. قال: رشاء بعيد، وحجر شديد، وخير زهيد. قال: فالقفّ. قال:
لأعاليه وأسافله أفّ.
وروى ابن أبى شيبة وابن نمير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كان يأتى قباء ماشيا وراكبا.
زاد ابن نمير: ويصلّى ركعتين.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
16-معجم ما استعجم (كوثى)
كوثى: بضم أوّله، وبالثاء المثلثة، مقصور، على وزن فعلى، وهى بالعراق معلومة. وهى المدينة التى ولد فيها إبراهيم عليه السلام، قال الخطّا؟ ى: يقال لها كوثى ربّى، بفتح الراء المهملة، بعدها باء معجمة بواحدة مفتوحة، ثم ياء وكوثى أخرى بمكة، وهى محلّة بنى عبد الدار. قال حسّان، أنشده ابن الأعرابى:«لعن الله أرض كوثى بلادا *** ورماها بالفقر والإمعار»
«لست أعنى كوثى العراق ولكن *** كوثة الدّار دار عبد الدار»
وروى أبو عمر عن ثعلب عن ابن الأعرابىّ، قال: سأل رجل عليّا رضى الله عنه، فقال: أخبرنى- يا أمير المؤمنين- عن أصلكم معاشر قريش. قال:
نحن قوم من كوثى. فقال قوم: إنه أراد كوثى التى ولد بها إبراهيم، وتأوّلوا فى هذا قول الله عزّ وجلّ: «ملّة أبيكم إبراهيم». وقال قوم: أراد كوثى مكة، محلّة بنى عبد الدار، أى إنّا مكّيّون من أهل القرى.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
17-معجم ما استعجم (المرانة)
المرانة: بفتح أوّله، وبالنون: هضبة من هضاب بنى العجلان. كذلك فسّر أبو خالد العجلانى قول ابن مقبل:«يا دار سلمى خلاء لا أكلّفها *** إلّا المرانة حتّى تعرف الدّينا»
قال يعقوب عن أبى عمرو الشّيبانى: أخبرنى بذلك أبو خالد العجلانى من رهط ابن مقبل دنية.
وقال أبو عبيدة: المرانة: بلدة معروفة، قال ابن دريد: ويقال: المرانة:
اسم ناقته. قال: وقالوا: أراد الدّواء، من المرونة.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
18-معجم ما استعجم (مطار)
مطار: بضمّ أوله، وبالراء المهملة فى آخره: واد بين البوباة وبين الطائف.قال أبو حنيفة: أخبرنى أبو إسحاق البكرىّ: أنّ بمطار أبد الدّهر نخلا مرطبا، ونخلا يصرم، ونخلا مبسرا، ونخلا يلقح؛ قال الراجز وذكر سحابا:
«حتّى إذا كان على مطار *** يسراه واليمنى على الثّرثار»
* قالت له ريح الصّبا قرقار * والثرثار: بالجزيرة، ماء معروف، قد تقدّم ذكره، وقيل: هو قريب من تكريت. ولم تختلف الرّواة فى هذا الوادى المذكور: أنّه مطار، بضمّ الميم؛ فأما مطار بفتحها: فموضع فى ديار بنى تميم، مؤنّثة لا تجرى. وقيل: إنها بين ديار بنى بكر وديار بنى تميم؛ قال أوس بن حجر:
«فبطن السّلىّ فالسّخال تعذّرت *** فمعقلة إلى مطار فواحف»
وقال دو الرّمّة:
«إذا لعبت بهمى مطار فواحف *** كلعب الجوارى واضمحلّت ثمائله»
وقال المخبل:
«أعرفت من سلمى رسوم ديار *** بالشّطّ بين مخفّق ومطار»
فدلّك أنّ مطار تلقاء مخفّق. ويروى: «بين مخفّق فصحار». وقد تقدّم ذكر مطار فى رسم برك. فأما قول النّابغة:
«وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتى *** على وعل بذى المطارة عاقل»
فقد اختلف فيه، فمنهم من يرويه: «بذى المطارة» بالفتح؛ ومنهم من يرويه بالضمّ، وهو اسم جبل بلا اختلاف، عند من ذكر أنّه موضع، وليس بالوادى المذكور. وقد رأيت لابن الأعرابىّ أنّه يعنى بذى المطارة، بضمّ الميم:
ناقته، وأنها مطارة الفؤاد، من النّشاط والمرح، ويعنى بذى: ما عليها من الرّحل والأداة. يقول: كأنى على رحل هذه الناقة وعل عاقل من الخوف والفرق
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
19-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 1)
عناية العرب بلغتهم:تقدم القول أن العرب كانوا أهل بادية وحاضرة؛ فالبادية من مشارف الشام إلى حدود اليمن يدخل فيها الحجاز ونجد وتهامة واليمامة وأرض عمان؛ وفيها مدن قليلة كمكة ويثرب والطائف، على أن مكة لم تنتقل من الوبر إلى المدر إلا بعد أن بنى قصي بن كلاب دار الندوة؛ وأما الحاضرة
فهي اليمن وما إليها من أرض حضر موت والشحر وفيها بواد فسيحة؛ وفي جنوبي فلسطين بدوي حضري؛ وفي أرض حوران عمرت بصرى، وكان من مدنهم في الشمال البتراء.
كانوا على عزلتهم في ديارهم هذه وعزة نفوسهم التي لم تستذلها الدول العظمة المكتنفة أرضهم، كانوا يرون أنفسهم في غبطة وسرور من حال ألفوها، وشاعرهم ينشد في باديته القفراء مفتخرًا بنعيم عيشه فيقول:
«إذا ما شربنا كل يوم مذيقة، *** وخمس تميرات صغار حوامز»
«فنحن ملوك الناس شرقًا ومغربًا، *** ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز»
«وكم ممتن عيشة لا ينالها، *** ولو نالها أضحى بها جد فائز! »
كانوا وهم في هذه الحال في حرز حريز من أن يتطرق إلى لغتهم الصافية ما يكدرها، ويحرصون عليها حرص الشحيح على ماله، حتى أصبح ذلك خلة راسخة في نفوسهم وملكة ثابتة في طباعهم.
وتعدى ذلك إلى أتباعهم وحواشيهم.
قال الجاحظ: "رأيت عبدًا أسود لبني أسد، قدم علينا من اليمامة فبعثوه ناطورًا في البساتين.
وكان وحشًا لطول تغربه في اليمامة ورعي الإبل، فأصبح بعد أن صار ناطورًا لا يجتمع إلا بالأكراد وفلاحي النبط الفاسدي اللغة، فكان لا يفهم منهم ولا يفهمون منه؛ فلقيته يومًا فأنس بي، وكان مما قال لي: أبا عثمان، لعن الله بلادًا ليس فيها عرب! أبا عثمان، إن هذه العرب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم، فجعلهم في حاشية الأرض، لطمست هذه العجمان آثارهم..
أنف هذا العبد الأسود الزنجي العرق السكني في بلاد ليس فيها عرب، ولعن البلاد الخالية منهم.
ويقول: إن من نعمة الله عليهم أن عزلهم في ناحية من الأرض لتبقى لغتهم سليمة من التحريف.
ويدلنا كلامه على تغير عظيم في اللغة وتباعد بين لغة عرب اليمامة ومستعربي الأمصار حتى عسر التفاهم بينهم.
رأى العرب، وهم في هذه العزلة بل هذه العزة، أنهم فوق الأمم مجدًا وشرف محتد وطيب عنصر وعزة نفس وإباء ضيم.
وهذه امرأة بدوية، وهي ليلى بنت لكيز، لم ترض أن تكون في نساء كسرى ملك العجم، لما حملت إليه مكرهة، فتقول: "
«يكذب الأعجم ما يقربني، *** وعمي بعض حساسات الحيا»
«غللوني قيدوني ضربوا *** ملمس العفة مني بالعصا! »
تنبز كسرى، ملك الملوك، بالأعجم احتقارًا لسلطانه لأنه غير عربي.
وتفر من النعمة السابغة"
والعيش الهني في حرم كسرى، مفضلة عليها سكنى الوبر وعيشه الخشن وطعامه الجشب في ظل الحرية والانطلاق، وحرصًا على الدم العربي أن يشاب بدم غيره، فلا يقربها الأعجم ما دام معها بعض حساسات الحياة، ولو كان له ملك كسرى! وإذا عرض الشك في صحة هذه القصة فإن النعمان، عامل كسرى، قد امتنع أن يزوج إحدى بناته من كسرى، لا جهلًا بمقام كسرى، ولا اعتقادًا منه بأنه أعلى منه شرفًا ومنزلة، ولكنه امتنع خوفًا من العار الذي يلحقه بين العرب من أنه زوج ابنته من غير عربي، وإن كان ملك الملوك، فيحط بذلك منزلة بناته بزواجهن من غير الأكفاء، ولا كفؤ للعربي إلا العربي.
امتنع النعمان فأثار حفيظة كسرى، فقتله بين أرجل الفيلة؛ ولكن أمته العربية الأبية ثارت له لأنه قتل في سبيل الشرف العربي؛ فكانت وقعة ذي قار.
بهذه الخلة قل امتزاجهم بالأمم، فقل التحريف والتبديل في لغتهم؛ وليس هذا وحده، بل انصرفوا بجهودهم كلهم إلى العناية بتحسين اللغة وصقلها، ما شاءت لهم قرائحهم وعلومهم.
لذلك بلغت لغتهم هذا المبلغ من السلعة في المادة وفي مراعاة مقتضى الحال بإيجاز الكلام أو إطنابه، وفي الرواء والعذوبة.
عناية الأئمة بحفظ لغة القرآن والسنة وتدوينها
جاء القرآن بأفصح لغات العرب.
ودان العرب بالإسلام دين القرآن.
وجرت السنة النبوية هذا المجرى؛ فكانت لغة القرآن والسنة أولى بالتدوين والحفظ، لما آن أوانها وأخذت سنة التطور طريقها في اللغة الفصحى، منذ خرج العرب من عزلتهم واختلطوا بالأعاجم، ودخل الأعاجم في سلطانهم.
وكان لهم ما للمسلمين العرب، وعليهم ما عليهم من حرية وإخاء ومساواة.
وبعد أن كثر تسريبهم بالأعجميات لكثرة السبي في أيديهم، يوم اتسعت فتوحاتهم، وشعر أبو الأسود الدؤلي، أقدم أئمة العربية، ببادرة من التغير بدرت على لسان ابنته إذ قالت لأبيها متعجبة وقد نظرت إلى السماء ونجومها في لسلة صافية: "ما أحسن السماء" فرفعت أحسن، وح
فأدركت خطأها وقالت: أنا متعجبة ولست بمستفهمة.
فهب أبو الأسود إلى إمام المسلمين والعرب في العلم والعمل، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذ منه أصول النحو.
فعكف القوم بعد هذا على تقرير قواعد اللغة والنحو واختيار الفصيح من الكلام.
وعمل الأئمة على التقاط فرائد اللغة من البوادي البعيدة عن الأمصار، لبعدها عن مجاورة الأعاجم وفاسدي اللغة.
فكانت رحلة الأئمة إلى بوادي الحجاز وتهامة ونجد واليمامة.
قال الفارابي في أول كتابه المسمى "الألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب لأفصح الألفاظ، وأسهلها على اللسان، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس.
والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين القبائل العربية هم: قيس وتميم وأسد.
فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه.
وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين؛ ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر القبائل.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البوادي ممن كان يسكن أطراف البلاد المجاورة لسائر الأمم حولهم.
فلم يؤخذ عن لخم ولا عن جذام لمجاوراتهم أهل فارس، ولا عن قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا عن تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا عن بكر لمجاورتهم للفرس، ولا عن عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحر
كان الباحث عن اللغة في بوادي العرب يقامر بنفسه، غير مبالٍ بحرها ولا ببردها ولا بخشونة عيشها ورتق مشربها، السنين الطوال ليكتب عن فضائحهم شيئًا من كلامهم.
وروي أن الكسائي أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عنهم.
وكان الإمام منهم يفضل استفادة كلمة واحدة على حمر النعم.
ويروي عن أبي عمرو ابن العلاء قال: "إني كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه علي "فرجة" هل بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلًا يقول: "
«ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال»
فحرك الفاء بالفتح، ثم قال: ألا إنه مات الحجاج؛ قال أبو عمرو: فما أدري بأيهما كنت اشد فرحًا: أبقوله فرجة، بفتح الفاء، أو بقوله مات الحجاج! "
وكان من مزيد عناية القوم باللغة أن ميزان التفاضل بين الأئمة وحملة اللغة كان سعة معرفة الرجل بكلام العرب ولغاتها وغريبها.
وكان الأمراء والملوك والخلفاء وأعيان الأمة يتسابقون إلى تأديب أبنائهم، أي تعليمهم الأدب العربي من اللغة والنحو والشعر وأخبار العرب ومفاخراتهم"
ومنافراتهم، ليحفظوا كلامهم ويقووا به ملكاتهم اللغوية.
وكان أكبر عيب في الشريف العربي أن يلحن في كلامه، فلا يأتي بالحركات الإعرابية أو الحركات اللغوية على وجهها؛ كل ذلك كان في سبيل حفظ اللغة ورونقها وجدتها، وتقوية ملكة الفصاحة في النفوس.
بدء انحراف العامية عن الفصحى
قلنا: إن أبا الأسود الدؤلي رأى بادرة التغير في كلام ابنته، فلجأ إلى أمير المؤمنين علي ووضع أصول النحو.
والظاهر أن بدء الانحراف كان قبل ذلك، وعلى كل حال لم يكن قبل عصر الراشدين.
وأول ما سمع ذلك في الحركات الإعرابية زمن خلافة أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، على ما جاء في طبقات الأدباء لابن الانباري؛ وذلك أنه قدم أعرابي في زمن خلافته فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة وقال: "إن الله برئ من المشركين ورسوله "بالجر، فقال الأعرابي: "أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فبلغ ذلك عمر فدعاه وقال له: أتبرأ من رسول الله يا أعرابي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: "من يقرئني؟ " فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "إن الله يبرئ من المشركين ورسوله" فقلت: "أوفد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فقال عمر: "ليس هذا يا أعرابي".
فقال: "كيف يا أمير المؤمنين؟ " قال عمر: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" ورفع رسوله، فقال الإعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم.
فأمر عمر أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة.
وكان أهل الحاضرة يومئٍذ، كيثرب، فيهم العلماء باللغة وغير العلماء، ولهذا خصص عمر أمره بالعالم باللغة.
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة، فقال: إنني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال زياد: لا تفعل؛ قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنون؛ فقال زياد يرجع كلامه: توفي أبانا وترك بنون؟ ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال: "ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.
وسئل أبو الأسود: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب.
وأما اللحن في بناء الكلمة فكان بعد ذلك العهد.
ويظهر أنه كان في سكان الحاضرة أيضًا، ولم يأتِ زمن الحجاج حتى فشا اللحن في كلمات اللغة، وحتى صار يستهجن الفصيح في كلمات العامة.
قال في الطبقات: "قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن الملهب كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا واضطررناه إلى عرعرة الجبل.
فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام؟ فقيل له: إن يحيي بن المعمر عنده.
فقال: ذاك إذًا.
ويحيي بن المعمر هذا هو من حملة اللغة وأئمتها."
سارت العامة على خطها المنحرف، وامتد سيرها هذا لما كثر توغل العرب الفاتحين في بلاد الأعاجم، وكلما امتد السير زادت بعيدًا عن الفصحى؛ إلا أن هذا الطريق لم يكن ممهدًا بل كانت تعترضه عقبات من عناية العلماء بالفصحى، لما رأوا ما منيت به من التحريف، فأخذوا في محاربة هذا الداء، وصنفوا في تقويم العامية وردها إلى الفصحى وتطهيرها، أو تطهير أقلام الكتبة على الأقل، من اللحن.
ونجد كثيرًا من هذه الجهود في مثل: "أدب الكاتب" لابن القتيبة، و "درة الغواص" للحريري.
فلم يكن، والحال هذه، سير العامية في خطتها الملتوي، شديد الاندفاع كما هو الحال في غير العربية من اللغات.
وإن اللغات الراقية اليوم، التي دونت فصحاها بعد تدوين فصحى العربية بقرون، ترى فصحاها بعيدة عن عاميتها أكثر من بعد فصحى العربية عن عاميتها.
يقول جبر ضومط، أستاذ اللغة العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد أن أثبت أن للإنكليزية والفرنسية والألمانية- وهي في مقدمة اللغات الراقية في هذا العصر- لغة فصحى مكتبية، ولغة عامية دارجة: " فالمكتبية في أعلى درجات الفصاحة، والدارجة في أحط الدرجات في بعض أقسام لوندرة وباريس وبرلين، عواصم هذه اللغات الثلاث. ثم ذكر أنه تعرف بمستشرق اسوجي جاء بيروت لدرس اللغة العربية الدارجة، وكان عارفًا خبيرًا، فأخبره أن عندهم لغتين: فصحى ودارجة، وأن الدارجة الأجنبية أكثر من الدارجة العربية بعدًا عن الفصحى.
وأنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس، أيام الحملات الصليبية إلى سورية، لم تكن كاللغة التي حملها حُفَداؤهم إليها في هذه الأيام؛ وأن اللغة التي نظم بها شكسبير قصائده لا يفهمها العامي الإنكليزي اليوم أكثر مما يفهم العربي قصائد المتنبي وأبي العلاء المعري.
ولكن لغة موليير الفرنسية، فيما أحسب، بعيدة عن لغة أميل زولا بعد لغة ملتون الإنكليزية عن لغة دوسكن.
بينما لم تتغير لغة المتنبي عن لغة شوقي وبينهما ألف عام.
إلا أن لغة المتنبي وابن الأحنف والطائيين تخالف لغة الزاجل في شعره اليوم، بل إن لغة الزاجل اليوم تخالف لغة الزاجل في عصر ابن خلدون.
الحركات الإعرابية
في اللغة العربية
من البديهي أن مفردات اللغة مؤلفة من الألفاظ، وأن مادة اللفظ لا تتعدى حروف الهجاء، ولكن للحروف هيئات في اللفظ من حركات وسكون يطلق عليها، على سبيل التغليب، اسم الحركات؛ وهذه الحركات إما عارضة لمادة الكلمة ومبناها، أو عارضة لآخرها.
وتسمى الأولى حركات المباني كما ترى في حركات: غَمر، وغِمر، وغُمر، وغَمِر، وغُمَر، وغَمَر؛ فهذه كلمات ست، وهي مع اتفاقها في الحروف وفي ترتيبها مختلفة المعاني باختلاف حركاتها اختلافًا من أصل الوضع.
وتسمى الثانية حركات الإعراب أو علامات الإعراب لأنها تعرب عن مراد المتكلم بموقع الكلمة من الجملة، ولكنها لا تؤثر بمعنى الكلمة الوضعي شيئًا.
فسعيد في قولك "رأى سعيد أحمد" وهو سعيد نفسه إذا رفعته فاعلًا أو نصبته مفعولًا به، ولكن حاله واقعًا منه الفعل، غير حاله واقعًا عليه؛ وإنما يعرف اختلاف حاليه من اختلاف حركات الإعراب.
فائدتها
لهذه الحركات أثرها في المعنى التركيبي، خاصة وهي تعطي الجملة إيجازًا بديعًا لا مثيل له، فيما أحسب، في غير العربية.
والإيجاز في اللفظ مع الوفاء بالدلالة على المراد من أعظم ميزات اللغة.
انظر إلى قولنا: "ما أحسن زيد" فإنك تجد لهذه الجملة ثلاثة معان تختلف باختلاف الحركات في أواخر كلمتها، مع بقاء مبانيها وتركيبها اللفظي كما هي، فنقول:
1 - " ما أحسن زيدًا! " تنصبها، وأنت تريد التعجب فيكون ذلك قائمًا مقام قولك: "أعجب كثيرًا لحسن زيد".
2 - "ما أحسن ويد؟ " ترفع أحسن وتخفض زيدًا، وأنت تريد الاستفهام، وهي قائمة مقام قولك: "استفهم واسأل عن أحسن شيء في زيد".
3 - " ما أحسن زيد؟ " تفتح أحسن وترفع زيدًا، وأنت تريد الاستفهام أيضًا، وهي قائمة
مقام قولك: "أي شيء من الإحسان فعله زيد".
ثم انظر إلى قولنا: "هذا كريم أحسن منه عالم" فإذا رفعت كريمًا وعالمًا كان المراد شخصين اثنين أحدهما عالم والآخر كريم، ولكن العالم أحسن منه الكريم؛ وإذا نصبتهما كانا شخصًا واحدًا عالمًا وكريمًا، ولكنه في كرمه أحسن منه في علمه.
وانظر إلى قولنا: "كم كتاب قرأت" فإذا جررت كتابًا كنت تريد الإخبار بكثرة ما قرأت من الكتب، وإذا نصبت كنت تريد الاستفهام عن عدد الكتب التي قرأتها.
قال ابن قتيبة في "مشكلات القرآن" ما نصه: "وللعرب الإعراب الذي جعله الله وشيًا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقًا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين والمعنيين المختلفين: كالفاعل والمفعول، لا يفرق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان أن يكون الفعل لكل واحد منهما، إلا بالإعراب, ولو أن قائلًا قال: هذا قاتل أخي، بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي، بالإضافة، لدل بالتنوين على أنه لم يقتله، وبحذف التنوين على أنه قتله.
ولو أن قارئًا قرأ: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" وترك طريق الابتداء بإنّا، واعمل القول فيها بالنصب، على مذهب من ينصب أن بالقول كما ينصبها بالظن، لقلب المعنى على جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبي محزونًا لقولهم " إن الله يعلم ما يسر
وقال رسول الله، صلوات الله عليه: "لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم" فمن رواه جزمًا أوجب ظاهر الكلام أن لا يقتل إن أرتد، ولا يقتص منه وإن قتل؛ ومن رواه رفعًا انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش أنه لا يرتد أحد منهم عن الإسلام فيستحق القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بينهما؟ ثم قال: "وقد تكتنف الشيء معان فيشتق لكل معنى منها اسم من ذلك الشيء كاشتقاقهم من البطن الخميص "مبطان" وللمنهوم "بطن" وللعليل البطن "مبطون".
انتهى كلام ابن قتيبة.
وإنما اختلف المراد فيما ذكر باختلاف الحركات الإعرابية، مع أن الجمل المذكورة لم يتغير شئ من تركيبها وتنسيقها غير علامات الإعراب.
ولكن المعنى التركيبي قد تغير معها تغيرًا لا يستهان به، كما سمعت من كلام ابن قتيبة.
وكذلك إذا قلت: "علم زيد خالد الكتاب" لا تعلم أيهما المعلم وأيهما المتعلم: فإذا رفعت ونصبت علمت أن المرفوع هو المعلم وأن المنصوب هو المتعلم، تقدم أو تأخر لا فرق، وبقي للتقديم والتأخير فائدة خاصة من البيان، كما شرحه علماء الفصاحة والبلاغة، وإذا طرحت الحركات جانبًا وجعلت الدلالة على الفاعل تقدمه، وعلى المفعول تأخره بأن يكون الفاعل واجب التقديم مطلقًا،
كما إذا كان مقصورين لا تظهر عليهما علامات الإعراب، فاتتك النكات البيانية من المعاني التي يفيدها تقديم ما حقه التأخير أو العكس، وهي إفادات تأتيك من ترتيب الجملة دون زيادة في لفظها؛ وهذا من خصائص العربية فيما أحتسب.
وإني قد أسهبت القول في فوائد الإعراب في اللغة، ليعلم أن القول بتفضيل إهمال الحركات على استعمالها، بحجة أن المعنى لا يفسد بإهمالها، ولأن كل أبناء العربية يفهمون من قولنا "زيد مسافر" بالتسكين، كما يفهمون "زيد مسافر" بالتحريك هو قول باطل.
إنه عجيب حقًا، ولاسيما إذا كان من علامة مدقق ذي علم وغيرةٍ على الفصحى، كصاحب المقتطف الدكتور يعقوب صروف.
وقد ظهر لك مما تقدم أن كثيرًا من الجمل إذا أهمل فيها الإعراب اشتبه على السامع فهمها، لاحتمالها معاني لا يميزها إلا الإعراب، أو إطالتها بكلام مفصل يدل على المعنى المراد.
من أين جاءت؟
من الحقائق التي لا أحسب فيها جدالًا، وإذا كان فهو غير معتمد به، أن العرب الذين تبدوا وقل اختلاطهم بغيرهم من الأمم، كانوا أحفظ للغة وأصون لقديمها من غيرهم، لأن الاختلاط بغير أهل اللغة من أكبر الأسباب في تطورها.
وهذا القديم الذي حفظوه وصانوه بانعزالهم وببداوتهم، إن لم يكن هو نفسه اللغة الأم، أي التي تفرعت عنها اللغات السامية، فهو أقرب اللهجات المتفرعة عنها إليها، لأن المفروض أنه مصون ومحفوظ كل الصون والحفظ أو بعضهما، فلم يكن فيه من التطور ما كان في غيره من الف
وهذه الحقيقة ليست بغريبة عن استنتاج العلماء؛ فقد ذكرها كثير من الباحثين كمسألة لا تحتمل الجدال.
ثم أنه جاء في التاريخ القديم أن اللغة التي انتشرت في المملكة البابلية، قبل زمن حمو رابي بعشرين قرنًا أو أكثر، وهي أم اللغات السامية، كانت ذات حركات للإعراب؛ وأنها قضت أكثر من ألفي عامٍ وهي ذات حياة في سجلات الحكومة ودواوينها وعلى ألسنة العلية من القوم.
وإن كلام العلامة مسبيرو، ظاهر في أن لهجة العامة من سكان المدن والقرى أي أهل الحاضرة، كانت الآرامية.
أما لهجة سكان البوادي، وهم بدو الآراميين، فلم تكن اللغة الآرامية.
إن أهل الحاضرة هم الذين اختلطوا بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم التي كانت فصحى بهذا الامتزاج، وكانت منه اللهجة الآرامية "العامية البابلية"، كما امتزج بعد الإسلام أهل الحاضرة من العرب بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم وكانت منها اللهجة العامية.
هذه اللغة التي ثبتت ألفي عام فأكثر في السجلات الرسمية والدواوين العالية، وعلى ألسنة العلية من القوم، هي ولا ريب اللغة الأم.
وقد كان لها حركات إعرابية، ثم استعجمت في ألسنة العامة من"
أهل الحواضر.
وكان أول ما أضاعته هو حركات الإعراب.
فكانت السريانية القديمة، اللغة المستعجمة المتطورة منها، وهي ليست بذات إعراب؛ لأن ما لا يوجد في الأصل لا يوجد في الفرع.
أما سكان البادية وهم بدو الآراميين أو العرب فلم يفقدوها، فبقيت هذه الحركات ثابتة في لهجاتهم.
وقد حدث مثل ذلك لأهل الحواضر العربية، فأضاعوا حركات الإعراب التي كانت في لغة أهل البوادي منهم باستعجام لغتهم.
وكان أول ما أضاعوه منها هذه الحركات، كما سمعت ما سلف من قضية الأعرابي الذي جاء المدينة في خلافة عمر ليتعلم القرآن، فسمع اللحن في حركات الإعراب وأدى ذلك، بحكم الطبع في ذلك الأعرابي، إلى فهمه غير المراد فأنكره؛ وكما سمعت من قصة ابنة أبي الأسود مع أبيها ا
كان نصيب سكان البوادي الأولين كنصيب سكان البوادي الآخرين في حفظ اللغة بحركاتها الإعرابية ما استطاعوا إليه سبيلًا، وبقدر ما بعدوا عن الأمم الأخرى.
وهكذا نقيس بقياس التمثيل بين العصرين، ونعلم حال القديم الذي لم نره ولا تحققنا خبره، بحال الحديث الذي عرفناه وتحققناه.
ونطمئن إلى القول بأن حركات الإعراب التي كانت في اللغة الأم الأولى قد حفظتها لها البداوة حتى ظهرت في عربيتهم الأخيرة؛ وذلك باستصحاب القهقرى كما يسميه علماء الأصول.
وقد خلت منها اللغات الأخرى الأخوات إلا أثارًا في لغة بطراء ولغة تدمر وأهلها من بقايا العمالقة.
ثم نقول: لكن بدو الآراميين الذين سكنوا البادية العربية، والذين سموا عربًا، لم تذهب منهم هذه الحركات أو أشباهها، بدليل وجودها عند أعقابهم وحفدائهم يوم أخذنا اللغة عنهم، وبدليل أن الذين أخذوها وجدوها راسخة فيهم رسوخ الملكة الطبيعية في النفس، تجري على ألسنتهم في مواقعها دون أدنى قصد أو تعمل ولا كلفة، مما يدل على طول عهدهم بها حتى أصحبت جارية مجرى الطبع.
إن هذه الحركات إذًا متصلة بنا من ميراث اللغة الأولى، أم لغتنا العربية، حفظتها لنا البداوة وحفظها بعد حامليها عن فساد اللسان بالعزلة، وعدم امتزاجهم بالأمم الأخرى.
قلنا: إن هذه الحركات كانت في العرب، واتصلت في الأعقاب على مدى الأحقاب حتى وصلت إلينا.
وسواء أكانت هي كما رأيناها أو اعتراها بعض التحرير، فهي إن لم تكن عينها فليست بعيدة عنها؛ ففي واديها ربيت، وعلى غرارها طبعت، وفي حجرها نشأت، وبدرها غذيت.
والقول بأن العرب عرفوا هذا بمعرفتهم النحو وأنهم احتذوا فيه مثال اليونانيين، فلا أراني كثير الحاجة لدفعه، لأن الإلمام بأحوال العرب قبل الإسلام فضلًا عن الاضطلاع به يكفينا أمره.
وأنى لسكان البادية بمعرفة قواعد النحو كعلم من العلوم؟ وقد سئل أعرابي: أتجر فلسطين؟ فقال: إنني إذًا لقوي، فقيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إنني إذًا لرجل سوء! ففهم هذا البدوي، وهو ممن يوثق بعربيته ويتخذ أئمة اللغة كلامه حجة في النحو واللغة، فهو الجر والهمز بمعناهما اللغوي، ولم يكن للمعنى الاصطلاحي أقل مساس بفهمه وعلمه.
إن الإعرابي القادم من البادية إلى الحاضرة ليتعلم القرآن، وهو بعد لم يبل بفساد اللسان، قد عرف تغير المعنى بتغير حركة "ورسوله" لا من حيث أنه رفع وخفض، بل من حيث أن إفادتها مرفوعة غيرها إذا كانت مخفوضة؛ هكذا فطر طبعه ونمت غريزته.
كيف وضعت الحركات؟
إن الذي اتفق عليه المحققون أن وضع اللغات لم يكن بالتنصيص على لفظ خاص لمعنى خاص، وإنما كان الوضع بالتوسع في الاستعمال على قدر الحاجة وتنوعها بامتداد الزمن وتطاول المدة، وعلى حسب ما هو معروف من سنن التطور.
ويبعد في مثل هذه الحال أن توضع الحركات الإعرابية بمثل هذا النحو من الوضع، وأن تكون على هذه الطريقة، لأن الحركات الإعرابية على ما هو الظاهر ليست مما تدعو إليه الحاجة الماسة بأن تكون ركنًا من أركان التفاهم، فلا يتم بدونها، حتى يقال: إنها جاءت على قدر الح
فكيف كانت إذا هذه الحركات الإعرابية؟ هل هي بقايا كلماتٍ كانت تدل على ما تدل عليه علامات الإعراب، ثم اختزلت بتطاول المدة وصقلت بالاستعمال فصارت كما نراها؟"
يقول بهذا القول كثير من العلماء؛ وقد جاء في المقتطف ما نصه: "يستدل علماء اللغات على أن أصل هذه الحركات كلمات اختصرت على تمادي الزمن، وبقيت الحركات دلالة عليها" هذا قوله.
ولكن هل كانت هذه الكلمات، والتي هي أصل هذه الحركات، خاصة بأم اللغة العربية المعربة، وفي حيزها اختصرت هذا الاختصار؟ أو أنها في أمها الأولى ثم جاءت إليها بالإرث؟ وعلى تقدير أنها كانت في أصل الفرع الأسيوي الأول الذي منه كانت اللغات السامية والآرية والمغولية، فهل أصابها هذا الاختصار كله أو بعضه قبل انفصال السامية (أم العربية) عنه، أو أنه كان من صيغ اللغة السامية؟
ربما يعرف ذلك، ويكشف هذه الغوامض ويحل هذا الإشكال، الباحثون في مقابلة اللغات وتحليلها، إذا تيسر لهم ذلك، وكان في أخوات اللغة العربية وخالاتها ما ينير لهم الطريق بأن كان لهذه الكلمات الإعرابية ما يدل عليها، أو يشير إليها في هذه اللغات.
أما إذا كان مجرد حدسٍ وتخمين، فللحدس والتخمين أيضًا مجال آخر.
وحينئٍذ يجوز لذاهب أن يذهب إلى أن الحركات الإعرابية ربما كانت وضعت بوضع خاص، وذلك بأن يقال: إن أبناء اللغة الأولى كانوا في تمدنهم وعلومهم بمنزلٍة صالحة تدل عليها آثارهم، وقد دلت الآثار أنه كان للبابليين مدارس منظمة يعلمون فيها الحكمة والطب والفلك، وظهر
وأخبرنا التاريخ عن مزيد عنايتهم بلغتهم الفصحى والتي حفظوها واتخذوها لغة رسمية لهم، وكانت مصقولة مهذبة، كما تقدم القول عن العلامة مسبيرو، فلا يبعد، والحال هذه، عن الذين صقلوا لغتهم وهذبوها، أن يكون في جملة ما عملوه في صقلها وتهذيبها وتحريهم البلاغة فيها
ومن ضروب هذا الاختصار وضع العلامات الإعرابية على شكل حركات لا تطول بها الجملة، ولا يتغير بها وضع الكلمة من موقعها فيها، فدلوا بهذه الحركات على مرادهم بها في جملتها، فاعلة أو مفعولة أو غير ذلك، مقدمة أو مؤخرة، لتدل في التقدم والتأخير على معان مراده، وأن
ويكون ذلك منهم حيث قل انتشار الفساد في اللغة، وسرى ذلك في سكان البوادي فحفظوه وجروا عليه.
ولنفرض لذلك مثلًا فنقول: استعمل أبناء اللغة "ما" الاستفهامية بدلًا من "أي شيء" اختصارًا، فاشتبهت "بما" التعجبية ووقعت أفعل بعدها كأحسن في قولك: "ما أحسن زيد"، واشتبه على السامع أي المعنيين يريد المتكلم: ما الاستفهام أو التعجب؟ ونصب القرينة اللفظية تطويل، والمفروض أننا فررنا منه، فحركوا حينئِذ ما وقع بعد التعجب بالنصبـ، وما بعد ما الاستفهامية بالرفع؛ وليس في هذا مشقة ولا إطالة.
وكذلك يتميز الفاعل بالرفع والمفعول به بالنصب، وفي هذا لا يشتبه الفاعل بالمفعول به سواء تقدم أو تأخر.
وتبقى اعتبارات التقدم والتأخر وفوائدها البيانية صحيحة سليمة؛ ولكن هذا إنما يجري حيث يكون الفاعل صالحًا لأن يكون مفعولًا به، أما إذا لم يكن صالحًا لذلك في مثل: "كسر الزجاج الحجر" و "قال الشاعر قصيدة" فإنه يستغنى عن ذلك؛ لكن القسم الأول أكثر في الكلا
ولعل مثل هذا احتجاج إلى مدة متطاولة، وبعد اختلافات كثيرة بين الأصقاع والقبائل في الاستعمال، حتى استقر وثبت منه الأحسن والأصح في الاستعمال، فعم وشاع وذهب ما عداه.
والقول "بالكلمات المختصرة إلى الحركات" تعترضه صعوبات كبيرة في تعليل هذا الاختصار، وتطبيقه على الحركات الإعرابية التي لا يمكن تذليلها إلا بتكلف كثير.
وإذا رأينا أنه من السهل مثلًا أن نقول: إن علامة الرفع (الضمة) قد اختصرت من الكلمة الدالة عليها إلى الواو، الذي هو علامة للرفع أيضًا، ثم اختزل الواو إلى الضمة، فلسنا نرى من السهل تطبيق ذلك على غير هاتين من علامات الرفع، كالألف في المثنى، وثبوت النون في
ويعترض الحدس المفروض للوضع الخاص أن هذه العلامات نراها أول ما يذهب من اللغة عند امتزاج أهلها بغيرهم، وأن صيرورتها إلى الملكة أمر لا يقبله العقل بسهولةٍ وبدون مشقة.
وكيفما كان أحال فقد اتصل إلينا أن أم اللغة العربية أورثت ابنتها هذه نظام الإعراب بالعلامات، فتقف عند هذا القدر المحقق من البحث، ونترك ما عداه إلى المحققين في اللغات، حتى يظهر البحث ما تطمئن إليه النفوس.
والذي تحقق من ذلك أن العرب، وهم بدو الآراميين، قد اتخذوا هذا الميراث، وجرى فيهم مجرى الملكة، وهم في عزلتهم، فلم يتسرب إليهم الإهمال، وحفظته لهم البادية فلم يتأثروا بما تأثر به إخوانهم، وأصبح ملكة راسخة فيهم.
وليس معنى قولنا إنه أصبح ملكة راسخة، أنهم لا يقدرون على اللحن ولا يمكن أن تجري عليه ألسنتهم، كما كنا نتلقاه من مشايخنا زمن الدراسة، بل معناه أن ألسنتهم تجري بلا تعمل ولا كلفة على هذا النظام، شأن من يتمرن عليه في هذه الأيام، فينطلق به لسانه دون تعمل أيضًا؛ وإذا كان لا يسلم متمرن اليوم من الخطأ والغلط الذي يكثر ويقل بحسب مرانه، فلأن مرانه كان ناقصًا من حيث أنه يتمرن في بيئة ملؤها الخطأ والغلط.
وعلى العكس متمرن ذلك الزمن الذي ببيئته ملؤها صواب وصحة.
إن سكان هذه الجزيرة اتخذوا حفظ اللغة على هذا النحو تقليدًا لهم، في التجاوز عنه كل العيب والعار.
ولا ترسخ عادة في قوم ما لم تتخذ تقليدًا عامًا مستحبًا يعاب تاركه على تركه أو تجاوزه.
فكان التمرن عليها راسخًا يشب عليه الصغير ولا يشذ عنه الكبير، فيكون عامًا شاملًا شائعًا بين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وتجاهلهم.
ولم يحجم نقله اللغة من الأئمة، الآخذون اللغة عن الإعراب، أن يعتدوا بلغة الصبيان والمجانين لأنهم آمنون على ملكتهم من الخطأ، فكان بعضهم يحتج لمذهبه بكلام أمثال هؤلاء ولا ينكره عليه منكر.
قال ابن دريد في "أماليه" عن الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون، فوقفت وصدوني عن حاجتي وأقبلت أكتب ما أسمع، وإذا بشيخ أقبل فقال: أتكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع؟ "
لم يحجم الأصمعي، وهو إمام اللغة، عن أن يكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع أي صغار الناس وأراذلهم، لأنه يرى في كلامهم حجة لا تنكر عليه.
وأما قول الشيخ: "أتكتب": مستنكرًا، فما هو إلا استصغار لأمرهم واحتقار لأمرهم واحتقار لشأنهم من حيث أنهم أقزاع أدناع، لا من حيث أنه مخطئ أو مصيب بالأخذ عنهم.
فهو نظير أن تختار لأمرك حاذقًا فيه، ولكنه صغير المنزلة دنئ الحسب مستقذر العيش، مع أنك لا تعدم حاذقًا مثله يكون كريم الحسب رفيع المنزلة ظاهر المروءة.
ويصح لمن يغار عليك أن يلومك على هذا الاختيار، وليس معنى لومه أنه يطعن في حذقه بل كان الطعن عليه من حيث نفسه وحاله.
آخر عهد البادية بها
إن هذه الملكة الراسخة في هؤلاء الأعراب قد أهملت أولًا في القبائل المجاورة للأعاجم بالاختلاط بهم، ولم يسمع عن أحد من العرب الجاهليين أن الأئمة تحرزوا عن الاحتجاج بلغته قبل عد بن زيد العبادي، الذي نشأ بين الفرس وفي خدمة الأكاسرة.
ولما فسدت لغة الأمصار كان ذلك يسري منها إلى البادية بقوة الاختلاط وضعفها، وكانت السلامة تتقهقر أمام هذه القوة، وبقى هذا الغزو مستمرًا إلى أخريات القرن الثالث للهجرة وما بعده بقليل، حتى ذهبت هذه الملكة أو كادت.
وعم اللحن أقطار العربية، باديها وحاضرها، وصينت الفصحى المعربة في دفاتر العلماء والأدباء، وفي المجامع العلمية، وعلى ألسنة الخطباء والشعراء والكتاب.
ولم تزل للعامة في أزجالهم وأغانيهم مكانة باختلاف الأقطار العربية.
والعامية في بلاد المغاربة أصبحت كأنها لغة أخرى غير عامية المشارقة؛ وتختلف عامية الشام، وعن عامية نجد والعراق.
الفصيح والعامي من حيث الاستعمال
لم تخرج العامية في تحريفها وعدم ضبط قواعدها عن كونها لغة عربية.
والتحريف كان معروفًا في الفصحى باختلاف لغات العرب، كما سبق الكلام عليه، وإن كان في الفصيح أشد وأقوى وأبعد مرمى، فهو في العامي أظهر وأكثر، وبه ألصق.
فالعامية بالنسبة إلى الفصحى، وهذه بالنسبة إلى المتقدمين والمحدثين على ضروب: "
1 - ألفاظ انفرد بها المتقدمون من العرب وتركها المحدثون، إما لاستعمالهم مرادفها: كمبشور في الناقة الشديدة السريعة، استعملوا كأنها: علنداة؛ أو لأنها من الحواشي البعيد عن الطبع كقولهم: مخر نبق لينباع؛ قال ابن فارس: وكذلك يعلمون معنى ما تستغربه اليوم من
قولنا: "عبسور" في الناقة و "عيسجور" و "امرأة خناثى" و "فرس أشق أمق خبق.
ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرسم الذي تراه، أو تركها المحدثون لأنها غير مأنوسة عندهم، وإن كانت غير حوشيه كأجبى في الحديث الشريف: "من أجبى فقد أربى.
2 - ألفاظ استعملها المتقدمون وخواص المحدثين ولم تعرفها العامة كقولهم: "طخية عمياء، ومرة سوداء.
3 - ألفاظ استعملها العرب وعرفتها العامة وقل استعمال الخاصة لها، فلم تشع بينها، وهو ما يسمى بالغريب الفصيح في العامي.
4 - ألفاظ للعرب فيها لغتان أو أكثر، أخذت العامة ببعضها والخاصة ببعض آخر "كفز" عند العامة و "قفز" عند الخاصة، و "ما فيها دومري أو تومري" عند العامة و "ما فيها ديار" عند الخاصة.
5 - ألفاظ استعملها العرب قديمهم وحديثهم، وقل استعمال العامة لها، فكانت من أجل ذلك مصونة لم تتبذل.
والفرق بين هذا الضرب والضرب الثاني أن ذاك لم تعرفه العامة أو لم تكد تعرفه، وهذا عرفته ولكنها لم تألفه كـ "أمررت الحبل وأحصدته" أي فتلته.
و "حبل ممر ومحصد" أي مفتول، وقد عرفت العامة منه قولهم "عقدة مرة" أي محكمة العقد.
6 - ألفاظ مثل ذلك ولكنها ابتذلت مد عركتها العامة بألسنتها وامتهنتها بتحريفها، فاجتنبتها الخاصة وأعرضت عنها مثل قول العام: "اصطفل في الأمر" أي افعل ما تشاء، محرفة عن "افتصل" وهو افتصال من الفصل أي اتخذ الفصل الذي تريده من عملك.
7- ألفاظ مثل ذلك كثيرة الدوران في الكلام لا يستغني عنها، فلم يضرها كثرة الاستعمال لمكان الحاجة، كقولك: "شربت ماء، وأكلت طعامًا، وقرأت كتابًا" وهذا أكثر الكلام العربي.
8 - ألفاظ حرفتها العامة باستعمالها إلى مستنكره، فتركت الخاصة استعمالها الأول لمكان الاستكراه في المعنى الثاني كـ "الصرم" بمعنى القطيعة و "الغائط" للمنخفض من الأرض؛ حرفت العامة الكلمة الأولى لمعنى "السرم" والثانية لمعنى "الخرء".
وإذا أردت مزيد تعمقٍ في هذا البحث وفي الفروق بين الفصيح وتحريفه العامي، فعليك بمراجعة كتابنا "رد العامي إلى الفصيح" ففيه ما يقوم بوفاء حاجتك فيه، إن شاء الله.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
20-معجم متن اللغة (وبنوا تميم يهمزون فيقولون إرأ وارأيا وارأوا الخ وقالوا في الاستخبار)
وبنوا تميم يهمزون فيقولون إرأ وارأيا وارأوا الخ *** وقالوا في الاستخبار: أرأيتك زيدًا ما فعل أو ما حاله بمعنى أخبرني "مفتوحة التاء في حالات التذكير والتأنيث والتثنية والجمع والإفراد مزيدًا فيها الكاف لتدل على تلك الحالات، فإن كانت بمعنى العلم ثنيت وجموتكرر العرب: ألم تر، عند التعجب من الشيء وعند تنبيه المخاطب أي لم تخبره، وهو سؤال فيه إعلام وفيه تعجب.
وقال اللحياني: يقال إنه لخبيث ولم تر ما فلان؛ ولو ترى ما فلان، رفعًا وجزمًا؛ وكذلك ولا تر ما فلان، ولا ترى ما فلان في الرفع والجزم؛ فإذا قالوا: إنه لخبيثٌ بولم تر ما فلان، قالوه بالجزم، وفلانٌ في كله رفعٌ، وتأويله ولاسيما فلان، حكي ذلك عن الكسائي كله.
وقالوا: بعينٍ ما أريتك أي اعجل وكن كأني أنظر إليك.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
21-معجم متن اللغة (اعترف بذنبه)
اعترف بذنبه: أقر.و- هـ: عرفه.
و- له: وصف نفسه بصفة يحقق نفسه بها: طلب أن يعرف.
و- إلي: أخبرني باسمه وبشأنه.
و-: ذل وانقاد: صبر.
و- القوم: سألهم عن خبر ليعرفه.
والاسم العرفة والعرفة.
و- اللقطة: عرفها بصفتها وإن لم يرها في يد الرجل.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
22-معجم متن اللغة (واكتتنيه)
واكتتنيه: أخبرني به كما سمعته.معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
23-معجم متن اللغة (مهيم)
مهيم: كلمة استفهام أى ما حالك وما الذى أرى بك وما وراءك "يمانية".أو اسم فعل بمعنى أخبرنى.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
24-جمهرة اللغة (بضط بطض ضبط ضطب طبض طضب)
ضَبَطَ الرجلُ الشيء يضبِطه ضَبْطًا، إذا أخذه أخذًا شديدًا.والرجل الضابط: الشديد الأيْد.
ويقال: رجل أضْبَطُ، ولا نعلم له فعلًا يتصرّف، وهو الذي يعمل بيديه جميعًا.
وكان عمر رضي اللّه عنه أضْبَطَ يعمل بكلتا يديه.
وأخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: أخبرني من حضر جَنازة رَوْح بن حاتم وباكيته تقول:
«أسَدٌ أضْبَطُ يمـشـي*** بين طَرْفاءَ وغِـيلِ»
«لُبْسُه مِن نـسـج داو*** دَ كضَحْضاحِ المَسيلِ»
وبنو الأضْبَط: بطن من بني كِلاب.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
25-جمهرة اللغة (حزن حنز زحن زنح نحز نزح)
الحَزْن: الغِلَظ من الأرض، مثل الحَزْم سواء.وقد فصل قوم فزعموا أن الحَزْن أغلظ من الحَزْم، وليس بالمعروف والجمع حُزون.
وأَحْزَنَ الرجلُ، إذا ركب الحَزْنَ.
والحُزْن.
معروف، يقال: حَزِنَ يحزَن حُزْنًا وحَزَنًا.
وقد قُرئ: {إنما أشكو بَثّي وحُزْني إلى الله}، وحَزَني.
وحَزَنني هذا الأمرُ وأحزنني، لغتان فصيحتان أجازهما أبو زيد وغيره.
وقال الأصمعي: لا أعرف إلاّ حَزَنَني يحزُنني، والرجل محزون وحزين، ولم يقولوا مُحْزَن.
وجمع الحُزْن أحزان.
وحُزانة الرجل: أهله الذين يحزن بحزنهم ويفرح بفرحهم.
والزَّحْن: الحركة يقال: زَحَنَه عن مكانه يزحَنه، إذا أزاله عنه.
والزَّنْح: الدفع، وليس بثَبْت يقال: زَنحَه يزنحه زَنْحًا، وأحسب أن أبا مالك ذكرها.
والنَّحْز من قولهم: نحزتُ الشيءَ أنحَزه نحْزًا في الهاوون.
قال أبو بكر: قيس تقول: هو الهاوون، ولا يعرفون الهاوَن، أخبرني عبد الرحمن عن عمه الأصمعي بذلك.
والنُّحاز: سُعال يصيب الإبل والغنم.
قال القطامي:
«أتَرَى منه رؤوسَ الخيل زُورًا*** كأنّ بها نُحـازًا أو دُكـاعـا»
الدُّكاع: داء يأخذ في الجنب شبيه بالتقبُّض، والبعير منحوز وبه ناحز.
ويقال: نحزتُ الدابَّة برجلي، إذا حركتها لتستحثّها.
وتقول العرب للرجل إذا شتموه: نَحْزَةً لك ونُحازًا لك، ويقال: فلان من نِحازِ صمتي، كما يقال: من نِحاسِ صدقٍ، أي من أصل صدق.
ونَحيزة الرجل: طبيّعته وغريزته، والجمع نَحائز.
ويقال: فلان من نِحاز فلان ومن نِحاسه، إذا كان مِن ضربِه وشبهه.
والنَّحيزة: غِلَظ من الأرض ينقاد ويستطيل في سهولة، والجمع نَحائز.
والنَّحيزة: سفيفة كالعَرَقَة يُسَّدّ بها الهودج، وتُجمع نَحائز أيضًا.
ونَزَحْتُ البئرَ وغيرها أنزَحها نَزْحًا، إذا استقيست ما فيها أجمعَ.
وربما قالوا: أنزح الماءُ، إذا نضب.
ويقول بعض العرب: أنزحتُ البئرَ، إذا وجدتها منزوحةً، كما يقال: أقفرتُ المكانَ، إذا وجدتّه قَفرًا.
قال الشاعر:
«أُمامةُ حَاّلتْ بعد عهدك راكِسـا*** وأقفرتُ منها رَحرحانَ فداحِسا»
أي أصبتُه قفْرًا، ونزحتْ دارُ بني فلان، إذا تباعدت، نزوحًا.
والنّازح، البعيد.
ونزحت العينُ الدمعَ نَزحًا.
والدار نازحة، والبئر منزوحة، والرجل نازح ونزيح.
والمِنْزحة: ما نزحتَ به ماء البئر من دلو أو غيرها.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
26-جمهرة اللغة (حسي حيس سحي سيح يحس يسح)
الحِسْيُ: ماء في رمل تحته أرض صلبة تمنعه أن يسوخ ويقيه الرملُ من الشمس والسَّموم فإذا بحثتَ الرملَ نَبَعَ الماءُ، والجمع أحساء، وإذا استُقِيَتْ منه دلوٌ جمَّت أُخرى.والسَّيح: مصدر ساح الماء يسيح سَيْحًا، إذا جرى على وجه الأرض، ثم سُمِّي، الماء بالمصدر، فقيل: ماء سَيح، والجمع سُيوح.
ورجل سائح: يسيح في البلاد لا يستقرّ.
والحَيْس: معروف، تمر يُخلط بأقِطٍ وسمن ثم يُدْلَك حتى يختلط.
قال الراجز:
«التَّمْرُ والسَّمْنُ جميعًا والأَقِطْ *** الحَيْسُ إلاّ أنه لم يختلِطْ»
وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: فُطِمْتُ على الحَيْس والموز، أخبرني بذلك عبد الرحمن عن عمّه.
ورجل مَحْيوس، إذا ولدته الإماءُ من قِبَل أبيه وأمه.
قال أبو بكر: أخرجه على الأصل، والوجه أن يكون مَحِيسًا مثل مَخِيط.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
27-جمهرة اللغة (خرف خفر رخف رفخ فخر فرخ)
الخَرَف: فساد العقل من الكبر، خَرِفَ الرجلُ يخرَف خَرَفًا فهم خَرِفٌ، وامرأة خَرِفَة.وخرَفتُ النخلَة أَخرِفها وأَخرُفها خَرْفًا، إذا اجتنيت ثمرتها وهو جَناها.
والخُرافة: ما اخترفت من النخل، مثل الجُرامة.
والمِخْرَف: المِكْتَل الذي يُخترف فيه.
والمَخْرَف، بفتح الميم: الجماعة من النخل يُخترف ثمرها.
والمَخْرَفَة: الطريق الواضح تقول العرب: تركته على مثل مَخْرَفَة النَّعَم، أي على أمر واضح مكشوف.
والخَريف: وقت من أوقات السّنة، معروف.
ومطر الخريفِ والخِرْفيُّ: المطر في ذلك الوقت.
والمثل السائر: "حديثُ خُرافةٍ يا أُمَّ عَمْرِو".
وزعم ابن الكلبي أنه رجل من بني عُذْرَة اختطفته الجنّ ثم رجع إلى قومه فكان يحدِّث بأحاديث يُعجب منها فجرى على أَلْسُن الناس: حديثُ خُرافة.
والخَروف من الغنم: دون الجَذَع من الضَّأْن خاصةً.
ومثل من أمثالهم: "مِثل الخروف يتقلّب على الصوف"، يقال ذلك للرجل المَكْفيّ.
وجمع خَروف خِرْفان.
والخُرّاف: الذين يخرِفون النَّخل، الواحد خارف.
وبنو خارِف: بطن من العرب.
وبنو مخرِّف: بطن منهم أيضًا.
وخَفِرَتِ المرأةُ تخفَر خفَرًا، إذا استحيتْ، والاسم الخَفَر والخَفارة.
ومن هذا قولهم: فلان من أهل الخَفارة والتنزّه، بفتح الخاء.
وامرأة خَفِرَة: حَيِيَّة.
وخفرتُ القوم أخفُرهم خَفْرًا وخفارة، إذا أجرْتَهم، فالرجل خَفير والمرأة خَفيرة والقوم مخفورون.
فأما الخُفارة فالأجرة التي يأخذها الخفير، ويمكن أن تسمَّى الخِفارة، مثل الجِعالة.
قال الأعشى:
«ولا براءةَ للـبَـرِيِّ***ولا عطاءَ ولا خِفارَهْ»
وأخذ فلان خُفارةً من فلان، إذا أخذ منه جُعْلًا ليُجيره، وقد قالوا: خَفَرَ فلان بفلان، كما قالوا: كَفَلَ به.
وأخفرتُ القومَ إخفارًا، إذا غدرت بهم، فأنا مُخْفِر، والقوم مُخْفَرون.
والعرب تقول: آخْفُرْني، أي اجعل لي عهدًا، ولا تُخْفِرني، أي لا تنقض العهد الذي بيني وبينك.
والفَخْر: أن يعدَّ الرجل قديمَه، فَخَرَ يفخَر فَخْرًا وفَخَرًا، وتفاخر القومُ وفاخروا تفاخرًا وفِخارًا وافتخروا افتخارًا.
فأما الفِخار بالكسر فمصدر المفاخرة، وقال أبو زيد: يقال: فَخَرْتُ الرجلَ على صاحبه فأنا أفخَره فَخْرًا، وذلك إذا فاخره رجل ففضّلته عليه، وكذلك خِرْتُه عليه أَخِيره خِيرَةً وخِيرًا، أو أنفرته عليه إنفارًا، وأفلجته عليه إفلاجًا، وخيّرته عليه تخييرًا، ومعنى هذا كله واحد، وهو أن تفضِّله على صاحبه.
وفاخرني الرجلُ ففَخَرْتُه أفْخُره، وفاضلني ففَضَلْتُه أَفْضله فضَلاَ.
والفاخر- ويقال الفاخز بالرّاي والزّاي- من البُسْر: الذي يَعْظُم ولا نَوى له، وهو عيب في النخلة.
قال:
«ثمّ أتى فاخرَها فأَكلَهْ»
وأخبرنا أبو حاتم قال: أخبرني رُوَيْشِد الطائي أو ابن رُويشد الطائي قال: مررت بالجبلين، جبلَي طيّىء، على امرأة تبكي تحت نخلة فقلت لها: ما يبكيك? فقالت: إن آبِرَها أضَلَّها، تعني: لم يلقِّحها، أفسدها، ثم قالت:
«أضلَّها أَضَلّ ربّي عَمَلَهْ *** ثمّ أتى فاخِرَها فأكَلَهْ»
«ثُمَّتَ قالت عِرْسُه لا ذَنْبَ لَهْ *** لو قَتَلَ الغَلُّ امرأً لَقَتَلَهْ»
الغَلّ: الخيانة، مصدر غَلّ يَغُلّ غَلاًّ، ويُروى: فاخِزها، بالزاي، وهو الجُردان العظيم، ويقال له الفاخِز والفَيْخَز قال أبو حاتم: من قال بالزاي فقد صحَّف، إنما هو بالراء.
وشاة فَخور، إذا عَظُمَ ضَرْعُها وقلّ لبنُها وربّما سُمِّي الضّرْع فاخرًا وفَخورًا، إذا كان كذلك.
وأنشد لعبد المسيح ابن بُقَيْلَة الغَسّاني:
«وكنّا لا يبـاح لـنـا حَـريمٌ***فنحن كضرَّة الضرْع الفَخورِ»
وقال قوم: بل هو الفَخوز بالزاي المعجمة، والضَّرَّة: وسط الضَّرْع الذي لا يخلو من اللبن.
وفرس فَخور، إذا عَظُمَ جُرْدانُه.
قال أبو حاتم: غُرْمول فَيْخَز، بالزاي المعجمة، إذا عظم والفَيْخَز، والجمع الفياخر: الرجل العظيم الجُرْدان، وقالوا: فحل فَيْخَز، بالزاي المعجمة، إذا عظم، هكذا قال أبو حاتم.
والفَخّار: الخَزَف المتَّخَذ من الطين.
وفي التنزيل: {من صَلْصالٍ كالفَخّار}، قالوا: هو حَمْأة الغدير إذا جفّ فسمعت له صلصلةً كالخزَف، والله أعلم.
ونخلة فَخور: عظيمة الجِذع غليظة السَّعَف.
والمَفْخَرَة: المأثُرة يفتخر بها الرجل، والجمع مَفاخر.
والرَّخْفَة والرَّخْف: الزُّبد الرقيق.
يقال: زبدة رَخفَة، إذا كانت رِخوة، وقد رَخفَتْ رَخافةً ورُخوفةً، إذا رقت.
والرَّخْفة أيضًا، والجمع رِخاف: حجارة خِفاف رِخوة كأنها جُوف، وهذا غلط.
قال الأصمعي: هي اللِّخاف.
وذكر أبو مالك أنه سمع: عيش رافخ، في معنى رافغ، أي واسع.
والفرْخ: فَرْخ الطائر، والجمع فراخ وفروخ، وكثر في كلامهم حتى قيل لصغار الشجر فِراخًا، إذا نبتت في أصول أمّهاتها.
والمَفارخ: المواضع التي يفرّخ فيها الطير، الواحد مَفْرَخ.
ويقال: أفرخَ الطائر إفراخًا وفرّخ تفريخًا.
ويقال للرجل عند الفزع: "أَفْرَخَ رَوْعُك"، أي لن تُراع مأخوذ من انكشات البيضة عن الفرخ.
وبيضة مُفْرِخ، إذا كان فيها فَرْخ.
والفُرَيْخ: قَيْنٌ كان في الجاهلية معروف تنسب إليه النِّصال والنِّبال.
قال الشاعر:
«ومَقذُوذَيْنِ من بَرْي الفُرَيْخِ»
والفَرْخة: السَّنان العريض.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
28-جمهرة اللغة (رضع رعض ضرع ضعر عرض عضر)
الرَّعَش: الرِّعدة، رَعِشَ يرعَش رَعشًا ورَعشًا ورَعشانًا فهو راعش.وشَمِر يَرْعش: ملك من ملوك حمير كان به ارتعاش فسمّي يَرْعَش.
والشَّعَر: معروف، بتحريك العين وتسكينها، وتقول العرب: ما شعرتُ به شِعْرًا وشِعْرَة وشعورةً.
والشاعر سمّي شاعرًا لأنه يشعر للكلام.
وقولهم: ليت شِعري، أي ليتني أشعر بكذا وكذا.
والشَّعير: حَبّ معروف.
وشَعائر اللهّ: المناسك، وهي أنصاب الحَرَم، واحدتها شَعيرة هكذا يقول أبو عُبيدة، والمَشاعر التي هي مَناسك الحج واحدها مَشْعَر، وهي الأنصاب أيضًا.
وأشعرتُ البَدَنَة، إذا طعنت في سَنامها بمِشْقَص أو سِكَّين لتدمى فيُعلم أنها بَدَنَة.
وشَعيرة الّسيف من فضة أو حديد، وهي رأس الكَلْب، والكَلْب: المِسمار في قائم السيف.
والشِّعار: كل شيء لبسته تحت ثوب فهو شعار له.
وشِعار القوم: ما تداعوا به عند الحرب من ذِكر أب أو أم أو غير ذلك.
وأشعرَ فلانٌ فلانًا شرًّا، إذا غشِيَه به.
وأشعرَه الحبُّ مرضًا، إذا أبطنه إياه.
والشَّعْراء: ضرب من الذُّباب أزرق.
والشَعْراء أيضًا: هذا الخوخ المعروف.
والشُعَيْراء: ابنة ضَبَّةَ بن أُدّ ولدت لبكر بن مُرّ أخي تميم ابن مُرّ ولده، فهم بنو الشُّعيراء.
وقال قوم: بل الشُّعَيْراء لقب بكر بن مُرّ نفسه.
والشِّعْرَيان: نجمان، وهما الشِّعْرَى العَبور والشِّعْرَى الغُمَيْصاء.
قال أبو بكر: إنما سُمّيت الغُمَيْصاء لأنها أقلّ نورًا من العَبور، وسُمّيت العَبور لأنها تعبُر المَجَرَّة، هكذا يقول قوم.
وأشاعر الفرس: ما حول حافره من الشَّعَر.
وأشاعر الناقة: جوانب حَيائها.
ويقال: داهية شَعْراء وداهية وَبْراء.
ومن كلامهم للرجل إذا تكلم بما يُنكر عليه: جئت بها شَعْراءَ ذاتَ وَبَر.
والشَعْرَة: العانة.
وخُفٌّ مُشْعَر: مبطَّن بِشَعَر.
وشَعْر: جبل معروف، غير مصروف.
والأشْعَر والأقْرَع: جبلان بالحجاز معروفان.
ورجل أشْعَرُ وامرأة شَعْراءُ: كثير الشَّعَر.
والشُّعرور: نبت.
وتفرَّق القومُ شَعاريرَ شذَر مذَرَ، وشعاريرَ قِنْدَحْرَة.
وجاء أميّة بن أبي الصَّلت في شعره بالشَّيْتَعور، وزعم قوم أنه الشعير، ولا أدري ما صحّته.
وروضة شَعْراء: كثيرة الشجر.
ورملة شَعْراء: تُنبت النَّصِيَ وما أشبهه.
والشِّرْع: الوَتَر، والجمع شِراع وشِرَع.
قال الهذلي:
«وعاوَدني ديني فبـت كـأنّـمـا***خلالَ ضُلوع الصّدرِ شِرْعٌ ممدَّدُ»
وشَريعة النّهر ومَشْرَعَته: حيث ينحدر إلى الماء منه، ومنه سُمّيت شريعة الدِّين إن شاء الله تعالى لأنها المَدْخَل إليه، وهي الشِّرْعَة أيضًا.
وأشرعَ القومُ الرِّماحَ للطعن، إذا هم صوّبوها.
ودُور شوارعُ: على نهج واضح.
والشِّراع، شِراع السفينة: معروف.
وما لهم بينهم شَرَعٌ واحد وشَرعٌ واحد، والفتح أعلى، أي هم سواء، وله في المال سهمٌ شَرَع.
وسقى إبلَه التشريعَ، إذا أوردها شِراعَ الماءَ فشربت ولم يستقِ لها.
ومثل من أمثالهم: "أهوَنُ السَّقي التشريعُ ".
والعَشْر: عَقْد معروف.
والعَشْر: عَشْر ذي الحجَّة.
والعُشْر: جزء من عشرة أجزاء.
وأما قولهم: عِشرون فمأخوذ من أظماء الإبل، أرادوا عِشْرًا وعِشْرًا وبعضَ عشْرٍ ثالث، فلما جاء البعضُ جعلوها ثلاثة أعشار فجمعوا عِشرين على فِعْلين فقالوا: عِشرين وذلك أن الإبل ترعى ستّة أيام وتقرب يومين وتَرِد في اليوم التاسع وكذلك العِشر الثاني، فصار العِشران ثمانية عشرَ يومًا وبقي يومان من العِشْر الثالث فأقاموه مقام عِشْر.
والعِشْر: آخر الأظماء.
قال ذو الرمّة:
«حنينَ اللِّقاح الخُـورِ حـرَّق نـارَه***بجَرْعاءِ حُزْوَى فوق أكبادها العِشْرُ»
وعاشوراء: يوم سُمّي في الإسلام ولم يُعرف في الجاهلية.
قال أبو بكر: وليس في كلام العرب فاعولاء ممدودًا إلاّ عاشوراء، هكذا قال البصريون، وزعم ابن الأعرابي أنه سمع خابوراء، أخبرني بذلك حامد بن طرفة عنه، ولم يجىء بهذا الحرف أصحابُنا، ولا أدري ما صحّته.
وناقة عُشَراء، إذا بلغت في حملها عشرة أشهر وقرُب وِلادها، والجمع عِشار.
قال الشاعر:
«بلاد رَحْبَةٌ وبها عِـشـارُ***يَدُلُّ بها أخا الركْبِ العِشارُ»
وكذا فسّروا في التنزيل: {وإذا العِشارُ عُطِّلَتْ}، قالوا: هي الإبل الحوامل، كذا قال أبو عُبيدة والله أعلم.
وعشَّر الحمارُ تعشيرًا، إذا نَهَقَ عَشْرًا في طَلَق واحد.
وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنَون الذي يعاشرونه، وهكذا ذكر أصحاب المغازي أن النبي صلى اللهّ عليه وآله وسلم لما أنزل عليه: "وأنذِرْ عشيرتَك الأقربِينَ" قام فنادى: يا بني عبد مَناف.
وعشير الرجل: امرأته التي تعاشره في بيته، وهو عشيرها أيضًا.
ولك عُشر هذا المال وعَشيره ومِعْشاره.
والعُشَر: نبت معروف.
وأعشار الجَزور: أنصباؤها إذا قُسمت بين الناس.
وعشّر الجزارُ خِيرة اللحم، إذا أخذ منه أطايبَه.
وذو العُشَيْرة: موضع معروف غزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبنو العُشَراء: قوم من العرب في غَطَفان لهم حديث لا أستجيز ذِكره.
وقِدْر أعشار: عظيمة، وقد فسّروا بيت امرئ القيس:
«وما ذَرَفَت عيناكِ إلاّ لتضربِي***بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتَّل»
قال البصريون: أراد أن قلبه كُسِرَ ثم شُعِبَ كما تُشعب القِدر.
وقال آخرون: بل أراد أن قلبه قُسم أعشارًا كأعشار الجَزور فضربت بسهميها فخرج الثالث وهو الرقيب فأخذت ثلاثة أنصباء ثم ثنّت فخرج السابع وهو المعلَّى فأخذت سبعة أنصباء فاحتازت قلبَه أجمعَ، وهو أحسن التفسيرين.
وفلان حَسَنُ العشرة والمعاشَرة.
والعَرْش: السرير.
والعَريش: ظُلَّة من شجر أو نحوه، والجمع عُرُش.
والعُرْشان من الفرس: آخر شَعَر العُرْف.
ويقال: ثلّت عروشُ بني فلان، إذا تشتَّتت أمورهم.
ويقال: ضربه فثَل عُرْشَيْه، إذا قتله.
قال ذو الرمّة:
«وعَبْد يَغُوثَ تَحْجلُ الطيرُ حوله***وقد ثَلَّ عُرْشَيْه الحُسامُ المذكّر»
ويُروى عَرْشَيْه "أيضًا.
وبئر معروشة، إذا طُرح عليها خشب يقف عليه الساقي.
فيُشرف عليها، وربما سُمّيت معروشةً أيضًا إذا ظُلِّلت.
قال الشاعر:
«ولما رأيتُ الأمز عَرْش هَوِيَّةٍ***تسلّيت حاجاتِ الفؤادِ بزَيْمَرا»
زيْمَر: اسم ناقته.
وعرّشتُ الكرمَ تعريشًا وعَرَشْتُه عَرْشًا، إذا جعلت تحته خشبًا ليمتدّ عليها، وكرم معروش ومعرَّش.
وعرْشان: اسم رجل.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
29-جمهرة اللغة (رمي ريم مري مير يرم يمر)
رمى يرمي رَمْيًا، وكل شيء رميته من يدك من حجر أو سهم فهو رَمِيّ، فإذا ألقيت شيئًا عن شيء قلت: أرميتُه عنه إرماءً.قال الراجز:
«جرداءَ مِسحاجًا تباري مِسْحَجا *** يكاد يُرْمى القَيْقَبانَ المُسْرَجا»
أي يلقيه عن ظهره.
ويقال: أرْمَى الرجل على الخمسين، إذا زاد عليها.
وكل شيء زاد على شيء فقد أرمَى عليه إرماءً، وكذلك أربَى عليه.
قال الشاعر:
«وأسـمـرَ خـطـيًّا كـأنّ كـعـوبَـه***نَوَى القَسب قد أرمَى ذِراعًا على العشر»
ويُروى: قد أربَى، أي زاد عليها.
والرَّميَّة: ما رميته من شيء، كما أن الضَّريبة ما ضربته.
والرَّميِ: المَرْميّ.
والرمِيّ والسَّقِي: ضربان من السحاب.
والرِّماية: مصدر رامٍ حسن الرماية.
والمِرماة: السهم.
والمِرماة التي في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو دُعي إلى مِرماة) فسّروه: الظِّلف أو الهُنَيَّة التي بين الظلفين، والله أعلم.
ورُمَيّ: موضع.
ورِميان: موضع.
وقالوا إرْمِياء، وأحسبه معرَّبًا، وهو اسم نبي عليه السلام.
ورِمّيا من قولهم: كانت بينهم رِمِّيّا ثم صاروا إلى حِجِّيزَى.
والرَّيم: مصدر رام يريم رَيْمًا، وما رِمْتُ عن المكان، أي ما بَرِحْتُ.
ورَئمَتِ الناقةُ ولدها رئمانًا، وموضعه في الهمز تراه إن شاء الله.
والرَّيْم: ما يبقى من البعير الذي يتياسر عليه، وهو عظم الصَّلا وما لصق به يُدفع إلى الجازر فإن أخذه أحد من الأيسار عُير به.
قال الشاعر:
«وكنتم كعظم الرَّيم لم يدْرِ جازرٌ***على أيِّ بَدْأيْ مَقْسِم اللحمُ يُجعلُ»
والريْم أيضًا: الزيادة والفضل، يقال: لفلان رَيْم على فلان، أي فضل.
قال الشاعر:
«فأقع كما اقعَى أبوكَ على أسْتِهِ***يرى أن رَيْمًا فوقه لا يزايلُـه»
والريم: القبَر، زعموا، في بعض اللغات.
والرَّيْم: من آخر النهار إلى اختلاط الظلمة.
والريْم: الدرجة والدُّكّان، لغة يمانية.
وأخبرنا أبو حاتم قال: أخبرني الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: كنت باليمن فأتيت دار رجل أسأل عنه فقال لي رجل من الدار: أسمُكْ في الريْم، أي اصْعَدِ الدرجة.
والرّئم: يهمز ولا يُهمز، والهمز أكثر وأعلى، وهو الظبي الأبيض، والجمع آرام، وهي ظِباء تكون في الحُزون والغِلَظ من الأرض.
وريْمان: موضع.
والمَيْر: مصدر مِرْتُ أهلي أميرهم ميْرًا، وهي الميرة، غير مهموز.
فأما المِئْرَة، بالهمز، فهي النميمة، وموضعها في الهمز تراه إن شاء الله.
وقال قوم من أهل اللغة: بل المِئْرَة الحقد والعداوة.
ويقال: أمر مئير، أي شديد.
ويقال: ما عندك لا خَيْر ولا مَيْر، وهذا من المِيرة، غير مهموز.
والميار: الذي يخرج إلى المِيرة.
قال الراجز:
«قد يَخْلُفُ الميّارَ في الجُوالقِ *** في أهله بأفلقَ الفَلائقِ»
«صاحب أدهانٍ ودِين مارقِ»
يقول: يتدهن ويتطيّب ويتحدّث إلى النساء فهو يَخلف الرجلَ الميارَ في أهله بالداهية.
والمَرْي: مصدر مَرَيْت أخلافَ الناقة بيدي لتَدرَّ أمْرِيها مَرْيًا، ثم كثر ذلك حتى قيل: مَرَتِ الريحُ السحابَ تَمريه مرْيًا، إذا استمرّت ماءه.
وقالوا: بالشكر تمْتَرى النعم، أي تُستدرًّ والمَريء: مجرى الطعام والشراب إلى الجوف، مهموز، وستراه في باب الهمز إن شاء الله.
ويقولون: ليس في هذا شَكٌّ ولا مرْية، بكسر الميم وضمها، من الامتراء.
فأما مُرْيَة الناقة أن تُستدرّ بالمَرْي فبضمّ الميم، وهي اللغة العالية، وقد قيل بالكسر أيضًا.
قال الشاعر:
«أصبحتْ حربُنا وحربُ بني الحا***رثِ مشبوبةً بأغلى الـدمـاء»
«شامِذًا تَتَّقي المُبِسَّ عن الـمـرْ***يَةِ كُرْهًا بالصِّرف ذي الطُلاءِ»
شبّه الحرب بالناقة التي قد شَمَذَت بذَنَبها للِّقاح، أي رفعته، والمُرْيَة: مسح الضَّرع لتدرَّ، والصرف: صِبغ أحمر، والطّلاّء: الدم، والمُبِسّ: الذي يداري الناقة بالإبساس، أي بالكلام حتى يحلبها.
وللراء والميم والياء مواضع تراها في الهمز إن شاء اللّه.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
30-جمهرة اللغة (زفل زلف فزل فلز لزف لفز)
الزَّلَف والزلْفَة: الدَّرجة والمَنزلة.قال ابن جُرْمُوز:
«أتيتُ عليًّا برأس الزُّبيرِ***وقد كنت أحسِبه زُلْفَهْ»
وأزلفتُ الرجلَ إزلافًا، إذا أدنيته إلى هَلَكَة، وكذلك فُسّر في التنزيل قوله جلّ وعزّ: {وأزلَفْنا ثَمَ الآخَرِين}، واللهّ أعلم.
وربما سُمّيت الحِياض إذا امتلأت ماءً: زَلَفًا.
والزَّلَف: واحدتها زَلفَة، وهي الأجاجين الخُضر، هكذا أخبرني أبو عثمان الأشْنانْداني عن التّوَّزيّ عن أبي عُبيدة، وقد كنت قرأتُ عليه في رجز العُماني:
«حتى إذا ماءُ الصهاريج نَشـفْ*** من بعد ما كانت مِلاءً كالزَّلَـفْ»
«وصار صلصالُ الغدير كالخَزَفْ»
فسألته عن الزَّلَف فذكر ما ذكرته لك آنفًا، وسألت أبا حاتم والرِّياشي فلم يجيبا فيه بشيء.
والزَّليف: المتقدمِّ من موضع إلى موضع، وبه سُمّي المُزْدَلِف، رجل من فرسان العرب، وذلك أنه ألقى رمحه بين يديه في حرب كانت بينه وبين قوم ثم قال: ازْدَلِفوا إلى رُمحي، وله حديث.
والمُزْدَلِفَة: الموضع المعروف بمكّة.
ويقال: فلان يزلِّف في حديثه ويزرِّف فيه، إذا زاد فيه.
وبنو زُلَيْفَة: بطن من العرب.
والفِلِزّ: خَبَثُ الحديد الذي ينفيه الكِير.
قال الراجز:
«أجْردَ أو جَعْدِ اليدين جِبْزِ *** كأنما صُوِّرَ من فِـلِـزِّ»
ويُروى: كأنما جُمِّعَ، وأصله الصلابة والغِلَظ.
وأخبرني عبد الرحمن عن عمّه الأصمعي قال: يقال: أرض فيْزَلةٌ: سريعة السيل إذا أصابها الغيث، فهذا من الفَزْل، إلا أني أعلم أن الياء زائدة.
والفَزْل: الصلابة، وأحسبه مقلوبًا عن الفَلْز إن شاء الله.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
31-جمهرة اللغة (سطف سفط طسف طفس فسط فطس)
السّفَط: عربي معروف؛ أخبرني أبو حاتم عن الأصمعي، أحسبه عن يونس، وأخبرني يزيد بن عمرو الغَنَوي عن رجاله قال: مرّ أعرابيّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يُدفن فقال:«ألا جعلتم رسولَ الله في سَفَطٍ***من الألُوَّة أصْدَى مُلْبَسًا ذَهَبا»
والسُّفاطة: مَتاع البيت نحو الأثاث.
ويقال لقشر السّمكة: السَّفَط.
والطَّفَس: الدّرَن يصيب الثوب وغيره، ثم كثر ذلك حتى صار كل دنس طَفَسًا، والمصدر الطَّفَس والطَّفاسة.
والفَسْط ممات، ومنه اشتقاق الفَسِيط، وهو قُلامة الظفر.
قال الشاعر:
«كأنّ ابنَ ليلتها جانـحـًا***فَسيطٌ بدا لك من خِنْصِرِ»
ويُروى: لدى الأُفقِ من خنصرِ؛ يعني بذلك هلالًا بدا في الجَدْب والسماءُ مغبرَّة، فكأنه من وراء الغُبار قُلامة ظُفْرِ خِنْصِرٍ.
والفَطَس في الأنف: انفراشه في الوجه؛ فطِسَ يفطَس فَطَسًا، والذكر أفْطَسُ والأنثى فَطْساءُ.
والفَطْسَة: خرَزَة من خَرَز الأعراب التي تزعم النساء أنهن يؤخِّذن بها الرجال.
والفَطْس: حَبّ الآس، زعموا، جاء به الخليل.
وأما الفِطِّيس فليس بعربي محض، إمّا رومية وإما سريانية، إلا أنهم قالوا: فِطِّيسة الخِنزير، يريدون أنفه وما والاه.
ويقال: فَطَسَ الرجلُ، إذا مات.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
32-جمهرة اللغة (برو بور ربو روب برا بار ربا راب بري بير ربي ريب برأ بأر ربأ رأب أبر أرب)
أبَرْتُ النخلَ آبِره أبْرًا، إذا لقّحته، فأنا آبر والنخل مأبور، والاسم الإبار.وفي الحديث: (خيرُ المال سِكّة مأبورة ومُهْرَة مأمورة).
وأبَرَتْهُ العقربُ تأبِره، إذا ضَربته بإبرتها.
والإبرة التي يخاط بها: معروفة، وصانعها أبّار.
والرَّباء: العُلُوّ؛ يقال لبني فلن رباءٌ على بني فلان، أي طول وعُلُوّ.
والرُّبوة والرّابية: العُلُوّ من الأرض كالأكَمَة، وكذلك الرَّبْو.
وربا السويقُ ونحوُه يربو رَبْوًا، إذا صببت عليه الماء فانتفخ.
والرَّبْو: موضع.
والرَّبْو، من تردُّد النفَس في الجوف: معروف.
ورَبَأتُ القومَ رَبْأً، إذا كنتَ ربيئة لهم، وهذا مهموز.
والرَّبْو: موضع مرتفع.
والرَّبْو من تردد النّفَس في الجوف: معروف.
والوَبْر: معروف، وهي دُوَيْبة أصغر من السِّنَّور طَحْلاء اللون صغيرة الذَّنَب، والجمع وِبار.
ووَبارِ: موضع، مبني على الكسر، غلبت عليه الجِنّ.
وبنات أوْبَرَ: ضرب من الكَمْأة.
ويقال: ما في الدار وابرٌ، أي أحد، ولا يقال ذلك إلا في في النفي.
وبَرَأتُ من المرض أبرَأ بُرْأً، وبَرِئتُ بُرْأً أيضًا.
وبرِئتُ من الدَّين بَراءةً.
وبارأتُ الكَرِيَّ مبارأةً.
وباريتُ الرجلَ، إذا فعلت مثل فعله، غير مهموز.
وأصبح فلانٌ بارئًا، يُهمز ولا يُهمز.
والله تبارك وتعالى يبرأ الخَلْق، وهو البارئ المصوِّر.
وجمل ذو بُراية، إذا كان قويًا على السَّفَر.
والبُرْأة: الناموس، ناموس الصائد.
قال الأعشى:
«به بُرَأٌ مثلُ الفسيل المكمَّمِ»
وبُراية كل شيء: ما بريته منه.
وأجمعت العرب على أن البريّة لا تُهمز وأصلها من الهمز، وكذلك الذُّرِّيّة والخابية لا تُهمزان وأصلهما الهمز.
والبُرَة، غير مهموز: حلقة من صُفر أو حديد تُجعل في حَتار أنف البعير؛ أبريتُ البعيرَ إبراءً فهو مُبْرًى.
وبُرْتُ الناقةَ على الفحل أبُورها بَوْرًا، إذا عرضتها عليه لتنظر ألاقحٌ هي أم لا، ثم كثر ذلك حتى قالوا: بُرْتُ ما عندك، أي بلوتُه.
وبار الشيءُ يبور، إذا رَدُؤَ وهَلَكَ، فهو بائر؛ والبَوار: الهلاك.
ورجل بُور: فاسد.
قال عبد الله بن الزِّبَعْرَى:
«يا رسولَ المَليك إنّ لساني*** راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُورُ»
وابتأرتُ خيرًا، إذا فعلته مستورًا.
والبئر مهموز، والجمع أبْؤر وآبار، وقالوا بِئار.
والإرب: العضو بكماله، والجمع آراب.
والإرْبَة: الحاجة، والجمع إرَب وآراب، وهي المأرُبَة، وتُجمع مآرب.
وأرّبتُ القدةَ تأريبًا، إذا أحكمت عَقْدَها.
وتأرّب الرجلُ في الأمر، إذا تشدّد فيه، تأرُّبًا.
وإراب: جبل معروف أو موضع.
ومأرِب: بلاد الأزْد التي أخرجهم منها سيل العَرِم.
والأرَب: العقل، وقالوا الإرْب.
ويقال: لا أرَبَ لي في كذا وكذا، أي لا حاجة لي فيه.
ورجل أريب: عاقل.
ورأَبْتُ الشيءَ، إذا أصلحته، أرأبه رَأْبًا.
ويقولون في الدعاء: اللهُمَّ ارْأَبْ ثَآنا، أي أصلِحْ فسادَنا.
ورِئاب اسم في هذا اشتقاقه.
ولبن رائب: بيِّن الرُّؤوب.
وقوم رَوْبَى، جمع، الواحد رَوْبانُ، وهم الذين قد تخثّروا من شبع أو نُعاس.
قال بِشر بن أبي خازم الأسدي:
«فأما تميمٌ تميمُ بـنُ مُـرٍّ*** فألفاهمُ القومُ رَوْبَى نِياما»
والرُّوبة: ما صببته من اللبن الحامض على اللبن الحليب حتى يروب.
أخبرنا أبو حاتم قال: قال الأصمعي: أخبرني يونس قال: كنت في حلقة أبي عمرو بن العلاء فجاء شُبَيْل بن عَزْرَةَ الضُّبَعي فتزحزح له أبو عمرو وألقى له لِبْدَ بغلته فجلس فقال: ألا تعجبون من رؤيبتكم هذا، سألتُه عن اشتقاق اسمه فلم يدرِ ما هو?.
فقال يونس: فما تمالكتُ إذ ذَكَرَ رؤبةَ أن قمتُ فجلستُ بين يديه فقلت: لعلك تظنُّ أنّ مَعَدَّ بن عدنان كان أفصح من رؤبة، فأنا غلام رؤبة، ما الرُّوبة والرُّوبة والرُّوبة والرُّوبة والرُّؤبة? قال: ثم فسّره لنا يونس فقال: الرّوبة: الحاجة؛ يقال: قمت برُوبة أهلي، أي بحاجتهم؛ والرّوبة: جِمام الفحل؛ يقال: أعِرْني رُوبة فحلك، أي جِمامه؛ والرّوبة: القطعة من الليل؛ والرّوبة: اللبن الحامض يُصَبّ علي الحليب حتى يروب؛ والرّؤبة، مهموز: القطعة من الخشب يُرقع بها العُسّ أو القَدَح.
ورابني الأمر وأرابني، لغتان، عن أبي زيد.
وقال قوم: بل رابني إذا استبنت منه الرِّيبة، وأرابني إذا ظننت به ذاك.
قال خالد بن زُهير الهُذلي:
«يَمَسُّ عِطفي ويَشَمُّ ثوبي *** كأنني أرَبْتُه برَيْبِ»
والرَّيْب: الشّكّ.
والرِّيبة: ما أتى به المُريب.
وارتبتُ به ارتيابًا.
ورَيْب الدهر: صَرْفه.
وقد سمّت العرب رَيْبًا ورُوَيْبَة، وهو أبو بطن منهم، ورؤبة اسم أيضًا.
وسقاء مروَّب: قد حُقن فيه الرائب.
ومثل من أمثالهم:
«وأهونُ مظلومٍ سِقاءٌ مروَّبُ»
قوله مظلوم: قد شُرب منه قبل إدراكه.
قال الشاعر:
«وقائلةٍ ظلمتُ لكـم سِـقـائي*** وهل يَخْفى على العَكَدِ الظّليمُ»
أراد عَكَدَة اللسان، وهو أصله، وإنما أراد اللسان فلم يستقم له الشِّعر.
ويقال: أعطيتُه عضوًا مؤرَّبًا، أي تامًا، لم يؤخذ من لحمه شيءٌ، مثل اليد والجنب وما يليهما.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
33-جمهرة اللغة (باب ما جاء على فعالل مما ألحق بالخماسي للزوائد التي فيه وإن كان الأصل غير ذلك)
وإنما ذكرنا الجمهور منه على سبيل الجارية.رجل زُغادِب: غليظ الوجه، وربما سُمّي الغليظ الجسم زُغادِيًا.
ورجل جُنادِف: قصير.
وحمار كُنادِر: غليظ شديد.
قال الراجز:
«كأنّ تحتي كُنْدُرًا كُنادِرا»
وحمار صُنادِل: صلب شديد.
قال الراجز:
«ورأسٍ كدَنِّ التَّجْرِ ضخمٍ صُنادِلِ»
والقُنادِل: نحو الصُّنادِل.
وحُفاكِل: قصير مجتمع الخَلق.
وحُباجِل: مثله.
وفرس فُرافِر: يفرفر لجامَه في فيه.
ورجل ضُبارِم: شديد، ومثله ضُبارِك.
قال الراجز:
«أعددتُ فيها بازِلًا ضُبارِكا *** يَقْصُرُ يمشي ويَطولُ بارِكا»
وعُلاكِم: صلب شديد.
وجُراضِم: عظيم البطن، وقالوا: النّهِم الأكول.
وغُرانِق: شابّ لَدْن.
قال الأعشى:
«ولن تَعْدَمي من اليمامة مَنْكَحًا*** وفتيانَ هِزّانَ الطوالَ الغَرانقهْ»
الغَرانقة: جمع غُرانق، وكل فُعالِل في الكلام فجمعه على فَعالِل.
وسُرادِق: معروف.
وقُراشِم: خشن المَسّ.
وزعموا أن القُراد العظيم يسمّى قُراشِمًا.
وخُنابِس: كريه المنظر، وربما سُمّي الأسد خُنابِسًا.
وليل خُنابِس: شديد الظلمة.
وفُناخِر: عظيم الأنف.
قال الراجز:
«إنّ لنا لَجارةً فُناخِرَهْ *** تَكْدَحُ للدنيا وتَنسى الآخرهْ»
وخُنافِر: مثله، وهو مقلوب.
وقُراضِب وقُراضِم: يقرضِب كلّ شيء فيأخذه.
وقُفاخِر: تامّ الخَلْق، ونحوه عُباهِر.
وصُماصِم: صلب شديد.
ومُصامِص: خالص.
وعُذافِر: غليظ العُنُق، وبه سُمّي الأسد.
ودُلامِز: قصير صلب.
قال الراجز:
«دُلامِزٌ يُرْبي على الدِّلَمْزِ»
وحُمارِس: شديد.
وجُرافِس: نحوه.
وثوب شُبارِق: مقطَّع؛ ويصرَّف فيقال: شبرقتُ الثوبَ شَبرقةً وشِبراقًا.
قال امرؤ القيس:
«فأدْرَكْنَه يأخذنَ بالسّاق والنَّـسـا*** كما شَبْرَقَ الوِلْدانُ ثوبَ المقدِّسِ»
وشُبارِق تسمّيه الفُرس بِيشبَارَهْ، ولحم شُبارِق: يقطّع صغارًا ويُطبخ، زعموا، فارسيّ معرَّب.
وفُرانِق: فارسيّ معرَّب، وهو سَبُع يصيح بين يدي الأسد كأنه يُنذر الناس به، ويقال إنه شبيه بابن آوى، يقال له فُرانِق الأسد.
قال أبو حاتم: يقال إنه الوَعْوَع.
ومنه فُرانِق البريد.
وحُمارِس: اسم من أسماء الأسد، وكذلك حُلابِس.
وخُنابِس: اسم من أسماء الأسد.
وعُلاكِد: صلب شديد.
وعُطارِد: اسم مأخوذ من العَطَرّد، وهو الطويل الممتدّ؛ طريق عَطَرّد: طويل.
وكُماتِر: غليظ قصير.
وجُثاجِث، شعر جَثْجاث وجُثاجِث، أي كثير.
ورجل فُجافِج: كثير الكلام لا نظامَ له.
ودُحادِح ودُحارح جميعًا: قصير مجتمع.
وجُنابِخ: ضخم عظيم الخَلق.
وصُمادِح: حرّ شديد.
قال الراجز:
«وأنْتَفَ القَيْظُ الصُمادِحيُّ»
وقُصاقِص وفُرافِص: اسمان من أسماء الأسد، وكذلك قُضاقِض.
وفُصافِص: واسع.
وحوض صُهارِج: مطليّ بالصاروج.
وعُراهِم: صلب شديد.
وجُراهِم: غليظ جافٍ.
وصُنابِح: اسم أبي بطن من العرب من مراد منهم صَفْوان بن عَسّال الصُّنابِحيّ صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وزُماخِر، عظم زُماخِر: أجوف.
قال الهُذلي:
«على حَتِّ البُراية زَمْخريِّ الس*** واعد ظَلّ في شَرْيٍ طِـوالِ»
وجُراجِر: كثير، ماء جُراجِر: كثير.
وإبل جُراجِر: كثيرة.
ودُماحِل: المتداخل.
قال الراجز:
«قَعْرَ الرياحِ العَقِدَ الدُّماحِلا»
ويُروى: عَقْدَ؛ العَقِد: الرمل المتعقّد بعضُه في بعض.
ولبن قُمارِص، إذا كان قارصًا.
وقُناقِن، وهو الذي يُبصر الماء في بطن الأرض حتى يستخرجه.
قال الشاعر:
«يُخافِتْنَ بعضَ المَضْغ من خَشية الرّدَى*** ويُنْصِتُ للصوت انتصاتَ القُنـاقِـنِ»
وسُلاطِح: أرض واسعة.
وربما سُمّي الماء السائح على الأرض سُلاطِحًا.
وفي بعض كلام المتقعّرين: سُلاطِحًا بُلاطِحًا يناطح الأباطحا؛ وكذلك بُلاطِح.
وطُخاطِخ من قولهم: تطخطخ الليلُ، إذا أظلم، وكذلك ليل طُخاطِخ.
وقُدامِس: سيّد كريم، وهو القُدموس.
وفُرانِس: اسم من أسماء الأسد.
ودُحامِس: أسود ضخم، بالحاء والخاء.
وصُماصِم: صلب شديد.
وضُمْضُم وضُماضِم: اسمان من أسماء الأسد.
وعُنابِل: قويّ شديد.
قال الراجز:
«ما عِلّتي وأنا طَبٌّ نابلُ *** والقوسُ فيها وَتَرٌ عُنابلُ»
«تزِلُّ عن صَفحتها المَعابلُ *** الموتُ حقٌّ والحياةُ باطلُ»
«وكلُّ ما حمّ الإلهُ نازلُ ***بالمرء والمرءُ إليه آيلُ»
«إن لم أقاتلهم فأمي هابلُ»
زعموا أن هذا الرجز لعاصم بن ثابت بن أبي الأقْلَح حَميّ الدَّبْر رضي الله عنه قاله يوم الرّجيع، وهو الرّجيع، وهو يوم بئر مَعونة.
والدّبْر هي زنابير العسل خاصّة.
وصُلادِم: شديد.
قال الراجز:
«تَشْحَى لمُسْتَنِّ الذَّنوبِ الراذمِ *** شِدْقَين في رأسٍ لها صُلادِمِ»
والذّنوب: الدلو؛ والمُسْتَنّ: ماؤها الذي يجري؛ والراذم من قولهم: رَذَم أنفُه، إذا سال.
والعُجارِم: الغُرمول الصلب.
قال الشاعر:
«تورُّدَ أحناءِ اسْتِه بالعُجارِمِ»
ودُخادِخ مأخوذ من الدّخدخة، وهو تقارب الخَطْو.
وجُلاجِل: موضع.
قال الشاعر:
«أيا ظَبيةَ الوَعْساءِ بين جُلاجِلٍ*** وبين النّقا أأنتِ أم أمُّ سالـمِ»
وقُراقِر: موضع.
قال الراجز:
«فَوّزَ من قُراقِرٍ الى سُوَى *** خِمْسًا إذا ما ساره الجِبْسُ بَكَى»
«ما سارَها قَبْلَكَ من إنسٍ أرَى»
وعُباعِب: موضع.
وعُدامِل: شيخ مُسنّ قديم؛ يقال عُدامِل وعُدْمُليّ.
ويقال للضّبّ المُسنّ: عُدامِل وعُدْمُليّ.
ودُلامِص: برّاق الجسد.
قال الأعشى:
«إذا جُرّدَتْ يومًا حَسِبْتَ خَميصةً*** عليها وجِريالًا نضيرًا دُلامِصا»
وبحر غُطامِط: متلاطم الموج كثير المء.
وعُجاهِن: واحد العَجاهن، وهم الطبّاخون القائمون على الآكلين في العُرُسات.
وشراب عُماهِج: سهل المَساغ.
وخُفاخِف والخَفخفة: صوت الضّبُع.
والحُلاحِل: الحليم الرّكين.
قال امرؤ القيس:
«القاتلين المَلِكَ الحُلاحِلا*** خيرَ الملوكِ حَسَبًا ونائلا»
وسُماسِم: صفة من صفات الثعلب؛ ثعلب سَمْسَم وسُماسِم وسمْسام، إذا كان خفيفًا.
وكل سريع المشي سُماسِم، وربما سُمّي به الذئب.
وهُذارِم: كثير الكلام.
وظليم هُجاهِج: كثير الصوت.
وقُنافِر: قصير، زعموا.
وثوب هُلاهِل: رقيق.
ورجل جُرامِض وجُلاهِض وجُرافِض وجُلافِض، وهو الثقيل الوَخْم.
وبُرائل، وهو الريش المتنفِّش في عُنُق الديك عند القتال وكذلك في عُنُق الحُبارَى.
قال الراجز:
«صَخّابةٌ تَنْفُشُ ساعاتِ الغَضَبْ *** بُرائلَينِ من حُبارَى وخَـرَبْ»
ويُروى: غُضُبّة؛ والخَرَب: ذَكَر الحُبارى.
ورجل بُراشِم، إذا مدّ نظره وأحدّه.
وحُنادِر: حادّ النظر أيضًا.
وسيف رُقارِق: كثير الماء.
ورجل خُنافِر وفُناجِر: عظيم الأنف.
وحُثارِم وخُثارم، بالحاء والخاء: غليظ الشفة.
والحِثْرمة: الدائرة التي تحت الأنف وسط الشفة.
قال الراجز:
«كأنّما حِثْـرِمَةُ ابـنِ عـائنِ*** قُلْفَةُ طفلٍ تحت موسَى خاتِنِ»
ويقال: رجل خُثارِم، إذا كان يتطفّل.
ورجل عُثاجل، وهو العظيم البطن، وهي العَثْجَلة.
قال الراجز:
«عُثاجِلٌ كالزِّقِّ»
وبه سُمّي الرجل عَثْجَلًا.
وبُراطِم: ضخم الشفة.
ويقال: برطمَ الجلُ، إذا دلّى شفتيه للغضب.
قال الراجز:
«مُبَرْطِمٌ بَرْطَمَةَ الغَضبانِ *** بشَفَةٍ ليست على أسنانِ»
والعُلابِط: الضخم العريض المنكِبين.
قال الراجز:
«لو أنّها لاقت غلامًا طائطا *** ألقى عليه كَلْكَلًا عُلابِطـا»
طائط: هائج؛ يقال: طاطَ البعيرُ، إذا هاج، وكذلك عُرابِض.
ودُنافِس بالسين غير معجمة، وطُرافِش بالشين المعجمة: سيّئ الخُلق.
وضُكاضِك: قصير صلب.
وكُلاكِل: قصير مجتمع.
وقُلاقِل وبُلابِل، وهو الخفيف، والجمع بَلابل.
قال الشاعر:
«سَيُدْرِكُ ما تحوي الحِمارةُ وابنُها*** قَلائصُ رَسْلاتٌ وشُعْثٌ بَلابلُ»
وكُرادِح: قصير.
ودُحادِح: قصير أيضًا.
وهُلابِع: لئيم، وقالوا: شَرِه.
وخُضارِع: بخيل يتسمّح، وهي الخَضرعة.
قال الراجز:
«خُضارعٌ رُدَّ الى خَلاقِهِ *** لمّا نهته النفس عن إنفاقِهِ»
وحمار صُلاصِل: شديد النُّهاق، وكذلك صَلصال ومصلصِل وصُلَصِل وصُلْصُل.
وطُلاطِل: داء من أدواء البعير والخيل، وربما قيل للناس، يقال: رماه الله بالطُّلاطِلة.
ودُهانِج: بعير ذو سَنامين.
قال الراجز:
«كأنّ أنفَ الرّعْنِ منه في الآلْ *** إذا بدا دُهانِجُ ذو أعدالْ»
ودُهامِق: تراب لَيّن.
قال الراجز:
«كأنما في تُربه الدُّهامِقِ *** من آله تحت الهجيرِ الوادقِ»
الآل: السراب؛ والهجير: شدّة الحرّ؛ والوادق من وَدَقَتِ الشمسُ إذا تدلّت على الرأس.
ودُماثِر: سهل من الأرض.
قال الراجز:
«ضاربةٌ في عَطَنٍ دُماثِرِ»
وقُراقِر: حسَن الصوت.
قال الراجز:
«أصبح صوتُ عامرٍ خَفيّا *** أبْكَمَ لا يكلِّم المطيّا»
«وكانَ حَدّاءً قُراقِريّا»
وقال الآخر:
«فيها عِشاشُ الهُدْهُدِ القُراقرِ»
وحَمام هُداهِد: يهدهد في صوته.
قال الراعي:
«كهُداهِدٍ كسَرَ الرُّماةُ جناحَـه*** يدعو بقارعة الطريق هديلا»
ويقال: بفارعة.
وتُرامِز: صلب شديد.
قال الراجز:
«إذا أردتَ السيرَ في المفاوزِ *** فاعْمِدْ لكل بازلٍ تُـرامِـزِ»
وماء هُزاهِز، وكذلك سيف هُزاهِز وهَزْهاز، إذا كان يهتزّ من صفائه.
قال الشاعر:
«قد وَرَدَتْ مثلَ اليماني الهَزهازْ *** تدْفَعُ عن أعناقها بالأعـجـازْ»
وبعير هُزاهِز: شديد الصوت.
قال الراجز:
«تَسمع في هديرِه الهُزاهِزِ *** قبقبةً مثلَ عزيفِ الراجزِ»
وبعير ضُمارِز: صلب شديد غليظ.
قال الراجز:
«يَرُدُّ شَغْبَ الجُمّحِ الجَوامزِ *** وشَغْبَ كلِّ باجحٍ ضُمارِزِ»
قال الأصمعي: أراد ضُمازِرًا فقلب.
وجُلاعِد: صلب شديد.
قال الراجز:
«صَوّى لها ذا كِدْنَةٍ جُلاعِدا»
وعُفاضِج: واسع الجلد.
قال الراجز:
«أنْعَتُ قَرْمًا بالهدير عاججـا*** ضُباضِبَ الخَلق وَأًى دُماهِجا»
«عَبْلَ الشّواة سَنِمًا عُفاضِجـا»
وصوت هُزامِج: شديد.
قال الراجز:
«أزامِلًا وزَجَلًا هُزامِجا»
وعُماهِج: خَلق تامّ.
قال الراجز:
«في غُلَواءِ القَصَبِ العُماهِجِ»
وكُنافِج: مكتنز ممتلئ.
قال الراجز:
«يَفْرُكَ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنافجا»
وهُنابِج: وَخْم ثقيل.
قال الراجز:
«وغَفْلَةَ الجَثّامةِ الهُلابِجِ»
أراد غَفْلة من غَفَلاتها.
ودُمالِق: فَرْج واسع.
قال الراجز:
«جاءت به من فَرْجها الدُّمالِقِ»
وأنشده أبو بكر أيضًا: الغُفالِق، وفسّره كما فسّر الدُّمالِق.
وقُباقِب: العام الذي بعد العام المقبل.
وأنشد عن أبي عُبيدة:
«العامُ والقابلُ والقُباقِبُ»
قال الخليل: والذي بعد القُباقِب: مُقَبْقِب.
وهُذارِف: خفيف سريع، وربما سُمّي به الظليم.
وجُنادِف: قصير، ويقال إن الجُنادِف القصير الذي إذا مشى حرّك كتفيه، وهو من مشي القِصار.
ودُماحِس وحُمارِس وقُداحِس وحُلابِس؛ قال أبو بكر: هذه صفات مختلفة؛ فالدُّماحِس، زعموا: السيّئ الخُلق، وكذلك القُداحِس؛ وأما الحُمارِس والحُلابِس فمن وصف الجريء المُقْدِم، وربما وُصف بهما الأسد.
وعُلابِط: غليظ.
وسُرامِط: طويل مضطرب.
وغُشارِم وغُشارِب، بالعين والغين، وهو الجريء المُقْدِم أيضًا أو الذي يغتصب كل ما وجده.
وعُنابِس: صفة من صفات الأسد.
وخُفاجِل: فَدْم رِخْو.
وشُبارِق، يقال: شبرقتُ اللحم، إذا قطعته، وكذلك الثوب.
وقال الأصمعي: شُبارق فارسيّ معرّب.
وحُفائل: موضع.
وعُنادِم: اسم، وأحسبه مأخوذًا من العَنْدَم.
وعيش عُفاهِم: واسع.
وحُماحِم: لون أسود.
وخُشارِم، وهو الأنف العظيم.
وجُخادِب: غليظ مُنْكَر.
وقالوا: الجُخادِب: ضرب من الجِعْلان.
وحُباحِب من قولهم: نار الحُباحِب، وهو دُويبة تُرى بالليل كالشّرارة.
ويقال: أصل ذلك أن رجلًا من بني مُحارب بن خَصَفَة يُكنى بأبي حُباحِب كان بخيلًا فكان لا يوقد نارَه إلا إيقادًا ضعيفًا فضُرب به المثل فقيل: نار أبي حُباحِب، ثم كثر ذلك حتى قالوا: نار الحُباحِب.
وجُباجِب، وهي إهالة تذاب، وهي الجُبْجُبة أيضًا.
قال:
«أفي أنْ سضرَى لبٌ فبيّت مَذْقَةً*** وجُبْجُبَةً للوَطْب ليلى تُطَلَّـقُ»
ورجل كُباكِب: مجتمع الخَلق.
وكُنابِث: نحوه.
وقُناعِس: مجتمع الخَلق أيضًا.
وقالوا: القُناعِس: الضخم الطويل.
وقُشاعِر: خَشِنَ المَسّ.
وغُلافِق: موضع.
ودُراقِن، وهو الخوخ؛ لغة شآمية لا أحسبها عربية محضة.
وعُشارِق: اسم.
ويقال: مكان طُحامِر: بعيد.
ورجل طُماحِر وطُحامِر وطُحارِم: عظيم الجوف، من قولهم: اطمحرَّ بطنُه، إذا امتلأ.
وفُرافِل: سَويق اليَنبوت، وهو ضرب من ثمر الشجر؛ هكذا قال الخليل.
وأُدابِر: القاطع لأرحامه؛ هكذا قال سيبويه في الأبنية، أخبرني به الأُشْنانْداني عن الجَرْمي.
ورجل عُراعِر: سيّد شريف، والجمع عَراعر.
وأنشد لمهلهل:
«خَلَعَ الملوكَ وسار تحت لوائه*** شَجَرُ العُرى وعَراعرُ الأقوامِ»
وحُفالِج: أفْحَجُ الرِّجلين.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
34-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (ميفعة)
ميفعةهي أرض واسعة، فيها قرى وآبار كثيرة، عاصمتها قرية في أثنائها تسمّى: أصبعون، على شفا جرف هار من الدّمار.
وهي في شرقيّ عزّان، بينها وبينه مسافة نحو ساعتين، ومن أرباض ميفعة في جنوبها: الصّعيد، وجول آل عبد المانع، والحوش، ورضوم، وفي شمالها: الرّقّة، والعطوف، وريدة آل بارشيد.
وفي عطفها: جماعة من أعقاب السّيّد فدعق بن محمّد بن عبد الله بن امبارك بن عبد الله المشهور بوطب.
ولآل باقطميّ اعتقاد في شريفة مقبورة هناك، يقال لها: علويّة، يشاع أنّها من آل البغداديّ، والأثبت: أنّها من آل جنيد سكّان عزّان.
ومن شرطهم: أن لا يكون القائم بمنصبتها إلّا بنت بكر من أسرتها، ولا يمكن لها أن تتزوّج.
وعلى منصبتها اليوم شريفة يقال لها: سيده، تبرز للرّجال وتحادثهم، ولها جاه واسع لدى آل باقطمي وغيرهم، وهي تكرم الضّيفان.
وفي ميفعة كانت وفاة الشّيخ عبد الله الصّالح المغربيّ، وكان من خبره: أنّ الشّيخ أبا مدين أرسل بخرقة التّصوّف للفقيه محمّد بن عليّ بن محمّد، بمعيّة الشّيخ عبد الرّحمن بن محمّد الحضرميّ، فأدركته الوفاة بمكّة المشرّفة، فعهد للشّيخ عبد الله الصّالح المغربيّ بإيصالها للفقيه المقدّم، فألبسه إيّاها، وغضب لذلك شيخه عليّ بامروان، وقال له: أذهبت نورك بعد أن رجوت أن تكون كابن فورك، فتفقّرت.
فقال له الأستاذ الفقيه المقدّم: الفقر فخري.
ثمّ سار الشّيخ الصّالح لإلباس الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ عن إشارة الشّيخ أبي مدين، ثمّ توجّه إلى ميفعة، وفي طريقه إليها ألبس صاحب عورة: الشّيخ باعمر، عن نفسه لا عن الشّيخ أبي مدين، ولمّا صعد إلى ميفعة.. اتّصل بباحمران.
وذكر الشّلّيّ [2 / 12] وغيره: أنّ الفقيه المقدّم سار إلى ميفعة لعيادة الشّيخ عبد الله الصّالح ـ وكان بلغه توعّكه ـ وهناك اجتمع به وبتلاميذه، وشهدوا وفاته ودفنه بميفعة، ولم يذكروا تاريخ موته، غير أنّه كان قبل موت الفقيه الّذي كانت وفاته سنة (653 ه).
ومن العجب أنّ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس يقول في «سفينة البضائع»: (إنّ الفقيه المقدّم، والشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ، والشّيخ عبد الله بن عمر صاحب الدّلق، والشّيخ باحمران.. اجتمعوا بشيخهم الشّيخ عبد الله الصّالح المقبور ببلد كنينة ـ بلد بالشّقّ البحريّ، قريب من حجر ـ وهي الجهة الّتي يقال لها: ميفع) اه ففيه أوهام، وكأنّ النّظر انتقل عليه من ميفعة إلى ميفع، ثمّ ما كان الشّيخ الصّالح بشيخ للمقدّم ولا للعموديّ، وإنّما هو سفير محض في إيصال الخرقة لهما.
ونقل الحبيب شيخ الجفريّ في «كنز البراهين» عن الشّيخ عبد القادر العيدروس: (أنّ الشّيخ عبد الله الصّالح لمّا رجع إلى حضرموت.. أقام بميفعة، وهي بلد أقصى حضرموت، قريب من ساحل عين بامعبد، وتزوّج بقرية من قراها، يقال لها: السوق، أعلى من أصبعون، فوق الرّبوة، وكان له بنتان؛ حمادة ومحمودة، فلمّا مرض.. جاء المشايخ الّذين حكّمهم رضي الله عنهم يزورونه، وهم: الفقيه المقدّم، والشّيخ سعيد العموديّ، وباعمر، وباحمران، وقالوا: تشير إلى أحد بعدك؟ فسكت ساعة، ثم قال: يا أولادي؛ ما استقلّ منكم إلّا صاحب السّبحة، وأنتم مشايخ، وميراثي أرباع بينكم، والبنتان على يدك يا شيخ سعيد، فلمّا مات.. قسموا ميراثه بالقرعة، فخرج المشعل والقدر للشّيخ سعيد، والسّبحة والعكّاز للفقيه المقدّم ـ فكان هو المشار إليه بالاستقلال ـ والدلق لباعمر، صاحب عورة، والحبوة والبسطة لباحمران. وقبر الشّيخ الصّالح بأصبعون) اه
وقسمة الميراث بين هؤلاء إشكال؛ لأنّه إن أراد السّرّ.. غبّر عليه ذكر المقتسمات، ولعلّ المراد الوصيّة، والسّرّ تبع لما جرت فيه القسمة، ثمّ إنّ قوله يا أولادي لا يخالف ما نقلوه أن ليس له مشيخة على الفقيه ولا على العموديّ؛ إذ لا مانع من التّغليب وتقدّم السّنّ.
وفي ميفعة باحمران آخر غير الأوّل، هو من تلاميذ السّيّد عبد الله باعلويّ.
وكان في ميفعة جماعة من علماء الإباضيّة، حسبما يعرف من شعر الإمام إبراهيم بن قيس الآتي في ذكر شبام.
أمّا سلطنة ميفعة وحبّان: فقد كانت في القرن التّاسع للدّولة الطّاهريّة.
وأمّا في القرن العاشر.. فسلطنة حبّان للواحديّ، ومنهم: عبد الواحد بن صلاح بن عبد الله بن عبد الواحد بن صلاح بن روضان، وهو ممدوح الشّيخ محمّد بن عبد القادر بن أحمد الإسرائيليّ.
توفّي عبد الواحد المذكور في سنة (991 ه) وسلطنة ميفعة لابن سدّة.
وكثيرا ما جاء ذكره في «ديوان» الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة، فمن ذلك قوله يهيّج بدر بوطويرق عليه:
«فالمره زاهله للعقد ما عاد عدّه *** ما تبا الّا حصانك قل لعبدك يشدّه »
حجر في شهرنا والعولقي وابن سدّه
وهو وآل عبد المانع وآل ابن عبد الواحد سلاطين الظّاهر، يرجعون إلى بني أميّة في النّسب.
وفي حوادث سنة (915 ه) من «تاريخ شنبل» [ص 237 ـ 248]: أنّ عبد الودود بن سدّة صال على بيحان، فأفسد ضمرا فيها، ثمّ لاقاه آل بيحان مع رجوعه عن واديهم، فقتلوا من عسكره أكثر من عشرين، وأخذوا عليه عبيدا وعتادا وأسلحة.
ومنه: في أخبار سنة (917 ه) [ص 253]: توفّي السّلطان العادل عبد الودود بن سدّة.
وينهر إلى ميفعة كلّ من جبال عمقين ووادي هدى ووادي سلمون، وكان بينها وبين وادي حبّان جبل يمنع من وصول مائه إليها، ولكنّ أحد الملوك السابقين فتح فيه نفقا يخترقه، فصار ماء حبّان يفيض فيه إلى ميفعة. كذا أخبرني بعضهم عن مشاهدة، وإنّها لأمارة ملك ضخم وسلطان عظيم.
وما بين عطف ميفعة المسمّى عطف بالرشيد وميفعة.. آثار مدينة قديمة يقال لها: الهجر، كان يقال: إنّها ثاني بلاد ذلك الصّقع بعد مدينة شبوة، ولا تزال آثارها ماثلة وأساطينها قائمة، وعليها كتابات كثيرة بالمسند، وحجاراتها منجورة، وضخامتها تدلّ على أنّه كانت عندهم آلات غريبة للنّقل؛ لأنّ نقل تلك الحجارة الضّخمة لا يسهل للجمال ولا للرّجال.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
35-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حجر)
حجرذكر في «التّاج» و «أصله»: (حجر ذي رعين من حمير. وحجر الأزد).
قال: وباليمن موضع يقال له: حجر، على مسافة عشرة أيّام من زبيد.
وهو المذكور في قول مهلهل [من الوافر]:
«ولو لا الرّيح أسمع من بحجر *** صليل البيض تقرع بالذّكور »
وكانت الواقعة بالذّنائب، وهي على مقربة من زبيد.
وعلّ هذه الواقعة هي التي كثرت على هلكاها الندبة، فيما تقدّم.
ولا أدري أحجر هذه بضمّ الحاء أم بفتحها؟ ولكنّ ياقوت [2 / 223] يقول: (قال أبو سعد: حجر ـ بالضّمّ ـ اسم موضع باليمن، إليه ينسب أحمد بن عليّ الهذليّ الحجريّ)، وأطال في حجر اليمامة، وهي غير الّتي نحن بسبيلها، وهي عاصمة نجد، واسمها اليوم: الرّياض، وإليها الإشارة بقول عروة بن حزام في نونيّته المشهورة [في «الأغاني» 24 / 122 من الطّويل]:
«جعلت لعرّاف اليمامة حكمه *** وعرّاف حجر إن هما شفياني »
وقول جحدر بن مالك الحنفيّ [من الوافر]:
«فيا أخويّ من جشم بن سعد *** أقلّا اللّوم إن لم تنفعاني »
«إذا جاوزتما سعفات حجر *** وأودية اليمامة فانعياني »
وقول النّابغة [الذّبيانيّ في «ديوانه» 67 من الطّويل]:
«وهم قتلوا الطّائيّ بالحجر عنوة *** أخا جابر واستنكحوا أمّ جابر»
وقول زهير [من الكامل]:
«لمن الدّيار بقنّة الحجر ***... »
وأنكر أبو عمرو أن يكون المراد من هذا قصبة اليمامة، وقال: لأنّ (أل) لا تدخلها.
ولكن قال الجوهريّ: (الحجر ـ بالفتحة ـ: قصبة اليمامة، يذكّر ويؤنّث).
وبيتا زهير والنّابغة يؤيّدان ما قال؛ لأنّهم كثيرا ما يدخلون آلة التّعريف على الأعلام كما في قوله [من الطّويل]:
«وجدت الوليد بن اليزيد مباركا ***...»
وهذا ينزّل عليه.
وقال في «صبح الأعشى» [5 / 59]: (ومن بلاد اليمامة حجر، بفتح الحاء، وسكون الجيم وراء مهملة في الآخر، وهي في الغرب عن مدينة اليمامة، على مرحلتين منها، وبعضهم يجعلها قاعدة اليمامة. وبها قبور الشّهداء الّذين قتلوا في حرب مسيلمة الكذّاب) اه
وهو في هذا ناقل عن «المشترك».
ويأتي في السّفيل من قرى وادي العين ذكر سوق حجر، وفي [9 / 439] من «الخزانة» أنّ قوله:
«لمن الدّيار بقنّة الحجر ***...»
ليس لزهير، وإنّما انتحلها حمّاد، لمّا سأله المهديّ عن المشار إليه بقوله:
«دع ذا وعدّ القول في هرم ***...»
فانتحل الأبيات الثّلاثة الّتي قبله.
وقال الطّيّب بامخرمة: (وحجر بفتح ثمّ سكون، قال القاضي مسعود: هذا الاسم مشترك بين موضعين: أحدهما: حجر علوان، وهو واد باليمن، فيه قرى وحصون، طيّب الماء والهواء والتّربة. والثّاني: حجر ابن دغّار الكنديّ، وهو كثير المياه والنّخيل، له غيال لا تنقطع، وهي وخيمة جدّا بضدّ الأولى) اه
وهو صقع واسع، كثير المياه والنّخيل. ومن مدنه: كنينة ومحمدة ويون.
ومن نواحيه الخصبة: المكان المسمّى بالصّدارة، فيه نحو مئة عين نضّاخة.
ولا يزال آل أحمد بن هادي الواحديّ يدّعون لهم حقوقا فيه، فلم تسمع لهم دعوى.
وفي غربيّ حجر جبال، فيها المكان المعروف بصيق العجر، وهو الّذي قتل فيه السّلطان عبود بن سالم الكثيريّ غدرا، قتله أحد آل خليفة ـ وكان خفيرا معه ـ بجعالة وقعت له من جانب القعيطيّ، حسبما فصّل ب «الأصل».
وفي شماله لبنة بارشيد، بأعلى الجبل الّذي ينهر إلى حجر، وهي الحدّ الفاصل ما بين الدّيّن ونوّح. ومن ورائها ريدة الدّيّن وسيبان وجبال دوعن وجبال نعمان.
وفي شعر الإمام إبراهيم بن قيس الإباضيّ ـ وهو من أهل القرن الخامس ـ ذكر كثير لابن دغّار المنسوب إليه هذا الوادي، منه قوله [من الطّويل]:
«سيعلم دغّار ابن أحمد والفتى *** سلالة مهديّ وكلّ مخالف »
«إذا نزل المستنصرون بجحفل *** يهزّون بيضا كالبروق الخواطف »
والظّاهر أنّه أبو حجر الّذي ينسب إليه هذا الوادي.
وفي مسوّدة بقلم ضعيف: إنّ بلاد مدورة الواقعة بين لازم والسّور كانت بلادا قويّة معمورة.
أمّا ملوكها فهم: ابن دغّار، وبابقي، والصّيعر، وابن دخياخ.
وأمّا سوقتها فهم: باصفّار، وبامحفوظ، وآل شحبل.
ثمّ لمّا طغوا.. سلّط الله عليهم النّهديّ، وأتى لهم بابن سهل من القبلة، فدمّروها تدميرا، وهرب ابن دغّار وباقي أهلها، وسكنوا خرايت سباي، فسلّط الله عليهم الجوهي وطردهم، فانتقل ابن دغار إلى حجر، واستولى على باحوته وباحيوته، واتّخذها له موطنا.
ثمّ جاء مركب من مسيطبة إلى حصن الغراب فمات ربّانه، فأخذه ابن دغّار، واتّخذ المسيطبة الّذين به عسكرا، فهؤلاء الحجور من ذرّية أولئك.
ثمّ إنّ ابن دغّار قهر الدّيّن والمشاجرة، وأخذ منهم العشور، وملك دوعن وطغى، فتقلّص ملكه من دوعن، ولمّا أيقن بالزّوال.. ختم الأنهار بالأخشاب، ثمّ بالرّصاص الكثير المذاب.
وكان الّذي خلفه على الرّشيد وطائفة من دوعن: آل بالحمان.
وتاريخ زوال ملكه عن دوعن حسبما يفهم من تلك المسوّدة في حدود سنة (782 ه).
وعن بارضوان عن «شجرة الأنساب» لأبي الحسن الأشعريّ: (أنّ بني دغّار بمدورة) اه
وفيه تأكيد لبعض ما تقدّم.
وفي ترجمة الشّيخ مبارز بن غانم الزّبيديّ من «طبقات الشّرجيّ» [263 ـ 264]: (أنّه انتقل إلى حجر ـ وهي جهة متّسعة، تشتمل على قرى ومزارع، خرج منها جماعة من الصّالحين ـ وابتنى بها رباطا لم يزل به حتّى مات هناك، وقبره مشهور). وكانت وفاته ـ حسبما يفهم من السّياق ـ في العقد الثّامن من المئة السّابعة.
وهذا الاسم وإن كان مشتركا بين حجر علوان وحجر ابن دغّار.. فهو إلى الثّاني أقرب؛ لأنّ انتقال الشّيخ مبارز إليها كان من عند الشّيخ أحمد بن أبي الجعد بأبين، وهي إلى هذه أدنى، ثمّ أخبرني من أثق به أنّ حجر علوان في قعطبة على مقربة من الضّالع وأبين.. فهو المراد إذن، والله أعلم.
وبعد أن تقلّص ملك ابن دغّار من دوعن.. وهت أسبابه في حجر، ولم يزل في التّلاشي حتّى اضمحلّ ملكهم، وبقيت منهم فرقتان، يقال لإحداهما: آل فارس، يسكنون الآن في ميفع، لا يزيد عددهم عن خمسة عشر رجلا؛ منهم: الشيخ سعيد بن طالب. والأخرى: آل ابن يمين، وعدّتهم نحو ثلاثين رجلا، يسكنون قرية صغيرة، تبعد خمسة أميال عن جول باخيوة، يقال لها: الحسين.
وخلفته عليها نوّح، وهي من سيبان، وسيبان كما في «بغية شيخنا المشهور»
[ص 299]، نقلا عن الغسّانيّ: من ولد حضرموت بن سبأ.
وهي شعب كبير تتفرّع منه عدّة قبائل:
منهم: الحالكة، تشمل: بلحمر، وبانخر، وباسعد، وهم نحو أربع مئة رام.
ومنهم: الخامعة، تشمل: باصرّة، وباقديم، وباسلوم، وبارشيد، وهم نحو ثلاث مئة وخمسين راميا.
ومنهم: المراشدة، يدخل فيهم: آل بادحيدوح، وبابعير، وباصريح، وباكردوس، وباضروس، وهم نحو خمس مئة رام.
ومنهم: القثم، يدخل فيها: آل بامغرومة، وباصقع، وبني مقدّم، وبن علي بامسلّم، وهم نحو ثلاث مئة رام.
ومنهم: آل باخشوين، لا يزيدون عن ستّين راميا، ومنهم الآن رجل أبيض السّريرة، واسمه محمّد بن سالم، يحبّ الخير، عمّر عدّة مساجد في ممباسا، وبها سكناه، وهو من أتلادها.
ومنهم: باعمروش، نحو عشرة رميان.
ومنهم: السّموح، وهم: الجهضميّ، والشاكعة، وبامنصور، والجودانيّ، والغويثيّ، والحسنيّ، وباوسيم، وعددهم قليل.
ومقدّم السّموح أو السّماح بأسرهم الآن: حسن باعمر.
وأكثر هذه القبائل بدوعن وجبالها وما حواليها.
ومساكن السّماح روبه وهي: على مقربة من لبنة بارشيد وحنور ومسايل الصيوق وهذه كلّها نجود يدفع ماؤها إلى حجر.
ومن مساكنهم يون وهي: سبع قرى فوق أعلى وادي حجر.
ومن سيبان الإمام العظيم، أحد علماء الإسلام: أبو عمرو عبد الرّحمن بن عمرو بن محمّد الأوزاعيّ، كما في (السّين) من كتاب «المغني في النّسب» للعلّامة الفتني.
وقال الطّيّب بامخرمة: (سيبان بطن من حمير، ووهم الذّهبيّ فجعلهم من مراد) اه والطّيّب جعل سيبان بطنا، والعمارة أكبر منه، والقبيلة أكبر من العمارة.
ونحن ذهبنا بها بعيدة، فجعلنا سيبان شعبا تتفرّع منه تلك القبائل الّتي لا تعدّ إلّا أفخاذا أو فصائل على ما ذكر، ولكن لا مشاحّة في مثل ذلك، ولا سيّما مع تطاول الأيّام وكثرة التّوالد. ومهما يكن من الأمر.. فإنّه قريب.
وعندما جاء ذكر أعقاب السّيّد عبد الرّحمن بن علويّ الخوّاص الجفريّ من «شمس الظّهيرة».. أشار إلى أنّ بعضهم بحجر العوالق، ومنه يفهم أنّ هناك حجرا ثالثا، إلّا أنّه خفيّ لا شهرة له.
وقد علمت ممّا سبق عن الطّيّب بامخرمة: أنّ حجر بن دغّار كنديّ النّسب، ليس من سيبان في رطب ولا عنب.
وفي حجر موضع يقال له: الواد، زعم بعضهم أنّه المراد من قوله جلّ ذكره:
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) وقد يستظهر له بقربه من حصن الغراب، وبما حواليه من الآثار الموجودة والحجارة المنحوتة، وإليه يذهب العلّامة أبو بكر ابن شهاب، بل يقول: إنّ حجرا هذا هو حجر ثمود، لكنّه مخالف لما في «الصحيحين» [خ 3378 ـ م 2980] من مروره صلّى الله عليه وآله وسلّم به في مسيره إلى تبوك، ولم يذكر أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل هذا ولا قاربه، إلّا إن تناءت بالتّعدّد لانتشار الأمّة وضخامتها، والعرب كثيرا ما تسمّي مهاجراتها بأسماء أوطانها، وقد وصف الله في (الشّعراء) بلاد ثمود بأنّها في جنّات وعيون وزروع ونخل، طلعها هضيم، وإنّ أهلها ينحتون من الجبال بيوتا فرهين. وكلّ ذلك منطبق على حجر. والله أعلم.
وبعقب ما اشترى السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ أرض ميفع ـ بالنّيابة عن أبيه ـ اشتدّ طمعه في حجر، إلّا أنّها تمنّعت عليه بعقبة كأداء لا طريق لها إلّا منها، فكلّما أرسل القعيطيّ بجيش.. كمنوا له في مخارمها فأبادوه ـ أو كسروه على الأقلّ ـ حتّى لقد جهّز لهم ثلاثة آلاف مقاتل بزادهم وعتادهم، فلّما كادوا يتسنمون تلك العقبة، وأيقنوا بالظّفر.. سيّروا بالكتب إلى السطان غالب بن عوض، فأمر بإطلاق المدافع، ورفع شارات الأفراح، ولكن نوّح غدرت بهم، فتداعت عليهم وهزمتهم، وقتلت ثلاثين، وأسرت ثلاثين، وفرّ الباقون، وكانت معدّاتهم غنيمة لنوّح، وفي ذلك يقول شاعرهم:
«يا حجر ريضي وارقبي واستامني *** ما داموا اصحابش يديرون النّقوس »
«إلا ان بغيتي اليافعي من خاطرش *** أنا عليّ العقد وامسي له عروس »
والمراد بالنقوس: البارود.
ولمّا لم يكن لهم ذرع بالمطاولة، وكان السّلطان عوض قويّ العزيمة، شديد الشّكيمة، لا تنفسخ له نيّة من هزيمة.. أخذ يوالي الزّحوف، ويبذل الألوف، ويشتري ما يقدر عليه من الضّمائر بواسطة السّادة، حتّى انقطعت أسباب نوّح، وتعطّلت معايشهم، فنجعوا لتحكيم السّيّد حسين بن أحمد العطّاس ـ صاحب (عمد) ـ والسّيّد أحمد بن حسن العطّاس صاحب حريضة.
وفي ذي القعدة من سنة (1328 ه) توجّه السّيّدان ـ وكان الأوّل محمولا على الأعناق؛ لضعفه وكبر سنّه ـ فحكما بأنّ جميع وادي حجر ونواحيه ـ كنينة ومحمدة ويون وما تعلّق بها ـ يكون تحت سلطنة السّلطان عوض بن عمر وأولاده: غالب، وعمر، وصالح، وما تناسلوا.
فلهم سلطان الأرض، ولنوّح إعفاء أموالهم الخاصّة من جميع الرّسوم الدّوليّة، فلا عشور ولا مكوس عليهم، ولا على مناصبهم: آل البيتي، وآل العطّاس، وآل باراس، وآل الشّاطريّ، وبافقيه، وباعلويّ، وابن مالك.
وعلى أن يبقى عشور الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ بحجر على حاله.
وعلى قبائل نوّح أن يضعوا رهائن من أولادهم ـ للوفاء بذلك ـ من كلّ قبيلة، وهم: بامسعود، وبافقّاس، وبادبيّان، وبارشيد، وهذه هي أقوى قبائلهم، وفيها رئاستهم العامّة.
وعلى أن تكون الرّهائن بنسبة القبائل كثرة وقلّة.
وكتب بينهم في ذلك عدّة وثائق موجودة بنصّها في «الأصل» [2 / 265 ـ 269].
وبتمام الأمر انتهت البشارة إلى السّلطان عوض وهو على فراش الموت، فقرّت عينه، ولم يسلم روحه لبارئها إلّا مثلوج الصّدر من جهة حجر، بارد الفؤاد.
وكان اهتمامه بها يشغل أكبر موضع من باله، حتّى لقد قال في حجّه وهو متعلّق بأستار الكعبة في سنة (1317 ه) ـ حسبما أخبرني بذلك السّيّد حسين بن حامد المحضار ـ: أتوب إليك يا ربّ من كلّ ذنب، إلّا من حجر وحضرموت.
ولآل حجر عوارض قويّة في الأشعار العاميّة ـ كما يعرف ممّا مرّ ـ أخبرني السّيّد حسين بن حامد المحضار بأنّها كثيرا ما تحصل المهادنات بينهم أثناء الحرب، فيتبادلون الزّيارات بين الأراجيز ودويّ البنادق، وإن كان الواحد ليرتجل العشرين بيتا.. فلا يرتجزون إلّا بالأخير منها.
ومن أشعارهم الدّالّة على الإباء: قول أحدهم:
«والقعيطي نطح بالرّاس لمّا انكسر *** جاه خنتوب من حرب النّمر في صنيفه »
«والله إنّ عشا نوّح ومبقى ضحاهم *** حاملين البنادق والمقاصّ اللطيفه »
«واللّقا والوفا والوعد لى راس حوته *** بانعارضه بانلقي حراوه وضيفه »
«لو يقع من مئة مقتول في قبر واحد *** والنّبي ما التوى يدّه لعقد الشّريفه »
فبقيت من هذا حزازة في نفس السّيّد حسين بن حامد، لم يستطع أن ينفث بما يشفي صدره في جوابها إلّا ليلة دخولهم إلى المكلّا بعد إبرام المعاهدات، فقال:
«قالوا لي اليوم الشّريفه وكّلت *** من بعد ما غلبت وصاليها غلب »
«بيدي عوادي شاربين المسكره *** حملوا على (حوته) وخلفوا في السّلب »
و (حوتة): هي العقبة الكأداء الّتي أعجزتهم عن أخذها عنوة، ولكن طفقوا يفتلون في الذّرى والغوارب حتّى وطّؤوا أكنافهم بالبذل، ولهذا أجابه بعضهم قبل أن يبلع الرّيق بما نسيته، ومعناه: لم تنفعك الأسلحة ولا الرّجال، وإنّما نفعك ما بذلته من المال، وكادوا يتواثبون إثر تلك المراجعات بالأراجيز الحارّة، ولكن هدّأهم المناصب.
وأخبرني السّيّد حسين بن حامد: أنّه قال في إحدى مراجزه لهم في هدنة ذات الأيّام:
«يا حجر بن دغّار ماشي معذره *** لو بانرادف في المقابر من ثنين »
«إن عاد شي تركوب والّا تبصره *** والّا مع الله بالمطابق والكبين »
فأجابه أحدهم ـ لا عن ذلّ، ولكن خضع الجناح شيئا بما جبلوا عليه من كرم الضّيافة ـ فقال:
«حيّا وسهلا بالوجيه الزّاهره *** بالسّيّد المحضار بن حامد حسين »
«أنتوا وصلتوا والبشاره ظاهره *** والزّين يخرج منّه الّا كلّ زين »
قال: فأخجلني بهذا اللّطف؛ لأنّي نزيلهم على ضيافتهم، مع أنّه لم يخضع صريحا، لا سيّما والبشارة محتملة للطّرفين، والمساجلات الّتي بينهم تدخل في جزء. وعلى ألسنة الرّواة منها الشّيء الكثير.
وقال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [1 / 215]: (وللسّيّد أبي بكر البيتيّ ابن إبراهيم بن السّقّاف عقب منتشر بحجر وكنينة ومحمدة).
وفيها أيضا [1 / 368]: (أنّ للسّيّد أبي نميّ بن عبد الله بن شيخ بن عليّ المندرج أعقابا بكنينة ويون).
وفيها [420]: (أنّ لعلويّ بن عبد الله بن علويّ بن أحمد بن محمّد بن أحمد الكاف عقبا بحجر وكنينة).
وفيها [421]: (وأمّا عمر الجفريّ: فذرّيّته بحجر).
وفيها: (أنّ عبد الله بن محمّد بن عبد الله التّريسيّ ابن علويّ الجفريّ الخوّاص له ذريّة برداع وحجر، وكان نجوعهم من حجر إلى رداع في طلب العلم، ثمّ هاجروا في طلب المعيشة إلى السّواحل الإفريقيّة؛ ففي ممباسا جماعة؛ منهم السّيّد علويّ بن شيخ الرّداعيّ، وفي السّومال الإيطاليّ ناس؛ منهم السّيّد عليّ بن صالح بن حامد بن محمّد بن عبد الرّحمن بن أحمد بن عبد الله التّريسيّ).
وفيها [538]: (أنّ عبد الله الأعين النّسّاخ بافقيه بن محمّد عيديد له ذرّيّة بحجر وكنينة).
وبكنينة كانت خزانة ملأى بالكتب الخطيّة النّفيسة للشّيخ العموديّ، ولكن أخبرني من رآها بالآخرة: أنّه لم يبق بها من تلك الأعلاق إلّا ما لا يستحقّ الذّكر. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.
وفي كنينة ناس من آل العموديّ؛ منهم الشّيخ محمّد بن عوض العموديّ، نهشته أفعى في رجله.. فورمت، فأشار عليه الطّبيب بقطعها، ففعل وكان ذلك سبب عكوفه على العلم، حتّى حصّل منه جملة، فأفاد واستفاد، وكان في قصّته شبه بعروة بن الزّبير.
ومنهم آل بن دحمان، كانوا بكنينة، ثمّ انتقلوا إلى محمدة، نجع أحمد بن دحمان وأخوه عمر إلى السّواحل الإفريقيّة. وعمر خير من أحمد.
وأكثر حاصلات حجر: التّمر، فالّذي يخرج منها زائدا عن حاجات أهلها شيء كثير.
ومن الغرائب ـ كما حدّثني الثّقة السّيّد عبد الرّحمن بن حامد المحضار ـ: أنّ الغراب لا يتعرّض لثمار حجر بسوء أبدا.
ومن عادتهم: إباحة التّمور الّتي تتساقط بعصف الرّياح، وأن لا حرج على أيّ إنسان في تسلّق نخلة أراد للأكل فقط، أمّا أخذ شيء إلى المنزل.. فممنوع.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
36-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المكلا)
المكلّاهو اسم دالّ على مسمّاه؛ إذ جاء في مادّة (كلأ) من «التّاج» و «أصله»: (أنّ الكلّاء ـ ككتّان ـ مرفأ السّفن. وهو عند سيبويه: فعّال، مثل جبّار؛ لأنّه يكلأ السّفن من الرّيح. وساحل كلّ نهر كالمكلّا، مهموز مقصور) اه باختصار.
ومنه تعرف أنّه عربيّ فصيح، لم تتصرّف فيه العامّة على ممرّ السّنين إلّا بالشّيء اليسير.
وكانت المكلّا خيصة صغيرة لبني حسن والعكابرة، وملجأ تعوذ به سفائن أهل الشّحر، والواردين إليه من الآفاق عندما يهتاج البحر في أيّام الخريف؛ لتأمن به من عواصف الرّياح؛ لأنّه مصون بالجبال، بخلاف ساحل الشّحر.. فإنّه مكشوف.
وقد اتّخذ الصّيّادون به أكواخا، ففرضت عليهم العكابرة ضريبة خفيفة إزاء استيطانهم بها؛ لأنّها من حدود أرضهم، ثمّ ازدادت الأكواخ، واستوطنها كثير من العكابرة أنفسهم وناس من أهل روكب.
ويقال: إنّ آل الجديانيّ ـ وهم من يافع ـ مرّوا بها في أواخر سنة (980 ه) مجتازين، فأعجبتهم، فاستوطنوها، وصار أمر أهل تلك الخيصة إلى رئيسهم يشاورونه في أمورهم حتّى صار أميرا عليهم.
وكان كبير آل كساد ـ واسمه: سالم ـ موجودا بالمكلّا إذ ذاك، فاغتال الجديانيّ واستقلّ بأمر المكلّا.
ثمّ جاء سالم بن أحمد بن بحجم الكساديّ ومعه ولده صلاح وأخوه مقبل، فاغتالوا سالم الكساديّ في البير المعروفة إلى اليوم ببير بشهر، واستولى سالم بن أحمد بن بحجم على البلاد، وحكمها سنة ثمّ مات، وخلفه عليها ابنه صلاح ثمّ مات، وله ثلاثة أولاد: عبد الرّبّ، وعبد الحبيب، وعبد النّبيّ.
وكان النّفوذ لعبد الحبيب؛ لأنّه الأكبر، ولمّا مات.. خلفه عليها أخوه عبد الرّبّ، وبقي يحكم المكلّا إلى أن توفّي في سنة (1142 ه)، وخلفه عليها ابنه صلاح، فأخذ محمّد بن عبد الحبيب ينازعه حتّى اتّفقوا على تحكيم صاحب عدن، فركبوا إليها، فقضى بها لمحمّد بن عبد الحبيب.
فسافر صلاح وأخوه مطلق وعمّهم عبد النّبيّ إلى السّواحل الإفريقيّة، وبقي محمّد عبد الحبيب يحكم المكلّا.
وفي أيّامه بنيت حافة العبيد، وسمّيت بذلك؛ لأنّ أوّل ما بني بها بيت لعبيد آل كساد.
ولمّا مات محمّد عبد الحبيب في سنة (1207 ه).. قام من بعده ولده صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكان عمّه عبد الله بن عبد الحبيب ينازعه الإمارة، ولكنّه تغلّب عليه بمساعدة عمّه عليّ بن عبد الحبيب، وبقي على حكم المكلّا إلى أن مات في سنة (1290 ه).
وقام بعده ولده عمر بن صلاح، وكان صلاح في أيّامه استدان مئة ألف ريال من عوض بن عمر القعيطيّ في سنة (1285 ه) ـ وهي حصّته في نفقة غزوة المحائل عامئذ ـ وبإثر موته.. وصل عوض من الهند إلى الشّحر، وأقام بها أشهرا، ثمّ سار إلى المكلّا بهيئة التّعزية، وبعد أن اجتمع له بها من عسكره نحو ثلاث مئة دخلوا أرسالا.. طالب بذلك الدّين، فسفر النّاس بين عمر بن صلاح والقعيطيّ على أن يحتلّ القعيطيّ ناصفة المكلّا إلى أن يستوفي ماله من الدّين، ولكنّ عمر صلاح استدعى عسكره من كلّ ناحية، وأذكى نار الحرب، وعندما أحسّ القعيطيّ بالهزيمة.. استوقف الحرب، ونجا بنفسه.
هذه إحدى الرّوايات في إمارة آل كساد على المكلّا.
والأخرى: (أنّ في أواخر القرن الحادي عشر ـ أو أوائل الثّاني عشر ـ ورد المكلّا أحد آل ذي ناخب وهو جدّ آل كساد، وبمجرّد ما استقرّت قدمه بالمكلّا.. اتّجهت همّته للتّجارة والمضاربة مع أهل السّفن، ثمّ اتّفق هو وإيّاهم على شيء يدفعونه إليه برسم الحراسة، يعطي العكابرة وبني حسن بعضه، ويستأثر بالباقي، إلى أن استقوى أمره، وضعف أمر أولئك وانشقّ رأيهم، فما زال يتدرّج حتّى صار أمير المكلّا).
والثّالثة: عن الشّيخ المعمّر أحمد بن مرعيّ بن عليّ بن ناجي الثّاني: (أنّ صلاح بن سالم الكساديّ كان بغيل ابن يمين، فكثر شرّه، فطرده اليافعيّون الشّناظير، فالتجأ إلى علي ناجي الأوّل بن بريك بالشّحر، فأجاره هو وأولاده: عبد الحبيب، وعبد الرّبّ، وعبد النّبيّ.
وكانت لصلاح بنت تدعى عائشة، جميلة الطّلعة، استهوت قلب عليّ ناجي، فطلب يدها، واستاء آل بريك من بنائه عليها؛ لما يعلمون من شيطنة صلاح، وخافوا أن يستولي بواسطة بنته على خاطر السّلطان علي ناجي فيتنمّر لهم، فبيّتوا قتل صلاح بن سالم الكساديّ، فغدر بهم عليّ ناجي.
فذهب به إلى المكلّا ـ وهي إذ ذاك خيصة للعكابرة وبني حسن ـ فبنى بها السّلطان عليّ ناجي حصنا على ساحل البحر، سمّاه: حصن عبد النّبيّ؛ احتفاظا بالاسم لولده، وعاهد أهل المكلّا لعمّه صلاح بن سالم، وأجلسه بها مع عائلته) اه
وقد نزغ الشّيطان آخرا بين علي ناجي وعبد الرّبّ بن صلاح بن سالم الكساديّ. وجاء في «تاريخ باحسن الشّحريّ» [2 / 98 ـ 99 خ]: (أنّ علي ناجي نفى آل همام إلى المكلّا، فاستنجدوا بعبد الرّبّ بن صلاح ـ صاحب المكلّا ـ فجهّز قوما التقوا بعسكر علي ناجي في الحدبة، وقتل محسن بن جابر بن همام، وانكسر عسكر الكساديّ، وغنم آل بريك جميع ما معهم) اه
وسيأتي في تريم أنّ الكساديّ لم يجىء إلى المكلّا إلّا بعد سنة (1117 ه).
وفي أواخر سنة (1163 ه): غزا ناجي بن بريك المكلّا بسبع مئة من الحموم وغيرهم، فلاقاهم آل كساد إلى رأس الجبل، فهزموهم، وقتلوا منهم نحو العشرين، ولم يقتل من الكساديّ إلّا أربعة، ولا تزال قبورهم ظاهرة برأس الجبل.
ولمّا مات صلاح بن سالم ـ على هذه الرّواية ـ خلفه على المكلّا ولده عبد الرّبّ بن صلاح، ثمّ أخوه عبد الحبيب، وكان شهما صارما حازما. ثمّ تولّى بعده ولده محمّد.
وفي أيّامه: أخذ آل عبد الرّبّ بن صلاح يدبّرون المكايد لاغتياله، فأحسّ بذلك، فوطّأ لهم كنفه، وكان ذلك في اقتبال رمضان، فأظهر النّسك واشتغل بالعبادة، فخفّ حقدهم عليه، وهو يعمل عمله ليتغدّاهم قبل أن يتعشّوه.
وفي اللّيلة السّابعة والعشرين من رمضان: هجم عليهم وهم غارّون نائمون، بعد أن اشترى ذمم عبيدهم ففتحوا له الباب، فأباد خضراءهم، وقتل منهم ومن حاشيتهم ثلاثة عشر رجلا في ساعة واحدة، وهرب من بقي منهم بخيط رقبته إلى السّواحل الإفريقيّة.
ولمّا مات محمّد بن عبد الحبيب.. وقعت عصابته على ابنه صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكانت له محاسن، وعدل تامّ، وشدّة قاسية على أهل الفساد، ولم يزل على ذلك إلى أن توفّي في ربيع الثّاني من سنة (1290 ه).
وخلفه ولده عمر بن صلاح، وجرت بينه وبين السّلطان عوض بن عمر القعيطيّ خطوب انهزم في أوّلها القعيطيّ، ثمّ استعان بحكومة عدن، فاستدعت عمر صلاح، وخيّرته ـ بعد أن أخذت التّحكيم من الطّرفين ـ بين أن: يدفع المئة الألف حالا، أو يتسلّم مئة ألف ريال من القعيطيّ، ويترك له البلاد. وبين أن يتسلّم بروما من القعيطيّ، وقدرا دون الأوّل من الرّيالات. فلم يقبل، فأجبروه على الجلاء من المكلّا، فذهب إلى السّواحل الإفريقيّة ـ حسبما فصّلناه ب «الأصل» ـ واحتفظوا لأنفسهم منّة كبرى على القعيطيّ بهذا الصّنيع.
وكان ليوم سفر النّقيب من المكلّا رنّة حزن في جميع الدّيار؛ لأنّهم كانوا متفانين في محبّته.
«سارت سفائنهم والنّوح يتبعها *** كأنّها إبل يحدو بها الحادي »
«والنّاس قد ملؤوا العبرين واعتبروا *** وأرسلوا الدّمع حتّى سال بالوادي »
«كم سال في البحر من دمع وكم حملت *** تلك القطائع من أفلاذ أكباد »
هذا حال أهل المكلّا في توديعهم، وأمّا هم (أعني آل النقيب).. فكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 571 من الطّويل]:
«ترحّلت عنكم لي أمامي نظرة *** وعشر وعشر نحوكم من ورائيا»
وزعم بعضهم أنّ صاحب زنجبار لذلك العهد ـ وهو السّلطان سعيد بن سلطان ـ منع السّلطان عمر بن صلاح من النّزول ببلاده؛ لما سبق من فعلة جدّه الشّنعاء بأقاربه، وكاد يرجع أدراجه، ولكنّ بقايا الموتورين من آل عبد الرّبّ أظأرتهم الرّحم عليه، فشفعوا إلى سلطان زنجبار في قبوله، فقبل نزوله. ولا تزال الدّراهم مرصّدة له بأرباحها في خزينة عدن، كذا يقول بعضهم.
ويزعم آخرون أنّ الحكومة اختلقت مبرّرا لحرمانه منها. ولا بأس بإيراد وثيقتين تتعلّقان بالقضيّة. هذه صورة الأولى:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم
أقرّ أنا عمر صلاح، نقيب بندر المكلّا بأنّي قد قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين عوض بن عمر القعيطيّ وأخيه عبد الله بن عمر حاكم بندر الشّحر، وأن ""أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنتين من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للقعيطيّ المذكور في أثناء هذه الهدنة السنتين المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.
النقيب عمر صلاح
ثم الختم
حرّر في المركب كونتنك
""
الدّولة العظمى الإنكليزيّة (22) ديسمبر سنة (1876 م)، (6) الحجة سنة (1295 ه).
والأخرى:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم
أقرّ أنا الجمعدار عبد الله بن عمر القعيطيّ حاكم بندر الشّحر بأنّي قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين النّقيب عمر صلاح نقيب المكلّا، وأن أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنة واحدة من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للنّقيب عمر في أثناء هذه الهدنة السّنة المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.
صحيح عبد الله بن عمر القعيطيّ
حرر في المركب الحربيّ المسمّى: عرب تعلق الدّولة العظمى في (7) مي سنة (1879 م)، الموافق (12) جمادى أولى سنة (1296 ه).
وفي الأولى إمضاء الوكيل السّياسيّ صالح جعفر، وفي الأخرى كومندور الدّراعة فرانسيس لوك، المقيم السياسيّ. عدن.
وفي معنى الوثيقة الأولى ولفظها وتاريخها وموضعها وثيقة بإمضاء السّلطان
عوض بن عمر، وهو: صحيح عوض بن عمر القعيطيّ عن نفسه وعن أخيه عبد الله بن عمر حاكم الشّحر.
ثمّ وجدت عريضة تضمّ ما انتشر، وتفصّل ما أجمل، تشبه أن تكون بأمر النّقيب عمر صلاح قدّمها فيما يظنّ لدولة الإنكليز، جاء فيها:
أولا: كان بين النّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ سلطان المكلّا، وبين الجمعداريّة صالح وعبد الله وعوض أبناء عمر بن عوض القعيطيّ صداقة، وكانوا تابعين للنّقيب، حتّى عزم على حرب الشّحر، فجهز ومعه عوض بن عمر على الشّحر، وأخذوها على أنّها أنصاف بينهم، وبقي عوض بن عمر حاكما عليها.
وبعد ستّ سنين من أخذ الشّحر.. توفّي النّقيب صلاح بن محمّد، وخلفه ولده عمر صلاح، فاشتبك في حرب مع آل العموديّ وقبائل دوعن، فانتهز عوض بن عمر الفرصة، واستأذن في الوصول إلى المكلّا؛ للتّوسّط بين النّقيب عمر صلاح وآل دوعن في الصّلح، فوصل على حين غفلة، فخرج عمر صلاح لاستقباله.. فاستنكر كثرة العساكر التّي جاء بها معه؛ لأنّها تقدّر بسبع مئة، فقال له: لم لم تبعث برسول يخبرنا بوصولك؟
فاعتذر وأظهر أنّ قصده المصالحة بين النّقيب وبين قبائل دوعن، وفي ثاني يوم وصوله.. ادّعى بمئة وستين ألف ريال عند النّقيب صلاح بن محمّد.. فأجابه النّقيب عمر ب: (لا أعلم شيئا على والدي، وقد عاش ستّ سنين بعد أخذ الشّحر ولم تطلبوا بشيء، وإن كان بها سند صحيح على والدي.. فأنا مستعدّ للوفاء).
لكنّ عوض بن عمر لمّا رأى المكلّا خالية.. اعتمد على القوّة، وقال لعمر صلاح: إن لم تمض على بيع ناصفة المكلّا لي بالمبلغ المذكور.. أخذتها بالقوّة، فأمضى النّقيب مضطرّا، ثمّ استدعى عساكره من دوعن، وحصل من عسكر القعيطيّ تعدّ بقتل أحد عسكر النّقيب، فنشبت الحرب ثلاثة أيّام، انهزم في آخرها عوض بن عمر، فطلب الأمان لنفسه.. فأمّنه النّقيب.
فسار إلى الشّحر بسلاحه وعساكره في عدّة سفن، وبعد وصوله إلى الشّحر.. استمرّت المناوشات بين النّقيب والقعيطيّ ثلاث سنين، حتّى وصل الجنرال سندر من عدن، وعقد هدنة لمدّة سنتين، ولمّا انقضت.. وصل والي عدن فرانسيس لوك، وعقد هدنة لمدّة سنة، ولمّا انقضت.. منع الطّرفين عن جهة البحر، ولكنّ عبد القعيطيّ جهّز عساكره بحرا، وهجم على بروم في اللّيل، واستولى عليها، وأرسل النّقيب سلطان المكلّا خبرا لوالي عدن.. فتغافل عن تعدّي القعيطيّ، فطلب النّقيب آل كثير، وجهّز على بروم، وجهّز عسكر القعيطيّ بها من جهة البرّ.
وفي (25) ديسمبر سنة (1881 م) وصل مركب إنكليزيّ فيه صالح جعفر مندوب من والي عدن.. فوجد عسكر القعيطيّ محصورين في بروم، وسفنه في المرسى ملآنة بالرّصاص والزانة، فربط سفينتين منها بمركبه إلى عدن، وهربت أربع سفن إلى الشّحر، ثمّ أرسل الوالي بمركب حربيّ اسمه (سيجل)، يرأسه القبطان بيلس، وأقام هدنة خمسة عشر يوما.
وفي (22) فبروري وصل المركب (دجمار) وفيه صالح جعفر ووكيل القعيطيّ الواصل من الهند.. فدفع صالح جعفر للنّقيب عمر كتابا من والي عدن يقول له فيه: واصلك مرسولنا صالح جعفر.. فاقبل ما أودعناه لك من خطاب، فقال صالح جعفر: إنّ الدّولة حرّرت بينكم معاهدة على ثلاثة شروط، كلّ شرط في ورقة؛ لتخرج عساكر القعيطيّ من بروم بغير سفك دماء، وبعد خروج عساكر القعيطيّ بانسلّمها لك، وبانعطيك حماية لبلادك، وتكون تبع للدّولة الإنكليزيّة.
فلمّا وقف النّقيب على الشّروط الثّلاثة.. امتنع عن الإمضاء، وبقي صالح جعفر يرغّبه ويقول له: إنّما هي وسيلة إلى خروج عسكر القعيطيّ من بروم، وتكون الشّروط تحت اختيارك بعد ذلك، وكان النّقيب واثقا بصالح جعفر.. فأمضى على الشّروط الثّلاثة، كلّ شرط في ورقة، فتوجّه صالح جعفر ونزعوا عساكر القعيطيّ من بروم، وسلّموها للنّقيب.
وبعد أربعين يوما.. وصل القبطان هنتر وصالح جعفر، وقالوا للنّقيب: إنّ والي
عدن استحسن أن تبيع بلادك المكلّا لعدوّك القعيطيّ بثلاثة لكّ ريال، وطلب إمضاءه على ورقة بيع مكتوبة بالإنكليزيّة.. فأبى، فألزموه أن يواجه الوالي بنفسه في عدن، فتوجّه على أمل من إنصاف الوالي، فلم يكن منه إلّا أن ألزمه الإمضاء على ورقة البيع.. فامتنع، وبقي خمسة وعشرين يوما في مراجعة مع الوالي.
ثمّ عاد إلى المكلّا في نفس المركب الّذي سار فيه، واسمه (دجمار) ومعه صالح جعفر، ولمّا وصل المكلّا.. وجد المنور الحربيّ المسمّى (دراقين) راسيا بالمكلّا، وفي اليوم الثّاني.. نزل قبطانه ـ واسمه هلتن ـ ورافقه صالح جعفر وأعطى للنّقيب ورقة مكتوبة بالعربيّ: إنّك راضي أن تفارق بلدك وحدودك ما عدا بروم، ونسلّم لك لاكين وعشرين ألف ريال، فامتنع النّقيب عن الإمضاء عليها، فعاد هلتن للمنور المسمّى (دراقين) ومعه صالح جعفر.. فضربوا ثلاثة مدافع؛ إعلانا بحصر المكلّا ومنعوا السّفن الواردة، فضربوا السّفن الرّاسية، وبقي ذلك المنور محاصرا للمكلّا ستّة أشهر، وبعدما وصل المنور (دجمار) من عدن وفيه حاكم صغير اسمه (والش).. قال للنّقيب عمر: إنّ دولة الإنكليز رفعت الحصر عن بلادك، وإنّها لا تتداخل بينك وبين القعيطيّ.
وبعد عشرين يوما وصلت المناور الحربيّة (دراقين) و (عرب) و (دجمار)، وفيها القبطان (هولتن) والقبطان (هنتر)، وألزموا النّقيب صلاح يصحّح على ورقة بيع بلاده للقعيطيّ بثلاثة لكّ ريال.. فامتنع، فتوجّه المنور (دراقين) والمنور (دجمار) إلى الشّحر عند القعيطيّ، وأقاما خمسة أيّام، وفي اليوم السّادس.. وصلت مناور إنكليزيّة شاحنة بعسكر القعيطيّ وآلات الحرب، ومعهم عبد الله بن عمر القعيطيّ، ونزل هنتر إلى بروم، وقال لحاميتها: إن لم تفرغوها.. أثرنا عليكم الحرب، وفي أوّل يوم من نوفمبر سنة (1881 م).. أطلقوا المدافع، وهدموا القلاع، فهزمت عسكر النّقيب، واستولت المناور على بروم، ثمّ سلّموها لعبد الله بن عمر القعيطيّ، ثمّ توجّه (دراقين) وسفن القعيطي بحرا، وبعض عساكره برّا حتّى وصلوا بلاد فوّة، فنزل هولتن وطرد عسكر النّقيب، وسلّم فوة للقعيطيّ.
ثمّ توجّه المنور والسّفن إلى المكلّا، وحصروا المكلّا، وقطعوا وارد الماء من البرّ، فطفق النّقيب يخاطب هولتن ويذكّره الصّداقة والمعاهدة، ولمّا رآه مصمّما على حربه بما لا طاقة له به.. طلب الأمان، وسلّم بلاده للقبطان هولتن، ونزلت عساكر الإنكليز، وركب النّقيب عمر صلاح في حاشيته ونسائه وأطفاله ورجاله المقدّرين بألفين وسبع مئة نفس، سار بهم القبطان هولتن إلى عدن بعد أن سلّم المكلّا للقعيطيّ، ولمّا وصل النّقيب بحاشيته إلى مرسى عدن.. طلب مواجهة الوالي.. فلم يجبه، بل شدّد عليه الحصر في السّفن، ومنعهم النّزول إلى البرّ، واشتدّ عليهم الضّيق والزّحام حتّى مات منهم نحو مئتي نفس، وبقوا في الحصر اثنين وعشرين يوما، يطلع إليهم هنتر وصالح جعفر إلى البحر في كلّ يوم يتهدّدون النّقيب عمر بالحبس والقيد إذا لم يمض على خطّ البيع.. فلم يوافقهم، ولمّا أيسوا من موافقته.. نزّلوا فرقة من عسكره تقدّر بسبع مئة إلى برّ عدن، ورخّصوا له بالسّفر، فتوجّه مظلوما مقهورا من مأموري عدن إلى بندر زنجبار، والآن له مدّة سنتين يخاطب دولة الهند فيما حصل من ظلم مأموري عدن، ويطلب الإنصاف من دولة الإنكليز بوجه الحقّ.. فلم تفده بجواب، وهو في انتظار الإنصاف إلى هذا الوقت، وقد حرّر هذا لأعتاب دولتكم؛ ليكون الأمر معلوما، والسّلام. اه بنوع اختصار.
ومنها يعرف أنّ الوثيقة الأولى هي الّتي انعقدت على يد سندر سنة (1295 ه)، والثّانية هي الّتي انعقدت على يد فرانسيس لوك سنة (1296 ه)، والله أعلم.
ومن ذلك اليوم صفت المكلّا لآل القعيطيّ، يتداول حكمها بين السّلطان عوض وأخيه عبد الله بن عمر، إلى أن مات الثّاني في سنة (1306 ه) عن ولدين، كان لهما مع عمّهما عوض نبأ يأتي ذكر بعضه في الشّحر.
وفي سنة (1888 ميلاديّة) ـ ولعلّها موافقة سنة (1305 هجريّة) ـ انعقدت معاهدة بين الحكومة الإنكليزيّة والحكومة القعيطيّة، هذا نصّها:
المادة الأولى: تلبية لرغبة الموقّع أدناه: عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض.. تتعهّد الحكومة البريطانيّة بأن تمدّ إلى المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما الّتي في دائرة تفويضهما وحكمهما المنّة السّامية، وحماية صاحبة الجلالة الملكة الإمبراطورة.
المادة الثّانية: يرتضي ويتعهّد عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض وورثائهما وحلفائهما.. بأن يتجنّب الدّخول في مكاتبات أو اتفاقيّات أو معاهدات، مع أيّ شعب أو دولة أجنبيّة إلّا بعلم وموافقة الحكومة البريطانيّة.
ويتعهّد أيضا: بأن يقدّم إعلاما سريعا لوالي عدن، أو لضابط بريطانيّ آخر عند محاولة أيّة دولة أخرى في التّدخّل في شؤون المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما.
المادة الثّالثة: يسري مفعول هذه المعاهدة من هذا التّاريخ.
وشهادة على ذلك فقد وضع الموقّعون أدناه إمضاءاتهم أو ختوماتهم في الشّحر باليوم من شهر مايو سنة (1888 م) اه
وكنت أتوهّم هذه أوّل معاهدة بين القعيطيّ والإنكليز، ولكن رأيت قبلها أخرى بواسطة (جايمس بلار) والي عدن بتاريخ (29) مارس سنة (1882 م) و (12) رجب سنة (1299 ه) جاء فيها ما يوافق الّتي قبلها، مع زيادات:
أولاها: أنّ عبد الله بن عمر وأخاه عوض بن عمر تمكّنا ـ بواسطة المساعدة لهما من الحكومة البريطانيّة ـ من الاستيلاء على مرفأي بروم والمكلّا في أكتوبر سنة (1881 م)، وعلى الأراضي الّتي كان يحتلّها النّقيب.
وبما أنّ الحكومة قد أسدت إليهما مساعدات ومننا أخرى.. فقد وافقوا على المعاهدة الآتية، وهي معاهدة سنة (1888 م).
والزّيادة الثّانية هي: بما أنّ الممتلكات الّتي كانت سابقا في قبضة النّقيب عمر بن صلاح قد انتقلت إلى يد عبد الله بن عمر القعيطيّ، وهو قد دفع مئة ألف ريال للوالي
في عدن لقاء نفقات النّقيب عمر بن صلاح.. فإنّ هذا المبلغ سيصرف بنظر الوالي في عدن عن النّقيب عمر بن صلاح المذكور.
والزّيادة الثّالثة هي: تعهّد الحكومة البريطانيّة بمعاش سنويّ لآل القعيطيّ، قدره: ثلاث مئة وستّون ربيّة، ما داموا قائمين بشروط هذه المعاهدة. اه
ولكنّ آل القعيطيّ ترفّعوا عن ذلك المعاش الزّهيد، ولم يقبضوا منه شيئا من يوم المعاهدة إلى اليوم.
ومقدّم تربة المكلّا هو: الشّيخ يعقوب بن يوسف باوزير، وهو آخر من وصل إليه العلم من أجداده المشايخ آل باوزير، وكانت وفاته بالمكلّا في سنة (553 ه).
وقال السّيّد علويّ بن حسن مدهر: (إنّ آل باوزير يرجعون إلى الشّيخ حسن الطّرفيّ، المقبور بجزيرة كمران).
وقال الشّيخ عبد الله بن عمر بامخرمة: (إنّ آل باوزير ينسبون إلى قرية يقال لها: وزيريّة من شرعب باليمن، على مقربة من تعزّ، بينهما مرحلة، تطلّ على تهامة)
وقد اجتمعت بالفاضل السّيّد: محمّد بن محمّد بن عبد الله بن المتوكّل، فحدّثني عن وزيريّة هذه وقال: (إنّها الوزيرة لا وزيريّة، وهي ما بين شرعب والعدين، بلاد خصبة جدّا، يمرّ فيها غيل غزير، لا تزال به خضراء صيفا وشتاء).
وزعم قوم: أنّ الشّيخ يعقوب بن يوسف من آل الجيلانيّ.
وكان لآل باوزير منصب عظيم، وجاه واسع، حتّى لقد كانت لهم دولة بأنقزيجة وهي من جزائر القمر، وآخر سلاطينهم بها يقال له: (مرسى فوم)، ولكنّ السّيّد عليّ بن عمر المسيليّ طلب منه أن يولّيه على بعض البلاد.. فلم يرض، فخرج عن طاعته، واستعان بفرنسا.. فساعدته بالأموال والعتاد، وبباخرة حربيّة حاصر بها مرسى فوم، ولمّا رغب في الصّلح.. اتّعد هو وإيّاه إلى مكان أعدّ فيه الرّجال، وبمجرّد ما وصل.. غدر به وقتله خنقا، واستولى على ملكه، وكان جبّارا ظالما، معاصرا لسيّدي أحمد بن أبي بكر بن سميط، ولا تزال لأولاده سلطنة اسميّة إلى اليوم، وأمّه من ذرّيّة السّيّد أحمد بن عليّ، أحد آل الشّيخ أبي بكر بن سالم، وكان له أولاد يزيدون عن المئة، وسلطته على أنقزيجة انتهت بآل باوزير، ثمّ انتهت دولة آل باوزير بحكم عليّ بن عمر، وليس من آل الشّيخ أبي بكر، ولكنّ أمّه منهم، وأمّا هو.. فمن آل المسيلة، ولهذا قيل له: المسيلي.
وللمكلّا ذكر كثير في أخبار بدر ـ أبو طويرق ـ الكثيريّ، المتوفّى بسيئون سنة (977 ه)، وشيء من ذلك لا ينافي كونها خيصة صغيرة لذلك العهد، لم تعمّر إلّا في أيّام الكساديّ؛ لأنّه لا ينكر وجودها من زمن متقدّم، وصغرها لا يمنع ذكرها، فمن ذكرها.. فقد نظر إلى مجرّد وجودها، ومن لم يذكرها.. فلحقارتها، ولأنّها لا تستحقّ الذّكر إذ ذاك.
إلّا أنّه يشكل على ذلك شيئان:
أحدهما: أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهره لم يذكرها في «رحلته» الّتي استولى فيها على حضرموت والشّحر، ولقد ذكر فيها أنّه أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، وأنّ ما جباه منها في هذه المدّة: خمسة وثلاثون ألف ريال، مع أنّه متأخّر الزّمان في سنة (1117 ه)؛ فإنّ هذا يدلّ على فرط تأخّرها، إلّا أن يقال: إنّ الشّيخ عمر صالح احترمها لمكان إخوانه اليافعيّين فيها، ولكنّه لا يصلح إلّا جوابا عن الغزو لا عن الذّكر.
وثانيهما: أنّ كثرة المقابر بها تدلّ على عمران قديم.
وقد يجاب بأنّها: ربّما كانت كلّها مقبرة للعكابرة وبني حسن ومن داناهم؛ حرصا على مجاورة الشّيخ يعقوب، كما هي عادة أهل البلاد، وأهل البادية أكثر النّاس حرصا على مثل ذلك.
وقد عمّر كثير من تلك المقابر بعد دثورها مساكن ومساجد، وكنت أشتدّ في إنكار ذلك، حتّى رأيت كلام «التّحفة» و «الإيعاب» في ذلك.
وحاصل ما فيهما: (أنّ الموات المعتاد للدّفن بلا مانع يدخل في قسم المسبّل، ويجوز زرعه وبناؤه متى تيقّن بلاء من دفن به، ولا سيّما إذا أعرض أهل البلد عن الدّفن فيه حالا واستقبالا. وإنّما يمتنع الإحياء والتّصرّف فيما تيقّن وقفها، أو أنّ مالكا سبّلها)
وقال العينيّ ـ وهو من الحنفيّة ـ: (ذكر أصحابنا أنّ المقبرة إذا دثرت.. تعود لأربابها، فإن لم يعرف أربابها.. كانت لبيت المال). اه وفي شروح «المنهاج» ما يوافقه.
وقال ابن القاسم من المالكيّة: (لو أنّ مقبرة عفت، فبنى عليها قوم مسجدا.. لم أر بذلك بأسا) اه
وهذا شامل لما تحقّق وقفها أو تسبيل مسبّل لها.
أمّا ما لم يتحقّق فيه ذلك.. فنحن وإيّاهم على اتّفاق في جواز إحيائه والتّصرّف فيه.
وقال بعض الحنابلة: (إذا صار الميت رميما.. جازت زراعة المقبرة والبناء عليها)
وهذا في غير قبور الأولياء والعلماء والصّحابة؛ أمّا هؤلاء.. فلا تجوز على قبورهم مطلقا.
وفي شرحي بيتي السّلطان غالب بن محسن من ثالث أجزاء «الأصل» ما يصرّح بأنّ المكلّا لم تزل خيصة في سنة (1249 ه)، وأنّ سكّانها إذ ذاك لا يزيدون عن أربعة آلاف وخمس مئة نفس.
ثمّ إنّه لم يكن للعلم شأن يذكر بالمكلّا ونواحيها؛ لانصراف وزير الحكومة القعيطيّة السّيّد حسين بن حامد المحضار إذ ذاك عن هذه النّاحية، بل كان ـ رحمه الله ـ يتعمّد ذلك؛ لأنّ في العلم والمدارس تنبيه الأفكار، وهو يكره وجود النّابغين؛ لئلّا يزاحموه أو يغلبوه على السّلطان، أو يطالبوه بحقوقهم.
وإنّما كان يوجد فيها الأفذاذ النّاقلون بحكم الفلتات؛ كالشّيخ عوض بن سعيد بن محمّد بن ثعلب، الّذي تولّى القضاء بها فيما قبل سنة (1313 ه)، وكالشّيخ عبد الله بن عوض باحشوان، والشّيخ سعيد بن امبارك باعامر في قليل من أمثالهم، لا تحضرني أسماؤهم.
ومن أواخرهم: الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عوض باوزير، قرأ على الشّيخ محمّد بن سلم، وله رحلات في طلب العلم إلى الحجاز وعدن وحضرموت، وكان ذا لسان ونفس طيّب في الوعظ والتّذكير، توفّي بالغيل في سنة (1354 ه)، ودفن إلى جانب شيخه ابن سلم.
وبإثر وصول السّادة آل الدّبّاغ إلى المكلّا في حدود سنة (1343 ه).. فتحوا المدارس وأحسنوا التّعليم، وكان حزب الأحرار الحجازيّ يغدق عليهم الأموال، وتصلهم مع ذلك المواساة من العراق.
إلّا أنّهم كانوا يضمرون من التّعليم غير ما يظهرون، وحاولوا تربية الأولاد على الطّريقة الحربيّة؛ ليعدّوهم لغزو الحجاز، واستمالوا رؤساء يافع، وكان لهم إذ ذاك أكبر النّفوذ في المكلّا، وربّما تركوا صندوق الذّهب مفتوحا ليروه عندما يزورونهم، وبالآخرة طالبوهم بعسكر على أن يدفعوا لهم مرتّبات ضخمة، فالتزموا لهم بخمسة وأربعين ألف مقاتل من يافع، ولكنّ آل الدّبّاغ تأخّروا بعد ذلك لمؤثّر إمّا من الحجاز، وإمّا من العراق، وحاولوا إثارة حفيظة ملك العراق لغزو المكلّا وحضرموت.
وفيما كانت فرقة الكشّافة مارّة بسوق المكلّا، ترفرف عليها الأعلام العراقيّة.. تكدّر لذلك الشّيخ الأديب عبد الله أحمد النّاخبيّ، وكان شريكهم في التّعليم، ولكنّه لم يصبر على هذا التّطرّف، فنبّه الوزير، ولكنّه خاف من يافع ـ وكان خوّارا ـ فسكت على مضض، حتّى قدم الفاضل السّيّد طاهر الدّبّاغ، فعرف تهوّر أصحابه فقذعهم، ولكنّه بارح المكلّا وشيكا، فعادت القضيّة إلى أسوأ ممّا كانت، إلّا أنّ المسألة انحلّت بطبيعة الحال؛ إذ سافر عليّ الدّبّاغ إلى جازان؛ لتدبير الثّورة، فغرق هناك، وكان آخر العهد به.
وأمّا حسين: فلم يزل مصرّا على رأيه في الانتقام من الحكومة السّعوديّة، وكانت خاتمة أمره أن نزل بالحالمين من بلاد يافع، فمنعه أهلها آل مفلح، فلم يقدر عليه أحد، ثمّ نشبت بينهم وبين جيرانهم من يافع أيضا فتنة، ولمّا علموا أنّه السّبب فيها.. اعتزموا قتله، فغدر بهم فهرب ـ كما فعل الكميت ـ في زيّ امرأة، وذهب إلى الحمراء في آخر حدود يافع، فأذكى شرّا بينهم وبين آل القويمي من الزّيديّة، وكثرت بينهم القتلى.
«ولمّا أحسّ بالفشل.. هرب إلى ***...»
القطيب ـ وهي إحدى المحميّات ـ فألفى هناك ضابطا إنكليزيّا، فأغرى به بدويّا فقتله بجعل دفعه له، فطلبته حكومة عدن، بهذه التّهمة فحماه حسن بن عليّ القطيبيّ، وأبى أن يخيّس بجواره وذمّته، وبعد أن أقام لديه مدّة.. خطر له أن يخرج متنكّرا إلى حضرموت، وكانت الحكومة الإنكليزيّة جعلت أربعة آلاف ربيّة لمن يلقي القبض عليه، فلمّا انتهى إلى أرباض الهجرين.. أمسك به عاملها ـ وهو الشّيخ محمّد بن عوض النّقيب، وكان أحد تلاميذه بمدرسة النّجاح بالمكلّا ـ وهناك أخذه الضّابط السّياسيّ انجرامس وهو يصيح ويستثير حفائظ المسلمين، وقد حضر كثير فلم يتحرّك من أحد عرق.
ولمّا وصلوا به إلى عدن.. طلبه ملك الحجاز، وأمر بإنزاله مكرّما في جيزان، وأعلن له عاملها عفو الملك عنه، وأنّه حرّ في نفسه تحت حراسة عسكر بمثابة خدم له، حتّى يعرف سلوكه.
فلم يزل يخاطب رؤساء العشائر، ويعمل أعمالا لا تنطبق مع المنطق، وكان ذلك إثر مرض لم يزل يتزايد به حتّى توفّي وهو مشمول بإكرام الحكومة السّعوديّة وسماحها.
فمن حين فتح آل الدّبّاغ المدارس.. بدأت المعارف تتقدّم بخطى قصيرة، حتّى لقد عنيت مدارس المكلّا بما ذكرته في مقدّمة كتابي «النّجم المضيّ في نقد عبقريّة الرّضيّ».
إلّا أنّ السّلطان الحاليّ لمّا كان من جملة العلماء.. أخذ يناصر المدارس، وأغدق عليها الأموال، حتّى لقد قيل لي: إنّ ما ينفقه عليها سنويّا أكثر من ثلاث مئة ألف ربيّة، عبارة عمّا يقارب ربع إيراد المكلّا. وقد استجلب لها ناظرا خبيرا محنّكا من السّودان، هو الفاضل الشّيخ سعيد القدال، فأدارها أحسن إدارة، وظهر الأثر وينع الثّمر. فالمكلّا بل وسائر الموانىء اليوم في المعارف غيرها بالأمس.
إلّا أنّني اقترحت على السّلطان يوم كان بمنزلي في سنة (1365 ه) أن يهتمّ بإيجاد مدرسة تحضيريّة لتربية التّلاميذ على الأخلاق الفاضلة؛ فإنّ الهمم قد سقطت، والذّمم قد خربت، ولن تعود سيرتها الأولى إلّا بمدرسة تأخذ بطريق التّربية الصّوفيّة، أو قريب منها، مع الابتعاد عن الخلطة؛ لأنّ أكبر المؤثّرات على الصّبيان المشاهدة، فلن ينفعهم ما يسمعون إذا خالفه ما ينظرون؛ إذ المنظور لا ينمحي من الذّاكرة، بخلاف المسموع.. فإنّه لا يبقى إلّا عند صدق التّوجّه، فلا مطمع في إصلاح نشء مع اختلاطه بمن لا تحمد سيرته البتّة؛ ولذا لم يكن لبني إسرائيل علاج من أمراضهم الأخلاقيّة إلّا بإهلاك الجيل الفاسد في التّيه، وتكوين ناشئة لم تتأثّر بهم.
وفي «الصّحيح» [خ 1319]: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه».
فنحن بحاجة ماسّة إلى إيجاد البشريّة الصّحيحة قبل العالميّة، ومعلوم أنّ التّخلية مقدّمة على التّخلية، والتّلاميذ ظلّ آبائهم وأمّهاتهم ومعلّميهم، إن خيرا.. فخير، وإن شرّا.. فشرّ، وكثيرا ما أذكّر المعلّمين بخاتمة قصيدة جزلة لي في الموضوع، وتلك الخاتمة هي قولي [في «ديوان المؤلّف» 207 من البسيط]:
«وفّوا الكلام وكونوا في الذّمام وفي *** خوف الملام على ما كانت العرب »
ثمّ إنّه لم يكن عندي تصّور لمناحي التّعليم وأخلاق الطّلّاب والمدرّسين بالسّاحل.. حتّى يسوغ لي الحكم؛ فإنّما يتناول ثنائي ما ظهر من جمال الأسلوب، وحركة الانقلاب، وعموم التّيقّظ والانتباه، وإجادة بعضهم في الشّعر حتّى يسوغ لي الحكم.
وفي المكلّا: ديوان للحكومة، وإدارة للكهرباء ووزارة للماليّة، وليس للسّلطان إلّا مرتّب مخصوص قدره عشرة آلاف ربيّة في الشّهر، ثمّ رفع إلى خمسة عشر ألف ربيّة، مع إضافات معيّنة لا يتجاوزها.
وفيها غرفة تجاريّة تراعي أغراض التّجّار وتقدّمها على مصالح الشّعب.
وفيها إدارة للقضاء، ومجلس عال، لكنّ ذلك المجلس العالي هو أكبر حجار العثار في طريق العدالة! !
فالحقوق مهضومة، والحقائق مكتومة، وطالما رفعت إليّ أحكام ذلك المجلس.. فإذا بها شرّ ممّا نتألّم منه بسيئون؛ وذلك أنّ وزير الدّولة الّذي يقولون له: (السكرتير) ـ وهو الشّيخ سيف أبو عليّ ـ جعل كلمة ذلك المجلس النّهائيّة لا معقّب لها بحال، فسقطت عنه مؤنة التّحفّظ، ولم يحتج إلى مراجعة الكتب؛ إذ هو في أمان من النّقض، والشّعب ميت، والخاصّة نفعيّون يتساكتون.
وإلّا.. فلو احتجّوا لدى السّلطان.. لعدّل الأمر؛ لأنّه يكره الجور.
أمّا الآن.. فإنّ المجلس يفعل ما يشاء بدون رقيب؛ فبعد أن ينشق الخصوم إنشاق الخردل.. يصكّهم بتلك الأحكام ـ المضحكة المبكية ـ صكّ الجندل.
ولله درّ العبسيّ في قوله [في «البيان والتبيين» 1 / 164 من البسيط]:
«إنّ المحكّم ما لم يرتقب حسبا *** أو يرهب السّيف أو حدّ القنا.. جنفا»
ودفاتر التّسجيل شاهدة بصدق ما أقول، لا تخفى على من له أدنى إلمام بالفقه.
وفي الحفظ عن «جمع الجوامع»: (أنّه لم يقع أن قيل لنبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: احكم بما شئت ففيه الصّواب، وإنّما الاختلاف في الجواز).
غير أنّ الحفظ يخون، والعهد بعيد.
ومثله عند غيره من أهل الأصول، وقد قال تعالى لأشرف الخلق: (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقال لداود عليه السّلام: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)
فإن قيل: إنّ في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) تفويضا مطلقا.. قيل: لا، وإنّما هو بما أراه الله من الحقّ، كما يشهد السّياق، وقد جاء في «التّحفة» [7 / 98] قبيل (الوديعة) ما نصّه: (قال بعضهم: وفيما إذا فوّض للوصيّ التّفرقة بحسب ما يراه.. يلزمه تفضيل أهل الحاجة... إلخ).
على اتّساع شقّة الفرق بين ما تراه وبين ما أراك الله، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: لا يقولنّ أحدكم: قضيت بما أراني الله؛ فإنّ الله لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولكن ليجتهد رأيه؛ لأنّ الرأي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا؛ لأنّ الله كان يريه إيّاه، وهو منّا الظّنّ والتّكلّف. ثمّ ما أبعد البون بين ما تراه الأدنى ممّا أراك الله ـ كما تقدّم ـ وبين ما تشاء في الآية (48) من (المائدة): (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) وفي الّتي بعدها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)
ولكنّ المجلس العالي بالمكلّا وقع من وزير الدّولة على ما لم تحصل عليه الأنبياء من ربّها، فصارت أحكامه شرّا من الأحكام العرفيّة؛ لأنّها ليست إلّا عبارة عن مشيئة وهوى الاستئناف، بل رئيسه فقط، من دون تقيّد بقانون شرعيّ ولا عرفيّ، وإنّما قلنا شرّا من الحكم العرفيّ؛ لأنّ الحاكم العرفيّ بمصر وغيرها يكون تحت مراقبة البرلمان، بخلاف هذا.. فلا مراقبة عليه أصلا، وهل تقبل هذا أمّة في بعض أفرادها نبض من الحياة؟! ! كلّا، ولكنّ المتنبّي يقول [في «العكبريّ» 4 / 94 من الخفيف]:
«من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميّت إيلام »
هذا مع أنّ هوى السّلطان ـ كما سبق ـ العدل، وغاية ما يتمنّاه الإنصاف، لكنّ الأمّة انتهت إلى ذلك الحدّ من السّقوط والانحطاط.. فسحقا، سحقا.
وسيأتي في الظّاهرة من أرض الكسر ما يستخرج عند التّمثيل العجب العجاب، ويستلفت أنظار طالبي الحقيقة في هذا الباب.
وسكّان المكلّا اليوم يزيدون عن خمسة وعشرين ألفا.
"وفيها عدّة مساجد، أشهرها:
الجامع القديم. ومسجد الرّوضة: بناه صاحب الأحوال الغريبة، السّيّد عمر ـ المشهور ببو علامة ـ ابن عليّ بن شيخ بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، المتوفّى في شبام سنة (1278 ه)، وقد أنكر عليه بعضهم بناءه بشطّ البحر محتجّا بما جاء في رسالة للسّيوطيّ في الموضوع، وهي مدرجة ب «الحاوي». وجامع السّلطان عمر: وهو أنزه مسجد رأيت.
ومسجد النّور. ومسجد باحليوة. ومسجد السّلطان غالب بن عوض. وغيرها.
وبها كانت وفاة العلّامة الجليل الصّادع بالحقّ، النّاطق بالصّدق، السّيّد شيخان بن عليّ بن هاشم السّقّاف العلويّ، وكان رباؤه بالغرفة، ثمّ تنقّل في القرى، ثمّ سار إلى جاوة، ثمّ عاد إلى الوهط ولحج، وكان له جاه عند سلاطينها عظيم، ثمّ عاد إلى الشّحر، وجرت بينه وبين السّيّد عبد الله عيديد أمور، ثمّ سار إلى المكلّا، وبها توفّي سنة (1313 ه)، وعليه قبّة صغيرة لا يزال أبناؤه في شجار بشأنها؛ إذ كان علويّ يحمل صكّا بشرائها، وعمر يدّعي تسبيلها.
وترك أولادا: أحدهم: محمّد بلحج. والثّاني: جعفر، وهو حافظ للقرآن، مشهور بالصّلاح، بسربايا من أرض جاوة. والثّالث: عبد الله كان خفيف الظّلّ، مقبولا، راوية لأخبار من اتّصل بهم من الرّجال، وفيهم كثرة. والرّابع: ـ وهو أكبرهم ـ: علويّ، بالمكلّا، وله أولاد فتحوا بها مدرسة أهليّة منذ عشر سنوات. والخامس: عمر، وهو أصغرهم، بالمكلّا أيضا.
ولئن قلّ العلم بالمكلّا في الأزمنة السّابقة.. فقد كانت ملأى بفحول الرّجال.
ولقد أخبرني الثّقة أنّ وسط البقعة ـ المسمّاة بالحارة منها ـ كان مزدانا ـ في حدود سنة (1328 ه) ـ برجال لم تعوّض عنهم؛ كالسّيّد حسين بن حامد، وأخيه عبد الرّحمن، وسعيد وأحمد وعوض آل بو سبعة، وعليّ بامختار وأولاده، وآل زيّاد من يافع، وسعيد باعمر، وعبد الله بن عوض باحشوان وعوض بن سعيد بن ثعلب السّابق ذكرهما، وعمر وأحمد وعبد الرّحمن آل لعجم، وعقيل بن عوض بلربيعة الشباميّين، وبو بكر وعبد الصّمد وعبد الكريم آل بفلح، وسالم عمر وعوض عمر آل قيسان، والشّيخ عمر بن عبد الله عبّاد، وابن عمّه الشّيخ حسن بن عبد الرّحمن عبّاد، وأحمد ومحمّد وسعيد آل مسلّم الغرفيّين، وعمر الجرو، وولديه: عبد الله وعليّ، وسالم وسعيد آل بشير هؤلاء من خلع راشد، والشّيخ عبد الله بارحيم، وآل غزّي، وآل غريب، وغيرهم.
فهؤلاء كلّهم من نقطة صغيرة من الحارة ـ دع ما سواها ـ كانت العيون بقربهم تقرّ، والنّفوس بجوارهم تستبشر، فتواتر نعيهم، واشتدّت الواعية بهم.
«فلو قيل هاتوا فيكم اليوم مثلهم *** لعزّ عليكم أن تجيئوا بواحد »
وفي غربيّ المكلّا قرية يقال لها: شرج باسالم، وفي شمالها إلى الغرب بستان مسوّر يسمّى (القرية)، وذلك أنّ كثيرا من الأيتام نجعوا من المنطقة الكثيريّة بحضرموت في أيّام المجاعة الّتي ابتدأت من سنة (1360 ه) إلى المكلّا، فأدركهم عطف السّلطان، وتصدّق عليهم بذلك البستان، وبنوا لهم فيه بنايات تؤويهم، فأنقذوهم من المجاعة، وعلّموهم من الجهالة، وقد نيّف عددهم على المئتين والخمسين، ولكنّ كلّ من اشتدّ ساعده، وعرف أهله.. رجع إليهم، والباقون بها اليوم يزيدون على المئة، في عيش رغيد، وتعليم نافع، وحال مشكور.
وفي شمالها: البقرين، والدّيس. ثمّ: الخربة. والحرشيّات. وثلة عضد.
وهذه هي ضواحي المكلّا وأرباضها ومخترفات أهاليها.
وفي شرقيّ المكلّا على السّاحل: روكب وفيها جامع. ثمّ: بويش، تبعد قليلا عن السّاحل، وفيها عيون ماء جارية، ومزارع.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
37-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الشحر)
الشّحرلها عدّة إطلاقات:
الأوّل: أنّها اسم لكلّ ما شمله حدّ حضرموت السّابق ذكره أوائل الكتاب.
الثّاني: أنّها اسم لساحل المشقاص بأسره، فما كان منه لبني ظنّة.. فهو داخل في حدّ حضرموت، وما كان منه للمهرة كبديعوت.. فهو شحر المهرة.
الثّالث: أنّها اسم لجميع ما بين عدن وعمان، كما ذكره ياقوت [3 / 327] عن الأصمعيّ.
وكثير من يقول: إنّ ظفار هي قاعدة بلاد الشّحر، وفي «الأصل» بسط ذلك.
الرّابع: اختصاص الاسم بالمدينة اليوم.
لكن نقل السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد عن الباب السّابع من «نخبة الدّهر»: (إنّ لحضرموت فرضتين على ساحل البحر، يقال لإحداهما: شرمة، وهي الآتي ذكرها. وللأخرى: الشّحر، ولم تكن بمدينة، وإنّما كانوا ينزلون بها في خصاص، حتّى بنى بها الملك المظفّر ـ صاحب اليمن في زماننا هذا ـ مدينة حصينة بعد سنة سبعين وستّ مئة) اه
وفي «صبح الأعشى» (5 / 16): (والشّحر ـ قال ياقوت الحمويّ: هي بليدة صغيرة ـ ولم يزد على ذلك. والّذي يظهر: أنّ لها إقليما ينسب إليها) اه
وما استظهره هو الواقع، ولا سيّما في الأعراف القديمة، وكانت وفاة ياقوت في سنة (626 ه)؛ أي: قبيل أن يجعلها المظفّر مدينة بمدّة ليست بالطّويلة.
وما جاء في «صبح الأعشى» عن ياقوت لعلّه من غير مادة الشّحر، أمّا فيها من «معجمه».. فقد أطال القول عن الشّحر، وقال: (هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وإليه ينسب العنبر الشّحريّ؛ لأنّه يوجد في سواحله، وهناك عدّة مدن يتناولها هذا الاسم، وإلى الشّحر ينسب جماعة منهم محمّد بن خويّ بن معاذ الشّحري) اه [3 / 327 ـ 328] باختصار.
وفي «مروج الذّهب» ذكر للنّسناس الّذي أفضت القول عنه ب «الأصل»، ثمّ قال المسعوديّ: ووجدت أهل الشّحر من بلاد حضرموت وساحلها ـ وهي تسعون مدينة على الشّاطىء من أرض الأحقاف، وهي أرض الرّمل وغيرها ممّا اتّصل بهذي الدّيار من أرض اليمن وغيرها، من عمان وأرض المهرة ـ يستظرفون أخبار النّسناس إذا ما حدّثوها، ويتعجّبون من وصفه، ويتوهّمون أنّه ببعض بقاع الأرض ممّا قد بعد عنهم؛ كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم، وهذا يدلّ على عدم كونه في العالم، وإنّما هو من هوس العامّة؛ كما وقع لهم من عنقاء مغرب، ونحن لا نحيل وجود النّسناس والعنقاء؛ لأنّ ذلك غير ممتنع في القدرة، غير أنّه لم يرد خبر قاطع للعذر بصحّة وجود ذلك في العالم.. فهذا داخل في حيّز الممكن الجائز... إلى آخر ما أطال به.
والذي يعنينا منه كون الشّحر فيما سلف من الزّمان تسعين مدينة، وكون هذه الأرض تسمّى كلّها أرض الأحقاف، وهو موافق لكثير ممّا سبق. والله أعلم.
وللشّحر ذكر في شعر سراقة بن مرداس البارقيّ، وذلك أنّه أخذ أسيرا يوم جبّانة السّبيع، فقدّم في الأسرى، فقال ـ كما عند الطّبريّ وغيره ـ [من الرّجز]:
«امنن عليّ اليوم يا خير معدّ *** وخير من حلّ بشحر والجند»
وخير من لبّى وصلّى وسجد
فعفا عنه المختار في قصّة طويلة تشهد لاستيلائه على الشّحر. وكانت دولة الشّحر لكندة إلى سنة (575 ه).. حيث هجم عليها الزّنجيليّ.
ثمّ تولّاها آل فارس المختلف في نسبهم: فقيل: إلى الأنصار، وهو أبعدها.
وقيل: إلى كندة، وهو أوسطها، ويؤيّده ما سبق في حجر أن لا تزال به طائفة من آل ابن دغّار الكنديّين، يقال لهم: آل فارس. وقيل: إلى المهرة، وهو الّذي رجّحته ودلّلت عليه.
وفي سنة (616 ه): انقضّ ابن مهديّ ـ وهو من صنائع آل رسول اليمانيّين ـ على آل فارس، وأخرجهم من الشّحر.
وفي سنة (621 ه): تولّى عليها عبد الرّحمن بن راشد، وكان يؤدّي الخراج لملوك الغزّ، فعزله نور الدّين الرّسوليّ برجل من الغزّ، وأضاف إليه نقيبا، فقتل الغزّيّ، واستولى على البلاد، وكان عبد الرّحمن بن راشد في ضيافة نور الدّين بتعز، فاستدعاه، وخلع عليه، وأمره أن يسير إلى الشّحر، فضبطها وبقيت تحت حكمه إلى سنة (678 ه) حيث دخلت الشّحر وحضرموت تحت حكم المظفّر الرّسوليّ، ولكنّه أبقى عبد الرّحمن بن راشد عليها نائبا عنه حتّى توفّي في سنة (664 ه)، ودفن بين تربة الشّيخ سعد الظّفاريّ وتربة عمرو، وقبره مشهور بها.
وخلفه أخوه راشد بن شجعنة، فبقي عليها إلى سنة (677 ه)، فتغيّر عليه المظفّر واعتقله بزبيد إلى أن مات.
وفي سنة (767 ه): وصل المظفّر بنفسه إلى الشّحر، فعمّرها ـ حسبما تقدّم ـ ثمّ لم يزل حكّامها من أسرته تحت أمر آل رسول حتّى ضعف أمرهم.
وصار النّفوذ بحضرموت لآل يمانيّ.
وفي سنة (812 ه): استولى دويس بن راصع على الشّحر، ثمّ عادت لآل فارس، حتّى انتزعها منهم آل كثير في سنة (867 ه)، وهي أوّل دولتهم بها.
ثمّ استردّها آل فارس منهم في سنة (894 ه).
ثمّ استرجعها آل كثير في سنة (901 ه)، وما زالت في أيديهم على مناوشات بينهم وبين أمراء العشائر حتّى استولى الإمام (المتوكّل على الله) على حضرموت وعليها في سنة (1070 ه).
وقال السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: (كان خروج الإمام أحمد بن حسن سنة «1072 ه»، وأقام بجيشه في حضرموت نصف شهر، ثمّ عاد طريق البحر من بندر الشّحر، واستخلف السّلطان بدر بن عمر الكثيريّ، وترك عنده جملة من عسكره الزيديّة، واستمرّ أمرهم نحو خمسين سنة إلى خروج يافع من الجبل سنة 1117 ه) اه
وقال السّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ في كتابه «المسالك اليمنيّة»: (وفي سنة «1064 ه»: خطب بدر بن عمر الكثيريّ للإمام، فقبض عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله، فهمّ الإمام بالتّجهيز، وأمر بحشد الجنود إلى بني أرض، ومنعت بلاد الرّصّاص ويافع والعوالق والجرش والواحديّ والفضليّ عن المرور فيها، فجدّ الإمام في جهادهم، واجتمع لأولاد إخوته زهاء عشرة آلاف راجل وألف عنان، واشتدّ القتال بينهم وبين حسين الرّصّاصيّ حتّى قتل، وانهزم أخوه صالح إلى البيضاء، وانتهب العسكر جميع ما في مخيّمهم.
وكان محمّد بن الحسين لم يشهد الوقعة، ولكنّه حضر بعدها، فتقدّم إلى يافع يوم الإثنين (19) جمادى الآخرة من السّنة إلى ذيل جبل العرّ، فاستولى على الجبل، وعادوا إلى عند الإمام.
ولمّا انتهى خبر هذا النّصر العظيم إلى بدر بن عبد الله الكثيريّ.. أطلق عمّه، وخطب للإمام، فأرسل الإمام صالح بن حسين الجوفيّ إلى حضرموت، فألفى الأمر على حقيقته، فوجّه بدر بن عمر إلى ظفار واليا عليها.
وفي سنة «1068 ه»: غدر بدر بن عبد الله بعمّه بدر بن عمر، وأخرجه عن ظفار، فقدم على الإمام فأكرمه.
وفي جمادى الأوّلى من سنة «1069 ه»: اختار المتوكل الصّفيّ أحمد بن حسن لفتح حضرموت والشّحر وظفار.
وفي شعبان: توجّه الصّفيّ إلى وادي السّرّ بمخلاف خولان، ثمّ إلى فحوان ورغوان، ثمّ إلى مأرب وحبّان، ثمّ دخل أطراف بلاد العوالق فوصل بلدة واسط، ثمّ سار إلى وادي حجر، ثمّ تجرّد منها تجرّد الحسام.
وكان سلطان حضرموت قدّم عساكره إلى أعلى عقبة حجر فانهزموا من أحمد بن الحسن، وبانهزامهم.. انهزم من بعدهم، وهذا المحلّ يقال له: ريدة بامسدوس، ثمّ تقدّم إلى الهجرين، ثمّ التقوا بعسكر سلطان حضرموت فهزموهم واستولوا على حضرموت، وعاد الصّفيّ إلى حضرة الإمام بضوران، في أبّهة فاخرة، ودولة قاهرة، وفتح قريب، ونصر عجيب) اه باختصار.
وإنّما استوفيته مع عدم ملاءمته للإيجاز؛ لأنّ فيه ما ليس في «الأصل»، على أنّ في «الأصل» ما ليس فيه، فليضمّ إلى كلّ ما نقص.
أمّا استيلاء يافع على الشّحر وحضرموت: فكما ذكر السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: كان في سنة (1117 ه)، وقد سبق في المكلّا أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهرة أمير ذلك الجيش أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، جبى فيها منها خمسة وثلاثين ألف ريال (35000).
وكان من يافع طائفة يقال لهم: آل عيّاش، سكن رئيسهم بحصن الشّحر الّذي كان يقال له: المصبّح، فأطلق عليه من ذلك اليوم: حصن ابن عيّاش.
وما زالت يافع على الشّحر حتّى أخذها الإمام المهديّ بالمهرة، ومعهم الأمير سعيد بن عليّ بن مطران، وحصل النّداء بالشّحر أنّ النّاس في أمان المهديّ.
واشترط يافع لأنفسهم أن يغادروا الشّحر بسلاحهم بعد ثمانية أيّام، فخرجوا منها إلى حضرموت، وانضمّوا إلى عسكر عمر بن جعفر.
وفي سنة (1118 ه): وصل السّلطان عمر بن جعفر من اليمن إلى الشّحر، وسلّمه النّقيب والعسكر حصن الشّحر، ونادى بالأمان، ثمّ كتب للعسكر بحضرموت: (إنّ سيّدي الإمام المهديّ وجّهني إلى حضرموت، فإن كنتم في الطّاعة.. سلّمتم النّاس من الضّرر، وإلّا.. فنحن واصلون بالجيش المنصور، وهو مؤلّف من ثلاث مئة من حاشد وبكيل، ونحو مئة من سائر عسكر الإمام، ونحو مئة من الحجاز، ونحو مئة وخمسين أخلاط من الخلق).
وكان السّلطان عيسى على سيئون وحضرموت، فانهزم.
ثمّ تغلّبت يافع على عمر بن جعفر، وعاد الأمر إليهم بالشّحر، إلى أن اختلفوا، فغلبهم آل بريك، وكانوا ولّوا رئيسهم بعض الأمر بالنّيابة عنهم، فلمّا اختلفوا.. استبدّ عليهم.
وأصل آل بريك من حريضة، وهم إمّا من بقايا بني ناعب الآتي ذكرهم في التّعريف بوادي عمد، وإمّا من بني جبر؛ قبيلة من يافع يسكنون جبلا في سرو حمير، يقال له: ذو ناخب، كما في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [173].
وأوّل ما ابتدأ به آل بريك المصالحة بين الحموم، والتّحالف معهم، حتّى قرّبوا النّاس وعاملوهم بالإحسان حتّى أحبّوهم.
وأوّل أمير لهم هو: ناجي بن عمر، وكانت يافع جعلت إليه الماليّة في أيّام نفوذها؛ لأنّهم تنازعوها وكادوا أن يقتتلوا عليها، ولمّا استقلّ شيئا فشيئا على حساب اختلافهم وتفرّق آرائهم.. أفاقوا، فناوشهم، ولكنّه انتصر عليهم لأنّهم كانوا متحاسدين.
ولمّا مات ناجي بن عمر في سنة (1193 ه).. خلفه ولده عليّ بن ناجي بن عمر بن بريك، فخالفه محسن بن جابر بن همّام، وانضمّ إليه آل عمر باعمر، فجهز عليهم عليّ ناجي وأجلى آل همّام إلى المكلّا، وآل عمر باعمر إلى الرّيدة، واستنجد آل همّام بعبد الرّبّ بن صلاح الكساديّ، ولكنّه انهزم هو وإيّاهم كما سبق في المكلّا.
وفي أيّام عليّ ناجي هذا: ظهر أنّ القاضي سعيد بن عمر بن طاهر كان يعمل الأسحار، فأغرقه في بالوعة الأقذار، وكان آخر العهد به.
ولمّا مات عليّ بن ناجي سنة (1220 ه).. خلفه أخوه حسين بن ناجي، ثمّ ولده ناجي بن عليّ بن ناجي.
وفي أيّامه جاءت الوهّابيّة في خمس وعشرين سفينة تحت قيادة ابن قملة، بأمر الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود، الّذي استفحل سلطانه لذلك العهد، فافتتح نجدا والحسا والعروض والقطيف والحجاز وغيرها، وكان أكثر فتوحه على يد القائد العظيم ابنه سعود المتوفّى سنة (1229 ه).. فامتلكوا البلاد، ولم يؤذوا أحدا في حال ولا مال، ولم يهلكوا حرثا ولا نسلا، وإنّما أخربوا القباب، وأبعدوا التّوابيت ـ وقد قرّرت في «الأصل» ما ذكره ابن قاسم العبّاديّ من حرمة التّوابيت.
وأمّا القباب: فإن كانت في مسبّلة.. فحرام، وإلّا.. فلا، بشرطه، ولم يعترضهم آل بريك.
وأقاموا بالشّحر أربعين يوما، ثمّ ركبوا سفائنهم وعادوا لطيّتهم.
وفي سنة (1227 ه): نشب الشّرّ ما بين الكساديّ ـ صاحب المكلّا ـ وآل بريك، وامتدّت المناوشات بينهم زمانا طويلا في البحر والبرّ.
وفي سنة (1242 ه): توفّي ناجي بن عليّ؛ وكان خادما للدّين، شديد الغيرة على شعائره، لا يخرج عن رأي الإمام الحبيب حسن بن صالح البحر في ذلك، حتّى لقد أمره أن لا يمكّن أحدا من البادية يدخل الشّحر ليمتار إلّا بعد أن يحلف اليمين على أن لا يقصّر في الصّلاة، فحصل بذلك نفع عظيم، وصلاح كبير، حتّى جاء العوابثة في قطار لهم، فلمّا أرادوا أن يدخلوا من سدّة العيدروس وهي باب الشّحر الشّماليّ.. عرضوهم على العهد، فأبوا، وصرفوا وجوه إبلهم إلى الغيل عند رفاقهم آل عمر باعمر، وارتجزوا بقول شاعرهم:
«قولوا لناجي بن عليّ *** كلّين يوخذ له ملاه »
«ماراس بن عوبث غلب *** ما بايعاهد عالصّلاه »
واختلفوا في تفسير هذا: فقوم يحملونه على العناد والمجاهرة بالفساد.
وآخرون يحملونه على أنّ الدّاعي إلى الصّلاة من الدّين، والسّائق لها من الضّمير، فلا تحتاج إلى عهد ولا إلى يمين. ولمّا مات ناجي بن عليّ.. خلفه ولده عليّ ناجي الثّاني.
وفي سنة (1267 ه): كانت حادثة مرير، وحاصلها: أنّ آل كثير أغاروا على الشّحر بعسكر مجر، وجاءتهم نجدة من الأتراك في البحر من مكّة المشرّفة، على رأسها شيخ العلويّين، السّيّد إسحاق بن عقيل بن يحيى، مؤلّفة تلك النّجدة من نحو خمس مئة جنديّ بعدّتهم وعتادهم، فبلغت العساكر البحريّة والبريّة نحوا من خمسة آلاف، إلّا أنّه لم يصحبها رفيق من التّوفيق، فكان عاقبتها الانهزام الشّامل، والفشل الشّائن، كما هو مفصّل ب «الأصل» [3 / 9 ـ 16].
وبعضهم يعلّل ذلك الانهزام بخيانة من سيبان الموجودين بكثرة في الجيش الكثيريّ؛ لأنّهم كانوا في طليعة الجيش المرابط بمرير، فلمّا هاجمتهم فرقة من عسكر الكساديّ جاءت من المكلّا لمساعدة آل بريك.. انهزموا وذهبوا بها عريضة وأكثروا من الأراجيف، فخلعوا قلوب الجيش الكثيريّ وملؤوا صدورهم رعبا، فركب كلّ منهم رأسه، وذهبوا عباديد لا يلوي أحدهم على شيء قطّ، وعادت النّجدة التّركيّة إلى أسطولها الرّاسي بشرمة؛ لأنّ مرسى الشّحر كان مكشوفا؛ وكان البحر هائجا، والوقت خريفا، وتفرّق الجيش الكثيريّ أيدي سبأ، وعاد بخيبة الرّجاء، ولم يبق بالمعسكر في اليوم الثّاني نافخ ضرم.
وكان من نتيجة ذلك الفشل: أنّ السّلطان عبد المجيد العثمانيّ أقال السّيّد إسحاق من مشيخة العلويّين بمكّة، وأبدله بالسّيّد محمّد بن محمّد السّقّاف.
وفي سنة (1283 ه): جهّز السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ على الشّحر، فاستولى عليها، وهرب عليّ ناجي بمن معه وما قدر عليه، في خمس من السّفن أعدّها لذلك من يوم علم بالغزو، وكان هربه إلى المكلّا فلم يمكّنه الكساديّ من النّزول بها؛ معتذرا بأنّه لا يصلح سيفان في جفير، فأبحر إلى يشبم، وأذن له النّقيب أن يبقي نساءه وصغاره في خلف، ومات كثير منهم بالبرد.. فانتقل بعضهم إلى الحرشيات، أمّا المكلّا.. فلم يمكّنهم من دخولها، وأقام عليّ ناجي عند الشّيخ فريد بن محسن العولقيّ عاما، ثمّ ركب إلى عدن، وعاد منها إلى الشّحر.
وكان عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بعد جلاء غالب بن محسن عنها، فأكرم وفادته، وتحفّى به حتّى لقد دخل بين البحّارة الّذين حملوه من القارب إلى السّاحل، وأحسن مثواه، إلّا أنّ فكرة الإمارة عادت تتحرّك في صدره، وكلّما ذكر أيّامه عليها بالشّحر.. قال بلسان حاله:
«فوالهفة كم لي على الملك شهقة *** تذوب عليها قطعة من فؤاديا»
فعزم إلى الآستانة؛ ليستنجد بالخليفة العثمانيّ على الكساديّ بالمكلّا وعلى القعيطيّ بالشّحر، فسافر إلى عدن، ثمّ خرج إلى لحج، وبها فاجأته المنيّة، وعاد كثير من أعقابه إلى الشّحر، ولا يزال بها ناس منهم إلى اليوم.
أمّا غالب بن محسن: فلو قنع بالشّحر كما أشار عليه المخلصون.. لأوشك أن تطول بها مدّته، لكنّه طمع في أخذ المكلّا من الكساديّ، فانكسر دونها.
وفي آخر ذي الحجّة من نفس السّنة الّتي أخذ فيها الشّحر ـ أعني سنة (1283 ه) ـ: جهز القعيطيّ بمساعدة الكساديّ على الشّحر، وافتتحها بأسرع وقت، وتفرّق عسكر السّلطان غالب شذر مذر، بعدها أخذت السّيوف منهم كلّ مأخذ ولو لا أنّ أحد عبيده ـ وهو صنقور سليمان، وكان من أهل القوّة والأيد ـ احتمله على ظهره.. لذهب مع شفرات يافع، فما نجا إلّا بجريعة الذّقن وخيط الرّقبة.
وفي رجب من سنة (1284 ه): استأنف السّلطان غالب بن محسن التّجهيز على الشّحر؛ إذ بقي قلبه بحسرة عليها، ودخل أكثر جيشه من كوّة فتحوها في سور البلد، فانحصروا وانقطع عليهم خطّ الرّجعة، وأصلتهم يافع ومن لفّهم من عسكر القعيطيّ نارا حامية، فأثخنوا فيهم قتلا، وخرج الباقون لا يلوي آخرهم على أوّلهم.
ورسخت أقدام القعيطيّ بالشّحر، وجلس عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، كما عرف ممّا سبق.
وبعد وفاته في سنة (1306 ه): خلفه عليها ولده حسين بن عبد الله؛ لأنّ أكثر إقامة السّلطان عوض بن عمر كانت بحيدرآباد الدّكن في خدمة النّظام الآصفي، ثمّ نزغ الشّيطان بين السّلطان عوض وأولاد أخيه عبد الله، وهما: منصّر وحسين، وجرى بينهم ما فصّلناه ب «الأصل».
وكانت النّهاية تحكيم المنصب السّيّد أحمد بن سالم بن سقّاف، فحكم بأن لا حظّ لهم في الإمارة، وتمّ جلاؤهم عن الشّحر والغيل بمساعدة الحكومة الإنكليزيّة في سنة (1320 ه).
ومن العجب أنّ التّحكيم كان خاصّا بما بينهم من الدّعاوى الماليّة، ومع ذلك فقد كان الحكم شاملا للإمارة! !.
واستتبّ الأمر للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ، فحل حضرموت، وطلّاع نجادها، ومزلزل أوتادها.
«مدبّر ملك أيّ رأييه صارعوا *** به الخطب ردّ الخطب يدمى ويكلم »
«وظلّام أعداء إذا بدىء اعتدى *** بموجزة يرفضّ من وقعها الدّم »
«ولو بلغ الجاني أقاصي حلمه *** لأعقب بعد الحلم منه التّحلّم »
وقد أطلقنا عليه لقب السّلطان؛ لأنّه به حقيق في اتّساع ملكه، وامتداد نفوذه، وفي «الأصل» بسط الكلام عمّن يسمّى سلطانا ومن لا يسمّى.
ونزيد هنا قول الإمام الرّازيّ في تفسير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو أنّ: (من ملك بلدا صغيرا لا يحسن فيه أن يقال فيه: جلس على العرش، وإنّما يحسن ذلك فيمن ملك البلاد الشّاسعة، والأقطار الواسعة. فالعرش والكرسيّ لا يكونان إلّا عند عظمة الملك) اه
وهو لا يخرج عمّا هناك.
وللسّلطان عوض محاسن جمّة، ومناقب مهمّة، وقد حجّ في سنة (1317 ه)، وأظهر من التّواضع والخضوع ما يدلّ على قوّة دين، وصحّة إيمان، وأكرمه الشّريف عون الرّفيق، وأعاد له الزّيارة، فأدركته عنده نوبة صرع، فانزعج القعيطيّ، وظنّها القاضية، حتّى هدّأه أصحاب الشّريف، وقالوا له: إنّما هي عادة تعتاده من زمن قديم، وقدّم للشّريف هدايا طائلة.
ومع قرب سفره.. طلبوا منه معونة لإجراء سكّة الحديد بين الشّام والمدينة، فدفع لهم ثلاثين ألف ربيّة، فأرجعوها إليه استقلالا لها، فركب إلى المدينة على وعد الرّجوع إلى جدّة، ثمّ سار إلى الشّام، وكان آخر العهد به، وسلمت الثّلاثون ألف.
وقد سبق في حجر أنّه تعلّق بأستار الكعبة وتاب من كلّ سيّئة إلّا من فتح حجر وحضرموت.
توفّي بالهند آخر سنة (1328 ه)، ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر ابن شهاب بقصيدة حمينيّة ولكنّها مؤثّرة.
ووقع رداؤه على ولده السّلطان غالب بن عوض، وكان شهما كريما ليّن الجانب، دمث الشّمائل، وديع القلب، شريف الطّبع، وافر الحرمة، سعيد الحظّ، ميمون النّقيبة، مبسوط الكفّ، ينطبق عليه قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 317 من الطّويل]:
«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »
وقوله [في «ديوانه» 1 / 316 من الوافر]:
«له خلق نهى القرآن عنه *** وذاك عطاؤه السّرف البدار »
وقول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 339 من الطّويل]:
«تغطرس جود لم يملّكه وقفة *** فيختار فيها للصّنيعة موضعا»
وقوله [في «ديوانه» 1 / 63 من الطّويل]:
«إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما *** لديه.. لأمسى حاتم وهو عاذله »
وقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 129 من الكامل]:
«ودعوه من فرط السّماح مبذّرا *** ودعوه من غصب النّفوس الغاصبا»
وفي أيّامه كانت حادثة الحموم في (27) ربيع الثّاني من سنة (1337 ه)، وحاصلها: أنّهم كانوا يخيفون السّابلة، والحكومة القعيطيّة تتوقّى شرّهم وتدفع لهم مواساة سنويّة يعتادونها من أيّام آل بريك.
وفي ذلك العهد انعقد الصّلح بين الحموم والحكومة القعيطيّة بدراهم بذلتها لهم الحكومة ـ لا يستهان بها ـ على العادة الجارية بينهم في ذلك، فبينا هم غارّون.. هاجمتهم سيبان، وكان لها عندهم ثار، فقتلت منهم عددا ليس بالقليل، فاتّهموا الحكومة بمساعدتهم، وظفروا بجماعة من يافع فقتلوهم، فما زال ناصر أحمد بريك أمير الشّحر يومئذ يداريهم ويستميلهم، ويظهر لهم أنّ قتلهم ليافع لم يثر حفاظه.. حتّى اجتمع منهم بالشّحر نحو من أربع مئة، وكانوا يعتدّون بأنفسهم وبهيبة الحكومة لهم.. فلم يبالوا بالدّخول من دون تجديد للصّلح الّذي وقع فيه ما وقع فألقى عليهم القبض أجمعين، وقتل سبعة وعشرين من رؤسائهم، ودفنهم في قبر واحد من غير غسل ولا صلاة ولا تكفين؛ منهم: سالم بن عليّ بن مجنّح، الملقّب (حبريش)، وحيمد بن عمرو بالفرج الغرابيّ، ومرضوح بن عوض اليمنيّ، وغيرهم. وأظهروا من الثّبات ساعة القتل ما أبقى لهم جميل الأحدوثة.
ومات في حبس القعيطيّ منهم مئة وسبعة، وأطلق بعد ذلك سراح الباقين، ولكن بعد ما وهن جانبهم، ونخرت عيدانهم، إلّا أنّ عليّ بن حبريش لم يزل يجمع جراميزه لأخذ الثّأر، ودار على حصون آل كثير فلم يجد عندهم منفعة، وإلّا.. فقد كانت بينهم وبين بعضهم أحلاف.
وبعد أن مضى لهذه الحادثة سبع سنين.. هجم على الدّيس فنهبها واستباحها، وقتل جماعة من عسكر القعيطيّ، وأسر ثمانية عشر منهم، ولم يقتل من أصحابه إلّا أربعة فقط، وطفق يتجاذب الحبال مع الدّولة القعيطيّة حتّى استعانوا عليه بالطّائرات الإنكليزيّة، فأضرّت بمكانه الواقع على مقربة من غيل ابن يمين، ولم يخضع مع ذلك.
وفي نحو سنة (1358 ه): كمن ولده في جماعة من الحموم بالمكان المسمّى حرو، فجاءتهم ثلّة من العساكر القعيطيّة في سيّارات، يتقدّمهم يافعيّ شجاع، يقال له: محمّد محسن السعديّ، فتبادلوا الرّصاص، لكن كانت يافع أثبت وأنفذ سلاحا، فاستأصلوهم قتلا، فانكسف بال عليّ بن حبريش، واستولى عليه الفراش، ومات غبنا.
وكان أهل الشّحر يلاقون عناء من قلّة الماء، فأجراه إليهم السّلطان غالب من تبالة، فاستراحوا بذلك.
وفي أيّامه انعقدت بينه وبين سلاطين آل كثير صاحب سيئون وصاحب تريم المعاهدة المشهورة ذات الإحدى عشرة مادّة، المحرّرة (27) شعبان سنة (1336 ه) وقد اعترفوا في المادّة الأولى منها بانسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة عليهم.
ولقد بذلت جهدي في تحذير السّلاطين الكثيريّين ونصحهم عن الموافقة عليها، وذكرت لهم ما في ذلك من الوزر والخسر بما هو مبسوط في «الأصل»، ولكنّ السّيّد حسين بن حامد المحضار ألحّ في ذلك بسعي شديد، وجهد جهيد، وساعده ناس من أهل الثّروة.. فتمّ له ما أراد، ومعروف ومشهور ما لي في ذلك من المنظوم والمنثور.
وكانت بيني وبين السّلطان غالب هذا مودّة لو لا مكايدة السّيّد حسين بن حامد لها.. لكانت قويّة، وبيني وبينه مكاتبات ممتعة ذكرت بعضها في «الأصل»، ولي عليه عهود موثّقة بالنّصر على كلّ من عاداني، وبالإعفاء من الرّسوم عن ستّين طردا في كلّ عام، وبمرتّب سنويّ زهيد، ومع ذلك.. فقد كان وزيره المرحوم السّيّد حسين بن حامد المحضار يراوغني فيها، ويمانع العمل بها.
ولمّا توفّي.. أرسلتها إلى عند ولده السّيّد أبي بكر بن حسين أطالبه بإجرائها وتنفيذ ما فيها، فلم يردّها إليّ رأسا، وظنّها النّسخة الوحيدة، ولكن كانت عندي صورتها بإمضاء السّلطان غالب والسّيّد حسين، وشهادة السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار، والأمير عليّ بن صلاح، وطالما ذكّرت بها العلّامة السّلطان صالح بن غالب، فقلت له أمام الملأ: أهذه المعاهدات صحيحة معمول بها، أم تعتبر لاغية؟! فأجاب بصحّتها والتزام تنفيذها، وكان ذلك بمرأى ومسمع من وزيره المكرّم الفاضل سيف بن عليّ آل بو عليّ.
وقد تقدّمت إلى السّلطان صالح في سنة (1355 ه) بقصيدة [كما في «الدّيوان» ق / 167 ـ 169 من الطّويل] تزيد عن مئة وعشرين بيتا لم تعد فيها قافية، وأنشدتها له مرّات، أولاها بالمكلّا عامئذ، والثّانية بحورة في سنة (1360 ه)، والثّالثة بمنزلي في سنة (1365 ه). منها:
«وبين يدينا شرعة لا تزيدها *** تجاريب ذي عقل ولا عقد مؤتمر»
«هي القدّة المثلى العليّ منارها *** أتتنا بها غرّ الأحاديث والسّور »
«وحسبك بالإفرنج فالخطّة الّتي *** بها المشي فيما يحكمون به استمر»
«مدوّنة في الأصل من قول مالك *** وسائل تجدها في التّواريخ والسّير»
«ولكنّ أهل العلم والدّين داهنوا *** وباعوا حقوق الله بالماء والشّجر»
«فلن تلق منهم من نهى عن قبيحة *** ولا من بمعروف على مكره أمر»
«إذا انتهك الإسلام أغضى زعيمهم *** وإن أخذت شاة له اهتاج واستعر »
«فما شأنهم إلّا التّصنّع والرّيا *** وأعجب ما تلقى النّفاق لدى مضر»
«نفاق وأخلاق دقاق وذلّة *** بها شوّه الإدبار أيّامنا الأخر»
«تولّى الوفا والصّدق فاندكّ مجدهم *** وراحت عليهم كلّ مكرمة هدر»
«يقولون ما لا يعملون تصنّعا *** سواسية من قال شعرا ومن نثر»
«وقد كانت الآباء من قنّة العلا *** بشأو حثى في وجه كلّ من افتخر »
«تزلّ الوعول العصم عن قذفاتهم *** وكم من عقاب في مراقيهم انكسر »
«مضوا شهداء الحقّ في نصرة الهدى *** وما برحوا في هجرة وعلى سفر»
«ومن آل قحطان رجال على الوفا *** مضوا بسلام ذكرهم طاب واشتهر»
«إذا عاهدوا وفّوا العهود وإن دعوا *** أجابوا ولو كان الظّلام قد اعتكر»
«كرام يهابون الملام، ولذعة ال *** كلام لهم أشوى من الصّارم الذّكر »
«وجاءت خلوف سخنة العين بعدهم *** مشائيم قد ضمّوا إلى العجر البجر »
«مذاميم تطويل الإزار من العلا *** لديهم، وتصفيف الملابس والطّرر»
«إذا عقدوا عقدا وقالوا مقالة *** فلا عقدهم يرجى ولا القول يعتبر»
«فآه من الشّؤم الّذي مسّنا بهم! ! *** وآه على عقد الكرام الّذي انتثر! ! »
«ولمّا نصرت الحقّ بين بني أبي *** رأوا أنّه الذّنب الّذي ليس يغتفر»
«فدانوا ببغضي واستهانوا بحرمتي *** وكم قصدوني بالأذايا وبالضّرر»
«وكم حطّ من قدري حسود فلم ينل *** علاي لأنّي صنت نفسي عن القذر»
«فإن جاء عنّي فاسق بنميمة *** وألصق بي عيبا وأرجف وافتجر»
«فقولوا له: قابل، فذا هوّ حاضر *** وغبّ التّلاقي يعرف الصّفو والكدر»
«يعيبونني غيبا وأعلن ذمّهم *** وليس سواء من أسرّ ومن جهر»
«نناشدك الإسلام والحرمة الّتي *** نؤمّل فيها أن نلوذ إلى وزر»
«ولي بخصوصي في الذّمام وثائق *** أبوك بها ـ حيّاه مولاه ـ قد أقرّ»
«وأمضى بمرأى من رجال ومسمع *** عليها وعندي خطّه الآن مستطر»
«وأكّد إحداهنّ توقيعكم بها *** وشاع لدى أهل المدائن والوبر»
«فما بيّ من هضم يمسّ بمجدكم *** وأنت الحميّ الأنف والأمر قد ظهر»
«أترضى على هذا بواش يقول لي: *** كلام القعيطيّ الّذي قاله قصر؟! »
وكان الاقتصار أحقّ بالاختصار، لكن أخذ الكلام برقاب بعضه، واقتضاه سوق الحفيظة، والاستنجاز في هذا المعرض المناسب.
وقد توفّي السّلطان غالب بن عوض في سنة (1340 ه) ودفن بجانب أبيه بمقبرة أكبر شاه بحيدرآباد الدّكن.
وقد رثيته عن وجدان صحيح وودّ صادق، بقصيدة توجد بمكانها من «الدّيوان»
ورثاه شيخنا العلّامة ابن شهاب بأبيات، منها:
«جاء تاريخ موته *** عظّم الله أجركم »
وما سمعنا بسلطان بكته رعاياه بدموع حارّة، وأحزان متواصلة.. مثله، ولا جرم؛ فقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 49 من الطّويل]:
«ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى *** بكى بعيون سرّها وقلوب »
وقال يزيد المهلّبيّ [من البسيط]:
«أشركتمونا جميعا في سروركم *** فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف »
وخلفه أخوه السّلطان عمر بن عوض، وكان ثقة، حازما، صادقا، شجاعا، غيورا، وله وفادات مكرّرة إلى مكّة المعظّمة والمدينة المشرّفة، يتواتر عنه فيها ما يدلّ على صحّة الإيمان وقوّة الدّين، ولئن اتّهم بتقصير في العبادة، وانحراف في السّيرة.. فالنّدم أمارة صدق التّوبة.
وبقي على وزارته السّيّد حسين بن حامد المحضار، إلّا أنّه لم يكن في أيّامه وافر الحرمة نافذ الكلمة واسع الجاه، كما كان في أيّام السّلطان غالب الّذي لا يعترضه في أيّ أمر كان، بل يفوّض إليه الأمور تفويضا أعمى.
أمّا السّلطان عمر.. فقد أسمعه ما يكره، حتّى لقد أخبرني السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار: أنّ السّيّد حسين بن حامد قال لولده أبي بكر وهو على فراش الموت: (إنّني قتيل عمر بن عوض).
ولمّا مات السّيّد حسين في آخر سنة (1345 ه).. أبقى السّلطان عمر ولده أبا بكر، ثمّ عزله، ولم يثرّب عليه، ولم يؤذه في حال ولا مال.
واستوزر بعده المكرّم سالم بن أحمد القعيطيّ، وجعله موضع ثقته وأمانته.
توفّي السّلطان عمر بن عوض أواخر سنة (1354 ه) بحيدرآباد الدّكن، وخلفه العلّامة الجليل السّلطان صالح بن غالب، وكان غزير المادّة في العلم، كما تشهد له بذلك مؤلّفاته المنقطعة النّظير، وقد سبق في المكلّا شغفه بالعلم، وإنفاقه على المدارس ما يوازي ربع حاصلات البلاد بالتّقريب.
وقد تجدّدت بينه وبين الحكومة البريطانيّة معاهدة في الأخير ـ لعلّها في سنة (1358 ه) ـ قبل فيها أن يكون له مستشار إنكليزيّ، وعذره فيما يظهر: أنّ بعض آل حضرموت أكثروا الزّراية على وزارته، وتمضّغوها في الجرائد بحقّ وبغير حقّ، وأغدقوا العرائض في ذلك على دار الاعتماد بعدن، وعند ما أحسّ بالإصغاء إليها مع تردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى حضرموت ونزولهم على الرّحب والسّعة بأكثر ممّا يوافق هواهم، ويملأ رضاهم، ويوطّىء لهم المناكب، ويفتح لهم الأبواب.. لم يسعه ـ مع ما عرفه من الأحابيل المنصوبة له ولولده من بعده، مع حرصه على توثيق الأمر له ـ إلّا أن يقول بلسان حاله: (إذا سعيتم في موالاة الحكومة الإنكليزيّة برجل.. طرت فيها بجناح)، فكان ما كان، إلّا أنّه تنازل لهم عن أكثر ممّا التزمه.
ولقد كان السّلطان الكثيريّ ـ مع نزول درجته عنه وصغر مملكته بتفاوت عظيم ـ لا يزال ينازعهم، وقلّما يشتدّ في أمر إلّا وافقوه عليه، فتراه يتحمّل مع اتّساع ملكه ما لا يتحمّله الكثيريّ، والسّلطان صالح محبوب عند النّاس، مفدّى بالأرواح من سائر الأجناس:
«هو الملك الّذي جمعت عليه *** على قدر محبّات العباد»
«تولّته القلوب وبايعته *** بإخلاص النّصيحة والوداد »
وهو كآبائه، محبّ بنفسه للعدل، بعيد من الظّلم، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع، والحلم الشّامل.. أخذوا يتبسّطون في المظالم، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح، ويقول: (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات.. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه، ويقول: (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ)، قيل له: (ولم).. قال: (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.
وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك، وقد تقيّلها معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، فانتظمت الأمور، واندفعت الشّرور، وانعدم الجور، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره؛ لتثلج الصّدور، وتبرد الخواطر، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه، وألسنة تهتف بشكره، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم، لا لأمن ينبسط، ولا لعدل ينتشر، ولا لخير يعمّ، ولا لشرّ يندفع، ولا لعطاء يرجى، ولا لسيوف تخشى، ولكن لخصلة واحدة، وهي: جبر القلوب، وأخذ الخواطر، وحلاوة اللّسان، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة، وإن زاد على ذلك شيئا.. فما هو إلّا كرم الضّيافة، حسبما قلت له في القصيدة الآتي خبرها في أحوال سيئون السّياسيّة [من البسيط]:
«ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة *** بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل »
«وبالكلام الّذي نيط القبول به *** مع العناق لدى التّوديع والقبل »
وإنّما قلت: من جهة؛ لأنّ الجور في بعض الأماكن؛ كوادي الأيسر لعهده تكاد تنشقّ الأرض منه، وتخرّ الجبال هدّا، ومفاسد الاستبداد إذ ذاك فوق التّصوّر.
فإنكاري على عمّال الحكومة القعيطيّة جدّ شديد في جورهم وتنكّرهم للمناصب ولرؤساء يافع وآل تميم وآل كثير وغيرهم من حلفاء السّلطان القعيطيّ وأشياعه.
وقد كان السّبب الأكبر في سقوط دولة آل مروان: إدناء الأعداء، وإبعاد الأولياء؛ إذ صار الوليّ عدوّا بالإقصاء، ولم يعد العدوّ وليّا بالتّقريب.
وقد اتّفق أنّ بعض العمّال في سنة (1366 ه) أخذ أهل دوعن بالشّدّة والعنف، وحاول أن يضغط على سيبان وآل العموديّ والسّادة، ولم يدر أنّ الضّغط يورث الانفجار، فكانت النّتيجة أن تحالفت بطون سيبان من نوّح والحالكة والخامعة والمراشدة والقثم وآل باخشوين وآل باعمروش وآل نهيم، ودخلت معهم الدّيّن وناس من الحموم على إعلان الثّورة عندما يريد أحدهم عمّال الحكومة بالظّلم، وتعاقدوا أن لا يجيبوا باغي هضيمتهم إلّا بألسنة البنادق، وقالوا بلسان حالهم:
«إذا الملك الجبّار صعّر خدّه *** مشينا إليه بالسّيوف نخاطبه »
وعقدوا بينهم عهدا وثيقا وحلفا أكيدا، من قواعده: أن لا وفاء ولا بياض وجه لمن تأخّر عنه أو خاس به إلّا دفع ألف ريال وقتل أحد أقربائه على عوائدهم الجاهليّة.
وكان ذلك أواخر سنة (1366 ه) ببضه، وشهده الفاضل السّيّد علويّ بن محمّد بن أحمد المحضار، وأبو بكر بن حسين المحضار، وأحد السّادة آل البار.
فلم يكن من الحكومة إلّا أن عزلت ذلك وعملت بسياسة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ يقول: (لو كانت بيني وبين النّاس شعرة.. لم تنقطع؛ لأنّهم إن شدّوا.. أرخيت، وإن أرخوا.. قبضت)، ونعمّا فعلت الحكومة بذلك؛ لأنّه إذا التقى السيفان.. ذهب الخيار، ولكن الصّيف ضيّعت اللّبن؛ إذ لم يكن إلّا بعد أن خسرت من الهيبة، وفقدت من الأبّهة ما لا يمكن تلافيه إلّا بتحمّل منّة تتفسّخ منها القوائم لحكومة عدن، مع أنّها كانت في غنى عن ذلك؛ لانعقاد القلوب على محبّة السّلطان، لعفّته عن أموال النّاس.. فلا يحتاج إلى العنف إلّا اللّثام الّذين لا يصلحهم غيره.
«ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا *** مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى »
ولو أنّ عمّال القعيطيّ سايسوا الكرام من سيبان والعموديّ بالرّفق.. لاستقام الحال، وانحلّ الإشكال؛ إذ الكرام كما قال الأوّل:
«قوم إذا شومسوا لجّ الشّماس بهم *** ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا »
وقال سعيد بن ناسب [من الطّويل]:
«وما بي على من لان لي من فظاظة *** ولكنّني فظّ أبيّ على القسر»
هذا ما يحسن أن يعامل به الكرام، أمّا الرّذال.. فلا يصلحهم إلّا ضرب القذال وبمثل ذلك جاء القرآن العظيم، وسار عليه الشّارع الحكيم، ومعاذ الله أن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا ما أصلح أوّلها، ولا معرفة لي تكفي اليوم للحكم بحال القوم، ولكنّ من يردني من آل العموديّ وآل العطّاس يحدّثني عن شهامتهم ونخوتهم بما يبعد معه أن تذلّل معاطسهم الخطم، وقد قال بعض شعرائهم المتأخّرين ـ واسمه سعيد بن سالم بانهيم المرشدي ـ:
«لا حق بامدّه ولا منقود *** ولا شريعه عند قاضي »
«لمّا يغلّق كسبي الموجود *** هفوه لهم والقلب راضي »
ولا أشنوعة عليه بالتّمدّح بالامتناع عن استدعاء القضاة؛ لأنّهم لصوص.. فله من جورهم مخرج عن هذا، وفيه شبه من قول بعض الأوائل [من الطّويل]:
«بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغميم القوافيا »
«فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة *** فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا »
«ولكنّ حكم السّيف فينا مسلّط *** فنرضى إذا ما أصبح السّيف راضيا »
ولا أذكر قائلها الآن، ولكنّني أعرف أنّ موسى بن المهديّ تمثّل بها لمّا جيء برأس الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى، وجعل يوبّخ من أسر من أصحابه ويقتلهم.
والحسين هذا هو الفخي نسبة إلى محلّ واقعته، وهو بمكّة أو قريب منها، أو هو وادي الزّاهر.. فكلّ ذلك قيل، وهي أقوال متقاربة.
ولطالما حدّثني الواردون عن شهامة أولئك، غير أنّ قياس المشاهدة على ما نعرف من قبائل بلادنا.. يجعل السّعي مهلا، والصّعب سهلا، والعسر إلى المياسرة.
وبعد أن فرغت من هذا الكتاب بشهور أخبرني غير واحد بأنّ أحد رؤساء آل ماضي ـ وكان يحطب في حبل الحكومة ـ ابتزّ امرأة رجل غائب بالهند، ولمّا حضر.. امتلأ غيظا ـ وفيما دون هذا يحمى أنف الكريم ـ فلم يبخل بالمال في سبيل غسل العار، فقتل ذلك الباغي في بلاده، واتّهم بقتله اثنان من آل باصليب، فجهّزت عليهم الحكومة نحو سبع مئة جنديّ بدبّاباتهم فما دونها من الآلات والأسلحة والعتاد، فصبر لهم رئيس آل باصليب، وكان شهما، وأبلى فيهم أحسن البلاء، ثمّ قتل، وأشبل عليه أخوه وابنه فأصيبا، ولكنّهما احتملاه، رحمة الله عليه، لقد مات شهيدا وأبقى ذكرا مجيدا:
«فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة *** تقوم مقام النّصر إن فاته النّصر »
«وقد كان فوت الموت سهلا فردّه *** إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر »
«ونفس تعاف العار حتّى كأنّما *** هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر»
وكان كلّ ذلك ـ حسبما يقال ـ بخيانة من بعض آل باصليب أنفسهم، ثمّ لم يكن من الحكومة إلّا إهانتهم، وأخذ أسلحتهم.
وبإثر هذه الحادثة تراخى أمر ذلك الحلف؛ إذ تقنّعت الأحلاف، ولم يلبّ صوت المقدّم سعيد باصليب إلّا المشاجرة، جاؤوا من يبعث ونواحيها في نحو سبع مئة رام، يتقدّمهم باشقير، ولكن بعد ما سبق السّيف العذل، وفرغوا من سعيد باصليب.. فعادوا أدارجهم.
وكان عند آل العموديّ بعض مأجوري الحكومة يشاغلونهم بالكلام، حتّى قضي الأمر، وما أظنّه إلّا يتساوى النّاس، ويصحّ القياس.
وقال الطّيّب بامخرمة في التّعريف بالشّحر: (سمّيت الشّحر بهذا الاسم لأنّ سكّانها كانوا جيلا من المهرة يسمّون: الشّحرات ـ بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الرّاء، ثمّ ألف، فحذفوا الألف وكسروا الشّين، ومنهم من لم يكسرها، والكسر أكثر ـ وتسمّى: الأشحار أيضا؛ كالجمع. وتسمّى: الأشغاء؛ لأنّه كان بها واد يسمّى الأشغا، كان كثير الشّجر، وكان فيه آبار ونخيل، وكانت البلاد حوله من الجانب الشّرقيّ، والمقبرة القديمة في جانبه الغربيّ.
وتسمّى أيضا: سمعون؛ لأنّ بها واد يسمّى بذلك، والمدينة حوله من الشّرق والغرب، وشرب أهلها من آبار في سمعون. وتسمّى: الأحقاف أيضا.
وقد ذكر هذه الأسماء النّقيب أبو حنيفة، واسمه أحمد، كان من أولاد أحد تجّار عدن، ثمّ صار نقيبا لفقراء زاوية الشّيخ جوهر، ثمّ عزم إلى الشّحر، وامتدح سلطانها عبد الرّحمن بن راشد بأشعار كثيرة، معظمها على البال بال، وهو الّذي يسمّيه أهل حضرموت الدان دان.
وخرج من الشّحر جماعة من العلماء الفضلاء؛ كآل أبي شكيل، وآل السّبتيّ، وآل بن حاتم، وغيرهم. وإليها ينسب خلق كثير؛ منهم: محمّد بن معاذ الشّحريّ، سمع من أبي عبد الله الفزاريّ. والجمال محمّد بن عمر بن الأصفر الشّحريّ، سمع منه القواضي بماردين سنة «680 ه».
ومن شحر عمان: عمرو بن أبي عمر الشّحري، أنشد له الثّعالبيّ شعرا في «اليتيمة» اه
وقد أطلت القول على الأشحار ب «الأصل»، ومتى عرفنا أنّه من أسماء الشّحر.. انحلّ المشكل عليّ فيه، فهذا ممّا يستدرك على ما هناك.
وطالما استشكلت قولهم: (إنّ المظفّر هو الّذي جعل الشّحر مدينة)، مع عاديّ عمرانها، وتقادم أخبارها، والمفهوم: أنّها كانت مدينة عامرة ثمّ اندثرت حتّى عمّرها المظفّر، فهذا الجمع متعيّن.
ومرّ أوائل هذه المسوّدة عن ياقوت ذكر محمّد بن خويّ بن معاذ، ولكنّ الطّيّب بامخرمة نسبه إلى جدّه ولم يذكر أباه.
وقال الطّيّب أيضا في مادة (ذبحان)
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
38-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الريدة)
الرّيدةهي في شرقيّ قصيعر، وكانت تسمّى: (ريدة ابن حمدات)، وتسمّى الغيضة، وكانت لآل كثير، وكانوا على نوع من القرصنة.
جاء في الحكاية (45) من «الجوهر الشّفّاف» [1 / 99 ـ 100]: عن السّيّد محمّد بن الفقيه المقدّم أنّه قال: (سافرت من ظفار مع بعض الهنود، فلمّا وصلنا الغيضة بلاد آل كثير.. نشبت سفينتنا بجبل في البحر، فأقبل آل كثير بسنابيقهم لينهبونا؛ لأنّ من عادتهم أن ينهبوا جميع ما في المراكب الّتي تعطب هناك، ولكن انبعثت سفينتنا قبل أن يصلونا.. ففتناهم، وكان هذا أثناء القرن السّابع).
وفي يوم الخميس غرّة جمادى الأولى من سنة (1272 ه) رسا بها السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ مخرجه من الهند إلى حضرموت، بعدما تمهّدت له إمارتا سيئون وتريم على يد أخيه عبد الله وابن أخته عبود بن سالم.
ولم يكن القعيطيّ بغافل عن استمرار المواصلات بين الرّيدة وحضرموت، ولكنّه خشي الانفجار من الضّغط.. فانتظر الفرصة المناسبة، ولمّا انبتّت أقران آل كثير بإثر هزائمهم في الحزم وصداع.. نهض لها ولقصيعر، فكان ما كان.
وفي الرّيدة جماعة من السّادة آل العيدروس، وآل الجفري، وآل الشّيخ أبي بكر بن سالم، وجماعة من المشايخ آل باحميد، منهم الآن: الشّيخ النّبيه المشارك في الفقه، طه بن عليّ بن محمّد باحميد.
ومن وراء الرّيدة إلى الشّرق: دمخ حساج، ودمخ اسم للجبل، وحساج اسم للمكان الّذي حواليه.
وبه دلّلت على وجود قبر حنظلة بن صفوان عليه السّلام بحضرموت، كما يأتي في موضعه عند ذكر بور، ولعلّ دمخا هذا هو المشار إليه بقول ياقوت [1 / 394]:
(وبرقة دمخ: اسم جبل، قال سعيد بن براء الخثعميّ [من المتقارب]:
«وفرّت فلمّا انتهى فرّها *** ببرقة دمخ فأوطانها»
وقال طفيل الغنويّ [من الطّويل]:
«فلمّا بدا دمخ وأعرض دونه *** غوارب من رمل تلوح شواكله »
وقال طهمان بن عمرو الكلابيّ [من الطّويل]:
«كفى حزنا أنّي تطاللت كي أرى *** ذرى قلّتي دمخ فما تريان »
وهناك آثار قديمة تدلّ على ضخامة ملك وتقدّم حضارة. وهذا المكان هو الحدّ الفاصل بين القعيطيّ والمهرة.
ومن ورائه إلى جهة الشّرق: درفات، وهي قرية فيها مسجدان.
ثمّ حيريج، ولها ذكر كثير في التّاريخ، قال الطّيّب بامخرمة: (وهي أمّ المشقاص، وفيها محمّد الحشريت، وشيوخهم الأشعثيّون من ذرّيّة الأشعث بن قيس الكنديّ.
وفيها بندر يقصده أهل الهند ومقدشوه، ويتوسّمه أهل الشّحر وحضرموت، ويحمل منه الكندر والصّيفة إلى عدن وبربرة وجدّة وإلى كل محلّ. ذكرها القاضي مسعود) اه
ولكنّها دثرت ولم يبق منها إلّا القليل، وفيها مسجد للشّيخ عبد الله القديم عبّاد.
ومن ورائها: سيحوت، على مسافة ثلاثة أيّام إلى جهة الشّرق بالرّيح المعتدل في السّفن الشّراعيّة من يضغط، وهي البلاد الحرّة الّتي لمّا يطمثها الأجنبيّ، ولو لا حرّيّتها.. ما انفتحت للحضارمة طريق الهجرة لمّا اقشعرّت بهم البلاد من المجاعة الّتي ابتدأت في سنة (1360 ه) ولا تزال ضاربة بجرانها إلى اليوم بسبب انقطاع المواصلات من جاوة الّتي هي المنيحة الدّارّة للحضارمة ومصدر السّعادة، خصوصا لمن نزل عن شبام من أهل حضرموت، أمّا ما وراء شبام.. فإنّهم لم يتأثّروا بالأزمة تأثّر هؤلاء؛ لاتّصالهم بالحجاز والحبشة والأرتريا وعدن وغيرها، من البلاد الّتي لم تنسدّ في أيّام الحرب.
ولو لا ما سمح به نوّاب سلطان سيحوت المهرة ـ جزاهم الله خيرا ـ من بذل الجواز لمنكوبي حضرموت إلى السّواحل الإفريقيّة.. لمات منهم بالجوع ضعف ما قد مات، لكنّهم فعلوا معهم جميلا لا يضيع، وطوّقوهم بمعروف لا ينساه إلّا أبناء الزّنا، بينما ضرب عليهم الحصر من كلّ ناحية، وسدّت في وجوههم الأبواب من كلّ سبيل.
وسلاطين هذه البلاد على حالتهم البدويّة، وطبيعتهم الفطريّة، يمشون حفاة، ولا شرطة ولا حجّاب، ولا فرق بينهم وبين السّوقة إلّا بما على وجوههم من الشّهامة:
«متصعلكين على ضخامة ملكهم *** متواضعين على علوّ الشّان »
وعلى قريب منها كانت أحوال أمراء بلادنا إلى ما قبل اليوم بنحو من ثلاثين عاما فقط؛ إذ لم ينخر في عظامهم سوس المدنيّة الشّومى إلّا من عهد جديد.
وسلطان المهرة اليوم في نحو الخمسين من عمره، واسمه: أحمد بن عبد الله بن محمّد، ومقرّه سقطرى، ولكنّ أبناء عمّه بسيحوت استقلّوا ببعض الأمور مع اعترافهم له بالسّيادة العامّة ورجوعهم إليه في المهمّات وقد ذكرت في «الأصل» صاحب سقطرى السّلطان عمر بمناسبة أنّ الضّابط الإنكليزيّ المسمّى: هينز زاره في سقطرى، وحاول أن يرضيه عنها؛ لوفائها بما تقصده حكومته لاستيداع الفحم بالبحر الهنديّ، فقال: (إنّها هبة من الله للمهريّين، يتلقّاها الأحفاد عن الأجداد، ومعاذ الله أن أكون أنا السّبب في تضييعها عليهم).
ولكنّهم تمكّنوا في (23) أبريل سنة (1886 م) من إدخالها تحت الحماية بمعاهدة، جاء في المادة الأولى منها: (إنّ الحكومة البريطانية تتعهّد بوضع جزيرة سقطرى وملحقاتها تحت سلطة السّلطان عبد الله بن سالم بن سعد بن عفرير وداخل حدوده، تحت حماية جلالة الملكة الإمبراطورة).
وفي المادة الثّانية مثل ما في أخواتها، وهو: (يتعهّد السّلطان عن نفسه وعن أقاربه وورثائه بالامتناع من الدّخول في أيّة مراسلة أو اتّفاقيّة مع أيّ دولة إلّا بعد إطلاع الحكومة البريطانيّة).
وعليها إمضاء السّلطان عبد الله بن سالم المذكور.
وشهودها: محمّد بن صالح جعفر، وسالم بن أحمد بن سعد بن عفرير، وسعد بن امبارك قاضي قشن، ومحمّد بن سعد قاضي قلنسية وسقطرى.
والسّلطان عبد الله هذا هو والد السّلطان الحاليّ أحمد بن عبد الله بن سالم بن سعد.
ولسلطان المهرة أبناء عمّ اليوم يجاذبونه الحبال بإغراء الإنكليز، فلم يجدوا مغمزا في قناته، ولا مكسرا في عوده، وأبى أن يجدّد تلك المعاهدة بأضرّ منها عليه، وأصرّ على ابتعاده عنهم، بل بقي مصرّا على التّباعد عنهم، غير أنّه اضطرّ أن يعطيهم مطارات في سقطرى وقشن بعد أخذ التّعهّدات عليهم بالجلاء بعد انتهاء مدّة الحرب.
ومن سلاطين المهرة: طوعريّ بن عفرار، ثمّ ولده سالم بن طوعريّ، ثمّ ولده سعيد بن سالم، ثمّ أحمد بن سعيد، ثمّ الحكمان بن أحمد، ثمّ ابنه الحكم بن الحكمان، ثمّ ولده محمّد بن الحكم، ثمّ سالم بن محمّد، ثمّ ولده ناصر بن سالم، ولعلّ ناصرا هذا أخ لعبد الله بن سالم الموقّع على المعاهدة السّابق ذكرها، والله أعلم.
والضّرائب لديهم خفيفة جدّا، مع أنّهم لا يأخذون رسوما إلّا في سيحوت وقشن فقط، ولا يأخذون شيئا في بقيّة المرافىء، ثمّ لا يأخذون إلّا من الغريب، وأمّا من الأهالي.. فلا، وغاية ما يأخذونه من الغرباء خمسة في المئة اسما، وبالحقيقة أقلّ من ذلك؛ لفرط التّسامح في التّثمين، وكثيرا ما يعفون من استعفاهم جملة.
وأكثر تجارة آل سيحوت وقشن والغيضة في: العنبر، والصّيفة، والصّيد، والوزيف، والأنعام، وما أشبه ذلك.
وقد بلغني أنّ الله أراح السّلطان أحمد بن عبد الله من ابن أخيه الّذي كان يؤذيه، وهو: حبريش بن سعد، فمات في سنة (1364 ه) ودفنوه بتربة سيحوت، المسمّاة: تربة محمّد بن سعيد باكريت، وهي تربة جميلة، يظلّها كثير من شجر الأراك، وهي في وسط البلاد على مقربة من الجامع.
والشّيخ محمّد بن عبد الله باكريت هذا من أخصّ تلاميذ الشّيخ عبد الله القديم عبّاد، وله في مناقبه ذكر كثير، منه: أنّه قدم عليه بستّة آلاف دينار، وبمثلها من البزّ والطّعام، فأمره بأن يدفع ذلك للخادم، فوضع الدّنانير بخزانة تحاذي مجلس الشّيخ، ولمّا أكثر من الدّخول والخروج للأخذ منها في سبيل الحاجات.. تشوّش فكر الشّيخ، فقال له: (اقلع هذا المال ـ قلعه الله ـ فقد شوّش عليّ). أو ما يقرب من هذا المعنى، وعهدته على الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله باشميله باعبّاد؛ فهو آخر من أخبرني بالقصّة، مع أنّني كنت أحفظها بدون هذا القدر الكثير.
والّذي يتحدّث به كثير من شيوخ آل باعبّاد: أنّ محمّد بن عبد الله باكريت هذا هو الّذي اختطّ سيحوت بإشارة شيخه القديم، وكان خراجها خالصا له، إلّا أنّه يهدي لمطبخ الشّيخ القديم ما تسمح به نفسه.
وبعضهم يكتب (باكريد) بالدّال، وآخرون يكتبونه بالتّاء.
وفي حوادث سنة (667 ه) [ص 99] من «تاريخ شنبل»: (توفّي الأديب، الصّالح، الفقيه، عفيف الدّين، عبد الله بن أحمد باكريت، والد الشّيخ المقبور بسيحوت) اه
ولم يذكر أنّه أوّل من اختطّها، ولكنّ دفنه في غير المكان الّذي دفن فيه أبوه قد يشير إلى ذلك.
ولا يزال آل باعبّاد يتقاضون رسوما وأوقافا من بلاد المهرة حوالي سيحوت، ومنه تعرف امتداد جاه باعبّاد، وما أدري! أهو الّذي تأطّدت به الدّولة الكثيريّة البائدة، أم هو الّذي اتّسع بها؟ والمظنون أنّ كلا استفاد من الآخر.
وفي «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف بن الشّيخ أبي بكر بن سالم ما يصرّح بأنّ السّادة آل عمر بن أحمد من آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر بن سالم صاروا يشاركون آل باكريت في حاصلات سيحوت. والله أعلم.
ومن وراء سيحوت: عتاب، فيها قبيلتان من المهرة: آل ابن عقيد، وآل ابن محامد.
ثمّ قشن، وهي مدينة لا بأس بها، يسكنها آل عفرار، بيت سلطنة المهرة، وهي قاعدة ملكهم في البلاد العربيّة، ولا يزيد عددهم عن ثلاثين رجلا.
وفي قشن ناس من آل باعبده منسوبون إلى العلم، يتوارث القضاء فيهم، والقاضي فيهم لهذا العهد هو: الشّيخ امبارك بن سعيد باعبده، وهو كسلفه لا يحتاج في تنفيذ أحكامه إلى أوامر سلطانيّة، بل يتلقّاها النّاس بالقبول، ويخضعون لها بهيبة الدّين وسلطانه على النّفوس، وأكثر أحكامهم الإصلاح. وبهذا ذكرت ما كان في أيّام الأجداد، وما كان يمثّله من أحوالهم في القضاء شيخنا الوالد علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف؛ فإنّه لم يكن يستمدّ نفوذه من السّلطان، وإنّما يستمدّه من صولة الحقّ ومهابة الدّيانة.
ومن وراء قشن: صقر. ثمّ حصويل، ثمّ رأس الفرتك، ثمّ خيصيت، ثمّ نشطوت، ثمّ خلفوت، ثمّ ضبوت، ثمّ هروت. ثمّ محيفيف، وهي: مرسى الغيضة الّذي كان بها مدفن المنصب السّيّد سالم بن أحمد، وسيأتي في عينات ذكر سبب نجوعه إليها منها وما يتعلّق بذلك، ولا يزال بها جماعة من أعقابه.
منهم: منصبها الآن: السّيّد عليّ بن أحمد.
ومنهم: المعمّر السّيّد عيدروس بن محسن، توفّي بشعبان من سنة (1366 ه) عن نحو من تسعين عاما.
ومنهم: ولده عمر، شابّ نشيط، يخوض غمرات البحور للملاحة، وقد جرت له فيه أمور هائلة في هذه الحرب المشؤومة.
وفيها سادة من آل باعبود.
منهم: قاضيها الآن: السّيّد سالم بن عليّ بن زين باعبود.
وفيها ناس من بيت كلشات وبيت كدّه، كلاهما من المهرة.
ومن وراء محيفيف إلى المشرق: أيروب، ثمّ الفيدميّ، ثمّ الحصن، ثمّ من ورائه متشاملا: مكان الشّيخ محمّد بن عبد الله الجوهريّ، وهو جبل بساحل البحر.
ثمّ الفتك، ثمّ دمقوت، ثمّ جاذب، ثمّ حوف. وهذه كلّها ابتداء من درفات بلاد المهرة.
ثمّ تبتدىء أعمال ظفار، وأوّلها: رخيوت. ثمّ ريسوت السّابق ذكرها عند حصن الغراب، وكلاهما مراس. ثمّ ظفار.
وقد ذكر ابن الحائك بعض هذه المراسي بأسماء تغاير ما هي عليه الآن، فإمّا أن تكون تبدّلت الأسماء، وإمّا أن تكون دثرت تلك وتجدّد غيرها.
فقال: (وأمّا إحاطة البحر باليمن من ناحية دما فطنونى، فالجمجمة، فرأس الفرتك، فأطراف جبال اليحمد وما سقط منها وانغار إلى ناحية الشّحر، فالشّحر، فغبّ القمر، فغبّ الحيس، فغبّ العبب بطن من مهرة، فالحريج، فالأشفار) اه
وفي «القاموس»: (غبّ القمر: موضع بين الشّحر وظفار).
قال بامخرمة: (وهو المعروف اليوم بعثة القمر، وهو موضع خطر، إذا سقطت إليه السّفن.. قلّ أن تسلم) اه وقد سبق أكثر هذا في حصن الغراب، وفي (ص 258) مجلد أول من «معجم ياقوت» [1 / 198]: (الأشفار كأنّه جمع شفر، وهو الحدّ، بلد بالنّجد من أرض مهرة، قريب حضرموت بأقصى اليمن، له ذكر في أخبار الرّدّة) اه
وكثيرا ما تشتبه الأشفار بالأشحار السّابق ذكرها عن بامخرمة في الشّحر، فليتنبّه لذلك.
ولظفار ذكر كثير ب «الأصل» [3 / 43]، وفيه: إمارة السّيّد محمّد بن عقيل السّقّاف. ثمّ إمارة السّيّد فضل بن علويّ مولى خيله، ونزيد هنا: أنّ الّذي قام في توثيق الأمر للسّيّد فضل هو: عوض بن عبد الله الشّنفريّ، الملقّب بعوض الموت، ثمّ كان أكبر الساعين لإبعاده.
وسلطانها اليوم سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركيّ، وهو داخل تحت الحماية الإنكليزيّة من أيام جدّه، إلّا أنّه متمسّك بسائر حقوقه، ولم يظفروا منه بغير مطار في موضع يقال له: صلاله، على مقربة من ظفار، وهو لا يمكّن الإفرنج من الاختلاط برعاياه، ولا بدّ لمن أراد حاجة من سوق ظفار أن يأخذ عسكريّا معه ذهابا وجيئة، ويأخذ العشور في كلّ ما يصلهم في الطّيّارات وغيرها، ولا يبيح لهم التّداخل في شيء ما من أحوال بلاده، ورفض أن يقبل عملتهم بالورق، ولا تزال عملة بلاده بالرّيال الفرانصة إلى اليوم، إلّا أنّه لا يبيح لامرأة من رعاياه أن تتزوّج بغيرهم، وعنده قاضيان: قاض للإباضيّة؛ ومنهم: السّلطان والعائلة المالكة، وقاض شافعيّ هو السّيّد أحمد بن محمّد البيتيّ من آل محمدة بحجر.
وقد عوّد الله أهل ظفار هطول الأمطار من نجم الشّول إلى تمام ثلاثة أشهر بلياليها، لا يتخلّف عنهم هذا الموسم أبدا، وقد تأتيها الأمطار في غير ذلك الوقت، وخيراتها دارّة، وبركاتها كثيرة، ويتحدّث النّاس أنّ بها عود الإكسير.
وفي ظفار ناس من السّادة آل عمر باعمر، وآل الحدّاد، وآل باعبود، وبيت واحد من آل الشّيخ أبي بكر، وقبائل ضواحيها من آل كثير، فمنهم: المراهين، يبلغون ثلاثين رجلا. وآل فاضل، يبلغون عشرين. والشّنافر، يبلغون خمسين. وبيت راس، خمسون. وآل عليّ بن كثير، نحو ستّ مئة رجل.
وممّا يجب أن يلفت النّظر إليه: أنّ الشّنافر بيت من بيوت آل كثير لا يعمّهم فضلا أن يطلق على من سواهم.
وقبائل المهرة كثيرة، يبلغ مجموعها اثني عشر ألف رجل، منهم: آل اليزيديّ، لا ينقصون عن ثمان مئة رجل، وهم بسيحوت. وآل بن كلشات بالغيضة، وحصويل نحوهم. وآل الجدحيّ بقشن، كذلك نحو سبع مئة. وآل ابن عبنان كذلك ببادية الغيضة نحو سبع مئة. وآل عفرار ـ بيت السّلطنة ـ لا يزيدون ـ كما مرّ ـ عن ثلاثين، وهم بقشن، ويتردّدون إلى سيحوت، وأبناء عمّهم في سقطرى.
ولا يوجد بسقطرى من المهرة إلّا القليل؛ لأنّهم يستوبئونها، ولا يعيش من ذهب إليها من مهرة سيحوت وقشن وعتاب أكثر من سنة، ثمّ يعافسه الحمام، ومتى أراد أهل سقطرى مددا لنائبة.. أتاهم في أسرع وقت من سيحوت وأعمالها.
وفي «بستان العجائب»: (أنّ للمهرة محافظة على الصّلوات، ولهم لغة غير العربيّة، يقال: إنّها لغة عاد، وأرضهم طيّبة ذات زرع ونخل وغياض، وأكثرهم بوادي في الجبال) اه.
وفي «الأصل» ما يصدّق هذا عن الجرو، ممّا يدلّ على أنّهم كانوا منتشرين بجبال حضرموت، ولكنّهم أخلوها بالآخرة للمناهيل.. فهم منتشرون فيها اليوم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
39-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (في أواسط حضرموت من أعلاها إلى أدناها)
في أواسط حضرموت من أعلاها إلى أدناهالمّا انتهى الكلام على شقّ حضرموت الجنوبيّ وما يقرب منه.. صرنا إلى هذا:
قد سبق أنّ حدّ حضرموت الغربيّ هو جردان، وعلى إزائه بشيء من التّفاوت شبوة، وهي في شماله.
وكثير من المؤرّخين يوسّعون هذا الحدّ إلى جبال مأرب، بل منهم من يدخلها فيه كما ب «الأصل».
وتنشعب الطّرق من جردان: فمن الجهة الغربيّة إلى عمقين. وبتشامل إلى شوحط، ثمّ إلى شرج باوهّال، ومنه تخرج طريق إلى ضباب وهو أسفل جردان.
وأخرى شرقيّه تخرج على آل بايوسف، واسم مكانهم: الشّوف، وماؤه يدفع إلى جردان.
وآل جردان يقال لهم: النّمارة، وهم وآل خليفة أصحاب الحاضنة.
والنّسيّون أهل مرخة من بني هلال.
وتذهب طريق أخرى إلى الشّرق الجنوبيّ من جردان إلى السّوط، ومنه ريدة الدّيّن.
أمّا جردان: فقد جاء في «التّاج» و «أصله» أنّه: (واد بين عمقين ووادي حبّان). ولكن أخبرني جماعة من أهل تلك النّواحي بأنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما عمقين في غربيّ جردان فهو ـ أعني عمقين ـ بين جردان وحبّان، فكأنّ الأمر انعكس عليهما.
وجردان مشهور بحسن عسله، فله شرف قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 122 من الطّويل]:
«يرى العلقم المأدوم بالعزّ أرية *** يمانيّة والأري بالضّيم علقما »
إذ عسل حضرموت خير عسل اليمن، وعسل جردان خير عسل حضرموت، إلّا أنّ في بعض بلاد اليمن كعورا. ما لا يقلّ حسنا عن عسل جردان؛ لأنّه يجرس زهر السّدر، وهو السّبب الّذي يمتاز به عسل جردان وحضرموت؛ فإنّه لا يطيب إلّا متى جرس نحله ذلك الزّهر، أمّا الّذي لا يجرسه ـ كالّذي يعسل في أيّام الصّيف ـ فإنّه لا يكون إلّا رديئا للغاية، ولو من جردان، ويسمّونه: المريّة، فتحصّل أنّ العسل لا يتفاوت إلّا من هذه النّاحية.
وبلاد جردان من أقدم بلاد حضرموت، ومنها كان قيس بن سلمة المرّانيّ الجعفيّ، له صحبة ووفادة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ولّاه على بني مرّان بن جعفي بجردان وأعمالها، وعلى حريم بن جعفي، وكتب له: «من محمّد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل.. إنّي استعملتك على مرّان ومواليها، وحريم ومواليها، من أقام الصّلاة وآتى الزّكاة وصدّق ماله وصفّاه».
ومرّان وحريم أخوان، أبوهما جعفيّ، ضاربين في جردان ووادي عمد، قال في «التّاج»: (وهم من الصّدف، وقد دخل حريم في نسب حضرموت على ما صرّح به الدّار قطنيّ وغيره من أئمّة النّسب، وذكروا لدخولهم أسبابا ليس هذا محلّ ذكرها).
وفي ذكر الضّليعة عن ابن الحائك أنّ: (ريدة العباد وريدة الحرميّة للأحروم من بني الصّدف)، والأحروم هو حريم الصّدفيّ.
قال في «القاموس»: (وولد الصّدف حريما، ويدعى بالأحروم، وجذاما ويدعى بالأجذوم) اه، وهما بالضّمّ.
ومن ولد الأحروم بن جعفيّ هذا محمّد بن حمران الجعفيّ، أحد السّبعة المحمّدين الّذين تسمّوا في الجاهليّة بمحمّد، وكان بينه وبين امرىء القيس مهاجاة ومنافسات معروفة اقتضتها المزاحمة مع قرب الدّيار؛ إذ هذا في (عمد) وذاك بالكسر والهجرين، وكثيرا ما يشهدان مجامع الأفراح والحروب فيتساجلان القريض.
ومن أهل جردان: سلمة بن يزيد الجعفيّ، من بني حريم بن جعفيّ أيضا، وله صحبة ووفادة.
وكان بجردان جماعة من أهل الفضل والصّلاح، ذكر الشّليّ في ص (66) ج (2) من «مشرعه» [2 / 145] الشّيخ عبد الحقّ الّذي كان موجودا في أوائل القرن التّاسع، وقال: (إنّه زار هودا عليه السّلام).
وجاء في ص (302) من «شرح العينيّة» ذكر ولده عبد الصّمد.
وفي «شمس الظّهيرة»: أنّ للسّيّد عمر بن الحسين بن الشّيخ أبي بكر بن سالم عقبا بجردان.
وقال ابن الحائك في «صفة جزيرة العرب» [151]: (وأمّا مياه السّرو الشّرقيّة فتصبّ في جردان، ومرخة قريب منها، وهي موضع الأيزون، وينتهي جردان إلى قريب من حضرموت) اه
وقوله: (إلى قريب من حضرموت) إن أراد به أواسطها.. فنعم، وإلّا.. فهو غلط؛ لأنّ جردان من حضرموت كما تقرّر.
وبين جردان ووادي عمد ثلاثة أيّام بسير الأثقال، ونحو ذلك ما بينها وبين سهوة رخية.
ومن علماء جردان: الشّيخ إسماعيل الجردانيّ، تخرّج بالفقيه محمّد بن أحمد بافضل صاحب عدن، المتوفّى سنة (903 ه).. فهو من أقران الشّيخ عبد القادر السّابق ذكره في كلام الطّيّب.
وقال الطّيّب بامخرمة: (جردان بين عمقين ووادي حبّان، يشتمل على قرى، خرج منه جماعة من العلماء، منهم: الفقيه عبد القادر الجردانيّ، قرأ على مشايخنا الفقيه محمّد بافضل والوالد، وكان فقيها متأهّلا للفتوى، وكثيرا ما يتولّى قسم الصّدقات السّلطانيّة الّتي كان يتصدّق بها الشّيخ عليّ بن طاهر.
وأرسل السّلطان عبد الوهّاب بن داود معه مرّة بخيل معدّة للمجاهدين بسعد الدّين، وصحبه الفقيه أحمد بلعس، توفّي المذكور بعدن) اه
وقد فهم ممّا مرّ أنّ قوله: (بين عمقين ووادي حبّان) مبنيّ على ما جاء في «التّاج» و «أصله» من الغلط، وربّما كانت رؤوس جردان ممتدّة في الغرب، ورؤوس عمقين ممتدّة في الشّرق، فيتيسّر الجمع إذن بين الكلامين، ثمّ رجعت إلى «الأصل» فرأيت ما نقلته آخر الجزء الثّاني قبيل شرح بيتي غالب عن الطّيّب بامخرمة نفسه: أنّ عمقين واد بين جردان وحبّان، وهو الصّواب.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
40-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (شبوة)
شبوةهي في غربيّ عرما، في منتهى واديه، والباقي منها دويرات لآل بريك وعبيدهم في قارة فاردة هي آخر الجبال الجنوبيّة، تشرف على رملة صيهد الواقعة في شمالها، وهي في مناعة الهجرين، أو هي أمنع، وفي وسط الجانب الغربيّ منها مطرح رماد، لا يتخلّص من يقع فيه، ولا يدرى ما أصله، ولفظ شبوة يطلق على النّاحية بأسرها، وقد قيل: إنّها من حدود حضرموت الغربيّة، وبه قال صاحب «مفتاح السّعادة والخير» حسبما يأتي في الكسر، وقيل: ليست منها قال في «التّاج» و «أصله»: (هو واد بين مأرب وحضرموت).
وقال نصر: (على الجادّة من حضرموت إلى مكّة).
وقال ابن الأثير: (ناحية من حضرموت، ومنه حديث وائل بن حجر أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب لأقوال شبوة بما كان لهم فيها من ملك).
وأخطأ الفيروز أبادي في قوله: (إنّها قريب من لحج).
أمّا الطّريق من حضرموت إلى صنعاء.. فسبع مراحل: الأولى: من هينن وعروض آل عامر إلى دهر. الثّانية: من دهر إلى رملة شبوة، موضع معروف. الثّالثة: منه إلى صافر، وهو موضع الملح المشهور. الرّابعة: إلى مأرب. الخامسة: إلى صرواح. السّادسة: إلى الحمرة، قرية من قرى خولان. السّابعة: إلى صنعاء.
وأهل زماننا ومن قبلهم بردح لا يستطيعون هذا السّير، وإنّما كان الأوّلون أهل نشاط وعزم، ولذا كثرت بينهم المواصلات؛ لأنّ الجزيرة قريبة من بعضها في أنظارهم.
وزعم قوم بأنّ شبوة ليست بحدّ حضرموت الغربيّ، بل إنّه يتجاوزها فيشمل مأرب كما في «الأصل»، ويتأكّد ذلك بظهور أثر دعائهم بتباعد الأسفار على أهل حضرموت فتفرّقوا عباديد.
وقال ابن الحائك في «صفة جزيرة العرب» [171]: (وفيما بين بيحان وحضرموت شبوة، مدينة لحمير، بها أحد جبلي الملح، والجبل الثّاني لأهل مأرب، فلمّا احتربت حمير ومذحج.. خرج أهل شبوة منها وسكنوا حضرموت، وبهم سمّيت شبام، وكان الأصل في ذلك شباه، فأبدلت الهاء ميما) اه
وهو مخالف لما اشتهر أنّ تريما وتريسا وشباما كانوا ثلاثة إخوة سمّيت هذه البلاد بأسمائهم.
وقد خلف على شبوة بعد حمير كندة، وكان الأعشى ينتابها لمدح قيس بن معدي كرب الكنديّ، وهو القائل [من الطّويل]:
«ألم ترني جوّلت ما بين مارب *** إلى عدن فالشّام والشّام عاند»
«وذا فائش قد زرت في متمنّع *** من النّيق فيه للوعول موارد »
«ونادمت فهدا بالمعافر حقبة *** وفهد سماح لم تشنه المواعد»
«وقيسا بأعلى حضرموت انتجعته *** فنعم أبو الأضياف واللّيل راكد»
وقوله: (بأعلى حضرموت) يريد شبوة؛ لأنّها من أعاليها، وهي قاعدتهم لذلك العهد.
ولا تزال بشبوة وما تاخمها وما ارتفع إلى الغرب عنها آثار صروح ضخمة وسدود متقنة، تدلّ على حضارة واسعة، وهندسة عجيبة، وملك واسع وسلطان نافذ.
وكثيرا ما تظهر الآثار القديمة وقطع الذّهب والخواتم بإثر ممرّ السّيول في رمالها، حتّى لقد وجد بعض الفقراء الصّالحين كوزا فيه سكّة من الذّهب لا أدري على من باعها في مأرب بنحو ثلاثة آلاف ريال.
وقد سبق في ميفعة ذكر الهجر، ثاني مدينة عمرانيّة كانت بحضرموت، وفي موضع من «صفة جزيرة العرب» [193] لابن الحائك: (أنّ مخلاف شبوة يسكنه الأشباء، والأيزون، ثمّ صداء ورهاء) اه
وفي موضع آخر منها [151]: (مرخة قريب من جردان، وهي موضع الأيزون) اه
وعند ما عضّت الرّحا بثفالها في الحرب الهائلة الأخيرة.. انقضّ الشّيخ عليّ ناصر القردعيّ فاحتلّها. قيل: بإشارة من مولانا الإمام يحيى حفظه الله. وقيل: من قبل نفسه.
والأوّل بعيد؛ لأنّ بين الإمام والحكومة الإنكليزيّة معاهدة تقتضي بإبقاء ما كان على ما كان إلى أن تنتهي أربعون سنة، وهو من أوفى الخلق بالذّمم، وأرعاهم للعهود، على أنّ الإمام لم يمض تلك المعاهدة مختارا، ولكن تحت الضّغط في ظروف محرجة وبعقب حوادث اضطرّته إلى ذلك، وإلّا فما كان يعترف لهم بحقّ في عدن، فضلا عمّا سواها، ثمّ لم يكن ـ يحفظه الله ـ ليعتمد على القردعيّ، وهو من المفسدين في الأرض، لا يخرج من غمدان إلّا عاد إليه، وبعد ذلك لم يمهله الإنكليز أن استقالها منه، إمّا عنوة، وإمّا بقفّة من الدّراهم ابتاعوا بها ضميره وذمّته، وقد يتأكّد هذا بأنهم أركبوه على طائرة في تكرمة إلى بيحان.
وكان القردعيّ يتردّد عليّ مع شيخ قيفة ـ واسمه الذّهب ـ أيّام كنت بصنعاء أوائل سنة (1349 ه)، وكان شيخ قيفة من أجمل خلق الله، والقردعيّ من أقبحهم، فأتذكّر ما رواه غير واحد من أهل الأدب: أنّ رجلا قام تجاه المرآة، فلمّا رأى محيّاه الجميل.. قال: اللهمّ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي، فقام بإثره رجل كريه المنظر، فوقع في مأزق حرج؛ لأنّه إن قال كما قال الأوّل.. ضحكوا عليه، وإن سكت.. وقع في الذّام، فتخلّص بأوضح حجّة حيث قال [من الطّويل]:
«فإن لم تك المرآة أبدت وسامة *** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم »
ولا سيّما وأنّ الخموش الّتي شوّهت وجه القردعيّ كانت من غضنفر أو نمر أنشب به براثنه فقدّه نصفين، حسبما أخبرني كثير من النّاس. وسيأتي في وادي الذّهب من أسافل حضرموت حديث لامرأة من بيت براهم يصغّر خبر القردعيّ مع النّمر.
وكثيرا ما سرّني تصاحب القيفيّ والقردعيّ، مع أنّ بينهما من الأشلاء الممزّقة والدّماء المائرة ما لا يضبطه الحدّ؛ لأنّه يذكّرني بقول البحتريّ [في «ديوانه» 1 / 11 من الطّويل]:
«إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها *** تذكّرت القربى ففاضت دموعها»
«تقتّل من وتر أعزّ نفوسها *** عليها بأيد ما تكاد تطيعها»
وهو معنى استبقت في مضماره جياد الشّعراء، وقصبة السّبق للبحتريّ في هذا البيت، وأصله لمهلهل في قوله [من الوافر]:
«بكره قلوبنا يا آل بكر *** نغاديكم بمرهفة النّصال »
«ونبكي حين نذكركم عليكم *** ونقتلكم كأنّا لا نبالي »
وقد ذكرت منه في «العود الهنديّ» [2 / 493] ما يشنّف الأسماع.
وفي شبوة جماعة من آل بريك، وهم مشايخ يحملون السّلاح، ولهم احترام بين قبائل تلك الجهات، وقد تفرّقوا في وادي جردان، وفي وادي حول، وفي دهر، وعرما، وشبوة، وهم: آل عبد الرّحيم، وآل سالم بن عمر، وآل عبد القويّ، وآل باسيف.
وقد أعطاني المنصب المرحوم السّيّد حسن بن سالم العطّاس ـ المتوفّى بالمكلّا سنة (1360 ه) ـ محاضرة ذكر أنّه ألقاها بالسّواحل الإفريقيّة، جاء فيها: (إنّ آل بريك انهزموا من إخوانهم آل ناعب بجبل يافع، فنزلوا سواحل حضرموت، ونزل بعضهم الحسا والقطيف وعمان، ولمّا كثر عددهم.. نجع منهم نحو خمسة وثلاثين ألفا، فنزلوا شبوة وأعتقوا بها عبدهم الوليّ الصّالح محمّد بن بريك، الّذي ينتسب إليه المشايخ آل بريك، وله قبّة وزاوية ومسجد ومطبخ وخزينة كتب).
وكنت أردت إيراد تلك المحاضرة بنصّها في «الأصل»؛ لما لها من التّعلّق بدولة آل بريك، غير أنّ فيها تجازيف كثيرة ثنتني عنها، فاكتفيت بالإشارة إليها.
وفي «فتح الرّحيم الرّحمن» لصاحب الحمراء: (أنّ سيّدنا الحسين بن العيدروس سار مع أمّه بنت آل بامدرك إلى شبوة وعمره ثلاث سنوات)؛ أي: سنة (864 ه) قبل موت والده بسنة. وفيه: (أنّ آل بامدرك قوم صالحون، زهّاد، كرماء، واضحون).
وعلى مقربة من شبوة ومن العبر: مضارب الكرب، ومن وجهائهم بشبوة رجل رحّالة يقال له: ناصر بن صالح بن حزيق. ومرجعهم في النّسب إلى بلعبيد، وعددهم نحو المئتين راميا، ولكنّهم أولو بأس شديد.
وعلى مقربة: منهم: بلاد يام، وحدّهم من الجنوب: دهم والصّيعر، ومن الشّرق الرّبع الخالي ووداي الدّواسر، ومن الشّمال بلاد قحطان وتثليث، ومن الغرب قحطان ووادعة وبنو جماعة. وسحار ويام أخو مراد كلاهما ابنا عنس بن مذحج، وهناك يام أخرى من همدان من ولد مالك بن جشم بن حاشد بن جشم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
41-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حيلة باصليب)
حيلة باصليبوهم قبائل مشاجرة يحملون السّلاح، وما أدري أكان الشّيخ عليّ بن سعيد باصليب، الملقّب بالرّخيلة منهم، أم لا؟ فإنّه تديّر تريم، وللشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف أخذ عنه، ومع ذلك بقي له اتّصال أكيد بالشّيخ الإمام أبي بكر بن عيسى بايزيد، السّاكن في وادي عمد، الّذي كان موجودا بالقرن الثّامن.
وكان هو والمشايخ الأئمّة ـ: عمر بن سعيد باجابر، ومزاحم بن أحمد باجابر، وعبد الله بن طاهر الدّوعنيّ، المتوفّى بالأيسر، على مقربة من بلاد الدّوفة، كلّ هؤلاء ـ من أقران الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف.
وفي حيلة باصليب جماعات من السّوقة والأكرة.
ثمّ رباط باكوبل، وسكّانه من القرار المعروف شأنهم بحضرموت، وفيه جامع.
ولم أدر من هو باكوبل هذا غير أنّه جاء في الحكاية (145) من «الجوهر الشّفّاف» ذكر يحيى بن أبي كربل، وهو من خدّام الشّيخ عبد الله باعلويّ. كما جاء في الحكاية (154) منه أيضا ذكر باكنبل، وهذه الألقاب متقاربة.
ثمّ قرن باظبي. ثمّ مخية والشّرقي: لآل باتيس، نحو مئة رام، وعندهم نحل كثير جيّد العسل، وهم على اتّصال بقبيلتهم أهل السّدّة السّابق ذكرها.
ثمّ خربة باكرمان: فيها جامع، وسكّانها من يافع المتوالدين بها، وسادة من آل الكاف. منهم بها أو بعمد: الفاضل السّيّد أحمد بن عبد الله بن سالم، أثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» بالفقه والنّباهة والورع.
وقد زار سيّدي الوالد بمكاننا المسمّى: (حوطة علم بدر)، في يوم الإثنين (20) شعبان سنة (1308 ه)، وحصلت منه الإجازة والإلباس لوالدي ولي وللشّيخ محمّد بن شيخ الدّثنيّ، وكانت مذاكرات علميّة شهيّة في ذلك المجلس الشّريف. هكذا وجدته بخطّ الدّثنيّ المذكور.
وفي «المواهب والمنن» للسّيّد علويّ بن أحمد بن حسن الحدّاد: (أنّ السّيّد علويّ بن محمّد الكاف ساكن وادي عمد وادي قضاعة بحضرموت.. كان مع سيّدي الوالد في المركب الّذي انكسر بهم قريبا من القنفذة في سنة «1157 ه»).
وفي الخربة المذكورة جماعات من آل باكرمان، وهم مشايخ، وعندهم أوشاب من الرّعايا.
ثمّ الشّعبة، وهي بالوادي الشّرقيّ، وسكّانها آل العموديّ، مشهورون بكرم الضّيافة، وفيها خزانة كتب للشّيخ العلّامة عمر بن أحمد العموديّ، المقبور بالقنفذة، وفيها أوشاب من الرّعايا.
ثمّ الوجر، فيه نحو أربعين راميا من آل ماضي. ثمّ طمحان، فيها جامع وبيت للضّيفان، أوقافه منسوبة للحبوظيّ.
وفيها جماعة من آل ماضي، ومنها ـ حسبما يقال ـ أبو الطّمحان القينيّ، ويتأكّد بما سبق أنّ بني القين أوّل من سكن وادي عمد، من قضاعة، وقد ترجم له في «رشيدة الإخوان»، وصرّح بولادته في حضرموت بوادي قضاعة مسكن بني القين، وذكر أنّه أصاب دما في قومه فهرب إلى ديار فزارة مستجيرا بمالك بن سعد الفزاريّ.. فأجاره وأكرم مثواه إلى أن توفّي.
وقد ذكرت ما أخرجه صاحب «الأغاني» من خبره مع قيسبة بن كلثوم السّكونيّ في «الأصل».
وفيها الآن شيخ شهم من آل العموديّ، يقال له: أحمد الأشرم، تزوّج بمخلّفة السّيّد عيدروس بن حسن بن محمد بن إبراهيم بلفقيه، وقد جرت لها قصّة، حاصلها:
أنّ السّيّد عيدروس هذا كان غائبا، ففقد وانقطع خبره، ففسخت نكاحها منه؛ لتعذّر النّفقة فسخا صحيحا، أمضاه قاضيهم السّيّد العلّامة عبد الله بن محمّد المساوى، المتوفّى بشقرة، واقترنت بأحد آل عمر بن جعفر الكثيريّين بقيّة الدّولة البائدة، ولمّا بنى بها.. هجم عليهم آل شملان وانتزعوها منه عنوة بغير مبرّر شرعيّ، سوى أنّهم قالوا: إنّ كثيرا من أبنائنا غائبون ولا ينفقون على زوجاتهم، وبانفتاح هذا الباب ينجم شرّ كبير.
وأنا كثيرا ما أنعى على المتعصّبين من الفقهاء تشدّدهم في منع الفسخ؛ لأنّ الدّين يسر لا حرج فيه، ولن يشادّه أحد إلّا غلبه، وقد جاء في «الغنية» لسيّدي الإمام العارف بالله، شيخ الشّيوخ، السّيّد عبد القادر الجيلانيّ أنّ: (للمرأة الفسخ بعد مضيّ ستّة أشهر لغيبة زوجها) وهو قريب من مذهب سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وإلى جانب طمحان: المكان المسمّى جاحز: وفيه يسكن آل عمر بن جعفر المذكورون، وآل جنيد من المشايخ آل باوزير.
ثمّ حبره: قرية صغيرة لآل ماضي، لا مسجد بها!
ثمّ بلد عمد، وفيها آل العطّاس، منهم: الإمام الكبير صالح بن عبد الله، المتوفّى بها في سنة (1279 ه)، وولداه الكريمان الصّالحان: عمر بن صالح، ومحمّد بن صالح، وابن أخيه محمّد بن أحمد بن عبد الله.
وفيها جماعة من آل الشّيخ أبي بكر بن سالم؛ منهم السّيّد العظيم الشأن صالح بن عبد الله الحامد، ومنهم الصّالح السّليم البال حسين بن محمّد المتوفّى بها سنة (1301 ه)، له أخبار عجيبة؛ منها: أنّه أعلم والي عدن في طريقه إلى الحجّ بأنّه واصل، وطلب منه أن يلاقيه.. فلاقاه إلى أثناء الطّريق على عادة الحضارمة مع المناصب، وأهدى له طرفا وكمّيّة من الرّبّيّات.
وهم من ذرّيّة السّيّد عيدروس بن سالم بن عمر بن الحامد ابن الشّيخ أبي بكر.
وممّن يسكن عمدا السّادة آل مساوى، ومنهم: السّيّد عبد الله بن محمّد السّابق ذكره، ومنهم السّيّدان عمر وأحمد ابنا هاشم المساوى، لطيفان ظريفان، راويتان لأشعار القبائل وزواملهم، توفّي أوّلهما بعمد في حدود سنة (1348 ه)، والثّاني بعده بسنة.
وعلى مقربة من عمد إلى شماله قرية يقال لها: حبب، يسكنها آل شملان، والمقدّم فيهم: عوض بن سعيد بن شملان.
وفيها لفيف من السّوقة، وبها جامع ومنزل للضّيفان من آثار الحبوظيّ.
ثمّ النّعير، فيه سادة من آل الشّيخ أبي بكر وآل العطّاس، ومشايخ يقال لهم: آل باحسين. وقبائل يقال لهم: آل لجذم، من الجعدة. وفيها جامع.
ثمّ عنق، فيها سادة من آل العطّاس، منهم الآن: السّيّد محمّد بن عبد الله الهادي، له يد في إصلاح ذات البين.
وفيها ناس من آل الشّيخ أبي بكر؛ منهم: السّيّد الصّالح محمّد بن محسن، المتوفّى بها في سنة (1302 ه)، وفيها حرّاثون، ولها ذكر في التّاريخ.
ثمّ منخوب: قرية صغيرة في فم الوادي، وهي مرعى خصيب للبهائم، وإليه كان يرسل الحسين ابن الشّيخ أبي بكر بخيله للرّعي، والقرية المذكورة لآل باسبيت، ونحو ثلاثين رام من آل عامر بن عليّ الجعيديّين.
ثمّ الرّحب ـ بكسر الرّاء ـ وسكّانه من القرار، وفيه جامع، وبيت للضّيفان من أوقاف الحبوظيّ، وفيه مشايخ من آل بامسق وآل حاجب، وسوقة.
ثمّ خنفر، وفيه سادة من آل الحبشيّ؛ منهم: الإمام العظيم العلّامة عيسى بن محمّد بن أحمد الحبشيّ، المتوفّى بها في سنة (1125)، له عقب منتشر بالرّحب والرّيدة وسر وعنق والغرفة.
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر سميط أنّ جلوسه في وادي عمد كان بإشارة شيخه عمر بن عبد الرّحمن العطّاس.
وفي «شمس الظّهيرة»: (أنّ بخنفر جماعة من ذرّيّة الشّيخ عمر بن عليّ بن أبي بكر بن عبد الرّحمن السّقّاف).
ومن صلحاء خنفر: الشّيخ الفقيه، الأجلّ الورع، الفاضل، محمّد بن عبد الله باحارث، توفّي بها سنة (884 ه).
وذكر الطّيّب بامخرمة خنفرا باليمن من أرض أبين: (وهي قاعدتها، وبها جامع حسن البناء، جيّد العمارة. ومئذنته طويلة، وهي أعجوبة.
وكان بها فقهاء صالحون؛ منهم: الشّحبليّ.
وفيها متصوّفة يسمّون البركانيّين، يدهم للشّيخ مور بن عمر بن الزغب، وكانوا يسافرون بركب اليمن من الشّحر وأحور وأبين والجبل جميعه وتهامة جميعها، ويزورون قبر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبة الصّوفيّ البركانيّ، ويعود بالزّائر والواقف قفولا كما يخرج عن بلده. ذكر ذلك القاضي مسعود على ما كان في زمنه، أمّا اليوم.. فإنّها خراب، استولى عليها البدو من الهياثم والعوالق وآل أيّوب وغيرهم من داعية الفساد، وانتقل البركانيّون الّذين كانوا بها إلى وادي لحج.
وفي عصرنا هذا ـ وهو سنة (928 ه) ـ تطرّق فساد البدو إلى وادي لحج، وخرب أكثرها وغالب قراها بسبب التفات الدّولة إلى جمع الحطام الفاني، وعدم اعتنائهم بمصالح المسلمين، فالله يختم بخير) اه
ومن موضع آخر منه يقول: (إنّ الهياثم هم سلاطين دثينة، والمقدّم فيهم لعهده: حيدرة بن سعود وولده محمّد، لا أسعدهم الله) اه
وأخبرني جماعة من اليافعيّين أنّ خنفر هذه كانت ملكا للسّلطان عيدروس اليافعيّ، فاستأجرتها حكومة عدن لمدّة أربع سنين، ولمّا مضت.. طلب ارتفاعهم، فطلبوا ما أنفقوا، وقدّروه بسبعين ألف ربيّة هنديّة فدفعها، ثمّ عادوا بعد سنتين محاربين، وقتل ضابط إنكليزيّ وأربعة من يافع، واستولوا على الأرض إلى اليوم.
الجدفره: فيها ناس من آل العطّاس، وثلاثة بيوت من الجعدة.
ثمّ سراواه: وفيها ناس من الجعدة يقال لهم: آل علي ـ بكسر العين ـ وكانت لهم قبولة حارّة، لا يزالون يتناشبون الشّرّ مع جيرانهم آل الجدفرة وآل هلابي، وفي أشهر لقياتهم قتل من الطّرفين أكثر من ثمانية بمكان يقال له: باوردان، من ضواحي الرّحب، فصار مضرب المثل في التّهلكة، فيقال: فلان وقع في حفرة باوردان.
ثمّ لفحون، وسكّانها آل هلابي وآل عفيف من الجعدة، وفيها جامع ومنزل للضّيفان من آثار الحبوظيّ، وفيها مصرع الحبيب عمر بن حسين بن عبد الرّحمن العطّاس.
ثمّ الرّحم، فيه آل حميد من الجعدة، تقدّر رماتهم اليوم بأربعين، فيه مسجد، وللضّيف في بيوتهم سعة.
ثمّ زاهر باقيس، وفيها جامع ومنزل للضّيفان من آثار الحبوظيّ، وفيه آل باقيس، منصبهم: الشّيخ عمر بن أحمد باقيس. وكان بناء زاهر هذه في سنة (736 ه).
ثمّ قرن ابن عدوان، فيه مشايخ من آل باوزير، منصبهم: الشّيخ عبد الله بن سعيد. وفيه جامع ومنزل للضّيفان من جملة صدقات الحبوظيّ.
وفيه آل أحمد بن عليّ من قبائل الجعدة، ويقال للجعدة: مرّة، إمّا نسبة إلى مرّة بن زيد بن مالك بن حمير ـ وهو كما سبق جدّ قضاعة ـ وإمّا إلى أحد من ذرّيّة قضاعة، يقال له: مرّة.
وقيل: إنّهم من مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عمرو بن زيد بن كهلان، ومرّة هذا أخو الأشعر وطيّء ومذحج، وهو جدّ كندة الثّالث؛ لأنّ كندة هو كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد.
وفي الجزء الأوّل من «الإكليل» للهمدانيّ [203 ـ 204]: (أنّ مرّة بن حمير بطن؛ منهم: ربيعة ذو مرحب بن معدي كرب بن النّعمان، القيل بحضرموت، وهو الّذي أنجد الحارث بن معاوية بن مالك بن معاوية بن عوف بن حريم الجعفيّ ـ الملقّب بالأسعر ـ على قتله أبيه، وأعطاه فرسا من رباطه يقال له: المعلّى، وراشه بالجند والسّلاح، وله خبر طويل.
قال أبو نصر: فأولد ربيعة ذو مرحب بن معدي كرب بن النّضر حليلا وذا المسوح.
وقال غيره من علماء اليمن: أولد مرّة بن حمير عمرا وربيعة، فأولد ربيعة الأحول وذا المسوح. والكلبيّون وأهل المسجل يقولون: إنّه مسروح.
وأولد عمرو بن مرّة قبائل بحضرموت، منها دخلت في مهرة بن حيدان، ومنهم العجلان، وإليه تنسب العجلانيّة بحضرموت: ذو أصبح، وذو النّعرين) اه
وهم قبائل كثيرة؛ منهم: آل هلابي، وآل غانم، والمراضيح، وآل شملان، وآل لجذم، والرّوامضة، وآل الشّيبة، وآل عامر بن عليّ، وآل سليمان بن عليّ، وآل أحمد بن عليّ.
والصّقرة، ومساكنهم: نفحون، والسّيلة، والجدفرة، وسراواه، وحدّ عنق، والبطيخ، والنعير، وتبرعة، وعمد ونواحيها.
ومن أعمال وادي عمد: حريضة.
قال الحبيب أحمد بن حسن العطّاس في «سفينته»: (قال الطّيّب بامخرمة في كتابه «نسبة البلدان»: سمّيت حريضة باسم قبيلة من حمير، ويسكنها السّكون من كندة) اه
ولعلّ هذا النقل عن الطّيّب من غير مادة حريضة؛ أمّا فيها.. فلم يزد على قوله: (حريضة بالكسر، كضدّ الجبر، أسفل من وادي عمد، مقابلة لعندل) اه
وقوله: (بالكسر) يعني الصّقع الآتي ذكره، وفيه تسامح؛ لأنّ الأكثر عدّ حريضة في عمد لا في الكسر.
وقد فهم بعضهم من قوله: (بالكسر) أنّه يريد كسر الحاء من حريضة، وليس كذلك.
ومن كتاب باشكيل: (أنّ آل عليّ بن سالم آل حريضة من بني يزيد بن معاوية بن كندة).
وقال بعضهم: إنّ حريضة مصحّفة عن قريضة، ودلّل على ذلك بأنّها كانت مسكن اليهود قبل البعثة بأربع مئة سنة.
ومن «دشتة» وجدت بزاهر باقيس: (وحريضة كانت تسمّى قريضة، ترد إليها القوافل من صنعاء ومأرب، وكانت بها أسواق، وهي من بلاد عاد القديمة).
وفي بعض مذكّرات الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: (أنّ حريضة كانت ذات جاهليّة صمّاء، وطاغوتيّة عمياء، وكانت لليهود قبل النّبوّة، فأسلموا بكتابه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ ارتدّوا إلى اليهوديّة، وبقوا عليها إلى زمان المهاجر أحمد بن عيسى، فأسلموا على يده وحسن إسلامهم، وإنّما بقيت لهم نزغات يحييها الجهل ويطفئها العلم). نقله العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس، والشّيخ محمّد بن أحمد بامشموس، من «مناقب الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس».
وجاء في كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد: (أنّ الحبيب عمر العطّاس كان كآبائه في النّسك، فأشار عليه شيخه الحبيب حسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم أن يرحل إلى حريضة ليعلّم أهلها؛ علّهم يفيقون ممّا هم عليه من الجهل والغلظة، وقال له: لو أعلم أحدا أجفى منهم.. لبعثتك إليهم، فسار إلى هناك، وألفاهم على جاهليّة جهلاء، يبيتون مختلطين رجالا ونساء على ما يسمّونه الظّاهري، فلم يسعه إلّا أن دخل فيهم، وجعل يلقي عليهم الأراجيز في ألعابهم، ثمّ أشار عليهم بعزل النّساء عن الرّجال، وما زال يتدرّج في نصحهم وإرشادهم ـ كمؤمن آل فرعون في ترتيب دعوته لقومه ـ حتّى انكفّوا عن العادات السّيّئة، وأقبلوا على الدّين والصّلاة بفضل هذه السّياسة والرّفق) اه بمعناه
وقد تكرّر هذا في كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد، ولاحظ عليه سيّدي أحمد بن حسن العطّاس: أنّ الحبيب عمر بن عبد الرّحمن لا يقول الشّعر.. فلعلّه الحبيب عليّ بن حسن؛ لأنّه الشّاعر الّذي لا يدافع، ولكنّه لا يمكن أن يكون الحبيب عليّ بن حسن؛ لأنّه لم يوجد بعد، ولئن لم يكن الحبيب عمر شاعرا.. فلعلّه كان راوية.
ولم يزل ناشرا الدّعوة إلى الله بحريضة، صابرا على المشقّات الهائلة، حتّى لقد استقلّ القطب الحدّاد شأن نفسه لمّا رأى ما كان عليه الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس من المجاهدات والكلف والمشقّات.
توفّي الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس بحريضة، سنة (1072 ه).
قال في «شمس الظّهيرة» [249 ـ 253]: (له تسعة بنون: مشيّخ، وشيخ، وشيخ، ومحسن، وعليّ.. انقرضوا. وعبد الله، له عقب بعنق، والجدفرة، ولحروم، وجاوة، وبهان. وعبد الرّحمن، عقبه بحريضة، وجاوة، والهند، ولحروم، وسالم، عقبه بالصّيق قرب حريضة، وسدبة، وكيرعان، والجبيل، وموشح، والهند، وباكلنقان، وكاتي دار، وفلفلان. وحسين بن عمر، وله ثمانية بنون: منهم: محسن، عقبه بحريضة. ومنهم: السّيّد الفائق على أهل زمانه في العلوم، الحريص على تقييد الفوائد وسيرة السّلف، أحمد البصير بن حسن.
ومناصبها الآن ـ أي: في سنة (1307 ه) ـ حسن بن عبد الله والد أحمد المذكور، وزين بن محمّد، شريفان كريمان قائمان بعادات سلفهم. ومنهم: طالب، عقبه بحريضة، ومنهم: الإمام الخليفة أبو بكر بن عبد الله بن طالب، المتوفّى بها سنة (1281 ه) اه باختصار.
وقد أخذت أنا عن السّيّد أحمد بن حسن، وامتدحته ورثيته بقصيدتين توجدان بمحلّهما من «الدّيوان» [388 و 391].
وكثيرا ما حدّثنا الشّيخ الجليل حسن بن زين بن عوض مخدّم، عن شيخه العلّامة الجليل أبي بكر بن عبد الله بأمور عجيبة عن مشاهدة، ولكن أخبرني جماعة آخرهم الشّيخ عمر بن عوض شيبان: أنّ السّيّد عليّ بن سالم الآتي ذكره في عينات حضر مجلس سيّدي الأبرّ في السّوم ـ الواقع بين الغرفة وسيئون، أو الواقع في طريق نبيّ الله هود عليه السّلام، لا أدري أيّهما كان، والأوّل أقرب ـ فأشار إلى تفضيل الحبيب أبي بكر هذا على سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر.. فغضب سيّدي الأستاذ الأبرّ، وخرج على عادته بإظهار ذلك وقال له: إن أبيت.. باهلناك، وستعلم. فانكسر السّيّد عليّ بن سالم حينئذ وتضاءل حتّى كاد يذوب.
ولم يذكر شيخنا المشهور صاحب الجاه العظيم، والفضل الجسيم السّيّد عبد الله بن علويّ بن حسن العطّاس، مع أنّه لا يجهل قدره؛ لأنّ ظهوره إنّما كان بعد انتهاء «شمس الظّهيرة»، توفّي بحريضة في سنة (1334 ه).
ولم يذكر الصّالح المشهور السّيّد عبد الله بن محسن العطّاس، المتوفّى ببوقور من أرض جاوة في سنة (1352 ه) عن عمر نيّف على الثّمانين.
ولمّا توفّي العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس.. وقع لواؤه على حفيده حسن بن سالم بن أحمد العطّاس، وكان شهما كريما ظريفا، توفّي بالمكلّا في سنة (1360 ه)، وخلفه على المنصبة عمّه عليّ بن أحمد بن حسن العطّاس، وهو ولد نبيه، مفتوح الأبواب، موطّأ الأكناف.
ولمّا توفّي السّيّد زين بن محمّد.. خلفه على المنصبة ولده عمر بن زين؛ لأنّه لا يزال بحريضة منصبان.
ومن أعيان حريضة الآن: السّيّد أبو بكر بن عبد الله بن أحمد العطّاس، رجل شهم، يقوم بتسهيل الطّريق لكلّ من يرد جاوة من الحضارم وغيرهم، وهو كثير التّنقّلات في البلاد.
ومنهم: السّيّد محمد بن سالم بن أبي بكر. ومنهم: السّيّد محمّد الخيّل، والسّيّد سالم بن عمر. ومنهم: السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله بن علويّ، والسّيّد عليّ بن سالم بن أحمد، له شعر وأدب وحرص على الفوائد، وهو على قضاء حريضة الآن.
وفي غربيّ حريضة كثير من الآثار القديمة، وقد أسفر الحفر في الوقت الأخير في آثار حريضة عن بيوت مطمورة تحت الأرض، فيها معابد للقمر، لا تخلو عن آثار قيّمة، ربّما كان للحافر عنها غرض في الإخفاء.
وحول معبد إله القمر الّذي ظهر هناك كثير من المباخر، وعلى بعض الحجارة كتابات قديمة ترجع إلى أكثر من ألفي سنة، وفي بعضها ما ترجمته: (يا لبان.. يا كوكبان.. بلّغ الإله السّلام)، والجزء الأوّل من هذه الجملة مشهور بكثرة على ألسنة العامّة بحضرموت، ورجوع عهد الكتابة إلى أكثر من ألفي سنة يعرّف أنّ لمثله اتّصالا بأديان الحضارم القديمة، وكثير من آل حضرموت كانوا يعبدون الشّمس ويسمّونها (الإلاهة)، وفيها يقول الأعشى [من المتقارب]:
«فلم أذكر الرّهب حتّى انفتلت *** قبيل الإلاهة منها قريبا»
ويريد بالإلاهة: الشمس.
كان بعض القرّاء يقرأ: (لتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلاهتك).
وفي شمال حريضة إلى الشّرق: بئر عميقة، ينزل إليها بدرج طويلة، كلّ درجة منها في طول قامة الإنسان، مشهورة ببير غمدان، يتعالم الخلف عن السّلف بكثرة كنوزها وذهبانها، ولهم عنها أخبار كثيرة، يقصدها السّيّاح، غير أنّهم متى نصفوها.. انطفأت عليهم النّار الّتي يجرّبون بها.. فينثنون؛ لأنّ ما تنطفىء به النّار.. تفيض به الرّوح، ولكنّ بعضهم يفكّر في تغطية وجهه بغطاء سميك يمكن معه التّنفّس في أنابيب تبقى على رأسه.
وتلك البئر في قارة إلى جانب الجبل المسمّى غمدان، وهو في شرقيّها إلى جهة الشّمال، وفيه آثار حصن بالية.
ومن أعمال عمد: لحروم، وقد مرّ في جردان عن «القاموس»: (أنّ الصّدف ولد حريما ويدعى بالأحروم).. فلا شكّ أنّ هذه البلاد على اسمه.
وفيها جامع، وسكّانها من آل العطّاس، ومنهم الآن: صالح بن محمّد العطّاس، رجل شهم جزل الرّأي، كبير الهمّة، كثير الإقدام وهو الآن بجاوة. وفيها ناس من آل باعشر وغيرهم.
وبعدها: عندل، قال ابن الحائك في «صفة جزيرة العرب» [167]: (هي مدينة عظيمة للصّدف، وكان امرؤ القيس بن حجر زارهم فيها، وفيها يقول: [من الطّويل]:
«كأنّي لم ألهو بدمّون ليلة *** ولم أشهد الغارات في بطن عندل) اه»
وفيها جامع ومنزل للضّيف على صدقات الحبوظيّ. وسكّانها آل باجابر، ومنصبهم الآن: الشّيخ أحمد بن عمر باجابر.
ومن كتاب «نهاية الأنساب» بخطّ الشّيخ عليّ باصبرين، عن الشّيخ عمر العموديّ، عن الحبيب عبد الله العيدروس: (أنّ آل باجابر والشّيخ مزاحم صاحب بروم.. من ذرّيّة عقيل بن أبي طالب). ومثله منقول عن العلّامة القاضي عبد الله بن أبي بكر القدري باشعيب الأنصاريّ، وعن العلّامة عبد الرّحيم بن قاضي باكثير اللّذين تولّيا القضاء بتريم.
وقال الحبيب عليّ بن حسن العطّاس في «سفينة البضائع»: (يقال: إنّ آل إسحاق من نسل العبّاس بن عبد المطّلب، وقد أشار إليه أحد شعرائهم في شعره. وما أظنّه يصحّ، وكذلك يقال: إنّ آل باجابر من نسل عقيل بن أبي طالب، وقد سئل الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد.. فلم يوافق عليه) اه
ولكنّ السّيّد عبد الرّحمن بن مصطفى العيدروس نزيل مصر أكّده.
وفي النّصف الثّاني من «المواهب والمنن» للحبيب علويّ بن أحمد الحدّاد في ترجمة جدّه الحسن: أنّ الشّيخ عبد الجبّار بن مزاحم قائم بمنصب أجداده آل بلحفّار بأحور، وهو من تلاميذ الحسن ابن القطب الحدّاد، وكذلك ابنه الشّيخ محمّد بن عبد الجبّار، وأولاد عمّه الشّيخ أبي بكر.
وفيه أيضا: أنّ الشّيخ الجلاليّ الحال بلحفّار.. انتفع بالقطب العيدروس عبد الله بن أبي بكر.
ومن آل باجابر: الشّيخ الصّوفيّ أحمد بن عمر، صاحب «جوهرة عقد العروس»، وله أماديح في السّادة آل العيدروس؛ منها قوله في رثاء سيّدنا عبد القادر بن شيخ
[من المديد]:
«لم يزل منهم لنا علم *** قائم للحقّ ينتصر»
«فلئن ولّى لنا خلف *** كلّهم من بعده اشتهروا»
ومنهم: الشّيخ أحمد بن محمّد بن عبد الرّحيم باجابر، كان علّامة فقيها، وله أدب غضّ، تكرّر ذكره في «النّور السّافر»، وذكر له في (ص 396) منه أبياتا يمدح بها العلّامة ابن حجر الثّاني، وهي [من الكامل]:
«قد قيل من حجر أصمّ تفجّرت *** للخلق بالنّصّ الجلي أنهار»
«وتفجّرت يا معشر العلماء من *** حجر العلوم فبحرها زخّار»
«أكرم به قطبا محيطا بالعلا *** ورحاؤه حقّا عليه تدار»
والمعنى قويّ وإن كان اللّفظ ضعيفا متكلّفا.
ومن آل باجابر: الشّيخ المتفنّن، أحمد بن محمّد باجابر، ترجمه السّيّد باحسن في «تاريخه للشّحر»؛ لأنّه سكنها، ومن شعره لغز في عثمان رفعه للشّيخ عبد الصّمد باكثير فحلّه.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
42-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الضليعة)
الضّليعةهي قاعدة ريدة الدّيّن، بينها وبين يبعث الواقع في غربيّها مسيرة يوم، وكان يقال لها: ريدة أرضين، ثمّ قيل: ريدة الدّيّن، نسبة إلى سكّانها المتأخّرين.
وفي «القاموس»: أنّ بحضرموت ريدتين، يعني هذه وريدة الصّيعر.
والواقع: أنّ بحضرموت ريدا كثيرة للجوهيّين والمعارّة وغيرهم، وإنّما خصّت الأوليان بالذّكر لشهرتهما وقدمهما. وسيأتي في ريدة الصّيعر عن الهمدانيّ: أنّ إليها الإشارة بقول طرفة بن العبد [من الطّويل]:
«وبالسّفح آيات كأنّ رسومها *** يمان وشته ريدة وسحول »
وقال أبو طالب ـ عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأبي أميّة بن المغيرة
[من الطّويل]:
«فيصبح أهل الله بيضا كأنّما *** كستهم حبيرا ريدة ومعافر »
والمعافر من أرض اليمن، وأمّا الرّيدة.. فهذه، أو ريدة الصّيعر، وإن كان في اليمن ريد مشهورة.
ولمّا وصلت جيوش المتوكّل على الله إسماعيل بقيادة الإمام أحمد بن الحسن إلى هذه الرّيدة سنة (1069 ه).. لاقاه الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن العموديّ، وساعده بكلّ من أطاعه، وكان الشّيخ إذ ذاك واليا على أكثر بلاد دوعن، وبهم انهزم بدر بن عبد الله الكثيريّ أشنع انهزام، حسبما فصّل بمواضعه من «الأصل».
والشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن العموديّ هذا هو غير سميّه العلّامة الشّهير المعمّر، وإنّما هما من قسم المتّفق المفترق فيما أظنّ؛ لأنّ هذا علّامة صوفيّ، وذاك أمير يقود الجيوش، ويذكي الحروب، وإنّما اتّفقا في أسمائهما وأسماء آبائهما.
وقد جاء في «عقد» سيّدي الأستاذ الأبرّ عندما ذكر مشايخ الحبيب عبد الله بن أحمد بلفقيه: أنّ العلّامة الصّوفيّ توفّي يوم السّبت (24) جمادى الأولى سنة (1072 ه)
وفي «الأصل»: أنّ الشّيخين حسين بن مطهّر ومحمّد بن مطهّر آل العموديّ لاقوا الشّيخ عمر بن صالح بن هرهرة ـ السّابق ذكره ـ في الضّليعة، وحالفوه على سلطان حضرموت عمر بن جعفر، ثمّ حالفوا عمر بن جعفر على الزّيديّة، وكان لهم كلّ حين لون.
وفي «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [170]: (أنّ ريدة العباد وريدة الحرميّة للأحروم من بني الصّدف، وأنّ مسكن بني معاوية الأكرمين كان بقبضين، ويستشفي بدمائهم الكلب) اه
وكلّما ذكر ابن الحائك ريدة أرضين أو قبضين.. فالظّاهر أنّه إنّما يعني ريدة الدّيّن هذه.
وقد قال فيها [168]: (ومن الهجرين إلى ريدة أرضين واد فيه قرى كثيرة ونخيل للعباد من كندة) اه
وهذا الوصف ينطبق على دوعن ووادي عمد، إلّا أنّه يشكل على إرادة دوعن بأنّ ذكر دوعن موجود بالصّريح في غير موضع من كتاب ابن الحائك، فلو عناه.. لذكر اسمه بالصّريح.
ويشكل على إرادة عمد قوله: (للعباد من كندة) مع ما تقرّر أنّه لقضاعة من حمير.
وقد يجاب عن هذا: بأنّ كندة اختلطت بحمير وخلفتها على كثير من منازلها، ويتأكّد هذا بأنّ وادي عمد كان أخصب مرعى في حضرموت، ولذا كانت الأعيان ترسل مواشيها من أسفل حضرموت لترعى منه، وقد ذكر غير واحد أنّ للحسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم عددا كثيرا من الخيل يرسلها إليه للرّعي.
ومن خطّ الشّيخ محمّد بن عبد الرّحيم بن قاضي، عن خطّ الفقيه عبد الله بن عليّ بن عبد العليم بانافع: (أنّ قبائل السّوط من حمير) اه
وقبائل السّوط كما سبق قبيل ذكر وادي عمد هم: آل باتيس، وآل سميدع، وآل بلعبيد، وهم: آل هميم، وآل باهيصمي ـ وهو الرّأس ـ وباساع، وباكرش، وباحيّان، وآل باغس، وآل باسمير، وآل باوهّاج، وغيرهم. وقد سبق أنّهم يناهزون ألف رام.
ويأتي آخر الكتاب ما يشير إلى أنّ آل بلعبيد من قضاعة، وهو موافق لما جاء عن بانافع؛ لأنّ قضاعة من حمير، وهي تمتدّ من رؤوس وادي جردان إلى رؤوس وادي رخية.
ومن خطّ الشّيخ أحمد بن محمّد مؤذّن باجمال، عن كتاب «الفرج بعد الشّدّة في أنساب فروع كندة» لعوض بن أحمد الجرو: (أنّ ريدة الحرميّة للأحروم من الصّدف، ومن آل لحروم: آل مروان وآل أبي سهل وبنو يمامة بنجران، والصّدف الّذين بريدة الدّيّن من ولده) اه
فيتحصّل أنّ سكّان الرّيدة ـ وهي من السّوط ـ أخلاط من حمير ومن الصّدف وغيرهم.
ومن أخبارهم الأخيرة: أنّ آل باصليب الضّاربين بالحيلة من وادي عمد كان لهم ثأر عند آل بامسدوس، فلم يقدروا عليه لمناعة أرضهم، حتّى صاروا ضحكة بين السّماسرة يؤذونهم بالكلام.
«والعار مضّاض وليس بخائف *** من حتفه من خاف ممّا قيلا »
فلم يكن منهم إلّا أن انتخبوا سبعة من رجالهم، فركبوا متن اللّيل حتّى وصلوا إلى حصن لهم بالضّليعة ـ بلغهم خلوّه من السّكّان ـ وكانوا استعدّوا بكثير من الماء والزّاد والعتاد، فتسوّروا الحصن، ولمّا بدر لهم المطلوب.. أطلقوا عليه الرّصاص، فخرّ صريعا لليدين وللفم، ولكنّهم لم يقدروا على الهرب، وتضرّر كلا الطّرفين: آل باصليب بالانحصار في الحصن، والدّيّن بانكشاف مواضع تصرّفهم لبنادق آل باصليب، حتّى توسّط بعض المناصب، وبعد أن طالت المراجعة في الارتجاز ـ الّذي لم يرض الخروج صلحا بدونه آل باصليب ـ سمحوا لهم به، فقال شاعرهم:
«سبعه سروا من حيلة احمد بن علي *** باروتهم عند السّما متحلّق »
«والدّيّني غافل ولا ظنّ الوفا *** جئته من الجو والفنا متغلّق »
ومن أخبارهم: أنّ السّيّد محمّد بن عمر بن علويّ باعقيل استجار بالدّيّن، هاربا من السّيّد حسين بن حامد المحضار، فبذلوا له الأمان، وهم: آل بامسدوس، وآل الهميم، والمشاجرة.
ولمّا جدّ الجدّ.. قال له الأخيرون: لا نجيرك من الدّولة، وأمّا ممّن دونهم.. فنعم.
وأمّا آل بامسدوس ورئيسهم سالم بن عليّ باغشمي.. فثبت مع باعقيل، فلم يكن من السّيّد حسين بن حامد إلّا أن زحف عليهم بعسكر من جند القعيطيّ يتألّف من ألفين وأربع مئة، على رأسهم أخوه السّيّد عبد الرّحمن بن حامد ومحمّد بن عمر بن أحمد باصرّة، فتقدّمت العساكر إلى مكان يقال له: الأبيضين، وإلى مكان آخر يقال له: وليجات، ودام الحرب نحوا من شهرين، حملت فيه العساكر القعيطيّة على آل بامسدوس مرّتين، في كلتيهما يصلونهم نارا حامية، فيتراجعون بعد أن قتل منهم في الهجمتين أكثر من العشرين بدون أن تراق من آل بامسدوس محجمة من الدّم.
فما زالوا بحامية ـ قارة صغيرة هناك ـ حتّى أرضوهم بما شاؤوا من الدّراهم، فسلّموها لهم، فانكشفت بطاح آل بامسدوس حينئذ لمدافع العسكر القعيطيّ، فطلبوا مساعدة ماليّة من محمّد بن عمر باعقيل؛ لشراء الذّخيرة حتّى يتمكّنوا من مواصلة الحرب، وكان مثريا.. إلّا أنّه لئيم، فلم يعطهم قليلا ولا كثيرا، فتوسّط السّيّد عمر بن طاهر بن عمر الحدّاد والشّيخ محمّد بن بو بكر باسودان، وذمّوا إليهم باعقيل، وزيّنوا لهم تسليمه، ومحالفة القعيطيّ إزاء ما يرضيهم من النّقود، ففعلوا، وعندها وصلوا بباعقيل مصفودا في القيود إلى مصنعة عوره.
قال السيّد حسين بن حامد المحضار:
«سلام منّي عالمناصب والدّول *** خصّ المقدّم والمسمّى باعقيل »
«يومه مطرّد من جبل لمّا جبل *** ما قايس أنّا با نردّه بالصّميل »
فأجابه أحد الدّيّن بما لا أذكره.. ثمّ قال السّيّد حسين:
«حيّا بكم يالّي قضيتوا شغبكم *** بالسّيف والقوّه وصرّات الخزين »
«ما الدّيّني شلّ الحموله مثقله *** كنّه طرحها بعد ذلك يا هوين »
فأجابه أحمد بن عبيد بن مسلّم بن ماضي بقوله:
«لو لا قروشك لي معك قدّمتها *** جيشك رجع مكسور يا سيّد حسين »
«ولّا الوعول المربعيّه شفتها *** عيال يافع في المقابر من ثنين »
أمّا الحلف.. فقد تمّ بين الدّيّن والقعيطيّ بواسطة الدّراهم والسّيّد حسين، وسلّمت لهم الدّيّن رهائن الرّضاء، وما زالت رهائنهم تحت المراقبة في مصنعة عوره حتّى جاء نحو ستّة نفر من آل بامسدوس ذات يوم في حدود سنة (1358 ه) فأخذوا رهائنهم، وهربوا ضحوة النّهار، ولم تحبق في ذلك ضأنة.
وأمّا باعقيل.. فبقي مقيّدا بسجن المكلّا، وظفروا بولد له بعد ذلك أوان البلوغ، فزجّوه معه في السّجن، وآلوا أن لا يطلقوه إلّا بغرامة الحرب المقدّرة بمئتي ألف ربيّة، حتّى وردت المكلّا في سنة (1346 ه) فتوسّطت في إطلاقه بخمسين ألف ربيّة فقط، فتمّ ذلك في قصص طويلة مستوفاة في «الأصل».
وكنت اجتمعت بالسّيّد حسين بن حامد بعد إلقائه القبض على باعقيل، فأنشدني كثيرا من المساجلات الّتي دارت بينه وبين الدّيّن، ولمّا أنشدني الزّامل الأوّل.. انتقدته، وقلت له: لا يليق زجّ باعقيل في السّجن والقيد، بعد أن خصصته بالسّلام، ولو أنّك استثنيته.. لكان لك بعض العذر، أمّا الآن.. فلا.
فسقط في يده، وما أحسّ بها إلّا تلك السّاعة، وكان يهاب الملام ويعرف مقادير الكلام، وكانت شهامته تقتضي إطلاقه، ولكنّ ولده أبا بكر لم يكن ليساعده على ذلك، لأنّ العداوة إنّما تأصّلت بين باعقيل وبينه.
ومن الضّليعة إلى دوعن يوم واحد، تنزل الطّرق من أعلى جبل السّوط الشّاهق إلى أكثر بلاد دوعن؛ كالخريبة والقويرة وبضه وقيدون. فمنه إلى كلّ واحدة منها طريق كلّها عقاب كأداء، إلّا أنّ أقلّها وعورة ـ بالنّسبة فيما يقال ـ: طريق بضه.
وبالنّجيدين من ريدة الدّيّن كثير من المشايخ آل العموديّ، منهم: الشّيخ عثمان بن محمّد بن عمر العموديّ، ذهب ولده هذا العام ـ أعني عام (1366 ه) ـ تاجرا يحمل ألف ريال إلى الحاضنة، وكان معه أحد آل باقطمي، وفي أثناء الطّريق صوّب الرّصاص إلى جوفه وهو يغطّ في نومه، فأرداه واستلب سلاحه وماله، إلّا أنّ المشايخ آل العموديّ اجتمعوا من كلّ صوب، واحتجّوا على آل باقطمي القاطنين بمحيد، الواقع في شرقيّ حوطة الفقيه، بينه وبينها كما مرّ في يبعث نصف يوم، ولا ندري ماذا صار بعد.
وفي شمال النّجيدين حوض عاديّ بديع الإصلاح والنّقب؛ لحفظ الماء طوال سنين الجدب، لا ينتهي أحد إلى قعره أبدا، ولا يذكر أحد نفاد مائه بأسره قطّ، والشّائع بينهم: أنّه من عمارة عاد، كذا أخبرني الشّيخ محمّد بن سالم باسودان، خطيب جامع الخريبة، والمكان الّذي هو به يسمّى: شويحطين.
وعلى مقربة من الضّليعة آثار قرية قديمة، على أنقاضها كتابات كثيرة بالمسند، يقال لها: عكرمة.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
43-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (دوعن)
دوعنوأمّا دوعن: فإنّه اسم عجميّ فارسيّ كما يأتي في حوفة ـ ومنه تعرف انتجاع الأعجام بكثرة لبلاد حضرموت من عهد استيلاء الفرس على اليمن، حسبما سبق في حصن الغراب، ولم يزل بها وباليمن من أعقابهم الكثير، إلّا أنّهم اندمجوا فيهم مع مرور الأيّام، ودوعن يطلق على واديين بأعلى حضرموت، يقال لأحدهما: الأيمن، وهو مسيل مغروس بالنّخيل المثمنة، وعلى حفافيه بلدانه وقراه.
فأمّا شقّه الغربيّ:
فأوّل بلاده من أعلاه: قرحة آل باحميش: وهي على رأس الوادي الأيمن بين واديين، يقال لأحدهما: وادي النّبيّ، وهو الغربيّ، ويقال للآخر: وادي حموضة، في شرقيّه واد آخر يقال له: منوه.
وآل باحميش من حملة السّلاح وأهل النّجدة.
ومن متأخّري علمائهم: الشّيخ عليّ بن أحمد بن سعيد باصبرين، كان جبلا من جبال العلم، قال والدي: (زرت دوعن في شوّال من سنة «1290 ه»، فطفنا بلاد دوعن، ووجدنا أكثر أهلها يقرؤون القرآن لروح والدي؛ لأنّ ذلك كان حدثان وفاته من رمضان منها، ولمّا انتهينا إلى قرحة آل باحميش أوان المغرب.. أدركنا صلاتها في مسجدها خلف إمام حسن الأداء، شجيّ الصّوت، محافظ على السّنن والهيئات، وبعد أن فرغ من الأدعية والرّاتبة.. جلس للتّدريس في «شرح المقدّمة الحضرميّة»، وكان يكتب عليه حاشية، فسمعنا أحسن تدريس، وأتقن تحقيق، وأبلغ إلقاء، وأوضح تفهيم، ثمّ صلّى بنا العشاء بسورتين من أوساط المفصّل بصوت عذب أخذ بقلوبنا، وبقي طنينه بأسماعنا، وخيّل لنا أنّنا لم نسمع تلك السّور ولم تنزل إلّا تلك السّاعة، وما كاد يخرج من المسجد وبندقيّته على كتده إلّا وأشعل النّار في فتيلتها، فقلنا له: ما شأنك؟ قال: بيننا وبين قوم قتل ولم نأخذ صلحا، فتمثّلت لنا رسوم الصّحابة والسّلف الطّيّب، حيث اجتمعت العبادة والشّجاعة والعلم في ذلك الهيكل الشّريف، وهو شخص الشّيخ عليّ بن أحمد باصبرين).
«جمع الشّجاعة والعلوم فأصبحا *** كالحسن شيب لمغرم بدلال »
هذا ما يحدّثني بمعناه والدي ذات المرّات، فيبني في نفسي العلاليّ والقصور من الشّغف بالمجد والطّموح إلى الشّرف.
وقال السّيّد عمر بن حسن الحدّاد: (قرأت على الشّيخ عليّ باصبرين، وهو إمام في كلّ العلوم، حادّ الطّبع مثل الشّيخ عليّ بن قاضي باكثير) اه
وفي «مجموع» كلام العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس: (أنّ بعض العلماء المصريّين قال له: نعرف من الحضارم حدّة الطّبع، وأنت بعيد عنها، قال له: من عرفت من الحضارم؟ قال له: عرفت الشّيخ عليّا باصبرين، وجلست معه في الحرمين سنتين، فرأيت من حدّته ما لا مزيد عليه. فقال السّيّد أحمد: ذاك رجل من أهل البادية، وتلقّى شيئا من العلم، وقد حجر سلفنا وأشياخنا على المتعلّقين بهم الأخذ عنه؛ لأنّه ليس بأهل للإلقاء ولا للتّلقّي، ولا يخفى عليكم ما في طباع البادية من الغلظة والجفاء) اه
وهذا لا يخلو عن حيف كثير على الشّيخ باصبرين، ويكفي لردّه ما أخرجه الطّبرانيّ عن ابن عبّاس: «تعتري الحدّة خيار أمّتي»، وكان موسى عليه السّلام حديدا، وورد: «المؤمن سريع الغضب سريع الفيء»، وضمّ إليه ما سبق من أخذ سيّدنا عمر بن حسن الحدّاد عنه، وبإشارته كان تحويط الجمرتين بمنى، فسلم النّاس، ولا سيّما الضّعفاء من كثير من أضرار الزّحام، فلقد كان رأيه موفّقا، ولهذا بادر الشّريف بتنفيذه، وطلب منه أن يكثر التّردّد عليه كما أخبرني وجيه جدّة النّبيل محمّد بن حسين بن عمر نصيف عن جدّه، فأبى؛ لأنّه كان شريف النّفس عليّ الهمّة رحمة الله عليه.
وحدّثني الوجيه محمّد نصيف أيضا أنّ أحد الدّلّالين باع له بنّا من يهوديّ، فدلّس عليه في مئتي رطل، فأخبر الشّيخ ممتنّا عليه بهذا الصّنيع، فقال له الشّيخ: لا أرضى ولا أحبّ أن يطلبني اليهوديّ بحقّه في الدّار الآخرة، وردّ عليه ما اختانه الدّلّال. ومنه تعرف أنّ له تجارة بجدّة، وكانت دار هجرته ونشر علمه، وله بها تلاميذ كثيرون.
وقد علمت أنّ السّيّد عمر بن حسن الحدّاد قرأ عليه، وهو من مراجيح العلويّين.
وحدّثني الشّيخ عبد الله باحشوان ـ أحد قضاة المكلّا السّابقين ـ قال: (كنت مع الشّيخ عليّ باصبرين وأنا صغير، فسمع مزمارا فسدّ أذنيه بأصبعيه، وجعل يقول لي: هل تسمع شيئا؟ فأقول: نعم، حتّى قلت: لا، فأبعدهما، يتسمّت بذلك ما فعل عبد الله بن عمر مع مولاه نافع، ينقل ما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما سمع مزمار الرّاعي) [د 4924]، وقد جوّدت القول على هذه المسألة في كتابي «بلابل التّغريد».
وجرت بينه وبين علماء تريم منازعات في عدّة مسائل:
منها: التّوسّل والاستغاثة. ومنها: ثبوت النّسب بمشجّرات العلويّين المحرّرة، وكان الشّيخ يبالغ في إنكار ذلك، وألّفت رسائل من الطّرفين.
ففي سنة (1298 ه) فرغ الشّيخ عليّ باصبرين من رسالته الّتي سمّاها: «حدائق البواسق المثمرة في بيان صواب أحكام الشّجرة»، وقد علّق عليها السّيّد سالم بن محمّد الحبشيّ بما يشبه الرّدّ، وبعد اطّلاع باصبرين عليه كتب: (أمّا التّهاميش: فأمعنّا النّظر في جميعها.. فما وجدنا فيها زيادة فائدة عمّا في الأصل، فما زاد إلّا إتلاف ورق لم يؤذن له في إتلافه بتسويده بما لا يجدي فائدة جديدة).
وللحبيب أحمد بن محمّد المحضار شبه ردّ على باصبرين في «الحدائق» المذكورة، قال فيه: (وبعض النّاس قوله وبوله سواء).
ثمّ إنّ الشّيخ باصبرين كتب رسالة أخرى في نقض تعليقات السّيّد سالم الحبشيّ، سمّاها: «إنسان العين»، فكتب عليها الإمام المحضار كتابة طويلة، جاء فيها: (وما أوضحه الشّيخ عليّ في هذه الجملة.. فذاك شفاء الصّدور، تبرأ به العلّة، وهو مجرّب في تجربته، وحريص في أجوبته، وبالله الّذي فرض الصّلاة والوضوء ما أردته بسوء).
ثمّ إنّ الشّيخ عليّا سيّر كتابا للسّيّد محمّد بن عليّ، والسّيّد صافي بن شيخ آل السّقّاف، وسيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، والسّيّد عليّ بن محمّد، والسّيّد شيخان بن محمّد آل الحبشيّ.
فأمّا الأوّلان: فصرّحا بمخالفة باصبرين، وأمّا الآخرون.. فلم أر لهم كلاما بخلاف ولا وفاق. وكان كتابه إليهم في سنة (1299 ه).
وكثيرا ما ينشب الخلاف بين الشّيخ عليّ باصبرين وبين علماء العلويّين كآل يحيى بالمسيلة وغيرهم، وتؤلّف الرّسائل في الجانبين وتعرض على سيّدنا الإمام أحمد بن محمّد المحضار ـ صاحب القويرة ـ فيقرّظ عليهما، إلّا أنّه بأسلوبه العجيب وترسّله
العذب، وعارضته القويّة، وسيره بسوق الطّبيعة، يتخلّص من المآزق بما يذكّرني بما قاله ابن الجوزيّ، لمّا تواضع أهل السّنّة والشّيعة على ما يقوله، فسألوه وهو على المنبر عن عليّ وأبي بكر. أيّهما الأفضل؟ فأجاب بما لو روّى فيه عالم دهرا.. لم يوفّق إليه؛ إذ قال: (أفضلهما وأحبّهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بنته في بيته) أو ما هذا معناه، فحملها كلّ على ما يريد.
وقال الإمام المحضار في بعض كتاباته بتلك المناسبة: (والاعتماد على ما قاله الجمهور، لا ما قاله عبد الرّحمن مشهور)؛ يعني مفتي حضرموت لذلك العهد، صاحب «بغية المسترشدين»، وهو لا يقصد خلافه ولا إدخال المساءة عليه، ولكنّه قام في طريق الفاصلة وهو لا يبالي بشيء من أجلها؛ لأنّه يمرّ مع خاطره بلا تكلّف ولا تنطّع.
ولا غرو؛ فقد طلّق بعضهم امرأته من أجلها، وتكلّف الصّاحب بن عبّاد السّفر إلى قندهار ليقول:
«صدرت من قندهار *** في ضحوة النّهار»
وعند ما زار المحضار حضرموت وذهب لزيارة هود عليه السلام.. اتّفق حلول الجمعة بفغمة، فجمّع بها المحضار وتبعه كثير من النّاس، ولكنّ السّيّد المشهور لم يوافقه، بل انعزل بآل تريم وكثير من غيرهم، لا أدري ألشيء من أمثال ذلك أم للتّشدّد بما قال الشّافعيّة من شروط الجمعة.
ومن إهداء السّلام في كتب الشّيخ عليّ باصبرين للإمام المحضار.. يفهم أنّ له أولادا يهدي سلامهم إليه، ومنهم حسن بن عليّ باصبرين، قتله أحد آل ضروس غيلة بالقرحة في رمضان، ولا يزال بها أحفاده وعشائر آل باحميش إلى الآن، ومن وجهائهم أحمد بن يسلم باحميش وإخوانه.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
44-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الخريبة)
الخريبةمن كبريات بلاد دوعن وقداماه، على اسم مكان بالبصرة كانت عنده واقعة الجمل، ولهذا قال بعضهم [السّيّد الحميري في «ديوانه» من البسيط]:
«إنّي أدين بما دان الوصيّ به *** يوم الخريبة من قتل المحلّينا»
ذكره ياقوت في غير موضع من «معجمه».
وما زالت خريبة دوعن محطّ رحال العلم من قديم الزّمان، وكان بها ناس من آل باحويرث الّذين يجتمعون في النّسب مع آل سيئون المشهورين بالعبادة وحبّ الصّلاة، ومنهم عالم الخريبة وقاضيها في القرن الحادي عشر، وهو: الشّيخ سليمان باحويرث، له ولولده العلّامة محمّد بن سليمان ذكر كثير في «مجموع الجدّين» طه بن عمر وعليّ بن عمر؛ فعن العلّامة الجليل أحمد مؤذّن باجمّال قال: (أخبرني السّيّد العارف، بقيّة المحقّقين، الورعين المتضلّعين، أبو بكر بن محمّد بافقيه علويّ بقيدون قال: إنّ الفقيه سليمان باحويرث زوّج امرأة ـ وهو نائب الخريبة ـ وليّها غائب برجل ظنّه كفؤا، فلمّا قدم وليّها.. رفع الأمر إلى قاضي الشّحر عبد الله باعمر، وظهر عدم الكفاءة، ولكنّ قاضي الشّحر قرّر النّكاح عملا بالمرجوح.
قال السّيّد: وحيث وقع عقد قال به إمام ـ ولو مرجوحا ـ فلا نقض في حقّ العوامّ، وإنّما محلّ المنع قبل العقد) هذا ما ذكره أحمد مؤذّن.
وزاد: (إنّ مذهب مالك: عدم اعتبار الكفاءة إلّا بالدّين، وقد عمل به بعض مشايخنا لمصلحة اقتضت ذلك) اه وهي مسألة نفيسة مبنيّة على أنّ (العاميّ لا مذهب له)، وهما قولان قريبان من التّكافؤ، وقد حرّرت ما في ذلك بموضعه من كتابي «صوب الرّكام».
وإنّما سقت المسألة لمناسبة أنّه وردني بالأمس سؤال، حاصله: أنّ المكرّم الشّيخ عبد الله بن أحمد الزّبيديّ كانت له ابنة عمّ، لها أخ شقيق في السّادسة عشرة من عمره، يتصرّف عنه وصيّه، وهو أخوه وأخو البنت من الأب، فأشار عليه أن يعقد بها، فأنكر عليه بعض العلويّين وقالوا له: ما دليلك؟
فقال: لا دليل إلّا قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) الآية الخامسة من سورة النّساء.
فلم يقتنعوا منه بذلك، وقالوا: إنّ النّكاح باطل لا وجه له إلّا مقابل الأظهر في قول «المنهاج» [2 / 428]: (ويقدّم أخ لأبوين على أخ لأب في الأظهر) فأعجبني استدلاله وقرّرت النّكاح؛ لأنّه إذا لم يثبت رشد الشّقيق.. فالنّكاح صحيح على المعتمد في المذهب.
قال في «النّهاية»: (وكذا محجور عليه بسفه؛ بأن بلغ غير رشيد، أو بذّر في ماله بعد رشده ثمّ حجر عليه.. لا ولاية له على المذهب؛ إذ لا يلي أمر نفسه، فغيره أولى. ويصحّ توكيله في قبول النّكاح لا إيجابه) اه، و «التّحفة» قريب منها.
وفي (الحجر) من الثّانية: (تصديق الوليّ في دوام الحجر؛ لأنّه الأصل، ما لم يظهر الرّشد أو يثبت) اه، و «النّهاية» على مثاله.
ومتى كان الأصل فيمن يتصرّف عنه وصيه الحجر.. فالنّكاح صحيح على مقرّر المذهب.
وبفرض تسليم رشد الشّقيق.. يأتي ما نقله أحمد مؤذّن عن باحويرث، فالعقد صحيح على كلّ تقدير، إلّا أنّ للشّيخ أحمد مؤذّن كلاما آخر في «مجموع الجدّين»، وحاصله: (أنّه وقع عقد في قيدون بغير كفؤ، مع غيبة الوليّ، وفرّق بينهم نائب الهجرين، وسأل أحمد مؤذّن، فأجابه بصواب ما فعل).
وقاضي الخريبة الآن هو الشّيخ عمر بن أبي بكر، من آل باحويرث المذكورين.
ومن علماء الخريبة: الشّيخ الجليل المقدار، عليّ بن عبد الله باراس الكنديّ، المتوفّى في سنة (1094 ه) وأولاده: أحمد، ومحمّد، وعبد الرّحمن. وهؤلاء الثّلاثة كلّهم من مشايخ السّيّد الشّهير عليّ بن حسن بن حسين العطّاس، ولهم ذكر كثير في مؤلّفاته و «ديوانه».
وكان الشّيخ عليّ باراس ورد حريضة على الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس، وهو على أجلف ما يكون من أزياء البادية وهيئتهم، فتأدّب بالحبيب عمر، وحصل له الفتوح في أسرع وقت، مع أنّه كما قال العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس: (لم يقرأ عليه إلّا بعض خطبة «بداية الهداية» للغزاليّ فقط)، ثمّ إنّه استأذنه للحجّ.. فلم يأذن له، ثمّ استأذنه أخرى.. فأذن له.
ولمّا كان بمكّة.. ذهب إلى السّوق لحاجة، فألفاها مع امرأة مصريّة، فأعجبته، وأخذ يتأمّل في محاسنها، فلم يشعر إلّا بضربة عصا على جنبه فعرف أنّ هذا تنبيه له من الله، فثبّت قدمه على طريق الحقّ. ذكرها غير واحد؛ منهم: الحبيب عمر بن حسن الحدّاد في «مجموع كلامه».
ومن علماء الخريبة: الشّيخ العظيم المقدار، عبد الله بن أحمد باسودان، وهو الشّيخ الثّامن عشر من مشايخ سيّدي الأبرّ عيدروس بن عمر ـ حسبما في ترجمته في «عقده»، وقد توفّي بها في سنة (1266 ه)، وكان من العلم بالمكانة العالية:
«تنميه أعراق صدق حين تنسبه *** ذي نجدة وعن المكروب فرّاج »
«ساجي النّواظر من قوم لهم كرم *** تضيء سنّته في الحالك الدّاجي »
وقد ذكرت في «الأصل» من مناقبه ومناسبه ما يغني عن الإعادة هنا، ولقد قال السّيّد عمر بن حسن الحدّاد: (كنت أقرأ على السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ أيّام كان يعلّم بتاربه تحت إشارة سيّدنا عبد الله بن حسين بن طاهر، فلم يكن من الحبيب عبد الله إلّا أن قال لعمّي محمّد بن حسين ذات يوم: نحبّ أن يقرأ عمر بن حسن على الشّيخ عبد الله باسودان؛ لأنّه أوسع علما منك، فانقبض عمّي محمّد من قوله هذا له أمامي وأمام أولاده؛ إذ كنت أقرأ عليه أنا وإيّاهم، فلم تمرّ الثّامنة إلّا وجاء الشّيخ محمّد بن عبد الله باسودان لزيارة تريم، فسرت معه إلى دوعن، وقرأت على الشّيخ عبد الله، وعلى ولده الشّيخ محمّد، وعلى الشّيخ سعيد باعشن، وعلى الشّيخ أحمد بن سعيد باحنشل وهو في سنّ الشّيخ عبد الله وقد كفّ بصره، وكان قرأ في زبيد على سليمان الأهدل وولده عبد الرّحمن بن سليمان، وأدرك الشّيخ الكرديّ، وله حافظة قويّة) اه كلام الحدّاد.
وفي قول الحبيب عبد الله بن حسين للحبيب محمّد بن حسين: (إنّ الشّيخ عبد الله باسودان أوسع منك علما) فوائد:
الأولى: علوّ مرتبة الشّيخ باسودان؛ لأنّ السّيّد محمّدا من أكابر علماء الحجاز، وهو مفتي مكّة للشّافعيّة، والشّيخ السّادس عشر للأستاذ الأبرّ، فانحطاطه مع هذا عن درجة الشّيخ باسودان يشهد لهذا بشأن جليل ومقام عظيم.
الثّانية: أنّ الحبيب عبد الله بن حسين يقول الحقّ، فلا يحابي ولا يوارب.
الثّالثة: أنّ انقباض الحبيب محمّد بن حسين جار على ما يقتضيه الطّبع البشريّ عند مثله، فهو غير ملوم في ذلك، مع الاستكانة والاعتراف بالحقّ وعدم المكابرة فيه.
الرّابعة: لو لا تهذيب الحبيب عبد الله بن حسين لتلاميذه بهذا التّهذيب.. لما انتهى العلّامة السّيّد محمّد بن حسين وأمثاله إلى ما انتهى إليه من العلم والفضل.
الخامسة: أنّ الحقّ رائد القوم، والإنصاف قطب رحاهم، ونقطة بيكارهم، رضوان الله عليهم.
وقد سمعت من والدي وغيره عن الأجلّاء الثّقات: أنّ الشّيخ محمّد باسودان كان أوسع من أبيه في الفقه، وفتاويه شاهد عدل على ذلك.
وأخبرني الشّيخ محمّد بن سالم باسودان أنّ بعض العلويّين وردوا على الشّيخ عبد الله وسألوه عن ابنه محمّد.. فقال لهم: لا بأس به، فاستثقلها ونذر الاعتكاف سبع سنين لدرس العلم في جامع الخريبة، ووفّى بذلك، فبحقّ يجيء فيه ما قاله الشّريف الرّضيّ في تسمّته لأبيه [في «ديوانه» 2 / 21 من الطّويل]:
«جرى ما جرى قبلي وها أنا خلفه *** أغذّ لإدراك المعالي وأوجف »
«ولو لا مراعاة الأبوّة.. جزته *** ولكن لغير العجز ما أتوقّف »
ولكنّ هذا لم يتوقّف عنه بل جازه، ولم يبق له من علم إلّا حازه، توفّي بالخريبة في سنة (1281 ه) وبيتهم بيت علم وشرف، وقد وزر الشّيخ بو بكر بن عبد الله باسودان، وأخوه الشّيخ سالم بن عبد الله للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ.
ومن آل باسودان الآن: الفاضل الشّيخ عمر بن أحمد بن عمر بن أحمد بن العلّامة الجليل عبد الله بن أحمد باسودان، يسكن الآن بالحديدة، وهو من أعيانها ومن المعتبرين فيها.
ومنهم: الشّيخ محمّد بن سالم بن بو بكر بن عبد الله باسودان، خطيب جامع الخريبة الآن.
وللشّيخ أحمد باحنشل ـ السّابق ذكره ـ ولد اسمه: محمّد، من أعيان العلماء، وله ولد عالم اسمه: محمّد، وله حفيد اسمه: محمّد أيضا من أهل العلم، كان محمّد المثلّث هذا موجودا بالمكلّا سنة (1333 ه).
وبالخريبة جماعة من آل باعبيد، منهم الشّيخان: أحمد بن عبد الله باعبيد، وأخوه سعيد بن عبد الله باعبيد، كانوا أهل علم وصلاح وتجارة، ولهم بوالدي اتّصال عظيم وتعلّق تامّ، توفّي الأوّل بالمكلّا حوالي سنة (1317 ه)، والثّاني بالمدينة في حدود سنة (1323 ه)، وللأوّل ولد اسمه عبد الله، كان على القضاء بميدي في أيّام الأتراك والإدريسيّ، ثمّ هو اليوم رئيس البلديّة بها من جهة مولانا الإمام.
وفي المكان المسمّى: ذي يجور في شمال الخريبة منازل آل بصعر، وهم: عمر وأبو بكر وسعيد ومحمد ـ وهو أكبرهم ـ أبناء عبد الله بن سعيد بن عليّ بصعر، كانت لهم تجارة واسعة بحضرموت والشّحر وظفار والحديدة وغيرها، وكانت لهم مراكب شراعيّة تضرب بها الأمثال بين العامّة، تمخر البحار، وقد تفرّقوا وتلاشت ثروتهم الهائلة، ولم يبق لهم إلّا بعض أراض بوادي سهام وأعمال المراوعة؛ فإنّها لا تزال تدرّ عليهم.
ومن أحفادهم ناس بالحديدة، ومنهم الشّيخ عبد القادر بن سالم بن عليّ بن سعيد بصعر، رجل صالح بالمكلّا، قد ذرّف على المئة، زرته مرارا وطلبت دعاءه.
ومن علماء الخريبة: القاضي عمر بن أبي بكر باجنيد.
أخبرني السّيّد عبد الهادي بن محمّد بن عمر الجيلانيّ، عن أبيه، عن جدّه قال: (أرسلني الحبيب أحمد بن محمّد المحضار بنسخة خطّيّة من «التّحفة» إلى عند قاضي الخريبة الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، مشفوعة بقصيدة، منها:
«إنّ العمارة بالعشيّة والبكر *** بالعلم والطّاعات والفعل الأغر»
«أمسى بها متحقّقا متخلّقا *** قاضي الأنام الحبر قيدوم الزّمر »
«أعني به الأسد الغضنفر شيخنا *** حاوي الملاحة والتّسلسل من مضر»
«صدر الكتاب إليك يا الشّهم الّذي *** يقضي الدّيون إذا مطالبها زجر »
إلى أن قال الجيلانيّ: (فسرت ب «التّحفة» والقصيدة.. فتقبّلهما الشّيخ بأحسن القبول، ثمّ أرجعني ب «التّحفة» وقال: هو أحرى بها. وأعطاني له مئة ريال، ولمّا دفعتها إليه.. أعطاني منها عشرين ريالا.. فاستكثرتها، وامتنعت من قبولها.. حتّى عزم عليّ بأخذها، فأخذتها). وهذا عطاء غاب عنه الحبيب حامد بن أحمد المحضار، ولو شهده.. لم يكن بهذا المبلغ، بل لقد عاتب أباه بعدما أعلمه.
وأخبرني عبد الهادي المذكور أيضا: أنّ أهل الرّباط ترافعوا إلى الشّيخ عمر باجنيد هذا في قضيّة، ولمّا صدر الحكم.. امتنع المحكوم عليهم من الامتثال، فأصيبوا بالعاهات، فأقبلوا لترضية الشّيخ في جملة من جيرانهم، فلاقاهم الإمام المحضار وقال:
«يا بخت من عزّ الشريعه واستمع *** قول الشريعه لي بها زان الوجود»
«قاضيكم المشهور ما بين العرب *** من حجر بن دغّار لمّا قبر هود»
فارتجزوا به بين دويّ البنادق ورجعها الّذي يهزّ الجبال، ولمّا قاربوا دار القاضي.. خرج للقائهم، فقال الإمام المحضار بالنّيابة عنه:
«حيّا بكم ياللي وصلتوا كلكم *** باسندوه والباعشن زين الجدود»
«يا باجنيد ابشر فسعدك قد بدر *** يا بو محمّد فالكم فال السّعود»
توفّي قبل الثّلاث مئة، وخلفه على القضاء ولده محمّد، ويأتي في جحي الخنابشة بقيّة كلام عن آل باجنيد، كان هذا المكان أولى به، لكن تأخّر عن نسيان، وعن غير واحد أنّ آل باجنيد يتحمّلون ثلث نفقة عمارة ساقية الخريبة، وهو آية كثرة أموالهم بها.
وعلى قول المحضار: (من حجر بن دغّار لمّا قبر هود).. ذكرت أنّ ولدي البارّ حسن ـ بلّغه الله مناه ـ قال في رحلته الّتي قدّمها للنّادي العلميّ عن حضوره ـ بالنيابة عنه ـ تأبين المرحوم السّيّد أحمد بن عمر الشّاطريّ: ثمّ أنشدت قصيدة أديب، ولم أذكر منها سوى عجز بيت هو:
من نواحي هود إلى حبّان
وكان معنى صدره: فقدت حضرموت منه أريبا. فبقي بذهني لسببين:
أحدهما: أنّ جماعة تغامزوا عليه استقلالا للمدح واستصغارا للبقعة الّتي حدّدها.
والثّاني: أنّه يكاد أن يكون نفس قول شوقي [في «الشوقيّات» 2 / 192 من الخفيف]:
«يا عكاظا تألّف الشّرق فيه *** من فلسطينه إلى بغدانه »
هذا كلام حسن، وشد ما لاحظت عليه: إكباره لشعر شوقي، ولا سيّما بعد أن تقدّم إليّ بالسّؤال عن أربعة أبيات منه وأجبته عنها بالرّسالة الموسومة ب «النّقد العلميّ الذّوقيّ في الجواب عن أبيات شوقيّ».
وكثيرا ما أثني على شعر الحضارم الحمينيّ، وهذا من المواضع الّتي يتأكّد بها ما أقول؛ إذ الشّطران الّلذان ذكرهما حسن لا يعدّان شيئا في جنب قول المحضار: (من حجر بن دغّار لمّا قبر هود) وكذلك يظهر هزالهما ـ حتّى لا يسومهما أيّ مفلس ـ عند قول العاميّ الحضرميّ في رثاء عائض بن سالمين الكثيريّ: (جبال ترقل من القبله إلمّا هود).
وللإمام المحضار فضيلة التّقدّم، ولا غرو أن يتفضّل شعر الحضارم العاميّ الخالي عن التّكلّف، ولا سيّما في الغزل؛ إذ كانوا يرجعون في ذلك إلى أصل أصيل... إلّا من جهة أمّه الحضرميّة المسمّاة: مجد.
وللسّيّد عبد الهادي الجيلانيّ المذكور ولد يقال له: حامد، طلب العلم بتريم، وله نباهة وذكاء إلى تواضع وسيما صلاح، وقد انتفع به أهل الخريبة انتفاعا كثيرا.
وفي ترجمة السّيّد أحمد بن حسن بروم من «المشرع» [2 / 55]: أنّه (ورد الخريبة هو والسّيّد علي بن أحمد الخون، وجرت لهما قصّة). توفّي السّيّد أحمد المذكور في سنة (957 ه).
وممّن توفّي بالخريبة من العلويّين: السّيّد عبد الله بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن عبد الله مولى عيديد. ومن عقبه: السّيّد حسين بن أحمد بن زين بن عليّ بن زين بن عليّ بن حسين بن عبد الله المذكور، كان إماما فاضلا، مشهورا بالفضل والولاية، توفّي بالقنفذة سنة (1265 ه).
ومنهم: السّيّد عليّ بن محمّد بن عليّ، أخو عبد الله المذكور، مات بالخريبة أيضا، وعقبه بها وبشبام وجاوة.
وفي الخريبة ناس من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن علويّ بن أحمد بن محمّد الكاف، المتوفّى بها سنة (1074 ه).
وناس من ذرّيّة الحبيب عبد الرّحمن بن علويّ الخوّاص الجفريّ التّريسي: منهم: السّيّد الدّائم الذّكر، الكثير الصّمت، عمر بن أبي بكر بن محمّد الجفريّ، كان موجودا بها في سنة (1320 ه).
وفيها من آل الجفريّ: آل باصادق، منهم الآن: عبد الله وعبد الرّحمن ابنا حسن بن طالب بن محسن بن محمّد بن صادق بن حسن بن صادق، نجعا إلى مكّة وجدّة، ولهم تجارة واسعة، وثروة لم ينسوا حقّ الله فيها، مع تواضع وأخلاق كريمة، ومحافظة على العبادة، ومواظبة على الصّلوات في الحرم الشّريف، ولهم ابن عمّ يقال له: عبد الله بن محسن بن طالب بن محسن نجع إلى الحبشة.. فهو رأس العرب ببعض بلادها.
ومنهم بها: السّادة آل علويّ البارّ: محمّد وعبد الله وحامد، وقد رأيت محمّدا هذا بعدن في سنة (1322 ه) وهو صدر من صدورها، وكان بها مكرع ريّ، ومشرع إحسان، ومستودع حسن ظنّ بالأخيار، من دون تعصّب ولا تفريق بينهم.
ولهم ذرّيّة منتشرة بالخريبة وعدن والحبشة وغيرها، وكانت لهم هنالك أموال وعقارات فتلاشت، أو تحوّلت كلّها إلى السّيّد حامد بن علويّ.. فهو من أولاد الوجهاء، وله أولاد نبهاء.
والخريبة أكثر بلاد دوعن عمارة ورفاهة، حتّى لقد جاء في «مجموع كلام السّيّد عمر بن حسن الحدّاد» ـ المتوفّى في سنة (1308 ه) وكان أقام بها كثيرا ـ أنّه: يذبح في سوقها كلّ ليلة عشرون رأسا من الغنم، مع أنّه لا يذبح لذلك العهد في سيئون وتريم أكثر من رأسين في كلّ ليلة، فانظر إلى هذا التّفاوت العظيم.
ثمّ رأيت الطّيّب بامخرمة يقول: (والخريبة مدينة بوادي دوعان الأيمن، ولمّا استولى الفقيه الصّالح، الورع الزّاهد، العالم العامل، عفيف الدّين عبد الله بن محمّد بن عثمان بن محمّد بن عثمان العموديّ النّوّحيّ على وادي دوعان.. سكن رأس الخريبة، وأقام لهم الشّريعة، وأحيا السّنّة، وأطفأ البدعة، لكن لم يوافق هواهم.. فحاربوه وأخرجوه، فانتقل إلى ذمار، وتوفّي بها سنة (840 ه)، كذا وجد بخطّ بعض الفضلاء) هذا آخر كلامه، وفيه جزم بأنّ آل العموديّ من نوّح، وقد فصّلت الخلاف في نسبهم ب «الأصل».
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
45-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (القرين)
القرينبلد دون الخريبة وبضه، ولكنّها أكبر من غيرها، وكان بها مثرى الإباضيّة ـ كما يعلم من كلام الإمام أحمد بن محمّد المحضار وغيره ـ وهي الآن مقرّ السّادة الأبرار آل البار، ومنهم: الفاضل العلّامة الجليل المقدار، عمر بن عبد الرّحمن بن محمّد بن حسين بن عليّ البارّ بن علويّ شرويّ بن أحمد باحداق بن محمّد بن عبد الله بن علويّ بن أحمد ابن الفقيه المقدّم.
أخذ عن والده وعن الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد، وعن الشّيخ العارف محمّد بن أحمد بامشموس، توفّي سنة (1157 ه) عن ثمانية عشر ابنا وستّ بنات، انقرض منهم ستّة من غير عقب، وأعقب خمسة عقبا قليلا قد انقرض، ومن أولاده: طه وشيخ وعبد الرّحمن، عقبهم بالقرين.
ومنهم: العلّامة عمر بن عبد الرّحمن الثّاني، المتوفّى بجلاجل مرسى بالحجاز، على مقربة من جدّة، وكانت وفاته في سنة (1212 ه) إلّا أنّه جاء في موضع من «عقد» سيّدي الأبرّ أنّ وفاته كانت في سنة (1211 ه)، وكان معه يوم توفّي تلميذاه الجليلان: السّيّد عبد الله بن عليّ بن شهاب الدّين الدّين المتوفّى سنة (1265 ه) والشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان.
ومن آل البارّ: السّيّد الشّريف العلّامة أحمد بن عبد الله بن عيدروس، عالم عامل، لطيف عفيف، توفّي بالقرين سنة (1311 ه).
ومنهم: أحمد بن عبد الله بن محمّد، شريف ناسك. ذكرهما في «شمس الظّهيرة»؛ لأنّهما كانا موجودين في سنة (1307 ه).
ومنهم: العلّامة السّيّد حسين بن محمّد البارّ، المتوفّى بالقرين في سنة (1331 ه).
أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ السّابق ذكره في الخريبة، وكان ضابطا متيقّظا ـ قال: عملوا ختما وطعاما بإثر وفاة الحبيب حسين بن محمّد البارّ، وبينا المجلس غاصّ بأعيان العلويّين بدوعن لذلك العهد ـ كالسّيّد مصطفى بن أحمد المحضار وأصحابه، ومحمّد وعبد الله وحامد آل علويّ البارّ ـ والمقدّم عمر بن أحمد باصرّة يكثر من شرب الدّخان، وأنا حاضر.. إذ قيل: أقبل السّيّد عمر بن أحمد بن عبد الله البار العالم التّقيّ، فتشمّر المقدّم واهتمّ، وجمع خاطره، وأبعد مداعته، ومسح يده وفمه بثوبه، وتأدّب بين يديه، لكنّه كان لا يدخل داره، ولا يقبل هديّته الّتي طالما حاوله على قبولها، فصحّ قول الجرجانيّ [في «طبقات الشافعية» 2 / 160 من الطويل]:
«أرى النّاس من داناهم هان عندهم *** ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما»
توفّي السّيّد عمر المذكور بالقرين في رجب سنة (1339 ه).
أمّا رداء الحبيب حسين بن محمّد البارّ.. فوقع على ولده محمّد بن حسين، فقام في مقامه أحسن القيام، حتّى توفي، وخلفه ولده حامد، ذكيّ نبيه مشكور الخلائق.
ومنهم: أخونا العلّامة الجليل، بقيّة أراكين الشّرف، السّيّد عيدروس بن سالم بن عيدروس بن سالم بن عيدروس البارّ، لقد كان عدّ جود خسيف، وطود علم منيف.
«فما دبّ إلّا في أنامله النّدى *** ولم يرب إلّا في مجالسه العلم »
إلى خلق كأنّه الرّوض طلّه الغمام، أو الزّهر بارح الكمام.
«لن تلق مثل مساعيه الّتي اتّصلت *** بالصّالحين وكانت عن أب فأب »
له ورع حاجز وزهد ناجز، وخوف من الله يحفيه، وجهد في العبادة يخفيه، إلى نفس سليمة، وسير قويمة، وتواضع يدلّ لارتفاع القيمة، مع جاه عظيم، يبذله لكلّ كريم، فكم قضيت به مغارم، وبنيت منه مكارم.
«وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة *** من جاهه فكأنّها من ماله »
توفّي بمكّة المشرّفة في المحرّم من سنة (1367 ه)، فاشتدّ الرّنين، وانجدع العرنين، وعظم المصاب، وأظلمت الحصاب.
وله أخوان على قدم الصّلاح والعبادة والتّواضع، وهما: أبو بكر وعبد القادر، لم تزل مجالسه معمورة بهم وبأولاده؛ وهم: حسن وعليّ وفضل وسالم وعمر ومحمّد، وأولاد عمّهم: حسين وهاشم ابني عبد القادر، ومحمّد بن أبي بكر، نسأل الله تحقيق الآمال، وإصلاح الأعمال، وأن لا يشغلنا ولا أحدا منهم بحبّ المال.
ومنهم السّيّد أحمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد البارّ، وولداه: عمر وعبد الله، يسكنون الآن برابغ.
وفي القرين جماعات من آل بامشموس؛ ومنهم: الشيخ محمّد بن أحمد بامشموس، كان من رجال العلم والفضل، والتّقوى والعبادة والنّور، وكان الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس يقول: إنّ الشّيخ محمّد بامشموس نظيف الظّاهر والباطن، كأنّه ملك دخانيّ.
وجماعات من آل باعامر، وآل باجنيد، وآل العيد، وآل بامقابل، وآل باحمدون، وآل بامنيف، ولعلّ هؤلاء من نهد.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
46-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (رحاب)
رحابأخبرني الأخ الأديب علويّ بن عبد الله الحبشيّ ـ وهو من سكّانها ـ: أنّ ولاية رحاب كانت لآل عبد الله، ومنهم الأمير الّذي يخاطبه القطب الحدّاد بقوله [في «ديوانه» 383]:
يا جميل انّ ستر الله على الخلق باقي
ولمّا ظهر بدر بن عبد الله بوطويرق.. صالحه آل عبد الله على استقلال داخليّ لهم في بلادهم، مع اعترافهم بسلطنته ورئاسته عليهم، وقد شخص جميل هذا إلى اليمن، ومثل بين يدي إمام ذلك العصر، فأقطعه رحاب وجبالها وأصقاعها، وجعل لهم رسوما على مصانع بضه وعوره، وبيدهم وثيقتان من الأئمّة: إحداهما من المهديّ، والأخرى ممّن بعده.
قال السّيّد علويّ: (وقد أمروني بنقلهما لمّا ظهرت عليهما آثار الاندثار، فنقلتهما بالحرف)، قال: (وكان يركب منهم أربعون فارسا، ولمّا استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن في سنة «1317 ه».. ياسرهم وأعفاهم من الرّسوم، وأبقى لهم بعض الحقّ في إقطاع السّفوح لمن أرادوا، ومنهم: أبو عامر المشهور)، هذا ما يقوله السّيّد علويّ، والعهدة عليه، وقد بسطناه مع جملة من أشعار أبي عامر في «الأصل».
ويزعم آل عبد الله أنّهم من بني هلال؛ فمرجعهم وآل خليفة وآل مرخة ـ السّابق ذكرهم قبيل جردان ـ إلى قبيلة واحدة، وقد أنكر بعضهم ما اشتهر على الألسنة من هجرة بني هلال من حضرموت إلى المغرب، وليس في محلّه، ولا سبب له إلّا عدم الاطّلاع، وإلّا.. فقد كانت خيامهم ضاربة من الكسر إلى العبر إلى الدّهناء إلى نجد، ويتأكّد ذلك بما بين أشعارهم وأشعار الحضرميّين من التّشابه، وكثيرا ما يوجد في شعر العامّة بحضرموت أنّهم غزوا برقة وقابس، والشّعر ديوان العرب، وكذلك يوجد تشابه في أسماء الأشخاص، ولا سيّما النّساء والبلدان والبقاع.
ومن أبطال بني هلال المعروفين: حسّان بن سرحان.
وسلامة بن رزق، وهو أبو زيد الهلاليّ بطل القصّة الّتي يزعم بعضهم أنّها خرافة، وأنّه إنما كان السّبب في تأليفها ريبة حصلت في بيت الخليفة العبيديّ بمصر، فأرادوا أن يشغلوا عنها النّاس، والحقّ أنّ لها أصلا صحيحا حقّقه العلّامة ابن خلدون.
وقال لي بعضهم: (إنّه اطّلع على رحلة كتبها مركبول الإيطاليّ، ذكر فيها أنّه رأى سفن البرتغال راسية في الخليج الفارسيّ تنتظر سكون هيجان البحر، فخالط أهلها ـ وهم لفيف من عرب شبه الجزيرة ـ فتفرّس أنّ التّشابه بين أشعار عرب الجزيرة وأهل المغرب الأقصى ناشىء من تردّد النّوتيّة والتّجّار من تلك الجهات) اه بمعناه.
ونحن نوافقه في التّشابه، ونقول: إنّ السّبب الأصليّ اتّحاد العنصر، وسيأتي ما يتعلّق به في وبار آخر هذا الكتاب.
وفي «رسالة» موجودة بخزانة الشّيخ عبد الله باعفيف ـ السّابق ذكرها في كنينة ـ أنّ آل باعويدين وآل باحكيم وآل ماضي كلّهم من بني هلال، وفيه تأييد لبعض ما أخبرني به السّيّد علويّ بن عبد الله الحبشيّ.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
47-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)
جحي الخنابشةوهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.
وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.
وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.
وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.
ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.
ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.
ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.
وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.
وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.
ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.
ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه)، وما كاد يستقرّ به المجلس
حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.
هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.
ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.
ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.
ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.
وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».
وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.
وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:
«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »
«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »
فأجابه بادحدح بقوله:
«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »
«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »
و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.
ثمّ قرى صغيرة.
ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.
وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.
وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.
ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.
وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.
ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.
وفي حدود سنة (1362 ه) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.
واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.
وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.
ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.
وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.
وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.
ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.
ثمّ حصن باخطيب.
ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.
وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.
وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.
ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.
قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.
ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه
وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.
وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.
وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.
ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.
وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.
وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا
أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.
وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه
وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:
«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »
وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:
اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم
كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث
خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.
بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة
بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة
حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة
الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة
مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح
عرض باسويد /100/نوّح
ظاهر /200/نوّح
حزم آل خالد /20/آل العموديّ
حويبة /20/أخدام آل المحضار
حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد
القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة
الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة
باشعيب /15/الخامعة
حصن باعوم /7/آل باعوم
ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن
الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة
عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة
حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ
قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.
الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة
حصن تنسبه /0/فارغ
قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة
غيل باحكوم /60/آل باحكوم
قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة
غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ
قارة الخزب /50/آل بافنع
خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة
حصن الجبوب /30/قثم
هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة
رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة
القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة
عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة
الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان
باجاس /5/من سيبان
شويطة /50/من سيبان
شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد
حصن باحكيم /0/فارغ
حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط
حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح
منوه /40/سوقة
رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة
ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة
جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان
عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن
عرض باهيثم /100/آل باهيثم
الجديدة /220/الخنابشة
جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة
صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة
حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة
المشقعة /150/آل باوزير
حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان
حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة
تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة
حيد الجزيل /150/آل العموديّ
حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان
الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة
خيله /150/الحالكة من سيبان
ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم
حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة
خليف آل باعبود /50/آل العموديّ
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
48-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قيدون)
قيدونهي من قدامى البلاد، وهي موطن الشّيخ الكبير سعيد بن عيسى العموديّ.
وهو والفقيه المقدّم أوّل من سلك طريق التّصوّف بحضرموت، وقد ترجمه غير واحد من أهل العلم؛ كالشّرجيّ في «طبقاته» [145 ـ 146]، واليافعيّ في «تاريخه»، وصاحب «المشرع»، وعبد الله بازرعة.
وممّن ألّف في مناقبه: الشّيخ عليّ بن عبد الله باعكابة الهيننيّ، والشّيخ عبد الله باسودان.
وكان صادعا بالحقّ، لا يخاف فيه لومة لائم، وكان كثير التّردّد على حضرموت، حتّى لقد قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في كتابه «القرطاس»: (لا إله إلّا الله، عدد خروج الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ إلى حضرموت).
ولم يزل يسلّك الطّالبين، ويوصل الرّاغبين، إلى أن توفّي بقيدون سنة (671 ه)، وقصّته مع الشّيخ أحمد بن الجعد مع وصوله إلى حضرموت، مشهورة، وقد ابتلي إثرها بالجذام إلى أن وافاه الحمام.
وخلفه على منصبه ولده الشّيخ محمّد بن سعيد، وما زال أبناؤه يتوارثون منصبه حتّى انتهى إلى دولة ورئاسة دنيويّة، فاختلفوا وانقسموا؛ كما سبق في بضه.
وجرت بينهم وبين آل فارس النّهديّين، وبينهم وبين السّلطان بدر بوطويرق الكثيريّ.. حروب.
وتقلّبت بقيدون الأحوال، حتّى لقد خربت حوالي سنة (948 ه) من كثرة ما أخذ بدر بوطويرق الكثيريّ من أهلها من الضّرائب، ولم يبق فيها إلّا ستّة ديار، وهرب الباقون من أهلها إلى صيف. وهنا شاهد على أنّ صيفا لم تكن إذ ذاك في حوزته.
وجرت بين آل العموديّ وأعقاب بدر إلى أيّام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ ـ المتوفّى بعمان أوائل القرن الثّاني عشر ـ أحوال كثيرة، ذكرنا ب «الأصل» نتفا منها كافية للتّعريف.
وفي قيدون صهريج واسع يحفظ لأهلها الماء، تنطق وثائق أوقافه أنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب الطّاهريّ السّابق ذكره في بضه، والآتي ذكره في ثبي وغيرها.
وقد أنجبت قيدون كثيرا من العلماء والفضلاء، وكان السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم يدرّس بها علم التّوحيد أوائل القرن الحادي عشر.
ومن علمائها في القرن العاشر: الشّيخ محمّد بن عمر معلّم له ذكر في «مجموع الأجداد».
والشّيخ عبد الله بن سعيد العموديّ، في أيّام القطب الحدّاد، وقد امتحنه بشرح خطبة معقّدة، فشرحها شرحا جميلا قضى له فيه القطب الحدّاد بالنّجاح.
وفيها من ذرّيّة السّيّد محمّد بن عبد الله بن علويّ الحدّاد: الفاضل الصّالح، الحسن الخطّ عمر بن أبي بكر، المتوفّى بها.
وخلفه ابنه النّاسك الكريم طاهر بن عمر الحدّاد، المتوفّى بها سنة (1319 ه) كان آية في حفظ القرآن، وكانت في لسانه حبسة شديدة، حتّى لقد أراد أن يعقد بإحدى بناته فلم ينطلق لسانه إلّا بعد الفراغ من الطّعام، وكانت العادة والسّنّة تقديم العقد فلم يؤخّروه إلّا اضطرارا، ولكن متى شرع في القراءة في الصّلاة.. اندفع بسرعة السّهام المرسلة.
ولمّا مات ولده محمّد.. تحاشى النّاس عن إخباره؛ لأنّه الأمر العظيم، لكنّه لم يظهر بعد ما أخبروه إلّا بأكمل ما يكون من مظاهر الرّضاء التّامّ، فلم ينزعج ولم يتغيّر، ولم يحلّ حبوته، وما زاد على الاسترجاع والاستغفار للفقيد والتّرحّم عليه، فذكرت ما رواه أبو نعيم وغيره: أنّه لمّا مات ذرّ بن عمر بن ذرّ جاء أهله يبكون إلى أبيه، فقال لهم: ما لكم؟! إنّا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحقّ، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلمّا وضعه في قبره.. قال: رحمك الله يا بنيّ؛ لقد كنت بي بارّا، وكنت عليك شفيقا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعزّ، ولا أبقيت علينا من ذلّ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.. يا ذر؛ لو لا هول المطلع.. لتمنّيت ما صرت إليه، ليت شعري يا ذرّ ماذا قيل لك وماذا قلت.
وكذلك الحبيب طاهر لم يزد على التّرحّم على ولده والاستغفار له.
أمّا ولده محمّد بن طاهر الحدّاد: فقد كان طود المجد الرّاسخ، وركن الشّرف الشّامخ، تتحيّر الفصحاء في أخباره، وتندقّ أعناق الجياد في مضماره.
«متنقّل في سؤدد من سؤدد *** مثل الهلال جرى إلى استكماله »
لم يزل يتوقّل إلى العلا، ويتسوّر إلى الشرف.
«ويبيت يحلم بالمكارم والعلا *** حتّى يكون المجد جلّ منامه »
لا يصعد قلّة.. إلّا تسنّم ذراها، ثمّ اندفع إلى ما وراها.
«ما زال يسبق حتّى قال حاسده: *** له طريق إلى العلياء مختصر »
ينقطع دونه الكلام، وتتحيّر في وصفه الأقلام.
«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد »
له همم تنفسخ منها الجبال، فضلا عن قوائم الرّجال.
«همّة تنطح النّجوم بروقي *** ها وعزّ يقلقل الأجبالا »
وقد بلغ من شهامته وكبر همّته أنّه كان يحاول إغناء العلويّين بحضرموت من أدناها إلى أقصاها مع تحمّله من الدّيون الّتي أثقلت كاهله ولذاك، أشار عليه أبوه ـ من أجلها ـ أن يتوجّه إلى حيدرآباد، وكان له بها قدر عظيم، وشأن فخيم، وأسلم على يده كثير من النّاس، إلّا أنّه كان بين جنبيه نفس عظيمة، غالى بها عن الكرام حتّى لم يكن الطّغرّائيّ إلّا كالسّوقة في جنب الملك حيث يقول:
«غالى بنفسي عرفاني بقيمتها *** فصنتها عن رخيص القدر مبتذل »
فوقع بذلك وبموافقته للعلّامتين أبي بكر بن شهاب ومحمّد بن عقيل في الإعراض عن السّلطان عوض بن عمر أن لاقاه، واستعدّ لإنزاله في قصره، وعمل لقدومه ضيافة عظيمة، فتركها وكان في ذلك تمهيد السّبيل لمن كان يحسده من العلويّين ففتلوا في الذّرى والغوارب لفشله.. فلم يقع له ما يروم من أمله ولم يتيّسر قضاء دينه إلّا بعد انقضاء أجله، ومنهم حسبما يتعالم النّاس: حسين وحسين وأبو حسين ـ ولا أدري كم عددهم يومئذ؛ فإنّ المنايا تخطّفتهم، والبلدان توزّعتهم؛ فهم أقلّ بكثير ممّا انتهوا إليه سنة (1202 ه) إذ بلغ عددهم بالتّحقيق يومئذ عشرة آلاف نفس.
في «تاريخ ابن حميد»: (أنّ القطب الحدّاد أشار بإحصاء العلويّين في سنة (1118 ه)؛ لدراهم وصلت من الهند على اسمهم، فبلغوا نحوا من ألفين بعدّ الصّغار والكبار والذّكور والإناث، من السّوم شرقا.. إلى هينن غربا).
والعجب أنّهم لم يدخلوا دوعن في حضرموت في هذا العدّ، فلعلّ الدّراهم مخصوصة بأهل هذه النّاحية، وإلّا.. أشكل الأمر.
وأمّا في سنة (1202 ه).. فقد بلغ عددهم عشرة آلاف؛ إذ جاءت صلة صاحب المغرب ودفعوا لمن بدوعن ومن بالشّحر ومن بأسفل حضرموت حسبما فصّلناه بالجزء الأوّل من «الأصل» ولا إشكال؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بما انحطّ عليه اعتمادهم بإجماعهم آخرا، وقد أحضرت الأنفس الشّحّ في صلة المغربيّ، وهي متأخّرة عن تلك، والعلماء في أيّامها أكثر، ولا شكّ أنّهم مطّلعون على ما كان أيّام القطب الحدّاد من مثل ذلك فلا مجال للشّكّ، لا سيّما وأنّ القطب الحدّاد من أهل الاجتهاد لا يتقيّد بمنقول المذهب بخلافهم.
ومن كتاب سيّره السّيّد عليّ بن شيخ بن محمّد بن شهاب للشّريف سرور بن مساعد بن حسن صاحب مكّة بتاريخ (1199 ه) يقول: وصلت الدّراهم وقدرها ثمانون ألف ريال وفرّقت على جميع السادة القاطنين بحضرموت من ثمانية ريالات إلّا ربع، وتحديد حضرموت من عين بامعبد إلى ظفار.
وقد اتفق العلويون إذ ذاك على تفويض الأمر في قبض الدراهم وتحرير مشجّر للعلويّين ـ على حسابها ـ إلى السّيّد عليّ بن شيخ بن شهاب.
وأمضى في أعلى المسطور السّادة: سالم بن أحمد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم وأحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ العيدروس، وصادق بن شيخ العيدروس، وسالم بن صالح العطّاس، وحسين بن علويّ، وهاشم، وحسين وعبد الله ابنا أحمد، وحسين وزين وأحمد بنو حسين بن أبي بكر، وأحمد وعليّ ابنا محسن، وأبو بكر بن عليّ، وكافّة آل حسين بن عليّ العيدروس.
وفي أسفله: حسين بن أحمد بن سهل جمل اللّيل، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وعمر بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، ومحمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله، ومحمّد بن أبي بكر العيدروس، وإسماعيل بن عيدروس بن عليّ بن عمر بن حسين، وعليّ بن شيخ بن شهاب، وطالب بن حسين بن عمر العطّاس، وعبد الرّحمن ابن حسين العطّاس، وعمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه، وهادون بن عليّ الجنيد، وأحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وعبد القادر بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وخادم الشّرع بتريم عمر بن إبراهيم المؤذّن بافضل، وطالب بن عوض بن يحيى، والمكتوب إليهم من أمين الدّراهم عبد الله بن حسين بن سهل، وسالم بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر، ومحمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، ومحمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وحامد بن عمر بن حامد، وعليّ بن شيخ بن شهاب.
وفي حدود سنة (1311 ه) أصفق العلويّون ـ ومنهم سيّدنا الأستاذ الأبرّ فمن دونه ـ على تقديم صاحب التّرجمة السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد، فوضعوا في كفّه لواء نقابتهم، وعلى رأسه عصابة شرفهم، وعلى منكبه رداء زعامتهم، وأسجلوا له بذلك على أنفسهم، وكتبوا له عهدا وثيقا، فكان كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 119 من الطّويل]:
«وما زلت تسمو للمعالي وتجتني *** جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر »
«إلى أن بلغت الأربعين فأسندت *** إليك جماهير الأمور الأكابر»
«فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز *** ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر»
وقد جرت بينه وبين العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ مناقضات، منها: أنّ هذا جزم في كتاب سيّره إليه بدخوله تحت دائرته وإن لم يشعر، فأنكر الأوّل ذلك ـ وكان يتواضع أشدّ التّواضع بين يدي أستاذنا وأستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر ـ وتقدّم إليه بأسئلة جزلة تدلّ على صدق حال وغزارة مادّة، فأجابه الأستاذ بأفضل جواب.
وجرت بينه وبين علّامة جاوة السّيّد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى محاورات في الأوتار؛ لأنّ الأوّل يحضرها والسّيّد عثمان يشتدّ في منعها، وقد بسطت القول عن هذه المسألة في «بلابل التّغريد» بما لا يوجد في سواه.
وقد كان ما اشتهر من محاسن هذا الإمام، وملأ سمع الأرض وبصرها.. يملأ قلبي حسرة؛ إذ لم يقدّر لي الاجتماع به، مع أنّه قدم ذات المرّات إلى سيئون وأنا موجود، وقلّ من زارها من أهل الفضل إلّا زار والدي في مكانه علم بدر الّذي انجمع فيه بالآخرة عن النّاس. بل لا يوجد من يتخلّف عنه سوى من كان يتودّد إلى طائفة باطويح القاعدين بكلّ مرصد يصدّون البسطاء عن سبيله وعن سبيل سيّدنا الأستاذ الأبرّ ومن على شاكلتهم، ومعاذ الله أن يتأثّر بكلامهم السّيّد محمّد بن طاهر، وهو الّذي لا يقعقع له بالشّنان، ولكنّني لا أحفظ زيارته لوالدي مع أنّي لم أفارقه إلّا للحجّ في سنة (1322 ه)، وما كنت لأنسى زيارته لوالدي لو كانت، وأنا أحفظ كلّ من زاره من أهل الفضل منذ الرّابعة من عمري؛ لأنّه يقدّمني إليهم ـ ليبرّكوا عليّ ويلبسوني ولأقرأ عليهم شيئا من القرآن أو حديث معاذ في العلم وعلّ وصوله حضرموت صادف مرضي الشّديد في سنة (1313 ه)؛ فإن كان كذلك.. فقد انحلّ الإشكال ـ إلّا أنّه يبلّ من غليل تلك الحسرة ما كان يمثّله لنا السّيّد عبد القادر بن محمّد السّقّاف ـ الآتي ذكره ـ من كلامه وقراءته ومشيته.
ثمّ انحدر بعد ذلك إلى جاوة، وأدركته المنيّة بالتّقّل ـ إحدى مدنها ـ في سنة (1316 ه)، عن اثنين وأربعين ربيعا، فكان أكبر من قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 217 من الطّويل]:
«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »
«فتى جاءه مقداره، واثنتا العلا *** يداه، وعشر المكرمات أنامله »
«فتى ينفح الأيّام من طيب ذكره *** ثناء كأنّ العنبر الورد شامله »
وقد زرت قبره، وألفيت عليه من المهابة والجلال ما ذكّرني بقول الأوّل [من الطّويل]:
«على قبره بين القبور مهابة *** كما قبله كانت على ساكن القبر»
وبإثره تقيّض فريقه، وانتهج طريقه ولده الفاضل علويّ؛ فلقد أحيا قدّته، وأظهر جدّته، وأطال مدّته، وأعاد جوده ونجدته، فما زال طويل العماد، كثير الرّماد، فحماد له حماد.
«تنميه في قلل المكارم والعلا *** زهر لزهر أبوّة وجدود »
«فرع من النّبع الشّريف إذا هم *** نسبوا وفلقة ذلك الجلمود»
ويذكر أخوه الحسين بجود غزير، وفضل كبير، يأتي فيه بحقّ قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 8 من البسيط]:
«لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة *** تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف »
ومن الأسف أن تستأثر جاوة بأمثالهم، لكنّ الأمر كما قال حافظ [في «ديوانه» 1 / 269 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
وفي قيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ بن محمّد بن أحمد الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، منهم:
الصّالح الفاضل السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله، له أحوال غريبة، ودعاء مستجاب، يأخذه عند ذكر الموت حال عظيم يخرجه عن حسّه ويذهب به هائما على وجهه.
وعلى قريب من حاله كان ولده الدّاعي إلى الله محمّد، المتوفّى بسيئون في أوائل سنة (1324 ه).
وكان عيشه على قدم التّوكّل، ولا تخلو عصمته عن أربع زوجات، وله نوادر، منها:
أنّه تعشّى عند أمّه في حوطة آل أحمد بن زين، فقال: أريد السّمر عند بعض الإخوان.
فقالت: خذ مفتاح الدّار معك؛ حتّى لا توقظني بقرع الباب.
فعنّ له أن يذهب إلى الفجير على نحو تسعة أميال من الحوطة ودون الميل من سيئون، وكره أن يزعج أهل الفجير بالقرع، فعمد لجذع طويل ألفاه هناك، فتسلّق عليه منزل زوجته ابنة السّيّد شيخ بن أبي بكر مولى خيله، ولمّا قضى وطره منها.. عنّ له أن يذهب إلى سيئون، فحمل الجذع وتسوّر به على بيت امرأته الأخرى بسيئون ـ وهي أمّ السّيّدين: إبراهيم وموسى آل الحبشيّ ـ ولمّا أخذ مأربه منها.. ردّ الجذع إلى موضعه بالفجير، ثمّ سرى، ولمّا كان بالغرفة.. دخل جامعها وتطهّر وتهجّد ما شاء، ثمّ سرى إلى الحوطة، فلمّا وصلها.. عرف أنّه نسي مفتاح الدّار بجامع الغرفة، فرجع أدراجه وأخذه من الميضأة، وسار إلى الحوطة، ولم يصلها إلّا بعد مطلع الفجر.
ومن نوادره: أنّ زوجته الّتي بسيئون هي بنت عمّه، واسمها: شيخة بنت محمد الحدّاد، وكان كلّما زارها.. وجد عندها ابنيها إبراهيم وموسى ابني عمر بن شيخ بن هاشم بن محمّد بن أحمد الحبشيّ.. فلم يتمكّن من الخلوة بها، حتّى جاشت نفسه ذات يوم، فقال:
«خيره في العشق لي *** فيه النّكد والنّغص »
«حلّيت في حصن لكن *** فيه جملة لصص »
«خليّ خلي لي ول *** كنّه شرد وافتحص »
«جفل كما الصيد لا *** قد شاف همزة مقص »
«ولو معي قرش باقنص *** مثل من قد قنص »
وكان وجد منها فرصة، ولمّا جلس بين شعبها.. أحسّت بقدومهما، فنهضت من تحته فقال الأبيات.. فأجابته من حينها بقولها:
«قال ابن هاشم من ال *** مولى هي الّا حصص »
«لو حد قسم غير ربّي *** قلت قسمي نقص »
«لو كنت عاشق دهنت *** السير وارميت خص »
«لا جبت لي شرك في *** قادم ولا جبت قص »
«من يطعم الخيل وكّب *** به إذا شا ورصّ »
«كانّك بغيته على *** ذا الشور والّا خلص »
وذكرت عند هذا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّما دخل على أمّ سلمة بإثر بنائه عليها.. بكت بنتها، فأخذت تعلّلها بالرّضاعة حتّى أخذها عمّار بن ياسر ـ وكان لها محرما ـ وقال: لقد حرمت هذه المقبوحة المشقوحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يريد.
ومن ذرّيّة السّيّد عبد الله بن طه بقيدون: السّيّدان الجليلان: الواعظ العابد الصّالح عبد الله بن طاهر. والعلّامة الجليل علويّ بن طاهر، علم علوم، ونبراس فهوم.
«ويكنى باسمه عن فضل علم *** وكلّ اسم كنايته فلان »
فهو الخطيب المصقع، والفقيه المحقّق، والمحدّث النّقّاد، وله في التّفسير الفهم الوقّاد، ومؤلّفاته شاهدة وآثاره ناطقة، ولم أعرف مبلغ معرفته بالفقه، إلّا أنّه اختلف من نحو ثلاثين عاما هو والقاضي الشّيخ عبد الله سعيد باجنيد في مسألة في الشّفعة، وكتب في ذلك رسالة أسهب فيها حتّى انتهى إلى الثّناء على السّيّد الفاضل حسن بن عبد الله الكاف، ولمّا رفع إليّ كلام الاثنين للنّظر أظنّني ـ والعهد بعيد ـ رجّحت كلام القاضي، فرأيت منه جفوة من حينئذ ما كان له أن يتحمّلها؛ إذ لم يزل العلماء بين رادّ ومردود عليه، لكنّ الإنصاف عزيز، ولهذا لم أعامله بمثلها كما يعرف النّاس، وإن انضمّ إلى ذلك اختلاف الآراء بشأن الرّابطة حسبما فصّل ب «الأصل».
وكان على الإفتاء في بلاد جهور من ناحية الملايا، ثمّ انفصل في أيّام الحرب المشؤومة اليابانيّة.
وسبب كونهم بقيدون ما أخبرني به قاضي الحوطة الأسبق الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين بن عبد الله الحبشيّ: أنّ جدّه لأمّه شفاء وهو السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله بن طه بن عمر بن علويّ الحدّاد ـ السّابق ذكر تردّده إلى هناك ـ حمل معه ابنه طاهرا، فتزوّج على الشّريفة شفاء بنت عيسى أخت الحبيب عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، وأولدها عبد الله في سنة (1296 ه)، وعلويّا في سنة (1301 ه)، وفي نفاسها به مرّ عليه في قيدون عمّه جعفر بن طه ـ الآتي ذكره في الحاوي ـ وقال له: لماذا تجلس بقيدون تضع الأولاد؟! فتعال معي إلى جاوة، ففعل، ومات بعد وصوله بشهر ونصف شهر، فعاشا في كنف أمّهما وأبيها، وكانت أمّ أعمامهم محمّد وحسن وعليّ ـ وهي سعديّة بنت الحبيب محمّد بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ ـ تبعث لهم بالمواساة، ولمّا يفع عبد الله.. نجع إليها بحوطة آل أحمد بن زين، فكفلته، وكان يتردّد إلى الغرفة؛ فله أخذ عن الأستاذ الأبرّ الحبيب عيدروس بن عمر، ولمّا استغلظ علويّ.. قدم عليها أيضا، فآوته؛ إلّا أنّها شغلته بالخدمة حتّى أنّها لا تمكّنه من حضور الرّوحة بالحوطة. هذا آخر كلام القاضي عبد الله بن حسين.
وأشهر أولاد عبد الله بن طه حالا، وأعلاهم كعبا، وأكثرهم جمالا: هو شيخنا صاحب النّفس الأبيّة، والهمم العليّة، والشّهامة والأريحيّة، كثير العبادة والتّلاوة والأذكار، ظاهر السّيادة والسّعادة والأنوار، صالح بن عبد الله، زرته بداره في نصاب آخر سنة (1349 ه) فأجلّني وأكرمني وألبسني وأجازني وشابكني ودعا لي بدعوات عظيمة.
وممّن بقيدون من السّادة: آل بافقيه، وقد مرّ في الخريبة ذكر السّيّد أبي بكر بن محمّد بافقيه، وأثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة»، وقال: «إنّه توفّي بقيدون في سنة (1053 ه) ».
ثمّ رأيت الشّليّ ترجم له في «مشرعه» وأطنب في الثناء عليه، وذكر له علما جمّا وفضلا كثيرا.
وبقيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عقيل بن عبد الرّحمن السّقّاف، وهم: آل باعقيل:
منهم: السّيّد الصّالح عبد الرّحمن، صاحب المشهد المعروف بصيف، توفّي ببضه منقرضا.
ومنهم: السّيّد عمر بن علويّ باعقيل، جمع ثروة طائلة بسربايا من أرض جاوة، ولم ينس حقّ الله فيها، من إعانة الضّعيف، وإغاثة اللهيف، وبقي مع كثرة أمواله على حاله من التّواضع، توفّي بسربايا، لعلّه في سنة (1328 ه)، وخلّف أولادا، منهم: محمّد، السّابق خبره في الضّليعة.
ومنهم: أحمد، قتله السّيّد محمّد بن عبد الله بن عمر البارّ ظهر النّهار علنا، وهو راكب سيّارته في الطّريق العامّة بسربايا.
ومنهم: محسن وحسين، قامت بينهم منازعات تلفت فيها أكثر أموالهم. وقد سبق في خبر محمّد أنّ إخوانه دفعوا عنه بأمره خمسين ألف روبيّة للقعيطيّ، وهي الّتي توقّف إطلاقه من السّجن على دفعها، وقد تعهّد محمّد بتسليم مقابلها، وأعطاهم وثيقة بذلك وهو مختار، وعلّق طلاق نسائه بالثّلاث بتأخّره عن دفعها لهم مدّة معيّنة بعد القدرة، مضت تلك المدّة وهو رخيّ الخناق، وبقي مع نسائه مع عدم عذره في المطل، ولمّا وصلت سربايا سنة (1349 ه).. سألني أصهاره من بني عمّه.. فأفتيتهم بنفوذ الطّلاق.
ومنهم: السّيّد النّزيه النّديم، الخفيف النّسيم، صاحب النّوادر اللّطيفة، والحالات الشّريفة، عبد القادر بن محمّد السّقّاف، وهو من المعمّرين، عاش في أكناف الأكابر، وحظي باعتنائهم وصحّة ولائهم، وله دالّة عظيمة عليهم، وكثيرا ما يمثّل هيآتهم وأصواتهم وقراءاتهم، وكيفيّات مشيهم وحركاتهم، فيخفّف من حسرتنا على عدم الاجتماع بكثير منهم؛ كسيّدي طاهر بن عمر الحّداد، وابنه محمّد، وسادتي: عمر بن هادون، ومحمّد بن صالح، وعمر بن صالح، وأمثالهم. وفي ذلك التّمثيل نوع من الوصال ليس بالقليل، وهو الآن بمكّة المشرّفة على ضيافة صاحب المروءة الشّيخ عبد الله سرور الصّبّان، أحسن الله جزاءه.
وفي قيدون جماعة من السّادة آل الحبشيّ، من آخرهم: الفاضل الجليل، السّيّد عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، كان على قضائها في سنة (1329 ه) وعنده علم غزير، وتواضع كثير، ونزاهة تامّة، وصدر واسع، وجانب سهل.
وآل قيدون يتعالمون بأخبار كبيرة عن نجاح الشّيخ أحمد بن سعيد باداهية في علاج الأمراض بطبّه العربيّ، لو لا انتهاؤها إلى التّواتر المعنويّ.. لكذّبناها؛ لأنّها ممّا تدهش العقول.
وفي قيدون عدد ليس بالقليل من حفّاظ كتاب الله، وبينما أنا مرّة عند السّيّد حسين بن حامد المحضار بالمكلّا.. ورد شيخ من آل العموديّ، يقال له: بن حسن، عليه زيّ البادية، فإذا به يحفظ كتاب الله ويجيد قراءته! ولمّا اشتدّ إعجابي به.. قال لي العمّ حسين: لكنّه سارق! فسألته، فقال: نعم إنّي لأحد جماعة من الحفّاظ، إذا كان من أوّل اللّيل.. سرقنا رأس غنم على أحد أهل قيدون واشتويناه، ثمّ إذا كان من آخر اللّيل.. سرنا إلى الجامع نتدارس آيات القرآن بظهر الغيب.
وما أدري أقال ذلك مازحا، ليوافق هوى الوالد حسين، أم عن حقيقة؟ غير أنّني عند هذا تذكّرت ثلاثة أمور:
الأوّل: ما جاء في «مسند الإمام أحمد» [2 / 247] ونصّه: حدّثني عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، قال: أنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ فلانا يصلّي باللّيل، فإذا أصبح.. سرق! قال: «إنّه سينهاه ما تقول») وهذا السّند جيّد.
الثّاني: لمّا كنت بسربايا في سنة (1349 ه).. حضر مجلسنا رجل أصله من مكّة، يقال له: محمود، فقرأ لنا حصّة من الكتاب العزيز بصوت جميل كاد يقتلع قلبي من مكانه، فطربت لذلك، وأمرتهم بالاكتتاب له، فقالوا: إنّه يشرب الخمر! فقلت لهم: إنّ من أدرج كتاب الله بين جنبيه، وحبّره هذا التّحبير.. لجدير أن لا يموت إلّا على حسن الختام، وذكرت الحديث، فاكتتبوا له على قدر هممهم بنحو من ثلاث مئة ربيّة.
والثّالث: قول النّجاشيّ الحارثيّ يهجو أهل الكوفة [من البسيط]:
«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»
«التّاركين على طهر نساءهم *** والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا»
«والسّارقين إذا ما جنّ ليلهم *** والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا»
«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا»
وما إخاله في ذلك بارّا ولا راشدا، وكيف يصدق وقد بلغ به الفسوق إلى انتهاك حرمة رمضان بالسّكر في أوّل يوم منه، فحدّه مولانا عليّ بن أبي طالب وزاده عشرين فانسلّ إلى معاوية مع أحد نهد في خبر طويل ذكره شارح «النّهج».
وقد قال سفيان بن عيينة: (خذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة).
ومن النّوادر: ما أخبرني به منصب المشهد السيّد أحمد بن حسين: أنّ العبيد بدوعن ـ وفيهم كثرة لذلك العهد ـ يجتمعون ويتبعهم العتقاء لزيارة الشّيخ سعيد بن عيسى في آخر جمعة من رجب، ويدخلون والخطيب في خطبته بطبولهم ومزاميرهم، فقام لهم مرّة أحد آل العموديّ فكسرها عليهم، وهمّوا بقتله لكنّهم احترموه لأنّ خاله الشّيخ عمر بن عبد القادر العلّامة المشهور الشّبيه الحال بالشّيخ بامخرمة، ولكنّهم أجمعوا على الجلاء واجتمعوا بالسّويدا ـ وهي نخيل قيدون ـ فقال بعضهم: إنّ بالسّويدا رجالا.
وبينا هم معسكرون هناك للرّحيل بقضّهم وقضيضهم ـ وقد عجز أهل دوعن عن صدّهم، مع أنّ أكثر أعمالهم وخدمهم متوقّفة عليهم ـ.. إذ جاء العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس فسار إليهم ـ ومعه الشّيخ عمر بن عبد القادر العموديّ ـ وأعطاهم البنّ
ليطبخوا القهوة، وسألهم عن شأنهم فأخبروه، فقال لهم: لا تطيب لنا الأرض من بعدكم فسنرحل معا، وما زال يلاينهم حتّى تمّ الأمر على أن تبقى زيارتهم بحالها وعلى أن تحبسوا الشّيخ الّذي كسر طبولهم شهرا، وسوّيت القضيّة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر ـ أحد تلاميذ الأستاذ الحدّاد ـ قد قيل له: إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر يريد أن يكون مثل بامخرمة، فقال الأستاذ الحدّاد: إنّه لأعظم حالا منه، وكان يستعمل السّماع إذا وصل كحلان، أمّا في تريم.. فلا؛ أدبا. وقال مرّة للحبيب عليّ بن حسن العطّاس: ما قصرن إلّا القحيبات؛ يعني: البغايا.
وقد ترجمه السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وبالغ في الثّناء عليه، وترجمه أيضا الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس، وكانت وفاته سنة (1147 ه)، وهو من أهل التّخريب، وذكره الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في مواضع من كتبه ك «جواهر الأنفاس» وغيره.
عود إلى أخبار آل العموديّ ورئاستهم بعد انقسامهم: قد مرّ في بضه أنّ الكساديّ استولى على أكثر دوعن في حدود سنة (1286 ه)، غير أنّ العموديّين اجتمعوا إثر اغتيال الكساديّ أحد المشايخ، وهو الشّيخ محمّد بن شيخ العموديّ، في سنة (1288 ه)، ونجعوا بالرّئاسة العامّة للشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ، فتحمّل أثقالا فادحة، عهّد من أجلها أموالا طائلة بسهوة السّابق ذكرها في مرخة، وساعدهم جميع قبائلهم من القثم وسيبان والمراشدة والجعدة وغيرهم، فأيّدهم الله على عدوّهم، فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم تأت سنة (1300 ه) إلّا ووادي دوعن، حسبما قال الإمام المحضار [من مجزوء الرّجز]:
«انظر إلى الوادي فقد *** حلّت به السّبع الشّداد»
«الأخمعي والمرشدي *** هم والقثم بئس المهاد»
«والدّيّني والمشجري *** هو والعبيدي لا يعاد»
«وابن مطهّر سابع ال *** غلمه وهو رأس الفساد»
«الله يهديهم ويه *** دينا إلى طرق الرّشاد»
«والّا ينظّفهم من ال *** وادي ويجعلهم بعاد»
وقد سبق في بضه أنّهم منقسمون إلى قسمين: آل محمّد بن سعيد، ولهم قيدون وما نزل عنها إلى الهجرين.
وآل مطهّر، ولهم بضه وما إليها. وكان فيهم عدّة مناصب:
آل صالح بن عبد الله، ببضه. والشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم صاحب شرق، على مقربة من الخريبة. والشّيخ سعيد بن محمّد بن منصّر صاحب العرض، بالخريبة أيضا. والشّيخ محمّد باعمر صاحب البراز، قريبا من القرين.
وبينهم من المنافسات ما لا تبرك عليه الإبل، وكلّ منهم يوضع في سبيل الجور والظّلم، فلم يكن من أحد آل باسودان وأحد آل باعبيد.. إلّا أن رفعا شكوى إلى القعيطيّ بالمكلّا على الشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم، فاستدعاه القعيطيّ، فركب إليه مجلّلا محترما، ولم يزل في مفاوضة معه حتّى تمّ الكلام على أن تكون الرّئاسة العامّة للقعيطيّ، ولابن عبد الكريم استقلال داخليّ في الخريبة وأعمالها ضمن دائرة العدل، وعلى أن ليس له أن يأخذ شيئا من الرّسوم سوى مئتي ريال شهريّا.
وقبض إزاء ذلك الصّلح من يد القعيطيّ ما لا يستهان به من الدّراهم، وما كاد يصل إلى الخريبة حتّى حبس باسودان وباعبيد، فاغتاظ السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ، ورأى أنّ شرفه مسّ، وأنّ المعاهدة انخرمت بحبس ذينك، وكره أن يتعجّل بعقوبة ابن عبد الكريم، فأشار على الشّيخ صالح بن عبد الله أن يعذر إليه، فأرسل بأخيه عبد الرّحمن، وبالسّادة: حامد بن أحمد المحضار، وحسين بن محمّد البارّ، وحسين بن عمر بن هادون صاحب المشهد، فلم يقبل ابن عبد الكريم لهم كلاما.
واتّفق أن وصل الشّيخ عليّ بن محمّد بن منصّر إلى المكلّا يتذمّر من مخالفة القعيطيّ لابن عبد الكريم، فصادف سخطة القعيطيّ على الثّاني، فحالف ابن منصّر بشرط أن يساعده على ابن عبد الكريم، وما كاد يرجع إلى مكانه العرض.. حتّى أذكى نار الحرب على ابن عبد الكريم، وجاءته نجدة القعيطيّ بقيادة عبد الله بن امبارك القعيطيّ، فلم يثبت ابن عبد الكريم إلّا نحوا من أربعين يوما، ثمّ هرب إلى جهة القبلة، فصادف أحد زعماء العموديّين، وهو: الشّيخ محمّد بن عبد الرّبّ، فجمع له عسكرا كثيفا هاجم به الخريبة فاستولى عليها، ودارت المفاوضات بينه وبين ابن منصّر صاحب العرض فانضمّ إليه، وعند ذلك تراجعت عساكر القعيطيّ إلى الهجرين، وغضب السّلطان غالب لذلك، وأرسل عسكرا مجرا بقيادة عبد الخالق ابن الماس عمر مولاهم، ولاقاه صلاح بن محمّد القعيطيّ ـ من القطن ـ مددا له بمن كان معه، وبفلول العساكر الّتي بالهجرين، وعند ذلك قالوا لآل العموديّ: اهبطوا منها جميعا، فانهزموا ولم يجدوا لهم ملجأ ولا مدّخرا إلّا الشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ المحافظ على محايدته، فنزلوا عليه.. فآواهم، وكان ذلك في سنة (1317 ه).
وكان من رأي الأمير صلاح بن محمّد وعبد الخالق أن يطاردوهم وينتزعوهم من بضه، لكنّ السّلطان غالب بن عوض كان كريما، يجلّ الكرام، فنهاهم عن ذلك احتراما للشّيخ صالح بن عبد الله، وبإثر ذلك انتحر عبد الخالق الماس في القويرة، ولم تطل أيّام الأمير صلاح.. بل مات وشيكا في سنة (1318 ه). وب «الأصل» تفصيل تلك الحوادث.
وأسند القعيطيّ عمالة وادي الأيمن للمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ما قد أسلفناه في عوره، وبعد أن استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن.. حمل المقدّم باصرّة كلّ أسلحة الدّهاء لحمل القعيطيّ على التهام الوادي الأيسر، ولم يزل يتحيّن الفرص للوثوب عليه؛ لما في قلبه من البغضة للحالكة.
وكانت رئاسة الوادي الأيسر لآل الشّيخ محمّد بن سعيد ولقبائلهم الحالكة، ومن مناصبهم: الشّيخ محمّد عبود القحوم، السّابق ذكره في قرن ماجد، وله بلاد الماء وخديش وقرن ماجد، وهو من الوادي الأيمن، وله العرسمة ونصف صبيخ، وهي من الأيسر.
ومنهم: الشّيخ حسن بن بدر، وله صيف وفيل.
ومنهم: الشّيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن محمّد، وله حوفة وضري وتولبة.
ومنهم: الشّيخ عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمّد، وله العرض، ونصف صبيخ مثرى القحوم.
ومنهم: الشّيخ حسين بن محسن، وعمر بن عبد الله، ولهم حيد الجزيل.
وأوّل ما انفتح الباب لباصرّة إلى الوادي الأيسر: شرّ حدث بين الخنابشة وآل باهبري، سببه: أنّ أحمد بن سالم باشجيرة الخنبشيّ تزوّج امرأة من آل باهبري، يقال لها: قمر، بدون رضا من بني عمّها، فبينما امرأة من الخنابشة تستقي من غيل جريف.. إذ عمد لها بعض آل باهبريّ فأراق ماءها، فخفّت إلى أهلها، فكانت بينهم وقعتان، قتل في الأولى عمر بن سالم الخنبشيّ، وفي الثّانية أخوه عبد الله بن سالم الخنبشيّ، وكان ذلك أوائل سنة (1322 ه)، فخاف آل باهبريّ من الخنابشة، وكان شيخ قبائل الحالكة كلّها المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، فلجأ إليه آل باهبريّ، فأعطاهم بعض رجاله بصفة الخفارة، فسقط في يد الخنابشة، وأيقنوا بتعذّر الثّأر، فاستعانوا بالمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ينظر إلى واديهم نظر الجزّار إلى التّيس، وتحالفوا معه سرّا حلفا هجوميّا دفاعيّا، آثروا التّكتّم به؛ لئلّا ينتبه آل باهبريّ فيأخذوا حذرهم، ولمّا ظهر لهم قاتل أحد إخوانهم.. أطلقوا عليه الرّصاص فنضخ دمه في ثياب بلحمر، فاستشاط المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، وأحاط بجحي الخنابشة، ولمّا اشتدّ الأمر.. أمدّهم باصرّة بأربع مئة مقاتل، فأبلعوهم الرّيق.
وفي سنة (1325 ه) سار بلحمر وأهل ليسر ـ ومنهم: آل بقشان، ورؤساء الحالكة، والشّيخ أحمد بن حسين العموديّ ـ إلى المكلّا، وحالفوا القعيطيّ وأعطوه الوادي، وأعلنوا ذلك بالأسواق، ففتّ بذلك في أعضاد الخنابشة؛ إذ لا يستطيعون مقاومة بلحمر إلّا بالقعيطيّ، ومتى حالفه.. ماذا يفعلون؟ فبقوا ساكتين حتّى نزغ الشّيطان بينهم، ونشبت الحرب مرّة أخرى، وسرعان ما انعقد الصّلح بين الخنابشة وبلحمر على أن لا تكون مساعدة من القعيطيّ للخنبشيّ في مدّة الصّلح، ولمّا انتهى.. حصلت مساعدة قليلة استمرّ بها الخنبشيّ على الحرب عشرة أشهر، ولمّا اشتدّ الحصر على الخنابشة بالجحي.. جاءت نجدة المكلّا، وتقدّم باصرّة من الوادي الأيمن، وأحاط بالعرسمة فسلّمت في سنة (1328 ه)، ثمّ سلّمت الجديدة، ثمّ صبيخ، ثمّ جريف، ثمّ الدّوفة.
ثمّ انعقد الصّلح بين القعيطيّ والحالكة على بقائهم بمساكنهم وأموالهم في الوادي الأيسر مجلّين محترمين، إلّا أنّ المقدّم عمر بن أحمد بلحمر لم يطب له المقام مكتوف اليد، فذهب إلى سيئون ثمّ إلى وادي العين ثمّ إلى ريدة الجوهيّين ثمّ إلى لبنة بارشيد عند نوّح، فلم يعثر بطائل فعاد إلى بلاده، وأجرى له السّلطان غالب بن عوض ما يكفيه، وتفصيل هذه الأخبار ب «الأصل».
ومن وراء قيدون عدّة قرى وشراج، ومنها:
مسه، وهي قرية صغيرة على يسار الذّاهب إلى دوعن، يسكنها ناس قليل من آل بامحرز، وفيها غيل جار، عليه نخيل لآل بامحرز ولآل العموديّ، وعليه تزرع الخضراوات، وحواليها كانت وقعة مسه، وحاصلها: أنّ السّلطان عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق أغرى ولده جعفرا على الشّيخ محمّد بن مطهّر العموديّ في ألف وثمان مئة.. فلاقاه العموديّ في عدد قليل، ولمّا رأى عسكر جعفر.. انهزم، فتبعه عسكر جعفر، ثمّ لم يشعروا إلا بكمين من العموديّ يركب أكتافهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وفرّ الأمير جعفر بمن بقي معه إلى الهجرين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
سبعة ومئتين غلبوا سبعة عشر مية
وكان ذلك في حدود سنة (1115 ه) كما فصّل ب «الأصل».
ومنها: نسرة، فيها آثار ديار قديمة، وقد بني فيها مسجد ومدرسة على نفقة الشّيخ أحمد بن مساعد ـ أو مداعس ـ الموجود الآن فيما يقال بالحديدة.
وقد رجوت أن يحصل من هذه المدرسة ما كنت أؤمّله؛ إذ لا يرجى الخير من مدرسة يختلط أبناؤها بالأوساط الفاسدة، وإنّما يرجى من مدرسة داخليّة ينتخب لها معلّمون صالحون، على أبلغ ما يكون من النّزاهة والتّقوى، حسبما اقترحته على السّلطان القعيطيّ في أواخر ذكر المكلّا؛ لأنّ الخلطة الدّاء، وإنّما التّلميذ هو ظلّ المعلّم.. ينحو نحوه، ويقتصّ أثره، ولكن بلغني ـ ويا للأسف ـ أنّ تلك المدرسة أقفلت، وطاحت تلك العبارات، وفنيت تلك الإشارات، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وما شاء الله.. كان، وما لم يشأ.. لم يكن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
49-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المشهد)
المشهدقرية صغيرة، تبعد عن الهجرين في شمالها مسافة ساعتين، وكان موضعه يسمّى (الغيوار)، يكمن به اللّصوص فيخيفون السّابلة ويقطعون السّبيل، ويأتون في ذلك المكان المنكر.
وكان الحسد قد تكسّرت نصاله في الحبيب عليّ بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر بن عبد الرّحمن العطّاس؛ لعلوّ شأنه، وغزارة علمه، وقوّة عارضته، وكان يتنقّل في البلدان لنشر الدّعوة إلى الله، وكانت أمّه من المشايخ آل إسحاق السّاكنين بهينن، فبدا له أن يختطّ بذلك المكان دارا ويبني مسجدا، ورغّب النّاس في البناء بجواره، وعندما رأوا عموم الأمان.. بنيت ديار حواليه، فكان بناؤه هناك واختطاطه ذلك المكان حصاة صادت عصفورين؛ إذ استراح هو من مناوأة الحسّاد، وأمن به النّاس، وزال البأس.
وكان يحتفل بمولد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل في كلّ عام، يتقاطر له الوفود من كل ناحية حتّى من قريب صنعاء، وهناك تكثر الفوائد، وتبسط الموائد، وتهتزّ الأبشار، وتحنّ العشار، وينظم الانتشار، وتقشعرّ الأبدان؛ لحضور الأرواح من بشّار.
«هنالك يهتزّ الشّعور إذا التقى *** من الملأ الأعلى كرام وطيّب »
«وثمّ يطيب الاتّصال إذا انبرى *** نسيم الرّضا وانهلّ بالفضل صيّب »
ولا تزال تلك العادة متّبعة إلى اليوم، وهذا المولد من أقلّ الموالد بدعا ومفاسد، إلّا ما قد يقع من اختلاط الرّجال بالنّساء، ولكن لم يشتهر عنه فساد، ولا مانع أن يكون ذلك ببركة إخلاص مؤسّسه وحسن نيّته، ولو رأيت ما يقع من فرح الوفود، وزجل الأراجيز، ودويّ المدافع، وزمجرة الميازر.
«والخيل تصهل والفوارس تدّعي *** والبيض تلمع والأسنّة تزهر »
«والأرض خاشعة تميد بثقلها *** والجوّ معتكر الجوانب أغبر»
«والشّمس طالعة توقّد في الضّحى *** طورا ويطفئها العجاج الأكدر»
.. لرأيت ما يملأ عينيك نورا، وقلبك سرورا.
وتقوم هناك سوق من أسواق العرب تدوم ثلاثة أيّام، وتأتيها القوافل حتّى من نحو صنعاء.
وكان الحبيب عليّ بن حسن العطّاس ـ صاحب المشهد هذا ـ صدرا من صدور الرّجال، وله مؤلّفات كثيرة، منها: «القرطاس» في ثلاث مجلّدات كبار، ومنها: «سفينة البضائع»، وله «ديوان» عذب، كأنّه اللّؤلؤ الرّطب، وهو يمرّ في منظومه ومنثوره مع خاطره، لا يتكلّف ولا يتنطّع، ولا يدع شيئا بباله إلّا نفث به لسانه، وعسل به قلمه، من ذلك: أنّ جماعة من قرار شبام باتوا عنده، فأكرمهم وأسبغ قراهم، ومعهم جمّال من آل مهري، سأل عنه الحبيب عند حضور العشاء، فقالوا له: إنّه عند المراكيب، فأخّر عشاءه حتّى نفرغ، قال: لا يمكن أن نأكل إلّا ويده مع أيدينا.
واتّفق أنّ الحبيب دخل شباما بعد أمّة من الزّمان واجتمع بكلّ أولئك في الجامع، ولم يقل له أحد تفضّل إلى منزلي، وأبوا بلسان الحال أن يضيّفوه، فاضطرّ إلى الخروج من شبام قريب المغرب، فلاقاه ابن مهريّ خارجا من سدّة شبام وعزم عليه وألحّ، وذبح له منيحة ولده، فأنشأ الحبيب قصيدة يقول فيها:
«علي بن حسن حوّط الغيوار وامسى مزار *** وامسيت يالجحي جنّه بعد ما كنت نار»
«يا القروي القار يا عرق الحدج يا قرار *** حبّ القبيلي وقيراط القبيلي بهار»
وان جيت صرّ القبيلي ما لطف في الصّرار
وسيأتي في شبام أنّ لأهلها مكارم غزيرة، ومحاسن كثيرة، إلّا أنّهم لا يقرون الضّيف؛ لضيق منازلهم وكثرة أشغالهم.
وكلام الحبيب في «ديوانه»، وإن خرج عن قواعد الإعراب.. فإنّه عذب اللهجة، حلو السّياق، خفيف الرّوح.
أخذ عن كثير من المشايخ، مرّ ذكر جملة منهم، ومنهم: جدّ أبيه: الحبيب حسين بن عمر العطّاس، وجدّه عبد الله بن جعفر مدهر، والسّيّد أحمد بن زين الحبشيّ، وغيرهم.
وكانت وفاته بالمشهد سنة (1172 ه)، ولا يزال أولاده يتوارثون منصبه على البرّ والتّقوى، وإكرام الضّيف، وإعانة المنكوب، وتأمين الخائف، والإصلاح بين النّاس، والحجز ما بين المتحاربين.
والقائم بمنصبهم الآن هو: أخونا المنصب السّيّد أحمد بن حسين بن عمر بن هادون، سخيّ الكفّ، سليم الصّدر، خفيف الرّوح، قليل الغضب، لا يشينه عبوس، ولا يبطره غنى، ولا يذلّه بؤس.
«لا مترفا إن رخاء العيش ساعده *** وليس إن عضّ مكروه به خشعا»
وفيه أقول من «الرّحلة الدّوعنية» [من الطّويل]:
«وعجنا إلى الغيوار صبحا فأطلقوا *** كذا وكذا عند التّحيّة مدفعا»
«وزرنا البعيد الصّيت حامي الحمى الّذي *** به صار من عرّيسة اللّيث أمنعا »
«وكان زعيم المشهد الشّهم غائبا *** مضى هو والسّلطان في رحلة معا»
«وكان مكينا عنده حيث إنّه *** بأخلاقه لم يبق للظّرف موضعا»
«سوى لحية فيها يسير زيادة *** أريد على تقصيرها فتمنّعا»
«وفي جيده باللّيل أبصرت سبحة *** من الرّقش خفنا أن تدبّ وتلسعا »
ولا يشكل قولنا: (أبصرت) مع أنّه كان غائبا؛ لأنّا اجتمعنا وإيّاه بعد ذلك مع السّلطان، فكان ما في البيت.
ولقد أخبرني أنّ السّلطان صالح بن غالب أراده على حلق لحيته أيّام كان معه بمصر؛ لأنّ أهل مصر لا يحبّون اللّحى، وبذل له مئة دينار مصريّ فامتنع، إلّا أنّه ندم بعد ذلك، ولا سيّما إثر ما أخبرته باتّفاق الرّافعيّ والنّوويّ على كراهة حلقها لا حرمته، وأنّ السّخاويّ ذكر في «الضّوء اللّامع» أنّ عبد الحقّ بن هاشم الجربيّ المغربيّ كان يحلق لحيته وشاربه، وكان صالحا معتقدا، وأصله من الينبوع فيما يذكر، وقد تولّى مشيخة رباط السّيّد حسن بن عجلان بمكّة، وبها توفّي سنة (845 ه) فاشتدّ ندمه حينئذ، وأنشد لسان حاله قول كثيّر عزّة [في «ديوانه» 244 من الطّويل]:
«لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها *** وأمكنني منها إذن لا أقيلها»
وفي حوالي المشهد كثير من الأطلال والآثار العاديّة، وأكثرها في مكان يقرب منه، يقال له: ريبون، يزعمون أنّ به آثارا مطمورة بالتّراب، كمثل الآثار الّتي اكتشفت بناحية حريضة، أو أكثر.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
50-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الكسر)
الكسرهو صقع واسع من أحسن بلاد حضرموت تربة، بل أحسنها على الإطلاق، بشهادة ما جاء بالأصل من فضول صدقات تجيب وكثرتها. وسيأتي في قارّة الشّناهز ما يفهم أنّ ناسا من قبيلة حضرموت يسكنونه في سنة (605 ه).
قال ابن الحائك: (ويسكن الكسر في وسط حضرموت تجيب، منهم اليوم بها أربع مئة فارس وإحدى عشر مئة راجل، ويعرف الكسر بكسر قشاقش، وفيه يقول أبو سليمان بن يزيد بن أبي الحسن الطّائيّ [من الطويل]:
«وأوطن منّا في قصور براقش *** فمأود وادي الكسر كسر قشاقش) اه »
وفي براقش يقول عمرو بن معديكرب الزّبيديّ ـ وكان ممّن يسكن الكسر ـ
[في «شعر عمرو بن معدي كرب» 140 من الوافر]:
«ينادي من براقش أو معين *** فأسمع فاتلأبّ بنا مليع »
وقال الطّائيّ أيضا [من المنسرح]:
«تستنّ بالضّرو من براقش أو *** (هيلان) أو يانع من العتم »
يصف بقرا تستنّ بالضّرو، وهو: شجر يستاك به.
وقال فروة بن مسيك المراديّ [من الوافر]:
«أحلّ يحابر جدّي غطيفا *** معين الملك من بين البنينا»
«وملّكنا براقش دون أعلى *** وأنعم إخوتي وبني أبينا»
وقال علقمة [من الوافر]:
«وهل أسوى براقش حين أسوى *** ببلقعة ومنبسط أنيق »
«وحلّوا من معين يوم حلّوا *** لعزّهم لدى الفجّ العميق »
ومعين: بلد بالجوف من بلاد حمير، باقية آثارها، وعلى كثير من أحجارها المنجورة كتابات بالمسند، وهو لسان عربيّ يعرفه كثير من أهل صنعاء، كالشّيخ الفاضل محمّد بن أحمد بن عليّ الحجريّ، منها ما وجد على مردم ضخم جدّا، مستند إلى أسطوانتين عظيمتين، في معبد قريب من مدينة معين، وفيه كلمات لم تعرف من لغة حمير، وأكثره عربيّ مبين، وحاصله: (خال كرب، صادق ابن أبيدع ملك معين، بنى وأحدث رصيف بيت عثتر، الّذي قبض ورثته بيوتهم).
وعثتر ـ بعين، ثمّ ثاء مثلّثة، ثمّ تاء مثنّاة من فوق ـ: صنم مشهور.
وقد بقي من آثار ذلك المعبد عدّة أسطوانات قائمات إلى ارتفاع خمسة أذرع، وعلى رأسها مرادم ضخمة، لا يقدر النّاس على رفعها، في غاية من الجمال الهندسيّ.
وبلغني أنّ بعض الأجانب استخرج أسماء اثنين وثلاثين ملكا من الآثار الّتي بالجوف، لكن بدون ترتيب، والأجانب يخادعون أهل اليمن في مفاد تلك النّقوش، ولكن.. قد انكشفت خلابتهم بمعرفتهم لقواعده.
والإفرنج يزعمون أنّ مملكة معين ظهرت في الألف الثّاني قبل الإسلام، وأنّها أقوى وأغنى من مملكة سبأ، وأنّ ملكها بلغ إلى غزّة، وأنّ سلطانها انتقل إلى سبأ الّتي بدأت قوّتها في الظّهور أواخر أيّام مملكة معين، وهو كلام متناقض؛ لأنّ مملكة سبأ أقدم من ذلك بكثير، وكلاهما من فروع الممالك القحطانيّة.
وقحطان: هو ابن هود على ما يأتي في نسبه عند ذكره، وهود عليه السّلام نبيّ عاد، وقد نصّ القرآن على أنّ ملك عاد عقب نوح، وذلك حيث يقول في سورة الأعراف: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فزعم أنّ عادا وثمود تفرّعوا عن الحمّورابيّين غلط؛ لأنّهم أقدم من ذلك، وفي «التّيجان» لابن هشام: أنّ عمرو بن القيس بن بابليون كان ملكا على مصر في أيّام إبراهيم عليه السلام، وعمرو هذا من أهل سبأ.
قال الهمدانيّ في «الإكليل»: ما أعلم أحدا استوفى ما ذكره أبو علكم المرّاني، أحد رجال همدان [من البسيط]:
«نحن المقاول والأملاك قد علمت *** أهل المواشي بأنّا أهل غمدانا»
«وأنّنا ربّ بينون وأضرعة *** والشّيد من هكر ناهيك بنيانا»
«براقش ومعين نحن عامرها *** ونحن أرباب صرواح وريشانا»
«وناعط نحن شيّدنا معاقلها *** ومأذنا وقرى نشق ونوفانا »
«وقصر بينون علّاه وشيّده *** ذو الفخر عمرو وسوّى قصر غمدانا»
«وقصر أحور رأس القيل ذي يزن *** وقصر فيّاش في أرياب قد كانا»
من قصيدة طويلة، قال الهمدانيّ في «الإكليل» [8 / 108]: (ما أعلم أحدا من شعراء اليمن استوفى ما ذكره من المواضع).
وقد ساق منها جملة فالتقطنا ما ذكرناه.
والشّعر في هذه المواضع أكثر، ولكن لا حاجة إلى الإطالة، وما أكثر ما يأتي ذكر بينون وغيره من هذه الحصون في أشعار العرب، قال النّابغة الجعديّ [في «ديوانه» 149 من المنسرح]:
«يا أيّها النّاس هل ترون إلى *** فارس بادت وخدّها رغما»
«أمسوا عبيدا يرعون شاءكم *** كأنّما كان ملكهم حلما»
«من سبأ الحاضرين مأرب إذ *** بينون من دون سيله العرما»
وفي الجوف عدّة مدن خاربة، منها: معين هذه.
ومنها: براقش، ورغوان، والدّخناء، والبيضاء، وهي غير البيضاء الواقعة بأرض الظّاهر، واسم البيضاء القديمة نشق، وغير هذه المدن.
ثمّ إنّ معينا معدود في محافد اليمن المشهورة؛ كغمدان، وتلقم، وناعط، وصرواح، وسلحين، وظفار، وهكر، وظهر، وشبام، وغيمان، وبينون، وريام، وبراقش، وروثان، وأريات، وعمران، والنجير بحضرموت، كما عند الهمدانيّ، وفي مواضع من «الصفة»: أنّ من المحافد حوره. وتريم بحضرموت، كما في مواضعها.
وقال ياقوت في «معجمه» [5 / 442]: (كانت منازل العماليق صنعاء، ثم خرجوا فنزلوا حول مكّة ولحقت طائفة بالشّام ومصر، وتفرّقت طائفة بجزيرة العرب إلى العراق والبحرين وعمان. وقيل: إن فراعنة مصر كانوا من العماليق...) إلى آخر ما ذكر.
وقد دلّلت في «الأصل» على وصول سيّدنا عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ إلى الكسر بقصّة أصلها في «الصّحيح»، ولها تتمة من «السّيرة الحلبيّة»، وبسطها في «شرح ابن أبي الحديد» على «النهج».
قال الهمدانيّ: (والكسر قرى كثيرة، منها: قرية يقال لها: هينن، فيها بطنان من تجيب، يقال لهما: بنو سهل وبنو بدّا، فيهم مئتا فارس، تخرج من درب واحد، ورأسهم اليوم: محمّد بن الحصين التّجيبيّ) اه
وعن أحمد بن محمّد مؤذّن باجمال، عن عوض بن أحمد الجرو: (أنّ يونس بن عبد الأعلى الصّدفيّ توفّي سنة (264 ه) وكان ممّن يسكن الكسر) اه
وقد ترجمه ابن خلّكان [7 / 249] وأطال، وكذلك الحافظ ابن حجر في «تهذيب التّهذيب» [4 / 469]، والخزرجيّ في «خلاصته»، وهو ركن من أركان الإسلام، أخرج له النّسائيّ ومسلم وابن ماجه.
كانت ولادته في سنة (170 ه) وأقام شاهدا بمصر ستّين سنة، ومع ذلك فلا يستبعد كونه من حضرموت؛ لاحتمال خروجه منها وسنّه فوق العشرين أو الثّلاثين؛ فالأمر جدّ قريب؛ لأنّه كان من المعمّرين.
إلّا أنّه يشكل عليه ما قيل: إنّ ولادته بمصر، ولا إشكال حتّى بفرض صحّته؛ لاحتمال مجيئه إلى حضرموت وهو صغير كما هي العادة عند المهاجرين بإرسال أولادهم إلى مرابع أناسهم صغارا، وسكناه بها مدّة؛ لأنّ الجرو من الثّقات.
وفي «مفتاح السّعادة والخير» لصاحب «القلائد»: (ومن حضرموت: أودية دوعن، ووادي عمد وشبوة وما حواليها، ومنها الكسر، وهو ما يفيض إليه ماء هذه الأودية إذا زاد وانكسر ما يمنعه) اه
والواقع الآن أنّ سوم الأودية الواقع شرقيّ قعوضه الممتدّ من الشّمال إلى الجنوب ـ يسمّى بالعشرقة ـ ترجع عنه سيول الأودية إلى هينن وعرض آل حويل ومكان آل جذنان ورملة آل العيدروس، ثمّ إلى الفوهة والخشعة.
وتخاف نهد من زيادة المياه على قعوضة والظّاهرة وشريوف، ولكنّ الغالب انهيار ذلك السّدّ؛ لأنّه لا يبنى إلّا من الطّين، وإذا انهار إلى جانب هينن وما لفّها.. صارت المياه إلى الباطنة والقطن ثمّ المسحرة وأسفل حضرموت، وكثيرا ما تتّهم نهد بكسره إذا جاءت السّيول ليلا.. فيقوم النّزاع بين الطائفتين.
وسمعت عن غير واحد من الثّقات عن الحبيب أحمد بن حسن العطّاس أنّه كان يقول: (إنّ المياه في أيّام سدّ سنا كانت تنكسر منه إلى الكسر ـ أي: ترجع منه إليه ـ ولذلك سمّي بهذا الاسم) وكنت أستشكله جدّا؛ لأنّ تريما وغيرها من البلدان كانت موجودة لذلك العهد، ولو كان ماء سنا يرجع إلى الكسر.. لأغرق شباما فضلا عمّا وراءها، وما زال هذا الإشكال أثقل عليّ من الجبل حتّى انكشف بما سيأتي في الحسيّسة وفي سنا، فليكشف ذلك الجواب من هناك.
ثمّ اعلم أنّ العبر على قريب من محاذاة شبوة في الجهة الغربيّة، وهو في شمال شبوة. ومن ورائه إلى الشّرق: ركبان.
وفي شمال ركبان إلى الغرب: وادي الجابية. ومن وراء ركبان إلى شرق: عكبان. ثمّ السّور، وسكّانه اليمنة من نهد. وعن شماله: واديه.
وعن جنوبه أرض واسعة، يقال لها: الفوّهة، وفيها بيرحمد، تردها القوافل من القبلة، وسكّان الفوهة آل بدر من نهد، وفي شرقيّها الأرض الّتي يصلح فيها زرع البرّ صلاحا طيّبا، وهي المسمّاة: الخشعة، وهي أرض واسعة، طيّبة التّربة، قريبة المياه، لا يزيد عمق البير عن سبع قامات، مع أنّ الآبار في قعوضة وحواليها يبلغ سبع عشرة قامة، وإليها ينحدر ما يزيد من مياه الأودية عن قعوضة ونواحيها، ولو زادت مياه رخية.. لوصلتها؛ لأنّها منخفضة عنها.
ومن ورائها إلى الشرق: رهطان. ومن ورائه متشاملة: بلد هينن. وعن شمالها: واديها، هكذا أخبرني جماعة من ذلك الطّرف جاؤوا يستفتوني في قضيّة لهم.. فالعهدة عليهم.
والمراحل بسير الأثقال الآن: من قعوضة إلى الخشعة خمس ساعات. ومن الخشعه إلى صحراء واسعة اثنتا عشرة ساعة. ومن تلك الصّحراء إلى السّور أربع ساعات. ومنه إلى مرعى ستّ ساعات. ومن المرعى إلى الصّحراء الّتي وقعت فيها الواقعة بين نهد ودهم اثنتا عشرة ساعة. ومن هذه الصّحراء إلى قرن الذّئاب اثنتا عشرة ساعة. ومنه إلى العبر سبع ساعات.
وفي الأعراف القديمة أنّ مبتدأ العبر من الجهة الغربيّة الشّماليّة هي: رملة وبار إلى الفوّهة والخشعة، وفيه رمل الحزار الّذي جاء ذكره في قول ابن عقبة في قصيدته المشهورة [من الكامل]:
«من شطّ ميناء الرّديف ترحّلت *** سحرا وكان الفجر لمّا يسفر»
«قطعت ضحى رمل الكديف ومنصحا *** والقري جازت فيه لم تتحيّر»
«وبمذنبي أنصاص ثمّ بحروة *** نفرت نفور الخشف خوف المنسر»
«وردت قبيل الظّهر علقم شبوة *** والآل يمكر بالصديّ ويغتري »
«وتروّحت عصرا وأمست ترتعي *** وسطا وطار في الفلاة وتجتري »
«حتّى إذا ما اللّيل أدبر شطره *** وسرت على الوجناء أمّ حبوكر »
«بادرتها بالرّحل ثمّ نسأتها *** فجرت كجري الأجدل المتحدّر»
«وبدهر جازت ثمّ رخية بعدها *** وعلى الحزار كمثل برق مغور»
«ومدودة جازت ولم تلبث بها *** إلّا مقام مسلّم ومخبّر»
«وبدا الصّباح فصبّحت من كندة *** بقرار عرصتها سلالة جعفر»
وفي «صفة جزيرة العرب» للهمدانيّ [304 ـ 305]: (أنّ محجّة حضرموت من العبر إلى الجوف، ثمّ صعدة، ويدخل معهم في هذه الطّريق أهل مأرب، وبيحان، والسّروين، ومرخة، فهذه محجّة حضرموت العليا.
وأمّا السّفلى: فمن العبر في شيز صهيد إلى نجران شبه من ثمانية أيّام، وهي الّتي وصفها الأشعث الجنبيّ في شعره الآتي آخر الكتاب.
ثمّ من نجران: حبونن ـ وبأعلاه قتل عبد الله بن الصّمّة، قتله بنو الحارث بن كعب ـ ثمّ الملحات، ثمّ لوزة، ثمّ عبالم، ثمّ مربع، ثمّ الهجيرة، ثمّ تثليث، ثمّ جاش، ثمّ المصامة، ثمّ مجمعة ترج من ديار تميم بالدّهناء) اه
والعين: هو في غربيّ علبان، وسكّانه الكرب وآل عبد الله بن عون من الصّيعر، وكانت العين مجتمع مياه الأودية.
وفي غربيّ العين الأرض المسمّاة: المنغلقة، وهي ذات عيون ونخيل غير مغروسة، وإنّما تنبت ممّا تلقيه الرّكبان من النّوى بحافّات العيون، وقلّ من ينتفع بها؛ لأنّها مخوفة؛ إذ هي مأوى الغزاة الباقين على عوائد الجاهليّة، إلّا أنّها أمّنت الآن بعد تدخّل الحكومة الإنكليزيّة، وهي تحت يد المسادسة من الصّيعر، ولو وفّق الله المهاجرين من الحضارم لعمارتها.. لكان لهم فيها ما يغنيهم عمّا سواها؛ لأنّها من أخصب بلاد الله.
وإذا صدق ما يتعالم به النّاس من وجود منابع للبترول بشبوة ـ وهي على مقربة منها ـ.. ستكون من جنّات الدّنيا.
أمّا وادي هينن: فيسكنه آل شرمان، كبيرهم فرج بن عليّ، وله ولأخيه عمر بن عليّ، شمم وهمم، وهما الآن في ممباسة. وفيه: آل سعدون من الصّيعر، ثمّ دخلوا في نهد. وفيه: آل عزون، وآل تيربان، كلّهم من نهد.
وأمّا هينن: فتنقسم إلى قسمين:
أحدهما: الحثم المتكرّر ذكره في «ديوان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة»، وفيه آل إسحاق، ومنصبهم الآن: عبد الرّزّاق.
والثّاني: الحزم، وفيه آل إسحاق أيضا، ومنصبهم الآن شيبان بن صالح.
وأوّل من اختطّه الشيخ عبد الرّحمن بن محمّد بن مرتع في القرن الحادي عشر، ومرجع ال مرتع إلى ثور بن مرتع بن عفير الكنديّ، ولا يزال به ناس منهم، ويرأسهم يسلم بن سعيد بجاوة، ومحمّد بن سعيد في مقدشوه، وهو الّذي روى لي عن سلسلة ذوي الأنساب: أنّ آل مفتاح والعنابرة الموجودين بهينن هم عبيد لعبد يلهم بن مرتع الكنديّ صاحب صومعة دمّون. اه
وقال: إنّ أعقابهم لا يزالون مستخدمين لآل مرتع إلى اليوم.
وكان في هينن كثير من الإباضيّة، كما يعرف من التجاء الإمام إبراهيم بن قيس إلى بني سهل فيها، بشهادة قوله [من الطّويل]:
«فيال بني سهل أضعتم جماعتي *** وآويتموني يوم خرّب موطني »
«وصرت مليكا فيكم متمكّنا *** كنينا حصينا مكرما غير هيّن »
«سوى أنّني يا قوم لم أقض حاجة *** لديكم ولا عاينت أمرا يسرّني »
«فإن تنصروني فالرّجيّة منكم *** وإن تعجزوا قابلت أرضا تعزّني »
وسيأتي في شبام ما يصرّح بكثرة علماء الإباضيّة في هينن إذ ذاك.
ومن آل إسحاق بهينن: العلّامة الشّهير شيبان بن أحمد اليتيم، تلميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم.
والشّيخ أحمد اليتيم، وهو ابن الشّيخ سهل بن عبد الله بن أحمد بن سهل بن عامر بن إسحاق.
وقد سبق في عندل عن الحبيب عليّ بن حسن العطّاس، أنّه يقال: إنّ آل إسحاق من ولد العبّاس بن عبد المطّلب، ولكنّه لم يوافق عليه، مع أنّهم أخواله؛ لأنّ أمّه هي فاطمة بنت الشّيخ شيبان السّابق ذكره.
ومن أهل هينن: العلّامة الكبير، صاحب الأحوال الغريبة، الشّيخ عبد الرّحمن الأخضر بن عمر بن محمّد باهرمز، الصّوفيّ الشّباميّ، ولد بشبام وأخذ العلم عن مشايخها، ورحل إلى الشّحر، وأخذ عمّن فيها، ثمّ ارتحل إلى هينن، ولم يزل بها إلى أن مات في سنة (914 ه).
وممّن أخذ عنه: الشّيخ معروف باجمال، وكان يكثر التّردّد عليه إلى هينن للأخذ ـ ماشيا مع البعد ـ فأحاله على ابن أخيه الشّيخ إبراهيم؛ لأنّه هو وإيّاه في شبام.
وممّن أخذ عنه: الشّيخ عمر بامخرمة، جاء من الهجرين للإنكار عليه.. فعاد أخصّ تلاميذه! وجرى له قريب من ذلك مع الشّيخ باقيس صاحب حلبون.
وذكر المؤرّخون أنّ الشّيخ عمر بامخرمة وصل إلى تريم في جمع من أتباعه والسّماع بين يديه، فانتهى خبر ذلك إلى الشّيخ الفقيه حسين بن عبد الله بن عبد الرّحمن بلحاج، المشهور، فقام من مدرسته في جمع من تلاميذه للإنكار عليه في ضرب السّماع والشّبابات، فحين لاقاه.. طرب وغاب عن حسّه، وصار يصفّق بيديه، فأنشأ الشّيخ عمر ـ على البديهة ـ قصيدة يقول في أوّلها:
«حسين هبّت نسيم القرب بعد المدى *** سرت من النّجد فانا للنّجد واهله فدا»
ونظيره ما يحكى: أنّ معاوية بن أبي سفيان ذهب إلى منزل عبد الله بن جعفر للإنكار عليه، فلمّا استقرّ بمنزله.. أطلع له جواريه يغنّين، فطرب حتّى ضرب برجله الأرض ولم يثرّب، فلمّا خرج ومعه عمرو بن العاصي.. قال له: إنّك لشرّ ممّن جئت للإنكار عليه، فقال له: إنّ الكريم طروب. وتحقيق هذه المسألة في كتابي «بلابل التّغريد».
وممّن أخذ عن الشّيخ عبد الرّحمن باهرمز: ابن أخيه ـ السّابق ذكره ـ إبراهيم بن عبد الله بن عمر باهرمز.
وآل باهرمز منتشرون بالكسر وشبام والقبلة والمكلّا؛ منهم الآن بها: الشّيخ عبد الرّحمن بن عوض باهرمز، تاجر، محبّ للخير، كثير الصّلاح، وابنه عبد الله مشارك في طلب العلم، وله نباهة وتقوى وديانة وورع حاجز.
ومن أهل هينن: الشّيخ سعيد بن سالم الشّوّاف، صاحب القصيدة المشهورة ب «قصعة العسل»؛ لحلاوتها وعذوبتها، وهو ـ كما في «المشرع» [2 / 125] ـ (من تلاميذ الحبيب أحمد بن حسين بن عبد الله العيدروس، المتوفّى سنة (968 ه)، نشأ ابن الشّوّاف في بلاده، ثمّ ارتحل إلى تريم للكسب وطلب العلم، ثمّ طوّحت به الغربة إلى وردة مصبح ـ قرية في المشقاص، يضرب بها المثل في البعد ـ وكان من أهل الأحوال، وكان يقابل كلّ من لقيه من أبناء العلماء والصّالحين بإجلال عظيم، حتّى نهاه الشّيخ إبراهيم بن عبد الله هرمز، وقال له: يا سالم؛ إنّ كتم الحرمة لمثل هؤلاء أصلح لهم، وأسلم من الفتنة والاغترار، وأسلم لك من الوقوع في النّهي..) اه
وقوله: يا سالم موافق لما في «مقال النّاصحين» تأليف الشّيخ محمّد بن عمر باجمال، أنّ اسم الشّوّاف سالم، لكنّ الّذي في (ص 58 ج 2) من «المشرع» أنّ اسمه: سعيد بن سالم، كما قدمنا.
ويحتمل أنّ باهرمز قال له: يا بن سالم، فسقطت (ابن).
وفي سنة (909 ه) حدثت معارك بين السّلطان عبد الله بن جعفر والد بدر بوطويرق وبين والي هينن، وهو من الظّلفان النّهديّين، فتوسّط الشّيخ عبد الرّحمن الأخضر للإصلاح، فلم يقبل له السّلطان كلاما؛ لأنّ ذنب الظّلفان إليه كبير؛ إذ كانوا هم الّذين قاموا على قتل أبيه في بور سنة (905 ه)، ولم تطل بعدها مدّة السّلطان، فعدّها هواة الكرامات من جملة ما كان منها للشّيخ الأخضر، أمّا الشيخ الأخضر.. فقد أظهر المساءة لمّا انتهى إليه موت السّلطان وقال يرثيه:
«رحمة الله على من مات في حصن سمعون *** رحمة واسعه فالعفو مرجو ومسهون »
وسمعون هي: الشّحر كما سبق فيها. وما أدري، أرثاه عن صحيح محبّة، أم أراد أن يبرىء الموقف عن الشّماتة ليحفظ خطّ الرّجعة مع أسرته؟
وفي سنة (795 ه) بني جامع هينن جميعه، ولا شكّ أنّ هذه العمارة كانت تجديدا، وإلّا.. فهي ذات جمعة من قديم الزّمان.
وفي «سفينة البضائع» للحبيب عليّ بن حسن العطّاس ما يفيد أنّ آل طاهر بن راجح خلفوا آل كثير على هينن، وأنّ يافعا طردتهم من مصنعتها لتسع خلت من ربيع ثاني سنة (1143 ه)، وكانوا جاروا في هينن.. حتّى لقد نهبوا بيت الشّيخ سهل بن أبي بكر بن إسحاق فزال، ولم يرجع إلّا بعد أن طردتهم يافع، وساروا بعد جلائهم من هينن إلى صنعاء.
ولا يزال بهينن كثير من الآثار والكتابة بالمسند على الأحجار.
وفيها حصن كندة القديم الّذي كان يسكنه الأشعث بن قيس، وكان يخرج منه ألف وخمس مئة فارس بشكّتهم، ويطلق عليه اليوم: حصن فرحة.
ومن قرى الكسر: شريوف؛ لآل محمّد بن عبد الله.
وغنيمة آل عبري: منهم أحمد بن سالمين بن علي بن عامر. وجوّة الخناق، وسكّانها: آل صائل من نهد.
وفي جنوبها: باحسّان، سكّانها: آل طاهر، منهم الشّيخ الفاضل عامر بن طاهر بن نهيد في ممباسا الآن يحبّ العلماء والمتعلّمين، ولا يقصّر في إعانة المنكوبين، وإكرام الواردين، ويساعده أخوه عبد الله بن نهيد، وصهره فرج بن محمّد بن طاهر وهو شابّ متحرّك.
ومنهم: رجل يقال له: يسلم بن عديان، له أخبار هائلة منها: أنّ آل حويل بنوا كوتا على مقربة من أموال آل طاهر، فلمّا سقيت من السّيل.. أرادوا حرثها فمنعهم آل حويل، وتوسّط بعض المشايخ آل إسحاق، فلم يقبلوا له كلاما، فلم يكن من يسلم إلّا أن خرج في نحر الظّهيرة معتمدا على معنقة بندقيته، حتّى وصل باب الكوت، فنادى الّذي يرتّبه ـ واسمه كريد ـ فلمّا أشرف من النّافذة.. أطلق عليه الرّصاص، فوقع ما بين عينيه، فسقط يتشحّط، فكسر باب الكوت واستولى عليه، وأطلق ثلاث طلقات إلى نحو آل حويل، فظنّوه صاحبهم يريد ماء، فسيّروه له مع ثلاث من نسائهم، فلمّا اقتربن منه.. قال لهنّ: قلن لأصحابكم: تعالوا لميّتكم، وأمّا الكوت.. فقد استولى عليه عدوّكم. ولو سكت.. لتمكّن منهم.
ومنهم رجل يقال له: القوينص، أصاب دما في آل سعدون.. فلم يقدروا على الثّأر منه؛ لأنّه كان شجاعا لا يطاق، فلم يكن منهم إلّا أن أرضوا بعض الخونة من أصحاب النّفوذ بما شاء من المال فأكمنهم في دار، ثمّ استدعاه مخفورا بعبديه، وبمجرّد دخوله الدّهليز.. أطلقوا الرّصاص عليه، فوقع ميتا، وكان ذلك في حدود سنة (1342 ه).
وفي جنوب القارة: القفل، لآل منيف. ثمّ: شراح، لهم. ثمّ: لخماس، لهم أيضا، وقد مرّت هذه في عمد، لأنّها كما تعدّ منه.. تعدّ من الكسر أيضا.
وفي جنوبها: حوطة السّيّد شيخ بن عبد الله العيدروس، وهي مفرق الطّرق إلى عمد، ودوعن، والكسر، ووادي العين.
وفي جنوبها: بحران، لآل ثابت، وهو فلاة واسعة لا حجر فيها ولا شجر. فيها كان انهزام السّلطان بدر بن عبد الله الكثيريّ من جيش الصّفيّ أحمد بن الحسن، سنة (1070 ه).
وفيها كان انهزام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ من يافع، آخر سنة (1117 ه)، ولهذا كانت مضرب المثل.. فقيل: (أين بك يا شارد بحران).
وفي (الحجاز) مكان على اسمها، فيه معادن، قال ابن هشام: (قال ابن إسحاق: ثمّ غزا حتّى بلغ بحران ـ معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ـ فأقام بها شهرين ثمّ رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا) اه.
ونقله ياقوت في «معجمه» [1 / 341] وزاد عليه، ولهذا المعدن ذكر في «مجموع النّوويّ» و «أصله».
وفي جنوب بحران إلى شرق: دار ابن صريمان، من آل ثابت، فوق المضلعة الّتي من وادي دوعن إلى الكسر.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
51-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (القطن)
القطنهو صقع لا بأس به، منه ديار بني بكر السّابق ذكرها، وعاصمته: الرّيّضة.
وهي المسمّاة: حوطة القعيطيّ، وكان القعيطيّ اشترى أرضا واسعة هناك من السّادة آل عبد الله بن علويّ العيدروس بواسطة أحدهم ـ وأظنّه السّيّد علويّ بن حسين العيدروس ـ فكان الثّمن بخسا، ولكنّ الدّلالة كانت وافرة جدّا من القعيطيّ، فبنى حوطته هذه في جانبها الجنوبيّ إلى بقايا قرية كانت هناك قديمة.
وهي طيّبة الهواء، نقيّة التّربة، يختلف هواؤها عن شبام بكثير في الصّحّة والصّفاء.
ومررت فيها أيّام الأمير صلاح بن محمّد القعيطيّ، وكان شهما محنّكا، وقور الرّكن، غزير الحلم، مشاركا في العلم والتّاريخ، مقصودا، رحب الجانب، ينصف المظلوم من الظّالم، وكان له شغل بالحرث، يحصل منه على إيراد عظيم ينفقه بأسره في نيل المكارم وقرى الضّيفان.
وهو الّذي فتل في الغوارب والذّرى حتّى حمّل ابن عمّه منصّر بن عبد الله ـ لمّا بدؤوا ينافسونه ويضايقونه ـ ما حمّلهم من الحقد والمنافسة على عمّهم السّلطان عوض بن عمر، وأوقعهم في الثّورة، ولكنّه لم يجن ثمرة سياسته إلّا خلوّ حضرموت له من وجه منصّر بن عبد الله الّذي كان يضايقه ويتفضّل عليه، وإلّا.. فقد مات وشيكا في سنة (1318 ه) ـ كما سبق في قيدون ـ عن ولدين.
أحدهما: الأمير محمّد بن صلاح، مرّت أيّامه في خدمة الجيش الآصفيّ بحيدر آباد الدّكن، إلى أن مات، وهو رجل مشكور؛ إلّا أنّ للفرزدق شاعر الهند المجهول أهاج لاذعة أقذع له فيها غاية الإقذاع.
والثّاني: عليّ بن صلاح، رجل نبيه، تكرّرت ولايته على شبام وعزله عنها؛ لأنّ السّيّد حسين بن حامد كان منحرفا عنه في باطن الأمر، كلّما ولّاه مديدة.. أبعده.
وصلح حاله أوّلا مع الأمير سالم بن محمّد القعيطيّ نائب السّلطان عمر بن عوض، ثمّ تغيّر، وفي الأخير ناب مديدة أقصر من ظمء الحمار بالمكلّا عن السّلطان صالح بن غالب، ثمّ أقيل، واشترك بعدها مع الأمير عبيد صالح بن عبدات في حركاته، ووجدوا عنده كتبا له منه تصرّح بالتّمرّد على الدّولة القعيطيّة، والنّاس يعلمون أنّ ذلك لم يكن عن عقد ضمير وعزيمة صادقة، وجدّ في الخلاف ولكن ليقضي حاجة في نفسه من الأمير عبيد صالح، فحوكم ونفي إلى المكلّا، ولكن شفع له المرض فسمح له بالرّجوع إلى مسقط رأسه، لكن لا إلى حصنه الّذي استولت عليه حكومته، بل إلى دار آخر؛ لأنّهم صادروه.
وكلّ ذلك دون ما فعله بمربّيه الشّيخ عوض بن سعيد بافضل، وقصّة ذلك: أنّ عليّ بن محمّد التّويّ أرضى عليّ بن صلاح، على أن يخطب له بنت الشّيخ عوض، ولمّا قال له: إنّها مخطوبة للسّيّد عليّ بن حسن بلفقيه.. استعر غضبا وصادر أموال الشّيخ عوض، صامتها وناطقها، وأمر عبيده بقتله، فكبر عليهم، فأنذروه، فهرب إلى سيئون، وولده الشّيخ سالم إلى عدن، ولم يرجعوا إلى القطن أبدا.
ولأمّ عليّ بن صلاح حديث طريف: ذلك أنّ أحد أقاربها من آل محفوظ خطبها.. فردّوه، ثمّ تزوّجت آخر فما زال الأوّل يترقّب الفرص حتّى هجم عليه ـ مع اثنين من أصحابه ـ وأطلقوا عليه الرّصاص، وكانت المرأة خارج الدّار.. فأسرعت إليه، فلاقاها القتلة فقالوا: ابكي محمّد، فقالت: سالف القبوله، وكان معها خنجر فبعجت به بطن الأوّل ثمّ الثّاني ثمّ الثّالث، ثمّ خفّت إلى والدها تخبره بالحال.
وهذا خبر عظيم لو لا أنّ الّذي أخبرني به ثقة ضابط.. لما كتبته، ألا وهو الشّيخ سالم بن عوض بافضل، وذكر أنّ هذا هو رغّب الأمير صلاح بن محمّد فيها، ولم تكن تصلح إلّا له، ولم يكن يصلح إلّا لها، غير أن ابنها لم يكن كما هناك.
واسم هذه المرأة: شيخة، وقارن بينها وبين فطوم الآتي خبرها في وادي الذّهب، وسألت بعض شيوخ نهد عن هذا الخبر فكذّبه وقال: إنّما قتل قتلة زوجها إخوانها. والله أعلم.
وبالرّيّضة من القطن جماعة من ذرّيّة السّيّد الصّالح أحمد الهدّار بن هادي بن عليّ بن محسن بن الحسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، وناس من آل باهرمز، وناس من آل بافضل، منهم الرّجل السّياسيّ المحنّك الّذي له الضّلع الأقوى في إقامة الدّولة القعيطيّة: الشّيخ عبد الله بن سعيد بافضل، وكان السّلطان عوض يعدّه أحد أولاده، بل يعتمد عليه أكثر منهم، ولا يسمع فيه لأحد كلاما، وهو أهل لذلك فحولة وذكاء وحسن رأي، وصدق فراسة، إلى حسن تواضع ودماثة أخلاق، فلم تغيّر فخفخة الدّولة شيئا من أخلاقه، بل بقي على زيّ أهله وأصحابه وعاداتهم، وله أخبار جزلة كثيرة.
ومنهم: متولّي أنكحتها وأهلّتها، الشّيخ عليّ بن أحمد بافضل. وجماعة من آل بامطرف الكنديّين، خلعوا السّلاح ـ كأصحابهم السّابق ذكرهم في غيل باوزير ـ ولبسوا ثياب الصّلاح، منهم اليوم: محمّد عبيد وإخوانه، مذكورون بجميل ومعاملة طيّبة، حتّى لقد بقوا ينفقون على عملائهم الّذين انقطعت صلاتهم من جاوة مع تفارط الأيّام وطول المدّة بنصف ما كانوا يعتادون في أيّام السّعة، وهذه حسنة غرّاء محجّلة، لا سيّما إذا قرنتها لما عليه آل سيئون، فأنا أعرف أحد السّادة بها، لا يكون عنده اثنان إلّا كان الثّالث وكيله، الّتي تصل دراهمه من جاوة وسنغافورة عن طريقه، ويخصم عليه منها خدمة وافرة، وينتفع بإبقائها تحت يديه؛ لأنّه لا يأخذ منها إلّا للحاجة تدريجا، ولا يحاسبه في شيء قطّ، بل يدع حبله على غاربه ليفعل ما يريد، وبمجرّد ما انقطعت الأسباب.. تنكّر له تنكّرا فاحشا، حتّى لقد كاد ينقطع السّلام والكلام، فلعنة الله تترى على اللّئام!
وبعضهم يزعم أنّ قطنا هو هذا المذكور في قول امرىء القيس [في معلّقته من الطّويل]:
«أصاح ترى برقا أريك وميضه *** كلمع اليدين في حبيّ مكلّل »
«يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أهان السّليط في الذّبال المفتّل »
«قعدت وأصحابي له بين ضارج *** وبين العذيب بعد ما متأمّل »
«على قطن بالشّيم أيمن صوبه *** وأيسره فوق السّتار ويذبل »
وقول سحيم بن وثيل الرّياحيّ [من الوافر]:
«متى أحلل إلى قطن وزيد *** وسلمى تكثر الأصوات دوني »
وجاء في (ص 57 ج 5) من «صبح الأعشى» في ترحيل الطّريق من البصرة إلى عمان أنّها: (تنتهي إلى ساحل هجر، ثمّ إلى العقير، ثمّ إلى القطن، ثمّ إلى السبخة، ثمّ إلى عمان) اه
وقطن هذا، وفي الشّعر الماضي بالتّحريك، وأمّا الّذي نحن فيه.. فساكن الوسط.
ومن قرى القطن وحصونه: دار آل رشيد. ودار آل النّقيب. وساحة الحضارمة
وحصن آل الزّوع، وهم من نهد، ولهم مروءة، وهم مثل آل شبيب ـ أصحاب غصيص بن يزيد المجلّف ـ من نهد عرما ودهر حسبما يقال. إلّا أنّ منهم واحدا لو امتزج لؤمه بماء النّيل والفرات.. لعاد ملحا أجاجا.
وساحة آل عليّ الحاجّ.
وساحة الجهاورة، ومنهم الشّيخ يحيى بن قاسم الجهوريّ اليافعيّ، رجل شهم جزل لا يتقنّع من سوءة، وله شعر جميل. وكان يكثر الكون في قزة آل البطاطيّ، أخبرني المنصب أحمد بن حسين العطّاس قال: إنّ جماعة من الصّيعر سرقوا عجلا للعبس من رعيّة العوابثة في وادي العين وذبحوه وحملوا به إلى عند آل باربّاع في سدبة، وأخبروهم بالحال، فقالوا لهم: لا ترضون علينا فإنّنا نخاف العوابثة، فساروا إلى القزة ونزلوا على يحيى بن قاسم هذا، وأخبروه فآواهم، ثمّ إنّ العوابثة قدّموا دعوى عند الحاكم النّهديّ على أولئك الصّيعر.. فأنكروا، فقال لهم النّهديّ: شهودكم؟
فأتوا بآل ربّاع، فقال لهم: ما عندكم؟ قالوا: ما عندنا إلّا أنّنا سمعنا الكلب ينبح، ثمّ جاء هؤلاء الصّيعر ومعهم شيء يحملونه لا ندري ما هو، فقال لهم النّهديّ: ليست هذه بشهادة، فاستدعوا يحيى بن قاسم وأرسلوا له مطيّة، فقال: مطيّتي أسرع، وعندما وصل.. سأله الحاكم عمّا عنده بعد شرح الحال، فقال له: أشهد بالله أنّ هؤلاء أقرّوا بأنّهم سرقوا جحش العبس الأخضر وذبحوه، وأروني جلده ورأسه، وأعطوني ربعه مع الكبد، ورجلي في القيد وبندقيّتي عدالة إن أنكروا.
فاستجهر الصّيعر هذا الكلام الصّريح، وهالهم، فقالوا له: شهادتك مقبولة من الأرض إلى السّماء، ودفعوا الثّمن.
ولمّا عزم الجهوريّ على النّهوض.. قال له الحاكم: والله لا تخرج إلّا بعد أن تتغدّى؛ فلقد ذبحت لك كبشا أنت به في شهامتك جدير، وقال لآل باربّاع: اخرجوا من داري يا مفخطة النّخل، كتمتوا شهادتكم خوفا من الصّيعر.
وأخبرني بعض ثقات يافع: أنّ يحيى بن قاسم المكنّى بو لحم ـ هذا ـ كان في سيئون، ولمّا زالوا.. سكن بنخر عمرو، قبلي شبام، ثمّ سار إلى هينن وطرد آل طاهر بن راجح فلجؤوا إلى مصنعة خربة باكرمان في وادي عمد، وهي مصنعة، منيعة لا تزال معهم إلى الآن.
ثم إنّ آل سدبة اشتكوا إليه من ظلم البكريّ، فحاربه، واستولى على سدبة وذهب البكريّ إلى عندل، ولا تزال مصنعتها بأيديهم إلى الآن، ولكنّهم لا يسكنونها ولا يأتون عندل إلا وقت حصاد زروعهم، وثمار أموالهم بها، وإنّما يسكنون بالقطن، وقد مرّ قبيل القطن أنّ آل البكريّ وبني أرض ليسوا من يافع، وإنّما هم من قبائل الرصّاص. اه
وقوله: (إنّه طرد آل طاهر بن راجح بعد جلائه من سيئون).. لا يتّفق مع ما سبق قبيل قعوضه: أنّ آل طاهر بن راجح خلّفوا آل كثير على هينن، وأنّ يافعا طردتهم سنة (1143 ه)؛ لأنّ جلاء يافع عن سيئون إنّما كان سنة (1264 ه)، والتّعدّد بعيد، وكلام الحبيب عليّ بن حسن هو الأثبت؛ لأنّ ما يتلقّى من الأفواه يزيد وينقص.
ومن الجهاورة: جابر بن قاسم بن صالح الجهوريّ، كان من رماة الحدق، متفوّقا في الرّماية، يضرب به المثل فيها، حتّى إنّه ليضع البيضة على رأس عبده ثمّ يطلق الرّصاص عليها من بعد.. فلا يخطىء المكان الّذي يرسمه منها.
وسمعت سيّدي العلّامة حسين بن محمّد الحبشيّ يخبر والدي بنظير ذلك عن بعض العلويّين بالمدينة، حتّى لقد عزم أحد الأشراف على تأديبهم لأمر جرى منهم، فخيّم بعسكره في العريض، ولمّا تناول فنجان القهوة.. قال العلويّ لأصحابه: سأرميه، قالوا: لا تصيب الشّريف فتعرّضنا للبلاء، فقال لهم: لا تخافوا، ثمّ التقط الفنجان ببندقيّته من بين أصابع الشّريف من غير أن يمسّها بسوء، فأكبر الشّريف هذه المروءة والمهارة، فانصرف بالقوم.
أمّا قول يحيى: (مسكني حصن الدّويل).. فمحتمل لأن يكون المراد حصن سيئون أو حصن شبام؛ إذ كلّ منهما يقال له: حصن الدّويل.
ومن قرى القطن: حصن المداشلة.
وحوطة النّور، للسّيّد الجليل محمّد بن سقّاف ابن الشّيخ أبي بكر، وهي عبارة عن دار ومسجد، وبساتين نخل له هناك، وقد ألّف بشأنها رسالة سمّاها: «جالب السّرور في تاريخ حوطة النّور»، وخلفه عليها ولده عبد الله، وهو رجل شهم غيور، وله أولاد مباركون.
وفي شرقيّ حوطة النّور بوادي الحبظ ديار آل بالحامض، لا يزال بها منهم اليوم نحو الأربعين رجلا وهم من نهد.
ومن قرى القطن ديار آل أحمد، ومنهم: صاحبنا الشّيخ صلاح أحمد الأحمديّ، رجل كريم، شريف النّفس، طويل القامة، جميل الصّورة، فاضل الأخلاق، قويّ العارضة، له شعر جزل بالطّريقة الدّارجة حتّى إنّ بعضهم ليتّهم ـ كما سيأتي في عرض مسرور ـ أنّه هو الفرزدق الشّاعر المجهول الّذي دوّخ الهند بأهاجيه، وملأ البلاد دويّا وضجيجا، وهو الآن يخنق المئة، ممتّعا بالعقل والحواسّ، لا حرمنا الله لقاءه في خير؛ فإنّي كثير الحنين إلى مثله من قدامى الأصحاب والمعارف، كما قال أبو الطّيّب [في العكبريّ 4 / 284 من الطّويل]:
«خلقت ألوفا لو رددت إلى الصّبا *** لفارقت شيبي موجع القلب باكيا»
وهو من أصحاب شيخنا العلّامة ابن شهاب، المختصّين به.
والعنين، وهو من قدامى بلاد القطن.
ثمّ: عقدة آل المصلّي والشّاووش. ثمّ: ديار آل سعد.
ثمّ: عرض آل بلعلا، وسمعت أنّهم من آل بالحارث أهل بيحان، وهم من المنتسبين ـ كآل الزّوع ـ بالخدمة والولاء إلى السّادة آل خيله، وكانوا يأتون إليهم في كلّ سنة فيكرمونهم، ولكنّهم جاؤوا إليهم مرّة وفي العيش يبس، فأرادوا مداعبتهم.. فتلقّوهم، وبعد أن صافحوهم واتّجهوا بهم إلى منازلهم.. همّوا بالارتجاز، فقال شاعرهم
«حيّا بذي السّاده ومن جا سعفهم *** يا داخلين العرض في أيّام الصّيوف »
«العام قد جيتوا، وجيتوا ذي السّنه *** ماشي على العدّان بقعا الّا حفوف »
فغضب آل خيله، وصرفوا أعنّة الدّوابّ، فأقبل عليهم آل بلعلا يترضّونهم ويعتذرون إليهم.. حتّى رضوا وساروا معهم إلى عرضهم وزادوا على العادة في إكرامهم. وآل بلعلا من كرام القبائل، يتّصل طارفهم بتليدهم، وكان فيهم علماء وشعراء، أمّا العلم.. فقد انقرض، وأمّا الشّعراء.. ففيهم إلى الآن، وفي عرض آل بلعلا ناس من آل السّقّاف؛ منهم السّيّد صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن.
ثمّ: نقق، فيه سادة من آل الحبشيّ، وناس من آل جابر، ولقد مررت ذات سنة ـ في طريقي إلى المشهد ـ بتلك المنازل في طريقي إلى دوعن.. فإذا أكثر حصون يافع خالية عن الرّجال، فتذكّرت قول أبي عليّ البصير [في «ديوانه» من الكامل]:
«فكأنّما تلك الشّوارع بعض ما *** أخلت إياد من البلاد وجرهم »
«كانت معادا للعيون فأصبحت *** عظة ومعتبرا لمن يتوسّم »
«تبكي بظاهر وحشة وكأنّها *** إن لم تكن تبكي بعين تسجم »
«وكأنّ مسجدها المشيد بناؤه *** ربع أحال ومنزل مترسّم »
«وترى الذّراري والنّساء بضيعة *** خلف أقام وغاب عنه القيّم »
نسأل الله أن يردّ المياه إلى مجاريها، ويسكن الدّيار ببانيها.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
52-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (شبام)
شبامقال ياقوت: (وشبام حضرموت: إحدى مدينتيها، والأخرى تريم.
قال عمارة اليمنيّ: وكان حسين بن سلامة ـ وهو عبد نوبيّ وزر لأبي الجيش بن زياد صاحب اليمن ـ أنشأ الجوامع الكبار، والمنائر الطّوال من حضرموت إلى مكّة، وطول المسافة الّتي بنى فيها ستّون يوما، وحفر الآبار المروية، والقلب العاديّة، فأوّلها شبام وتريم مدينتا حضرموت، واتّصلت عمارة الجوامع منها إلى عدن عشرون مرحلة، في كلّ مرحلة جامع ومئذنة وبئر) اه
وقد سبق في شبوة ما لاحظناه على ابن الحائك في تسميتها، وفي «روضة الألباب» للشّريف أبي علامة اليمانيّ: أنّ تريما وشباما وسنا.. هم بنو السّكون بن الأشرس بن كندة. وفيها ـ أيضا ـ: أنّ تريما والأسنى بحضرموت.
وأكثر النّاس على أنّ شباما لقب عبد الله بن أسعد بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيران بن نوف بن همدان، وبهذه القبيلة سمّيت المدينة اليمانيّة الواقعة في قضاء كوكبان، وبها أيضا سمّيت القلعة الواقعة بقمّة الجبل الخشام، المسمّى باسمها أيضا، وهو واقع في قضاء حراز ما بين الحديدة وصنعاء، وقد نزل بعض تلك القبيلة بحضرموت، وسكنوا شباما فسمّيت بهم أيضا، وبه يتأكّد أنّ أهل شبام وأهل قارة آل عبد العزيز من نهد همدان، لا من نهد قضاعة.
أمّا حنظلة بن عبد الله الشّباميّ الّذي قتل مع الحسين عليه السّلام.. فيحتمل أنّه من شبام حضرموت، ويحتمل أنّه من شبام اليمن.
ومن العجب أنّ صاحب «التّاج» قال في مادّة (كثر): (وآل باكثير ـ كأمير ـ: قبيلة بحضرموت، فيهم محدّثون، منهم: الإمام المحدّث المعمّر عبد المعطي بن حسن بن عبد الله باكثير الحضرميّ، المتوفّى ب (أحمدآباد)، ولد سنة (905 ه) وتوفّي سنة (989 ه)، أجازه شيخ الإسلام زكريّا، وعنه أخذ عبد القادر بن شيخ بالإجازة.
ومنهم: عبد الله بن أحمد بن محمّد بن عمر باكثير الشّباميّ، ممّن أخذ عن البخاريّ) اه
ووجود اسم عمر في عمود هذا النّسب ممّا يتأكّد به ما قرّرته في قول شيخنا المشهور، وشيخه أحمد الجنيد ـ: إنّ العلويّين كانوا يجتنبون اسم أبي بكر وعمر؛ لأنّ أهل حضرموت شيعة ـ من تخصيص التّشيّع بالعلويّين ومن على شاكلتهم.
وإنّي بتمعّني العموم، وأكثر أهل حضرموت إذ ذاك إباضيّة، وقد راجعت «تهذيب التّهذيب» للحافظ ابن حجر فلم أر لعبد الله بن أحمد هذا ذكرا، ولكن.. من حفظ حجّة على من لم يحفظ.
ولكنّي تبيّنت بعد ـ كما يأتي في تريس ـ أنّ البخاريّ في «التّاج» ليس إلّا محرّفا تحريفا مطبعيا عن السّخاوي، فقد جاء في «الضّوء اللّامع» له ذكر: عبد الله بن أحمد هذا وأنّه أخذ عنه، ويتأكّد بتأخير «التّاج» له عن عبد المعطي، ولو كان قديما.. لقدّمه عليه.
أمّا عبد الجبّار بن العبّاس الهمدانيّ الشّباميّ، المحتمل النّسبة إلى شبام هذه وإلى غيرها.. فقد أخرج له التّرمذيّ وأبو داود في (القدر)، والبخاريّ في «الأدب المفرد»
وفي شبام جماعة كثيرة من آل باكثير، منهم: الشّيخ عبد الله بن صالح بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير، ترجم له السّيّد محمّد بن زين بن سميط في كتابه: «غاية القصد والمراد»، وكان من خواصّ القطب الحدّاد، وله منه مكاتبات كثيرة، توجد في «مجموعها»، توفّي بشبام.
ومن «تاريخ باشراحيل» أنّه: (وقع وباء شديد في سنة «784 ه»، مات منه خلق كثير بشبام، كان منهم: الشّيخ محمّد بن عبد الله باجمّال، والشّيخ عبد الرّحمن ابن عبد الله باعبّاد، والشّيخ عبد الله ابن الفقيه محمّد بن أبي بكر عبّاد، والفقيه عمر بن عبد الله بامهرة، والفقيه أحمد بن أبي بكر حفص، والفقيه ابن مزروع، ودام ذلك الوباء نحوا من أربعة أشهر.. ثمّ زال) اه
ومن هذه السّياقة.. تعرف ما كانت عليه شبام من الثّروة العلميّة.
ومن فقهاء شبام وعلمائها: الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد، كان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف يقصده من تريم إلى شبام للقراءة عليه.
وفي الحكاية (308) من «الجوهر» [2 / 58]: عن محمّد بن أبي سلمة باكثير قال: (صعدت مع بعض آل باوزير إلى شبام، فبينما نحن عند العارف بالله محمّد بن أبي بكر عبّاد ـ وهو في آخر عمره ـ إذ جاء الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف، فأجلّه واحترمه، وأخذا يتذاكران من الضّحى إلى الاصفرار، لا يرفعان مجلسهما إلّا للضّروريّات، وكان الفقيه باعبّاد شيخ السّقّاف، ولكنّه يحترمه) اه بمعناه.
وفي سنة (752 ه) قدم الشّيخ يحيى بن أبي بكر بن عبد القويّ التّونسيّ إلى شبام في رجب، وسافر في رمضان من تلك السّنة، وقد ترجمه الطّيّب بامخرمة، وذكرت في «الأصل» أنّ قدومه إلى حضرموت كان في سنة (772 ه) بناء على ما وجد بخطّ سيّدنا الأستاذ الأبرّ، لكنّ الّذي في «سفينة البضائع» للحبيب عليّ بن حسن العطّاس و «عقود اللآل» لسيّدي الأستاذ الأبر: أنّ قدومه لم يكن إلّا سنة (752 ه)، وتكرّر عنه أخذ الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد.
ونقل الطّيّب أنّه وقع موت كثير بحضرموت أوائل سنة (930 ه)، وفيها توفّي الفقيه شجاع الدّين عمر بن عقيل بلربيعة، وعبد الله بن عمر باعقبة، وأخوه أحمد بن عمر باعقبة، وعمر بن أبي بكر باذيب في نحو أربع مئة جنازة من شبام وحدها.
وكان الشّيخ أبو بكر بن سالم يتردّد إلى شبام للأخذ عن الشّيخ معروف باجمّال، وكذلك السّيّد أحمد بن حسين بن عبد الله العيدروس المتوفّى سنة (968 ه) يتردّد على الشّيخ معروف، والسّيّد أحمد بن حسين هذا من كمّل الرّجال، قال الشّيخ عمر بن زيد الدّوعنيّ: (خرجت من بلدي أطلب مربّيا، فلمّا دخلت إلى تريم.. دلّوني على الشّيخ أحمد بن حسين، فخدمته ولازمته، وفتح عليّ من الفضل والخير ما لم يبق فيّ اتّساعا للغير).
والشّيخ معروف أوحد صوفيّة شبام في زمانه، ولقيته محن شديدة.. فزال عن شبام ثلاث مرّات:
ـ الأولى: سنة (944 ه) إلى السّور، وكان معه في هذه المرّة عشرة من تلاميذه وفقرائه؛ منهم: محمّد بن عمر جمّال، وعمر بن محمّد جمّال، ومحمّد بن شعيب، وأحمد معدان، وأحمد مصفّر، وحيدرة بن عمر، ومحمّد باكحيل، وعمر قعيطيّ، وامبارك بازياد. وأقام بالسّور نحو سنة، ثمّ عاد إلى شبام سنة (945 ه).
ـ ثمّ خرج إلى عندل بالكسر أواخر عمد سنة (945 ه)، وعاد بعد سنة.
ـ ولمّا استولى بدر بوطويرق على شبام.. أهانه إهانة بالغة، حتّى لقد طافوا به في شوارع شبام وفي جيده حبل من مسد، فخرج إلى بضه في سنة (957 ه)، وبقي بها في ضيافة أمير دوعن الشّيخ الجليل عثمان بن أحمد العموديّ إلى أن توفّي بها سنة (969 ه) عن ستّ وسبعين عاما.
وكان محلّ دعوة الشّيخ معروف بشبام.. هو مسجد الخوقة.
ثمّ في سنة (932 ه) أمر بعمارة مسجد المقدشيّ، وكان بناؤه في سنة (936 ه)، ولكنّه اندثر، ولم يبق له أثر، حتّى جدّده الشّيخ معروف.
وكان الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ يذهب إلى شبام كلّ خميس وكلّ إثنين ماشيا؛ للقراءة على الشّيخ الأنور: أحمد بن عبد الله باشراحيل، وكان يثني عليه، ويسند كثيرا من مرويّاته إليه، والشّيخ أحمد هذا من الآخذين عن الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس، ثمّ عن تلميذه القطب الحدّاد، وله أخذ أيضا عن الحبيب عبد الله بن أحمد بلفقيه.
ومن الصّالحين المشار إليهم بالولاية في شبام: الشّيخ أبو بكر بن عبد الله باصهي. والشّيخ المجذوب أحمد بن جبير شراحيل.
ومن أكابر علماء شبام: العلّامة الفقيه عمر بن عبد الله الشّباميّ، مؤلّف كتاب «قوارع القلوب»، وهو إمام جليل، من أكابر أعيان القرن العاشر، معاصر للفقيه عبد الله بلحاج وابن مزروع. قاله أحمد مؤذن، ونقله عنه جدّنا طه بن عمر في «مجموعه».
"ومن علماء شبام:
الشّيخ عمر بن سالم باذيب. والشّيخ سالم بن عليّ عبّاد. والشّيخ عمر باشراحيل، له ذكر في «مجموع الأجداد».
ونقل المناويّ في «طبقاته» عن الشّيخ أحمد بن عقبة الشّباميّ الحضرميّ أنّه قال: (ارتفعت التّربية بالاصطلاح من سنة (824 ه) ولم يبق إلّا الإفادة).
وآل عقبة الشّباميّون من كندة، وهم غير آل عقبة الخولانيّين السّابق ذكر شاعرهم بالهجرين.
ومنهم: العلّامة الفقيه عليّ بن عمر عقبة تلميذ الشّيخ محمّد بن أبي بكر عباد.
ومن «رحلة السّيّد يوسف بن عابد الحسني» [ص 105 ـ 106] أنّ الشّيخ أحمد بن عبد القادر بن عقبة انتفع بالشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس، وهو الّذي أشار عليه بالسّفر من شبام إلى الحجاز، ثمّ جاء إلى مصر واستوطنها، وفيها اتّفق بالشّيخ زرّوق، وكان من أمرهما ما اشتهر في رسائل زرّوق و «مناقب الشّيخ أحمد عقبة».
وممّن سكن شباما: السّادة آل سميط، وأوّلهم: العلّامة الجليل محمّد بن زين بن علويّ بن سميط، وصلها لغرض السّفر منها إلى القبلة، فأبطأت عليه القوافل، فأشار عليه الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ أن يتديّرها للإرشاد والتّعليم، وقال له: إنّ آل شبام أهل اعتقاد وانتقاد، فامتثل وبقي بها إلى أن توفّي بها سنة (1172 ه)، ترجمه الشّيخ معروف بن محمّد باجمال بكتاب كامل سمّاه: «مجمع البحرين».
وكان الشّيخ عليّ بن محمّد لعجم يسير إلى حذية عند الشّيخ عمر باهرمز، فإذا أنشد قول القائل [من الوافر]:
«سألت النّاس عن خلّ وفيّ *** فقالوا ما إلى هذا سبيل »
«تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ *** فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل »
.. يقول باهرمز: تدري من الحرّ اليوم يا عليّ؟ فيقول باهرمز: إنّه محمّد بن زين بن سميط. وخلّف ولدين: أحدهما: عبد الرّحمن، وقد تزوّج بابنة سيّدنا عليّ بن عبد الله السّقّاف، وأخذ عنه، وانتفع به. والثّاني: زين، وكان من الصّالحين. وأعقبه بها أخوه الفاضل البدل عمر بن زين، المتوفّى سنة (1207 ه) عن تسعين عاما قضاها في الخير ونشر الدّعوة إلى الله، وكانت سكناه بشبام لمّا توفّي أخوه محمّد، وترك ـ أعني الحبيب عمر ـ ستّة أولاد ذكورا، وهم: عليّ وعبد الرّحمن وحسين وأبو بكر وأحمد ومحمّد، ومن كلامه ـ كما يرويه ابنه العلّامة أحمد بن عمر ـ: أن تسعة أعشار أهل حضرموت كانوا لا يصلّون، والعشر الّذي يصلّي لا أدري ما صلاته.
قال سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر: إنّ الحبيب عمر بن زين مكث سبعة عشر عاما لا يضع جنبه على الأرض؛ اجتهادا في العلم والعبادة، وكان ولده أحمد بن عمر أكثر من يقرأ عليه الكتب، وإذا غلبه النّوم.. أعطاه شيئا من اللّوز والزّبيب؛ ليطرد به النّعاس وينشط للقراءة.
وممّن أثنى عليه العلّامة السّيّد عبد الله بن حسين بن طاهر من آل سميط: الفاضل الجليل عبد الرّحمن بن محمّد بن سميط، وابنه العبّاد الإمام عليّ بن عبد الرّحمن.
ومنهم: القطب المجدّد الدّاعي إلى الله ابنه أحمد بن عمر بن زين بن سميط، لقد كان علم هدى، ونبراس دجى، ونور إسلام، وفرد أعلام، أردت أن أتمثّل له بما يناسب، ولكن رأيت مقاما عظيم الشّأن حيّرني، فلم يحضرني إلّا قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 298 ـ 299 من الرّمل]:
«إرث آباء علوا، فاقتعدوا *** عجز المجد، وأعطوه السّناما»
«شغلوا قدما عن النّاس العلا *** ورموا عن ثغر المجد الأناما»
«لم يعش من عاش مذموما ولا *** مات أقوام إذا ماتوا كراما»
«يعظم النّاس، فإن جئنا بكم *** كنتم الرّاعين، والنّاس السّواما»
وهو الّذي اهتمّ بإقامة دولة ل (حضرموت)، واشتدّ لذلك أسفه، وتوالى لهفه، ولئن مات بحسرة على ذلك.. فقد كلّل الله أعماله بالنّجاح في نشر الدّعوة إلى الله، حتّى انقشعت الجهالة، واندفعت الضّلالة، وانتبه الجمّاء من النّوم، وتقيّل آثاره أراكين القوم؛ كسادتي: حسن بن صالح البحر، وجدّي المحسن، والحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر وغيرهم، حتّى لقد مرّ بعضهم وإحدى بنات آل همّام بحصن تريم تقول: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتكرّر حديث الدّين، فقال: (ما كان جبريل ليدخل دار آل همّام لو لا أحمد بن عمر). توفّي بشبام سنة (1257 ه).
وخلفه على منهاجه العلّامة الجليل، الصّادع بالحقّ، النّاطق بالصّدق، عمر بن محمّد ابن سميط.
«القائل الحقّ فيه ما يضرّ به *** والواحد الحالتين السّرّ والعلن »
فكان يغلظ القول للسّلطان عوض بن عمر وهو إلى جانب منبر شبام في جامعها، ويقول: إنّ العدنيّ يقول من قصيدة [في «ديوانه» 188]:
«نرميه باسهمنا ولا يرانا ***...»
ونحن نرميه بأسهمنا وهو يرانا، والسّلطان عوض يحتمل ذاك؛ لأنّه يعظّم أهل الدّين، والعلماء إذ ذاك يكرّمون أنفسهم، ويصونون العلم، ومقامه كبير في العيون، جليل في الصّدور، ولم يزل ناشر الدّعوة، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حتّى توفّي بشبام سنة (1285 ه)، ووقع رداؤه على ابنه ـ الخليفة القانت الأوّاب، الّذي لا يداهن ولا يهاب ـ: عبد الله بن عمر، المتوفّى بها سنة (1312 ه).
ومنهم: السّمح الكريم، الرّاوية لأخبار السّلف الطّيّب: حسن بن أحمد بن زين بن سميط، المتوفّى بها سنة (1323 ه)، وقد رثيته بقصيدة توجد بمحلّها من «الدّيوان».
ومنهم: السّيّد الواعظ الفقيه: طاهر بن عبد الله بن عبد الرّحمن، المتوفّى بها سنة (1331 ه).
ومنهم: السّيّد الجليل المقدار: أحمد بن حامد بن عمر بن زين، المتوفّى بها سنة (1331 ه).
ومنهم:
«علّامة العلماء واللّجّ الّذي *** لا ينتهي ولكلّ لجّ ساحل »
الفاضل الجليل العلّامة المحقّق المتفنّن: أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن زين، ولد بأنزيجة من السّواحل الأفريقيّة، وبها تعلّم، وأخذ العلوم عن أبيه وعن غيره، وقدم حضرموت عدّة مرّات، منها: سنة (1298 ه)، ومنها: سنة (1316 ه)، وآخر مرّة قدمها سنة (1325 ه) وشهد زيارة هود عليه السّلام، وكان له بوالدي اتّصال عظيم، وارتباط وثيق، وأخذ تامّ، وله مؤلّفات كثيرة، وأشعار جزلة:
«من كلّ قافية فيها إذا اجتنيت *** من كلّ ما يشتهيه المدنف الوصب »
«حسيبة في صميم المدح منصبها *** إذ أكثر الشّعر ملقى ما له حسب »
توفّي في زنجبار سنة (1343 ه).
ومن اللّطائف: أنّني عملت احتفالا لتأبينه والتّعزية به في مسجد طه، وأعددت كلمة في نفسي، وإذا بمؤبّر نخلي يكرّر ويتغنّى بقوله: (لا حلّ للموت) فقط، فبقيت على أحرّ من الجمر في انتظار الباقي، حتّى قال:
«لا حلّ للموت ما *** خلّى كبد ساليه »
«شلّ الوجيه الرضي *** يّه واللّحى الغاليه »
فذهب ما في نفسي، وأخذني شأن عظيم درّ به كلام أحسن وأبلغ وأنجع ممّا كنت أعددته؛ لأنّ ذلك الوصف منطبق عليه.
«ولم ينس سعي العلم خلف سريره *** بأكسف بال يستقيم ويظلع »
«وتكبيره خمسا عليه معالنا *** على أنّ تكبير المصلّين أربع »
فعظمت بموته الرّزيّة، ولكن كان ولده عمر بقيّة.
«فإنّه نحوه في حسن سيرته *** منذ الشّبيبة وهو الآن مكتهل »
«أضحى لنا بدلا عن فقد والده *** والشّبل من ليثه إمّا مضى بدل »
فخلاه اللّوم؛ إذ سدّ مسدّ القوم، لم ينقطع رشاه، ولا قالوا: فلان رشاه.
وما رأيت أحدا بعد أستاذي الأبرّ عيدروس بن عمر، وسيّدي عبد الله بن حسن البحر يستجهر النّاس بفرط الوسام، وبسطة الأجسام؛ كالسّادة آل سميط، لا يراهم النّاظر.. إلّا تذكّر قول جرير [في «ديوانه»: 456 من الطّويل]:
«تعالوا ففاتونا ففي الحقّ مقنع *** إلى الغرّ من أهل البطاح الأكارم »
«فإنّي أرضي عبد شمس وما قضت *** وأرضي الطّوال البيض من آل هاشم »
فأولئك البيض الطّوال، وثمّة الهمم العوال.
«آراؤهم ووجوههم وعلومهم *** في الحادثات إذا دجون نجوم »
«فيها معالم للهدى ومصابح *** تجلو الدّجى والأخريات رجوم »
فأحوالهم جليلة، وأخلاقهم جميلة، وأخبارهم عريضة طويلة، ينطبق عليهم قول المسيّب بن علس [من المتقارب]:
«وكالشّهد بالرّاح أخلاقهم *** وأحلامهم منهما أعذب »
«وكالمسك ترب مقاماتهم *** وترب قبورهم أطيب »
ومن متأخّري علماء شبام: الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باصهي، أحد تلاميذ والدي، وشيخ العلّامة الجليل الأمير محمّد بن عليّ الإدريسيّ، وكان هو همزة الوصل بيني وبينه في المعرفة الّتي كان أوّلها تعزية منه لي بواسطته في والدي، ثمّ استمرّت المواصلات والمراسلات بما آثارها من القصائد موجودة بمواضعها من «الدّيوان» [371 و 384].
ومن علماء شبام ـ فيما رأينا بأبصارنا ـ أربعة إخوان، كلّهم علماء؛ وهم: أحمد، ومحمّد، وعمر، وعبد الرّحمن أبناء أبي بكر باذيب.
ومن كبار علمائهم ومصاقع شعرائهم: الشّيخ أحمد بن محمّد باذيب، المتوفّى بسنغافورة في حدود سنة (1279 ه).
وعن الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باسويدان وغيره: أنّ سبب سفره من شبام هو أنّ خطيب الجمعة تأخّر مرّة، فأشار عليه الحبيب أحمد بن عمر بن سميط أن يقوم بأداء الواجب من أركان الخطبة، فارتجل ما ملأ الأسماع إعجابا، والنّفوس إطرابا، فخشي عليه العين، فأمره بمغادرة البلاد وكان آخر العهد به وكان أهل شبام معروفين بالإصابة بالعين. ومن أواخرهم المتّهمين بذلك: الشّيخ معروف باذيب، والشّيخ سالم بن هادي التّويّ.
ومن عيون صلحائها وأفاضلها الشّيخ عوض بن محمّد باذيب، وأولاده عليّ وأحمد ومحمّد، لهم مروءة حيّة، واعتبار تامّ، ودين ثابت، وكانت الأعيان تزور الشّيخ عوض وتتبّرك برؤيته ودعائه.
ومن متأخّري علمائها: الشّيخ عبد الرّحمن حميد، وولده عبد الله.
ومن آل شبام: آل جبر، وآل التّويّ، وآل باعبيد، وهم أربعة إخوة: محمّد وعمر وعوض وأحمد بنو سالم باعبيد، إليهم الآن أزمّة التّجارة بشبام، ولهم مراكز في عدن وغيرها، وقد مات عمّا قريب أحبّهم إليّ، وهو أحمد، فرحمه الله وأخلفه بخلف صالح.
وممّن تديّر شباما الحبيب علويّ بن أحمد بن زين الحبشيّ، وبها توفي.
وفي «كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط»: أنّ والده لمّا مات.. قال: مات من يستحيا منه، وإنّ آل شبام كانوا يهابونه، وكان آل أحمد بن زين يزورونه في محرّم من كلّ سنة، ومتى قاربوا شبام.. تنابز غوغاؤهم مع آل شبام بالألقاب، وقالوا: (الهر لعل القعيطي يفر) فأوقفهم منصّر بن عبد الله طائفة من النّهار في الشّمس، فتركوا الزّيارة، ولمّا زال منصّر وشيكا.. كتب لهم صلاح بن محمّد بالاعتذار، فأعادوها.
ومن أدبائهم وأكابر أولي المروءة منهم: الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باسويدان.
وفي مبحث صلاة الجمعة من «مجموع الأجداد»: (أنّ شباما من كراسي حضرموت، بل لا مدينة في حضرموت إلّا هي وتريم، هاتان المدينتان المذكورتان في التّواريخ فقط، ويكاد أن يكون ما يتعلّق بشبام ومن سكنها من المشايخ والعلماء، ومن له فيها أثر من مسجد وغيره من دائم النّفع، يكوّن نبذة صالحة) اه
ولأهلها مناقب كثيرة، ومحاسن شهيرة، ولا سيّما في الورع وصدق المعاملة مع الله، وحمل الكلّ، وفعل المعروف، والإعانة على نوائب الحقّ، أخبرني المكرّم الشّيخ كرامة بن أحمد بن عبد الله بركات قال: كنت بمقدشوه في سنة (1334 ه) فأرسلت بثلاث مئة وخمسين ربّية برعما ـ وهو نوى القطن ـ إلى عدن عند الشّيخ أحمد بن عمر بلفقيه، فباعه لي وأربحني النّصف، وأبرق إليّ: أن خذ كلّ ما تقدر عليه منه وحوّل لي بالثّمن، فاشتريت أوّلا بنحو من ألف ربّية، وثانيا بمثله، وقدّمت له حسابا في ثمنه وسائر مصاريفه، وخدمته ولم يبق لي عنده بحسب ما قرّرته في دفتري إلّا أربعون ربّية فقط، ولمّا وصلت عدن بعد خمس سنوات.. أعطاني كاتبه ـ وهو الشّيخ محمّد بن سالم باعبيد ـ تحويلا إلى شبام في ألفين ونحو خمس مئة ربّية، فشككت فيها، وتوهّمته غالطا، ولمّا قدمت شباما.. أخبرت الوالد أحمد بن عمر بلفقيه، فأخذ بأذني وقال: إذا لم نربّك نحن.. فمن يربّيكم؟ وقد ربّانا ناس على مثل هذا، فنحن مدينون به.
وإذا به قيّد لي أرباح البرعم بأسرها، فرحمة الله على هذا الإنسان وعلى جميع أهل الإحسان.
وبلغني أنّ الشّيخ عوض بن عبد الله باذيب اشترى خرابة من الأمير عليّ بن صلاح، قيل: إنّ بعض أهلها معروف في غيبته الطّويلة، وأنفق على بنائها سبعة آلاف ريال، ولمّا احتاج ورثته لبيعها.. لم تنفق إلّا على واحد من آل باهرمز بألفين من الرّيالات فقط؛ لأنّ آل شبام ـ بما بقي في قلوبهم من هيبة الدّين والورع ـ تحاموها، وإلى الآن وهم يتحامون عن شراء التّمر الّذي يجمعه من المكس صاحب السّدّة؛ مع أنّه أرخص من غيره بثلث القيمة.
وبلغني أنّ لبعضهم رسائل في سير آل شبام وأخبارهم الشّاهدة بالتّقوى والورع، وهي من أنفع ما يكون لهم لو تدارسوها على عادتهم في درس يوم الثّلاثاء الّذي رتّبه الحبيب أحمد بن عمر بن سميط، ـ متنقلا في ديارهم؛ سياسة في حضورهم؛ إذ هي خير حافز للأحفاد على ترسّم آثار الأجداد، ومن كلامه المنثور: إنّ شباما كانت بلاد المنقود، وأنّ أحد أهل شبام أخذ دراهم من أحمد ناصر اليافعيّ، فهجروه حتّى ردّها.
وأنّ ثمانين حملا من الحوير وردت شباما، وفيها حمل لأحد آل كثير بن سلامة، فاشتروها بأسرها إلّا ذلك الحمل لم يأخذه أحد وعاد به صاحبه.
وفي كلامه ثناء كثير على محمّد بن عوض باذيب، وعلى أخيه عبود، وأنّه حصل عليهما خلل فشاورا الحبيب عبد الله الحدّاد فقال لهما: بيعا جميع ما معكما ولو لم يخلف لكم إلّا حليّ نسائكم، فباعاه وقضيا ما عليهما من الدّيون، وبقيت ثلاث مئة ريال، فذهبا إلى الحاوي، ولمّا وصلا.. قال محمد لعبود: إن وافقتني.. أعطينا الحبيب عبد الله مئة واقتنعنا بالمئتين، فوافقه، فقبلها الحبيب وأشار على محمّد بالسّفر إلى الشّحر، وبقي يتردّد إليها، ويقيم بها شهرين أيّام الموسم، ويمرّ في ذهابه وإيابه بالحاوي.
ولمّا علم الحبيب عمر البارّ بقصّة المئة.. قال لمن حضره: أيصحّ أنّ أحدا يتصدّق بثلث ماله؟! وكان عنده دلّال من آل باخيضر. فقال: إن كان من آل شبام.. فنعم.
ومنه: أنّ محمّد لعجم من السّابقين؛ لأنّه سبق سلفه.
ومنه: أنه لمّا توفّي أحمد بكار لعجم.. قال والدي: توفّي وهو خير من بالبلد.
ولمّا توفّي عبد الله بن عمر لعجم.. قال الحبيب أحمد بن عمر بن سميط: إنّه من الأخيار الّذين يدفع الله بهم البلاء، ومن الّذين يحييهم ويميتهم الله في عافية، وكانت وفاته بسبب الوباء الّذي وقع بشبام وسيئون وبور في سنة (1250 ه).
ومنه: أنّ الحبيب محمّد بن زين بن سميط قال: ما تحقّقت أنّ أحدا يحبّ للمسلمين ما يحبّ لنفسه إلّا عبد الله بن زين الحبشيّ صاحب ثبيّ، وبكّار بن عوض لعجم؛ فإنّ هذا يقوم إليّ في الدّرس ويقول: تكلّم في كذا؛ فإنّ النّاس واقعون فيه.
ومنه: أنّ الشّيخ أحمد صلعان ممّن ترجم له الحبيب محمّد بن سميط، وأن محمّد صلعان كثيرا ما يستشهد بحكم ابن عطاء الله يكاد يحفظها، وأنّ القرآن معجون بمحمّد بن عقبة سديس.
ومنه: أنّ المرحوم محمّد بن أحمد بايوسف ـ جدّ آل بايوسف ـ من الصّالحين، وكذلك ولده أحمد.
ومنه: أخبرني عبد الله باسعود عن الحبيب جعفر بن أحمد بن زين قال: أدركنا أهل شبام ثلاث طبقات: أوّل طبقة لباسهم كوافي بيض وأردية شمال، وثاني طبقة كوافي سوسي وملاحف بيض، وثالث طبقة كوافي صنعانيات من نصف ريال وملاحف سود.
قال: ومن بعد توسّعوا مصانف وكوافي صنعانيّات من ريالين.
ومنه: أنّه لمّا توفّي عمر بن أحمد معاشر.. قال: إنّه من الّذين يمشون على الأرض هونا، وقال مثل ذلك لمّا مات أحمد بن محمّد جبر.
ونقل الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم بن قاضي في ترجمته لنفسه: أنّ والده تولّى القضاء بشبام أكثر من سنتين، وأنّه يثني على أهلها بالتّناصف والتّعاون على الحقّ، وأنّه كان يزورهم ويأتي إليهم من تريم لحسن حالهم. اه
ولو أرسلنا القلم ملء فروجه في مكارم الشّيخ عبد الرّحمن باصهي، الملقّب بالطّويل.. لاندقّت عنقه قبل أن نبلغ منه ما نريد، وهي مشهورة، وآخرها: وصيّته بأن تبقى يده مكشوفة مع تشييعه في الجنازة؛ لاستخراج الاعتبار بأنّه مع ما كان من ثروته الطّائلة لم يخرج من الدّنيا إلّا صفر اليد وقد نفّذوها على ما فيها من الاختلاف بين الرّمليّ وابن حجر؛ لما في ذلك من المصلحة والعظة البالغة.
وكان سيّدي حسن بن أحمد بن سميط يتفتّح عن ثبج بحر عندما يفيض فيها، إلّا أنّ تلك المكارم انطوى نشرها، ولم يبق إلّا ذكرها.
«ونذكر تلك المكرمات وحسنها *** وآخر ما يبقى من الذّاهب الذّكر »
ولآل شبام عامّة وآل باصهي خاصّة، نجوع إلى صنعاء وإلى البيضاء من أرض الظّاهر، وقد وقفت على وثيقة من الإمام المهديّ لدين الله، هذا نصّها:
الخطّ الكريم والرّسم العالي الفخيم الإماميّ المهدويّ أعزّه الله، وأقرّ عين المتمسّكين به وأرضاه، وأنفذه في جميع الأقطار الإماميّة وأسماه، إن شاء الله، بيد الحاجّ الأكرم جمال الدين سالم بن عبد الله باصهي وكافّة إخوته وبني عمّه، قاض لهم بالإجلال والإكرام، والرّعاية والاحترام، والإعزاز والإعظام، فيجرون على أجمل العوائد وأتمّ القواعد، ليس عليهم حال يخشونه، ولا أمر يتوقّونه، وأنّهم منّا وإلينا، وممّن تحوطه شفقتنا، وأنّ واجباتهم الشّرعيّة يسلّمونها بالأمانة، ليس على أموالهم حيث كانت حرص ولا اعتراض بمحروس البيضاء وحضرموت.
وأنّهم يخرجون ما دخل فيه غيرهم من الفرق والمطالب والسّوائب والنّوائب.
وليس عليهم إلّا الحقّ الواجب وزكاة الأموال وزكاة التّجارة والفطرة، يسلّمونها إلى العمّال بالأمانة من غير واسطة.
وليس عليهم مجبى أينما توجّهوا في البلاد الإماميّة، في جميع الأسواق والمراسي والطّرقات والبنادر، فلا يعترضوا بشيء من ذلك، وذلك لما هم عليه من المحبّة والنّصيحة لهم ولسلفهم، فيجرون على ذلك وتقرّ أعينهم بما هنالك، وعليهم التّوقّف على أمرنا، والكون عند رأينا، وموالاة الموالي، ومعاداة المعادي، فليثقوا بذلك، وبالله الثّقة، وبه الحول والقوّة، وهو حسبنا وكفى، ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النّصير.
حرّر في محرّم الحرام عام سبعة وثمانين وألف (1087 ه)، وكان الشّيخ عبد الرّحمن باصهي معاصرا للحبيب أحمد بن زين الحبشيّ، وعرض عليه أن يحجّ هو ومن معه على نفقته، فلم يقبل، كما في «كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط».
ولم يبق بأيدي آل شبام اليوم من المناقب الشّريفة السّابقة لأهلهم.. إلّا حسن التّأسّي فيما بينهم، ومساعدة الضّعيف، وقضاء الحاجة، وجبر المنكوب، حتّى لقلّما ترفع من أولي مروءتهم دعوى إلى القاضي، وإنّما يسوّون أمورهم فيما بينهم بالإصلاح، وهذا ليس بالقليل مع تراذل الزّمان.
وذكر ابن الحائك: (أنّ مصبّ مياه الأودية الغربيّة كلّها كان في شمال شبام، بينها وبين القارة).
وهو صادق في ذلك؛ لأنّه الواقع فيما قبل.. حتّى كان السّيل العظيم الهائل في سنة (699 ه) فأخرب الأحجاز، وأخذ كثيرا من البشر ومن المواشي، وانتقل بقوّته من شمال شبام واتّخذ له أخدودا بجنوبها؛ إذ قد اجتاح كثيرا من الخبّة الّتي كانت متّصلة بشبام، ثمّ عمّرت شيئا فشيئا، وما زالت معمورة حتّى اجتاحها سيل الإكليل الجارف في سنة (1049 ه).
ثمّ أحبّ آل شبام التّنزّه.. فعمّروها واحدا واحدا، حتّى صارت قرية، وعند ذلك ابتنى السّيّد عقيل بن عليّ السّقّاف مسجدا في حدود سنة (1063 ه)، وأحبّ أن يجمّع فيه، فاختلف عليه العلماء ـ حسبما فصّلناه ب «الأصل» ـ فامتنعت الجمعة
وما يفهمه قول ياقوت السّابق: (إنّ الحسين بن سلامة ابتنى جامع شبام) محمول على التّجديد أو التّرميم، وإلّا.. فقد كان جامعها مبنيّا قبل ذلك بزمان؛ ففي تاريخ القاضي محمّد بن عبد الرّحمن باشراحيل أنّه (بني في سنة «215 ه»، وأنّه كالقطب الّذي تدور عليه غالب شعائر الدّين بشبام).
وله أوقاف تنسب إلى هارون الرّشيد، وهو شاهد بأنّ بناءه كان متقدّما على هذا التّاريخ الّذي ذكره باشراحيل؛ لأنّ وفاة الرّشيد كانت في سنة (193 ه).
وممّا يدلّ لتقدّمه: ما نقله الشّيخ العلّامة عبد الله بلحاج، عن العلّامة الشّيخ محمّد بن سعيد باشكيل: (أنّ آل باذيب من الأزد، وأصلهم من البصرة، ثمّ استوطنوا شباما.
قال: وذكر عمر بن عبد الله باجمّال الشّباميّ: أنّ آل باذيب خرجوا من البصرة إلى حضرموت في أيّام الحجّاج، وبقيت طائفة منهم بالبصرة، ولهم حافّة عظيمة بالبصرة، يقال لها: حافّة الأسد ـ بالسّين، لغة في الأزد، بالزّاي ـ ولمّا وصلوا حضرموت.. آواهم أمير شبام وأجلّهم، وكان فيهم قضاة الدّين وقضاة الدّولة بشبام، وقد اجتمع منهم في زمن واحد سبعة مفتون، وقاضيان: شافعيّ وحنفيّ) اه
وهذه فائدة نفيسة، ونقل عزيز نحتاجه في كثير من المواضع، ونضرب عليها بنغمات متعدّدة، وبعيد أن ينتشر فيها الإسلام والمسلمون ثمّ لا يبنى بها جامع إلّا في آخر القرن الثّاني، هذا ما لا يتمعنى بحال، لا سيّما وأنّها كانت دار إقامة زياد بن لبيد الصّحابيّ المشهور، كما في «مفتاح السّعادة والخير» لمؤلّف «القلائد»، وغيره.
وفي سنة (532 ه) عمّر مقدّم جامع شبام، وجدّد منبره بأمر الملك المنصور الرّسوليّ، وذلك المنبر هو الّذي يخطب عليه إلى اليوم. وكانت هذه العمارة على يد عبد الرّحمن بن راشد في ولاية نصّار بن جميل السعديّ.
وفي موضع من «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك [ص 169] يقول: (وأمّا شبام: فهي مدينة الجميع الكبيرة، ويسكنها حضرموت، وبها ثلاثون مسجدا، ونصفها خراب، أخربته كندة، وهي أوّل بلد حمير ثمّ. وساكن شبام: بنو فهد من حمير) اه
وأقول: أمّا فهد.. فهو ابن القيل بن يعفر بن مرّة بن حضرموت بن أحمد بن قحطان بن العوم بن عبد الله بن محمّد بن فهد بن القيل.. إلى آخر النّسب.
وسيأتي بيت نشوان مع ما يتعلّق به عمّا قليل.
أمّا مسجدهم الباقي بين منازلهم الخاصّة في جانب خبّة شبام الغربيّ المسمّى الآن: مسجد الطّيّب.. فقد بقي بأيديهم، والظّاهر أنّه وقع فيما اجتاحه سيل سنة (699 ه) الآتي ذكره، وإلّا.. لما طمع السّيّد عقيل ـ حسبما يأتي ـ في التّجميع بمسجده الّذي بناه بجانب خبّة شبام الشّرقيّ، إلّا أن يكون اختلاف المذهب داخلا تحت عسر الاجتماع، المسوّغ للتّعدّد.. فللبحث مجال، وبين العلماء اختلاف حتّى بين المتأخّرين من الحضارم؛ كابن يحيى، وبلفقيه، والسّيّد عثمان بن يحيى، وبعض علماء الحجاز، وهو معمور إلى الآن.
وأمّا كثرة المساجد بها.. فإنّما كانت قبل أن تجتاح أطرافها السّيول، ويكون مجراها في جنوبها. وكان مسجد الخوقة بشبام هو مسجد الإباضيّة إلى أن غلبهم الأشاعرة عليه في سنة (591 ه).
ومن أشعار إمام الإباضيّة بحضرموت في القرن الخامس إبراهيم بن قيس قوله [من الطّويل]:
«فقلت: وما يبكيك يا خود؟ لا بكت *** لك العين ما هبّت رياح زعازع »
«فقالت: بكيت الدّين إذ رثّ حبله *** وللعلما لمّا حوتهم بلاقع »
«فأين الألى إن خوطبوا عن دقائق *** من العلم.. أفتوا سائليهم وسارعوا؟!»
«فقلت لها: هم في شبام ومنهم *** بميفعة قوم حوتهم ميافع »
«وفي هينن منهم أناس ومنهم *** بذي أصبح حيث الرّضا والصّمادع »
«ومنهم بوادي حضرموت جماعة *** وأرض عمان سيلهم ثمّ دافع »
وفي أوائل القرن التّاسع كان قضاء شبام للشّيخ عبد الرّحمن باصهي، وله قصّة مع عليّ بن سعيد باصليب، الملقّب بالرّخيلة، مذكورة في الحكاية (457) من «الجوهر الشّفّاف».
ومن قضاة شبام في القرن الثّاني عشر: السّيّد عليّ بن علويّ عيديد.
وكان بشبام جماعة من آل بامهرة فيهم العلماء والقضاة، وجماعة من آل شعيب مشهورون بالعلم؛ منهم:
الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله شعيب. والشّيخ أبو بكر بن شعيب، له شرح على «المنهاج». ولا اتّصال لهؤلاء بآل باشعيب الآتي ذكرهم في الواسط.
وذكر الطّيّب بامخرمة في «تاريخ عدن»: (أنّ العلماء آل الشّمّاخ أصل جدّهم من حضرموت، تفقّه بزبيد، ولمّا أراد الرّجوع.. رغّبه السّلطان عمر بن المظفّر فأقام هناك إلى أن مات، فآل الشّمّاخ من ذرّيّته) اه
وقريب جدّا أن يكون آل شمّاخ الموجودون بشبام إلى اليوم متفرّعين عن ذلك الأصل الّذي نجع منه جدّ آل الشّمّاخ إلى زبيد.
ولمّا ذكر علّامة اليمن السّيّد عبد الرّحمن بن سليمان الأهدل عادة آل زبيد في قراءة «البخاريّ» بشهر رجب.. قال: إنّها ـ فيما أحسب ـ من أيّام الشّيخين: أحمد بن أبي الخير منصور الشّمّاخيّ، ووالده الفقيه أبي الخير منصور الشّمّاخيّ السّعديّ نسبا، الحضرميّ أصلا، الزّبيديّ مهاجرا، الآخذ عن جماعة من أصحاب الحافظ السّلفيّ، توفّي بمدينة زبيد سنة (680 ه).
ولآل شبام نوادر، لو لم يكن إلّا ما يروى عن السّيّد زين بن أحمد بن سميط.. لكفى، فمن ذلك:
أنّ لآل الشّحر اعتقادا فيه، حتّى إنّهم ببساطتهم يمكّنون نساءهم من مصافحته، مع أنّه لا يتورّع بعض الأحيان من غمز إحداهنّ، فدخل عليه الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ وعنده فتاة جميلة، فعلقتها نفسه، وتبعها هواه، فتوسّل إليه أن يخطبها له، فقال له: يمنعك عنها بخلك. فقال له: اطلب لها ما تريد. فخرج، ثمّ عاد، وقال: إنّ أهلها يطلبون ثلاث مئة ريال. فنجع بها طيّبة نفسه، فواعده أن يجيء إلى ذلك المكان من آخر ليلته، وعقد له بعجوز قد تغضّن وجهها، وانتثرت أسنانها، وانطبق عليها قول البحتريّ [في «ديوانه»: 2 / 272 من المنسرح]:
«والسّنّ قد بيّنت فناءك في *** شدق على الماضغين منخسف »
ودفع لتلك العجوز عشرة ريالات، وهرب هو بالباقي إلى شبام حضرموت، وكانت سفرة طيّبة، ووقع الشّيخ في الشّبكة.
ومنها: أنّ الجمعدار عبد الله كان يأنس به، ويتسلّى بأحاديثه عن أنكاد حوادث صداع، ومعه السّيّد حسين بن حامد المحضار، وكان لا يصبر لهم إلّا إذا سلّموا له إمامة الصّلاة، فأذعنوا له بها، حتّى جاءهم أحد العلماء.. فاستحيوا أن يقدّموا عليه زينا؛ مع ما عرف به من التّهاون في الطّهارة ونواقض الوضوء، فصلّى بهم الشّيخ العشاء، وقرأ في الأولى (الضّحى) فلم يجد إليه زين سبيلا، ولمّا قرأ في الثّانية ب (الزّلزلة).. سنحت له الفرصة، فقطع الصّلاة، وقال له: زلزل الله بوالديك يا شرّ المشايخ! وهل للزّلزلة مكان بعد ما نحن فيه؟ الجمعدار مزلزل، والمحضار مبهذل، وأنا مسفّل، ثمّ تأتي لنا فوق ذلك بالزّلزلة.
وهكذا سمعتها، ولكنّ وجود السّيّد حسين بن حامد لذلك العهد بصفة النّديم أو نحوه للجمعدار عبد الله.. لا يخلو من البعد.. فلعلّ النّظر انتقل عن أبيه أو غيره إليه.
ومنها: أنّه مرّ بشباميّ ويهوديّ يتلاطمان في عدن، فلمّا أراد أن يبطش بالّذي هو عدوّ لهما.. انسلّ الشّباميّ، وترك زينا مع اليهوديّ، حتّى حجز بينهما الشّرط، وساقوهما إلى السّجن، فسأل زين عن المقرّبين لدى الحكومة، فقيل له: صالح جعفر، فأرسل إليه.. فوصل، فاستخفّ روحه، فضمن عليه وأخذه إلى داره وأكرم مثواه، فرأى عنده من النّعمة ما لا يعرف شيئا منه في بيوت آل شبام بعدن، فانقطع عنهم، وما زالوا يبحثون عنه حتّى ظفروا به، فسبّهم وقال: لقد خرجت من النّار إلى الجنّة. قالوا: لكنّك لا تدري ما حال صالح جعفر. قال: وما حاله؟ قالوا: يبغض الشّيخين أبا بكر وعمر. فاستعظمها، وقال: إذا كان يبغض هذين.. فأيّ دين له، ومن يحبّ؟ قالوا: لا يحبّ إلّا فاطمة وزوجها وأولادها رضي الله عنهم. فازدهر وجهه بعد العبوس، وقال: أمّا إذا كان يحبّ أهلي.. فليبغض من شاء، وأنا كبدي محترقة من بو بكر لعجم وعمر بن بو بكر باذيب، فسألعنهما جبرا لخاطره.
ثمّ نهض من فوره ودخل على صالح جعفر فأوهم أنّه عثر.. فقال: لعنة الله على أبي بكر وعمر.
وللشّيخ أحمد بركات من هذا القبيل ما ليس بالقليل، إلا أنّه لم يكن كالسّيّد زين في خفّة الظّلّ؛ لأنّ عنده شيئا من الكلفة؛ من نوادره:
أنّ شيخنا الشّهير أحمد بن حسن العطّاس مرّ بداره فناداه: أعندك رطوبة نطلع لها؟
قال له: احذف الطّاء واطلع. يعني أنّ عنده روبة.
وبها ذكرت أنّ ابن عمّار قال للدّاني: اجلس يا داني بلا (ألف)، فقال: نعم يا ابن عمار بلا (ميم).
وكان سنة (1318 ه) بدوعن في منزل استأجره، فاتّفق أنّ بنتا لأهل المنزل استعارت ثوبا من أمها لتلبسه في وليمة زواج، ففقد لهم عقد من الفضّة يسمّونه (مريّة)، فاتّهموا بها الشّيخ أحمد، فقال لهم: كم ثمنها؟ فقالوا: ستّة ريال. فدفعها لهم، ولمّا عادت البنت بالثّوب.. ألفوا المريّة معها؛ لأنها كانت بين طيّات الثّوب، فردّوا ريالات الشّيخ أحمد واعتذروا له، ولمّا انتهى الخبر إلى باصرّة.. عاتب الشّيخ أحمد وقال: لو رضيت برفعهم أمرك إليّ.. لما ألزمتك بشيء، فقال: من يدفع التّهمة بعد الرّفع؛ إذ لا بدّ من علوقها على أيّ حال، فاخترت السّتر احتفاظا بالمروءة، لا سيّما والمبلغ زهيد.
ودخل أحد أهل شبام على صديق له بها وهو يتغدّى، فقال له: أما عندك ثمانية وسبعون؟ يعني لحم.
قال: لا، ولكن عندي مئة وخمسون. وأحضر له عكّة السّمن، وكلّ ذلك على الرّويّة من دون تفكير.
وكان لهم ـ كما سبق عن الحبيب أحمد بن عمر ـ في نقد الرّجال الفهم الوقّاد، وعندهم من الإزكان والتّخمين ما لا يحصره التّعداد. من ذلك:
أنّ امرأة لأحدهم كثيرا ما تأكل اللّحم وتعتذر بالهرّة، فلم يكن منه إلّا أن وزن الهرّة عند السّاعة الّتي يتّهمها فيها بأكل اللّحم، وخرج من الدّار، ثمّ عاد وقال لها: أين اللّحم؟ فقالت: أكلته الهرّة. فوزنها ثانيا، فلم يزد فيها شيء، فانكشف الخيم، وانهتك الحريم.
وآل شبام يغضبون من وزن الهرّة إلى اليوم لذلك السّبب، بل يكرهون من غيرهم لفظ الوزن وإن لم يذكر معه الهرّ.
حدّثني المرحوم الوالد أحمد بن عمر بن يحيى قال: كتب إليّ بعض أهل التّيمور يطلب كميّة من البقر فأخذتها، وفي العشيّ كنت أنا والشّيخ الفاضل سالم بن عبد الرّحمن باسويدان بمنزل أمير الإحسان، السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف بسنغافورة، فذكرت شراء البقر، فقالوا: كيف كان شراؤك لها؟
فقلت لهم: بالوزن. فغضب الشّيخ سالم، وظنّ أنّ فيه تنكيتا عليه، وأنا لم أتعمّد شيئا من ذلك، وإنّما أرسلتها بحسب السّجيّة، وبقي على غضبه مدّة ليست باليسيرة.
ولسماسرة شبام اليد الطّولى في سنّ الفاتر، وتعيير العائب، إلّا أنّهم لا يسلمون من التّحريش بين النّاس؛ بينما أحد شعرائهم بالسّوق ـ واسمه عليّ ـ.. إذ ظهر قرنه الّذي يهاجيه ـ وهو بازياد ـ فأشلوه عليه، فتفطّن لها بازياد وقال:
«يا علي خذ لك نصيحه *** من رفيقك بازياد»
«الشّتم بيني وبينك *** والضّحك لاهل البلاد»
فارعوى عليّ، وكان ذلك سبب الصّلح بينهما.
ولشبام ذكر عند الطّيّب بامخرمة ولكنّه قليل؛ إذ لم يزد على قوله: (شبام مدينة عظيمة بحضرموت، بينها وبين تريم سبعة فراسخ، إليها ينسب جمع كثير، وخرج منها جماعة من الفضلاء والعلماء والصّالحين، منهم: الفقهاء بنو شراحيل، والفقيه أبو بكر بامهرة، والفقيه الإمام محمّد بن أبي بكر عبّاد، والفقيه الصّالح برهان الدّين إبراهيم بن محمّد الشّباميّون. ومنهم: الفقيه وجيه الدّين عبد الرّحمن بن مزروع، والفقيه الصّالح محمّد بن عبد الرّحمن باصهي) اه أمّا أحوال شبام السّياسيّة: فقد تقلّبت كسائر بلاد حضرموت؛ إذ كانت أوّلا لحمير، ثمّ تجاذبت فيها الحبال قبيلتا كندة وحضرموت، وقد ذكرنا من ملوكهم ما انتهى إليه العلم في «الأصل»، على ما في تلك الأخبار من الاضطراب والتّناقض.
ونزيد هنا ما جاء في «النّفحة الملوكيّة» (ص 84): (أنّ مدّة ملوك كندة بالحجاز كانت من سنة (450) إلى سنة (530) ميلاديّة، وأوّل من ملك منهم: حجر بن عمرو آكل المرار.
وكانت كندة ـ قبل أن يملّك عليهم ـ فوضى، يأكل قويّهم ضعيفهم، فلمّا تملّك حجر عليهم.. سدّد أمورهم، وانتزع ما كان بأيدي اللّخميّين من أرض بكر بن وائل.
وكان ابتداء ملكه ـ حسبما مرّ ـ من سنة (450) ميلاديّة، ولمّا مات.. تملّك بعده ابنه عمرو بن حجر، الملقّب بالمقصور؛ لأنّه اقتصر على ملك أبيه فلم يتجاوزه.
وأقام ما شاء الله في الملك، إلى أن ق
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
53-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (وادي بن علي)
وادي بن عليبما أنّنا ذكرنا بعض حصون وقرى السّليل، وكانت الحوطة في جنوبه، وهي آخر بلاد وادي ابن عليّ.. اقتضى الحال أن ننتقل إليه، ثمّ نعود لما نزل عنه من باقي السّليل.
فوادي ابن عليّ داخل في النّجد الجنوبيّ كدوعن ووادي العين وساه وما لفّها، وهو أكبر أودية حضرموت، حتّى إنّهم ليقولون: لا يضرّ بحضرموت جدب متى أخصب، ولا ينفع خصبها متى أجدب.
وهو واسع الأطيان والشّراج، كثير القرى، ونحن نذكرها على حسب مواقعها، مبتدئين من أعلاه الجنوبيّ.
فأوّل قراه: القيرح، وديار الزّمالكه وآل منيف. ثمّ: عقدة الوهالين. ثمّ: البريكه لآل ثابت. ثمّ: جروب البريكه.
وهاته القرى والشّراج بين مسيلين للماء، أوسعها الغربيّ، وأمّا الشّرقيّ.. فإنّه ساقيتان بينهما العقبة، ثمّ الظّاهره، ثمّ تلتقيان.
وأمّا الغربيّ: فمن ورائه قرى كثيرة، من جنوبه إلى شماله، أوّلها: الخنم.
ثمّ: خموسة. ثمّ: الظّاهر. ثمّ: ديار آل مبارك. ثمّ: عرض الرّبيخة. ثمّ: زهر الجنان للسّادة آل الحامد؛ ومنهم: السّيّد الصّالح الجليل، صاحب المناقب الكثيرة، والكرامات الشّهيرة حامد بن حسن. ومنهم: ولده محمّد، شهم نافذ في الأمور، فيصل في الأحكام.
ثمّ: باهزيل. ثمّ: ركبة محيصن. ثمّ: جروب آل جعفر المسيطيّ. ثمّ: موشح. ثمّ: جدفرة الصّيعر. ثمّ: السّفوله لآل سيف. ثمّ: بامعد. ثمّ: بامعدان لآل عبد الله محمّد من آل مرعيّ بن طالب، كان منهم صديقي الوفيّ، الشّيخ طالب بن مرعيّ، رجل شهم، مستوي السّريرة والعلانية، إذا وعد.. صدق، وإذا قال.. وفّى، ذهب مع ظلم اليابانيّين، وكان آخر العهد به ـ رحمة الله عليه ـ وله عدّة أولاد نجباء؛ منهم: محمّد وعوض، إلّا أنّ الأوّل يتشدّد في مبادىء الإرشاديّين، والثّاني يتقبّله.
ثمّ: مسجد النّور. ومن وراء السّاقية الشّرقيّة: المصنعه. ثمّ: ظلوم. ثمّ: حبره. ثمّ: النّخش. ثمّ: الرّوضه. ثمّ: ديار الصّويل.
ثمّ: بلاد الغريب وقد كانت معمورة، وفيها جامع وصدقات واسعة.
وفيها: الشّيخ حارث باشراحيل، جدّ آل باشراحيل، والشّيخ عبد القادر باشراحيل، وهو الّذي بشّر بالحبيب أحمد بن زين، وهو في بطن أمه، ولموته قصة توجد في «مجموع» كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط.
وفيه: أنّه كان في شبابه على زيّ الجند، حتّى لقيه بعض السّادة بتريم فقال له: ابن من أنت؟ فقال: ابن الشّيخ محمّد باشراحيل، فقال له السّيّد: حاشا محمّد باشراحيل منك، فوقعت من قلبه، وجاء إلى مسجد حارث، وآلى على نفسه أن لا يخرج منه إلّا بعد أن يختم القرآن، ثمّ كان من أمره ما كان.
ومن بلاد الغريب أيضا: الفقيه أحمد بن عبد الله بن عمر باشراحيل، من مشايخ الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ.
وقد ذكرت في الشّحر أنّ آل باشراحيل يرجعون إلى عباهلة حضرموت، والدّليل على ذلك: قول العلّامة المحقّق الشّيخ عمر بن عبد الرّحمن، صاحب الحمرا، في مناقب شيخه العيدروس: (وجدت بخطّ الشّيخ أحمد بن محمّد باشراحيل العبهليّ الحضرميّ..) إلى آخر القصّة الّتي رواها عن شيخه فضل بن عبد الله بن فضل الّتي لا يعنينا منها إلّا قوله: (العبهلي)، والظّاهر أنّ الشّيخ أحمد ليس إلّا من آل باشراحيل المذكورين.
والعباهلة هم المشار إليهم بقول نشوان بن سعيد الحميريّ [من الكامل]:
«وعباهل من حضرموت من بني *** حمّاد والأشبا وآل صباح »
قال في شرحها: (العباهلة: الّذين أقرّوا على ملكهم لا يزالون عنه، ومن ذلك: كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الأقيال والعباهلة من آل حضرموت.
وذو حمّاد وذو جدن بطنان من ولد الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر، وكذلك سبأ بن الحارث، وهم الأشباء؛ منهم: محمّد بن عمر بن عبد الله، قاتل معن بن زائدة ببست) اه، وقد فصّلت مقتل معن ب «الأصل».
وفي سنة (583 ه) بني مسجد الغريب، وهو أوّل ما بني في القرية.
ومن وراء بلاد الغريب إلى الشّمال: ديار آل عبود. ثمّ: بلعقبة. ثمّ: زبيد؛ وهي: ديار وشراج كانت لآل عبدات، ثمّ غلبهم عليها آل مرعيّ بن طالب وأخذوها منهم عنوة عليهم بعقب قتال، مفصّل خبره ب «الأصل». ثمّ: محلّ الصّقعان. ثمّ: جفل؛ وهو مكان واسع، فيه جملة قرى، أوّلها من جهة الجنوب: الجدفره: لآل سلامة بن مرعيّ. ثمّ: الجوة: وهي حوطة الشّريفة سلوم بنت زين بن علويّ بن أحمد بن هاشم المقبور بالحسيّسة. ثمّ: سحيل الفقرا: فيه آل باشراحيل وغيرهم.
ومن الاصطلاح أنّ من وضع السّلاح يقال له: تفقّر، وكان آل باشراحيل وضعوا السّلاح ودخلوا في طريق التّصوّف، فقيل لهم: فقراء، ونسبت إليهم هذه القرية. وفيها أيضا آل السّقّاف؛ منهم:
المرحوم السّيّد عبد الله بن أحمد بن سالم سبول السّقّاف، السّابق ذكره في الشحر، وعبد الله هذا أحد صدور العلويّين ووجهائهم، توفّي بسنغافورة في أيّام اليابان، وله ولد نشيط يسمّى عبد الرّحمن.
وأكبر ما يطلق جفل على هذه القرية والنّاس يلفظون بها بالجيم ويكتبونها كذلك، ولكنّ الحبيب محمّد بن زين بن سميط ضبطها في «قرّة العين» بالياء المثنّاة من تحت، مع أنّها تطلق أيضا على الجهة عامّة، وفي «تاريخ الطّيّب بافقيه» أنّ الفقيه الصّالح أبا بكر بن محمّد بلحاجّ والوليّ الصّالح عبد الله بن عمر باهرمز توفّيا فجاءة بيفل في سنة (904 ه).
وقد بناها آل جميل السّعديّون بمساعدة آل يمانيّ وآل أحمد والصّبرات، وآل ثعلب، وصاحب مريمه، وبعض آل كثير، وكان هؤلاء اتّفقوا في سنة (845 ه) للقضاء على الدّولة الكثيريّة، وحاصروا الحصن الّذي بنته في الغرفة شهرين، فانتهز تلك الفرصة آل جميل وابتنوا قرية جفل بمساعدة أولئك، وكان ذلك في أيّام السّلطان عبد الله بن عليّ الكثيريّ، المتوفّى سنة (850 ه).
وقال الشّيخ محمّد بن عمر باجمال في كتابه «مقال النّاصحين»: (حكي أنّ السّلطان عبد الله بن عليّ حاصر بني سعد بقرية جفل في رمضان، فناداه أحدهم وقال له: أهذه صدقتك؟!، فارتحل عنهم.
ويحكى: أنّه أهدى فرسا لفاضل بالكروس السّعدي، ولما أراد اللّحوق بأصحابه وهم حرب للسّلطان.. ردّ فرسه، وقال: حاشا لله أن أستعين عليه بفرسه).
وقد ذكرت لهذه أمثالا كثيرة في «بلابل التّغريد» تستخرج التّرحّم على أهل الوفاء من أعماق القلوب، وصوادق الألسنة.
وعلى ضدّها ما جاء في الثّورة العربيّة: أنّ الشّريف فيصل بن الحسين تسلّم عشرات ألوف الدّنانير من الأتراك في اللّيلة الّتي أعلن حربه عليهم من صبيحتها.
وإنّي لأعجب ممّن يسمّى: الحسين المنقذ.. بعد ما شاع أنّه أخذ المسلمات من نساء الأتراك وهنّ متعلّقات بأستار الكعبة، وسلّمهنّ في جملة الأسرى للإنكليز مجرّدات، مع أنّ الدّولة العثمانيّة هي الّتي ربّت شحم كلاه.
أقول هذا لا عن تعصّب، بل لو كانت بي محاباة.. لحابيته؛ إذ لم يكتب لأحد بحضرموت غيري بنبأ تلك النّهضة المشؤومة، ولكنّ الدّين فوق كلّ عاطفة، ولئن صحّت الأخبار بأخذه نساء الأتراك القانتات المؤمنات على تلك الحال.. فما هو إلّا أمر عظيم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وانظر فرق ما بين هذا وما فعله الإمام يحيى؛ فلقد أحسن وأفضل، وأعان وأجمل، ولم يخذل الدّولة العثمانيّة عندما تقاصرت خطاها، بل ساعد بما أشرنا إلى قليل منه في «الأصل»، مع ما بينهما من الأشلاء الممزّقة، والأرواح الذّاهبة.
فلقد أخبرني العلّامة الشّيخ محمّد بن عليّ بن طه الهتاريّ قال: (أخبرني خليل أفندي، أمين صندوق الحديدة للأتراك في أيّامهم: أنّ الّذين قتلوا في حروب اليمن من عساكر الدّولة العثمانيّة يبلغون بالإحصاء الرّسميّ سبع مئة وخمسين ألف قتيل) ولا بدّ بالطّبع أن يقتل من اليمانيّين ما يناسبهم، ولكنّ الإمام يحيى أظأرته الرّحم الإسلاميّة، فحيّاه الله وبيّاه، لقد اقتنى بذلك كمالا وجمالا، وتأثّل به الشّرف الخالد، والأجر التّالد، وكانت له العاقبة الحسنة.
وبلغني: أنّه كان يثني على الشّريف محمّد بن عليّ الإدريسيّ بأنّه لم يسلّم أسيرا ولا شبرا من بلاده للأجانب، على كثرة ما ابتزّ من خزائنهم من أموال.
ومن وراء جفل إلى الشّمال:
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
54-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل الرباكي)
حصن آل الرّباكيّوهو أطلال حصن داثر، بقلّة قارة شاهقة، فيها بئر عميقة، وفي جانب تلك القارة غار يصل إلى البئر، كأنّ أحدا حاصر الحصن، ولمّا أعياه.. حفر بجانب القارّة حتّى انتهى إلى البئر فقطع على أهله الماء.
وقد انتصبت القرائن على أنّ هذه القارة هي قارة الأشباء، ومنها بيت نشوان بن سعيد الآنف الذّكر، وقد جاء في «تاريخ شنبل»: أنّ قارة الأشباء عند آل حسن، وهم من بني سعد كما سيأتي في الحوطة.
وفي أخبار سنة (808 ه): (أنّ آل جميل بنوا قارة الأشباء)، وكأنّها خربت سريعا؛ ففي «تاريخ شنبل»: (أنّ محمّد بن عليّ بنى قارة الأشباء في سنة 827 ه).
وفي أخبار سنة (840 ه) أنّ الكثيريّ أخرب باهزيل بجهة الغريب والأشباء، وكانتا تحت يده يومئذ.
فكلّ هذه الأخبار ترجّح أنّها هي هذه القارّة، ولا يغبّر عليه قول ابن الحائك الهمدانيّ: (ثمّ حوره، وهي مدينة عظيمة لبني حارثة من كندة، ثمّ قارة الأشباء، وهي لكندة) اه.
فإنّه قد يفهم من هذا أنّ قارة الأشباء قريبا من حوره، ولكن يجاب عنه بشيئين:
أحدهما: أنّ الهمدانيّ في «الصّفة» كثيرا ما يخطىء في مواضع قرى حضرموت وترتيبها؛ كما فعل في النّجير.
والثّاني: أنّ الأشباء منتشرون في وسط وادي حضرموت وأسفلها، وقد قال الهمدانيّ نفسه في العجز ـ وهو أسفل حضرموت ـ: (إنّه مقسوم بين الأشبا وحمير)
وأخرى وهي الظّاهر: أنّ قرية الأشباء في أيّامه كانت في أيدي أهلها الحضرميّين نسبا، لا في أيدي كندة.
ثمّ رحابة: وهي لآل عبيد بن مرعيّ. ثمّ: سحيل غانم. ثمّ: التّبيقول، وفيه حصن الشّيخ سالم بن محمّد بن يمانيّ المثري الشهير، وقد أخبرني بسبب سفره من حضرموت وبما كان يؤمّله يومئذ.
أمّا سبب سفره.. فقال: مرّ ذات يوم جابريّ في ردائه قيد بعير يقعقع، فظنّه والدي ريالات، وكان يهوى الشّرّ لقومه آل مرعيّ بن طالب الأقربين ديارا من آل جابر، فأطلق عليه الرّصاص، ثمّ خفّ هو وعمّي عبد الله، فلمّا أكبّ الثّاني عليه ليطعنه وفيه رمق.. استلّ خنجره ومكّنه من ثغرة عمي، وفاضت روحاهما معا، ولمّا عرف أبي أنّ الّذي طمع فيه إنّما هو قيد بعير لم يحصل عليه إلّا بثمن غال وهو أخوه.. ندم، فضاقت بي الدّنيا، وسافرت وأنا أتمنّى من الله أن أحصل في كلّ شهر على ثلاثين ريالا، فانثالت عليه الأموال ونمت كما ينمو الدّود حتّى لقد بلغ إيراده الشّهريّ من أجور عقاره بجاوة وسنغافورة ومصر ما يقارب ستّين ألف ريال.
وقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» [3 / 188]: (أن قلّ يوم إلّا كان عمر بن الخطّاب يتمثّل بهذا [من الطويل]:
«وبالغ أمر كان يأمل دونه *** ومختلج من دون ما كان يأمل) اه»
وهذا البيت منطبق برمّته على الشّيخ سالم، أمّا صدره.. فممّا تقدّم، وأمّا عجزه.. فقد عاش بحسرة؛ لقلّة الأمن بحضرموت، وعندما بدأ ينبسط فيها.. مات.
وحديثه معي عمّا ذكر كان أوائل سنة (1330 ه) ببتاوي.. فربّما يزيد أو ينقص؛ لأنّ الحفظ يخون ولكنّه لا يخرج عن ذلك المعنى.
وقال الشّيخ حسن بن ربيع: لم يكن المقتول جابريّا، وإنّما هو ابن جوفان والصّفوانيّ من الجوادة، أطلق الرّصاص عليهما محمّد بن سالم وأخوه عبد الله فخرّ الصّفوانيّ قتيلا، ثمّ إنّ ابن جوفان قتل عبد الله بن سالم، ثمّ إنّ محمّد بن سالم قتل ابن جوفان.
وكان للشّيخ سالم ولد شهم شجاع، هو: الشّيخ عليّ بن سالم بن محمّد بن يمانيّ، له همّة عالية، ورأي جزل، وعنده مشاركة في بعض الفنون العلميّة؛ لأنّه أطال الإقامة بالحجاز، وثافن العلماء بمكّة والمدينة، وقليل ما يحصل منه في تينك البلدتين.. خير من كثير ما يحصل في غيرهما، والنّصّ ثابت في مضاعفة الصّلاة، وغيرها لا يخرج عنها.
وكانت بيني وبين الشّيخ عليّ بن سالم هذا صداقة متينة، ولمّا مات سنة (1337 ه).. اشتدّ بي الحزن عليه، وكان من كتابي لوالده في التّعزية به:
إنّنا كنّا نؤمّل أن نموت ويعيش عليّ؛ ليبني قصور المجد بما تأثّلته من الأموال.
فأجاب بما معناه: إنّ الّذي تتمنّاه كان نفس ما أتمناه، ولكن.. لا خيرة لأحد مع الله.
ولمّا كانت ثروة الشّيخ سالم لا تريد الشّرّ، وكان هو لا يتمنّاه حتّى ولو أركب عليه ولم يكن لأقفال صناديقه مفتاح غير الحرب.. أحبّ أخوه عبد الله أن يوقعه في الشّبكة، وكان الشيخ عليّ بن سالم أراد أن يعود لمطلّقته بنت ريس بن سعيد، فأبوا أن يقبلوه، فحمله عمّه عبد الله أن يقتل الّذي تزوّجها في ليلة زفافه سنة (1320 ه)، فأخطأه وأصاب عبد الله بن عامر العاس، وكان في القوم جماعة من عبيد الدّولة والقبائل الكثيريّة، وجماعة من أصحاب عبيد صالح بن طالب وغيرهم من القبائل، نضخ رشاش دمه في ثيابهم، فظنّ عبد الله بن محمّد والنّاس معه أنّ القيامة ستقوم، وأنّ حربا ستنشب بين سالم بن محمّد والقبائل الّتي أخفر ولده ذمامهم، فلا تنغلق صناديقه أبدا ـ وكان سالم بن محمّد يومئذ في طريقه إلى حضرموت فما هو إلّا أن وصل الشّيخ سالم إلى حضرموت، واجتمع بالشّيخ عبيد صالح بن طالب في دار مشعبي بالحوطة، فسوّيت المسألة، ولم تنتطح شاتان، حسبما سبق طرف من ذلك في القارّة.
ولمّا خاب أمل عبد الله بن محمّد من هذه الناحية.. جاء ذات ليلة إلى بيت أخيه سالم، وقال له:
إنّني من جملة من لحقه العار بقتل العاس، فإمّا أن ترضيني، وإلّا.. كان ما لا تحمد عقباه.
فلاينه الشّيخ سالم، ثمّ ترك الأرض له من اليوم الثّاني، وكان آخر العهد به، إذ توفّي بعدن حوالي سنة (1358 ه)، بعد أن ذرف على التّسعين.
وللشّيخ عليّ بن سالم ذكر جميل ب «الأصل».
وبحاجة الشّيخ عبد الله بن سالم إلى طعن الجابريّ.. ذكرت أنّ ابن المستوفي انتقد قول الشّاعر [من الطّويل]:
«ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم *** ببيض المواضي حيث ليّ العمائم »
وقال: إنّه ممّا لا يحسن الافتخار بمثله؛ لأنّهم إذا لم يموتا بالضّرب حيث ليّ العمائم، واحتاجوا إلى الضّرب حيث الكلى، أو حيث الحبا.. دلّ ذلك على الضّعف والخوف وعدم التّمكّن، وإنّما الجيّد قول بلعاء بن قيس من بني ليث بن كنانة [في «ديوان الحماسة» 1 / 13 من البسيط]:
«وفارس في غمار الموت منغمس *** إذا تألّى على مكروهة صدقا»
«غشّيته وهو في جأواء باسلة *** عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا»
«بضربة لم تكن منّي مخالسة *** ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا»
وما أشبه ضربة بلعاء بقول قيس بن الخطيم الأوسيّ [في «ديوانه» 46 من الطّويل]:
«طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر *** لها نفذ لو لا الشّعاع أضاءها »
«ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها »
وتدبّر أيّها النّاظر هل ينحطّ شيء من نقد ابن المستوفي على قول الفرزدق [في «ديوانه» 2 / 79 من الطويل]:
«قريناهم المأثورة البيض قبلها *** يثجّ العروق الأزأنيّ المثقّف »
أم لا؟ والفرق أقرب.
ومن وراء البريكة الواقعة بين المسيلين إلى جهة الشّمال: الحدبه. ثمّ: القوز.
ثمّ: العقده، وهي مسكن الشّيخ جعفر بن سالم بن مرعيّ بن طالب، وله أشعار وأخبار في «الأصل»، وقد مات عن جماعة من الأولاد، وهم: عمر، وطالب، ومرعيّ، وسالم، وصالح.
أسنّهم: عمر، وكان مع السّلطان عبود بن سالم لمّا قتل في صيق العجز، وهو مكان في غربيّ يبعث، ينهر إلى حجر ابن دغّار، وله محاسن.
ومن النّوادر: أنّني وصلت وادي بن علي مرّة في شراء أخشاب، فأبردت عنده، فقال لي: لقد رأيت البارحة جدّك محسنا جاء إلى بيتي، وجلس في مكانك، وسألته عن عدّة مسائل تتعلّق بالطّهارة والصّلاة ـ وأنا ذاكرها لك ـ فأجابني عنها، ولمّا أراد الانصراف.. دفعت له خمسة وعشرين ريالا.
ثمّ إنّه ذكر لي الأسئلة فأجبته عنها، فقال لي: هكذا ـ والله ـ كان جواب جدّك. وعلى الجملة فقد كان معي في اليقظة ـ حسبما يقول ـ كلّ ما كان مع جدّي في النّوم، ما عدا الخمسة والعشرين الرّيال.. فإنّه لم يكن لها أثر في اليقظة.
أمّا الشّيخ طالب: فقد كان أصدقهم لسانا، وأبسطهم بنانا، وأبيضهم جنانا، وأملأهم جفانا.
«عشق المكارم فهو معتمد لها *** والمكرمات قليلة العشّاق »
كلم غالية، وهمم عالية، ووجه أبيض، وبنان مبسوط.
«مجد رعى تلعات الدّهر وهو فتى *** حتّى غدا الدّهر يمشي مشية الهرم »
«بناه بأس وجود صادق ومتى *** تبنى العلا من سوى هذين تنهدم »
لم يزل معمور الفناء، مفتوح الباب، مهزول الفصيل، يقصد بالآمال، وتشدّ إليه الرّحال، وقور الرّكن، أصيل الرّأي.
«ما تملّيت مثل ذاك الحجا المع *** رق في الحلم والسّجايا العتاق »
«خالص الودّ والتّقى في زمان *** فرّخت فيه أمّهات النّفاق »
لقد كان لآل كثير ركنا ركينا، وحصنا حصينا، ولمّا مات في سنة (1341 ه).. افترق ملؤهم، واضطرب حبلهم، فجاء موضع قول عبدة بن الطّيّب [من الطّويل]
«وما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنّه بنيان قوم تهدّما»
وكان هو صاحب الضّلع الأقوى في حرب قسبل المفصّل خبرها ب «الأصل».
وفي العقده الآن ديار شاهقة، ومنازل ضخمة، كلّها لآل جعفر بن سالم. ولم يضنّ الشّيخ أحمد بن طالب بميراث أبيه، بل بقي يبذل حقوق العزّ والدّين فيه، فانطبق على كاسب ذلك ما قال ابن مطير [من الطّويل]:
«فتى عيش في معروفه بعد موته *** كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا»
وبما أنّ الكرام عرضة البلاء والامتحان.. فقد أصيب أحمد هذا بريح لا يزال منه أسير الفراش، ولكنّه ممتّع بالعقل والإحساس، وكلّ أمر أهون من غيره، والله مع الصّابرين.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
55-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (سيئون)
سيئونزنة: زيدون، بعضهم يكتبها بواو واحدة، وبعضهم بواوين، والقاعدة: أنّ ما كثر استعماله واشتهر وفيه واوان.. يكتب بواحدة فقط، كداود.
وقد قلت في «منظومة» أنشأتها في «علم الخطّ» [من الرّجز]:
«ما كثر استعماله وفيه *** واوان.. واو واحد يكفيه »
وهي من البلدان القديمة، نقل الشّيخ المؤرّخ سالم بن حميد: أنّ سيئون، وتريم، وشبام، وتريس أبناء حضرموت، وأنّ هذه البلاد سمّيت بأسمائهم.
وقد ذكرها الهمدانيّ في «صفة جزيرة العرب» [170] إلّا أنّه لم يسمّها باسمها، بل قال: (وشزن وذو أصبح مدينتان في دوعن) اه
وقد استشكلت هذا ردحا من الزّمن حتّى فرّج الله عنّي بما رأيته منقولا عن أبي شكيل، عن أبي الحسن أحمد بن إبراهيم الأشعريّ من قوله: (وذي أصبح وسيئون مدينتان عظيمتان لبني معاوية الأكرمين)، فدلّ ذلك على قدمهما.
فقول الهمدانيّ: (شزن).. إمّا غلط منه وإمّا أن يكون عرض بعده التّبديل، لكن من المعلوم أنّ سيئون منعطفة على الجبل الّذي هي بحضيضه انعطاف اللام. والانعطاف من الانحراف هو الشّزن بنفسه، قال ابن أحمر [من الوافر]:
«ألا ليت المنازل قد بلينا *** فلا يرمين عن شزن حزينا»
ولعلّ سيئون في القديم كانت كحالها اليوم في الانعطاف على جبلها.
وأمّا قوله: (بدوعن).. فخطأ ظاهر لا يحتمل التّأويل، ولهذا تركه أبو شكيل.
وقد يغبّر على قدم سيئون شيئان:
أحدهما: أنّه لا ذكر لها في الحوادث القديمة، وأوّل ما يحضرني من ذكرها فيها أنّ نهدا اقتسمت السّرير في (سنة 601 ه) فصارت سيئون وحبوظة لبني سعد وظبيان.
وثانيهما: أنّ الجامع الأوّل بسيئون كان صغيرا لا يتّسع لمئتي نفس تقريبا، ومع ذلك فالّذي بناه هو الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير، وهو متأخّر الزّمان، لم يمت كما في «البنان المشير» [ص 25] إلّا في حدود سنة (920 ه) وله قصّة مع سيّدنا الشّيخ أبي بكر العدنيّ ابن سيّدنا عبد الله العيدروس لمّا اجتاز بسيئون، وقد كانت وفاة العدنيّ في سنة (914 ه).
ولكنّ الجواب يحصل عن ذينك الأمرين، ممّا أجمع عليه المؤرّخون؛ كشنبل وباشراحيل وغيرهما: أنّ سيئون خربت في سنة (595 ه) فتحصل أنّها كانت مدينة عظيمة لبني معاوية الأكرمين من كندة، ثمّ خربت حتّى لم تكن شيئا مذكورا، ثمّ عادت شيئا مذكورا حتّى دخلت في قسمة نهد سنة (601 ه)، إن لم تؤل بأرباضها.
ثمّ كانت في أيّام العيدروس المتوفّى سنة (865 ه) قرية، كما يعرف من قول السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس عن عبد الله بن عليّ باسلامة، وكان من الثّقات: (إنّ العيدروس جاء إلى عنده بمريمه، فكلّف عليه أن يذهب إلى سيئون ـ وهي قرية من قرى حضرموت ـ ليشفع إلى جعفر بن محمّد الجعفريّ نائب بدر بن عبد الله بن جعفر عليها في إطلاق عليّ باحارثة، فلم يقبل شفاعته) اه بل سبق في شبام عن الجدّ طه ما يفهم منه أنّها لم تكن في أيّامه إلّا قرية، مع أنّه متأخّر التّاريخ.
وأخبرني السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ بن عمر بن سقّاف عن والده: (أنّ سيئون اسم امرأة كان لها عريش في جانب سيئون الغربيّ، المسمّى اليوم بالسّحيل، يمرّ عليها أبناء السّبيل المنقطعون، فسمّيت باسمها البلاد).
وقد يجمع بينه وبين بعض ما تقدّم بأنّ اسم سيئون الأوّل إنّما هو شزن ـ حسبما مرّ عن الهمدانيّ ـ ثمّ خربت، وكانت المرأة المسمّاة سيئون أوّل من اتّخذت عريشا في أطلالها الدّاثرة.. فغلب عليها اسمها.
وحدّثني السّيّد المؤرّخ الرّاوية محمّد بن عقيل بن يحيى: أنّ سيئون اسم يهوديّ محرّف عن صهيون، وقد كان مثرى اليهود بسيئون. وصهيون كنيسة بيت المقدس، وإليها يشير الأعشى في مديحه لأساقفة نجران بقوله [في «ديوانه» 243 من الطّويل]:
«وإن أجلبت صهيون يوما عليكما *** فإنّ رحا الحرب الدّكوك رحاكما »
وفي (ص 309 ج 5) من «صبح الأعشى»: (إنّ صهيون بيعة قديمة البناء بالإسكندريّة، معظّمة عند النّصارى).
وقبله من تلك الصّفحة ـ في الكلام على بطارقة الإسكندريّة الّذين تنشّأ عن ولايتهم مملكة الحبشة ـ: (إنّ الملك الأكبر الحاكم على جميع أقطارهم يسمّى بلغتهم: (الحطيّ) ومعناه: السّلطان، وهو لقب لكلّ من قام عليهم ملكا كبيرا. ويقال: إنّ تحت يده تسعة وتسعين ملكا، وهو تمام المئة. وإنّ الملك الكبير في زمن صاحب «مسالك الأبصار» يقال له: عمد سيئون، ومعناه: ركن صهيون) اه
وهو كالصّريح في أنّ سيئون وصهيون شيء واحد.
ورأيت في بعض الصّحف أنّ اليهود قدّموا عريضة على يد أحد زعمائهم للسّلطان عبد الحميد رحمه الله يسترحمونه في أن يعيّن قطعة من فلسطين لسكنى اليهود الّذين قتلهم الضّغط في روسيا وإسبانيا، وفيها ما صورته: إنّ جمعيّة سيئون الّتي تشكّلت في صهيون بعد الميلاد بمئة وخمسة وثلاثين سنة قد اختارتني للمثول بين يديكم؛ لأقدّم لكم هذه العريضة. وتسترحم الجمعيّة اليهوديّة من صاحب الجلالة التّكرّم بتخصيص القطعة الفلانيّة ـ وحدّدها ـ لإسكان اليهود.
ونظرا لما انتاب خزينة الدّولة من الضّائقة الماليّة من جرّاء الحرب اليونانيّة.. فإنّ الجمعيّة تقدّم بواسطتي عشرين مليون ليرة ذهبا لصندوق الخزينة على سبيل القرض لمدّة غير معيّنة بدون فائدة، وخمسة ملايين ليرة ذهبا إلى خزينتكم الخاصّة، لقاء ما تكرّمتم به من البرّ والإحسان، وأسترحم قبول هذا العرض.
فلم يكن من السّلطان إلّا أن استشاط غضبا وطرده، ولكنّ جمعيّة الاتحاد والتّرقّي جعلت ذلك الزّعيم اليهوديّ على رأس الهيئة الّتي جاءت لتبليغ السّلطان خلعه عن العرش؛ لأنّ ذلك اليهوديّ كان من مؤسّسي تلك الجمعيّة!! وكان نائبا عن سبلانيك في مجلس المبعوثان. اه
ومنه تعرف أنّ سيئون اسم للجمعيّة الّتي ألّفت، أو للّذين ألّفوها، أو للمكان الّذي ألّفت فيه.
وقد ملأ العرب اليوم الدّنيا ضجيجا بشأن فلسطين، وسننظر ـ كما في المثل الحضرميّ ـ أسيادنا آل باعبّاد على الصّراط، فإمّا سبقناهم على الظّفر، وإلّا.. كان للنّاس الحقّ أن ينشدوهم ما نكرّره من قول الحطيئة [في «ديوانه» 40 من الطّويل]:
«أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا»
وفي معناه ما أنشده الحجّاج [من الطّويل]:
«ألام على عمرو ولو مات أو نأى *** لقلّ الّذي يغني غناءك يا عمرو»
إذ كان اليهود لا يطمعون في شبر من فلسطين أيّام الأتراك، وعمّا قليل ينكشف الغبار عمّا في المضمار، والبيت الّذي يتمثّل به الحجّاج شبيه بقول ابن عرادة السّعدي
وكان بخراسان مع سلمة بن زياد يكرمه وهو يتجنّى عليه، ثمّ فارقه وصحب غيره فلم يحمد.. فعاد إليه وقال [من الطّويل]:
«عتبت على سلم فلمّا فقدته *** وصاحبت أقواما.. بكيت على سلم »
«رجعت إليه بعد تجريب غيره *** فكان كبرء بعد طول من السّقم »
وقال زياد ابن منقذ العدوي التميمي من قصيدة جزلة أنشأها بصنعاء يتشوق فيها إلى وطنه ببطن الرّمّة ـ وهو واد بنجد [في «ديوان الحماسة» 2 / 153 من البسيط]
«لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم *** إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم »
وقال أبو العتاهية [في «ديوانه» 18 من الطّويل]:
«جزى الله عنّي جعفرا بوفائه *** وأضعف إضعافا له بوفائه »
«بلوت رجالا بعده في إخائهم *** فما ازددت إلّا رغبة في إخائه »
وقال أحمد بن أبي طاهر [من الوافر]:
«بلوت النّاس في شرق وغرب *** وميّزت الكرام من اللّئام »
«فردّني الزّمان إلى ابن يحيى *** عليّ بعد تجريب الأنام »
فإن نجح العرب حسبما يتبجّحون في هذه الأيّام.. فبها ونعمت؛ لأنّها أمنيّة كلّ مؤمن، وإلّا.. فما أخذوا إلّا يوم الثّور الأبيض؛ أي يوم نهض المنقذ، وكانت نهضته فاتحة هزائم الأتراك الّتي اهتزّت لها منابر الدّنيا بالدّعاء لهم عدّة قرون.
ولئن لم تكن زنة سيئون في اللّفظ.. فقد كانت على رسمها في الخطّ كما تقدّم أوّل المسوّدة، وما أكثر التّصحيف في مثل ذلك، فمهما يكن.. فالأمر قريب من بعضه، ولا مانع أن تكون المرأة المذكورة في كلام سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ يهوديّة، وبذلك تلتئم أطراف الكلام.
ثمّ إنّ سيئون نهضت نهضة سريعة، ونبتت كما ينبت الحبّ في حميل السّيل، والدّليل على ذلك: أنّ باني الجامع الكبير الّذي يسع الألوف إلى اليوم.. هو الشّيخ أحمد بن مسعود بن محمّد بن مسعود بن عليّ بن سعد بارجاء بن عبد الله بن عليّ الظّفاريّ العبهليّ المذحجيّ ـ كما مرّ في الشّحر، كان موجودا في أواخر القرن التّاسع، بشهادة ما سقناه ب «الأصل» من خبره مع السّلطان بدر بن عبد الله بن علي بن عمر الكثيريّ، الّذي كانت ولايته في سنة (850 ه)، ووفاته في سنة (894 ه)، فباكثير باني الجامع الأوّل، وبارجاء باني الجامع الثّاني متعاصران، فغاية ما يحتمل: تقدّم الجامع الأوّل بسنوات معدودة، ومتى عرفت تعاصرهما.. تقرّر لديك أنّ عمارة البلاد حديثة، وأنّ اتّساعها كان دفعة واحدة في أيّام بدر بوطويرق.
وممّا يؤكّد ذلك: اتّفاقهم على أنّ مقبرة سيئون في شرقيّها. أمّا نسبتهم تلك المقبرة إلى الشّيخ عمر بامخرمة:
فإمّا أن يكون المراد جانبها الشّرقيّ منها فقط. وإمّا أن يكون للشّهرة، وإلّا.. فآل بارجاء كانوا متقدّمين عليه.
وكان الشّيخ سعد بارجاء موجودا بسيئون من أوائل القرن السّابع، وكانت وفاة عمّه تاج العارفين سعد الظّفاريّ بالشّحر سنة (609 ه).
وكان الشّيخ سعد بارجاء من المشهورين بالفضل، نجع هو وعمّه الشّيخ سعد بن عليّ الظّفاريّ من ظفار إلى الشّحر، واستوطنها أيّام كانت خصاصا قبل أن تكون مدينة، وأشار على ابن أخيه سعد هذا أن يذهب إلى أرض لا يكون له بها شأن، فكانت سيئون؛ لأنّها لم تكن إذ ذاك إلّا صغيرة جدّا.
ولا يشوّش على قولنا: (أنّ سيئون اتّسعت دفعة). ما سبق عن الجدّ طه، ممّا يفهم استصحاب اسم القرية عليها؛ لاحتمال أنّه باعتبار ما كان.
وكان الشّيخ أحمد بن مسعود ـ باني جامع سيئون الثّاني ـ أحد مشايخ سيئون المشهورين، وله بها آثار، منها: الجامع المذكور، وقد زاد فيه الشّيخ عليّ بارجاء صفّين في جهته الغربيّة أيّام السّلطان عمر بن بدر ـ أي: في القرن الحادي عشر ـ في أرض اشتراها من صلب ماله، ثمّ زاد فيه السّيّدان محمّد بن سقّاف بن محمّد وعبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الله آل السّقّاف زيادات قليلة، ثمّ زاد فيه السّيّد حسين بن عليّ سميطة ثلاثة صفوف في جانبه الشّرقيّ، ثمّ جدّدت عمارته على عهد جدّنا محسن بن علويّ بن سقّاف، وهي الموجودة إلى الآن، وكانت النّفقة من الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ السّابق ذكره في الحزم وصداع، يرسلها من حيدرآباد الدّكن إلى يد الجدّ رضوان الله عليه.
ثمّ زاد فيه السّيّد الجليل أحمد بن جعفر بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى بسيئون سنة (1320 ه) رواقا في جانبه الغربيّ الجنوبيّ.
"وفي آل بارجاء كثير من العلماء والصّلحاء.
منهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم بن عمر بن عبد الرّحمن بارجاء، مؤلّف «تشييد البنيان»، وهو كتاب حافل في ربع العبادات، نقل فيه نقولا كثيرة الفائدة، فرغ منه في سنة (1036 ه).
ومنهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم، المشهور بقاضي ظفار.
ومنهم: الشّيخ عبد الجامع بن أبي بكر بارجاء، ذكره الشّلّيّ وأثنى عليه، توفّي بمكّة سنة (1082 ه) وترجم له المحبيّ في «الخلاصة» [2 / 298].
ومنهم: الشّيخ محمّد بن محمّد، خطيب جامع سيئون، كان شهما صلبا، عارفا بالقراءات والتّجويد، إلّا أنّه كان يأكل طعام الدّولة فأنكروا عليه؛ إذ كان أكل طعامهم من أكبر المنكرات لذلك العهد الصّالح، توفّي سنة (1328 ه).
ومنهم: الشّيخ أحمد بن محمّد بارجاء، تولّى القضاء مرّات بسيئون، وكانت له بها خطابة الجامع. وكان سخيّا، دمث الأخلاق، ليّن الجانب، خفيف الرّوح، فقيها مشاركا في بعض الفنون، وكان ممّن يحضر عليّ وله مكارم ومبرّات كثيرة. توفّي برمضان من سنة (1334 ه)، وله أولاد كثيرون، كان أحبّهم إليه سالم ومحمّد. وكانت له ثروة بجاوة فأتلفوها عليه، وقد أدركه ابنه الصّالح سعيد بجميل المواصلة وغزير المواساة.
وكان سعيد هذا من المثرين بالصّولو من أرض جاوة، فأنفق ماله في بذل المعروف، ولا سيّما للسّادة آل الحبشيّ وآل العطّاس، حتّى لقد كان يشتري من بعضهم عسلا بأغلى ثمن، ثمّ يقدّمه له كلّ يوم مع اللّحم الحنيذ إلى أن ينفد، وقد أملق بعد ذلك فلم يشنه الفقر؛ لغناه بالله، ولأنّه لا أهل له ولا عيال. وقد كمّت الأفواه عن المصارحة بالحقّ، ولكنّه رافع العقيرة بإنكار المنكر حسب جهده ومعرفته، لا يحابي ولا يداهن، جزاه الله خيرا.
وأمّا آل باكثير: فأكثر أعقابهم بتريس، حسبما سبق فيها، ومنهم جماعة بمكّة المشرّفة، ولا يزال بعضهم بسيئون، ولهم بها مآثر ومساجد.
ومن آخرهم بها: الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، كان عيبة علوم، ودائرة معارف، وعنه أخذت علم النّحو والصّرف، وكان يؤثرني ويقدّمني على النّاس، حتّى لقد قال لي مرّة ـ عن تدبير والدي ـ: (إن حفظت لاميّة الأفعال.. فلك ريال) فقرأتها عليه في الصّباح، ثمّ قلت له من العشيّ: اسمعها. وسردتها عن ظهر قلب وتسلّمت الرّيال، غير أنّ همّتي كانت ضعيفة في الصّرف ولا سيّما القلب والإبدال فتفلّت عنّي أكثره.
وكان الشّيخ ـ رحمه الله ـ متخصّصا في هذين العلمين، كثير الإكباب عليهما، والولوع بهما والبحث فيهما، وله مؤلّفات عديدة وأشعار كثيرة.
وكان شديد التّعلّق بوالدي، جمّ القراءة عليه. ثمّ كان يحضر دروسي في التّفسير والفقه والحديث، ولقد زارني مرّة في سنة (1352 ه) فقال: (لقد عددنا ستّين ماتوا ممّن كانوا يحضرون دروسك الشّيّقة). توفّي على أبلغ ما يكون من الثّبات بسيئون أوائل سنة (1355 ه).
ومنهم: أخوه أحمد بن محمّد باكثير، كانت له خيرات ومبرّات، وصلة أرحام، وكفالة أيتام، وقضاء حاجات، وتفريج كربات، توفّي بسيئون سنة (1343 ه).
ومنهم: ولده عبد القادر، كان تقيّا، متشدّدا في العبادة، متحرّيا في الطّهارة، آخذا بالعزيمة، سريع الحفظ، يكاد يحفظ من مرّة واحدة، وهو الّذي جمع بعض ما كنت أرتجله في المحافل المشهودة من الخطب الطّويلة، وكنت أظنّه الشّيخ محمّدا، لأنّه هو الّذي دفعها إليّ حتّى أخبرني ولده الأديب عمر بن محمّد بأنّ الجامع إنّما هو عبد القادر بن أحمد، بمساعدة من الشّيخ محمد في تحرير الآيات والأبيات والأحاديث فقط. توفّي بجاوة في حدود سنة (1344 ه).
وآل باكثير كلّهم على جانب عظيم من الذّكاء وقرض الشّعر، ولعمر بن محمّد شعر جيّد، وحامل لواء شعرهم اليوم هو: الشّيخ عليّ بن أحمد باكثير، نزيل مصر، وأنا مع حبّي له عاتب عليه؛ لأنّني أرسلت إليه مسوّدة «العود الهنديّ» فلم يردّها، وطبع لي محاضرة مسلّمة النّفقة ولم يدفع لأمري إلّا نحو ثلاث مئة نسخة فقط، وكان كلّ ذلك في سنة (1355 ه)، غير أنّني أحلت السّيّد عبد الله بن محمّد بن حامد السّقّاف ليقبض الجميع منه، ثمّ كاتبت وطالبت الاثنين حتّى عييت بدون جدوى ولا جواب، فأحدهما أو كلاهما ملوم، وكان الواجب على كلّ منهما أن يبرّىء نفسه، وأن يؤدّي الأمانة من كانت عنده.
ومن أكابر من تديّر سيئون: الشّيخ عمر بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة، السّيبانيّ الهجرانيّ، ترجمه الشّليّ في «السّنا الباهر» ترجمة طويلة، وذكر أنّ فقهاء عصره أنكروا عليه بعض الأحوال، منها: أنّه يحضر أغاني الفتايا ويجلس إليهنّ وأنّهنّ ممّن يضرب الدّفوف ويغنّي بين يديه في المواكب والمجالس.
ولذا لم يذكره ولده عبد الله في «ذيل طبقات الفقهاء» للإسنوي، وذكر أخاه الطّيّب، مع أنّه لا يزيد عليه فقها. ونقل تلك التّرجمة بأسرها سيّدي عمر بن سقّاف في كتابه «تفريح القلوب».
وما صنعه عبد الله بن عمر من إغفال ذكر والده يدلّك على تحرّ شديد وحيطة هائلة، وماذا عليه لو ذكر فقهه وأشار إلى بعض أحواله؟ غير أنّ فرط إنصافه ذهب به إلى أن يتصوّر أنّ ذكر أبيه مع ما ينكر عليه يوقعه في شيء من الهوادة، وهو ينزّه عدالته عن كلّ ما يعلق بها من الرّيب أو يمسّها من التّهم، وإنّه لمقام صعب إلّا على من وفّقه الله، فلهو أحقّ بقول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 171 من الكامل]:
«ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن *** هو بابنه وبشعره مفتون »
أخذ عنه جماعة من العلويّين، منهم: الشّيخ أبو بكر بن سالم. والشّيخ أحمد بن حسين العيدروس.
وأخذ هو عن جماعة من العلماء، منهم: سيّدنا أبو بكر العدنيّ، لكن لم يحمد بينهما المآل، لأنّ الشّيخ عبد الله باهرمز لم يقبل تحكّم الشّيخ عمر له إلّا بشرط أن يسمع العدنيّ ما يكره، ففعل، وساءت بينهما الحال حتّى لقد كان الشّيخ يمدح بدر بن محمّد الكثيريّ والعدنيّ يهجوه، والعدنيّ يمدح السّلطان عامر بن عبد الوهّاب ويذمّ البهّال، والشّيخ عمر بعكسه.
ولمّا جرت الحادثة الهائلة على البهّال.. عدّها الغواة من هواة الخوارق من كرامات العدنيّ، ثمّ لمّا قتل عامر شرّ قتلة.. عدّها الآخرون في كرامات الشّيخ عمر.
وما أحسن قول ابن نباتة: (والله.. لا يضرّ ولا ينفع، ولا يضع ولا يرفع، ولا يعطي ولا يمنع.. إلّا الله).
وكنت أظنّ النّفرة استحكمت بين العلويّين وآل بامخرمة في عهده وعهد ولده عبد الله إلى حدّ بعيد، حسبما أشرت إلى ذلك في «الأصل»، ويتأكّد ذلك بالقصّة الآتية له مع السّيّد علويّ بن عقيل في العرّ من ضرب السّيّد علويّ بن عقيل الشّيخ عمر بالنّعال، وما بعد ذلك من هوادة ولا حفظ لخطّ الرّجعة.
لا سيّما وقد نقل سيّدي عليّ بن حسن العطّاس عن القطب الحدّاد ما يقتضي انحصار أخذ الشّيخ عمر بامخرمة على الشّيخ عبد الرّحمن باهرمز وأن لا شيخ له من العلويّين.
ولا ينتقض ذلك بما كان من أخذه عن العدنيّ؛ لأنّه لم يدم، بل بطل حكمه، وقد أشرت إلى جميع هذا في «الأصل» وربّما كان مبالغا فيه، وقد عوّض الشّيخ عمر عمّا لحقه من جفاء العلويّين في زمانه بما كان من إصفاق أعقابهم على فضله والولوع بديوانه وقد أطنب سيّدي عمر بن سقّاف في مدحه.
أمّا أشعار الشّيخ عمر بامخرمة.. فألذّ من الوصال، وأحلى من السّلسال، وفيها فراسات صادقة عن أمور متأخّرة، كما يعرف ذلك بالاستقراء. ولم يزل بسيئون تحت الضّغط والمراقبة من بدر بوطويرق، لا من النّاحية الّتي ينكرها عليه الفقهاء، ولكن لما على كلامه من القبول: وله من التّأثير؛ فهو يخشى أن يحرّض عليه، فتتنكّر له النّاس، على أنّ ذلك وقع عليه مع شدّة تحرّيه، فثار عليه ولده، وألقى القبض عليه، وسجنه حتّى مات بغيظه مقهورا في سجنه سنة (977 ه).
وما كنت أدري أنّ للشّيخ عمر بامخرمة حشما وأبّهة وأتباعا إلّا من قصّته السّابقة في هينن مع الشّيخ حسين بن عبد الله بافضل، فإمّا أن تكون قبل المراقبة عليه، وإمّا أن تكون المراقبة محدودة بما يخشى منه الثّورة.
وكانت وفاة الشّيخ حسين كما في «النّور السّافر» سنة (979 ه).
وكانت وفاة الشّيخ عمر بامخرمة بسيئون في سنة (952 ه)، وكان السّيّد زين بن عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير المدح له والثّناء عليه، وما أكثر ما يتمنّى أن يدفن بجواره.
وفي غربيّ قبره: ضريح الشّيخ أحمد مسعود بارجاء، باني الجامع الثّاني السّابق ذكره.
وفي غربيّه إلى الجنوب: مقبرة آل باحويرث، كان فيهم كثير من الأخيار، يكثرون العبادة، ويحافظون على الصّلاة، وأظنّهم على اتّصال في المناسب بآل حويرث السّابق ذكرهم في الخريبة.
وكانت أمّ جدّنا عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف من آل ثبتان، وهم من سيئون.
وكان جدّنا عمر الصّافي بن عبد الرّحمن المعلّم بن محمّد بن عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف يتردّد من تريم إلى سيئون بسبب أنّ أحد محبّيه من تريم انتقل منها إليها، ولمّا علم بدر بوطويرق بتردّده.. أمر ذلك الرّجل أن يزيّن له الزّواج بسيئون، فما زال به حتّى اقترن بسلطانة بنت محمّد بانجّار، من قوم يرجعون إلى نجّار بن نشوان من بني حارثة، وقد اختلف في بني حارثة: فقيل: كنديّون. وقيل: مذحجيّون.
وكانت لآل بانجّار دولة ببور فانمحت بدولة آل كثير وصاروا سوقة بسيئون وغيرها.
وقد ولد لجدّنا عمر ولده طه من سلطانة المذكورة، ونشأ في حجر أمّه بسيئون، ولمّا شبّ.. ذهب إلى تريم، فضجّ آل سيئون وراجعوه، فعاد وتزوّج بها وبنى بها مسجده المشهور، ولم يزل بها منفردا بالسّيادة إلى أن توفّي سنة (1007 ه).
وله ابن اسمه: عمر، له حالات شريفة، طلب العلم، ثمّ غلب عليه التّصوّف، وأكبّ على «رسالة القشيريّ»، ونقلها بخطّه، وكتب سبعة كراريس منها في يوم واحد.
وكان له اتّصال أكيد بالسّادة آل عبد الله بن شيخ العيدروس في تريم، لا ينزل هناك إلّا عليهم. وله عبادات جليلة، وأوقات موزّعة، توفّي بسيئون سنة (1053 ه).
وهو والد العلّامة الجليل طه بن عمر الثّاني، المتوفّى بسيئون سنة (1063 ه) المترجم له في «المشرع» [2 / 285]، ورثاه جماعة من الشّعراء، فكانت أبلغ مرثيّة فيه للشّيخ عمر بن محمّد باكثير.
وخلفه ولده عمر، توفّي بمكّة سنة (1085 ه)، وسنّه سبع وعشرون سنة، وخلفه ابنه محمّد بن عمر بن طه بن عمر.
وقد رسخت أقدام هذا البيت بسيئون، غير أنّهم كانوا لا يزيدون على سبعة، متى وجد لأحدهم ذكر.. مات أحد السّبعة حتّى كانت أيّام الجدّ سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه المتوفّى سنة (1195 ه)، فبدؤوا يتكاثرون، ولم يمت إلّا وقد بلغوا الثّلاثين، إلّا أنّ عصاهم انشقّت، وأمرهم انفرج، وكانوا ـ وهم قليل ـ خيرا منهم بعدما كثروا، ولله درّ حبيب حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 330 من البسيط]:
«إنّ الكرام كثير في البلاد وإن *** قلّوا، كما غيرهم قلّ وإن كثروا »
والشّريف الرّضيّ حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 528 من البسيط]:
«قلّوا عناء وإن أثرى عديدهم *** وربّما قلّ أقوام وإن كثروا»
وهو بيت طيّب، مغرس علم، ومنبت صلاح، سيماهم التّواضع، وشأنهم الخمول، يقضون حوائجهم بأنفسهم، ولا يتميّزون عن أحد من النّاس إلّا بالعلم إذا سئلوا عنه أو تفتّحوا في الدّروس.
وكان نجوعهم من تريم على حين خلل بدأ في طريق العلويّين، كما يعرف من «الفوائد السّنيّة» لسيّدي أحمد بن حسن الحدّاد، ومن «العقود اللّؤلؤيّة» للعلّامة السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ، فانحفظت طريقهم بسيئون عن ذلك الخلل، وبقوا على ما كان عليه أوّلوهم من التلزّم بالفقه، حسبما قلت من قصيدة أردّ بها على بعض المغترّين من أهل البدع والرّئاسات [في «ديوان المؤلّف» ق 192 من البسيط]:
«سل من أردت فقد كانت أبوّتنا *** على طريق من الإنصاف محمود»
«طريقة من قذى الأوهام صافية *** ومنهل من زلال الفقه مورود»
لا يدخل مسجدهم طبل ولا يراع، ولقد عمل الشّيخ عوض جبران تابوتا لقبر جدّي المحسن فمنعته من وضعه عليه.
وكانوا يتوسّعون في الفقه، ويشاركون في التّفسير والحديث، وليس عندهم من علوم العربيّة إلّا القليل، ولبعضهم أشعار لا تنتهي إلى إجادة. ولهم من الأعمال الصّالحة وتحمّل المشاقّ في مجاهدة النّفوس ما لو لم أره عيانا في مثل والدي.. لم يكن لي بما يذكر عن السّلف سبيل إلى التّصديق، لكن جاء العيان فألوى بالأسانيد.
فلقد نشأ والدي في طاعة الله، لهوه التّحنّث مع أتراب له في جبال سيئون، وكان يكتفي بوجبة ويتصدّق بالأخرى، حتّى علم به أبوه لمّا كان يذهب بها من مخترفهم إلى من كانوا يعتادونه منه بالبلد، فنهاه.
ومنذ عرفته وهو يقوم من النّوم قبل انتصاف اللّيل فيخفّ إلى الطّهارة، ثمّ يصلّي سنّتها، ثمّ الوتر إحدى عشرة بحسن قراءة وطول قيام، ثمّ يقرأ حصّة من القرآن بصوت شجيّ، ثمّ يأخذ في الأوراد والمناجاة، وكثيرا ما يقول في آخر دعائه:
اللهمّ؛ ارحمنا إذا عرق منّا الجبين، وانقطع منّا الأنين، وأيس منّا الطّبيب، وبكى علينا الحبيب.
اللهمّ؛ ارحمنا يوم نركب على العود، ونساق إلى اللّحود.
اللهمّ؛ ارحمنا إذا نسي اسمنا، واندرس رسمنا، وفنينا وانطوى ذكرنا، فلم يزرنا زائر، ولم يذكرنا ذاكر.
اللهمّ؛ ارحمنا يوم تبلى السّرائر، وتكشف الضّمائر، وتوضع الموازين، وتنشر الدّواوين.
ومتى جاء فصل الصّيف والخريف.. كان تهجّده على سطح مصلّاه أو في بطن مسيله، فكأنّما تؤوّب معه الجبال، وتكاد تنقدّ لخشوعه الصّدور وتتفطر المرائر، ثمّ يصلّي الصّبح ونافلته، ويأخذ في أذكار الصّباح، حتّى إذا أسفر الأفق.. نبّهني وأعاد معي الصّلاة وجلس يقرئني إلى أن ترتفع الشّمس قدر رمح، فيصلّي سبحة الضّحى ثمانيا، وتارة يختصّ الإشراق بركعتين؛ إذ المسألة خلافيّة، فالّذي في «الإحياء» [1 / 337] أنّ صلاة الإشراق غير صلاة الضّحى، وجرى عليه في «العباب» [1 / 263] و «التّحفة» [2 / 237 ـ 238].
وقال ابن زياد في «فتاويه»: ويظهر عدم الاكتفاء في نيّتها بمطلق الصّلاة؛ لأنّها ذات وقت كالضّحى، وقال في «الإمداد»: وهي غير الضّحى على ما قاله في «الإحياء».
فتبرّأ منه، واعتمد في «الإيعاب» أنّها من الضّحى وأنّ مقتضى المذهب امتناع فعلها بنيّة الإشراق، وعليه الرّمليّ في «النّهاية»، ومال إليه السّيّد عمر البصريّ.
ثمّ يتناول ما تيسّر من الفطور ويعود إلى مصلّاه الّذي بناه في سنة (1300 ه)، ووقف منه قطعة صغيرة للمسجديّة علينا وعلى ذرّيّاتنا فقط؛ ليصحّ الاعتكاف فيه، فيجلس للتّدريس به لأناس مخصوصين؛ هم: السّيّد سقّاف بن علويّ بن محسن، والسّيّد عبد الله بن حسين بن محسن، والشيخ عمر عبيد حسّان، والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، والشّيخ محفوظ بن عبد القادر حسّان، وأمّا الشّيخ محمّد بن عليّ الدّثنيّ.. فإنّه لزيمه.
وكلّ هؤلاء حضر بعض دروسي في التّفسير والشّمائل والفقه بسيئون، إلّا السّيّد سقّاف بن علويّ فإنّما حضر دروسي بسربايا من أرض جاوة في سنة (1330 ه).
فإذا قضى أولئك دروسهم.. استدعاني ليباشر تعليمي بنفسه بعقب انصراف المخصّصين لتعليمي في محلّنا؛ إذ كان يحميني عن مخالطة أبناء النّاس، ويسرّب إليّ أولادا في سنّي يرضاهم للّعب معي، يراقب أخلاقهم وأحوالهم بنفسه، منهم السّيّد علويّ بن حسين بن محسن، ومنهم: سالم بن حسن بن محمّد حسّان.
ومتى فرغ من درسي.. جاء إليه الدّثنيّ يقرأ عليه إلى قريب الظّهر، عندئذ يتناول ما تيسّر من الغداء، ثمّ يقيل نصف ساعة أو أقلّ، ثمّ يتهيّأ للظّهر فريضة ونوافل، وبعد أن يفرغ فتارة يحضر عليه أولئك الرّهط فيقرؤون، وتارة يدخل إلى أهله، وهناك تحضر الوالدة بكتابها فتقرأ عليه، كلّما انتهت من كتاب.. شرعت في آخر؛ لأنّها كانت مشاركة في العلم، وأحيانا يضرب السّتر ويأتي الدّثنيّ بكتابه وسيدتي الوالدة من ورائه إلى أن تجب العصر، فيقوم إلى مصلّاه ويؤدّيها نافلة وفريضة بطهر مجدّد، ثمّ يشتغل بشيء من الأوراد والحزوب، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا، ثمّ أنهض للّعب مع أصحابي المخصّصين لذلك، وكثيرا ما يزورنا ويراقبنا، وربّما شاركنا؛ تطييبا لأنفسنا دقيقة أو دقيقتين.
«يروع ركانة ويذوب ظرفا *** فما تدري أشيخ أم غلام »
ثمّ يحضر الدّثنيّ إلى المغرب، وعند ذاك يستأنف الطّهارة، ثمّ يؤدّي المغرب بنوافلها الرّاتبة وغيرها، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا خفيفا، ويخلفني الدّثنيّ في القراءة إلى العشاء، وقد يحضر السّابقون في هذا الوقت وغيرهم فيكون درسهم واحدا.
ثمّ يؤدّي العشاء بدون تجديد طهارة، ثمّ يصلّي راتبته، ويشتغل بأذكار المساء، ثمّ يتناول العلقة من الطعام، ثمّ يأخذ مضجعه وقد غلب عليه الخوف من الله والشّوق إليه، فقلّما يطمئنّ به مضجعه، وهكذا دواليك.
وقد انطبعت نفسه ـ ورسخت أعضاؤه على اتّباع السّنّة في يقظته وانتباهه، وقيامه وقعوده، ومدخله ومخرجه، وقضائه للحاجة، وأكله وشربه ـ انطباعا لا يحتاج معه إلى تكلّف، بل كثيرا ما أراه يتضجّر من النّهار، ولا سيّما إذا كثر عليه الواردون ـ مع أنّ كلامه معهم لا يخرج عن التّمجيد والتّحميد، والتّعريف والتّوحيد، والوعظ الّذي يلين له الحديد ـ فيحنّ إلى اللّيالي حنين الصبّ المشتاق إلى حبيبه القادم بعد طول الفراق؛ لما يجده من لذّة العبادة، وحلاوة التّلاوة، وعذوبة المناجاة الّتي أشار إلى مثلها ابن القيّم في (ص 331) من «إغاثة اللهفان».
ومع ذلك فقد كان يتململ لما يجد من تلك اللّذة خوفا أن ينقطع بها عن المقصود، أو تكون حظّه من العمل، وكان يحكي مثل ذلك عن أبيه. وأقول: أمّا خوف الانقطاع بها عن المقصود.. فممكن، وأمّا أن تكون حظّه من العمل.. فلا؛ لأنّها بعض ثمرته المعجّلة.
وكان آية في عزّة النّفس والصّدع بالحقّ والشّدّة فيه والغيرة عليه، إلى بسطة كفّ، وفرط رحمة، وسلامة صدر، وورع حاجز، واحتياط تامّ، وقناعة بما يجد من حرثه، وما يصل من الفتوح إليه من غير طمع ولا إشراف نفس، فعنده غفّة من العيش، جمع إليها شعبة وافرة من القناعة، مغتبط بعيشه، قانع برزقه، راض عن ربّه، ليس له حجاب، ولا يغلق عليه باب، وإنّما هو كما قال السّلاميّ [من الطّويل]:
«كماء الفرات الجمّ أعرض ورده *** لكلّ أناس فهو سهل الشّرائع »
وكان له في الوعظ لسان، ويأخذه فيه حال عظيم يشغله عن نفسه، وله قلم سيّال في المكاتبات والرّسائل العلميّة، جمع من ذلك الفاضل السّيّد سالم بن حفيظ ما دخل في ستّة مجلّدات.
ولكنّ لسانه أقوى بكثير من قلمه.
«يقول عارف مقدار الكلام له *** سبحان خالقه سبحان باريه »
وطيلة حياتي لم أسمع منه لغوا قطّ، وكان أعيان زمانه يعرفون منه ذلك، فيحاولون أن يتسقّطوه الكلام ويحتالون ليخوض معهم، فلا يقدرون على شيء، فلا أجد لهم وإيّاه مثلا إلّا الرّبيع بن خيثم؛ إذ خفّوا إليه يوم قتل الحسين ليستخرجوا منه كلاما، فأخبروه، فلم يزد على أن قال: أو قد فعلوها؟! قالوا: نعم.
فرفع يديه إلى السّماء وقال: (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
فما أشبه هذا بذاك. لا ينفذ إلى فعله التّعليل، ولا يحتاج شيء منه إلى التّأويل؛ إذ صار هواه تبعا لما جاء به نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء فيه موضع قول ابن كناسة في إبراهيم بن أدهم [من الطّويل]:
«أمات الهوى حتّى تجنّبه الهوى *** كما اجتنب الجاني الدّم الطّالب الدّما»
سروره في إقبال الخلق على الله، وحزنه في إعراضهم عنه، حتّى لقد كان سبب موته من هذا الباب.
وكان كثير الأخذ عن المشايخ، جمّ الحرص على الاستكثار من الأسانيد والاتّصال بسلاسل الرّجال وأئمّة الحديث والطّريق. وقد اجتمع له ولي بفضله ـ رضوان الله عليه ـ ما لا يوجد عند أحد من أهل عصره، ولله الحمد.
وكان في أيّام أستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر يتردّد عليه من أيّام والده عن أمره في كلّ ثلاث ماشيا، وبينهما نحو من أربعة أميال أو أكثر، ولقد أراد أخوه في الله الشّيخ عوض بن عمر شيبان السّابق ذكره في الغرفة أن يشتري له مركوبا، فأبى وقال: لو أحسست بتعب.. لقبلت. ولقد كاد أن يخرج عن إهابه من الطّرب؛ إذ تمثّلت له عند مثل هذا الكلام بقول العبّاس بن الأحنف [من البسيط]:
«أرى الطّريق قريبا حين أسلكه *** إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف »
وقول الآخر [كثيّر عزّة في «ديوانه» 109 من الطّويل]:
«وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها *** أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها »
«من الخفرات اللّاء ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها»
ثمّ ظفر هو بقول الآخر [من السّريع]:
«والله ما جئتكم زائرا *** إلّا رأيت الأرض تطوى لي »
«ولا انثنى عزمي عن بابكم *** إلّا تعثّرت بأذيالي »
فكان كثير التّغنّي بهما، وهو معنى واسع للشّعراء فيه مجال، ولم ينس المتنبّي حظّه من هذا المعنى، لكن من غير إجادة، حيث يقول [في «العكبريّ» 1 / 63 من الطّويل]:
«أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا *** وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا »
وكانت ترعد عنده فرائص الملوك؛ لما عندهم من احترام الحقّ وهيبة الدّين، ولما يرون عليه من عزّة الإيمان وشرف العلم، وصولة الحقّ، وسلطان الصّدق، وقوّة اليقين، فيأمرهم وينهاهم، ولا يؤمّلون أبدا في أن يقبل منهم شيئا؛ إذ كانت الشّبهات في عهده ـ فضلا عن الحرام ـ ظاهرة النّكارة، فاحشة الملامة، حتّى لقد كان مكّاس الدّولة الكثيريّة ـ المسمّى توفيقا ـ منبوذا مهانا، وكثيرا ما يمرّ بجانب مدرسة طه بن عمر فيرميه صبيانها بالحجارة، فلا يقدر على الدّفاع، ولو دافع.. للقي أكبر.
وله محاسن، وكان موته يوم الجمعة، فأشكل ذلك على والدي، فخفّ إلى الأستاذ الأبرّ فقال ـ قبل أن يبلع الرّيق ـ: أحوج النّاس إلى الجمعة: توفيق.
ثمّ صار أبناء السّادة اليوم يتسابقون إلى مثل وظيفته، ويتنافسون فيها، ويشمخون بأنوفهم؛ ظنّا أن قد رفعت من أقدارهم.
وعلى الجملة: فكلّ ساعاته ذكر أو تذكير، أو قراءة أو تدريس، أو صلاة يستشعر حاضرها ـ بما يغشاه من الطّمأنينة والخشية ـ نزول السّكينة، وشمول الرّحمة، وحضور الملائكة.
وما ألذّ ما تسمع آيات القرآن من لسانه في الصّلاة الجهريّة، بصوته الجهير، ونغمته الشّجيّة، غضّة طريّة، تكاد تنتزع القلوب من أماكنها، ويخيّل لهم أنّهم لم يسمعوها من قبل، وأنّها إنّما نزلت تلك السّاعة، حتّى ليحسب المقتدون بما يشملهم من اللّذّة ويغمرهم من الهيبة ويستولي عليهم من الخشوع أن قد انفصلوا عن عالم الحسّ، والتحقوا بعوالم القدس، بحيث لا يمكن لمسبوق أن يقرأ (الفاتحة) من خلفه.
«وأذكر أيّامي لديه فأنثني *** على كبدي من خشية أن تقطّعا »
وما أذكر صلاة أشفى للنّفس، وأجمع للقلب، وأبرد للخاطر وأنفى للهمّ، وأدنى إلى الإخلاص من صلواتي في الجهريّات خلفه، وخلف شيخنا الفاضل الشّيخ حسن بن عوض بن زين مخدّم، وصلواتي خلف الأستاذ الأبرّ جهريّة كانت أو سرّيّة؛ فإنّه يسري إلينا سرّ من إخلاصه، يلذّ لنا به التّطويل مطلقا.
وأذكر أنّ أوّل صلاة كانت لي بالمسجد الحرام لمّا حججنا في سنة (1322 ه) هي الصّبح خلف واحد من العلماء ـ يدعى فيما أتوهّم خوقير ـ قرأ في الأولى بالتّين فكاد القلب يخرج عن شغافه عند إشارته إلى البلد بقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ثمّ ما كفاه حتّى قرأ في الثّانية سورة ـ (قريش) فلا تسل عمّا داخلني عند إشارته إلى البيت ـ وما بيننا وبينه إلّا ثمانية أذرع أو أقلّ ـ بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فلو لا الاعتصام بالأجل.. لا لتحقت الرّوح بالباري عزّ وجلّ، ولكنّي:
«ضممت على قلبي يديّ مخافة *** وقد قرعته بالغطاة القوارع »
«وما ينفع القلب الّذي طاش لبّه *** لتلك المعاني أن تضمّ الأصابع »
وكثيرا ما شنّف سمعي، واستوكف دمعي، وامتلك لبّي، واستأسر قلبي ما سمعته من قراءة إمام الحرم بأوساط المفصّل في صلاة الصّبح سنة (1354 ه)، وتذكّرت صلاة والدي، إلّا أنّ تلك أخشع وقراءة إمام الحرم أجود وأسمع، فهو مقرىء غير مدافع، ولكنّ خطابته دون ما يليق بالمسجد الحرام الّذي يطلب بلاغة تتفرّى لها الأهب، وتكاد لها النّفوس تنتهب.
ثمّ إنّ والدي رحمه الله مع ما سبق كلّه لم يكن بالمتزمّت ولا بالمتنطّع ولا بالمنقبض، بل لا يفارق ثغره الابتسام في سرّاء ولا ضرّاء، وله في الدّعابة مذهب جميل، يخرجه عن طريق المرائين المتصنّعين، ويحلّيه بقول المتنبّي [في «العكبريّ» 2 / 287 من الطّويل]:
«تفكّره علم، وسيرته هدى *** وباطنه دين، وظاهره ظرف »
فله معنا ـ ولا سيّما عند الأكل، بل وفي مثاني الدّروس عند المناسبات ـ مفاكهات شهيّة، ومنادرات لذيذة، وتراه يصغي بسمعه وقلبه لما أنشده إيّاه من الأبيات الأدبيّة عند المقتضيات، ويطرب لذلك ويستعيده.
وقد سبق أنّه يشاركني أحيانا في اللّعب إيناسا لي، وضنّة بي عن مخالطة الأضداد، فلم تكن الهيبة الغالبة عليه هيبة تعاظم ولا ترفّع، كلّا والله، ثمّ كلّا والله، ولكن كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» 2 / 309 من البسيط]:
«يهاب فينا وما في لحظه شزر *** وسط النّديّ ولا في خدّه صعر »
وإن كان ليجرّني الرّسن فأناقشه المسائل وأجاذبه البحث فلا يزيده إلّا سرورا واغتباطا، على شرط أن أتوكّأ على الدّليل وأعتمد على النّصّ. ولقد جهدت أن أتعلّق له بهفوة أحتجّ بها عند ما يناقشني الحساب على المباحات، ويكلّفني الصّعب من المجاهدات فلم أستطع.
وقد سئل الحسن البصريّ عن عمرو بن عبيد، فقال: (لقد سألتني عن رجل كأنّ الملائكة أدّبته، وكأنّ الأنبياء ربّته، إن قام بأمر.. قعد به، وإن قعد بأمر.. قام به، وإن أمر بشيء.. كان ألزم النّاس له، وإن نهى عن شيء.. كان أبعد النّاس عنه، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه)، وكأنّما نظر في هذا بلحظ الغيب إلى والدي، فإنّه الوصف الّذي ينطبق عليه تماما، لا يأنف من حقّ، ولا يتقدّم إليه بباطل، فلهو والله من أحقّ النّاس بقول كثير [في «ديوانه» 145 من الطّويل]:
«ترى القوم يخفون التّبسّم عنده *** وينذرهم عور الكلام نذيرها »
«فلا هاجرات القول يؤثرن عنده *** ولا كلمات النّصح يقصى مشيرها»
وقول كعب بن سعد الغنويّ [من الطّويل]:
«إذا ما تراءاه الرّجال تحفّظوا *** فلم ينطقوا العوراء وهو قريب »
ولئن قال ابن عنقاء: (إذا قيلت العوراء.. أغضى) فإنّ هذا إذا قيلت: العوراء.. غضب، بل لا أذكر أنّ أحدا نطق في مجلسه بكلمة غيبة أو نحوها.
وكذلك كان يقول عنه الشّيخ الدّثنيّ، ويكثر التّعجّب من ذلك، وهو أشدّ وأقدم له لزاما منّي.
ومع هذا كلّه فما هو إلّا صورة مصغّرة من أحوال والده وأحوال سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، وكلّما استكثرنا أعماله.. قلّل منها بالنّسبة لأعمالهم، وأقسم أنّه غير هاضم لنفسه، ولكنّه مخبر بالواقع.
وعلى مثل حاله رأيت سيّدي شيخان بن محمّد الحبشيّ، على ضيق في عطفه، وخشونة في خلقه، وإلّا.. فقد كان هذا أوسع علما وأكثر عبادة، وأشدّ مجاهدة للنّفس، إلّا أنّ والدي كان أجود وأسمح، وأنصح وأفصح، وأرأف وأعطف، وأظرف وألطف.
وكان سيّدي عبد الله بن حسن البحر على قريب من تلك الحال، بل هو أندى بنانا، وأشجع جنانا، وأكثر ضيفانا، وأطول قياما وركوعا، وأغزر بكاء وخشوعا، إلّا أنّ والدي كان أكثر علما وأغزر فهما، وأبلغ لسانا، وأفصح بيانا، وأحلى لفظا وأنجع وعظا.
ولقد أشهدت منهما مشهدا عجيبا بمنزل سيّدي الفاضل محمّد ابن الأستاذ الأبرّ المسمّى: باوعيل في شرقيّ تريس سنة (1318 ه)، تذاكرا فيه أحوال الإمام البحر والأستاذ الأبرّ وشدّة خوفهما من الباري عزّ وجلّ، وفرط انكسارهما بين يديه، وجرى لهما مثل ما جرى لابن المنكدر وأبي حازم؛ فقد ذكر غير واحد أنّ ابن المنكدر صلّى وبكى، ففزع أهله حتّى استعانوا بأبي حازم.. فقال له: ما الّذي يبكيك حتّى رعت أهلك؟
قال: مرّ بي قوله تعالى: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فصعق أبو حازم واشتدّ بكاؤهما، فقال بعض أهل ابن المنكدر لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. فقريب من ذلك جرى لوالدي مع القانت الأوّاب البحر يومئذ، وكانا جاءا للترويح.. فعادا في مأتم.
وعلى الجملة: فقد كان كثير ممّن أدركناهم وأخذنا عنهم على غرارهم، وشريف آثارهم؛ كسادتي: عبد الله بن عمر بن سميط، المتوفّى بشبام سنة (1313 ه). وأحمد بن محمّد الكاف، المتوفّى بتريم سنة (1317 ه). وعبد الرّحمن بن حامد السّقّاف، المتوفّى بسيئون سنة (1316 ه). والشّيخ عمر عبود بلخير، المتوفّى بالغرفة في حدود سنة (1316 ه). وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، المتوفّى بتريم سنة (1320 ه).
والشّيخ أحمد بن عبد الله بن أبي بكر الخطيب، المتوفّى بتريم سنة (1331 ه). والشّيخ محمّد بن أحمد قعيطبان، المتوفّى بها سنة (1316 ه). والشيخ أحمد بن
عبد الله بن عمر الخطيب، المتوفّى بها سنة (1333 ه). والسّيّد عيدروس بن ع
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
56-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حوطة سلطانة)
حوطة سلطانةبين مريمه الشّرقيّة وقارة العر فضاء فيه نخيل، وله واد مخصوص، سكن فيه آل الزبيديّ، ثمّ اشتهر بحوطة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّ، وهي من أكابر الصّالحين، لها عبادات وأحوال تشبه أحوال رابعة العدويّة.
قيل: إنّ بعض أهل الفضل قال لها: (والبكرة يومها ناقه تماري الجمال).
فقالت: (الحمل بالحمل والزايد لبن والعيال) قال الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد في «ترجمته» للشّيخ عبد الله بن محمّد القديم: (كان الشّيخ عمر الزّبيديّ الحارثيّ من الصّالحين، وكانت له أخت اسمها سلطانة، لها أحوال عظيمة، وقد تحكّمت للشّيخ محمّد بن عبد الله القديم هي وإخوانها ورجعوا عن طريق العوامّ، وكان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف وأولاده أبو بكر وعمر يزورونها، وقد بنت رباطا بالعرّ) اه
ومنه يتأكّد ما ارتأيناه في مريمه الشّرقيّة من أنّ العرّ اسم شامل لذلك الفضاء بأسره، وأنّ القارة ليست إلّا منسوبة إليه.
ولرباط الشّيخة سلطانة ذكر كثير في كتب التّراجم الحضرميّة.
أمّا كون الشّيخة سلطانة تحكّمت هي وأخوها للشّيخ محمّد باعبّاد.. فلا يخالفه ما جاء في «مفتاح السّعادة والخير» لمؤلّف صاحب «القلائد» من قوله: (أخبرني من أعرفه وأشكّ في عينه، وأظنّه عليّ بن عثمان الزّبيديّ: أنّ سبب رجوع جدّهم عمر الزّبيديّ عن طريق الجهالة إلى طريق الفقر أنّه كمن ومعه غيره بطريق كحلان، فمرّ بهم بعير للفقيه محمّد بن حكم باقشير، فأخذوه ولم يعرفوا أنّه له، فأخبر الشّيخ محمّد بن حكم بذلك، فقال: إن كان أخذوه من حاجة وفاقة.. تاب الله عليهم. وكذلك كان، فحصل له رجوع صادق وتاب في الحال) اه لأنّه لو جاء إلى الشّيخ محمّد بن حكم وتاب على يده، وتحكّم له.. لذكر ذلك، ولكنّه لم يذهب إلّا إلى عند الشّيخ محمّد بن عبد الله باعبّاد بشبام، مع أنّ التّوبة لا تصحّ إلّا بالاستحلال وردّ المظلمة، وكيف يقبله الشّيخ محمّد باعبّاد من دونها، ولعلّه لم يعلم بذلك، أو لعلّه بلغه أنّ الشّيخ محمّد بن حكم حلّله، غير أنّ التّحليل المذكور في كلام باقشير لم يستوف الشّرائط. والله أعلم.
وكان للسّيّد الفاضل، الكثير الإحسان، طه بن عبد القادر بن عمر السّقّاف، المتوفّى بسيئون في سنة (1320 ه) تعلّق كثير بحوطة سلطانة وتردّد إليها، وقد ابتنى بها دارا واسعة للمنصب هي الّتي يسكنها الآن. وأكثر نفقاتها ممّا كان يرسله إليه الشّيخ زين بن عبد القادر بن أحمد بن عمر الزّبيديّ أخو المنصب لذلك العهد ـ الشّيخ كرامة بن عبد القادر ـ وكان الشّيخ زين هذا وقف حياته على خدمة الحبيب طه بن عبد القادر.. فكان يسافر السّفرات الطّويلة إلى جاوة، وكلّما عاد.. دفع جميع ما يأتي به من المال للحبيب طه. وكان هذا السّيّد آية من آيات الله في رقّة القلب، والانفعال عند سماع القرآن، وكان مطبوعا على الجود، حتّى إنّه ليستدين ويتصدّق، إلى أن بلغ دينه يوم مات خمسة عشر ألفا من الرّيالات، لم ينفقه إلّا في هذه السّبيل، فقضاه الله لصحّة قصده وإخلاص نيّته.
وولده أبو بكر بن طه من أهل العلم والأدب، والشّهامة والفضل، وهو الآن منذ زمان بسنغافورة، وله بها ابن ذكيّ نبيه، يحرّر صحيفة عربيّة تظهر تارة وتغيب أخرى.
وللزّبدة بلدان كثيرة ذاهبة في الوادي حفافي مسيال عدم، ما بين ساه والغرف ومسيلة آل شيخ؛ منها: الرّدود، وسونه، وتمران، وشريوف.
وللشّيخ سعيد بن محمّد الزّبيديّ نهضة أخضع بها آل جابر وآل تميم، وحرّر بها بيت مسلمة من أخذ الشّراحة منه بدون رضى من أرباب الأموال، وكانت تلك النّهضة في حدود سنة (1230 ه)، وقد استوفيناها ب «الأصل».
ومنصب الزّبدة اليوم العامّ هو: الشّيخ محمّد بن كرامة الزّبيديّ، من أكثر المناصب رمادا، وأوسعهم صدرا، وأكثرهم ضيفانا، وهو من التّواضع في الاعتبار الأوّل، لا تدلّ عليه هيئته الرّثّة، ولا يعرف إلّا بالتّعريف، وقد لدغته حيّة يعاوده سمّها في كثير من الأوقات، كما قال شاعر المعرّة [في «سقط الزند» 161 من الوافر]:
«ومن تعلق به حمة الأفاعي *** يعش ـ إن فاته أجل ـ عليلا»
ومن فحول الزّبدة: الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ، ممدوح شيخنا العلّامة ابن شهاب. وهو صاحب القصّة السّابقة في شبام وإلى رأيه يرجع كثير من العظماء عند المهمّات.
ومنهم: الولد النّجيب عبد الله بن أبي بكر بن أحمد الزّبيديّ.
ومرجعهم في النّسب إلى مذحج، وقيل: إلى بني أميّة، ويؤكّده أنّهم يتّفقون مع آل سند، وقد مرّ في الدّحقه الّتي إلى جنب الحزم: أنّهم من بني أميّة.
ومن النّاس من ينسب بني حارثة إلى كندة، والزّبدة مصفقون على أنّهم من بني أميّة، والنّاس مأمونون على أنسابهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
57-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بور وحنظلة ابن صفوان عليه السلام وعرض عبيد الله بن أحمد بن عيسى)
بور وحنظلة ابن صفوان عليه السّلام وعرض عبيد الله بن أحمد بن عيسىأمّا بور: فمن البلدان القديمة، و «ديوان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة» يستهلّ في كثير من القصائد بأنّها من ديار عاد، وله فيها أماديح كثيرة، منها قوله:
«يا بور يا جنّة الدّنيا *** يا مصرنا ذي لها شاره »
وقوله ـ قبل أن ينزغ الشّيطان بينه وبين بدر بوطويرق ـ:
«ثلاث الله جمعهم في كمال الكمال *** كفى بها: بدر، والدّمنه، وباهي الجمال »
يريد بالدّمنة: بورا.
وفي طرف بور الشّرقيّ جامع كبير، بناه سيّدنا علويّ بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى، وقد ارتفعت عليه الأرض فصاروا لا ينزلون إليه إلّا بدرج، ولكنّهم بنوا عليه مثاله، وبقي القديم مطمورا بالتّراب من سائر جهاته، إلّا من جهة درجه الّذي ينزلون منه إليه، وحفر على قريب منه بئرا طواها بالحجارة، الّتي كتب اسمه على كلّ حجر منها، تسمّى الآن: بير الأعمش، ومن خصائصها: أنّ الاغتسال فيها مجرّب لحمّى الرّبع
وقد عرف ممّا سبق في الغرفة وسيئون أنّ ولاية بور كانت لآل باجمّال، ثمّ انتزعها منهم آل بانجّار الكنديّون، أو المذحجيّون على اختلاف الأقوال فيهم.
ولمّا جاءت سنة (723 ه).. هجم آل كثير على بور واستولوا عليها، وقتلوا جماعة من آل بانجّار، منهم أربعة ولدوا في يوم واحد، واختتنوا في يوم واحد، وختموا القرآن في يوم واحد، وشرعوا يصلّون في يوم واحد.
وكانت بور قاعدة ملك آل كثير برهة من الزّمن، وهذا ممّا يتأكّد به أنّ سيئون كانت خرابا، وإنّما تجدّدت عمارتها شيئا فشيئا، أكثرها في القرن العاشر.
ولمّا ضعف أمر آل كثير ببور، واشتدّت الفوضويّة فيها وفي أعمالها.. سعى آل بور وآل باجري في استقدام الحبيب أحمد بن علويّ العيدروس، وأقاموه منصبا على بور، وكان له رباء فيها؛ إذ كانت أمّه من آل باعبود، ثمّ أخذه أبوه صغيرا للتّعليم إلى تريم، فتعبت أمّه لفراقه.
وكان آل بور محتاجين إلى وال يجتمعون عليه.. فاستقدموه، وأقام على المنصبة بها إلى أن توفّي سنة (1104 ه)، وخلفه ابنه علويّ، ثمّ ابنه عبد الله بن علويّ، المتوفّى ببور سنة (1145 ه)، وكان فاضلا جليل القدر، له اتّصال أكيد بالقطب الحدّاد، وكثيرا ما يذهب إليه هو وخادمه ابن زامل، وهو الشّاعر المطبوع من آل باجري، وله فيه وفي القطب الحدّاد غرر المدائح بالعبارة العامّيّة.
وخلفه ولده علويّ، ثمّ ولده سالم باحجرة، ثمّ ولده علويّ بن سالم، ثمّ سالم بن علويّ (الأخير)، وكان عالما فاضلا، له كلام كثير في التّصوّف، توفّي ببور سنة (1280 ه)، وله أخ اسمه عبد الله، كان شريفا فاضلا متواضعا، لم يل المنصبة، توفّي ببور قبل أخيه سنة (1274 ه).
وتولّى المنصبة بعد الحبيب سالم بن علويّ: ولده عبد القادر، وكان شهما شجاعا ذا وجاهة تامّة، له يد في الإصلاح، وكم سلمت نفوس بحجزه بين المتحاربين؛ لأنّهم متى رأوا علمه يرفّ.. كفّوا، مهما يكن من حردهم وغيظهم.
وكان من أجهر النّاس صوتا، حتّى إنّه لينادي من صليلة فيسمع من بحوطة سلطانة وبينهما نحو من أربعة أميال، فينطبق عليه قول بعضهم في شبيب بن يزيد الخارجيّ [من البسيط]:
«إن صاح يوما حسبت الصّخر منحدرا *** والرّيح عاصفة والموج يلتطم »
وقول الآخر [من المتقارب]:
«جهير الرّواء جهير العطاس *** جهير الكلام جهير النّغم »
وفي غير موضع من كتبي ذكرت ندى صوت العبّاس وعروة السّباع وما يتعلّق بذلك، وقول أبي الطّيّب [من الكامل]:
«ورد إذا ورد البحيرة شاربا *** ورد الفرات زئيره والنّيلا»
توفّي السّيّد عبد القادر بن سالم ببور سنة (1320 ه).
وخلفه ولده خوّاض الغمرات، ووقّاد الجمرات، وحامي الحقائق، وحتف الأقران، الفاضل المتواضع، عيدروس بن عبد القادر، كان رجلا بطلا، طوالا شديد الأسر:
«قد أرضعته وأسد الغيل تحرسه *** بالبدو كلّ درور حافل الرّيّ »
«فجاء إذ جاء مثل الرّمح معتدلا *** وشبّ إذ شبّ كالصّقر القطاميّ »
له في النّجدة والشّهامة أخبار كبيرة، من أدناها: أنّ أولاد السّيّد زين بن علويّ العيدروس كانوا مضطغنين عليه ينافسونه ـ وهم أربعة ـ فمرّ عليهم ذات ليلة، فقالوا له: لم لم تسلّم؟ قال: لم أركم.
فانقضّوا عليه، وما زالوا يساورونه بكلّهم وهو وحده حتّى قتل عمر بن زين، وطرد الباقين، وبه منهم سبع طعنات، وبإثر ذلك تعصّب آل باجري على عيدروس، فامتنع عن الظّهور إلّا بخفير فمنعوا النّاس من خفارته، فلم يمتنع أحد آل سالم بن عمر خفره، فتعرّض لهم أربعة من آل حمود في سوق بور، ففشل الخفير، ولكنّ عيدروسا ثبت، ولمّا ضربه أحدهم بنمشته.. تلقّاها بذراعه. فلم تؤثّر فيه إلّا قليلا، ثمّ أطلق عليه عامله ودقّه فيه.. فخرج سنانه من ظهره، ولم يقدر على انتزاعه إلّا بجهد مع قوّة أيده، ولكنّ المطعون سلم وهرب الثّلاثة إلى أن سوّيت المسألة بالصّلح، وكفّته راجحة، وخدود أعدائه ضارعة، وعذره في قتل عمر بن زين ظاهر؛ إذ بدؤوه بالاعتداء، ولم يمكنه الدّفع إلّا بالقتل، وعند ظهور القرينة بالصّيال.. يكون المعتدى عليه هو المصدّق، ويذهب دم الصّائل هدرا.
وبإثر هذه الحادثة كانت حادثة آل أحمد بن حسين العيدروس ببور، وذلك أنّ الفاضل التّقيّ الكريم السّيّد حسن بن أحمد العيدروس ـ المتوفّى بتريم سنة (1304 ه) ـ كان له أخ يقال له: عبد الله بن أحمد، ولكلّ منهما أولاد، غير أنّ أولاد السّيّد حسن بن أحمد كانوا أكثر، فتنازعوا ذات ليلة، فزعم شيخ بن حسن بن أحمد أنّه مطعون من أحد أولاد عمّه عبد الله، فخفّ مصطفى بن حسن وقتل محمّد بن عبد القادر بن عبد الله بن أحمد، وسمعت من المنصب السّيّد عليّ بن عبد القادر: أنّ مصطفى لم يقدر على محمّد بن عبد القادر حتّى أمسكه له السّيّد علويّ بن حسين، وهو رجل أكول ذو مرّة؛ فإنه لمّا سمع بقتل شيخ بن حسن.. أحبّ أن يتوافوا، فأمسك محمّدا فقتله مصطفى والحال أنّ جرح شيخ لم يكن إلّا خفيفا سرعان ما برىء منه.
فتداخل المنصب السّيّد عبد القادر بن سالم في القضيّة، وجمع لها الأعيان، فسوّيت على عفو معلّق على أن لا يعود القاتل إلى بور مادام أحد من والدي المقتول حيّا.
والّذي يظهر أنّ هذا العفو غير صحيح؛ لأنّ العفو والإبراء أخوان؛ إذ يصحّ العفو عن الدّم بلفظ الإبراء، ويصحّ الإبراء من المال بلفظ العفو، وقد صرّح الفقهاء بأنّ تعليق الإبراء يبطله.
وقد ذهب مصطفى بإثر هذه الحادثة إلى مكّة المشرّفة، واكتسب بها ثروة طائلة، ومات في سنة (1363 ه)، وترك هناك أولادا لهم سمت حسن وتواضع، إلّا أنّه يؤثر عنهم لؤم، بلغ بهم أنّ الأخ الفاضل محمّد بن هادي السّقّاف أبرق إليهم بسفره من عدن إليهم مع أهله برقيّة وصلتهم في وقتها، وكانوا يتردّدون عليه، ويتظاهرون بحسن الظّنّ فيه، فتركوه حائرا في المطار، لا يدري ماذا يفعل.. حتّى فرّج الله عليه بمبارك النّاصية السّيّد عبد الرّحمن بن حسن الجفريّ، وكان جاء في لقاء بعض أصحابه، فقام بأمره، كما أخبرني بجميع هذا السّيّد عيدروس بن سالم السّوم.
وكانت قبائل آل عون أطوع للسّيّد عيدروس من الخاتم، ولم يزل بهم وبقوّة بأسه وهمّته مرهوب الجانب، محترم الفناء، حتى انقاد لبعض آراء السّيّد عمر بن بو بكر العيدروس، وكان على بنته، ففترت العلائق بينه وبينهم؛ لأنّ عمر بن بو بكر حمله ـ بإيعاز من آل الكاف ـ على إيثار جانب دولة آل عبد الله عليهم.
ولمّا توفّي السّيّد عيدروس بن عبد القادر في سنة (1344 ه).. وقع رداؤه على أخيه العلّامة الجليل عليّ بن عبد القادر بن سالم العيدروس، وكان عالما فاضلا، طلب العلم بمكّة المشرّفة على كثير من مراجيحها، وكان متخصّصا في «علم الأصول»، ومشاركا مشاركة قويّة في غيره، وعنه أخذت «علم الجبر والمقابلة»، و «علم الخطأين»، و «علم العروض والقوافي»، أنا والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير معا في منزلنا؛ لأنّه كان يتردّد إلى سيئون، ولكنّه لم يبق بذهني شيء من هذه العلوم إلّا النّزر من القوافي، وأمّا البواقي مع أنّني أتقنتها عليه.. فقد تفلّتت عنّي لضعف التّوجّه إليها حتّى كأنّي لم أقرأها بعد.
ولقد أردت أن أستذكر «علم الجبر» مرّة، لوقوع رسالة في يدي منه، فاعتاصت عليّ وضاق صدري واطّرحتها.
وله مؤلّفات؛ منها: شرحه على «ألفيّة» السّيوطيّ في النّحو. ورسالة ردّ بها على القضاة: عيدروس بن سالم السّوم، ومحمّد بن أحمد كريسان، ومحمّد بن مسعود بارجاء، ردّا مفحما، صادق عليه طلبة العلم بأسرهم في نواحي حضرموت وساحلها. وله أشعار جزلة، إلّا أنّه مقلّ منها.
ومن اللّطائف: أنّه هجا عبد الله عليّ حسّان حوالي سنة (1320 ه).. فوقع كلّ ما تفرّسه فيها عنه من الموبقات.
وله عناية بغرس النّخيل، غرس منها الشّيء الكثير فنمت وآتت أكلها، ودرّ عليه من ثمارها خير كثير.
توفّي ببور لإحدى عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة (1363 ه)، وكانت وفاته فجأة بالسّكتة القلبيّة.
وخلفه ولده عبد القادر ـ وكان طائشا ـ فتوقّر وفتح بابه لوجهاء الضّيفان، وأعانه على القيام بمنصبهم ضعفه؛ إذ قلّت مهمّات المنصب لضغط الحكومة عليه ومضايقته. ويعجبني منه تلزّمه بالشّريعة، حتّى لقد سألني في عيد الحجّة من السّنة المنصرمة ـ أعني سنة (1366 ه) ـ عن جحش، قال يوم اشتراه وهو صغير: بغيته أضحية؟ فأجبته بأنّ هذا القول كناية ـ كما صرّح به عبد الله بامخرمة ـ إن اقترنت به نيّة.. وجبت التّضحية به، وإلّا.. فلا.
ومرّ في الغرفة، ذكر السّيّد أحمد بن محضار العيدروس، وهو من آل عبد الله بن علويّ العيدروس آل بور المذكورين، وكان قائدا محنّكا عند عظام حيدرآباد الدّكن، ولمّا استفحل أمر الأمّة اليابانيّة ببورما في الحرب الأخيرة، وطفح سيلها، وامتدّ ذيلها.. ضاق صدر الإنكليز، فاستنجد بحكومة حيدرآباد فأمدّته به، فأعطاه قيادة عامّة، ورمى به اليابان في بورما، فكان كما قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 293 من الكامل]:
«عمري لقد قذفوا الكروب بفارج *** منها وقد رجموا الخطوب بمرجم »
«فكأنّما قرعوا القنا بعتيبة *** ولقوا العدا بربيعة بن مكدّم »
«رقّاء أضغان يسلّ شباتها *** حتّى يغيّر سمّ ذاك الأرقم »
ففلّ نابها، وقطع أسبابها، وأظهر شجاعة خارقة، وتدبيرا حازما، وكلّل الله أعماله بالنّجاح، حتّى لقد سمعت أنّ ملك الإنكليز رسم بعشرين نيشانا لتلك الجيوش، فحاز هو وعسكره منها سبعة عشر، ولم يقع لبقيّة الأجناس إلّا ثلاثة أوسمة منها فقط. والله أعلم.
وله إلى جانب ذلك البأس أخلاق فاضلة، وغيرة على العروبة، ودفاع عنها؛ فإن انضمّ إلى ذلك انتهاء عن المحظورات وقيام بفرائض العبادة.. فقد تمّ تمامه، لكن قال لي مرتضى ابن أبي بكر شهاب أنّه هو الّذي باع حيدرآباد الدّكن على البوذيّين بستّ مئة ألف ربّيّة، ثمّ لم يدفعوها له، ومن المتواتر بين النّاس في الهند أنّ أخته متزوّجة بناصر بن عوض بلّيل.
وكان في بور جماعة من السّادة آل الحبشيّ؛ منهم: السّيّد أحمد بن هاشم بن أحمد بن محمّد الحبشيّ، كان مقيما ببور، ترجمه في «شرح العينية» (ص 325) وذكر في ترجمته أنّه: (أخذ عن الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله بامدرك، المقيم ببور، كان فقيها يتولّى فيها الأحكام الشّرعيّة، وأظنّه قرأ عليه «المنهاج» بكماله) اه
وكان بين السّيّد أحمد بن هاشم والقطب الحدّاد ودّ وإخاء، ثمّ تواحشا لاختلاف جرى بينهما حول الهجرين، ومع ذلك فلم يمنعه الانحراف عن الاعتراف بفضل الحدّاد وإرشاده أهل بور إلى الأخذ عنه والاقتباس من علومه.
ولمّا مات.. رثاه القطب الحدّاد بقصيدته الّتي استهلّها بقوله [في «ديوانه» 550 من الطّويل]:
«شرى البرق من نجد فهيّج لي شجوي *** فهل من سبيل ما إلى العالم العلوي »
وفيه أيضا جماعة من آل خيله، ولكنّهم انقرضوا، وجماعة من آل باعبود؛ منهم:
السّيّد الفقيه عليّ بن محمّد بن عبد الرّحمن باعبود، المتوفّى بعرض آل خيله من أعمال بور، في سنة (1291 ه). والعلّامة السّيّد محمّد بن زين بن محمّد بن عبد الرّحمن باعبود.
ولم يبق منهم الآن إلّا القليل؛ منهم: الولد البحّاثة الفاضل الأديب عليّ بن محمّد بن زين باعبود، نزيل مصر الآن.
وفيها جماعات من أهل الفضل والعلم والمروءة كآل باشراحيل وغيرهم؛ ومن أواخرهم: العلّامة المتفنّن الجليل: عبد الله بن عمر باشراحيل.
ومن أولي مروءة متأخّريهم: الشّيخ عمر باشراحيل، وولده عبد القادر.
ومن متأخّري فضلائها: العلّامة الصّوفيّ المنقطع النّظير، شيخنا الشّيخ: حسن بن عوض بن زين مخدّم، كان جبلا من جبال التّقوى والعلم والعبادة، له مؤلّفات كثيرة من لسان القلم، على منهج الصّوفيّة؛ منها: شرحه على «الرّشفات» في خمسة مجلّدات. ومنها: شرحه على «الحكم»، وغيرها.
له أخذ كثير عن الحبيب أبو بكر بن عبد الله العطّاس، ثمّ عن شيخنا وسيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، وغيرهم.
وكان والدي ـ رحمه الله ـ يؤثره ويقدّمه، ويأمرنا بتقبيل يده. وكان كثير من العلويّين يتهضّمون فضله ويحسدونه.
«وفي تعب من يجحد الشّمس ضوءها *** ويجهد أن يأتي لها بضريب »
وقد أخذت عنه كثيرا، وجرت بيني وبينه أمور طيّبة؛ ولي فيه مدائح يوجد بعضها في «الدّيوان».
وكان يقرأ ربع القرآن في صلاة العشاء كلّ ليلة من رمضان، ولا يؤمّ إلّا محصورين رضوا بالتّطويل نطقا، منهم: المنصب السّيّد عيدروس بن عبد القادر السّابق ذكره، وكان القرآن على لسانه مثل الفاتحة، وله شعر لا ينتهي إلى إجادة.
ولمّا دنا أجله.. قال لمن حضره: (هلمّوا بنا نصلّي على النّفس المؤمنة) ثمّ صلّى بهم صلاة الجنازة، وبمجرّد ما فرغ منها.. فاضت روحه، وكان آخر كلامه في الدّنيا: (لا إله إلّا الله). وهذه الصّلاة وإن لم يجوّزها الفقه.. فإنّها تدلّ على شأن كريم، وثبات عظيم وما الاجتهاد من الشيخ ببعيد؛ فلا إنكار عليه.
وكانت وفاته سنة (1328 ه) وخطب النّاس قبيل الصّلاة عليه الشّهم الجليل السّيّد عمر بن عيدروس بن علويّ، ووعظهم موعظة بليغة وكان أحد محبّيه والآخذين عنه.
وعن أبي شكيل: أنّ آل باخطيب وآل باغانم ببور، وكلاهما من الصّدف.
وكان بها جماعة من آل باغشير.
منهم: الفقيه اللّغويّ المقرىء: محمّد بن أحمد باغشير، صاحب المدائح في القطب العيدروس.
ومنهم: شيخ العيدروس العلّامة الشّيخ: عبد الله باغشير، عمّ الأوّل، لهما ذكر في «فتح الرّحيم الرّحمن» و «المشرع» [2 / 243] وغيرهما.
وبعضهم يلتبس عليه هؤلاء بآل باقشير أصحاب العجز الآتي ذكرهم فيه.
وفي غربيّ بور: ديار آل أحمد بن عليّ آل باجريّ، لا يزيدون اليوم مع مواليهم وأكرتهم عن مئة وثلاثين رجلا، وكان سيّدي الحسن بن صالح البحر طلب منهم صلحا لآل قصير فامتنعوا، وكان لأحدهم لسان وعارضة، فافتخر أمام سيّدنا البحر، فدعا عليه.. فسقط عليه الدّار من يومه، ثمّ طلب الصّلح من مقبل بن رسّام أحد آل أحمد بن عليّ، فأجابه، فسرّ منه وهواة الكرامات يذكرون حول هذا كلاما كثيرا هم فيه مختلفون.
وفي شمال مكان آل أحمد بن عليّ مكان يقال له: الحاوي، عذب الماء جدّا، ابتنى به المنصب السّابق المرحوم عليّ بن عبد القادر بن سالم العيدروس قصرا فخما، وسكنه آخر أيّامه، ثمّ بنى على مقربة منه مسجدا، وبالحاوي يسكن خلفه المنصب الحالي الآن.
وفي غربيّه بحضيض الجبل الغربيّ قبر يقال: إنّه قبر نبيّ الله حنظلة بن صفوان عليه السّلام، وقد دلّلت على تصديق كونه بحضرموت في «الأصل» بجملة من الأدّلة:
ـ منها: أنّ الله تعالى قرن قومه ـ وهم أصحاب الرّسّ ـ بعاد وثمود في سياقة واحدة، حيث يقول في آية الفرقان: (وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) وقد قال بدلالة الاقتران جماعة من أهل العلم؛ كالمزنيّ وابن أبي هريرة من الشّافعيّة، وأبي يوسف من الحنفيّة، وغيرهم.
ـ ومنها: قول صاحب «خريدة العجائب»: (إنّ حضرموت شرقيّ اليمن، وإنّ بها بلاد أصحاب الرّسّ).
ـ ومنها: قول البكريّ في «معجمه» [2 / 652]: (والرّسّ المذكور في التّنزيل بناحية صيهد من أرض اليمن، وانظره في رسم صيهد) اه
ولكنّ المجلّد الّذي فيه (صيهد) منه لم يكن عندي.
وقد قرّرنا في «الأصل» أنّ وبارا منها والرّمال الّتي في جنوبها ممتدّة منها إليها مع انعطاف، فيما يقرب من العبر، إلّا أنّ الجبل الطّويل ـ الّذي يمتدّ من هناك إلى نحو سيحوت ـ يفصلها عن بلاد حضرموت.
وقال الهمدانيّ في الجزء الأوّل من «الإكليل» [1 / 193 ـ 194]: (وولد الحارث بن قحطان بن هود بطنا يقال لهم: الأقيون، دخلوا في حمير، وهم رهط حنظلة بن صفوان، ووجد في قبره لوح مكتوب فيه: أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن، فكذّبوني وقتلوني، فمن يرى هذا الخبر.. يرى أنّه بعث إلى سبأ بمأرب، فلمّا كذّبوه.. أرسل الله عليهم سيل العرم) اه
ولا يخلو عنه الوهم في المكان والزّمان.
ثمّ قال: قال ابن هشام: هو حنظلة بن صفوان من الأقيون بني الرّسّ. والرّسّ مدينة بناحية صيهد، وهي بلدة مخترقة ما بين بيحان ومأرب والجوف فنجران فالعقيق فالدّهناء فراجعا إلى حضرموت.. إلى أن قال:
حنظلة بن صفوان بن الأقيون. كذا رواه النّسّاب؛ مثل: الأملوك، والأصنوع، والأخصوص. وكان هذا الاسم جمّاع قبيلة، ولمّا كذّبوه.. أهلكهم الله. كما قال:
(وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا) وقال رجل من قحطان يرثيهم [من الهزج]
«بكت عيني لأهل الرّ *** سّ رعويل وقدمان »
ومنها: قول المحدّث الشّهير محمّد بن أحمد عقيلة في كتابه «نسخة الجود في الإخبار عن الوجود»: (أمّا من آمن بصالح عليه السّلام.. فسار إلى اليمن، وأقامت طائفة منهم بعدن، وهم أهل البئر المعطّلة، وطائفة بحضرموت، وهم أهل القصر المشيد) إلى أن قال: (وقريبا من هذا الزّمان أصحاب الرّسّ، ومسكنهم أيضا حضرموت).
ومنها: قول الميدانيّ: (إنّه يقال لجبل أهل الرّسّ: دمخ).
وفي حضرموت جبلان:
جبل في جنوب الغرف، يقال له: (دمح) بالحاء المهملة.
وجبل بالسّاحل، يقال له: (دمخ) بالخاء المعجمة، له دخلة في البحر، وهو الحدّ الفاصل بين القعيطيّ والمهريّ حسبما فصّلناه في موضعه، وبما أنّ كلا الموضعين من بلاد حضرموت.. ففيها شواهد عدل على صدق ما اشتهر به وجود قبر حنظلة بن صفوان عليه السّلام بحضرموت.
وفي الجزء الثّامن من «إكليل الهمدانيّ» [ص 138] وما بعدها حديث طويل عن قبر حنظلة بن صفوان، وليس فيه التّصريح بأنّه في حضرموت، ولكنّه قد يفهم منه.
وقال المفسّرون ـ والعبارة للبغوي ـ: (روى أبو روق عن الضّحّاك أن هذه البير ـ يعني المعطّلة ـ كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أنّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح نجوا من العذاب.. أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلمّا حضروا.. مات صالح، فسمّي: حضرموت؛ لأنّ صالحا لمّا حضره مات، فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البير وأمّروا عليهم رجلا، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتّى كثروا، ثمّ إنّهم عبدوا الأصنام وكفروا.. فأرسل الله عليهم نبيّا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمّالا فيهم، فقتلوه في السّوق، فأهلكهم الله وعطّلت بيرهم، وخرّبت قصورهم) اه
وفي شمال قبر حنظلة قرية يقال لها: الرّييده. وفي غربيّها: وادي مدر.
وفي جنوب بلاد بور أرض واسعة لا يعرف ملّاكها، وفيها آثار عمارات إسلاميّة، غرسوها نخلا فزكا ونما، وهو عثريّ يشرب بعروقه، لا يحتاج إلى سقي من الآبار، إلّا في الابتداء.
وبما أنّها من الأموال الضّائعة مرجعها لبيت المال.. طالبهم المنصب السّابق السّيّد عيدروس بن عبد القادر، ثمّ المرحوم السّيّد عليّ بن عبد القادر بحصّة الأرض من النّخل، وهو في عادتهم الخمس، فلم يدفع لهما إلّا الضّعفاء، أمّا الأقوياء من السّادة ومن آل باجريّ.. فتارة يعترفون ويدفعون الشّيء اليسير من الثّمرة، وأخرى يتمرّدون ويجاهرون بالمنع، مع أنّهم قد أمضوا للسّيّد عليّ بن عبد القادر بالاعتراف في عدّة وثائق، ولمّا لم يجد المنصب الحاليّ علاجا غير الكيّ وخاف من تشوف الحكومة إليه: الاستيلاء عليه، ودفعه جملة عنه.. اتّفق هو وإيّاها على أن يكون عليه إظهار الوثائق وإقامة الحجّة الشّرعيّة، وعلى الحكومة أن تساعده بالقوّة على استخراج حصّة الذّبر من النّخل وهو الخمس ـ كما مرّ آنفا ـ ثمّ يقسّم على ثمانية أجزاء:
ثلاثة يكون أمرها للمنصب، يصرفها في مصارفها الشّرعيّة.
وخمسة للحكومة الكثيريّة تصرّفها كذلك. وعلى هذا وقّعوا، وما ندري ماذا تكون الخاتمة؟
وفي شرقيّ بور: عرض عبد الله: فيه مسجد، وحوله ضريح لعبيد الله بن أحمد، عليه قبّة، مع أنّ الأثبت أنّه إنّما دفن بسمل كما سيأتي فيها.
وسكّان العرض طائفة من آل باجري، يقال لهم: آل بدر بن محمّد، وآل حسن بن عليّ، وآل بدر بن عليّ، لا يزيدون مع مواليهم وخدمهم وعمّالهم عن مئتي رجل، وكانت لهم قبولة خشنة، حتّى إنّ أحد العوامر أخفر ذمّتهم، فتسوّروا داره وقتلوه إلى جانب امرأته.
وفي سنة (1337 ه) حدث شجار بين رجلين منهم ـ يقال لأحدهما: عبد الله بن صلاح، وللآخر: كرامة بن فرج ـ على قطعة أرض، فلم يكن من كرامة إلّا أن قتل عبد الله بن صلاح، وأخذ داره وأخرج عائلته منه، فوصل إليه ستّة من أقربائه، وبينا هم يراجعونه.. أقبل آل باجريّ، فلمّا رآهم أقبلوا.. أطلق عليهم الرّصاص، فلم يكن من أحد السّتّة إلّا أن قتله؛ لأنّه رأى إطلاقه الرّصاص على القوم وهو إلى جانبه مخلّا بذمامه، فانبرى له آخر من السّتّة فقتل قاتل كرامة، وهكذا تناحر السّتّة وسقطوا يتشحّطون في دمائهم.
وكان آل باجريّ من أبعد قبائل حضرموت عن السّلب والنّهب وقطع الطّريق حتّى في أيّام الفوضويّة. ومن أواخر رؤسائهم: الشّيخ سعيد بن قطاميّ، كان شجاعا، قويّ العارضة، لا ينكص في مأزق القتال، ولا يتلجلج إذا تشادقت الرّجال، إلّا أنّه الآن ضعف، وذهب بصره وسمعه، وخفّ شعوره، حتّى لا يحسّ بانكشاف عورته، فدخل تحت قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) على أنّه لم يكن بالطّاعن في السّنّ كثيرا، وغاية ما يكون أنّه ذرّف على الثّمانين، وفيهم من ناهز المئة متمتّعا بالحواسّ؛ كسعيد بن حبشيّ باجريّ.
وفي سنة (1360 ه) أحدث بعض عبيد الدّولة الكثيريّة حدثا بتريم، وهربوا، ولم يقدر أحد يجيرهم؛ خوفا من الإنكليز.. فضاقت بهم الأرض، فنزلوا على آل باجريّ فأضافوهم، وعزموا على تبليغهم المأمن على عادة العرب المطّردة في ذلك، فلم يشعروا إلّا وقد باغتتهم ثلّة من عساكر الدّولة الإنكليزيّة الموكّلين بحماية الطّرق وحفظ الأمان، وقالوا لآل باجريّ: إمّا أن تسلموا العبيد، وإلّا.. وقع عليكم الحرب.
فقال لهم سعيد بن قطاميّ ـ بعد أن اجتمع حوله آل باجريّ كلّهم، آل أحمد بن عليّ وآل حمود وغيرهم ـ: والله، لو تناطحت الجبال.. لن ندفع لكم جيراننا بسبيل ما بقي فينا نافخ ضرم. فتبادلوا إطلاق الرّصاص، وأصيب أحد العسكر وأحد آل باجريّ بإصابات خفيفة، ثمّ أحاط آل باجريّ بالعسكر في كوت لأحدهم ـ وهو بدر بن صلاح بن يمانيّ، كان العسكر أرضوه فدفعه لهم ـ وبإثر تطويق آل باجريّ للكوت.. سفر السّفراء بينهم، وسوّيت المسألة بالّتي هي أحسن، وأبلغوا العبيد المأمن، وطلب منهم بعض الزّعماء أن يخضعوا للضّابط الإنكليزيّ.. فأبوا.
ولكنّ هذا كان قبل جلاء ابن عبدات عن الغرفة، أمّا بعده.. فقد هانت الشّنافر حتّى صاروا أذلّ من الأيدي في الأرحام، وصدق عليهم ما قدّمته في القصيدة الّتي وصفت بها زوال ابن عبدات.
وفي شوّال من سنة (1366 ه).. ادّعى السّيّد عبد القادر بن شيخ العيدروس على أحد آل باجريّ بدعوى في بئر، وتوجّه له القضاء، فامتنع باجريّ عن قبول الحكم بتشجيع من رجل منهم يقال له: عبد بن عليّ، فرصدته الحكومة الكثيريّة حتّى قيل لها: إنّه بتاربه، فأرسلت له عسكرا، فأخذوه منها إلى سيئون، ولكنّ أصحابه علموا، فتحزّبوا ولاقوهم أثناء الطّريق، وأطلقوا عليهم الرّصاص، فتراجعوا، وأفلت عبد بن عليّ وعاد العسكر بالفشل، فغضبت الحكومة الإنكليزيّة، وأرسلت بثلّة من جيش البادية المحافظ على أمن الطّريق بعتادهم ومعدّاتهم، فلانت أعصاب آل باجريّ، وانشقّت عصاهم، وما كلّ مرّة تسلم الجرّة، فتوسّط الشّيخ محمّد سالمين بن جعفر بن بدر العوينيّ، فسوّيت المسألة على: تسليم البنادق الّتي صوّبت رصاصها على العسكر، وغرامة ألف روبيّة، وحبس عبد بن عليّ ثلاث سنين بالمكلّا تحت الأعمال الشّاقّة.
وفي بور كثير من القرى لم نذكرها؛ منها:
عرض مولى خيلة: في شمال بور، يسكنه آل سالم بن عمر من آل باجريّ، لا يزيد عددهم مع حرّاثهم على عشرين رجلا.
ويير المدينيّ: لآل عبود من آل باجريّ، لا يزيد عددهم مع حرّاثهم عن خمسين رجلا.
ومنها: القفل: لآل رطّاس من آل باجري، لا يزيد عددهم عن عشرة رجال.
ومنها: مكان آل معتاشي، فيه نحو ثلاثين رجلا.
ومنها: مقيبل، فيها نحو مئة رجل.
وفي ضواحي بور: قارّة جشير ـ ويقال: جشيب ـ وقد سكنها المهاجر أحمد بن عيسى فلم تطب له، فانتقل عنها إلى الحسيّسة. ويأتي في قارّة الصّناهجة ما له بها تعلّق.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
58-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (نخر كعده)
نخر كعدهموضع بين قارة العرّ والحسيّسة، يكمن به اللّصوص وقطّاع الطّريق، وكم تلفت به أموال، وماتت فيه رجال.
منها: أنّ الفاضل الرّقيق الطّبع السّيّد شيخ بن محمّد الحبشيّ كان عائدا من تريم إلى سيئون حوالي سنة (1324 ه) مع جماعة من أهل الثّروة، فعرض لهم جماعة من بدو آل عامر، فنهبوهم وأخذوا دوابّهم وما عليها إلى نحو بحيره، فجاء سيّدي عيدروس بن حسين العيدروس وآل أحمد بن زين لمراجعتهم في ذلك، ولمّا أثّر فيهم كلام الحبيب عيدروس بن حسين، وبخعوا له بردّ المنهوب.. نفسه آل أحمد بن زين فزيّنوا لهم اقتسامه، فلم يردّوا إلّا الدّوابّ مع شيء يسير من المال بدراهم تسلّموها من المنهوبين.
وهذه من صغار تلك الحوادث، وإنّما ذكرتها لاستخراج العبرة منها بتخاذل
العلويّين إلى هذا الّذي لا بدّ وأن يعرّضهم لكلّ مهانة وابتلاء.
وسبب تسميته بهذا الاسم ـ حسبما أخبرني السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ بن عمر بن سقّاف عن والده ـ: أنّ اللّصوص أخذوا كعده ـ وهي إبريق من الخزف تطبخ فيه القهوة ـ على أحد رعايا السّلطان جعفر بن عبد الله الكثيريّ من بور، فلم يكن من السّلطان إلّا أن سار بقضّه وقضيضه وسائر عسكره، ونزل بهم ضيفا على عشيرة اللّصّ، فأنفقوا على ضيافته كلّ طارف وتليد، حتّى احتاجوا إلى الدّين، فوسّطوا من يسأله عن شأنه، فأخبرهم، وقال: لا أرتفع عنهم إلّا بالّذي أخذ الكعده.
فدفعوه برمّته إليه، فهابه النّاس، وأطلق اللّقب على المكان من يومئذ.
وكان سيّدي أحمد بن عمر بن سميط كثيرا ما يعاتب أهل زمانه على القهوة ويحذّرهم منها؛ لأنّها تأخذ عليهم كثيرا من الأموال بدون فائدة، ويقول لهم: (إنّكم انتهبتم في نخر كعده) يعرّض بهذا في تورية لطيفة، وكان يتقطّع ـ كما مرّ ـ حسرات لعدم الوالي ويقول: (لو جمعت الأموال الّتي تتلف في القهوة.. لأمكن بها إقامة دولة عادلة بحضرموت).
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
59-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحسيسة)
الحسيّسةهي بقرية خاربة بإزاء بور، في سفح الجبل الجنوبيّ المعروف بشعب مخدّم.
وكانت قرية معمورة، ثمّ خربت، فبناها عليّ بن عمر الكثيريّ في سنة (821 ه)، ثمّ أخربها عقيل بن عيسى الصّبراتيّ سنة (839 ه)، كذا في «تاريخ ابن حميد»، وهو إنّما ينقل عن «شنبل»، والّذي رأيته فيه: أنّ عقيلا هذا أخربها في سنة (889 ه).
وفي رحلة المهاجر إلى الله السّيّد أحمد بن عيسى أنّه: لمّا وصل حضرموت.. دخل الهجرين، وأقام بها مديدة، واشترى مالا، فلم تطب له، فوهب المال لعتيقه شويّه.
وانتقل منها إلى قارة جشيب، فلم يأنس بها.
فانتقل إلى الحسيّسة ـ بضمّ الحاء وفتح السّين المكرّرة بينهما ياء مشدّدة مكسورة، قرية على نصف مرحلة من تريم ـ فاستوطنها إلى أن توفّي بها سنة (345 ه)، ودفن بحضن الجبل المذكور.
قال السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس: (توفّي الشّيخ أحمد بن عيسى بالحسيّسة، ودفن في شعبها، ولم يعرف الآن موضع قبره، بل إنّ الشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس كان يزوره في الشّعب المذكور، وقال: إنّ الشّيخ عبد الرّحمن كان يزوره) اه
وهو ظاهر في أنّهما كانا يزوران الجبل بدون تعيين موضع، أمّا الآن.. فقد عيّنوه: إمّا بالقرائن، وإمّا بالكشف، على ارتفاع يزيد عن مئة ذراع في الجبل، وههنا مباحث:
"المبحث الأوّل:
زعم قوم أنّ سيّدنا المهاجر، وابنه عبيد الله، وأولادهم الثّلاثة: بصريّ وجديد وعلويّ، كانوا شافعيّة أشعريّة، وقد فنّدت ذلك متوكّئا على ما يغني ويقني من الأدلّة والأمارات في «الأصل»، وتشكّكت في وقت دخول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت، وقرّرت كثرة العلماء بحضرموت لعهد المهاجر وما قبله، ولو شئت أن أجمع ما أنجبتهم تلك العصور من رجالات العلم والحديث.. لاستدعى مجلّدا ضخما؛ إذ لا يخلو «تهذيب التّهذيب» في حرف منه عن العدد الكثير منهم.
«وإذا استطال الشّيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشّمس تذهب باطلا »
ومعاذ الله أن تحصل منهم تلك الثّروة الضّخمة في الآفاق، ويملؤون زوايا الشّام والحجاز ومصر والعراق، بدون نظيره أو أقلّ منه في مساقط رؤوسهم.
ويتأكّد بما سيأتي عن «المشرع» في تريم من تردّد السّادة من بيت جبير إلى تريم في سبيل العلم.
وفي ترجمة عبد الله بن أحمد: أنّه أخذ عن أبيه وعن غيره من علماء عصره، مع ذكرهم لاجتماعه بأبي طالب وقراءته لكتابه «القوت» عليه.
ومرّ في شبام ما يكثّر علماء الإباضيّة من شعر إبراهيم بن قيس، وهو من أهل القرن الخامس، وذكر من نجع من الأزد إليها في أيّام الحجّاج.
وسبق في الشّحر ما يدلّ على حالتها العلميّة حوالي سنة (280 ه)، وفي صوران ونقعة وغيرها ما يؤكّد ذلك، وحسبك أنّ أكثر مشايخ الفقيه المقدّم من غير العلويّين، قال سيّدي الأبرّ في «عقده»: (وتفقّه ـ يعني: الفقيه المقدّم ـ على الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن باعبيد، وعلى القاضي أحمد بن محمّد باعيسى، وأخذ الأصول والعلوم العقليّة عن الإمام العلّامة عليّ بن أحمد بامروان، والإمام محمّد بن أحمد بن أبي الحبّ، وأخذ علم التّفسير والحديث عن الحافظ المجتهد السّيد عليّ بن محمد باجديد، وأخذ التّصوف والحقائق عن عمّه الشّيخ علويّ بن محمد صاحب مرباط، وعن الإمام سالم بن بصريّ، والشّيخ محمّد بن عليّ الخطيب) اه
وأكبر من هذا ما تضمّه الغنّاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعاته إلى الإسلام حتّى لهذا أنكر الشّيخ عبد الله باعلويّ على من استبعد وجود ربع أهل بدر فيها كما سيأتي في تريم، وقال: إنّه يتلقّاه الخلف عن السّلف، فانطمس منارهم، واندرست آثارهم، وهم نجوم الهدى، ومصابيح الدّجى، وشفاء الكلوم، وينابيع العلوم، كلّا، ولكنّها الأقدام تزلّ، والأفهام تضل، والأهواء تتغلّب، والأوهام تتألّب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
ولا يلزم ـ على كثرة العلماء بها ـ أن يتمذهبوا بشيء من المذاهب المشهورة؛ فقد اشتهروا بالعلوم في عصر التّابعين فمن بعدهم قبل ظهور المذاهب، وإن كان البدويّ الجافي ليأتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقيم أيّاما لا يقرأ كتابا، فيعود وفي يده سراج الإسلام يرشد قومه ويدعوهم إلى الله؛ ففي (ص 492 ج 1) من «إمتاع الأسماع» للمقريزي: (أنّ عثمان بن أبي العاصي كان أصغر وفد ثقيف، فكانوا يخلفونه في رحالهم وكان إذا ناموا بالهاجرة.. عمد إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عن الدّين واستقرأه القرآن، وأسلم سرّا وفقه، وقرأ من القرآن سورا) اه
والشّاهد: في فقهه مع أنّه لم يتلقّ إلّا أوقاتا يسيرة، وكذلك أحوال كثير من الوافدين.
وقد توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مئة وعشرين ألفا من الصّحابة، وفيهم من الأجلاف من لا يعرف إلّا الفاتحة أو إلّا البسملة، كما في «معاهد التّنصيص» في قسمة أنفال القادسيّة، وهم يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون بدون تمذهب، وكذلك كان أهل حضرموت فيما أظنّ وفيما يقضي الاستصحاب، حتّى غزتهم المذاهب بسبب الاختلاط الواقع أكثره بالحجاز واليمن.
وقد جاء في «المشرع»: (أنّ فتاوى السّيّد سالم بن بصريّ على أساليب أولي الاجتهاد) وفي (ص 5 ج 2) منه: (أنّ أهل حضرموت يشتغلون بالعلوم الفقهيّة، وجمع الأحاديث النّبويّة) اه
ويؤيّده ما جاء في موضع آخر منه: (أنّ كثيرا من الصّلحاء والعلماء لا يعرفون عين قبره، بل ولا جهته؛ لأنّ المتقدّمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور) اه
فإنّه أنصع الأدلّة على تمسّكهم بالسّنّة. وفي (ص 144 ج 6) من «تاريخ ابن
خلّكان» (عن ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرّئاسة والسّلطان؛ مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك بن أنس) اه مختصرا.
وفي (ص 233 ج 5): (أنّ المعزّ ابن باديس حمل أهل المغرب على مذهب مالك بعدما كان مذهب أبي حنيفة أظهر المذاهب به). وكانت وفاة المعزّ المذكور سنة (454 ه).
وفي «مذكراتي»: (أنّ عبد الرّحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى بن مولى جمح وصل إلى مصر في أيّام اللّيث بن سعد، فأخذ عنه اللّيث وابن وهب ورشيد بن سعد، وانتشر به مذهب مالك، وتوفّي بالإسكندريّة سنة «163 ه»، وخلفه ـ في نشر مذهب مالك بمصر ـ عبد الرّحمن بن القاسم، وما زال مشهورا حتّى قدمها الشّافعيّ في سنة «198 ه» فصحبه جماعة من أعيانها كابن الحكم والرّبيع بن سليمان والمزنيّ والبويطيّ وعملوا بمذهبه، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة معرفتهم بمذهب مالك والشّافعيّ.
ويعلّل المقريزيّ ذلك بأنّ إسماعيل بن الرّبيع الكوفيّ ـ الّذي تولّى قضاء مصر بعد ابن لهيعة ـ كان يبطل الأحباس، فثقل على المصريّين مذهبه في ذلك، وسئموه.
أمّا الإمام أحمد.. فكان في القرن الثّالث، ولم يخرج مذهبه عن العراق إلّا في القرن الرّابع، وفي هذا القرن ملك الفاطميّون مصر، وجاؤوا بمذهبهم على يد جوهر الصّقلّي) اه
ولا بدع أن يغزو المذهب الشّافعيّ حضرموت؛ إمّا من أصحاب الشّافعيّ الأدنين، أو من أمّ القرى، أو من زبيد بواسطة الحجّاج والتّجّار وطلّاب العلم؛ فالمواصلات متواترة بين حضرموت وبين هذه الأطراف، على أنّ الحضارمة من أبعد النّاس عن التّمذهب.
وفي «نسيم حاجر» وفي المبحث الثّالث نسبة الاجتهاد لكثير من اللّاحقين فضلا عن السّابقين. قال الشّيخ إبراهيم بن يحيى بافضل، المتوفّى سنة (684 ه) [من الوافر]
«إذا لم أفتكم بصريح علم *** فلا من بعدها تستفتئوني »
«بما في محكم القرآن أفتي *** وإلّا بعد هذا كذّبوني »
أو ليس من أصرح الصّريح في دعوى الاجتهاد؟
وذكر العلّامة ابن حجر في «فتاويه» عن علماء المتأخّرين من الحضارم: أنّهم لا يتقيّدون بكلام الرّافعيّ والنّوويّ، وهما عمدة المذهب، ولا يحضرني نصّ صريح في تعيين وقت التّمذهب، وكانت العرب إذ ذاك متّصلة، والأسواق جالبة، والمشاهد جامعة، والبلاد بما ألفوه من التّرحّل واستقراب البعيد متقاربة.
وممّا يشهد لهذا: أنّ كلّ مرحلة يأتي ذكرها عند الهمدانيّ وأمثاله تزيد عن مرحلتين بسير أهل العصور المتأخّرة.
ومرّ في الكسر أنّ يونس بن عبد الأعلى كان منه، وهو أحد أصحاب الشّافعيّ، وغير خاف أن حرملة بن عبيد الله صاحب الإمام الشّافعيّ وأحد رواة مذهبه.. كان من تجيب، ومثله أبو نعيم التّجيبيّ المتوفّى سنة (204 ه).
ومثرى تجيب بالكسر، ثمّ نجع منهم الكثير إلى مصر، ولا بدّ بطبيعة الحال أن يكونوا على اتّصال بأهل وطنهم أدبيّا ومادّيّا كما هي العادة بين العشائر، ومعاذ الله أن تقطع رجالات العلم صلاتها بأوطانها وقراباتها وهم أحقّ النّاس بصلة الأرحام والحنين إلى الأوطان والقيام بحقوقها الّتي تفضل حقوق الأمّهات على الأولاد كما فصّلت في غير قصيدة من «الدّيوان».
ومرّت الإشارة في هذا المبحث لبعض العلماء الحضرميّين، وأنّ آل باذيب نجعوا من العراق إلى حضرموت في أيّام الحجّاج، وكان فيهم مفتون وقضاة.
وقال الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في «جواهر الأنفاس»: (نقل الشّيخ عليّ بن أبي بكر عن بعض علماء آل عبّاد أنّه كان في تريم ثلاث مئة مفت، والصّفّ الأوّل من جامعها كلّه فقهاء، يعني: مجتهدين في المذهب.
وفي شبام ستّون مفتيا، وقاض شافعيّ، وقاض حنفيّ، وفي الهجرين مثل ذلك) اه
وفي موضع آخر منه عن الشّيخ محمّد بن عمر جمال: (أنّه يقول: عمّت البلوى في جهة حضرموت بكثرة الجهل، والجهّال أشبه بالشّياطين في أحوالهم، وأقرب من البهائم في طبائعهم، وقد كانت هذه الجهة معمورة بالعلم، حكى المؤرّخون أنّه كان ببلد تريم ثلاث مئة مفت، وفي شبام ستّون مفت، وقاض شافعيّ، وقاض حنفيّ، وفي الهجرين قريب من ذلك) اه
وما نقله عن الشّيخ عليّ بن أبي بكر موجود في آخر الصّفحة (117) من «البرقة» ونصّه: (وقد صحّ بالنّقل الصّحيح عن الثّقات أنّه اجتمع في تريم في زمن واحد ثلاث مئة مفت، وبلغ الصّفّ الأوّل في صلاة الجمعة كلّه فقهاء) اه
وسيعاد هذا بأبسط ممّا هنا في تريم.
وفي الصّفحة التي قبلها: أنّ الإمام عليّ بن محمّد حاتم هنّأ شيخه المحقّق قاضي القضاة وسيّد القرّاء في عصره أبا بكر بن يحيى بن سالم أكدر بأبيات على شفائه من مرض ألمّ به؛ منها:
«قد حنّ مسجدنا لفقدك واشتكى *** خللا وإن كثرت به الأقوام »
وفي الحاشية: أنّ مسجدهم هو المعروف بمسجد عاشق، يجلس على دكته منهم من أهل العلم والفتوى (45) رجلا.
وفي «سموم ناجر»: أنّ وفاة الشّيخ أبي بكر بن يحيى هذا كانت سنة (575 ه) شهيدا، ويأتي في تريم عن «جوهر الخطيب» ما يوهم أنّ كثرة المفتين بتريم يعود إلى ما بذله الشّيخ سالم بافضل من نشر العلم، والله أعلم.
وكانت وفاة الشّيخ بافضل في سنة (581 ه) أي: بعد الشّيخ أبي بكر أكدر بنحو ستّ سنين، ومن البعيد أن يكون تفقّهه عليه.. فليتأمّل.
أمّا اشتهار مذهب الشّافعيّ في اليمن.. فقد قال السّخاويّ: إنّه كان في المئة الثّالثة، ونقله عن الجنديّ.
وقال اليافعيّ: إنّ ممّن أظهر مذهب الشّافعيّ باليمن موسى بن عمران المعافريّ، قال: وممّن نشره بزبيد بنو عقامة.
ومن كتاب «المسالك اليمنيّة» للسّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ: أنّ المأمون ولّى محمّد بن هارون التّغلبيّ قضاء التّهائم في سنة (203 ه).
ومحمّد بن هارون هذا هو جدّ بني عقامة.
وفي «طبقات ابن السّبكيّ» [7 / 130]: (عن ابن سمرة: أنّ فضائل بني عقامة مشهورة، وهم الّذين نشر الله بهم مذهب الشّافعيّ في تهامة، وقدماؤهم جهروا بالبسملة في الجمعة والجماعات) اه
وقوله: (وهم الّذين... إلخ) صيغة حصر، وكأنّ المذهب الشّافعيّ أتاهم قبل أن يعرفوا المذاهب، فوافق ما عندهم فتمكّن ونشره الله بهم.
يعجبني ما ذكره ياقوت [4 / 108] لبعض قضاتهم يرثي هلكاه المدفونين بالعرق وهو موضع بزبيد [من الكامل]:
«يا صاح قف بالعرق وقفة معول *** وانزل هناك فثمّ أكرم منزل »
«نزلت به الشّمّ البواذخ بعدما *** لحظتهم الجوزاء لحظة أسفل »
«أخواي والولد العزيز ووالدي *** يا حطم رمحي عند ذاك ومنصل »
«هل كان في اليمن المبارك بعدنا *** أحد يقيم صغا الكلام الأميل »
«حتّى أنار الله سدفة أهله *** ببني عقامة بعد ليل أليل »
«لا خير في قول امرىء مستمدح *** لكن طغى قلمي وأفرط مقولي »
وذكر اليافعيّ أيضا: (أنّ القاسم بن محمّد بن عبد الله القرشيّ المتوفّى سنة «438 ه» نشر مذهب الشّافعيّ في نواحي الجند وصنعاء والمعافر والسّحول وعدن ولحج وأبين) اه
ولئن تأخّر وصول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت عمّا مرّ.. فلن يخطئها فيما حوالي هذا التّاريخ.
وقال بعض الزّيديّة: إنّ العترة الطّيّبة قد تفرّقت في البلاد، وملأت الأغوار والأنجاد، وكلّ من كان منهم في إقليم.. فإنّما هو على مذهب جهته وإقليمه في غالب الأمر، لم يتواصوا كلّهم بمذهب واحد في مهمّات الأصول، فضلا عن نوادر الفروع، فهؤلاء الأئمّة المعروفون في اليمن وعدد قليل من الجبل شاعت أقوالهم، وسارت الرّكبان بمذاهبهم كالنّاصر.
وفي الكثير منهم ـ وهم أهل الكوفة وما والاها ـ ذكر بعض العلماء جماعة كثيرة زيديّة من دعاتهم، وأهل اليمن لا يعرفونهم ولا يعرفون مقالتهم، وكذلك الإدريسيّون في المغرب فيهم كثرة، وظاهرهم على مذهب مالك، ثمّ من هذه الذّرّيّة شافعيّة أو حنفيّة في الفروع، أشعريّة في الأصول، متظاهرون بذلك؛ كالمحقّق السّيّد الشّريف الجرجانيّ وغيره.
وفي المحدثين الكثير الطّيّب علماء مجتهدون منتسبون إلى المذاهب الأربعة، مصنّفون فيها، إذا طالعت كتب الرّجال.. عرفت ما يصفونهم به.
وبه نعرف أنّ الّذي في الزّيديّة لا يزيدون عليهم وصفا ولا عددا، وكلّ يدّعي أنّه المقتفي لآبائه القدماء من أهل البيت عليّ والحسنين ونحوهم رضي الله عنهم... إلخ كلامه.
وكتب عليه القاضي إسماعيل بن مزاحم المجاهد بما حاصله: حصر الحقّ على السّادة الزّيديّة باليمن؛ لأنّهم هم الّذين بقوا مع القرآن في قرن متبوعين لا تابعين.
وقال: ألا ترى لو أنّ أحد أهل البيت المقلّدين لمالك قال: إنّ الكلب طاهر.. لأنكر عليه الكلّ أن تكون هذه المقالة لأهل البيت. اه مختصرا بالمعنى
وأنا لا أرضى هذا الجواب؛ لما فيه من تحجّر، وليس الزّيديّة بفرقة واحدة، وإنّما هم ـ كغيرهم ـ فيهم المغالون والمعتدلون، وما أحسن ما فسّر به الشّوكانيّ الفرقة النّاجية من أنّها: من كانت على هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في إيثار الحقّ على ما سواه. أو ما يقرب هذا من معناه.
والوسط هو المحمود، وعنده يلتقي شأو المنصفين من كلّ فرقة، وقبلتنا من أمّها.. لا يكفّر.
وفي غير هذا الموضع أنّه كان للعلويّين اتّصال بالسّادة الزّيديّة إلّا أنّه تلاشى بعد التّمذهب حتّى جدّده الله باتّصالي بأمير المؤمنين المتوكّل على الله يحيى بن محمّد حفظه الله.
"المبحث الثّاني:
لا نزاع فيما يؤثر عن سابقي العلويّين من الشّهامة والفتوّة والكرم، والمروءة والجاه والشّرف والسّيادة، والحلم والصّبر والعبادة، والنّجدة والتّواضع والورع والتّقوى، والأخذ من مكارم الأخلاق بالغايات القصوى، بل كلّ ثناء مقصّر عنهم في هذه النّواحي.
وجاء في مواضع من كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد أنّ المشايخ استنكروا العلويّين؛ لأنّ المقام مقامهم، وفي كلام غيره: أنّ النّاس أقبلوا عليهم من بدء الأمر، وتجتمع أطراف الكلام بما انتصبت عليه القرائن من استنكار أهل المذاهب للتّخالف المنضمّ إلى الحسد، ولكنّ العامّة ـ بسلامة قلوبهم ونشأتهم على الفطرة وانقيادهم بسوق الطّبيعة ـ أقبلوا عليهم إقبالا عظيما، وكيف لا.. وهم أوّل من عرفوا من العترة الطّاهرة، وقد قيل:
«يقولون ما بال النّصارى تحبّهم *** وأهل النّهى من أعرب وأعاجم »
«فقلت لهم: إنّي لأحسب حبّهم *** سرى في قلوب الخلق حتّى البهائم »
لا سيّما وقد انضمّ إلى ذلك ما يستجهر الأبصار والبصائر من الشّرف الفخم والسّؤدد الضّخم؛ فقد كان الأمر أعظم ممّا يتصوّر، وإن كان سيّدنا محمّد بن عليّ ـ صاحب مرباط ـ ليخفر القوافل من بيت جبير إلى ظفار، بما له من ضخامة الجاه، كما ذكره الشّيخ سالم بن حميد عن الشّيخ عبد الله بن عمر الكثيريّ.
وكانت القوافل ترحل من حضرموت إلى صنعاء في خفارة مسبحة سيّدنا الشّيخ عبد الله باعلويّ كما رواه والدي عن الأستاذ الأبرّ فيما جمعه من كلامه.
ولا شاهد بشيء من ذلك على التّوسّع في العلم بأمارة المشاهدة؛ فأولو الجاه عند البوادي والعامّة وغيرهم من مناصب حضرموت قديما وحديثا لا ينتسب منهم إلى العلم إلّا القليل، فأرى أنّه مبالغ فيما ينسب منه إلى الأسلاف الطّيّبين.
فقد نقلوا عن «الياقوت الثّمين»: (أنّ عبيد الله بن أحمد من أكابر العلماء)، مع أنّهم لم يذكروا أثرا لعلمه إلّا قراءته ل «قوت القلوب» على مؤلّفه، وطنطنوا على ذلك بما دلّنا على أنّه لو كان هناك أثر أكبر منه.. لذكروه وكبّروه، على أنّ الّذي في «المشرع» أنّه: (حجّ في سنة «377 ه»، وفي ذلك العام حجّ أبو طالب المكيّ، فأخذ عنه مؤلّفاته، وسمع منه مرويّاته) اه
ولم يذكر أنّه قرأ عليه «قوت القلوب».. ومعلوم أنّ وقت الحجّ لا يتّسع لغير مجرّد الأخذ، فأمّا قراءة «قوت القلوب» بحذافيره.. فلا بدّ لها من زمان طويل، ثمّ إنّ مجرّد قراءة «القوت» ـ بتسليمها ـ لا تستدعي التّوسّع في العلم الشّرعيّ، بل ولا الاتّسام بسمته؛ إذ لا يعطى من حفظ «قوت القلوب» وتعقّله ـ فضلا عمّن قرأه فقط ـ ممّا يوصى به للعلماء أو يوقف عليهم.
وممّا يدلّك على تسامحهم في الثّناء بالعلم: أنّ الشّلّيّ وغيره ترجم للسّيّد عبد الله بن محمّد صاحب مرباط، ووصفوه بالحفظ، ثمّ لم يذكروا له أثرا من ذلك سوى إجازة له من القلعيّ في رواية «جامع التّرمذيّ»، مع أنّ البخاريّ ـ كما رواه غير واحد ـ يقول: (اعلم أنّ الرّجل لا يصير محدّثا كاملا في الحديث.. إلّا أن يكتب أربعا مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع. وكلّ هذه الرّباعيّات لا تتمّ إلّا بأربع مع أربع..) إلى آخره، ممّا ينبغي أن يكشف من [ص 284] «فتاوى حديثية» لابن حجر الهيتمي.
وأخرى، وهي أنّ بين أيدينا «البرقة» و «عقد» سيّدي الأستاذ الأبرّ، وقد ذكروا عمود النّسب فلم يطنبوا في الثّناء بالعلم إلّا على الفقيه المقدّم وصاحب مرباط، ولم يصفوا والد الفقيه المقدّم إلّا بأنّه عالم صوفيّ.
واقتصروا في الإمام أحمد بن عيسى على: (ذي العقل الكبير، والقلب المستنير، والعلم الغزير) لأجل السّجع، ولو كان واسع العلم.. لبسطوا القول فيه، كما لم يذكروا ولده عبيد الله ولا محمّدا صاحب الصّومعة، ولا عليّا العريضيّ، ولا عليّا خالع قسم بعلم أصلا.
وأضجعوا القول في وصف علويّ بن محمّد وعيسى بن محمّد بالعلم، مع إطنابهم في فضلهم وعبادتهم، على أنّنا لا ننسى ما نقله والدي عن سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر: أنّه زار المهاجر مع العلّامة الحبيب عبد الله بن عمر، فقال لولد له صغير ـ يدعى محمّد الطّاهر ـ: تدري من هذا ـ يعني المهاجر ـ يا ولدي؟ فقال له: هذا المهاجر، أفضل من في الوادي علما وعملا وقربا من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنّ مثل ذلك قد لا يراد به كلّ ظاهره في تبصير الأولاد وحثّهم على الاجتهاد.
وسيأتي في تريم أنّ الطّيّب بامخرمة لم يذكر فقيها من العلويّين إلّا الفقيه المقدّم.
وفي ترجمة عليّ بن الجديد من «تاريخ الجنديّ»: أنّه من أشراف هناك يعرفون بآل أبي علويّ، بيت عبادة وصلاح، على طريق التّصوّف، وفيهم فقهاء يأتي ذكر من أتحقّق منهم إن شاء الله تعالى.
ومن مجموع ما سقناه مع ما سبق من مبالغة «العقد الثّمين».. تعرف أنّ تلك المبالغات ـ من غير شهادة الآثار ـ مبنيّة على ممادح العناوين الّتي لا يراد من أكثرها إلّا مجرّد الثّناء، وهو شيء معروف بين النّاس.
والثالثة: هي: أنّ قريشا ـ ومن على شاكلتهم من العرب ـ انصرفوا لتلك العصور عن طلب العلم؛ لما في طريقه من الذّلّ الّذي يمنعهم الشّرف ـ بعد الطّفوليّة ـ عن امتهان أنفسهم فيه، ولذا قلّ ما يوجد العلم فيهم إلّا في النّدرى؛ كالباقر وأخيه، والصّادق وابنه، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد ثمّ المرتضى وأخيه والنّاصر للحقّ من بعدهم.
وهناك دسيس آخر، وهو: أنّ الملوك لا ينصفون العلماء منهم، ولا ينعمونهم به عيونا؛ لأنّ للعلم سلطانا فوق كلّ سلطانهم، فلا بدّ للمستبدّ أن يستحقر نفسه ـ ولو في سرّه ـ كلّما وقعت عينه على من هو أرفع منه سلطانا، فإن اضطرّ إلى العلم.. اختار المتصاغر المتملّق.
وإذا كان الأمويّون والعبّاسيّون يطاردون العلويّين لمجرّد بسوقهم في الشّرف.. أفتراهم يسكتون عنهم لو جمعوا إليه عزّة العلم وسلطان المعرفة؟ هذا ما لا يتصوّر بحال.
وقد أخرج ابن الصّلاح في «رحلته» عن الزّهريّ، قال: (قدمت على عبد الملك ابن مروان. فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من مكّة. قال: من يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: من العرب هو؟ قلت: لا، بل من الموالي. قال: بم سادهم؟ قلت: بالدّيانة والرّواية. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت:
طاووس بن كيسان. فقال مثل قوله الأوّل.. فأجبته بمثل قولي في عطاء. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن يسود أهل دمشق؟ قلت: مكحول، وهو عبد نوبيّ أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. وهو في كلّ ذلك يسألني مثل سؤاله عن عطاء، وأجيبه بمثل جوابي فيه، حتّى قال: من يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ.
قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: بل من العرب. قال: ويلك يا زهريّ! فرّجت عنّي، والله لتسودنّ الموالي حتّى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها. قلت: إنّما هو أمر الله ودينه، من حفظه.. ساد، ومن ضيّعه.. سقط) اه مختصرا.
وما كان ابن مروان ليجهل حال أولئك، وإنّما هو من سوق المعلوم مساق المجهول؛ لنكتة هي ـ فيما أرجّح ـ قرّة عينه بانصراف العرب عن العلم؛ لئلّا يستحقر نفسه في جانبهم، خلاف ما يتظاهر به من قوله: (فرّجت عنّي)؛ إذ لو كان أولئك من قريش فضلا عن أن يكونوا هاشميّين.. لاستشاط غضبا، وتأجّج حسدا، لا سيّما وأشدّ النّاس حسدا هم الملوك كما قيل.
وما كانت قريش إذ ذاك خالية من العلم، ولكنّهم ضيّقوا عليهم الأنفاس، وأخذوا منهم بالمخنق، وقد أشرت إلى شيء من انصرافهم عن العلم أوائل «النّجم المضي في نقد عبقرية الرّضي».
وفي آخر الجزء الأوّل من «البيان والتّبيين» للجاحظ: أنّ رجلا من بني العبّاس قال: ليس ينبغي للقرشيّ أن يستغرق في شيء من العلم إلّا علم الأخبار، فأمّا غير ذلك.. فالنّتف والشّدو من القول.
وفيه أيضا: (أنّ رجلا من قريش مرّ بفتى من ولد عتّاب بن أسيد يقرأ «كتاب سيبويه»، فقال: إنّ لكم علم المؤدّبين وهمّة المحتاجين).
وفيه: (قال ابن عتّاب: يكون الرّجل نحويّا عروضيّا، قسّاما فرضيّا، حسن الكتابة جيّد الحساب، حافظا للقرآن، راوية للأشعار، يرضى أن يعلّم أولادنا بستّين درهما).
ومتى تقرّر انحراف قريش عن العلم لما يجلبه لها من تهضّم الملوك، ولأنّها تسود قبل أن تتفقّه.. فما كان العلويّون المهاجرون إلى حضرموت ليخرقوا عادتهم إلّا بعد أن تؤثّر فيهم الظّروف، وينطبعوا بطابع الزّمان والمكان، وتقهرهم العوائد وتنتفي الموانع، وربّما كان ذلك أواسط القرن السّابع، مع استثناء القليل فيما قبل ذلك.
وإنّما بقي العلم في السّادة الزّيديّة لبعدهم عن المدنيّة الشّومى، وتصديقا لوعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولاشتراطه للخلافة، وهي لا تزال فيهم، والنّاس على دين ملوكهم، والسّلطان سوق يجلب إليه ما يناسبه، ولهذا فلا بدّ أن تتفاوت أزمنتهم بحسب رغبات خلفائهم فيه كثرة وقلّة. ولهذا المبحث تكميل ـ إن شاء الله ـ يأتي في تريم.
"أمّا المبحث الثّالث:
فقد اتّسع فيه القول، وتفتّحت شآبيب الكلام، وسالت فيه عزالي البراهين والأدّلة، حتّى صار رسالة فضفاضة تستحقّ أن تسمّى: «سموم ناجر لمن يعترض نسيم حاجر»، ولا بأس أن نزيد هنا ما يتأكّد به بعض ما فيها وما في «النّسيم» مع الاعتذار عمّا لا بدّ منه للفائدة من التّكرار.
قال سيّدي الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ في كتابه «المسلك السّويّ»: (ومن ثمّ لمّا ذهبت عنهم الخلافة الظّاهرة ـ لكونها صارت ملكا عضوضا ـ ولذا لم تتمّ للحسن.. عوّضوا عنها بالخلافة الباطنة حتّى ذهب كثير من القوم إلى أنّ قطب الأولياء في كلّ زمان لا يكون إلّا منهم) اه
ثمّ رأيت هذه العبارة عند الحفظيّ آخر كلام نقل عن «صواعق ابن حجر» [2 / 426] والله أعلم.
وقال في «المسلك السّويّ» أيضا: (ولمبالغة الشّافعيّ في تعظيمهم.. صرّح بأنّه من شيعتهم حتّى نسبه الخوارج إلى الرفض) اه
وذكر الذّهبيّ: أنّ والي اليمن كتب إلى العراق: إن كنتم لطاعة أهل اليمن أرسلتم الشّافعيّ.. فإنّه يعمل مع الطّالبيّين للخروج، فأرسلوا به إلى العراق مكبّلا بالحديد، وممّا قال حين اتّهم بالرّفض [من الكامل]:
«إن كان رفضا حبّ آل محمّد *** فليشهد الثّقلان أنّي رافضي »
وفي «المسلك» أيضا عن الأستاذ الحدّاد أنّه قال: (جاءني جماعة من علماء مكّة يسألونني عن مذهبي، فأردت أن أقول لهم: مذهبي الكتاب والسّنّة، لكن حصلت محاذرة؛ خوفا عليهم من الإنكار.
وهذه إشارة إلى أنّه مجتهد لا مقلّد، وكثيرا ما أسمعه يقول عند المذاكرة في المسائل: وعندنا فيها رأي آخر، لكنّ التّمسّك بمذهب الشّافعيّ كافي) اه
ونقل عن الأستاذ أيضا أنّه قال: (أريت أصول أهل الأصول، لكن يغلب علينا الرّجاء حتّى للمخالفين من الفرق. وهذه المسألة متّصلة بالذّوق، ولا يمكن التّعبير عنها؛ لخفاء الحقّ فيها، فلا يعلم إلّا في الدّار الآخرة.
وادّعى أناس أنّهم حقّقوها، ولم يظهر لنا ذلك؛ لأنّ التّدقيق لا تحيط به العبارة، ولا بدّ أن يقع في الغلط من يعبّر عنها؛ كقول الغزاليّ: ما في الإمكان أبدع ممّا كان) اه
وقوله: (حتى للمخالفين من الفرق) أي: الإسلامية؛ لإجماعهم على تكفير من لم يدن بدين الإسلام ـ كما فصّلناه في «السّيف الحاد» ـ وكلّ من يعتقد بنجاة ملّة غير الإسلام.. فهو كافر، وقد حاول البهائيّون ـ الّذين ذكرهم فريد وجديّ ـ أن يوحّدوا بين الأديان، فوقعوا في شرّ من كفر اليهود قاتلهم الله أنّى يؤفكون. ومنهم القائلون بالإباحة من أهل الوحدة المطلقة الّذين يعتقدون بأنّ الباري عزّ شأنه هذا الوجود السّاري في الموجودات الظّاهر فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها.. فهو في الماء ماء، وفي النّار نار، وهو حقيقة كلّ شيء وماهيّته، ووجود كلّ موجود صغير
أو كبير، خسيس أو شريف. (تَعالى) الله (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا).
وليس منها كما قال سعد الدّين التّفتازانيّ في «شرح المقاصد» أن يستغرق السّالك عند انتهاء سلوكه في بحر التّوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عن كلّ ما سواه، ولا يرى في الوجود إلّا الله، وهذا ما يسمّونه: الفناء في التّوحيد، ويسمّونه: الجمع أيضا.
وغاية سير السّالكين.. فناء المريد عن نفسه، ومنه يرجع إلى عالم الملك، وهو الفرق الثّاني، والصّحو بعد المحو، ويعبّر عنه أيضا: بانصداع الجمع، وبالفرق بعد الجمع، وبظهور الكثرة في الوحدة، ويعبر عنه أيضا: بمحو المحو، وبشهود الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة، وصاحب هذا المقام عندهم لا يحجبه الحقّ عن الخلق، ولا الخلق عن الحقّ، وهو مقام إرشاد المريدين.
"المبحث الرّابع:
جاء في (ص 33 ج 1) من «المشرع»: (أنّه كان للمهاجر في الوعظ لسان فصيح، ثمّ لمّا استولى أخوه محمّد بن عيسى على أقاليم العراق.. أتى إليه ووعظه موعظة بليغة، بألفاظ فصيحة جسيمة، ولم يزل به حتّى ترك ذلك، وزهد فيما هنالك) اه
وفي (ص 139) من «البرقة»: (أنّ محمّد بن عيسى استولى على جهة من العراق، وتبعه خلق كثير، وجمّ غفير، ثمّ ترك الولاية زاهدا) اه
وبين الرّوايتين فرق ليس باليسير، وقد راجعت «كامل ابن الأثير» و «تاريخ ابن خلدون».. فلم أر لخروج محمّد بن عيسى ذكرا، ولو كان كما يقول صاحب «المشرع» في شمول استيلائه للعراق.. لذكراه، وإذا لم يذكراه.. كان ذلك قادحا فيه؛ لأنّ الخبر الّذي تتوافر الدّواعي على تواتره ثمّ لا ينقله إلّا الآحاد.. يكون مردودا كما قرّره أهل الأثر؛ فإن وجد له ذكر في التّاريخ، وإلّا.. فما هو إلّا انتقال نظر إليه من زيد بن موسى الكاظم.
وقد كان زيد هذا ـ كما عند ابن خلدون ـ من قوّاد أبي السّرايا مدبّر أمر محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ زين العابدين، وكان أبو السّرايا وجّه زيد بن موسى هذا إلى البصرة، فعاث وأحرق خلقا كثيرا حتّى سمّوه: زيد النّار.
وفي (ص 271 ج 3) من «تاريخ ابن خلّكان»: (وكان زيد بن موسى الكاظم خرج بالبصرة وفتك بأهلها، فأرسل إليه المأمون أخاه عليّا الرّضا يردّه عن ذلك، وقال له: ويلك يا زيد؛ فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ والله لأشدّ النّاس عليك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يا زيد، ينبغي لمن أخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعطي به.
فبلغ كلامه المأمون، فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قلت: وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام عليّ زين العابدين؛ فقد قيل: إنّه إذا سافر.. كتم نفسه، فقيل له في ذلك؟ فقال له: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا أعطي به) اه كلام ابن خلّكان
أقول: ومثله موجود في خطبة عليّ الرّضا يوم بويع له، فقد قال: أيّها النّاس؛ إنّ لنا عليكم حقّا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكم علينا حقّ به، فإذا أدّيتم لنا ذلك.. وجب لكم علينا الحقّ، والسّلام.
"المبحث الخامس:
اشتبه عليّ وقت انهيار سدّ سنا، وقد رأيت في مناقب الحبيب عليّ بن عبد الله السّقّاف ـ تأليف الحبيب عمر بن سقّاف بن محمّد الصّافي، السّابق ذكره في السّوم ـ: (أنّ الحبيب عليّا المذكور اجتمع بالسّيّد الجليل حسن بن عبد الله بن علويّ الحدّاد، فسأله عن ارتفاع قبر المهاجر، فقال: لعلّه خشية السّيول السّابقة الهائلة مع عدم الخدّ في الأرض، لأنّه لم يحدث إلّا بعد زمان الفقيه المقدّم بسيل قاحش، الّذي أخبر عنه في غيبته، قال الحبيب عليّ: هذا هو الّذي أراه) اه بمعناه وفيه إشكالات وفائدة:
فمن الإشكالات: أنّ الحسيّسة ـ وهي محلّ السّكنى ـ لم تكن بذلك الارتفاع ولا بقريب منه، وإنّما كانت بسفح الجبل وحضيضه، وآثارها ظاهرة به إلى اليوم.. فكيف يخافون على الميت في قبره ما لا يخافونه على الأحياء في دورهم؟!
ومنها: أنّه لو كان ماء السّيل الرّاجع عن سدّ سنا يصل ولو إلى ربع ارتفاع الموجود.. لأغرق شباما فضلا عمّا دونها، حسبما قلنا في الكسر.
ومنها: أنّ تريم، وبور، وتنعه، والعجز، وثوبه، كانت موجودة من قبل انهيار سدّ سنا، ولو كان رجع الماء عنه يضرّها.. لما أمكن بقاؤها.
وأمّا الفائدة الّتي لم نسمع بها إلّا من هذا الكلام.. فهي: أنّ الخدّ بالأرض لم يكن إلّا من بعد الفقيه المقدّم، المتوفّى سنة (652 ه)، ومعلوم أنّه لن يكون دفعة، بل بالتّدريج، في الّذي يلي السّدّ، ثمّ في الّذي يليه، وهكذا كما يشهد له الحسّ، فمسيال سرّ الواقع الآن بين الحسيّسة وبور لا ينخفض الآن عن سطح الأرض بأكثر من نحو ستّة أذرع.. إن لم يكن بأقلّ.
وجاء في «النّور السّافر» [ص 118] عن تريم أنّها كانت في قديم الزّمان عامرة جدّا، وأمّا الآن.. فهي ضعيفة إلى الغاية، إلى أن قال: (والظّاهر أنّ سبب خرابها سيل العرم الّذي أرسله الله على سبأ، فانقطعت عنها المياه الّتي كانت تزرع عليها، فسبحان من يقلّب الأمور) اه
وهذا أيضا فيه فائدة وإشكال:
أمّا الفائدة فهي: الإشارة إلى أنّ حضرموت كانت تشرب من المياه المخزونة بسدّ مأرب، وهو موافق لما ذكرته في «الأصل» عن الخزرجيّ و «شرح الأمثال» للميدانيّ، إلّا أنّه قد يغبّر عليه ما جاء في «إكليل الهمدانيّ» (ص 46 ج 8) من قوله [من البسيط]:
«وجنّتا مأرب من بعد ذا مثل *** والعرش فيها وسدّ وسط واديها»
«تسقى به جنّتاها ثمّ بعدهما *** مسافة الخمس موصولا لياليها»
ولكن يجاب بأنّ المسافة من مأرب إلى الكسر إنّما هي أربع مراحل، وهي لا تستوفي الخمسة الأيّام، وإذا بقي للّيالي مثلها.. بلغ سدّ سنا أو جاوزها، فالأمر قريب من بعضه.
وأمّا الإشكال: فإنّه لا يمكن أن تصل حضرموت من الضّعف إلى حيث ذكر ما دام الماء ينبسط على الأرض كلّها فتئثّ زروعها، وتؤتي أكلها كما كانت أيّام ملوك كندة وملوك حضرموت، وإنّما تناهى بها الجدب والقحط من حين ظهور الأخدود، وانقباض الماء عن أكثر الأرض ولم يكن ذلك إلّا بعد الفقيه المقدّم بزمان طويل، حتّى إنّه ـ مع تفارط الأيّام ـ لم يصل إلى المسحرة بعد؛ فهي لا تزال سالمة منه، والماء ينبسط فيها من الشّمال إلى الجنوب.
وقد كان الإشكال في سدّ سنا أثقل عليّ من الطّود العظيم، وكلّما التأم لي الكلام عنه من جانب.. انتشر من الآخر، حتّى أخبرني الأخ الفاضل عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن شهاب عن مشاهدة أنّ سدّ سنا طبيعيّ من حجارة رخوة، يمازجها طين صلب، شبه القارة الصّغيرة، يدفع الماء عن جانبيها المرتفعين عن مستوى الأرض بنحو من ستّة أذرع تقريبا، ثمّ إنّ السيول جرفت تلك القارة وحفرتها فصار الماء يجري في مكانها الّذي خدّه سيل قاحش وما بعده، وارتفع جانباها اللّذان كان عليهما يجري السّيل ـ كما سنرسم صورته الّتي دفعها لي في موضعه إن شاء الله ـ فلم يكن رجع السّيول عن ذلك السّدّ الطّبيعيّ بالفاحش حتّى يكتسح البلاد، ولكنّه صغير يصدّ تيّار الماء فقط، فينبسط في كلّ ناحية، ويسقي النّاس منه أراضيهم بدون أن يجرف في الأرض؛ لأنّ انبساطه يقلّل من قوّة جريه فلا يخدّ في الأرض، وهذا هو المعقول؛ فقد كانت الحصاة الّتي يصلّي عليها سيّدنا عمر المحضار بحافّة نهر هود عليه السلام بارزة لعهده، وما به بعد عن عهد الفقيه، وليس ارتفاعها عن النّهر اليوم بالفاحش، مع تناهي الخدّ، ولكنّه قريب. ولهذا السّبب أنكر بعض السّيّاح الأجانب وجود هذا السّدّ رأسا؛ لأنّ الوهم يذهب بهم إلى ارتفاعه، فيتأمّلون ولا يجدون له أثرا، فأنكروه. والحال أنّه كما وصفه لي الأخ عبد الرّحمن ابن شهاب.
وفي حدود سنة (1339 ه) اشتد النّزاع بين آل بور وآل تاربه بشأن جبل الحسيّسة، وكلّ ادّعى أنّه في حدّه، فله قنص صيده وإدارة القهوة والعود في حفلاته العامّة، حتّى عطّلت مرارا، ثمّ تواضعوا على أن لا يدار شيء خوف الفتنة.
وما زالوا كذلك حتّى أقيمت جمعيّة ببتاوي لآل العيدروس، كان من أغراضها: الالتفات إلى إصلاح ذات بينهم.
وفي سنة (1341 ه) وافق آل العيدروس بحضرموت، وصار الإصلاح بين آل بور وآل تاربه على أنّ لكلّ منهم قنص الجبل، وعلى أنّ خدّامهم يشتركون فيما يدار فيه.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
60-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المسيله)
المسيلهبميم مفتوحة، ثمّ سين مكسورة، ثمّ ياء ساكنة، ثمّ لام مفتوحة. سمّيت بذلك لأنّها على ضفّة مسيل عدم الغربيّة.
وعدم ـ بعين ودال مكسورتين ـ: أكبر ـ لا أكثر ـ مجاري السّيول بحضرموت، تنهر إليه مياه النّجد الجنوبيّ بحضرموت، عدا ما يسقط إلى السّاحل، وما يفيض إلى وادي سنا.
وكلّ مياهه تذهب ضياعا لا تنفع إلّا ما في عين المسيل من النّخيل، وتلتقي مياهه مع مياه سر عند طرف جبل كحلان.
والمسيله هي مسكن السّيّد شيخ بن أحمد بن يحيى، ولذا قيل لها: مسيلة آل شيخ.
قال السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد: منهم: أبو بكر وعبد الله، ابنا عمر بن طه بن محمّد بن شيخ، كانا فاضلين، وقد انتقلا؛ أي: من قارة الشّناهز إلى عينات، واستوطناها حتّى ماتا.
فأمّا عبد الله: فقد انقرض عقبه من الذّكور.
وأمّا أبو بكر: فترك ولده عمر، فعاد إلى المسيله، وبنى عندهم الحبيب حسين بن طاهر بن محمّد بن هاشم مسجده وداره الّذي سكنه بعده أولاده:
الحبيب طاهر بن حسين، صاحب النّهضة المشهورة، المتوفّى بالمسيله سنة
(1241 ه).
والحبيب عبد الله بن حسين، الّذي لا تستوفي العبارة كنه ما له من الفضل، المتوفّى بها سنة (1272 ه).
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط: أنّ أباهم فرّغهم للعلم، وسافر إلى جاوة نحو ثلاث مرّات.
ومن آل طاهر: شيخنا السّيّد الجليل أحمد بن عبد الله بن حسين بن طاهر، كان جبلا من جبال العلم والعبادة، توفّي بالمسيله لأربع في جمادى الآخرة من سنة (1317 ه)
ومنهم: هاشم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن حسين بن طاهر، كان من أهل الصّلاح والعبادة والأذكار، توفّي بعدن في رجب سنة (1316 ه)، وله ابن ذكيّ، ناظم ناثر، تقلّب في الأعمال المدرسيّة بفليمبان، ثمّ في جاوة، ورأس التّحرير بجريدة «حضرموت»، ثمّ وزر للسّلطان جعفر بن منصور، وهو الآن يدرّس بمدرسة جمعيّة الأخوّة والمعاونة بتريم.
ومنهم: السّيّد أبو بكر بن عبد الرّحمن بن طاهر، له جاه ورئاسة بالتّيمور، ثمّ وصل إلى المسيله ومعه الأعلام الحريريّة المحلّاة بالذّهب التّبر والطّبول والخيول، توفّي بالمسيله سنة (1331 ه)، وأبقى عتادا نفيسا، وأثاثا فاخرا، وعلوقا مثمّنة، تولّاها أحد خدّامه بعده، فعاث بها عيث الجراد بالزّروع، ولم يبق لأولاده الصّغار إلّا ما لا يسمن ولا يغني من جوع.
ومنهم: أخوه الخفيف الظّلّ: عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين بن طاهر، كان ظاهر التّقوى والورع، وله معرفة بالطّبّ، وتعلّق بالسّيّد فضل بن علويّ مولى خيله، وطول صحبة معه في الأستانة، ولين جانب، ولطف أخلاق، وحسن محاضرة.
توفّي بالمدينة المنوّرة في رمضان سنة (1352 ه).
ومنهم: السّيّد الفاضل أحمد بن طاهر بن أحمد بن طاهر بن حسين، له اعتناء بالأوراد، توفّي بسنغافورة في (15) رمضان سنة (1314 ه).
ومنهم: العلّامة السّيّد عبد القادر بن أحمد بن طاهر بن حسين، له سعة اطّلاع، توفّي بالمسيله سنة (1300 ه).
وقد عاش آل طاهر إلى وفاة الحبيب عبد الله بن حسين مع آل يحيى على عبادة الله ومدارسة العلوم، والأمر بالمعروف، والإنكار للمنكر.
وكان عبد الله بن عمر بن يحيى جبلا من جبال التّقوى، وبحرا من بحور العلم، توفّي بالمسيله في سنة (1265 ه) بإثر وفاة ولد له شديد الأسر، حديد الفهم، يعرف مواقع رضاء أبيه ويفعل ما يحبّه من غير إشارة، حتّى لقد ورده السّيّد حسن بن حسين الحدّاد وحده، فذبح له كبشا ساحّا كبيرا، وما كاد يستقرّ به المجلس حتّى دعاه وسارّه بقوله: اذبح الكبش الفلانيّ ـ يعني المذبوح ـ وإنّما لم يكتف بعمله حسب العادة؛ لإيثار الخروج عنها بذبح الكبش الكبير لواحد، فقال لوالده: إنّه لم يأت إلّا وحده مع خادم واحد، فيكفي له رأس صغير.
فقال: لا تراجع، واذبح الكبير، قال: قد ذبحته. فسرّ منه وقرّت به عينه. واسمه أبو بكر.
وسمعت والدي يروي عن الأستاذ الأبرّ أنّ قصّة ذبح الكبش للحدّاد وقعت للحبيب عبد الله بن حسين مع أحد أولاده، والّذي يرويه آل يحيى بحذافيرهم: الأوّل، والأمر قريب، والتّعدّد بعيد.
ثمّ توفّي بعده بها ولده العلّامة الجليل عمر بن عبد الله في سنة (1277 ه) ثمّ أخوه الصّوفيّ الفقيه محمّد سنة (1308 ه)، ودفن بها.
وكان الشّيطان ـ كما قال بعضهم ـ يفرق من الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر فرقه من ابن الخطّاب رضي الله عنه فلم يدخل المسيله في أيّامه، ولكنّه لم يمت إلّا والشّيطان ممتلىء الصّدر غيظا من طول ما طرد عنها، فاحتبى إثره في محراب مسجدها.
ونزغ الشّيطان بين أبناء الحبيب عبد الله بن حسين وأبناء الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى على أوقاف المسجد ونظارته، وكان الّذي تولّى كبر المخاصمة السّيّد عقيل بن عبد الله بن عمر، وكان له اختصاص شديد بالدّولة الكثيريّة، فلم يبلّوا غليل صدره، بل خذلوه، فسافر إلى الهند وحالف آل القعيطيّ وهجم بهم على تريم، وكانت حادثة النّويدرة وهي جانب تريم الشّماليّ، واستولت عليه عساكر القعيطيّ من جهة دمّون، بمساعدة آل تميم وخيانة من بعض عبيد الدّولة، وكان ذلك في سنة (1292 ه)، ودام الحرب واحتلال النّويدرة إلى سنة (1294 ه)، وفي تلك الأثناء كانت وفاة السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى عن أربعين ربيعا وأربعة أيّام، أخبرني الفاضل الوالد أحمد بن عمر بن يحيى: أنّ عمّه عقيلا رأى كأنّ قائلا يقول له: عمرك أربعون عاما، فانزعج، ولكن عاد فرأى ذلك القائل يقول له: زدناك أربع مرّات، فاطمأنّ.
فكانت الرّؤيا حقّا، ولكن لم تكن الزّيادة إلّا أربعة أيّام.
وفي تلك السّنة أيضا انتصر القعيطيّ على العولقيّ وعلى الدّولة الكثيريّة في الحزم وصداع، حسبما سبق عند ذكرهما.
وبإثر ذلك انعقد الصّلح بواسطة السّيّد عليّ بن عمر الحييد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، والعلّامة السّيّد أبي بكر بن عبد الرّحمن بن شهاب على تخيير الدّولة الكثيريّة بين أن تخرج من تريم، وتتسلّم عشرة آلاف ريال.
وبين أن تدفعها للقعيطيّ فيرتفع بعسكره عن النّويدرة فاختارت هذه، ووقع النّاس من جرّاء تحصيلها في قرن الحمار، وكتبت بينهم وثيقة بتاريخ ربيع الثّاني من سنة (1294 ه)، أوردناها مع تفصيل أخبار تلك الحادثة مفصّلة في «الأصل»، وإلى هذه الحادثة الإشارة بقول العلّامة ابن شهاب [في «ديوانه» 121 من الكامل]:
«كم فتنة فيها اكفهرّ وبالها *** حمد الأنام سراي في إخمادها»
وهو بارّ راشد في ذلك، فلقد كان له السّعي الحثيث في الإخماد، ثمّ كانت له اليد البيضاء في تحصيل الدّراهم.
أمّا محمّد بن عبد الله بن عمر.. فترك أولادا كراما؛ منهم: شيخ، وعمر، وأحمد، لهم مساع جليلة، وفضائل جميلة، وهم من أخصّ النّاس بأستاذي الأبرّ عيدروس بن عمر، أقاموا عنده بالغرفة مدّة طويلة للأخذ والتّلقّي عنه. توفّي الأوّل بالمسيله سنة (1311 ه)، والآخران بمكّة بعد أداء النّسكين سنة (1310 ه) وولده عبد القادر بن محمّد حيّ يرزق إلى الآن.
وأمّا السّيّد عمر بن عبد الله.. فقد ترك أولادا منهم: المتّفق على صلاحه وتقواه، السّيّد أبو بكر بن عمر، المتوفّى بسربايا سنة (1331 ه).
ومنهم: تاجر الآخرة، المشارك في كثير من فنون العلم، الوالد: أحمد بن عمر بن يحيى، المتوفّى بتريم سنة (1357 ه)، وكان النّاس ينسبونه إلى الشّذوذ؛ لأنّه يسامح في الكبير ويشتدّ في الصّغير، وربّما عزّ عليّ الانفصال عن قولهم: (لأنّه يجود بالألف وقد يضنّ بالدّرهم) وكنت ألوم نفسي، وأستحيي من نظيره حتّى رأيت ما يشبهه في سيرة عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، وحاتم الطّائيّ، وعبد الله بن جعفر. وقال البحتريّ [من الطّويل]:
«يضيق من الأمر اليسير مخافة *** وإن كان أضحى واسع الصّدر واليد»
وله أولاد؛ منهم: ابنه، قرّة العين، المنغّص الشباب محمّد بن أحمد، المتوفّى بتريم في حياة أبيه سنة (1354 ه)، وأخوه الفاضل الأديب عبد الله بن أحمد، يسكن الآن في سنغافورة، وهو الّذي كان يصدر مجلّة (عكاظ) في حضرموت بخطّ اليد، وقد اطّلعت على أعداد منها مليئة بالفوائد.
ولعمري، لقد كانت المسيله منزل علم، ومكرع ريّ، ومهاد تقوى، وعماد شرف، بها رست قواعد المجد، وانبثقت عيون الجود، واستحصفت أسباب المكارم، حتّى لقد وصفها بعضهم بقصيدة قال في مطلعها بحقّ:
«الله أكبر هذه المسيله *** فيها الهدى والنّور والفضيله »
إلّا أنّها تعاورها الظّلمة والنّور، والغمّ والسّرور، ولمّا وصلها الوالد أحمد بن عمر بن يحيى في سنة (1345 ه).. أطلع بوحها، وأعاد روحها، فأثّ نباتها، وانتشر رفاتها، ولكنّه لم يسلم من أذيّة آل تميم مع انتسابهم إليه وإلى أجداده بالخدمة، فغادرها إلى تريم، وكان له بها قصر فخيم، فعادت المسيله إلى الذّبول، وغاب عنها القبول.
«أشلى الزّمان عليها كلّ حادثة *** وفرقة تظلم الدّنيا لنازحها »
«دار أجلّ الهوى عن أن ألمّ بها *** في الرّكب إلّا وعيني من منائحها»
وسيأتي ذكر السّيّد عقيل وأولاده في يشحر.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
61-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (دمح)
دمحاعلم أنّ في جنوب الغرف فضاء واسعا تشرع ـ كما سبق ـ فيه الطّريق إلى سواحل حضرموت والمسيله في شرقيّ الغرف، وذلك الفضاء يمتدّ في جنوبها أيضا. وفي ذلك الفضاء كثير من القرى والمزارع والصّحاري، ولا ينتهي إلّا بالعقبة المسماة ب: عقبة الغزّ على ما نفصّله.
وأوّل ما يكون من ذلك الفضاء يقال له: دمح.
وفي جنوبه جبل شاهق، يمتدّ إلى ما شاء الله في جهة الجنوب، وأمّا من جهة الشّرق.. فإنّه ينقطع حيث ينبسط ذلك الفضاء.
وقد وقع في «الأصل» أنّ هذا الجبل بقرب من السّويريّ، وليس كذلك حسبما أخبرني من أثق به من أهل تلك الجهة أكثر من ثقتي بمن أخبرني بما انبنى عليه كلامي في «الأصل»، ومهما يكن من الأمر.. فلم ينخرم التّدليل به على وجود أهل الرّسّ ببلاد حضرموت؛ لأنّ الغرف والسّويريّ متقاربتان، وعن تقاربهما نشأ غلط من أخبرني أوّلا وقد نقل الميدانيّ عن ابن الكلبيّ: (أنّ لأهل الرّسّ نبيّا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل يقال له: دمخ، مصعده في السّماء ميل) اه
ولئن كان ذاك بالخاء المعجمة وهذا بالمهملة.. فإنّ الأمر قريب جدّا والتصحيف في مثله كثير؛ كما صحّفوا (سر) عن (رس).
وفوق هذا فإنّ الجبل الفاصل بين القعيطيّ والمهريّ بساحل البحر يقال له: دمخ بالخاء المعجمة كما مرّ في المرافىء، والأماكن متقاربة، وكلّها من حضرموت، فالتّدليل ثابت على كلّ حال.
وقال ابن مقبل ـ وكان وصّافا لكثير من الأماكن الحضرميّة [من الكامل] ـ:
«لمن الدّيار بجانب الأمهار *** فبتلّ دمخ أو بسلع حرار»
«خلدت ولم يخلد بها من حلّها *** ذات النّطاق فبرقة الأحفار»
وقال عنترة بن الأخرس الطّائيّ [من الطّويل]:
«لقد حلّقت بالجوّ فتخاء كاسر *** كفتخاء دمخ حلّقت بالحزوّر »
وهو غير دمخ الواقع بالطّائف الّذي يقول فيه مزاحم العقيليّ [من البسيط]:
«حتّى تحوّل دمخا عن مواضعه *** وهضب تربان والجلحاء من طنب »
والأسماء كثيرا ما تتشابه.
وقال حمزة بن الحسن الأصبهانيّ: دمخ: جبل من جبال ضريّه، طوله في السّماء ميل.
وقال طفيل الغنويّ [من الطّويل]:
«ولمّا بدا دمخ وأعرض دونه *** غوارب من رمل تلوح شواكله »
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
62-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (يشحر)
يشحروهو واد ليس بالواسع في جنوب المسيله إلى شرق، فيه عين ماء صغيرة.
كان السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى اشتراه للأمير محسن بن عبد الله بن عليّ العولقيّ، السّابق ذكره في صداع، ثمّ وقفه بتوكيل منه على نفسه وأولاده، وعلى الواردين والصّادرين، والعلماء والمتعلّمين، والفقهاء والمتفقّهين، وفي صيغة الوقف مجال واسع للنّظر، لا سيّما وقد فهم بعض متأخّري العلماء من كلام ابن حجر موافقته للرّمليّ في اشتراط قبول الموقوف عليه المعيّن؛ لأنّه لا يتأتّى من السّيّد عقيل حينئذ الوقف على نفسه، ثمّ القبول، على ما بسطته في «الأصل» من وجه النّظر.
وكان السّيّد عقيل بن عبد الله شهما قويّ النّفس، حميّ الأنف، كما يعرف من قضيّة النّويدرة.
«فتى عنده حسن الثّواب وشرّه *** ومنه الإباء الملح والكرم العذب »
وكان رجل جدّ، وله غرائب؛ منها: أنّه حجّ، وانعقدت بينه وبين ـ المثري الشّهير صاحب الخيرات الكثيرة، والأربطة المعروفة بمكّة وجدّة ـ فرج يسر صداقة متينة، ولمّا عزم السّيّد عقيل على السّفر إلى جاوة بعد أداء النّسكين.. قال له: مثلك لا ينبغي أن يغيب عن حضرموت.
فقال له: لا يمكنني الرّجوع إليها إلّا ببسطة كفّ أستعين بها على حقوق الشّرف والمجد. قال له: كم تؤمّل من جاوة؟ قال: ما أنت وذاك؟
فألحّ عليه، فقال له: لا يمكنني الرّجوع إلى حضرموت إلّا بثمانين ألف ريال.
فأعطاه إيّاها مع ملء مركب شراعيّ من الأرزّ وما يناسبه من البضائع والحبوب، وبمجرّد ما وصل إلى حضرموت.. بنى سدّا للماء في مسيال عدم، كلّفه نحوا من خمسين ألفا من الرّيالات، فاجتاحه السّيل في ليلة واحدة!
وما زال السّيّد عقيل على كسب الجميل، وفعل الجليل، لا يقرّ على ضيم، ولا يلين لقائد، ولمّا لم يجد عند الكثيريّ للنّفع والصّنيع موضعا.. انبرى للمضرّة على حدّ قول عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ـ وكان كما في «طبقات النّحاة» من الفصحاء ـ [من الطّويل]:
«إذا أنت لم تنفع.. فضرّ فإنّما *** يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفعا »
وقال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 415 من مجزوء الرّجز]:
«من معشر لم يخلقوا *** إلّا لنفع وضرر»
وقال كعب الأشقريّ [من الطّويل]:
«رأيت يزيدا جامع الحزم والنّدى *** ولا خير فيمن لا يضرّ وينفع »
وقال حبيب [في «ديوانه» 1 / 400 من الطّويل]:
«ولم أر نفعا عند من ليس ضائرا *** ولم أر ضرّا عند من ليس ينفع »
وقال عديّ بن زيد [من الطّويل]:
«إذا أنت لم تنفع بودّك أهله *** ولم تنك بالبؤس عدوّك فابعد»
وعندئذ قام بفتنة النّويدرة السّابق ذكرها في المسيله.
ومن مكارم عقيل: أنّه وضع عند أبي بسيط أربعين ألف ريال عن مئة ألف ربيّة هولنديّة بمصرف ذلك العهد على سبيل القرض، فلمّا تأخّر شغل أبي بسيط.. كتب له النّاصحون ليتلافى ماله بالسّفر إلى سربايا من أرض جاوة، فلامهم وقال: إنّي أحرج الأوقات أضيّق على صديقي، لو كان مالي بأسره ينفّس عنه ما وقع فيه.. لأعطيته إيّاه.
ثمّ لم أدر ماذا صار، غير أنّ هذا من الشّهامة والوفاء بمكان.
«يا همّة نبلت عن أن يقال لها *** كأنّها وتعالت عن مدى الهمم »
وقد خلّف جملة من الأولاد، أكبرهم: العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عقيل، كانت له حافظة قويّة، واطّلاع تامّ، وإكباب على المطالعة، وكان بدء أمره على اعتدال في التّشيع حتّى لقد دخل العراق في سنة (1330 ه) ومعه السّيّد محمّد بن عليّ الحييد والسّيّد يوسف بن أحمد الزّواوي صاحب مسقط، فلم يرض الشّيعة ولا أهل السّنّة؛ لخروجه عن سمت الفريقين، ولكنّه غلا بالآخرة في تشيّعه حتّى اقترب من سادات الأمّة رضوان الله عليهم، وتأثّر بكلامه كثير ممّن يعزّ علينا انحرافهم، فلقد بعث لي بنسخة من قصيدة سيّرها للإمام الحالي، يقول منها في مدحه [من الكامل]:
«روح مقدّسة وقلب ضمّه *** في قالب التّصوير أحسن هيكل »
ويقول فيها عن أهل البيت:
«برآء من حسد المشوم وغلظة ال *** فظّ الغشوم ومن تقهقر نعثل »
وما أرى هذا التّعريض الفاحش عن عقد قلبيّ ونيّة قطعيّة، وعلّه كان عن ثورة نفسيّة ذهب به الكلام فيها إلى غير ما يريد، وما أصدق قول بديع الزّمان: الكلام مجون، والحديث شجون، واللّفظ قد يوحش وكلّه ود، والشّيء قد يكره وما من فعله بد، والعرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا همّ، وقاتله الله ولا يريدون به الذّمّ، وويل أمّه للمرء إذا أهمّ.
أمّا الإمام حفظه الله: فإنّه لا يعجبه مثل ذلك؛ لأنّه ليس من المتعصّبين، بل هو الّذي اجتثّ عروق التّعصّب من بين الزّيديّة والشّافعيّة حتّى عادوا إخوانا، وسلك فجّه وليّ عهده، وباب مدينة ملكه ومجده: ولده أحمد وولده زين الشّباب المأسوف عليه البدر محمّد.
وأمّا أنا: فقد اتّعظت بغلوّ العلّامة ابن عقيل اتّعاظا حسنا؛ إذ سلمت باستنكاره عن الوقوع في الحمى الّذي لا ينبغي أن يقرب، لا سيّما وحاميه سيّد ولد آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما للقاصرين أمثالنا والدّخول بين المهاجرين الأوّلين وتعريف طبقاتهم وترتيب درجاتهم؟ هيهات! لقد حنّ قدح ليس منها.
وكان العلّامة ابن عقيل قويّ الإرادة، حميّ الأنف، وجرى عليه امتحان بسنغافورة وجاوة.. فلم يزلّ نعله، ولا لان جانبه، وله رحلات ـ حتّى إلى القارّة الأوربيّة ـ بمعيّة أمير الإحسان السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف، وله اتّصال بكثير من أعيان مصر وغيرها. وله مؤلّفات كثيرة، أجمعها وأحبّها إليه الكتاب الموسوم ب «ثمرات المطالعة»، ومنها: «العتب الجميل على أهل الجرح والتّعديل».
غير أنّ الشّيخ الأديب أحمد الحضرانيّ أخبرني عن العبّاديّ الثّقة الّذي كان موظّفا بدار الضّرب في حيدرآباد الدّكن: أنّه ليس له، وإنّما كان من تأليف العلّامة السّيّد أبي بكر بن شهاب، فنزل عنه للعلّامة ابن عقيل، وأنّه كان شاهد ذلك النّزول.
وأنا في شكّ منه؛ أمّا أوّلا: فلأنّ عبارته وموضوعه أمسّ بعبارة ابن عقيل وجديلته، وأمّا ثانيا: فإنّه حصيل مطالعات كثيرة ومراجعات وفيرة لا يصبر عليها شيخنا العلّامة ابن شهاب، وإنّما كان له فهم وقّاد يتيسّر له عفوا معه المراد، والله أعلم.
توفّي السّيّد ابن عقيل بالحديدة سنة (1350 ه)، وقد رثيته بمرثيّة لزوميّة توجد بمكانها من «الدّيوان».
ورثاه جماعة من الأدباء؛ منهم العلّامة الأخ علويّ بن طاهر الحدّاد، والشّاعر المطبوع: أحمد بن عبد الله السّقّاف، والكاتب الشّهير السّيد محمّد بن هاشم بن طاهر، وغيرهم.
وترك أولادا؛ منهم ـ وهو أكبرهم ـ: عيسى، له نكات ونوادر، يسكن الآن بصنعاء. ومنهم: عليّ، شابّ فاضل، كريم الأخلاق، كان كاتم سرّ سيف الإسلام الحسين بن أمير المؤمنين، وكان بمعيّته في سفره إلى أوربّة ثمّ إلى الحجاز، توفّي بصنعاء في سنة (1363 ه).
ومن أولاد السيد عقيل: السّيّد عمر بن عقيل، كان فقيها حكيما، ذا رأي أصيل، وسعي جميل، وخلق حسن، توفّي بالمسيله بإثر حمّى خفيفة جدّا في محرّم سنة (1339 ه)، وشهد دفنه أخوه العلّامة محمّد؛ لأنّه وصل حضرموت في أواخر سنة (1338 ه)، ولم تطل إقامته بعد وفاة أخيه بل عاد إلى مقرّ تجارته.
ولا بأس إذ جرى ذكر الشّيخ فرج يسر من الإشارة إلى سبب ثروته وزوالها؛ لأنّ خبر ذلك طريف جدّا، فقد كان راكبا في أحد المراكب الشّراعيّة، وكان في خلقه حدّة وشراسة، وكان ربّان المركب يحبّ أن يغضبه ويتنادر عليه، فرسى بهم المركب في سيلان وله بها معارف، ومن عادتهم أن لا يقلعوا إلّا بعد شحن البضائع منها وهي تستغرق أيّاما، فكانوا يخرجون للنّزهة صباح كلّ يوم إلى مرسى كلمبو، وهناك يحضر الدّلّالون بالأشياء التّافهة لبيعها بالمزاد، فتواطأ الرّبان مع الحاضرين أن يوقعوا فرج يسر في الشّبكة، فكان المعروض في ذلك اليوم صندوقان خشبيّان أكل الدّهر عليهما وشرب، واعترقت الأرضة ظواهرهما حتّى لم يبق منهما إلّا الرّسوم، إلّا أنّهما لا يزالان مقفلين، فوقعا بتدبير الرّبان عند فرج، فأخذوا يغمزون ويلمزون إلى أن ضاق صدر فرج ـ وسرعان ما يضيق ـ فعاد إلى المركب حزينا، ولمّا كان وسط اللّيل.. عزم على رميهما في البحر، ثمّ ثاب إليه رشده وارتأى أن لا يرميهما حتّى يرى ما فيهما، فعاد بهما إلى مخدعه وفتحهما.. فإذا بهما مشحونان بالأوراق الماليّة من ذوات الألف ربيّة بما يقوّم بعشرات الملايين، فمن ذلك كانت ثروته الّتي لم يقف فيها عند غاية من فعل المكرمات، إلّا أنّ أمرها مخوف، ولا سيّما إن أمكن معرفة أرباب تلك الأموال، فعسى أن لا تمكن معرفتهم إذ ذاك ليكون لها وجه من الحلّ.
ولم يكتف بتلك المبالغ الضّخمة حتّى أخذ يوسّعها بالتّجارة، فاقتنى العدد الكثير من المراكب الشّراعيّة، يمخر بها عباب البحر الهادي والهنديّ والأحمر والأبيض وغيرها، حتّى لقد جهّز في بعض المواسم خمسا وعشرين سفينة هي وما فيها من البضائع.. من أمواله الخالصة. ولمّا جاء الإدبار.. وردته في يوم واحد خمس وعشرون برقيّة، كلّ واحدة بتلف سفينة وما فيها من البضائع، فلم ينكسف باله، ولم يتغيّر حاله. على رواية هذا اتّفق جماعة من معمّري الحديدة في سنة (1340 ه) عن خبرة بحقيقة الأمر؛ إذ كان رباؤه هو بالحديدة، إلّا أنّ في النّفس شيئا من البرقيّات؛ لأنّي لا أدري أكانت متّصلة لذلك العهد أم لا؟
وكان عبدا حبشيّا أعتقه بعض أهل الحديدة، وكانت أمّ السّيّد الجليل عقيل حبشيّة أيضا، فهذا مع عشق المكارم وتحمّل المغارم.. هو الجامع بين الرّجلين.
ومن وراء يشحر إلى جهة الجنوب الغربيّ مكان يقال له:
الصّاري، وهو قرية صغيرة لآل مقيدح الجابريّين، لا يزيد سكّانها الأكرة عن سبعين شخصا.
ثمّ: شريوف، وهو واد أكثر أمواله للسّادة آل عبد الله بن حسين العيدروس والمشايخ الزّبيديّين.
ثمّ: رضيح، وهو واد مبارك، كان للحبيب علويّ بن أحمد العيدروس، ثمّ انقسم بين ورثته، ثمّ استخلص أكثره المنصب السّيّد محمّد بن حسين السّابق ذكره في
تاربه، وكان تحمّل ديونا في الحرب الّتي جرت بسبب مسجد آل بو فطيم، أثقلت كاهله، ولكنّه قضاها من موسم واحد فيه صادف غلاء وسلامة من الجراد الّذي اجتاح أكثر زرع حضرموت في ذلك العام.
وبإثر وفاته استولى إمارة رضيخ ولده المنصب محمّد بن محمّد، وفي أيّامه دخل آل عمّه عبد الله بن حسين بالشّراء من إخوانه إلى ما لأبيهم من ميراث أبيه فيه، فأقلقوا راحته، وجرت بينهم منازعات لا تزال آثارها في نفوس الطّرفين إلى اليوم. وقد قال حبيب [في «ديوانه» (2 / 102) من الكامل]:
«حسد القرابة للقرابة قرحة *** تدمي عواندها وجرح أقدم »
وقد مرّ في الحسيّسة أنّ آل العيدروس ألّفوا جمعيّة أهمّ أغراضها: إصلاح ذات بينهم، ولكنّها لم تفعل شيئا إزاء هذا؛ لأنّ تلك الجمعيّة معقودة بما يهواه السّيّد عبد الله بن حسين العيدروس؛ إذ هو القائم بأكثر كلفتها، وكان متعصّبا على ابن أخيه.. فلم تتداخل جمعيّتهم في ذلك؛ مراعاة لخاطره.
ثمّ حصن ابن ضوبان، لآل جابر، ومنه تنشعب الطّرق، فتذهب طريق إلى النّعر؛ وهو مسيل بين جبلين، تنصبّ فيه المياه من عدّة جبال واسعة.
ومتى ارتفعت عن ذلك المسيل وتسنّمت الجبل.. فأوّل ما تمرّ به.. حرو، وفيه حوض يحفظ الماء مدّة ليست بالطّويلة؛ لأنّه غير مجصّص. ثمّ ريدة الجوهيّين. ثمّ بضي.
وتذهب الأخرى في ذلك الفضاء الواسع توّا. وأوّل ما يمرّ الذّاهب فيها بالرّدود، قرية لا بأس بها للمشايخ الزّبيديّين وآل جابر. ومن الزّبدة بها الآن الشّيخ يسلم بن سعيد.
ثمّ سونه، وهو واد صغير للزّبدة. ثم حكمه، وهو واد آخر أوسع وأكثر عمارة من سونه، لآل جابر وللزّبدة.
وتصعد من وادي حكمه في عقبتها طريق إلى رسب، ومنها إلى عثه عقبة كأداء ينزل منها إلى الأرض المتّصلة بالسّاحل على مسافة يوم للرّاكب المجدّ.
وفي أثناء عقبة حكمه عين صغيرة عذبة باردة.
وفي قطع معيّنة من شراج حكمه تداع بين الزّبدة وابن متيهم، وحاصله: أنّ ابن متيهم باسط ذراعيه على تلك القطع منذ نحو مئة سنة، ومعه خطّ بالقسمة بين الزبدة وبين أبيه، فادّعى الزّبيديّون أنّ يده غاصبة بطريق الشّراحة الظّالمة، وشهد لهم شهود منهم، وصدر لهم حكمان ضدّ ابن متيهم من قاضي تريم لما قبل اليوم بأكثر من عشر سنين، فسئلت عن الحكمين.. فأفتيت ببطلانهما؛ لأنّ الشّهود شهدوا بأنّ فلانا غصب هذه القطع، والحال أنّهم لم يشهدوا زمن الغصب، ومن شرط الشّهادة بالتّسامع في الغصب أن يقول الشّاهد: (أشهد أنّه مغصوب) لا (أنه غصب) ـ بصيغة الفعل الماضي ـ لأنّ هذه صورة كذب؛ لاقتضائه أنّه رأى ذلك وشاهده.
هذا ما قرّره الفقهاء بالاتّفاق، وانضمّ إلى ذلك ما قرّروه في الأيمان أنّ استدامة الغصب ليست بغصب، فالشّهادة باطلة.
ويزيد الحكم الثّاني بأنّ أحد شهوده كان من المدّعين في الأوّل.
ثمّ تكرّرت الأحكام، وخبط القضاة والمستأنفون، واختلفوا.
ومن المدهش: أنّهم لم ينفصلوا عن الاعتراضين اللّذين ذكرتهما بحال، وكأنّهم لا يلجؤون إلى الكرّاس، وإنّما يأخذون ممّا في الرّاس.
وأحيلت القضيّة في الأخير إلى استئناف جديد لا ندري ماذا يفعل. والمسألة مشكلة لا من حيث النّصوص العلميّة، ولكن لاختلاف مشارب أهل النّفوذ؛ فأحدهم يؤيّد الزّبدة، والأخر يؤيّد ابن متيهم والحقّ في ظاهر الأوضاع الشّرعيّة إلى جانب ابن متيهم، وأمّا في باطن الأمر.. فالشّبهة قائمة، والله أعلم.
وفي غربيّ حكمه: واد واسع يقال له: بايوت، يسكنه كثير من آل نهيم الوزيريّين، وغيرهم. ورسب، وهو لآل جابر، ومنذ اثنتي عشرة سنة تعرّضوا
لسيّارة فيها أحد رجال الحكومة الإنكليزيّة فأصابوها بخلل قليل، فحكم عليهم سلطان سيئون غيابيّا بغرامة كثير من البنادق والإبل، فلم يمتثلوا، فأمطرتهم الطّائرات نيرانا أضرّت بحصونهم وعلوبهم، فبخعوا بها وسلّموها صاغرين مظلومين.
ومن وراء حكمه إلى الجنوب: سكدان، يسكنه: آل جابر، وحرّاثون، وسادة من بيت حموده، وناس من آل قعفان، وناس من آل بلحاج، وناس من آل ابن قماش.
ثمّ راوك، للمشايخ آل باوزير. ثمّ غيل عمر، وقد سبق في غيل باوزير أنّ غيل عمر هذا هو أقدم منه، وأوّل من بنى به بيتا الشّيخ عمر بن محمّد بن سالم باوزير، سنة (706 ه)، ثمّ بنى النّاس بعده، ذكره ابن حسّان في «تاريخه».
والشّيخ عمر هذا أحد تلاميذ الشّيخ عبد الله باعلويّ، كما في (ص 186 ج 2) من «المشرع».
والمنازل الّتي يشملها اسم غيل عمر منقسمة بالمسيال:
فالّذي في الشّاطىء الغربيّ منه: الضّبيعة، وفي جنوبها مسجد الشّيخ عمر. والّذي في الشّاطىء الشّرقيّ: الدّلفة. ثمّ الحزم. ثمّ سكدان. ثمّ كوت سرور. ثمّ العرض. ثمّ النّويدرة.
وقد استوخمه كثير من السّكّان فانتقلوا عنه إلى سكدان. وكان فيه أجداد المشايخ آل باسودان، حتّى إنّ بعضهم ينسبه إليهم، فيقول: غيل باسودان.
وربّما يكون المنسوب إلى باسودان ناحية غير النّاحية المنسوبة إلى الشّيخ عمر؛ فالغيل طويل، منبع مياهه من جنوب ساه، ولا ينتهي إلّا بعد مجاوزة سنا، إلّا أنّها تتقطّع؛ ففي أكثر النّقاط تظهر، وفي الكثير تغور.
ثمّ إنّ آل باسودان خرجوا عن العامّيّة وتفقّروا، وأخذوا في طلب العلم حسبما سبق في الخريبة من بلاد دوعن.
ثمّ عرفت أنّهم كانوا حلولا في سكدان، وبذلك ينطق شعر السّيّد عليّ بن حسن العطّاس، ولهم اتّصال بدوعن في أيّام الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ، ثمّ تزوّج فيهم الشّيخ محمّد بن سالم باوزير، فكانوا أخوال ولده عمر المذكور، ولمّا ظهر.. بنى بالغيل وطرد عنه أخواله، فذهبوا إلى دوعن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
63-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الصومعة)
الصّومعةهي مدينة العلويّين ببيت جبير. وهي الّتي سبق في سمل أنّهم انتقلوا منها إليها.
قال الشّلّيّ: (وهي مدينة لطيفة الهواء، عذبة الماء، سكنها جماعة من أعيان ذلك الزّمان، فطاب لهم البقاء، وأسّسوا بها مسجدا، وكان لهم حارة تسمّى: العلويّة) اه
وبها توفّي سيّدنا محمّد بن علويّ بن عبيد الله، ولا يعرف تاريخ موته.
وفيها كانت وفاة ولده علويّ سنة (513 ه)، وكان كريما عظيما ممدّحا، من جملة مادحيه: تلميذه الفقيه يحيى بن عبد العظيم الحاتميّ، المتوفّى بتريم سنة (540 ه)، امتدحه بقصيدة أورد منها صاحب «المشرع» وصاحب «الجوهر» وشارح «العينيّة» وغيرهم منها قوله [من الكامل]:
«هذا قريع العصر وابن قريعه *** ولباب تخت الفخر والتّعظيم »
أمّا ولده عليّ بن علويّ خالع قسم.. فقد انتقل من بيت جبير في سنة (521 ه) إلى تريم، وبها توفّي سنة (529 ه).
وبيت جبير واد واسع، قال الشّلّيّ: كان (كثير المياه والأنهار)، وأنا في شكّ من الأنهار ما لم يعن النّهر الّذي كان يجري في أخدود مسيل سر وعدم؛ فإنّه قريب من شراج بيت جبير، ولكن ما أظنّه ينبسط عليها ولا يسقي شيئا منها في أيّام الشّلّيّ، فما هو إلّا باعتبار الزّمان القديم وقتما كانت حضرموت بأسرها رياضا غنّاء، وجنانا خضراء، ثمّ كان من معن بن زائدة ما كان من سكّ سكر الأنهار، وأعقبه انهيار سدّ سنا، فذوى النّبات واشتدّ الإسنات، ولم يبق إلّا السّيول الّتي يذهب أكثرها ضياعا في وادي بيت جبير؛ لعدم إصلاحه، واندثار أسوامه وضمره.
وقد أخبرني العلّامة الشّيخ فضل بن عبد الله عرفان، عن شيخنا العلّامة الفاضل علويّ بن عبد الرّحمن المشهور: (أنّ أموال بيت جبير صارت من جملة الأموال الضّائعة مرّتين، وأنّ بيت المال قد باعها مرّتين). وهذه فائدة نفيسة نحتاج إليها في كثير من المواضع.
وأكثر مسمّى وادي بيت جبير يدخل بين الجبل الّذي في طريقه إلى الصّومعة والجبل الشّرقيّ الّذي يحاذيه.
وفي بيت جبير قامت دولة الشّيخ عمر بن عبد الله بن مقيص الأحمديّ اليافعيّ بإشارة العلويّين حسبما فصّل ب «الأصل».
واشتروا له حصن مطهّر الواقع بحضيض جبل كحلان في ركنه الشّماليّ على يسار الذّاهب إلى تريم.
وكان لآل مطهّر ناس من يافع، وقد وزّر له العلّامة السّيّد عبد الله بن بو بكر عيديد، الّذي هجاه بعد ذلك بما نقلناه في «الأصل»، وكانت دولته أقصر من ظمء الحمار حتّى لقد صارت مضرب المثل في قصر المدّة، وعمّا قريب يأتي ذكر شراء الدّولة الكثيريّة لهذا الحصن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
64-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل فلوقة)
حصن آل فلّوقةهو قرية واقعة في سفح الجبل المسمّى باعشميل، في جنوب تريم بإزاء الرّملة، إلى شرقيّها، فيصلح عدّها هنا في القرى الّتي بجنوب تريم، ويصلح عدّها في القرى الّتي في شرقيّها، ولكنّي آثرت الأوّل لأتمكّن من كلمات تليق بفضيلة شيخنا العلّامة أبي بكر بن شهاب بمناسبة وجوده فيها مع نشاط الخاطر؛ إذ لا يمكنني أن أبلغ فيه شيئا ممّا أريد في أخبار تريم المقصود مراجيحها بالحظّ الأوفى من قول العلّامة الجليل عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعيّ [من الطّويل]:
«مررت بوادي حضرموت مسلّما *** فألفيته بالبشر مبتسما رحبا»
«وألفيت فيه من جهابذة العلا *** أكابر لا يلفون شرقا ولا غربا»
وقد سمعت كثيرا من الشّيوخ وأهل العلم يقولون: (إنّ هذا كان جواب الشّيخ لمّا سأله أبوه عن أهل حضرموت)، وهو وهم ظاهر؛ لأنّ وفاة الشّيخ عبد الله بن أسعد كانت في سنة (768 ه)، ووفادة ولده إلى حضرموت إنّما كانت في سنة (794 ه) كما ذكره شنبل.
وسيأتي عن بامخرمة في تريم أنّ صاحب القصّة إنّما هو عليّ بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد، ولكنّ كلام شنبل أثبت؛ لأنّه أعرف بحضرموت وأخبارها.
ولد شيخنا ـ الّذي لا حاجة إلى ذكر اطّراد نسبه؛ لغناه عنه بشهرته، كما قال المتنبّي [في «العكبريّ» 1 / 176 من البسيط]:
«يا أيّها الملك الغاني بتسمية *** في الشّرق والغرب عن وصف وتلقيب »
في تلك القرية سنة (1262 ه)، ودرج بين أحضان العناية، وشبّ محفوفا بالرّعاية، وكان في صفاء الذّهن وحدّة الفهم آية، نعس مرّة بين أصحاب له ـ منهم السّيّد الشّهير عليّ بن محمّد الحبشيّ ـ يقرؤون في الفرائض فعاتبه أحدهم، فسرد لهم ما كانوا فيه! ثمّ صبّحهم من اليوم الثّاني بمنظومته الموسومة ب: «ذريعة النّاهض» وقد أخذ قوله في آخرها [من الرّجز]:
«وعذر من لم يبلغ العشرينا *** يقبل عند النّاس أجمعينا»
من قول صاحب «السّلّم» [في البيت 138 من الرّجز]:
«ولبني إحدى وعشرين سنه *** معذرة مقبولة مستحسنه »
وجرى الاختلاف بمحضر شيخنا المشهور فيما لو اختلف الماء وزنا ومساحة بماذا يكون الاعتبار في القلّتين؟ فنظم على البديهة سؤالا سيّره لمفتي زبيد السّيّد داود حجر فعاد الجواب على غرار ذلك النّظم مصرّحا باعتبار المساحة.
وقد ذكر شيخنا المسألة في «البغية»، ولكنّه لم يشر إلى ما كان واقعا من القصّة، وامتحنت شاعريّته في حضرة الشّريف عبد الله بمكّة المشرّفة، فخرج كما يخرج الذّهب التبر من كير الصّائغ؛ إذ أنشأ في المجلس من لسان القلم أكثر ممّا اقترحوه عليه.
وفي «ديوانه» عدّة قصائد بهيئة الأرتقيّات في مديح خديوي مصر الجليل توفيق باشا، وزعم جامعو «ديوانه» أنّه لم يقدّمها إليه، وأنا لا أصدّق ذلك؛ لخروجه عن الطّبيعة الغالبة؛ إذ قلّما ينجز الشّاعر قصيدته إلّا كانت في صدره ولولة لا تهدأ إلّا بإظهارها، فالظّاهر أنّه قدّمها ولكنّها لم تحظ بالقبول، وقد قيل لأرسطو: إنّ أهل أنطاكيّة لم يقبلوا كلامك.. قال: لا يهمّني قبولهم، وإنّما يهمّني أن يكون صوابا.
وللعلّامة ابن شهاب أسوة بسابقيه من الفحول، فقد اقشعرّ بطن مصر بأراكين القريض؛ كحبيب وأبي عبادة، ولم ينج المتنبّي إلّا بجريعة الذّقن حسبما قرّرته في «النّجم المضي».
وأخبار العلّامة ابن شهاب أكثر من أن يتّسع لها المجال، وهو الّذي مهّد له الصّواب، وأطلق الخطاب، وألين القول، وأطيل الجول.
«كأنّ كلام النّاس جمّع حوله *** فأطلق في إحسانه يتخيّر »
لقد أخذ قصب السّبق، ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.
أمّا في الفقه.. فكثير من يفوقه من السّابقين، بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي: علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، وشيخان بن محمّد الحبشيّ، ومحمّد بن عثمان بن عبد الله بن يحيى من اللّاحقين.
وأمّا في التّفسير والحديث.. فلا أدري.
وأمّا في الأصلين، وعلم المعقول، وعلوم الأدب والعربيّة، وقرض الشّعر ونقده.. فهو نقطة بيكارها، وله فيها الرّتبة الّتي لا سبيل إلى إنكارها.
وقد رأينا أشعار إمام الإباضيّة، والشّيخ سالم بافضل، وابن عقبة، وعبد المعطي، وعبد الصّمد، ومطالع القطب الحدّاد الرّائعة، ومنقّحات العلّامة ابن مصطفى الشّاعرة، فضلا عمّن دونهم.. فلم نر أحدا يفري فريه، ولا يمتح بغربه، ولا يسعى بقدمه، والآثار شاهدة والمؤلّفات والأشعار ناطقة.
«مجد تلوح حجوله وفضيلة *** لك سافر والحقّ لا يتلثّم »
أما إنّ كلامه ليسوق القلوب النّافرة أحسن مساق، ويستصرف الأبصار الجامحة كما تستصرف الألحاظ العشّاق.
«ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته *** ويصبح الحاسد الغضبان يرويها »
ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان، والإجماع على فضل ذلك الإنسان، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه، فلا يزال يكرّر إنشادها، ويطنب فيمن شادها، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف.. قال له: دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام، لن يفوتك ما أنت فيه.
ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب، واللّؤلؤ الرّطب، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 86 من الطّويل]:
«ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره *** وأحسن من يسر تلقّاه معدم »
وكلّ من القوم ضارب بذقنه، أو باسط ذراعيه بالوصيد، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.
وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال.. فلا أكذب الله: كلّ من بعده عليه عيال، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة.. إنّما هو بفضله؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.
«وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه *** نقفو ضياء الكوكب الوقّاد »
وكان يحسد حسدا شديدا، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» 1 / 14 من الكامل]:
«فنيت أحاديث النّفوس بذكرها *** وأفاق كلّ منافس وحسود»
ولكن من قوّة نفسه ومغالاته بها، وما يصحبه من التّوفيق في الإصلاح؛ فإنّه لا يهيب بمشكل إلّا انحلّ، ولا ينبري لمعضل إلّا اضمحلّ.
«فأرى الأمور المشكلات تمزّقت *** ظلماتها عن رأيه المستوقد »
ومع تألّب الأعداء عليه من كلّ صوب.. تخلّص منهم قائبة من قوب، ووقي شرّهم وقيّا، وما زادوه إلّا رقيّا، فانطبق عليهم قول حبيب [في «ديوانه» 2 / 103 من الكامل]:
«ولقد أردتم أن تزيلوا عزّه *** فإذا (أبان) قد رسى و (يلملم) »
وهو محبوب بعد لدى فحول الرّجال وأئمة أهل الكمال، كسيّدي الجدّ، والأستاذ الأبرّ، والحبيب أحمد بن محمّد المحضار، والحبيب عليّ بن حسن الحدّاد، والحبيب عمر بن حسن الحدّاد، والحبيب محمّد بن إبراهيم، وأمثالهم. وقد قال الأوّل [من الطّويل]:
«إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا عليّ لئامها»
وله رحلات كثيرة، أولاها سنة (1286 ه) إلى الحجاز، ثمّ عاد إلى تريم، وفي سنة (1288 ه) ركب إلى عدن واتّصل بأمراء لحج ومدحهم، وزعم بعض النّاس أنّه كان يعنيهم بقصيدته المستهلّة بقوله [في «ديوانه» (93 ـ 95) من الوافر]:
«ذهبت من الغريب بكلّ مذهب *** وملت إلى النّسيب وكان أنسب »
وأنا في شكّ من ذلك؛ لأنّ له فيهم بعدها غرر القصائد، ومنها قوله [من الطّويل]
«هو الحيّ إن بلّغته فانزل الحانا *** وحيّ الألى تلقاهم فيه سكّانا»
على أنّ للإنسان لسانا في الغضب غير لسانه في الرّضا، وقد قال الأوّل [من الطّويل]
«هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته *** وما زالت الأشراف تهجى وتمدح »
ثمّ إنّ المترجم ركب من عدن إلى جاوة وأقام بها نحوا من أربع سنين، ثمّ عاد إلى الغنّاء في سنة (1292 ه)، وثمّ نجمت فتنة النّويدرة وكان له أفضل السّعي في إخمادها ونجح، ثمّ اشتدّ عليه الأذى فهجر حضرموت سنة (1302 ه)، وهي الرّحلة الّتي يقول عند رجوعه منها [من الطّويل]:
«ثلاثون عاما بالبعاد طويتها *** وكم أمل في طيّ أيّامها انطوى »
«وها عودتي لمّا أتيحت نويتها *** عسى وعسى أن ليس من بعدها نوى »
ولمّا قدم إلى تريم في سنة (1331 ه).. هنّأته بقصيدة نكر منها بعض أهل العلم بتريم أبياتا، فقال لي السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله الكاف: أتحبّ أن يبحث معك إخوانك في أبيات أنكروها من قصيدتك؟ فقلت له: نعم، بكلّ مسرّة وفرح.
فأقبل العلّامة السّيّد حسن بن علويّ بن شهاب ـ لأنّهم نصّبوه إذ ذاك للرّياسة العلميّة بتريم لينافس الوالد أبا بكر ابن شهاب في عشرين من علية طلّاب العلم، فيهم العلّامة عليّ بن زين الهادي، ولم أكره حضور أحد سواه؛ لما اشتهر به من الحدّة، فخشيت أن يخرج بنا الجدال عن اللّياقة، وما فرغنا من المناقشة.. إلّا وقد رجعوا إلى كلامي، وأوّل من انحاز إلى جانبي هو السّيّد عليّ بن زين الهادي مصداق أنّ الحدّة تعتري الأخيار.. فكان من خيار المنصفين، فهابه من رام المغالطة.
وما أنا في هذا بمجازف ولا كاذب، ولا أستشهد على طول الزّمان بميت ولا غائب؛ فقد بقي السّيّد يوسف بن عبد الله المشهور ممّن حضر ذلك البحث فليسأله من أحبّ.
وموضوع المناقشة أنّني عرّضت ـ في تلك القصيدة ـ ببعض من يعزّ عليهم ممّن غيّر منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. لم يسعهم إلّا الإذعان، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».
وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب.. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» 45 من الطّويل]:
«فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب »
«وليت الّذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب »
فجمعت يدي منه على دين ثابت، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.
ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين، واستجهرني جمالهما، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر، وأفقت من دهشة الإعجاب به.. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية»؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.
وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك، وقد ذكرت في «العود» [2 / 259] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط]:
«شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر *** ليت المؤمّل لم يخلق له بصر»
وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» 226 من الطّويل]:
«قضاها لغيري وابتلاني بحبّها *** فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا»
وقال عمر بن أبي ربيعة لكثيّر: أخبرني عن قولك لنفسك ولحبيبتك [في «ديوان كثير» 47 ـ 48 من الطّويل]:
«ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة *** بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب »
«كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي وأجرب »
«إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب »
«وددت وبيت الله أنّك بكرة *** هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب »
«نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا *** فلا هوّ يرعانا ولا نحن نطلب »
ويلك! تمنّيت لها الزّفّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ! ! فأيّ مكروه لم تتمنّه لكما؟ أما والله لقد أصابها منك قول الأوّل: (مودّة الأحمق.. شرّ من معاداة العاقل).
وعاتبته عزّة على ذلك، ومعاذ الله أن يسلموا من سوء العاقبة.
وما وقع فيه أبو فراس لا ينقص ـ إن لم يزد ـ على ما تمنّاه كثيّر، وسبق في ذي أصبح أنّ جدّي المحسن كان يقول: ما نعني بالأسماع والأبصار عند ما ندعو بحفظها إلّا حسن بن صالح وأحمد بن عمر وعبد الله بن حسين، ولكنّه أضرّ بالآخرة، ومثله المترجم.. فلا بعد أن يكون من تلك البابة.
كما تبت عن الدّعاء بقول سيّدنا عمر بن الخطّاب: (بل أغناني الله عنهم)، لما قيل له: (نفعك بنوك)، وكنت أستحسنه وأدعو بمقتضاه، حتّى تفطّنت لما فيه، ورأيت أنّ أبناء ابن الخطّاب لم يكونوا هناك، وليس هو بأفضل من العبد الصّالح إذ عوقب على قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) كما جاء في الحديث.
بعد هذا كلّه ذهبت النّشوة، وانجابت الغفوة، وظهر ما تحته من الهفوة.
وفي رواية عن الشّافعيّ: أنّه لا يحبّ أن يقال في التّعزية: أعظم الله أجرك؛ لما في طيّه من الاستكثار من المصائب، فسحبت عندئذ ما كان منّي من استحسان ذلك، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها.
وما أشدّ ما يسيء هؤلاء الشّعراء الأدب ويقلّون الحياء؛ فمثل كلام أبي فراس لا يليق بخطاب المخلوق، ومن ثمّ صرفه المفتونون بجماله إلى خطاب الخالق غفلة عمّا فيه من التّعرّض للبلاء المنهيّ عن مثله، وكمثله قول البحتريّ للفتح بن خاقان [من الطّويل]:
«ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لو لا محبّتك الفقر»
وقد صرفته إلى الباري عزّ وجلّ في قصيدة إلهيّة جرى لي فيها حديث لا أملّ به، فأرجو أن لا يلحقني بأس بعد؛ إذ لا يحسن غير المأثور، وقد فتن الرّضيّ بهذا البيت، وأغار عليه فلم يحسن الاتّباع حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 541 من الطّويل]:
«فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى *** ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر»
ومن الغلوّ الممقوت قول ابن هانىء الأندلسّي [من البسيط]:
«أتبعته فكرتي حتّى إذا بلغت *** غاياتها بين تصويب وتصعيد»
«أبصرت موضع برهان يلوح وما *** أبصرت موضع تكييف وتحديد»
ولقد احترست حين تمثّلت في ذي أصبح ببيت من شعر المتنبّي لا يخلو عن الغلوّ، على أنّ الرّوح لا تنفد فلا ينفد وصفها.
ومن التّرّهات الممقوتة أيضا: قول أبي عبد الله الخليع، يخاطب أحمد بن طولون المتوفّى سنة (270 ه) [من الكامل]:
«أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر *** أنا جائع أنا راجل أنا عاري »
«هي ستّة وأنا الضّمين لنصفها *** فكن الضّمين لنصفها بعيار»
ولذا نقلهما كسابقيهما أهل الحقّ إلى خطاب الباري عزّ وجلّ، وأبدلوا قافية الثّاني ب «ياباري» فكانت أعذب وأطيب.
وكنت معجبا بمختارات حافظ، ومع ذلك.. فإنّي أفضّل عليه الأستاذ، حتّى قلت
له مرّة: ألست أشعر منه؟ قال: أينك عن قوله [في «ديوانه» 2 / 161 من البسيط]:
«إنّي أرى وفؤادي ليس يكذبني *** روحا يحفّ بها الإجلال والعظم »
«أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا *** أرى محيّا يحيّيني ويبتسم »
«الله أكبر هذا الوجه نعرفه *** هذا فتى النّيل هذا المفرد العلم »
وقوله [في «ديوانه» 1 / 289 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
ولهذا حديث مبسوط في «العود الهنديّ» [2 / 40].
أمّا شوقي: فلم أقرأ شعره إلّا بعد ذلك، فلم يكن عندي شيئا في جانب جيّد حافظ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلّا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق، بدون حقّ، حسبما فصّلته بدلائله في «العود الهنديّ».
وبقي عليّ أن أشير إلى ما اجتمع للأستاذ من الشّدّة واللّين، والشّمم والإباء، ودماثة الأخلاق، وطوع الجانب، وحلاوة الغريزة.
«قسا فالأسد تهرب من قواه *** ورقّ فنحن نخشى أن يذوبا »
وما أظنّ العلّامة ابن شهاب إلّا على رأيي فيه، وإلّا.. لذكره لي وأثنى عليه، ولا أنكر أنّ له محاسن، لكنّهم رفعوه عن مستواها إلى مالا يستحقّ، وكان ابن شهاب يتشيّع، لكن بدون غلوّ، بل لقد اعتدل اعتدالا حسنا جميلا بعقب زيارته لحضرموت واطّلاعه على «الرّوض الباسم»، ورسائل الإمام يحيى بن حمزة، وكان قلمه أقوى من لسانه، أمّا لسانه مع فرط تواضعه ولطف ديدنه.. فإنّك لا تكاد تعرف أنّه هو الّذي ملأ سمع الأرض وبصرها إلّا إذا سئل فتفتّح عن ثبج بحر جيّاش الغوارب.
«إذا قال.. لم يترك مقالا لقائل *** بمبتدعات لا ترى بينها فصلا »
«كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع *** لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا»
والأدلّة حاضرة، وما بين العينين لا يوصف، ولهو الأحقّ من القزّاز القيروانيّ بقول يعلى بن إبراهيم فيه [من الكامل]:
«أبدا على طرف اللّسان جوابه *** فكأنّما هو دفعة من صيّب »
وقد عرفت من قوله في حافظ.. أنّه من سادات المنصفين، ولي معه من ذلك ما يؤكّده، وقد ذكرت بعضه في خطبة الجزء الثّاني من «الديوان».
وفي سنة (1334 ه) توجّه من حضرموت إلى الهند ليقطع علائقه منها ويبيع دارا له بها، وبينا هو يجمع متاعه للسّفر النّهائيّ إلى مسقط رأسه، ومربع أناسه الّذي لا يزال يحنّ إليه بما يذيب الجماد، ويفتّت الأكباد؛ كقوله [في «ديوانه» 187 من البسيط]:
«بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى *** أوطانه وسهام البين ترشقه »
«إلى العرانين من أقرانه وإلى *** حديثهم عبرات الشّوق تخنقه »
.. إذ وافانا نعيه في جمادى الآخرة من سنة (1341 ه).
«فضاقت بنا الأرض الفضاء كأنّما *** تصعّدنا أركانها وتجول »
فاشتدّ الأسى، ولم تنفع عسى، وكادت الأرض تميد، لموت ذلك العميد، وطفق النّاس زمانا.
«يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا *** ويبكي عليه الجود والعلم والشّعر »
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
65-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحاوي)
الحاوي:هو قرية صغيرة في شرقيّ تريم، كانت منفصلة عنها، ولكنّها أدخلت في سورها الّذي بناه الأمير سالم بن عبود بن سالم الكثيريّ في سنة (1330 ه) وقتما كان على إمارتها، وقد أنفق فيه أموالا جزيلة، استدان بعضها من أخيه بدر بن عبود على ضوء وعد من السّلطان محسن بن غالب وأغنياء تريم بالوفاء، فلم يفعلوا، فانظلم سالم وظلم أخاه.
وكان بالحاوي جماعة من آل الجفريّ سكنوها قبل أن ينزل بها الحدّاد، وكان السّيّد علويّ بن شيخ بن حسن بن علويّ الجفريّ مؤاخيا للقطب الحدّاد، وصهر الحدّاد إلى السّيّد حسن بن علويّ الجفريّ على بنته.
ومن آل الجفريّ السّيّد الشّهير شيخ بن محمّد بن شيخ الجفريّ، صاحب مليبار؛ فقد وصل الحاوي سنة (1187 ه)، وأخذ عن العلّامة الحسن بن عبد الله الحدّاد، وبدأ به في الأرجوزة التي نظمها في الإسناد، وشرحها بكتابه المسمّى: «كنز البراهين».
وكان بالحاوي بيت ومسجد صغير للحبيب عمر بن أحمد المنفّر، وهو جدّ الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد الغاني بتسميته عن كلّ وصف؛ إذ كان كما قيل [من الوافر]:
«وكان من العلوم بحيث يقضى *** له من كلّ فنّ بالجميع »
فلا حاجة للإطناب والآثار ناطقة بفضله، والإجماع منعقد على تقديمه.
وفي سنة (1083 ه) ابتنى الحبيب الحدّاد داره بالحاوي وبقي يتراوح بينه وبين داره بتريم.
وفي سنة (1099 ه) ـ وهي سنة ميلاد ابنه الحسن ـ استوطنه صيفا وشتاء، وانتشرت علومه في البلاد، وأخذ عنه الحاضر والباد.
ولنا إليه طرق كثيرة؛ من أقربها: أنّني أخذت عن السّيّد محمّد بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى سنة (1307 ه) عن مئة وخمسة عشر عاما، وهو أخذ عن أبيه عن جدّه عن القطب الحدّاد.
وأخذ السّيّد محمّد أيضا عن العلّامة الجليل أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وأدرك من زمانه اثني عشر عاما.
والحبيب أحمد أخذ عن جدّه القطب الحدّاد، وأدرك من زمانه خمس سنين.
ومنها: أنّني أخذت عن الحبيب المعمّر محمّد بن إبراهيم بلفقيه، وهو أخذ عن عمّه الحبيب عيدروس، وهو أخذ عن الأستاذ عبد الله بن علويّ الحدّاد.
وكان السّلطان ياقوت يهدي للقطب الحدّاد الأكسية الفاخرة والشّالات المثمنة والعمائم الّتي تبلغ ثمانين ذراعا في عرض ذراع ونصف، وإن كانوا ليلوونها اثنتي عشرة ليّة، ثمّ يدخلونها الخاتم فتمرّ فيه، وكان يعطي بعضها لابنه الحسن فيلبسها؛ لولعه في شبابه بالثّياب الفاخرة، ولكنّه لمّا عاد من الحجّ في سنة (1148 ه).. اخشوشن، فلم يلبس إلّا الخوذة والبثت ـ من غزل الحاوي والسّبير ـ فوق الشّقة، ويقتصر في البيت على الشقّة والكوفيّة البيضاء المخرّمة، ويلبس العمامة للجمعة مع السّروال والقميص، ويلبس البثت من فوق القميص.
وفي أخباره ـ أعني الحسن بن الحدّاد ـ أنّه ترك الرّداء رأسا بعد رجوعه من الحجّ، وذكر الشّيخ عمر بن عوض شيبان عن سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر أنّه يقول: كانت الطّبقة الّتي قبلنا يكتفون بالقمصان الحضرميّة، وقليل من الأعيان من تكون عنده مصدّرة بثت، وأمّا الجبب.. فلا يلبسونها إلّا في الأعياد.
توفّي سيّدنا عبد الله بن علويّ الحدّاد في سنة (1132 ه) عن ثمان وثمانين سنة إلّا ثلاثة أشهر، وخلّف عدّة أولاد وبنات، وهم: علويّ وحسن وزين وحسين وسالم ومحمّد، وكلّهم أسنّ من الحسن إلّا زينا؛ فإنّه بعده.
وقام في مقامه بأمره ولداه علويّ وحسن؛ إذ قال لهما في حياته: (أقمتكما مقامي وأنبتكما عنّي)، ونزل لهما في آخر عمره عن إمامة الصّلاة، فكان يؤمّه علويّ إن
حضر، وحسن إن غاب، غير أنّ أكثر إقامة علويّ وأولاده بالسّبير.
وكان الحسن لا يفارقه؛ فهو الّذي تكثر إمامته له، وإذا زاروا هودا عليه السّلام.. كان الّذي يسلّم بالنّاس عند البير: علويّ، وعند الضّريح: الحسن.
وكان هو الّذي يحمل عن أبيه عامّة أمره في أيّام حياته، وذكر السّيّد علويّ بن أحمد: أنّ السّيّد محمّدا الجفريّ وزين العابدين الحبشيّ وسائر الدّرسة تأخّروا عن الحضور على علويّ بعد والده؛ لأنّه لم يدرّس في حياة أبيه، ولمّا رأى الحسن تثاقلهم عن دروس أخيه.. حضر عنده وأتمّ عليه «سنن أبي داود» الّتي مات والده في أثناء قراءته إيّاها عليه، وأراد السّيّد زين العابدين أن يعمل قبّة على ضريح القطب الحدّاد، فمنعه آل العيدروس، وأمّا الصّندوق.. فقد استوفينا قصّته في «الأصل».
وعن السّيّد حسين بن محمّد بن القطب الحدّاد أنّه قال: سمعت ناسا من تريم ـ منهم السّيّد شيخ بن محمّد بن شهاب ـ يقول: لو لا حسن.. لما قام منصب آل الحدّاد، لا يقدر علويّ ولا غيره على ما تحمّله حسن؛ لأنّ الحسين توفّي والده وهو مريض، وزين صغير، وعلويّ مائل عن تدبير ما النّاس فيه، وإنّما هو صاحب عبادة، وأمّا الحسن.. فقد جمع العلم والعمل والفتوّة ورجاحة الرّأي.
توفّي الحسن بن عبد الله الحدّاد في سنة (1188 ه) عن تسعين عاما إلّا تسعة أشهر، وقام في مقامه ابنه العالي المنار، الجليل المقدار: أحمد بن حسن، إلّا أنّه لم يسلم من منازعة السّيّد عليّ بن علويّ بن القطب الحدّاد له، غير أنّه توفّي وشيكا في سنة (1189 ه).
واستقلّ بعده الحبيب أحمد بن حسن بالمنصب، وكان أهلا؛ لتمام كفاءته، وهو صاحب العلوم الزّاخرة، والمؤلّفات الشهيرة، وأكثرها فائدة وأجملها عائدة: «سفينة الأرباح» في مجلّدات ثلاثة كبار.
وقد جاء في «المواهب والمنن» الّذي استعنت به في الموضوع: أنّه ـ أعني مؤلّفه الحبيب علويّ بن أحمد بن حسن ـ قرأ «سفينة الأرباح» على جدّه الحسن.
وجاء فيه أيضا: أنّ للحبيب حسن «سفينة» لا نظير لها في كلّ فنّ من العلوم النّافعة، غرقت فيما غرق على الحبيب أحمد بن حسن حينما انكسر به المركب في حجّه سنة (1157 ه)، فعمل «سفينة الأرباح» على غرارها.
وذكر الحبيب علويّ بن أحمد بن حسن: أنّ من نظم والده في حادثة الغرق قوله [من الطّويل]:
«لك الحمد أمّا ما نحبّ فلا نرى *** ونسمع ما لا نشتهي.. فلك الحمد»
وهو صريح في أنّ الحبيب علويّ بن أحمد قرأ ما ألّفه أبوه من «سفينة الأرباح» على جدّه بعدما غرقت «سفينته»، لكنّ العجب العجاب أنّ الحبيب أحمد لم يشر في خطبة «سفينته» إلى ما كان من تأليف والده! ولا بدّ أن يثقل على الحسن إغفال ابنه لذكره.
ومن مؤلّفاته: فتاواه المسمّاة: «القول الصّواب»، وشرح على راتب جدّه سمّاه: «سبيل الهداية والرّشاد»، ومنسك في الحجّ، و «الفوائد السّنيّة في تريم وحضرموت وما خصّ به السّادة العلويّة»، وهو الّذي حرّر «تثبيت الفؤاد» ورتّبه في نحو أربعين كرّاسا. ثمّ رأيت العجلونيّ المتوفّى سنة (1162 ه) يعزو البيت السّابق وهو: (لك الحمد أما ما نحب) إلخ للمتنبي، وهو مخطىء في ذلك، كما أنّ الحبيب علويّ بن أحمد لم يصب في عزوه لوالده، وإنّما قاله متمثّلا.
توفّي الحبيب أحمد بن حسن في سنة (1204 ه) عن سبع وسبعين عاما.
وخلفه ابنه عمر بن أحمد، وكان علّامة فاضلا، توفي سنة (1226 ه).
وخلفه أخوه حسين بن أحمد بن حسن وكان فاضلا سخيّا، وجد سنة (1180 ه) وتوفّي سنة (1248 ه).
وخلفه ابنه حسن بن حسين، وكان من أهل الفضل والعلم، وجد سنة (1205 ه) وتوفّي سنة (1284 ه).
وخلفه ابنه عليّ بن حسن، وكان جليل القدر عظيم الخطر، معظّما عند النّاس،
وله هيبة في الصّدور، توفّي سنة (1309 ه)، وكان ولده العالم النّاسك المتبتّل عبد الله بن عليّ غائبا بجاوة، ولكنّه وصل على وشك انقضاء أجل أبيه، ثمّ عاد إلى جاوة سريعا، فكأنّما كان على ميعاد من موت والده، ولمّا فرغ من أمره.. انقلب على إثره.
وقد أحضرني عليه والدي في قدمته تلك فقرأت عليه، وألبسني، وشابكني، وأجازني، كما قد استجاز لي من والده عليّ بن حسن، واجتمعت به ـ أعني الحبيب عبد الله ـ بمنزله في جاوة أوائل سنة (1330 ه)، وكان صادعا بالحقّ، شديدا على أهل الجاه والرّئاسة من العلويّين، وطالما احتجب عنهم وردّهم عن بابه، توفّي ببانقيل من أرض جاوة في سنة (1331 ه).
وأمّا الّذي خلف على المنصب بعد السّيّد عليّ بن حسن الحدّاد.. فهو السّيّد عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد، وكان شهما فاضلا عالي الهمّة قويّ النّفس، توفّي بخلع راشد في القعدة من سنة (1313 ه).
وخلفه الحبيب حسن بن عمر بن حسن بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد، وكان أبيض القلب، كثير التّواضع، صادق الإخاء لوالدي، توفّي في القعدة من سنة (1322 ه).
وخلفه ولده عليّ بن حسن، وكان شهما كريما، فحصلت عليه أذيّة من آل تريم، فركب إلى جاوة، وكان آخر العهد به.
وخلفه على المنصب أخوه عبد القادر بن حسن، وتوفّي في محرّم من سنة (1352 ه).
وخلفه السّيّد عبد الله بن محمّد بن أبي بكر بن محمّد الحدّاد، وتوفّي في جمادى الآخرة سنة (1353 ه).
وخلفه السّيّد عيسى بن عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد الحدّاد إلى أن توفّي في رجب من سنة (1354 ه).
وخلفه أخوه عبد الله، ثمّ تنازع هو وأبناء أخيه عيسى، فانفصل عن المنصب وابتنى له دارا في غربيّ خلع راشد، غرس حولها كثيرا من النّخل وتديّرها مع تردّده إلى الحاوي بتريم.
وخلفه على المنصب الولد حسن بن عليّ بن حسن بن عمر بن حسن الحدّاد، فهو الّذي عليه اليوم، ولكنّه مضغوط عليه كسائر المناصب بسبب اشتداد ركن الدّولة الكثيريّة بالإنكليز.
وفي الحاوي جماعة من آل باسالم، قال الحبيب عمر بن حسن: (كان جدّ عمر بن عبد الله جدّ آل باسالم من المغرب يكاتب الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد، ثمّ وصل حضرموت وتزوّج بها. وآل باسالم تطول أعمارهم زائدا على النّاس).
ومن كلام الحبيب عمر بن حسن أيضا: (أنّ الحبيب عبد الله الحدّاد عنده ستّة أولاد، يلازمه منهم اثنان أو ثلاثة، والباقون يسكن بعضهم الحاوي، وبعضهم بقي بتريم، وهو يترك حبالهم على غواربهم، فيسافرون حيث شاؤوا، وأكبرهم محمّد. وكلّ من تزوّج من أولاد الحبيب عبد الله.. بنى له دارا لا تصل نفقتها إلى عشرين ريالا، ويقول له: اسكنها، وهو يواسيهم) اه
وكذلك كان سيّدي الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر، إذا زوّج أحد أولاده.. أفرده بدار وأعطاه بقرة وحمارا وسائر آلات الحرث ونفقة خمسة أشهر، وقال له: أنت بالخيار؛ إن شئت.. جعلتني أبا، وإن شئت.. جعلتني أخا، وإن شئت.. جعلتني كواحد من المسلمين.
وكان الحبيب عمر بن حسن الحدّاد من خيار العلويّين وصلحائهم، وكان كآبائه وأقربائه يسكن الحاوي، ثمّ حدث بينه وبين المنصب الحبيب عليّ بن حسن بن حسين شجار على خادمة منعها الحبيب عليّ عن الخدمة في بيت الحبيب عمر، فانتقل إلى نويدرة تريم، ولم يزل بها على العلم والعبادة حتّى توفّي ظهر الأربعاء (23) ذي الحجّة الحرام من سنة (1308 ه) أي: قبل وفاة الحبيب عليّ بن حسن بمديدة قصيرة.
ومن «المواهب والمنن»: أنّ فساد يافع زاد في سنة (1179 ه).
ومنها: أنّ محسن بن عمر بن جعفر نهب دمّون وضواحي تريم، فجاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم يقول للحسن بن عبد الله الحدّاد: (ما بقي لأحد جاه عند هذا الظّالم غيرك؛ فإن شفعت في ردّ أموال المساكين، وإلّا.. فالإثم عليك)، فتوجّه إليه فيها.. فردّها.
ومنها: عن الحبيب عمر بن زين بن سميط: أنّه سمع بعض السّادة من تريم يفضّل الحسن بن عبد الله على العلّامتين: عبد الرّحمن بن عبد الله بن أحمد بلفقيه وطاهر بن محمّد بن هاشم.
ومنها: أنّ السّلطان صالح بن ناصر بن أحمد الرّصّاص همّ بالخروج إلى حضرموت، ثمّ انثنى، ثمّ عزم بعد، فضلّ في الرّمل عتاده من البارود والرّصاص، وتفرّق شمل أصحابه وكثر فيهم الموت والمرض، وعاد خائبا.
ومنها: أنّ الحبيب حسنا خرج هو وأولاده وقرابته وأتباعه إلى بيت جبير فذهب أحد أحفاده ومعه الخدم يأمرهم أن يجمعوا القضب من الآبار الّتي حواليه لمراكيبهم، والمتبادر أنّهم يأخذونها ـ على عادة المناصب ـ بدون مقابل، وهو من المشكلات؛ كمثل ما سبق في المبحث الثّالث من الحسيّسة، إلّا أن يقال: إنّها مرصودة للمصالح فتلزم مواساتها؛ بآية أنّهم لا يأخذون إلّا للخيل، فقد يحتمل، إلّا أنّه من البعيد أن تكون مراكيب الحسن وأتباعه خيلا كلّها مع كثرة الخيل إذ ذاك بحضرموت؛ فقد كان السّلطان عيسى بن بدر يزور القطب الحدّاد في أربعين عنانا، وكان فراش مدرسة القطب الحدّاد بالحاوي حصيرا من دون وسادة، وأمّا في منزله.. فسجادة عليها وسادة.
وفي أيّام الحسن فرش منزله الواسع بالسّجّاد الفارسيّ من غير الهنديّ.
وتزوّج القطب الحدّاد بنيّف وثلاثين امرأة، أربع عشرة من الشّرائف، والبواقي من غيرهنّ، وأمّ ولده محمّد من آل كثير.
ولسيف بن محمّد الكثيريّ كان تأليف «رسالة المريد»، وعن الأستاذ الأبرّ أنّ سيّدنا الحدّاد يقول: لم نسمّ الّذي ألّفنا له «رسالة المريد»؛ لأنّه رجع عن الإرادة، وكثيرا ما يوكّل ابنه الحسن في قبول النّكاح له، وكان لا يزيد على مسحة واحدة لرأسه، إلّا أنّه يمسحه كلّه، وقد سرّني هذا لموافقته لما أنا عليه من زمان قبل أن أعلم به، وقبل أن أعرف أنّ جدّي المحسن بن علويّ كان على مثله.
وقد لقي القطب الحدّاد أذى كثيرا من إخوانه، قال الحبيب عمر بن حسن: إنّه اشترى مال أهله ثلاث مرّات، كلّما اشتراه.. ادّعى عليه بعض إخوانه. قيل له: وكذلك الحبيب حسن بن أحمد العيدروس، فقال: يرحمه الله رحمة الأبرار.
وأكثر ما وقع الأذى على القطب الحدّاد من أخيه عمر، حتّى لقد سمعت ـ لكن ممّن لا أثق به ـ أنّه ادّعى عليه بمئة بهار ذهب، فما زال أهل التّدبير ومحبّو الإصلاح يسفرون بينهم حتّى تمّ الصّلح على مئة بهار تمر من نخيل وادي الذّهب، والله أعلم بصحّة ذلك.
وقال بعضهم: إنّما كانت الدّعوى في بهار واحد من الذّهب. وهذا هو الأقرب.
ثم ما زالوا به حتّى أبعدوه عنه، ونقلوه إلى الحاوي الّذي اختطّه في شمال حوطة آل أحمد بن زين.
وفي قضاء الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم باكثير: توجّهت على الحدّاد دعوى لزمته بها اليمين.. فغلّظها عليه، وجاء معه بمصحف من تريم، فقال له الحدّاد: (أما عندنا مصاحف؟! ) وفي هذه القضيّة فوائد:
منها: أنّ خروج القاضي إلى الحاوي إمّا لتحليف الحدّاد على عين المدّعى به؛ لاشتباهه وتعذّر نقله، وإمّا لأنّه لا يليق به الحضور إلى مجلس الحكم.
والمسألة حينئذ خلافيّة، فبعضهم يلزمه الحضور لأجل اليمين، وبعض يلزم القاضي إرسال من يحلّفه في مكانه، وهو الّذي أظنّني رجّحته، والبحث مستوفى في المسألتين (570) و (976) من كتابي: «صوب الرّكام في تحقيق الأحكام».
وقد اختلف السّلف في الصّبر لليمين، فكرهه بعضهم حتّى خرج من المال أنفة، ولم ير به آخرون بأسا.
وقد ترافع محمّد بن داود الظّاهريّ مع خصم له إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق، ولمّا توجّهت اليمين على ابن داود.. قال له القاضي: أيحلف مثلك يا أبا بكر؟ قال: ما يمنعني وقد أمر الله نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال القاضي: أين ذلك؟!
قال في قوله سبحانه وتعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) وقوله: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقوله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)
والقصّة مبسوطة في كتابي: «بلابل التّغريد».
وفي المسألة (1381) من «الصّوب» صرّح الإمام في «النّهاية» بأنّ اليمين لا تجب، وأقرّه الرّافعيّ، لكن قال ابن عبد السّلام: ليس على إطلاقه:
أمّا يمين المدّعى عليه: فإن كانت كاذبة.. فحرام، وإن كانت صادقة: فإن كان الحقّ مما يباح بالإباحة؛ كالمال.. وجبت اليمين دفعا لمفسدة كذب خصمه.. إلى آخر ما أطلت به.
ومنه: أنّ ابن حجر استوجه عدم وجوب اليمين فيما يقبل الإباحة، ووجوبها فيما لا يقبله إذا تعيّنت. والله أعلم.
ودعوى السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد على أخيه بالذّهب المشار إليه ممّا تحيله العادة، لكن قال فقهاؤنا بوجوب إحضار المدّعى عليه وإن أحالتها العادة، وهو من البعد بمكان، لا سيّما مع اتّفاقهم على ردّ كلّ دعوى وكلّ شهادة، بل وكلّ إقرار يكذّبه الشّرع أو الحسّ. والبحث مستوفى في المسألة (559) من «الصّوب».
وبعض النّاس ينتقد فعل الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ويعدّه من إساءة الأدب، وليس من ذلك في شيء، وإنّما هو أداء للواجب، وبعد عن المحاباة، مع أنّ القطب الحدّاد لم يلاحظ عليه إلّا استصحاب المصحف من تريم.
وقد أطال الشّيخ عليّ في ترجمة القطب الحدّاد ووفّاه حقّه؛ لأنّه من كبار مشايخه، بل أكبرهم، وكان يخرج إلى الحاوي كلّ يوم بعد الظّهر، ولمّا حصلت عليه الأذيّة من الدّولة.. لم يعتصم إلّا بالإقامة في الحاوي.
ومن قرى تريم: المحيضرة.
وكانت للسّادة آل سميط، وهم وآل شبام قبيلة واحدة، ومنهم القاضي بتريم علويّ بن سميط، تعمّر كثيرا، وأضرّ في آخر وقته، ولكنّها انعمرت الآن. ولها ذكر كثير في حروب يافع وآل كثير.
ومنها: الحيوار، وقد أدخلت بعض ذبوره في سور تريم، وعمّرت فيها ديار كثيرة.
ومنها: بريح، كانت بين دمّون وتريم، ولا أثر لشيء منها إلّا المقبرة.
أمّا أحوال تريم الدّوليّة: فكما سبق في شبام ذرو منها، وهي كرسيّ مملكة آل قحطان المتفرّعة ولايتهم على حضرموت عن إمارة الهزيليّ على شبام في حدود سنة (270 ه)، وقد قال صاحب «البرد النّعيم»: (إنّ ولايتهم امتدّت إلى أكثر من ثلاث مئة سنة) اه والحال أنّها باعتبار أصلها امتدّت إلى أطول من ذلك بكثير.
ومدافنهم بالرّضيمة من تريم، وكانوا ـ كما في «الأصل» ـ يدفنون هلكاهم بها في صناديق، وفي كلام القطب الحدّاد أنّ بالرّضيمة صناديق من ذهب، فلعلّ الصّناديق الّتي كانوا يدفنون موتاهم فيها كانت من الذّهب كما الملوك تفعل، ومن مأثور الكلام: أنّ أمّ الإسكندر أمسكت على صندوق الذّهب الّذي وضعوا ابنها فيه ليدفن بعد أن قال كلّ من الحكماء كلمته المأثورة، فقالت: لقد جمعت هذا في حياتك.. فجمعك بعد مماتك.
ثمّ انتهى الأمر إلى آل أحمد والصّبرات، وجرى بينهم بعضهم بعضا وبينهم وبين غيرهم أمور طويلة عريضة، فصّلنا منها في «الأصل» ما شاء الله أن نفصّل، ثمّ صار الأمر لآل كثير، ثمّ للإمام، ثمّ ليافع.
وسبب اتّصال يافع بحضرموت: أنّهم زاروا حضرموت في أيّام الشّيخ أبي بكر بن سالم، وأحبّوه، واعتقدوا فيه الصّلاح، ثمّ زاروها في أيّام ابنه الحسين، كما سيأتي عند ذكره في عينات، ثمّ خرجوا مع أحد سلاطينهم ـ وهو: السّلطان عمر بن صالح بن الشّيخ عليّ هرهرة، اليافعيّ وطنا، الهمدانيّ نسبا ـ نجدة للأمير بدر بن محمّد المردوف، بإشارة من الحبيب عليّ بن أحمد أو من أخيه شيخ بن أحمد على اختلاف الرّواية، أو منهما كما هو الأقرب.. وكانت طريقهم بأرض العوالق، فأكرمهم سلطانها، ثمّ قدموا على العموديّ بدوعن فأضافهم، ثمّ التقوا مع سلطان آل كثير عمر بن جعفر في بحران سنة (1117 ه) وهناك انهزم آل كثير واستولت يافع على جميع بلدان حضرموت الوسطى والسّفلى؛ مثل: هينن، وشبام، وسيئون، وتريم.
وبعد أن ضبطها عمر بن صالح.. ركب إلى الشّحر واستولى عليها، ثمّ بلغه أنّ أهل هينن نكثوا وأخرجوا يافعا منها، فعاد لهم وأخضعهم، ورجع إلى يافع وقد اقتسمت يافع بلاد حضرموت، فكانت شبام وهينن للموسطه، وسيئون ومريمه لآل الضّبي، وتريم للبعوس ـ وفوقها بنادق من العلوق الغالية ـ والدولة، أقام أناس منهم بسيئون، وناس في باجلحبان، بحصن بناه آل مطهّر، فيه بئر عذبة الماء.
وأمّا بنو قاصد اليافعيّون المرؤوسون بابن عفيف.. فقد كان منهم ناس قليل في هذا التّجهيز، منهم: آل يزيد، رئاستهم بحضرموت للبطاطيّ؛ لأنّهم وإيّاهم شيء واحد، وكان مسكنهم بالهجرين والقزه، وفيه ناس أيضا من الكلديين، وناس من قبيلة يهر، يقال لهم: الشّناظير، أقاموا بغيل ابن يمين، فنسبه بعض النّاس إليهم.
وأمّا الكساديّ: فكان من ذي ناخب، وجاء بعد ذلك إلى المكلّا. اه من «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف بن الشّيخ أبي بكر بن سالم.
وفيه مخالفة لما سبق في المكلّا عن سبب اتّصال الكساديّ بالمكلّا، ولبعض ما في «الأصل»، إلّا أنّه خلاف يسير، لا يضرّ بأصل الخبر، بل يتيسّر الجمع للنّاظر بينهما بأدنى تأمّل.
ومن (يهر) رئيس الحضارم بالسومال الإيطاليّ الحاجّ محمّد عبادي بن عاطف بن عبيد بن جبران الأرّجانيّ، وفي «إكليل الهمدانيّ»: أنّ ذا يهر أحد أذواء حمير، وهو ابن الحارث بن سعد بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر، وفيه يقول أسعد بن تبّع [من المتقارب]:
«وقد كان ذو يهر في الأمو *** ر يأمر من شاء لا يؤمر»
وقصر ذي يهر على بعض يوم من صنعاء بموضع في بيت حنبص، وهو قصر جاهليّ يسكنه في عهدنا أبو نصر الحنبصيّ نسبة إليه، وهو من أوعية العلم، وفيه يقول بعض أهل عصره [من الطّويل]:
«لعمرك ما الكلبيّ إن عدّ علمه *** وعلم جبير والإمام أبي بكر»
«ودغفل في شجّيرة وابن شرية *** بأعرف فيما حاولوا من أبي نصر»
وهو محمّد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن محمّد بن وهب بن شرحبيل بن عريب بن زيد بن وهب بن يعفر بن زيد بن شمر بن شرحبيل بن أشمر بن زرعة بن شرحبيل بن وهب بن نوف بن يعفر بن الحارث بن شرح بن يعفر ذي يهر. اه باختصار لفظ
ومنه تعرف أنّ الشّناظير ليسوا من يافع أنفسهم، ولكن قد آختهم.
وقد انقسمت لبعوس في تريم وأرباضها إلى فرق متعدّدة، أقواهم آل غرامة، ورئيسهم سالم بن غرامة صاحب حصن الدّكين الواقع في شرقيّ دمّون، وكان ابن أخيه عبد الله عوض غرامة ينازعه، ولمّا مات في حدود سنة (1226 ه).. صفا لعبد الله الجوّ، وكان شهما شجاعا، لا يملأ الهول صدره قبل موقعه، ولا يضيق به ذرعا إذا
وقع، ولا يقتضي حاجاته من حملة السّلاح إلّا بالسّيف، وقد قال المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 160 من البسيط]:
«من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته *** أجاب كلّ سؤال عن هل بلم »
وكان ينكر بطبعه غلوّ القبوريّين فوافقته آراء الوهّابيّة، وأكثر التّعلّق بوحيد عصره، وفريد دهره، مقدّم الجماعة، وشيخ الصّناعة، الّذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم، العلّامة الجليل السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، المتوفّى بتريم سنة (1248 ه)، وقد اتّهمه العلويّون بأنّه هو الّذي يعلّم عبد الله عوض غرامة آراء الوهّابيّة، ويحثّه على الإلزام بها ومؤاخذة النّاس بمقتضاها، فتآمروا على قتله، فهرب إلى بيت جبير، ولم يقدر عبد الله غرامة على حمايته بتريم؛ لأنّه لا يملكها كلّها.
وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى تريم سنة (1224 ه)، بقيادة الأمير عليّ بن قملا، فطوى بهم حضرموت، ولم يفسد حرثا ولا أهلك نسلا، وإنّما هدم القباب، وسوّى القبور المشرفة، وألقى القبض على المناصب آل عينات وآل تاربه وأهانهم، وأتلف قليلا من الكتب كثّره بعض العلويّين ـ كصاحبنا الفاضل السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن بن سهل ـ بدون مبرّر من الدّليل، وأقاموا بتريم نحوا من أربعين يوما، وعاهده عبد الله عوض غرامة وعبد الله بن أحمد بن يمانيّ على أن يكفّ الأذى عن بلاديهما على شرط أن يقوما بنشر دعوته الّتي لاقت هوى من نفوسهم، وقبولا من خواطرهم.
ووجدت أيضا معاهدة بتاريخ سنة (1222 ه) بين عليّ بن صالح بن ثابت، وعبد الله بن سلطان بن ثابت، ومنصّر بن محمّد، وناجي بن محمّد آل قملا، وجعلا عبد الله بن سلطان أميرا من قبلهما على الكسر.
ووجدت أيضا معاهدة بينهما وآل العطّاس بحريضة وأمّرا من قبلهما عليها السّيّد عليّ بن أحمد العطّاس كما يروي جميع ذلك شيخنا العلّامة أحمد بن حسن العطّاس.
وكذلك توجد معاهدة بين آل قملا والسّادة آل المسيله.
وقال السّيّد علويّ بن أحمد بن حسن في مقدّمته ل «ديوان جدّه»: (وذكر الشّيخ عقيل بن دغمش أنّهم خرجوا إلى حضرموت ثلاث مرّات.
فالأولى: سنة (1218 ه)، وردّهم جعفر بن عليّ لمّا ملك شبام.
والثانية: سنة (1224 ه)، وجرى منهم ما تقدّم في تريم، وأخذوا نحوا من أربعين يوما، ثمّ ساروا منها كلّهم.
والثّالثة: خرجوا سنة (1226 ه)، ووصلوا قريبا من شبام وفازوا بالقتل والانهزام، ورجع منهم من رجع شذر مذر) اه
وقد سبقت الإشارة في تريس وغيرها إلى ميل الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه إلى بعض آراء الوهّابيّة، ومن أدلّة ذلك: أنّه أثنى على قسم وأهلها بقصيدة استهلّها بقوله: (لنا بمغنى قسم أهل وإخوان) انتهى بها إلى مدح آل تميم عموما، والمقدّم عبد الله بن أحمد خصوصا، فقال [من البسيط]:
«لا تنس أولاد روح هم قبائلها *** قد هدّمت للأعادي منهم اركان »
«فابن يمانيّهم رأس الأسود له *** في الحرب صيت وفي الإحسان عنوان »
«كم من فتى منهم عند اللّقا فرح *** كأنّ أعداه إذ يغشاهم ضان »
«كم كسّروا للأعادي منهم قمما *** حتّى غدا حدّهم بالأمن ملآن »
«جيرانهم في محلّ العزّ عندهم *** كأنّهم في ربوع القوم ضيفان »
«أقول حقّا بأنّ الله ناصرهم *** لأنّهم لأهيل البيت أعوان »
وفي سنة (1229 ه) أرسل الأمير عبد الله عوض غرامة ثلّة من جنده للتّحرّش بأهل المسيله فلم يجرؤوا، وعند انصرافهم التقوا بجماعة من السّادة عسكر الحبيب
طاهر، إمّا مصادفة، وإمّا طمعوا فيهم لمّا رأوهم انقلبوا بدون طائل، ومعهم العلّامة السّيّد سالم بن أبي بكر عيديد، فانهزم السّادة بمجرّد ما سمعوا إطلاق الرّصاص، مع أنّ جند غرامة لم يتعمّدوا إصابتهم، وإنّما أرادوا كفّهم وتخويفهم، فانهزموا هزيمة فاحشة، حتّى لقد سقط إزار أحدهم فهرب عريانا! فقالت إحدى شواعر تريم:
«إذا اقبلوا يافع المثقلين *** تقعون ساده حتّى حزمكم تلين »
أخبرني بهذا الثّقة الثّبت السّيّد أحمد بن عمر بن عوض الشّاطريّ، عن جدّه لأمّه شيخنا ابن شهاب. ولم يتبعهم جند عبد الله عوض، غير أنّ رصاصة أصابت السّيّد سالم عيديد فسقط ميّتا مع البارود، وفي اليوم الثّاني أرسل إليهم الأمير عبد الله عوض بتعزية يقول فيها: (إنّنا لا نريد ذلك ولا نحبّه، وإنّما كان قتله على غير اختيار منّا، لكنّ شؤم أعمالكم، والتفاتكم إلى غير الله، وعبادتكم للأموات والقبور.. هو الّذي جرّ عليكم المصائب، وسيجرّ عليكم ما هو أعظم) اه
ويقال: إنّ هذه المكاتبة كانت من إنشاء إمام تريم لذلك العهد ـ المتقدّم ذكره ـ السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، والله أعلم.
وحصلت من عبد الله عوض غرامة مساعدات ماليّة للأمير عليّ بن قملا كلّف بها الرّعايا، حتّى لقد رأيت وثيقة فيها أنّ نوّاب وقف المحضار باعوا بئرين له ببيت جبير بثلاث مئة وعشرين ريالا على سبيل العهدة، في دفع ضرر ابن قملا وعبد الله عوض عن مال المحضار، وعليها إمضاء القاضي حسين بن علويّ مديحج، وتاريخها سنة (1263 ه)، ولعلّه كان غلطا؛ إذ تاريخ وصول ابن قملا إلى تريم إنّما كان سنة (1224 ه)، أو سنة (1226 ه) على اختلاف القول في ذلك، وأمّا سنة (1263 ه).. فبعد وفاة عبد الله غرامة بمدّة، ما لم يكونوا استدانوا ذلك القدر ثمّ لم تسنح الفرصة للتّعهّد إلّا بعد، وفيه فائدتان:
الأولى: التّوسّع ببيع الموقوف، إلّا أنّه قد يجاب بأنّ الأصل في أموال المساجد الملك.
والثّانية: بيعه عهدة والأغلب أنّها إنّما تكون بدون ثمن المثل، وهو ممتنع في مال المسجد، وقد صرّحوا بامتناع بيع مال المحجور عهدة مطلقا، والمسجد مثله ففي هذا الصنيع فسحة وتسامح.
ولعبد الله عوض أخبار عجيبة ذكرنا منها نتفا ب «الأصل»؛ ومنها: أنّ بعض أعيان السّادة ركب إلى زيارة نبيّ الله هود عليه السّلام، وبينا هو خارج من تريم وأمامه خشارة من الحاكة ومن لفّهم يرتجزون بمثل قولهم: يا شيخنا يا محضار.. إذ غضب غرامة واستلّ سيفه ليغمده بطلى زعيم الحاكة وانتصب لمساورته بعض السّادة آل ابن إبراهيم، لو لا أنّ شيخ مشايخنا ـ وهو الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ تدارك الأمر وقال لهم: (قولوا: سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه)، فارتجزوا بها، فسرّ عبد الله غرامة وقال: (أستغفر الله) وهي كلمته الّتي يوشّح بها كلامه، ولا يزال الأكرة يتغنّون بها إلى اليوم.
وبه ذكرت قول العلّامة ابن حجر: (فائدة: أحدث المؤذّنون الصّلاة والسّلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقب الأذان للفرائض، ما عدا الصّبح والجمعة؛ فإنّهم يقدّمون ذلك فيهما على الأذان، وإلّا المغرب، لضيق وقتها، وسببه: أنّ الحاكم لمّا قتل.. أمرت أخته المؤذّنين أن يقولوا في حقّ ولده: السّلام على الإمام الطّاهر، ثمّ استمرّ السّلام بعده على الخلفاء حتّى أبطله صلاح الدّين، وجعل محلّه الصّلاة والسّلام عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجزاه الله خيرا، ونعمّا فعل. وقد أفتى مشايخنا وغيرهم بأنّ الأصل سنّة، والكيفيّة بدعة، وهو ظاهر) اه بنوع اختصار
ولا يبعد عنه ما كان من عمر بن عبد العزيز من إبداله ما اعتاده بنو أميّة بآية: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلى آخرها.
وكان عبد الله غرامة شديدا على الأعداء، ليّن العريكة للضّعفاء، سهل الجانب لهم، وله أصحاب من الحاكة والأراذل يتنادرون عليه كأنّه أحدهم، وهو يجرّئهم على نفسه ليأنس بهم، وتسقط كلفة التّحفّظ فيما بينهم، فهو:
«ممقر مرّ على أعدائه *** ولدى الأدنين حلو كالعسل »
عاش وسيفه يقطر مهجا، ويسيل دما، من آل تميم وغيرهم من حملة السّلاح، وكان لا يأخذ صلحا فيمن يقتله من آل تميم قطّ، توفّي بتريم سنة (1255 ه) بعد أن خبط الزّمان خبطا، وضبط الرّجال ضبطا، وكان كما قال بشّار [في «ديوانه» 145 ـ 146 من المتقارب]:
«فتى لا يبيت على دمنة *** ولا يشرب الماء إلّا بدم »
«يحبّ العطاء وسفك الدّما *** فيغدو على نعم أو نقم »
وتلقّى راية مجده باليمين ولده عبد القويّ وهو في إبّان البلوغ، فكان كما قالت الخنساء [في «ديوانها» 71 من المتقارب]:
«طويل النّجاد رفيع العما *** د ساد عشيرته أمردا»
وكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 464 من البسيط]:
«متيّم بالعلا والمجد يألفه *** وما مشى في نواحي خدّه الشّعر»
وقد برز به على قول المتنبّي [في «العكبريّ» 2 / 8 من الطّويل]:
«أرى القمر ابن الشّمس قد لبس العلا *** رويدك حتّى يلبس الشّعر الخدّ»
وقد ذكرنا في «الأصل» أنّ بعض أعدائه ألقى زاملا بين يديه، منه قوله:
«منّي سلام الفين يا عبد القوي *** يا شيخ يافع يا عريض السّاعدين »
وهو مثل قول السّيّد الحميريّ يمدح قاتل طلحة بن عبيد الله [من الكامل]:
«واعترّ طلحة عند مشتجر القنا *** عبل الذّراع شديد أصل المنكب »
ثمّ إنّي بعد أن افتتنت زمانا ببيت الشّريف الرّضيّ السّابق.. عرفت أنّه نظر فيه إلى قول أبي عبادة [في «ديوانه» 2 / 308 من البسيط]:
«وللفتى مهلة في الحبّ واسعة *** ما لم يمت في نواحي خدّه الشّعر»
وفي سنة (1261 ه) اشترى آل عبد الله الكثيريّون ناصفة الخليف من آل همّام اليافعيّين بنحو من ألفي ريال، وأدخلوا إليه بعض عبيدهم، وبقوا هم وإيّاهم على التّناصف بالتّصافي.
وفي سنة (1262 ه) باع عبد القويّ غرامة على آل عبد الله ناصفة ما تحت يده بتريم، وتمّت الصّفقة بالمسيله بمحضر العلّامة عبد الله بن عمر بن يحيى، والسّيّد الجواد حسين بن عبد الرّحمن بن سهل، على نحو أربعة آلاف ريال فرانصة ـ أو ستّة آلاف، لا نحفظ تحقيق ذلك ـ وعلى أن تكون الماليّة كلّها في أيدي آل عبد الله، بشرط أن يدفعوا لعبد القويّ ثمانية ريالات يوميّا إزاء دخل النّاصفة الباقية له.
ولمّا دخل آل عبد الله في رمضان من نفس السّنة.. عظم الأمر على عبد القويّ؛ لأنّهم دخلوها على غير الصّفة المشروطة بينهم من امتناع المظاهرات والزّوامل، وبعد المراجعات والأخذ والرّدّ.. أذكى عليهم نار الحرب، وكان عبود بن سالم يضمر الغدر لعبد القويّ، فركب إلى الجهات القبليّة في شعبان قبل أن يدخلوا إلى تريم أصلا، وأقبل في ربيع الأوّل من سنة (1263 ه) بنحو ألفين والحرب قائمة، فكثروا عبد القويّ وضايقوه، ولكنّه ثبت ثبات الرّواسي، ثمّ تواضعوا قريبا ممّا تمّ الأمر عليه أوّلا، وأراد السّيّد حسين بن سهل تأطيد الصّلح، فسعى ليمثّل حال خالد بن يزيد مع رملة بنت الزّبير حتّى صهر الأمير عبود بن سالم إلى آل غرامة، فاقترن بأخت عبد القويّ، وجرت أمور طويلة عريضة مستوفاة ب «الأصل»، ولكنّ سكنى تريم لم تطب لنفس عبد القويّ وأصحابه اللبعوسيّين؛ إذ كانت تلك الأسرة لذلك العهد حقيقة بقول المعريّ [من البسيط]:
«كانت تضمّ رجالا بين أعينهم *** معاطس لم تذلّل عزّها الخطم »
فبارح تريما إلى المكلّا، وأودع بعض سلاحه من العلوق الغوالي السّابق ذكر وقوعها للبعوس، مع اقتسام يافع بلاد حضرموت عند زعيم آل عامر الكثيريّين محمّد بن عزّان بن عبدات، فلم يردّها عليه؛ لنفاستها.
وتتابع بعد عبد القويّ غرامة جلاء آل لبعوس من تريم إلى عند آل الظّبي بسيئون، وهكذا قضي على دولة غرامة، وسبحان من لا يدوم إلّا ملكه.
ودولة تريم اليوم للسّلطان عبد الله بن محسن بن غالب وأخيه السّلطان محمّد، حسبما مرّ في سيئون.
والحكومة الإنكليزيّة تحاولهم على الاعتراف بقيادة السّلطنة لأمير سيئون لتتوحّد الدّولة الكثيريّة مع بقاء حقّهم من الاستقلال في حدودهم، وهم من ذلك في شماس شديد، ولكنّه لا يستغرب أن يعود إلى المياسرة.
وقولنا: إنّ آل همّام يافعيّون.. هو المشهور، ولا ينافيه ما يوجد في كلام الحبيب علويّ بن أحمد الحدّاد ممّا يوهم خلافه؛ كقوله: إنّ بين عسكر تريم آل همّام ويافع كلّ من لقي خادم أحد قبضه؛ لأنّ بعض البيوت قد يختصّ بالاسم؛ مثل آل السّقّاف.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
66-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (روغه)
روغههي قرية صغيرة من وراء الجرب إلى شرق. قال في «شمس الظّهيرة» [2 / 487] عند ذكر السّيّد عقيل بن محمّد ابن أحمد بن محمّد جمل اللّيل بن حسن المعلّم: (هو السّخيّ العالم المشهور، صاحب مسجد روغه، المتوفّى بها، المقبور بتريم سنة (1009 ه)، عقبه بروغه؛ منهم: العلّامة الفاضل محمّد الباقر بن عمر بن عقيل المذكور، توفّي سنة «1089 ه».
وجاء في ترجمة الإمام الجليل محمّد جمل اللّيل بن حسن المعلّم: (أنّ له مسجدا بروغة، وهو الّذي يبعد عنها في شرقيّها قليلا، وهو من المساجد المشهورة بإجابة الدّعاء).
ومن أهل روغه: السّيّد الفاضل الصّالح الكبير علويّ بن عليّ الهندوان، له عبادة وأوراد وأذكار، وللنّاس فيه اعتقاد جميل، وهو واسع الفناء، رحب الفضاء، جميل الطّبائع، كريم الصّنائع، ثمال الأيتام، ومجمع الكرام، له بروغه مسجد جميل، وله بوالدي اتّصال أكيد، وإخاء صادق، وكان كثير الدّعاء لي، جمّ الاعتناء بي، وكان يبشّر والدي بمستقبل جميل لي بشائر عظيمة، وهو من أهل الفراسة الصّادقة، والأنظار الصّائبة، فأرجو أن يحقّق الله ذلك. توفّي ودفن بتريم سنة (1335 ه).
ومن وراء روغه: مشطه وكودة آل عوض.
أمّا مشطه: ففيها جماعة من ذرّيّة السّيّد أبي بكر بن عيدروس بن الحسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم.
قال في «شمس الظّهيرة» [1 / 295]: (ومنهم الآن عبد الله بن أبي بكر، شريف فاضل عابد) اه
ومنهم: السّيّد سالم بن حفيظ بن عبد الله بن أبي بكر، عالم فاضل، له اعتناء بتحصيل الفوائد واقتناص الشّوارد، من فضله عليّ أنّه جمع من رسائل والدي المفيدة ما دخل في ستّة مجلّدات، وهو الّذي جمع فتاوى الشّيخ أبي بكر بن أحمد الخطيب، كما سبق عند ذكره في تريم.
وقد تمنّيت أن لو ذكره شيخنا العلّامة المشهور في «شمس الظّهيرة»؛ لأنّه عرضة ذلك، وله به اختصاص كثير، وقد صهر إليه على بنت ابنه، غير أنّ الأستاذ لا يحبّ المحاباة، وكأنّه ظنّ في ذكره شيئا من الهراء الّتي ينكرها طبعه، فتحاماه مع الاستحقاق، ولو ذكره.. لكان ثاني اثنين على قيد الحياة ممّن جاء ذكرهم في «شمس الظّهيرة»، أحدهم: السّيّد أحمد بن حسن الكاف السّابق ذكره في الهجرين.
والسّيّد سالم بن حفيظ هذا أحد من صادق على جواب الشّيخ عمر بن عثمان بن محمّد باعثمان الّذي كتبه سنة (1320 ه) في صالح السّلطان عمر بن عوض القعيطيّ ضدّ أبناء أخيه.
وله ولد نبيه ذكيّ داع إلى الله، اسمه محمّد بن سالم، طلب للقضاء فرغب عنه، وقبل أن يكون مساعدا للقاضي، خارجا عن التّبعة.
وأمّا كودة آل عوض: فلآل عوض بن عبد الله بن مرساف وفيها كانت أكبر حوادث المسندة، حسبما فصّل ب «الأصل».
ومن سكّانها: الشّيخ سعد بن أحمد بن عبد الله الصّبّان باغريب، له رياضات وعلم بأسرار الأسماء والحروف والأوفاق، توفّي سنة (1319 ه).
وفي سباخ مشطه قريبا من مسجد السّيّد محمّد بن حسن جمل اللّيل الواقع بوادي روغه.. اعتزل السّيّد أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن أبي بكر بن عليّ بن عمر بن حسن ابن الشّيخ عليّ بن أبي بكر، وكان من كبار العلويّين، زهد في الدّنيا وأهلها، وانجمع عن النّاس في ذلك المكان، وكان يصلّي الجمعة بتريم، يطلع إليها ماشيا وقد جاوز السّبعين سنة، وله خطّ حسن، كتب بيده جملة من الكتب، وطريقته شاذليّة، ويحفظ كتب ابن عطاء الله. توفّي سنة (1231 ه)، ودفن بتريم اه من «النّور المزهر شرح قصيدة مدهر» للسّيّد أحمد الجنيد.
ومن وراء مشطه والكوده: قوز آل مرساف.
ثمّ: باعطير، وهي قرية لا بأس بها، يخاف سكّانها من الموت، ويغضبون من ذكره، ومتى أراد الذّاهبون إلى نبيّ الله هود إغضابهم.. حملوا رداء على هيئة الجنازة فيكادون يقاتلون.
وما أعرف سبب ذلك حتّى أخبرني رمضان سالم بسريّ من قسم بأنّ أهل مشطه ونواحيها يشاركونهم في الغضب من ذلك بسبب أنّه مات على أحدهم بعير، فصلّوا عليه صلاة الجنازة.
وقال: إنّ جماعة حضروا بشعب هود عليه السّلام أحدهم: السّيّد عبد الله بن محمّد بن عقيل بن مطهّر من قسم، والثّاني: السّيّد عليّ بن سالم من عينات، والثّالث: السّيّد سالم بن حفيظ من مشطة، والرّابع: السّيّد عبد الرّحمن بن محمّد المشهور من تريم، والخامس: من سيئون، والسّادس: أحمد بن زين بن عقيل بن سالم، وتواضعوا على مدارسة ختمة على شرط أن لا يغيب أحد عن الحضور، ولمّا انتهوا إلى قوله تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).. أشاروا إلى الأوّل؛ لأنّه لقب بلادهم.
ولمّا وصلوا منها إلى قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ).. ضحكوا على الثّاني؛ لأنّ لقب عينات: صفاه.
ولمّا قرؤوا الأعراف وجاء قوله: (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ).. سخروا من صاحب سيئون؛ لأنّ لقبهم الجرّ.
ولمّا انتهوا إلى قوله تعالى في سورة يوسف: (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).. ضحكوا على السّيّد سالم بن حفيظ.
وعند تلاوة قوله تعالى من النحل: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ).. تنادروا على مفتي حضرموت لأنّ لقب تريم هو خيله كما سبق فيها.
ولمّا وصلوا إلى قوله تعالى في (يس): (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).. جاءت نوبة السّادس؛ لأنّ لقب القرية منكوسة، وهو منها.
ومن وراء باعطير: أنف الجبل المسمّى بالسّويحليّ.
ومن خلفه: عينات. وأمّا عن يسار الذّاهب من تريم إلى المشرق.. فأوّل ما يكون:
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
67-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عينات)
عيناتمن أشهر قرى حضرموت، على نحو ثلث مرحلة من تريم. وأوّل من اختطّها آل كثير في سنة (629 ه).
وفي سنة (787 ه) هجم آل الصّبرات على عينات وأخربوها، وقتلوا سبعة من آل كثير حواليها، وساعدهم راصع على ذلك.
وفي سنة (817 ه) بنى آل كثير عينات، ثمّ أخربها آل أحمد في تلك السّنة نفسها، وقتلوا ثمانية: اثنين من آل كثير وخمسة عبيد ورام، وكثيرا ما تقلّبت بها الأحوال، وأضرّت بها الحروب الواقعة بين آل كثير وآل يمانيّ والصّبرات والغزّ، حسبما فصّل بعضه في «الأصل»، وقد اندثرت ولم يبق إلّا آثارها البالية، هذه هي عينات القديمة.
وأمّا الجديدة: فأوّل من بنى بها ركن الإسلام، وعلم الأعلام، الشّيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، المتوفّى بها سنة (992 ه)، وقد ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [2 / 58] و «السّنا الباهر» [حوادث 992 ه]، وأفرد مناقبه العلّامة ابن سراج وغيره بالتّأليف، وهو بالحقيقة في غنى ـ بشهرته الّتي تغني ـ عن التّعريف.
«تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه *** بأكبر ما يثنى عليه يعاب »
وفي «الرّياض المؤنقة» للعلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس: (أنّ سيّدنا الشّيخ أبا بكر بن سالم ابتلي بعلّة البرص، وأنّ تلميذه أحمد بن سهل بن إسحاق انتقده.. فأصابه الكثير من ذلك حتّى صار يقال له: هرّ اليمن) اه
ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ بن الأستاذ الحدّاد: (أنّ المتعلّق بالشّيخ مع البعد أحسن من الحاضر عنده؛ لغلبة رؤية البشريّة على الحاضر، وقد قال الشّيخ أبو بكر بن سالم: لو سألت الله ـ أو قال ـ لو تشفّعت في أحد من الكفّار ولعيالي وأخدامي.. لرجوت الإجابة لأولئك الكفّار؛ لأنّ المخامرة تذهب الاحترام) اه مختصرا
ولمّا مات.. وقع رداؤه على ابنه عمر المحضار.
ومن كلامه: (ما ابتلي أهل حضرموت إلّا بقدحهم في الشّيخ أبي بكر بن سالم، وما شكّوا في ولايته إلّا لسوء حظّهم، ولكنّه كفي شرّهم بالعطاء وبغيره، وكلّ من شكّ في الشّيخ أبي بكر.. فهو اليوم يبغضني ويراني خصمه، بل زادوا وطعنوا في العرض، ولكنّنا نرثي لهم، وندعو لهم) اه
وفيه فوائد؛ منها: أنّ الاتّفاق لم ينعقد على فضل الشّيخ أبي بكر إلّا في الزّمان المتأخّر، وإلّا.. فالنّاس كالنّاس، ولا يزالون مختلفين.
توفّي بعينات سنة (997 ه)، وله أعقاب منتشرون بمرخة وبيحان، وروضة بني إسرائيل، وحبّان وخمور والهند، وجاوة ودوعن وغيرها.
ومنهم: السّيّد حسين بن محمّد بن عليّ بن عمر المحضار، وصل إلى مسورة أرض الرّصاص فاقترن بابنة السّلطان، فأقطعه مكانا بمرخة يسمّى الهجر، لا يزال إلى يومنا هذا، والمحاضير فيه على استقلالهم.
وقد سبق في بالحاف وبير عليّ أنّ منصبهم في سنة (1349 ه) أمضى على الوثيقة الّتي وقّع عليها أعيان تلك الجهات وسلاطينها بالسّمع والطّاعة لي وكفاني الله شرّ الفتن برأي مولانا الإمام يحيى حسبما تقدّم.
ومنهم آل درعان: السّيّد أحمد المحضار، وأولاده: مساعد وسالم، لهم أخبار في النّجدة والشّجاعة تنفخ الأدمغة، وتملأ الأفئدة.
ولهم خيل عتيقة؛ منها: الكويخه، لها خبر وعلم.
وللسّيّد أحمد بن درعان هذا وفادة إلى حضرموت، ونزل بالقويرة على نسيبه الإمام أحمد بن محمّد المحضار، وطال ثواؤه حتّى ملّ، وسبب ذلك أنّه لا يمكن انصرافه إلّا بجائزة، وفي عيش الإمام المحضار يبس إذ ذاك، فلم يجد حيلة إلّا أن قال له: نريد إكرامك، لكن ما لدينا شيء إلّا ثمانيه ريال عند غريم مماطل، قال له: أعطني تحويلا عليه وسأخرجها من عينه، فأحاله على صديق لا يزال عنده بالقويرة صباح مساء من آل بروم، فلمّا أقبل على داره وهو بظهر الكويخة.. سرّ وظنّ معه خيرا، ولمّا عرف باطن الأمر.. قال: لا شيء عندي للحبيب أحمد، قال له: ما كان ليكذب، وقد أخبرني بمطلك، ولئن لم تدفعها.. لأوجرنّك سنان هذا الرّمح، فخرج ليهرب، ولكنّ ابن درعان قد أغلق السّدّة وأخذ المفتاح، فصعد إلى سطح داره يصيح، حتّى اجتمع الجيران، فأشرف عليهم ابن درعان وقال: لا أخرج إلّا بالثمانية الريال بعد الغداء، فعملوا له غداء ونقدوه المبلغ، فتوجّه إلى عينات، ثمّ عاد إلى القويرة، ومنها ركب إلى مرخة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر المحضار عزم على حمل السّلاح لصدّ عوادي الظّلمة، فلم يوافقه إخوانه، فنزل برضى منهم بأن يخلفه أخوه الحسين.
«أعزّ وأتقى ابني نزار بن يعرب *** وأوثقهم عقدا بقول لسان »
«وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا *** وأعلاهم فعلا بكلّ مكان »
ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [3 / 210 ـ 212] ووهم في قوله: (إنّه ولي الأمر بعد أبيه)؛ لأنّه لم يله كما قدّمنا إلّا بعد أخيه.
وبعد أن تربّع على كرسيّ المنصبة.. حصل عليه أذى من آل كثير، فسار إلى مكّة وأقام بها سبع سنين قدم في أثناءها رؤساء يافع إلى مكّة وكان حصل عليهم تعب من الزّيديّة، فتأكّدت بينه وبينهم الألفة، وتأطّدت قواعد الحلف، ووعدوه إن نصرهم الله أن يأخذوا بيده، وقد سبق القول بأنّهم وصلوا في أيّامه إلى حضرموت.
توفّي بعينات سنة (1044 ه). ووقعت عمامته على ولده أحمد، وقام بمقام أبيه أحسن قيام إلى أن توفّي، فاجتمع رأي السّادة على تقديم ابنه سالم السّابق ذكره في الغيضة، وكثرت الخيرات في أيّامه، واتّسع جاهه، وأكثره من أرض الظّاهر وجبل يافع، وحصلت له أموال طائلة.
ثمّ إنّ الزّيديّة استولت على يافع فانقطع المدد منها، ولمّا انتهى إليه عزم الزّيديّة على غزو حضرموت.. ارتحل إلى الحجاز، فحجّ ثمّ استقرّ بالغيضة وسار معه بأهله، وبعد أن أقام بالغيضة أحد عشر شهرا.. اجتوتها زوجته فاطمة بنت محمّد بن شيخ بن أحمد فأذن لها في الرّجوع إلى عينات مع ابنه عليّ بن سالم، وتنازل له عن ولاية عينات، وأباح له أمواله بحضرموت، وكان يرسل له فوق ذلك بما يكفيه، لكلف المنصبة.
وكانت له أراض واسعة من عينات إلى العرّ ترعى بها مواشيه ونعمه، وكان يشرك السّادة آل الشّيخ أبي بكر فيما يصل إليه من الفتوح.
وبإثر انصراف الزّيديّة عن حضرموت.. أراده النّاس على الرّجوع إليها، فلم يرض.
وبعضهم يزعم أنّ الشّيخ عمر بامخرمة لحظه بطرف الغيب، إذ يقول:
«سلّم الأمر يا سالم وخلّ الحراره *** خلّ ذا الكون يا بن احمد على الله مداره »
«عاد ربّ السّما يعطف علينا بغاره *** يوم قالوا لنا الزّيدي تولّى (شهاره) »
لأنّ شهارة حافّة معروفة بسيئون، والأمر محتمل؛ فإنّ للشّيخ عمر فراسات كثيرة صادقة، ولكنّ شهارة من ثغور اليمن في غربيّ صنعاء استولى عليها إمام الزّيديّة في أيّام الشّيخ عمر بامخرمة. توفّي الحبيب سالم بن أحمد بالغيضة سنة (1077 ه).
وبإثر موته أحضر ولده عليّ سائر إخوانه وكتب للغائبين منهم، وقال لهم: إنّني لا أقدر على القيام بأعباء المنصبة إلّا بأموال والدي، وقد صارت لكم، فخذوها وأقيموا من تحبّون. فقالوا له: بل أبحناها لك كما كان أباحها لك أبونا، ولا تزد عمّا كنت تنفقه علينا في أيّامه.
وقد أدرك الحبيب عليّ بن سالم عاما من حياة جدّ أبيه الحسين، وفي أيّامه عاد الظّاهر وجبل يافع لأهله بواسطة السّلطان معوضة بن سيف بن عفيف والسّلطان صالح بن أحمد بن هرهرة فدرّت الأموال عليه، وقال لإخوانه: اقتسموا ما تركه أبوكم؛ فقد أغنانا الله عنه. وأبقى ما كان يجريه عليهم. توفّي سنة (1096 ه) عن إحدى وخمسين سنة، وكانت إقامته بالمنصبة ثمانية عشر عاما.
وخلفه ولده أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، فقام بالمنصبة وسنّه نحو العشرين، وأعانه عليها السّيّد شيخ بن أحمد بن الحسين. توفّي أحمد هذا سنة (1111 ه)، بعد أن مكث في المنصبة خمسة عشر عاما.
وخلفه عليها ولده عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم، واتّسع جاهه بسبب اتّساع نفوذ يافع في أيّامه، حتّى لقد كان الشّعيب المشهور بحسن ماء ورده إقطاعا له.
وكان شديد الورع والتّواضع، وساء التّفاهم بينه وبين القطب الحدّاد بسبب واش من الطّغام قال له: إنّ الحدّاد يحاول منصبا مثل منصب جدّك الشّيخ أبي بكر بن سالم، ويزعم أنّه أفضل منه.
فلم يكن من القطب الحدّاد إلّا أن ورده للترضية إلى عينات، وبعد الإيناس قال له: إنّي سائلك: هل خزائن الله ملأى أم لا؟ فقال: بل ملأى.
قال له: وهل ينقصه أن يعطي أحدا مثل ما أعطى الشّيخ أبا بكر؟ فقال له: لا. فقال الحدّاد: إنّ الّذي أعطى الشّيخ أبا بكر يعطينا من الهداية، ويعطيك ويعطي غيرنا مثل ما أعطاه.
فاعتبر السّيّد أحمد وجعل يلطّخ الحدّاد بزباد من وعاء كبير حتّى نفد وهو ذاهب عن شعوره. ثمّ كان يزور الحدّاد في كلّ أسبوع أو في كلّ شهر مع كثرة أشغاله وعظم منصبه، ويستغرق سحابة اليوم في قراءة الكتب النّافعة عليه، وفي أوّل قدمة قدمها على الحدّاد قال ـ أعني الحدّاد ـ [من الوافر]:
«جزاك الله عن ذا السّعي خيرا *** ولكن جئت في الزّمن الأخير»
وإليه الإشارة بقوله من الأخرى [في «ديوانه» 177 من الرّمل]:
«زارني بعد الجفا ظبي النّجود ***...»
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط ما يفيد أنّ صاحب القصّة مع القطب الحدّاد هو السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر، ولعلّ الكاتب وهم في ذلك؛ لأنّ الصّواب هو ما ذكرناه.
والحبيب أحمد بن عليّ هذا هو الّذي كتب للسّلطان عمر صالح بن أحمد ابن الشّيخ عليّ هرهرة ليخرج إلى حضرموت لمّا كثرت بها المظالم والفوضويّة، كذا في «بستان العجائب» [ص 31] للسّيّد محمّد بن سقّاف.
والّذي ب «الأصل» عن الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ابن قاضي في ترجمته للسّيّد شيخ بن أحمد ما يصرّح بأنّه هو الّذي تولّى الأمر بعد أبيه، وأنّه هو الّذي كتب ليافع مساعدة لبدر بن محمّد المردوف على عمر بن جعفر، وأنّه توفّي سنة (1119 ه) وأنّ أخاه عليّا إنّما تولّى بعده، وهذا هو الأثبت.
ثمّ إنّي اطّلعت بعد هذا على «رحلة عمر بن صالح»، وفيها ما حاصله: (كان نهوضنا إلى حضرموت في أوّل شهر القعدة سنة (1117 ه)، كتب إلينا مولانا وسيّدنا وصاحب أمرنا قطب الحقيقة والطّريقة، الشّيخ الحبيب: عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشّيخ أبي بكر بن سالم أن نخرج إلى حضرموت؛ لأنّ السّلطان عمر بن جعفر طغى وبغى، وعظّم شعائر الزّيديّة، واستولى على الشّحر، وهرب السّلطان عيسى بن بدر إلى عينات، فهجم عليه بها هو ومن معه من الزّيديّة، وأخذه منها قهرا، واستولى على حضرموت كلّها، وأرسل بعيسى بن بدر إلى عند الإمام، ثمّ انكفأ على آل همّام ويافع الّذين بالشّحر وحضرموت، فأخرجهم من القلاع، وسلّمها للزّيديّة، واستهان بالسّادة، فعند ذلك عزمنا)... ثمّ استاق (الرّحلة) إلى آخرها.
توفّي الحبيب عليّ بن أحمد بعينات سنة (1142 ه).
وخلفه على المنصبة ابنه أحمد بن عليّ بن أحمد، وكان مضيافا يذبح كلّ يوم ستّا من الأغنام، سوى ما يذبحه للواردين، وله ولوع شديد بالقنص، وكان كريما شفيقا، حتّى لقد غضبت عليه زوجته أمّ أكبر أولاده بنت آل يحيى من زواجه بغيرها، وأبت أن تعود إلّا بمئة دينار، ولمّا حصّلها.. آذنهم فعملوا ضيافة عامّة دعوا إليها أهل عينات أجمعين، فبينا هو ذاهب إليهم.. سمع امرأة تقول من حيث لا تراه: نحن جائعون عارون ولا عيد لي ولا لأيتامي، وأحمد بن عليّ بايدفع لبنت آل يحيى مئة دينار! !
فظهر عليها ورماها بالصّرّة، وقال لها: حلال لك حرام على بنت آل يحيى.
فامتنعت من قبولها لعلمها بالمهمّة، فلم يأخذها منها، وبعث لآل يحيى بالاعتذار، فعظم الأمر عليهم وأخبروا بنتهم، فقالت: إنّي لأعلم أنّه لا يخلف وعدا، ولا يبيت على جنابة، ولا يأكل إلّا مع ضيف، ولن يتأخّر إلّا لمهمّ. وبحثت عن الواقع حتّى عرفته، فذهبت هي وأولادها إليه، فكاد يجنّ جنونه من الفرح؛ لأنّه بها مغرم، وشكرته على صنيعه، وقالت له: إن لم تزر.. زرناك.
وقد ترجمه الجنيد في «النّور المزهر» توفّي سنة (1177 ه)، وفي «شمس الظّهيرة» أنّ وفاته كانت في السّجود وهو يصلّي الظّهر.
وفي كلام سيّدي الأستاذ الّذي جمعه والدي: (أنّ سبب وفاته أنّ سبخة لسعته في جبهته وهو يصلّي الظّهر فمات).
وفيه أيضا: (أنّ العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير كان يتحرّج عن طعامه حتّى جاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم فأخبره بما في نفسه، فقال له: إنّه صاحب الوقت، له الحقّ في أموال المسلمين) اه
وخلفه ولده سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، وكان أبيض السّريرة، لا يعرف شيئا من أمر الدّنيا، وهو الّذي وصلت مواساة صاحب المغرب لسادات حضرموت في أيّامه، واختلفت الرّواية:
فالّذي قاله السّيّد محمّد بن سقّاف أنّه رضي بأكياس الدّراهم الحريريّة المزركشة بالفضة قياضا عمّا له ولأسرته منها.
والّذي قال غيره: أنّه أراد الاستئثار بجميعها، فما زالوا به حتّى اقتنع بالأكياس زيادة عن نصيبه مثل النّاس.
وفي أيّامه طلبت يافع بتريم مواساة من أهلها فثقلت عليهم، فذهب أحد آل شاميّ بهديّة تافهة إلّا أنّها ملوّنة، فعزم على يافع أن لا يأخذوا شيئا فانتهوا، وكذلك الحال كان في العام الّذي بعده. توفّي سنة (1211 ه).
وخلفه ابنه أحمد بن سالم، وكان كثير الخيرات والمبرّات، وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى حضرموت بطلب من بعض السّادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنّما كانوا ينشرون دعوتهم فيستجيب لهم النّاس، وكان ممّن استجاب لهم: آل عليّ جابر بخشامر غربيّ شبام، وبعض السّادة، وبعض آل كثير، وعبد الله عوض غرامة بتريم. فتمكّنوا بذلك من هدم القباب وتسوية القبور.
ولمّا علم الحبيب أحمد بن سالم بوصولهم إلى تريم.. استدعى منصب آل الحامد السّيّد سالم بن أحمد بن عيدروس، واتّفقوا على الدّفاع عن عينات. واستدعى الحبيب أحمد من أطاعه من يافع وآل تميم، والحبيب سالم من أطاعه من الصّيعر والمناهيل.
ولمّا علمت الوهّابيّة وغرامة بذلك.. كتب الأخير كتابا للمنصبين يقول لهم فيه: (إنّ ابن قملا وصل بقوم ـ ما تعقل ـ من القبلة، وقصدهم دخول عينات، وإن دخلوا.. بايخربون قباب مشايخنا ومناصبنا، والأولى أن تصلون أنتم ويكون الاتّفاق، واحتملوا المشقّة في الوصول، وهذه منّا نصيحة ومحبّة وشفقة، وما يشقّ عليكم يشقّ علينا..) في كلام طويل.
وكانوا يعرفون محبّته وموالاته لهم فاطمأنّوا بكتابه، فوصلوا إلى تريم، وألقوا عليهم القبض، وألقوهم تحت المراقبة، وأرسلوا العسكر إلى عينات، وقالوا لأهل عينات: إن أحدثتم أدنى أمر.. بعثنا لكم برؤوس المناصب. فتركوهم يفعلون ما شاؤوا، وخافوا منهم خوفا شديدا، وكلّفوهم غرامة شديدة دفعوا فيها حليّ نسائهم.
ثمّ إنّ آل قملا تصادقوا هم والمقدّم عبد الله بن أحمد بن عبد الله ففتح لهم الطّريق إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام.. فهدموا قبّته.
وبإثر رجوع آل قملا من الجهة الحدريّة.. أطلق غرامة سراح المناصب.
ولا يشكل نسبة كبر الأمر إلى عبد الله عوض غرامة، مع أنّ ذلك كان في أيّام عمّه؛ لاحتمال أنّه غلبه على رأيه أو استماله إليه، وبقي عنده فيه شكّ أو مجاملة فألقى عهدته على عبد الله عوض.
وبإثر وصول الحبيب أحمد بن سالم إلى عينات.. أرسل ولده أبا بكر إلى جبل يافع، وأتى بأقوام، وأذكى نار الحرب على غرامة، وضيّق عليه الخناق.
هذا ما يقوله السّيّد محمّد بن سقّاف، وفيه خلاف أو تفصيل لما في شرح بيت آل تميم من «الأصل»؛ إذ الّذي فيه: أنّ السّيّد أبا بكر بن أحمد إنّما ينهض إلى يافع ليأتي بقوم يحارب بهم السّيّد سالم بن أحمد الحامد، وأنّهم لمّا وصلوا تريم بعد اللّتيّا واللّتي في أوّل رمضان من سنة (1237 ه).. أرضوهم بخمس مئة ريال فرّقوها على سيئون وتريم وعينات، ولم يكن حرب، والله أعلم أيّ ذلك كان. مع أنّه لا يبعد أنّ الحبيب أرسل ابنه أبا بكر إلى يافع مرّتين؛ أوّلا: لحرب غرامة، وثانيا: لحرب السّيّد سالم، ولم يكن بالآخرة قتال.
وفي «الأصل» عن الجنيد: أنّه انتقد على الحبيب أحمد بن سالم هذا كثرة حروبه مع قوّته في العبادة وصيامه للأشهر الحرم، وأنّ الحبيب طاهر بن حسين أجابه بما يزيل سوء ظنّه به، فليكشف منه.
ومن هذا المنصب كانت تولية القضاء لجدّنا محسن بن علويّ بسيئون وأعمالها بوثيقة محرّرة في ذلك بتاريخ محرّم سنة (1236 ه)، وفي ذلك ما يدلّ على نفوذ أمره، واتّساع سلطانه، ودخول يافع تحت طاعته.
وقد حجّ الحبيب أحمد بن سالم، وأكرم شريف مكّة وفادته، وأهداه كسوة فاخرة، وفرسا عربيّة محلّاة، وألفا وخمس مئة من الرّيالات الفرانصة. وكانت له نفقات جليلة، وصدقات جزيلة. توفّي سنة (1242 ه).
ووقع رداؤه على ابنه أبي بكر، وكانت له عبادة ومحاسن وإيثار للسّلم، فاصطلح هو وابن يمانيّ والمناهيل وأهدروا الدّماء الّتي طلّت بينهم، ولكنّ يافعا أساءت عليه الأدب، ونهبوا في عينات، ووصل إلى سيئون ليصلح بينهم.. فلم يقبلوا له كلاما. توفّي سنة (1261 ه).
وقام في مقامه ابنه سقّاف بن أبي بكر بن أحمد بن سالم وفي أيّامه انتشر الجهل، فحرص الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر على كشف غمراته، فبعث بالحبيب عمر بن عبد الله بن يحيى فلم يحسن سياستهم، فردّوه مكسور الخاطر، ثمّ إنّ جدّي المحسن زار شعب المهاجر فلاقى به بعض أبناء الحبيب عبد الله بن حسين، فزيّن له زيارة أبيه، فتوجّهوا معا إلى المسيله، فكلف عليه الحبيب عبد الله أن يذهب إلى عينات ليذكر آل الشّيخ، فاعتذر أوّلا بأنّ معه صغار أولاده، فلم يقبل له عذرا، فذهب وأقام لديهم أربعين يوما، وحصل به نفع عظيم لا يحصل مثله في أعداد من السّنين؛ لأنّ قلوبهم سليمة، وأذهانهم نقيّة.
وفي أيّامه وصل السّيّد عمر بن عليّ بو علامة ـ السّابق ذكره في المكلّا ـ إلى عينات، وسار هو وإيّاه إلى دوعن.
ثمّ حجّ في سنة (1280 ه)، وتوفّي سنة (1283 ه)، وابنه سالم في بندر المكلّا، فنادوا به مع غيابه منصبا ساعة دفن أبيه، وكتبوا له وللنّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ وأولاد عمر بن عوض القعيطيّ وهم مجتمعون بالمكلّا، وعندهم يافع من الجبل ومن حضرموت، وناس من الأعجام المسلمين، يقال لهم: الرّويلة، من كابل، يريدون بذلك إخراج غالب بن محسن الكثيريّ من الشّحر، فتمّ لهم ما يريدون.
وكان الحبيب سالم هذا أدّى نسكه مع أبيه، ثمّ توفّي سنة (1295 ه).
ونادوا بابنه أحمد منصبا مع أنّ سنّه لم يكن يومئذ إلّا تسعا، فكان كما قال مروان بن أبي حفصة [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:
«فبانت خصال الخير فيه وأكملت *** وما بلغت خمسا سنوه وأربعا»
وكان عمّه الفاضل السّيّد محمّد بن سقّاف غائبا بجاوة، فترك كلّ شيء وخفّ إلى حضرموت اهتماما بتعليمه.
وفي حدود سنة (1306 ه) اتّصل ـ بواسطة عمّه محمّد والسّيّد بو بكر منصب الآتي ذكره ـ بسيّدي الأستاذ الأبرّ اتّصالا أكيدا، ولبس منه، وأخذ عنه، وتحكّم له، وعهدي به وهو ماثل بين يدي الأستاذ في مصلّى والدي بعلم بدر من أرباض سيئون مع أنّه من عشيّة اللّيلة الّتي مثل في صباحها بين يدي سيّدي الأبرّ كان يمشي إلى حفل المولد العامّ، وشيوخ العلويّين ـ ومنهم الأستاذ ـ يمشون وراءه كما يقول الوالد مصطفى المحضار عن مشاهدة، وهو المقدّم عليهم في القعود والقيام.
وفي ذلك العهد كان وصول الفاضل الجليل المنصب أبي بكر بن عبد الرّحمن بن أبي بكر، من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن شيخان ابن الشّيخ أبي بكر صاحب لامو إلى حضرة الأستاذ، وهو رجل شهم، ذو أيد وقوّة، فلقد شهدت سيّدي الأستاذ الأبرّ تحت نخلة من بستاننا ظليلة بعد الظّهر إذ سقط عذق والنّاس ملتفّون، وكاد يقع على عمامة سيّدي الأستاذ، فنهض المنصب بو بكر نصف نهضة وتلقّاه بيد واحدة كأنّه كرة، مع أنّه لا ينقص وزنه عن أربعين رطلا.
وله اطّلاع على أسرار الأسماء والحروف، ومعرفة بالأوفاق، وله خطّ جميل.. وكتب «رسالة» ـ أظنّها تتعلّق برحلته واتّصاله بالأستاذ ـ ذكر فيها أخذ الحبيب أحمد بن سالم عن الأستاذ، وفرقان ما بين حاله قبل أخذه وبعده، وأطنب في ذلك بصورة مشوّقة لم يبق بذهني منها إلّا اليسير، ولا لوم؛ فقد كنت يومئذ حوالي السّابعة من عمري، ولو لا أنّ خطّه كان بديعا حسنا، وأنّ الرّسالة كانت مزيّنة بالألوان والنّقوش.. لم يبق لها أثر عندي البتّة، لكنّ وجودها بالصّفة الّتي تستلفت أنظار الصّبيان هو الّذي حمّلني منها ما لا تزال بقاياه بالذّاكرة على بعد العهد وصغر السّنّ، مع أنّي لم أنظرها إلّا وقت وجوده بحضرموت، وهو عام (1306 ه) كما تقدّم.
توفّي الحبيب أحمد بن سالم فجأة سنة (1324 ه)، ووقع رداؤه على ولده عليّ، وكان شابّا نشيطا، مضيافا كثير الإصلاح بين الجنود، وكان السّيّد حسين بن حامد يكرهه ويحسده؛ لامتداد نفوذه وجاهه، وله معه مواقف لم يلن فيها جانبه، ولم يزلّ نعله، ولم يعط المقادة، ولم يسلس الزّمام.
حجّ في سنة (1345 ه)، وأكرم وفادته الملك ابن سعود، وأعطاه خنجرا ومئة جنيه من الذّهب، وتوفّي سنة (1349 ه).
وخلفه ولده المبارك أحمد بن عليّ، وقد اعتنى بتربيته الشّابّ العفيف شيخ بن أحمد بن سالم عمّ أبيه، وأحضره على العلماء، ودبّر أمور دنياه، حتّى لقد مات أبوه مدينا باثني عشر ألف ريال (12000)، ولم يكن ضيفه ولا خرجه بأقلّ من خرج أبيه، ومع ذلك فقد قضى جميع ديون والده، ومرّت الأزمة وفناؤه رحب، وضيفه كرم، وخاطره رخو، وكاهله خفيف بفضل تدبير السّيّد شيخ، فجزاه الله خيرا.
وله فوق ذلك من المحاسن، ولين النّحيزة، وكرم الطّبيعة، واستواء السّرّ والعلانية، والخبرة بأحوال الزّمان، والتّمرّن على سياسة أهله.. ما لا يساهمه أحد فيه.
وللسّادة آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر منصب بعينات، وجاه ضخم لدى الصّيعر والمناهيل وغيرهم.
وفي «شمس الظّهيرة» [1 / 288]: أنّ القائم بمنصب جدّه بعد أبيه هو: السّيّد عيدروس بن سالم، ذو السّيرة الحميدة، توفّي بعينات سنة (1170 ه)، وعقبه هناك
ومنهم: ولده المنصب الجليل سالم بن محسن، وخلفه ولده المنوّر البارّ عبد القادر، توفّي وخلفه ولده صالح.
ومنهم: الفاضل العالم الواعظ السّيّد حسن بن إسماعيل، تخرّج برباط تريم على الفاضل العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، ثمّ عاد إلى عينات وابتنى بها رباطا، هو مقيم به على نشر العلم، وقد انتفع به خلق كثير من أهل تلك النّواحي.
وفي عينات جماعة من آل باوزير؛ منهم: العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير.
وجماعة من آل بافضل؛ منهم: العلّامة الشّيخ رضوان بن أحمد بافضل، من أعيان أهل العلم والصّلاح، وحسبك أنّ سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه على تحرّيه يشهد له بذلك، توفّي سنة (1265 ه).
وأوّل من نقل منهم من تريم إلى عينات: الشّيخ محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بارضوان، المتوفّى سنة (1188 ه).
وفي عينات جماعة من آل بايعقوب، أظنّهم من أعقاب قاضي تريم في عصر السّقّاف الشّيخ بو بكر بن محمّد بن أحمد بايعقوب، وناس من آل باحنان وآل باعبده وغيرهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
68-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الواسطة)
الواسطةهي قاعدة ملك الصّبرات، بشهادة ما في «الأصل» عن «مفتاح السّعادة والخير» [خ 63]: (أنّ عيسى بن محمّد الصّبريّ والي الواسطة تعمّر كثيرا، ومات ولا ولد له، فولي بعده عقيل بن عيسى بن مجلب الصّبريّ، وهو ابن أخته، وليس من فخذه، وكان لهذا تعلّق بالصّالحين مثل خاله، فصال آل أحمد على الواسطة فأراد الخروج لقتالهم ـ ولم يكن عنده سوى سبعة فرسان مع عسكر قليل لا يكافىء آل أحمد ـ فمنعه أصحابه من الخروج، فلم يمتنع، وهجم على آل أحمد، وتبعه أصحابه فقتلوا كثيرا من آل أحمد، وما زالوا يقتلونهم ويطردونهم إلى فرط باشحاره) اه
وللواسطة ذكر كثير في حوادث آل يمانيّ والصّبرات وغيرهم ب «الأصل».
وفي الواسطة كثير من علماء آل باشعيب وفضلائهم؛ منهم الشّيخ حسن بن إبراهيم باشعيب؛ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم.
وفي ترجمة السّيّد عقيل بن عمران من «المشرع» [2 / 442]: أنّه أخذ عن الشّيخ حسن باشعيب بالواسطة.
وفي ترجمة السّيّد أبي بكر بن سعيد الجفريّ المتوفّى سنة (880 ه) أنّه أخذ عن العارف بالله حسن بن أحمد باشعيب، وفي مقدّمة «ديوان الحدّاد» عن الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ: أنّ سبب إنشاء القصيدة المستهلّة بقوله [من المنسرح]:
«إن كان هذا الّذي أكابده *** يبقى عليّ فلست أصطبر»
ما أخبرني سيّدي عبد الله الحدّاد قال: وقعت لي مسائل أظنّها ثلاثا؛ فلم يجبني عنها أحد بتريم، فرأيت الشّيخ حسن باشعيب تلميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم في مسجد آل أبي علويّ فأجابني عن اثنتين، وقال لي في الثّالثة: إنّما يجيبك عنها السّقّاف، فوقع في خاطري: أنّه السّيّد محمّد صاحب مكّة، فكتبت إليه، فأجابني.
وفي ترجمة السّيّد عبد الرّحمن بن إبراهيم بن عبد الرّحمن المعلّم بن إبراهيم بن عمر بن عبد الله وطب المتوفّى بقسم في سنة (1057 ه): أنّه أخذ عن الإمام العارف الأديب حسن بن إبراهيم باشعيب.
ومنهم: العلّامة الفقيه الشّيخ عبد الله قدريّ باشعيب، له ذكر كثير في «مجموع الأجداد». ومن فوائده: أنّه نقل في رسالة له عن التّاج السّبكيّ أنّها تسمع دعوى من يدّعي على تارك الصّلاة ولو لغير الحسبة، فيقول: أدّعي على هذا أنّه ترك صلاة كذا، وقد أضرّني، فأنا مطالب بحقّي. اه
وفي ترجمة الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم بن قاضي: أنّه من أقران القطب الحدّاد.
ومنهم: الشّيخ عبد الله بن أبي بكر قدريّ صاحب «الباكورة»، أحد مشايخ السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد.
ومنهم: الشّيخ حسن بن أحمد باشعيب صاحب كتاب «عافية الباطن».
وعلى الإجمال: فإنّهم بيت علم وصلاح، ولهم مؤلّفات، ولبعضهم تراجم في «خلاصة الأثر» للمحبّي.
وعن الشّيخ رضوان بن أحمد بارضوان بافضل قال: (رأيت على هامش تصنيف ـ في مناقب الشّيخ أبي بكر بن سالم للشّيخ عبد الله بن أبي بكر باشعيب، أظنّه بخطّ المؤلّف ـ خبرا عن الفقيه عبد الرّحمن بن عبد الله باشعيب، وهو من آل شعيب أهل شبام؛ منهم الشّيخ أبو بكر بن شعيب صاحب التّصنيف المشهور في الفقه، وله شرح على «المنهاج»، له إقامة بمكّة ولعلّه توفّي بالحرمين.
وليس لهم اتّصال بآل شعيب المسفلة؛ فجدّ أهل المسفلة: الشّيخ العارف محمّد بن عليّ بن سعيد شعيب الخطيب، انتقل من تريم، وهم مشهورون ب «آل شعيب الخطيب»، ومنهم بنو عقيل بالرّيدة، كان منهم ناس أهل حال منتظم، ومنهم الآن ناس بزيّ البادية.
ومن آل شعيب المسفلة: بنو عيسى أو بنو عليّ بظفار، كانوا بيت علم وصلاح، ومنهم قضاة الشّريعة، لهم ذكر في مناقب الشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس، ولأحدهم مدائح في الشّيخ، وبلغني أنّه بقي منهم قليل، ومنهم طائفة بعمان يحملون السّلاح مع السّلطان ابن سيف عالمين بالنّسبة لآل أبي شعيب.
وسمعت بعض شيوخ آل شعيب بشبام يذكر أنّ أصل آل شعيب بشبام من أرض الجوف، والله أعلم) اه
وقد مرّ بعضه في شبام.
وفي ترجمة السّيّد عبد الله باعلويّ من «المشرع» [2 / 406 ـ 407]: (أنّه أعطى تلميذه الشّيخ محمّد بن عليّ باشعيب الأنصاريّ أرضا واسعة، فغرسها الشّيخ محمّد نخلا، وتسمّى بباشعيب. ووقف على ضيف بلده المسمّاة بالواسطة نخلا وأرضا) اه
وهو أوّل من انتقل من تريم إلى الواسطة.
ومن آل باشعيب الشّيخ عبيد بن عبد الله بن هادي بن صالح باشعيب، طلب العلم بتريم على أخينا العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، وهو الآن بمكّة. وله تعلّق برجل البرّ والإحسان: الشّيخ محمّد بن عوض بلّاذن السّابق ذكره في رباط باعشن.
ومن أهل الواسطة: الشّيخ مهنّا بن عوض بن عليّ بن أحمد بامزروع بامطرف القنزليّ، كان من العلماء ثمّ تعلّق بكتب الصّوفيّة، فأخذه الجذب، ترجم له في «خلاصة الأثر» [4 / 442]، وأورد له أشعارا؛ منها قوله [من مجزوء الكامل]:
«للقادسيّة فتية *** لا يشهدون العار عارا»
«لا مسلمين ولا يهو *** د ولا مجوس ولا نصارى »
كذا روي، وقد رأيت البيتين في مادّة (بغداد) من «معجم ياقوت» معزوّين لغيره، والأوّل شبيه بما أنشده الأصمعيّ عن أبي عمرو لبعض بني أسد [من مجزوء الكامل]
«إن يبخلوا أو يجبنوا *** أو يغدروا لا يحفلوا»
«يغدوا عليك مرجّلي *** ن كأنّهم لم يفعلوا»
قال المحبّي: (وكانت ولادة مهنّا ـ كما أخبرني بعض تلاميذه ـ في شوال سنة (1004 ه)، وتوفّي ب (المدينة) سنة (1069 ه)، وأبوه عوض من تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم)
وفي (ص 94 ج 2) من «عقد شيخنا»: نروي حزب الشّيخ أبي بكر بأسانيد إلى الشّيخ المحدّث حسن بن عليّ العجيميّ المكّيّ بروايته له عن الشّيخ الصّوفيّ مهنا بن عوض بامزروع عن والده عن الشّيخ أبي بكر بن سالم.
وفي «مجموع الجدّ طه بن عمر» عن أحمد مؤذّن: (أنّ عليّ باشعيب نائب الواسطة أثبت هلال شعبان سنة «1071 ه»، وهو رجل عاميّ محض لا يعرف شيئا من الفقه، وصادقه الحبيب عليّ بن الحسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، ثمّ انخسف القمر ليلة (16) على حسابه، فتحقّق تهوّره في الإثبات. ثمّ ثبت رمضان عند ولد بامطرف في الغيل بغوغاء، وأنفذ الثّبوت إلى الشّحر ليلة الجمعة، فلم يره ليلة السّبت إلّا الآحاد، فتبّين أنّ إثبات بامطرف والكتابة به تلاعب بالدّين) اه
وقد مرّت الإشارة إلى بعضه في الغيل.
وفي الواسطة ناس من آل دخنان التّميميّين، وناس من آل عثمان التّميميّين.
وفي شمال الواسطة قرية يقال لها: سويدف، فيها مشايخ من آل بني صالح باجابر، وناس من آل عثمان وآل سعيد التّميميّين، وناس من آل عبد الباقي العوامر.
ثم: وادي الواسطة.
وهناك أودية كثيرة؛ كوادي حسين، ووادي هجره، ووادي عولك.
ومن قسم إلى جهة الشّرق: وادي الخون، فيه نخل جميل.
وله واد يسمّى: وادي ضرغون، يذهب غربا في الجبل الّذي عن شماله، وفيه ثلاثة معايين، يقال لأحدها: معيان العليا، وللثّاني: معيان العيينة، وللثّالث: معيان سويدف.
وفي شمال هذا: وادي الشّكيل. وفي غربيّه: وادي سويدف.
وهذه المعايين تسقي نخيل الخون الّتي يضرب المثل بها في النّفاسة، ويفيض الزّائد من مائها إلى المخاضة الّتي في شرقيّ قسم على طريق الذّاهبين إلى شعب هود عليه السلام.
وفي الخون قرية ينسب إليها السّيّد علويّ الخون بن عبد الرّحمن بن عبد الله باعلويّ، انقرض عقبه سنة (1039 ه)، والسّيّد عبد الرحمن بن أحمد الخون.
ومن وراء الخون: الفرط، والكوده، وباحفاره، ووادي سبيه، ووادي جب.
ثم: حصن العر، وهو حصن بأعلى قارة فاردة، باقية آثاره الشّاهدة بحكمة وقوّة بانيه من الحجارة المنحوتة، حتى لقد أنكر بعض السّوّاح الأجانب أن يكون من بناء الحضارم، وتوهّم أنّه من بناء حكماء اليونان ومهندسيهم؛ لأنّه بصنيعهم أشبه، وما درى أنّ عادا هم الّذين يبنون بكلّ ريع آية يعبثون، ويتّخذون مصانع لعلّهم يخلدون، وأنّ ثمودا نعم الّذين ينحتون من الجبال بيوتا فرهين، والله يقول: (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ)
وتعدّ منازلهم وحضارتهم أقدم من حضارة اليونانيّين بألوف السّنين.
وقد مرّ في حصن الغراب ما ينبغي النّظر إليه عند هذا، ولا يبعد أن يكون هذا الحصن هو حصن جعفر بن قرط بن الهميسع ـ المسمى: علعال ـ الّذي لجأت إليه بلقيس في خبرها المشروح ب «الأصل».
وفي «صفة جزيرة العرب» [173 ـ 174] لابن الحائك ذكر العرّ وثوبة في عداد سرو حمير وأوديته بترتيب مشوّش.
وفي «القاموس»: أنّ العرّ اسم لجبل عدن.
ولعلّ العرّ وثوبه المذكورين عند ابن الحائك على اسم العرّ هذا وثوبه الّتي تليه؛ لأنّ هذين إذا كانا عاديّين.. فهما أقدم من ذينك بكثير.
وحوالي هذا الحصن كانت الواقعة الهائلة للمناهيل على آل تميم، حسبما فصّلت ب «الأصل».
ومن قتلى آل تميم في ذلك اليوم: منصور وهادي وعليّ آل قحطان.
«أبوا أن يفرّوا والقنا في نحورهم *** ولم يرتقوا من خشية الموت سلّما»
«ولو أنّهم فرّوا.. لكانوا أعزّة *** ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما»
وقديما كان يقال: ضحّى بنو أميّة بالدّين يوم كربلاء، وبالشّجاعة يوم العقر.. وكذلك ضحّت المناهيل بناس بني تميم يوم العر بعد أن كان منهم ليوث غريف، وغيوث خريف.
«لعمرك ما تدري القوابل منهم *** أسلّت رجالا أم ظبى قضب بتر »
«هم استفرغوا ما كان في البيض والقنا *** فلم يبق إلّا ذو اعوجاج وذو كسر»
وفي الأخير ضبطت الحكومة القعيطيّة هذا الحصن، وجعلت فيه عسكرا أو شابا ليسوا من صميم يافع، ومع ذلك أقرّتهم المناهيل ولم تستنكف، حتّى سمعوا ما يؤلمهم من بعض نوّاب القعيطيّ الّذين طالما تألّمنا من سياستهم العوجاء ـ كما سبق ـ في الشّحر؛ لأنّهم لا يعرفون مقادير الرّجال، ولا ينزلون النّاس منازلهم، فلم يكن من المناهيل إلّا أن هجموا على الحصن وجرّدوا العسكر من السّلاح، وطردوهم، وكسروا ناموسهم.
ولم يبال أحد منهم بالعار سوى يافعيّ واحد كان بينهم؛ فإنّه لم يرض إلّا بالقتل، وكان ذلك في سنة (1366 ه)، وأشاع بإثرها من في صدره ضبّ ضغن على الحكومة القعيطيّة: أنّ الدّولة البريطانيّة فصلت العر وما نزل عنها شرقا عن المملكة القعيطيّة، وعقدت مع المناهيل معاهدة مستقلّة طمعا فيما ظهر بتلك البقاع من آثار البترول. وما أظنّ هذا يصحّ بحال، وإذا كان المتحدّث سفيها.. يكون المستمع عاقلا؛ لأنّ الحكومة الإنكليزيّة أعقل من أن تكون كالصّائم الّذي وقع على حشفة فأفسد بها صومه، مع أنّه لا يتعذّر عليها شيء من أمر البترول مع بقاء الأرض في حوزة القعيطيّ؛ إن هذا إلّا اختلاق.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
69-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (شعب نبي الله هود عليه السلام)
شعب نبيّ الله هود عليه السّلامهو شعب متّقد بالنّور، حليّ بالسّرور، شبيه بمنى من حيث الدّور، فلا بدع أن يجيء فيه موضع قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 570 من الطّويل]:
«فوا لهفي كم بي من الخيف لهفة *** تذوب عليها قطعة من فؤاديا»
وكيف لا يكون كذلك وهو مهبط وحي، ومعقل نبوّة، ومختلف ملائكة، ومتنزّل سكينة؟! !
وقد دلّلت في «الأصل» على وجود نبيّ الله هود في حضرموت بالدّلائل المجلوّة، ومن أقواها هذه الآية المتلوّة: (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
والأحقاف هي حضرموت دون نزاع، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتّى يعلم خلافه، فينبغي أن يعقد عليه الإجماع.
وما أخرجه الحاكم من التحاق نبيّ كلّ أمّة تهلك بمكّة.. عامّ موقوف، يخصّصه ما أخرجه ابن إسحاق في «المبتدأ» وابن عساكر في «التّاريخ» عن عروة بن الزّبير: (أنّه ما من نبيّ إلّا حجّ هذا البيت، إلّا ما كان من هود وصالح تشاغلا بأمر قومهما حتّى قبضهما الله ولم يحجّا).
ولئن ذكر حجّ هود في «مسند أحمد» فما سنده بأشمل ممّا مرّ عن ابن إسحاق وابن عساكر.
وقد ذكر ابن هشام في «التّيجان»: (أنّ هودا وأولاده يحجّون ثمّ يعودون إلى ديارهم).
وفي جواره كان قبر لقمان بن عاد الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير، صاحب النّسور السّبعة كما في «إكليل» الهمدانيّ [8 / 184] وذكره غيره أيضا. ولقبر هود ذكر طويل في (ج 8 ص 131 ـ 133) منه.
ولذكر منبره، ولقبر قضاعة بن مالك بن حمير جدّ قبائل قضاعة في الشّام واليمن حديث آخر فيه من (ص 156 ـ 158)، وهو لا يخرج عمّا سبق في وادي عمد عن «الشّهاب الرّاصد»: أنّ قبر قضاعة بجبل الشّحر؛ لأنّ شعب هود عليه السّلام داخل في مسمّى الشّحر.
وقال في (ص 176 ـ 177) منه: (إنّ قبر هود عليه السّلام بالأحقاف، بموضع يقال له: الحفيف في الكثيب الأحمر)، وهو موافق لما في «الأصل»، وذكر أنّ: «قبر قحطان بن هود بمأرب».
وأمّا نسب نبيّ الله هود عليه السّلام.. فقال الهمدانيّ في (ج 1 ص 161 ـ 177) من «الإكليل»، (إنّهم اختلفوا فيه إلى خمس فرق).
قالت الأولى: إنه قحطان بن هود بن عبد الله بن رباح بن خلد بن الخلود ـ وهو مخلّد ـ ابن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. قال أبو نصر: والنّاس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم بن بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن الهاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ، وذكر أنّه وجد هذا النّسب في بعض مساند حمير في صفاح الحجارة.
وعابر بن شالخ هو هود بن شالخ، ولا نسب لحمير في عاد.
وأمّا قول علقمة بن ذي جدن [من الوافر]:
«ومصنعة بذي ريدان أسّت *** بناها من بني عاد قروم »
.. فحيف من علقمة، وربّما كان الّذي بناه من حمير أبناء رجل منهم يسّمى عادا؛ فالأسماء مستعارة، وقد جاء في حمير عمالقة، والعمالقة إنّما هم بنو لاوذ بن سام، فإمّا أن يكون ذهب إلى القدم فالعرب تقول لكلّ شيء قديم: عاديّ، قال بعض طيّء [من المتقارب]:
«وبالجبلين لنا معقل *** صعدنا إليه بسمر الصّعاد»
«ملكناه في أوليات الزّمان *** من بعد نوح ومن قبل عاد»
ذهب إلى مجرّد القدم.
ومن الدّليل على أنّ حمير ليست من عاد.. قوله جلّ وعلا بعدما ذكر مهلك عاد: (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) فلا باقية لهم ولا لثمود؛ لقوله تعالى: (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) وحمير تملأ البلاد إلى اليوم، وهذه الحجّة ضعيفة، وفي الحديث: «إنّ في المشرق: جابلق، يسكنها بقايا عاد، وفي المغرب: جابرس، ويسكنها بقايا ثمود».
والعرب كثيرا ما تطلق الكلّ على البعض.
وقال الفرقة الثّانية ـ وهم الأكثر ـ: هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ، ثمّ افترقت هذه الفرقة.
فقال أقلّها: إنّ عابر هذا ليس بهود المرسل؛ لأنّه ليس من عاد، وإنّ هودا المرسل إلى عاد كان من أنفسها وأوسطها.
وقال أكثر هذه الفرقة: إنّ عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام هو النّبيّ المرسل، وإنّه عاش (420) سنة، وعاش عاد بن عوص ثلاث مئة سنة وما مات حتّى ملأ أولاده البلاد، وأدرك أوّل ملك الخلجان من ولده، وهو الّذي هلكت عاد في عصره، واحتجّ هؤلاء بحجّتين؛ إحداهما: قول علقمة بن ذي جدن [من الطّويل]:
«سأبكي لقومي حميرا أن تجرّموا *** وأصبح منهم ملكهم متمزّقا»
«تراث نبيّ الله هود بن شالخ *** بنيه بني قحطان غربا ومشرقا»
وقول النّعمان بن بشير الأنصاريّ [من الطّويل]:
«فمنّا سراة النّاس هود وصالح *** وذو الكفل منّا والملوك الأعاظم »
وقول حسّان بن ثابت الأنصاريّ [من الطّويل]:
«فنحن بنو قحطان والملك والعلا *** ومنّا نبيّ الله هود الأحابر»
«وإدريس ما إن كان في النّاس مثله *** ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر»
قال يعرب [من الوافر]:
«بنيّ أبوكم لم يعد عمّا *** به وصّاه قحطان بن هود»
والحجّة الثّانية: أنهم ذكروا أنّ حمير بن سبأ سيّر جرهما إلى الحرم وأرض الحجاز، وأمّر عليهم هيّ بن بيّ بن جرهم بن يقطن بن عابر.
وقال الخزاعيّ: هو هيّ بن بيّ بن جرهم بن الغوث بن يشدد بن سعد بن جرهم فلمّا صاروا بأسفل مكّة.. إذا هم بهاجر ومعها ابنها إسماعيل بن إبراهيم، ولمّا أخبرتهم بنسبه.. عرفوه، وذكروا القرابة، ورغّبهم قربهم في مجاورته، فكان حمير بن سبأ في درجة إبراهيم في النّسب إلى عابر؛ إذ هو إبراهيم بن آزر، وهو تارخ بن شاروخ بن أرعواء بن فالخ بن عابر، وحمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، وكذلك من قال: إنّ عابر هو هود بن عبد الله بن خالد بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهذا أقرب القولين إلى ما يلائم الصّواب.
وقالت الفرقة الرّابعة: إنّ حمير وجرهم قبل عاد وثمود بدهور طويلة، وإنّ جرهم لم تكن يوم عثرت على إسماعيل وأمّه وعلى زمزم سيّارة من اليمن، وإنّما كان حمير بن سبأ، سيّرهم إلى جبال الحرم ولاة على العماليق وعبد ضخم، فكانوا بنجد والطّائف وأجبل الحرم، فأقاموا دهورا لا يدخلون وادي مكّة ـ إذ كان خاويا ـ إلّا لرعي، حتّى خرج الحارث بن مضاض بن عمر بن سعد بن الرّقيب بن ظالم بن هيّ بن بيّ بن جرهم بن قحطان في عصبة ترود من جرهم، فوجدوا إسماعيل وأمّه فعرّفته بالنّسب، فرغب في المقام معهما، فأقام وجميع جرهم معه، وتزوّج إسماعيل إلى العماليق، ثمّ إلى الحارث بن مضاض.
أقول: وهذا بالحقيقة لا يردّ ما قبله، بل يؤيّده؛ إذ لم يزد بين الحارث وهيّ بن بيّ إلّا خمسة، وهذه لا تغبّر على شيء كما يتوضّح من قول الفرقة الخامسة: إنّ الاحتجاج بمعادّة الآباء سبب ضعيف؛ لاختلاف أعمار النّاس) اه بنوع تصرّف واختصار.
والقول الّذي ينبغي اعتماده هو ما تكرّر عند الهمدانيّ وغيره: إنّ حمير ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود.
وأمّا السّوق الّتي تقوم في ذلك الشّعب.. فقد مرّ خبرها في وادي العين، وكانت هذه السّوق كما ب «الأصل» عن «بلوغ الأرب» تقام في النّصف من شعبان، وما زال عليه الأمر بحضرموت إلى ما قبل اليوم بنحو من مئتي سنة، فتغيّر قليلا.
وفي مكاتبة بتاريخ (5) شعبان سنة (1202 ه) من السّيّد أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد سيّرها للسّيّد محمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله.. تدلّ على أنّ تأخّر الزّيارة عن نصف شعبان إنّما كان بعد القطب الحدّاد، غير أنّ في «مجموع كلام القطب الحدّاد» ما يدلّ على أنّ بدء التّغيير كان في أيّامه، فصار أهل سيئون ومن في غربيّهم يدخلون الشّعب في اليوم الثّامن من شعبان، وينفرون في العاشر، وآل تريم يردون في التّاسع وينقلبون في الحادي عشر، وآل عينات يدخلون في العاشر ويصدرون في الثّاني عشر.
ثمّ حاول العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس إرجاع الأمر إلى ما كان من الاجتماع هناك للنّصف من شعبان، فتمّ له الأمر بعد مراجعات، ثمّ اختلف أهل تريم وآل عينات على شرف المجلس الحافل وقراءة دعاء شعبان وإمامة العشائين فيه، وأهل عينات يقنعون بالمقاسمة، لكنّ أهل تريم لا يرضيهم إلّا الاستئثار بالجميع، وتفاقم الأمر حتّى انتهى إلى حرب صوريّة كعادة حروب آل حضرموت، ثمّ لم تسوّ القضيّة إلّا بإعادة الأمر إلى ما كان عليه بالآخر.
ولقد حضرت تلك المحافل المشهورة بذلك الشّعب الشّريف كثيرا من المرّات، أوّلها الّتي لا أزال جامعا منها يديّ على غذاء الرّوح وتباشير الفتوح هي الّتي كانت بمعيّة والدي وشيخي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، حوالي سنة (1311 ه)، وفيها كانت محاورات فقهيّة، سببها:
أنّ سيّدي عمر بن عيدروس بن علويّ العيدروس وإخوانه والشّيخ الجليل محمّد بن أحمد الخطيب في ناس من تريم تبعوا سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر في جمع العشاء تقديما مع المغرب بمسجد العجز مع الذّهاب، مع أنّ ما بين تريم والشّعب لا يبلغ القصر، والظّاهر أنّ سيّدي الأستاذ الأبرّ يقصر ويجمع في سائر صلواته، لكن لا أثبت حفظا إلّا ما كان تلك اللّيلة.
ثمّ كانت بعدها مرّات كثيرة، وأذكرها عندي ـ لأكثريّة جمعها ـ هي الّتي كانت في سنة (1324 ه).
وقد تداول الخطابة في محافلها جماعة من الأفاضل، وهم: السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ. وسيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف. والسّيّد عمر بن عيدروس، المتوفّى عن عمر قصير في آخر سنة (1328 ه) بتريم، وكان خطيبا مفوّها، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يتكلّم على النّاس في أيّام الشّيوخ المراجيح، وكان بدء خطابته أنّه قرأ رسالة لسيّدي الأستاذ الأبرّ في مجمع مولد السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ، ثمّ علّق عليها وتيسّر له من بعدها الكلام.
ولا أذكر غير هؤلاء، إمّا لنسيان، أو لانحصارها فيهم.
وقد حضر ذلك العام سيّدي العلّامة المتفنّن في أنواع المعارف شهاب الدّين أحمد بن أبي بكر ابن سميط في جمع ليس بالقليل من آل شبام.
وحضرتها أيضا في سنة (1340 ه)، وكانت مشهودة من نواحي حضرموت.. دوعن فما دونها، والسّواحل فما وراءها، وكانت الخطابة خاصّة بي في اليوم الثّاني عشر، وفي صباح اليوم الثّالث عشر كانت للعلّامة الفاضل السّيّد أحمد بن عبد الرّحمن ابن عليّ السّقّاف، المتوفّى بسيئون سنة (1357 ه)، وبعد ظهره لي وللأخ العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، وفي اليوم الرّابع عشر ـ وهو أعظمها حفلا يترأسه منصب الشّيخ أبي بكر بن سالم ـ كانت الخطابة إليّ وإلى الأخ الفاضل حسن بن إسماعيل عالم آل الشّيخ أبي بكر بن سالم.
وفي سنة (1350 ه) كان أكثر الخطابة إليّ، وشاركني العلّامة الفاضل الجليل الأخ عبد الله بن عمر الشّاطريّ في اليوم التّاسع، والفاضل النّبيه الأخ حسن بن إسماعيل في اليوم العاشر. وكانت الزّيارة في تلك السّنة أعيدت إلى ما كانت عليه، بخلاف سنة (1340 ه).
وكان الذّكيّ اللّغويّ المرحوم محمّد بن أحمد بن يحيى معنا ذلك العام، فاختزل خطبتي في حفل السّادة آل الشّيخ أبي بكر بن سالم، فأضيفت إلى مجموعة الخطب.
وفي تلك المرّة كانت ضجّة خفيفة بسبب أنّني كنت مقيما بتريم، ومنها عزمت إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام مع آل سيئون ومن لفّهم، وقد طال مجلس الخطابة في اليوم الثّامن حتّى وجبت الظّهر، فصلّيتها بهم والعصر مقدّما معها مقصورتين، فزعم بعضهم أن لا رخصة لي؛ لأنّ المسافة من تريم إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام لم تبلغ القصر، فقلت لهم: إنّني بركوبي من تريم أنشأت سفرا طويلا منها إلى الشّعب وإلى سيئون إيابا، بدون تخلّل إقامة قاطعة للسّفر، وذكرت لهم قول العلّامة ابن حجر في «التّحفة»: (يقع لكثير من الحجّاج أنّهم يدخلون مكّة قبل الوقوف بنحو يوم ناوين الإقامة بمكّة بعد رجوعهم من منى أربعة أيّام فأكثر، فهل ينقطع سفرهم أو يستمرّ إلى عودهم من منى؛ لأنّه من مقصدهم، فلا تؤثّر نيّة الإقامة إلّا عند الشّروع فيها؟ للنّظر فيه مجال، وكلامهم محتمل، والثّاني أقرب) اه
فاقتنع بعضهم، وأصرّ آخرون على تخطئتي.. وللنّاظر البحث.
ثمّ ذكّرني الولد الفقيه علويّ بن عبد الله أنّ البحث طال في المسألة أيّام تدريسي في «المنهاج» والتزامي بإملاء عبائر «التّحفة» و «النّهاية» و «الأسنى» وحواشيهما من حفظي بعد التّعليق وكان سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف هو الّذي قلّدني ذلك والعود ريّان، والعارض عريان، والشّيوخ كثير، وعدد أهل العلم وفير، فكنت كما قال نهار بن توسعة [من الخفيف]:
«قلّدته عرى الأمور نزار *** قبل أن تهلك السّراة البحور»
لا كما قال الأسود [من الوافر]:
«وسادت بعد مهلكهم رجال *** ولو لا يوم بدر لم يسودوا»
وبما نال من التّوفيق، واشتمل، على التّحقيق.. كان لا يتخلّف عنه إلّا الشّاذّ قال: ولمّا قرّرت نحو ما هنا.. وافق الأكثرون؛ كالأجلّاء: الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين، والسّيّد محمّد بن حامد بن عمر، والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، والشّيخ عوض الصّبّان، وعمر بن أحمد بن جعفر، وعبد الله بن شيخ بن محمّد، وجعفر بن عبد الله، وسالم بن صافي، والشّيخ أحمد بن محمّد بارجاء، وغيرهم.
وخالف الشّيخان عمر عبيد ومحفوظ بن عبد القادر آل حسّان، واشتدّ الجدال، وتشادقت الرّجال، وأحضر «الإيعاب» وفيه ما هو أصرح من «التّحفة» وقد نظمه الشّيخ محمّد باكثير بقوله [من الرّجز]:
«ومن يسر من نحو (سيئون) إلى *** زيارة النّبيّ هود مثلا»
«وكان لمّا وصل (الغنّا) نوى *** عودا إلى (سيئون) بعد أن أوى »
«فالآن لا ترخّصن له ول *** كن إن يجدّد قصد هود مقبلا»
«ففي الذّهاب والإياب كان له *** ترخّص والنّقل في ذي المسأله »
«جاء صريح النّصّ في «الإيعاب» *** عزاه في «المجموع» للأصحاب »
«والشّافعيّ وهو أنّ من أتى *** للحجّ من بلاده موقّتا»
«ثمّ أتى (مكّة) ناويا إقا *** مة تنافي نحو قصر مطلقا»
«فليترخّصن ذهابا وإياب *** وذي وتلك كالغراب والقراب »
ومع هذا أصرّ الشّيخان عمر ومحفوظ على خلافي، فأنا أمهّد العذر لمن أنكر عليّ بعد؛ لأنّ له بهذين على ثقوب فهمهما أسوة.
هذا حاصل ما أخبرني به الولد علويّ فتذكّرته.
وبعد هذا كلّه ذكرت أنّ سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر في زيارته السّابق ذكرها أقام بتريم قبل أن ينشىء السّفر إلى الشّعب أكثر من أربعة أيّام صحيحة وهو يقصر ويجمع كما تقدّم، وكفى به حجّة، ولو أنّني ذكرت ذلك لعمر عبيد ومحفوظ آل حسّان.. لأذعنا لما ذهبت إليه، ولكنّني نسيت، وما أنساني إلّا الشّيطان.
أمّا الحديث الصّحيح: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».. فقد اختلف فيه، والأكثرون على أنّه عامّ مخصوص بالمساجد، فلا تشدّ الرّحال إلى شيء منها لتقاربها في الفضيلة.. ما عدا الثّلاثة؛ لتميّزها بزيادتها فيه؛ إذ لا يحرم بالاتّفاق شدّها للتّجارة وطلب العلم وزيارة الأحباب والصّالحين من الأحياء وما أشبه ذلك، ولكن قد نصّ إمام الحرمين ـ ومثله القاضي حسين ـ على تحريم السّفر لزيارة القبور، واختاره القاضي عياض بن موسى بن عياض في «إكماله»، وهو من أفضل متأخّري المالكيّة، وقام وقعد في ذلك الشّيخ الإمام ابن تيميّة، وخطّأه قوم، وصوّبه آخرون، ومهما يكن من الأمر.. فليسعه ما وسع الجوينيّ والقاضيين حسينا وعياضا، ولكنّهم أفردوه باللّوم، والقول واحد.
وقال مالك بن أنس: من نذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلّي فيه.. كرهت ذلك؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».
وقال ابن كجّ ـ من كبار أصحاب الشّافعيّ ـ: إنّ الزّيارة قربة تلزم بالنّذر.
والخطب يسير لم يوسّعه إلّا الحسد والتّعصّب، وإلّا.. فالتّثريب في موضع الاختلاف ممنوع.
وأيّام الشّعب ـ بما فيها من الصّفاء والأنس والأفراح والمزاورات ـ أشبه بأيّام منى من الجرادة بالجرادة، وفيها الدّعاء يجاب، والغمّى تنجاب، والرّحمى لا تنتقر، وشقاشق الخطباء لا تقرّ، وثمّ تذرف العيون، وتغرق الجفون، وتبتلّ الأردان، وتقشعرّ الأبدان، وترجف القلوب، ويحصل المطلوب، ويتحدّث النّاس في خطابة جدّي المحسن بتلك المشاهد عن أمر عظيم.
«وقد علم الحيّ اليمانون أنّه *** إذا قال: أمّا بعد.. فهو خطيبها »
وتنعقد ثمّ الأسواق المجلوبة إليها الأغنام والإبل من أطراف بلاد المهرة والمناهيل، غير أنّ الآخرين لا يمكّنون الأوّلين من دخولها إلّا في اليوم العاشر، أمّا ما قبله.. فلهم الأثرة به.
ومن وراء شعب نبيّ الله هود عليه السّلام: وادي ينحب، ووادي يسحر.
ثمّ: مقاشع، وهي قرية بالية ليس بها إلّا الآثار القديمة. ثمّ: سنا.
وفي «شمس الظّهيرة» [1 / 328] في ذكر عبد الرّحمن بن أحمد يبحر بن محمّد حذلقات: (من عقبه آل بيت الهادي بالبادية: بالجزع وراطح، وآل بارزينة بالجزع، وسنا قرب هود، وآل مخضرم بسنا وفغمه) اه
وفيها أناس من آل تميم.
والظّاهر أنّ سنا على اسم: سنا بن السّكون بن الأشرس بن كندة؛ فقد جاء في «روضة الألباب وتحفة الأحباب» لعزّ الإسلام محمّد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين الشّهير بأبي علامة: أنّ تريم وشبام وسنا بنو السّكون بن الأشرس بن كندة بن عفير، وذكر أن تريما وسنا بحضرموت.
وقد سبق هذا في شبام، لكنّ المقصود هنا: كون سنا بحضرموت، سواء كان ابن السّكون أو ابن حضرموت.
ومن أقرب شيء أن تكون سنا هذه على اسمه حسبما جرت عادتهم بذلك من تسمية البلاد بأسماء السّكّان.
وفي آخر «فتاوى شيخنا المشهور» عن الغسّانيّ: أنّ حضرموت ابن سبأ الأصغر؛ فمن ولده: الحارث وفوّه وسيبان وربيعة وشبام وسبأ. اه والظّاهر أنّ سبأ المعطوف على شبام محرّف عن سنا بالفوقيّة؛ ليوافق ما في «روضة الألباب» من جهة.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
70-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (في نجود حضرموت من أعلاها إلى أسفلها)
في نجود حضرموت من أعلاها إلى أسفلهااعلم: أنّ ما سبق في القسمين الأوّل والثّاني كلّه غور، إلّا ما كان من نحو الضّليعة وبعض ما قبلها في الثّاني؛ فإنّها من السّوط؛ فإنّه نجد في رأس جبل، فيه مضارب آل بلعبيد، وهم قبيلة لا تزال لها خشونتها إلى اليوم ـ كما سبق ـ لا يبالون بعسكر القعيطيّ، بل كلّما لاقوهم.. قتلوهم. وهم عدّة ديار: آل مزعب، وآل باكرش، والجهمة، وسلم، وبلّحول، يقدّر مجموعهم بثلاثة آلاف رام.
وفي «سبائك الذّهب»: (أنّ بني العبيد ـ بضمّ العين ـ: بطن من سليح من قضاعة، وهم من أشراف العرب، وإليهم يشير الأعشى بقوله [في «ديوانه» 135 من الوافر]:
«... *** ولست من الكرام بني العبيد»
والنّسبة إليهم: عبدي؛ كما قالوا في هذيل: هذلي).
وقال في «العبر»: (كان لهم ملك يتوارثونه بالحصن الحصين الباقية آثاره في برّيّة سنجار من الجزيرة الفراتيّة، إلى أن كان آخرهم الضّيزن بن معاوية بن العبيد) اه
والعبيد هو ابن الأبصر بن عمرو بن أشجع بن سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة.
وممّا يتأكّد به كون آل بلعبيد أهل السّوط هم من هؤلاء.. وجودهم في نواحي قضاعة، وقربهم من يبعث، وقد سبق فيه أنّ سكّانه الّذين كتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أبناء ضمعج، وهو قريب من ضعجم، وأنّ ضعجم هو ابن سعد بن سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة.
ولسليح القضاعيّ خبر مع غسّان استوفاه ابن شريّة، وسبق ذرو منه في يبعث.
وأمّا نجود حضرموت.. فقسمان:
أحدهما: الجنوبيّ؛ وفي أعلاه: كور سيبان، والحالكة، والعكابرة، والخربة، وبحسن.
ومنها تكون الطّريق من السّاحل إلى وادي حمم، ثمّ الخريبة، ودوعن.
ووادي حمم، هو واد طويل كثير النّخيل والأشجار والعيون، يسكنه آل باهبريّ، من قديم الزّمان، ولهم ذكر كثير ولا سيّما في حروب القرن العاشر، وفيه ناس من السّادة آل العطّاس وغيرهم.
ثم: حويرة.
ومنها تنشعب الطّرق إلى وادي العين، وإلى وادي بن عليّ.
وفي شمال حويرة إلى الشّرق: ريدة المعارّة وريدة الجوهيّين، ومنهما تشرع الطّرق إلى حضرموت، وإلى عقبة الفقره، وعقبة العرشه، وعقبة عبد الله غريب، وعقبة عثه، تنزل هذه كلّها إلى السّاحل، وقد أصلحت في الأخير طريق للسّيّارات في هذا الجبل.
والمسافة بمشي السّيّارة بالتّقريب من الغرف إلى أوّله ـ عقبة الغزّ ـ نحو ثلاث ساعات، ومنها إلى ريدة الجوهيّين والمعارّة ثلاث ساعات.
ومن الرّيدتين إلى عقبة الفقره يكثر الازورار والانعطاف؛ لكثرة القور والشّناخيب بذلك الطّرف، فبطن ذلك الجبل الّذي يلي حضرموت أشبه بظهر الضّبّ، وأمّا ما يلي عقبة الفقره في شمالها.. فأشبه بذنبه، والسّيّارات فيه يحيط بها خطر السّقوط إذا لم يمهر السّائقون.
والمسافة إلى الفقره نحو ثلاث ساعات.
ومنها إلى الشّحر نحو ساعتين.
وفي هذا النّجد جول عبول، وهو الّذي توفّي به سيّدنا العيدروس الأكبر مرجعه من الشّحر إلى تريم، على ثلاث مراحل من تريم ومرحلتين من الشّحر.
وفيه أيضا: مقد العبيد، سمّي بذلك لسبب يتعالم به الحضارمة ولا ندري ما نصيبه من الصّحّة، إلّا أنّ آثار القبول ظاهرة عليه؛ وهو: أنّ أحد سلاطين حضرموت بات به مع عبيده في ليلة شاتية، وهو ممّا ينطبق عليه قول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 18 من الكامل]:
«وعقاب لبنان وكيف بقطعها *** وهو الشّتاء وصيفهنّ شتاء»
فجمعوا عليه الرّحال والفراش، وباتوا هم في نقل الحجارة من مكان إلى آخر.. فاندفع عنهم البرد بحرارة الأعمال، وأصبح السّلطان ميتا من شدّته.
وفي أواخر هذا النّجد: غيل بن يمين، ولسويد بن يمين ذكر كثير في شعر إمام الإباضيّة إبراهيم بن قيس، وقلت في «الأصل»: يحتمل أن يكون سويد صاحب هذا الغيل، ويحتمل أن يكون المراد من شعر إبراهيم إنّما هو جدّ آل يمين النّهديّين الموجودين اليوم بالسّور، وسفولة اليمنة، على مقربة من طريق حريضة.
وقد سبق في حجر: أنّ طائفة من آل دغّار يقال لها: آل ابن يمين لا تزال بقاياها بقرية في حجر يقال لها: الحسين، فلا يبعد أن تكون هي، لا سيّما وأنّ القرائن المتوفّرة في شعر إبراهيم بن قيس تؤكّد ذلك.
ويقال للغيل المذكور: غيل الشّناظير أيضا؛ نسبة ليافع الّذين استولوا عليه وقت اقتسامهم لحضرموت.
وفي حوادث سنة (936 ه) استولى السّلطان بدر بوطويرق على غيل ابن يمين، ونهب أولاد يمين وطردهم، فلجؤوا إلى الحموم، وما كاد يتّصل هذا الخبر بالسّلطان محمّد أخي بدر بوطويرق.. إلّا وتكدّر واغتاظ وأظهر أنّه محشوم، واتّسع الخلاف بينه وبين أخيه، إلى أن سفر المصلحون، وأرجع بدر أمر الغيل إلى أخيه محمّد فردّه لأولاد يمين.
وفي رحلة السّلطان عمر بن صالح هرهرة أنّ جعفر بن يمين قتل مع السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ في المعركة الّتي كانت بين يافع وآل كثير في بحران سنة (1117 ه).
وللغيل هذا ذكر كثير في أخبارهم وحروبهم، ثمّ استولت عليه طائفة من يافع يقال لهم الشّناظير، ولذا ينسبه بعضهم إليهم كما سبق في تريم.
وسيول هذا الغيل تدفع إلى وادي سنا، وأمّا ماؤه الجاري.. فالغالب عليه الإهمال.
وهو من النّقاط المعيّنة لسلاطين آل عبد الله الكثيريّ في المعاهدة ذات الإحدى عشرة مادّة، ولم يذكر في وثيقة اقتسام الممالك بين السّلطانين منصور ومحسن ابني غالب بن محسن، المحرّرة فاتحة رجب سنة (1336 ه)، فهو باق بينهم على الشّركة الشّائعة، وأكثر معوّل الدّولة الكثيريّة في حمايته على الحموم إزاء امتيازات لهم فيه، وهم الّذين طردوا عنه الشّناظير من يافع سنة (1275 ه).
وفيه جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن أحمد بن قطبان، وبالبادية حواليه جماعة من بادية العلويّين كبيت سهل، وبيت حمودة، وبيت قرموص، وبيت عقيل، وبيت الحنشش، وبيت محسن، وبيت الأخسف، وبيت كدحوم.
منهم جماعة اشتهروا بالنّجدة والشّجاعة الخارقة؛ كالسّيّد حسن بالحنشش، والسّيّد عميّر؛ فقد كانا مضرب المثل في ذلك.
«... *** إنسا إذا نزلوا، جنّا إذا ركبوا»
لا، بل كانوا جنّا وشياطين دائما، حتّى إنّ الأمّهات ليروّعن بهم الصّبيان ليسكتوا عن البكاء؛ لأنّهم من أكثر النّاس شرّا وقيادة للغارات.
ومنها غارة سنة (1318 ه)؛ فقد نهبوا قافلة الحجيج الصّادرة من المكلّا إلى حضرموت، وفيها السّيّد سالم بن محمّد بن عليّ بن محمّد السّقّاف، والسّيّد عبد الرّحمن بن عبد القادر البحر، وكان السّيّد حسن بالحنشش هو القائد العامّ لتلك الغزوة، غير أنّهم بعد ما نهبوا الحاجّ.. هاجمتهم سيبان والعوابثة وهم غارّون فقتلت منهم نحوا من خمسين، وأخذت ما استولوا عليها من أموال الحجّاج على نيّة إرجاعه لهم، ثمّ خاسوا بتلك النّيّة، وبيناهم يقتسمون.. عطف عليهم السّيّد حسن بالحنشش بقومه وكثرت القتلى من الجانبين، ولم يحجز بينهم إلّا حرّ النّهار، وكان الوقت خريفا.
وهذه من كبريات حوادث بادية حضرموت إن لم تكن أكبرها على الإطلاق؛ فلقد أنتنت من جيفهم الجبال وسنقت الوحوش من لحومهم.
وفي النّاحية الغربيّة من هذا النّجد طريق أخرى للسّيّارات، تخرج من المكلّا، وتمرّ في أعلى وادي حمم إلى جبال دوعن، ثمّ تنزل بجحي الخنابشة، ومنه إلى الكسر، ثمّ إلى شبام.
وهناك تتّصل الطّريقان، وتدخل في كلّ واحد من النّجدين أودية كثيرة كعمد ووادي دوعن ووادي العين ووادي بن عليّ وشحوح ووادي تاربه وبايوت والقرى الّتي في جنوب الغرف إلى عقبة الغزّ.
فهذه كلّها داخلة في النّجد الجنوبيّ، وكوادي سر ويبهوض وجعيمه ووادي مدر ووادي الذّهب والخون وغيرها، فكلّها داخلة في النّجد الشّماليّ كما سنذكره بعد أسطر.
وأمّا الثّاني: فالنّجد الشّماليّ؛ وهو جبل ينقاد من قرب سيحوت شرقا إلى محاذات العبر غربا، إلّا أنّه يستدقّ في طرفيه، وتعقبه في الغرب آكام وقور. وعرضه تارة ينبسط إلى مسافة ثمانية أيّام، وأخرى ينقبض إلى خمسة أيّام فقط، ومنه تنشعب الأودية إلى وادي الجابية، ووادي سور، ووادي هينن، وأودية سر، وجعيمه، ومدر، وثبي، ووادي الغبيرا الّذي ينهر إلى دمّون، ووادي الخون، وسويدف، ووادي عرده، ووادي طبوقم من أودية الظّنّيّ، وبعدهنّ وادي عشارهم، وهو من أودية المهريّ وغيرها.
وارتفاعه من جهة الشّمال إلى الرّمال أقلّ من ارتفاعه في جهة جنوبه إلى حضرموت بكثير، حتّى لقد تختلط أطرافه برمال الدّهناء، كما سيأتي عن بير ثمود.
وفي أوّل هذا النّجد غربا: ريدة الصّيعر، قال الهمدانيّ في عداد قرى حضرموت: (وريدة العباد وريدة الحرميّة).
وقال عمرو بن معديكرب الزّبيديّ [من الوافر]:
«أولئك معشري وهم خيالي *** وجدّي في كتيبتهم ومجدي »
«هم قتلوا عزيزا يوم لحج *** وعلقمة ابن سعد يوم نجد»
وما أظنّه يعني إلا هذا النّجد؛ لأنّه أقام طويلا على مقربة منه بالكسر.
والصّيعر ـ كما عند الهمدانيّ وأجمع عليه مؤرّخو حضرموت ـ: قبيلة من الصّدف تنسب إليها ريدة؛ ليفرّق بينها وبين ريدة أرضين.
وقال في موضع آخر: (وكان الصّدف بحضرموت من يوم هم، ثمّ فاءت إليهم كندة بعد مقتل ابن الجون يوم شعب جبلة لمّا انصرفوا عن غمر ذي كندة، وفيهم الصّدف، وتجيب، والعباد من كندة، وبنو معاوية بن كندة، ويزيد بن معاوية، وبنو وهب، وبنو بدّا بن الحارث، وبنو الرّائش بن الحارث، وبنو عمر بن الحارث، وبنو ذهل بن معاوية، وبنو الحارث بن معاوية، ومن السّكون فرقة، وفرقة من همدان يقال لهم: المحاتل، وفرقة من بلحارث بن كعب بريدة الصّيعر، وإليها تنسب الإبل الصّيعريّة، والأشلّة الصّيعريّة، وفيها يقول طرفة [في «ديوانه» 202 من الطّويل]:
«وبالسّفح آيات كأنّ رسومها *** يمان وشته ريدة وسحول) اه »
وقد ناقشته في «الأصل» إذ زعم أنّ فيئة كندة إلى الصّدف بحضرموت أوّل عهدهم بها؛ إذ لا يتّفق مع وجود السّبعين ملكا منهم بها متوّجين؛ آخرهم الأشعث بن قيس.
وقد صرّح بأنّ العباد من كندة، وفي «التّاج» [8 / 338] و «أصله»: (أنّ العباد من القبائل الشّتى الّتي اجتمعت على النّصرانيّة، مع احتمال أن يكون جدّ العباد الكنديّين أحد أولئك؛ فإنّه لا مانع منه).
وفي [8 / 78] من «خزانة الأدب» للبغدادي: (أنّ الصّدف بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت) اه
وقد تفرّع كثير من قبائل حضرموت عن الصّيعر كما تكرّر مثله في هذا المجموع كآل باجمّال، وآل باصهي، وآل بابقي، وآل باحنين، وآل باكثير، وآل الجرو، وآل باحلوان، وآل باغانم، وكانوا ببور، وآل بامطرف، وآل بامزروع.
وبقي أهل الرّيدة على حالهم لم يتغيّر اسمهم ولا اسم بلادهم، وقد سبق في الغرفة وغيرها أنّ آل باحلوان من قضاعة.
والصّيعر قبيلتان: آل مسلّم، وآل حاتم، وكلّ قبيلة تنقسم إلى بطون كثيرة، ورئيس الصّيعر كلّهم الآن: سعد بن طنّاف بن رميدان، ورئيس آل عليّ بلّيث منهم، يقال له: عليّ بن عيضة، ومقدّم آل يربوع منهم، يسلم بن محمّد، ومقدّم آل عبيدون: سعيد بالحاشدي.
وكثير منهم من ينتجع وبار، وبالأخصّ آل عبد الله بن عون؛ ففيها منهم نحو مئتي رام.
ووبار: هي الرّمال الّتي من وراء جبلهم، إلّا أنّ كلّا من أهل النّجد يسمّي ما يجاور نجده باسم غير الّذي يسمّيه الآخر، فالصّيعر يسمّون ما يلي نجدهم من الغرب إلى الشّرق: (عيوه) بكسر العين وسكون الياء وفتح الواو.
وفي الأخير رعاها آل معروف منهم، ثمّ نجعوا إلى مقربة من نجران بسبب الجدب، وأذن لهم أمير نجران وهو رجل شهم، وعربيّ قحّ من صميم تميم، له مروءة وشمم، يقال له: تركيّ بن محمّد بن ماضي ـ أن يضربوا خيامهم في أطرافها، كما أذنت الفرس لحاجب بن زرارة.
ثمّ وفد منهم أربعون على أربعين نجيبة، يرأسهم اثنان ـ يقال لأحدهم: قنيبر، والآخر هو: عبد الله بن سالم بن معيقل ـ حتّى وصلوا الرّياض، فتركوهم أربعة أيّام، وفي الخامس أو السّابع اجتمعوا بملك الحجاز ونجد ورأوا من بشره وإكرامه أكثر ممّا يؤمّلون، وقدّموا له مطيّة على سبيل الهديّة اشتروها عمّا يقولون بثلاث مئة ريال، لكنّه بعيد؛ لأنّ إبلهم لا تبلغ ذلك ولا نصيفه، وبعد اجتماعهم به أجروا عليهم حكم الضّيافة، وطلبوا منه أن يديم الإذن لهم بالإقامة في مشارف نجران، فأحالهم على ما يرى فيه المصلحة أميرها، ودفع لكلّ من الرّئيسين أربعين ريالا، ولكلّ واحد ممّن سواهم عشرين، مع ما يلزم من الزّاد، ولمّا عادوا إلى نجران.. أبقاهم أميرها مدّة، ثمّ طردهم، فعادوا إلى عيوه، هكذا أخبرني عنهم امبارك بن يسلم بن زيمة بن امبارك العوينيّ.
وكما رفعوا ثمن ناقتهم إلى ما لا يقبله العقل.. كتموا ـ فيما أرى ـ بعض ما أعطاهم الملك؛ لأنّ ذلك النّزر لا يتّفق مع ما سارت به من سماحته الرّكبان وضربت الأمثال؛ فهو الّذي:
«يهمي النّدى والرّدى في راحتيه فلا *** عاصيه ناج ولا راجيه محروم »
وعدد الصّيعر لا يزيد عن ألفي رام، وقد عاهدهم الضّابط السّياسيّ الإنكليزيّ انجرامس منذ أحد عشر عاما معاهدة اعترف لهم باستقلالهم، وأنّهم ليسوا تبعا لأحد من سلاطين حضرموت، وعلى أن لا رسوم عليهم في بلادهم، وعلى أنّ العبر من حدودهم، كذا أخبرني من اطّلع على المعاهدة.
والجاهليّة عندهم جهلاء، وشأنهم شأن العرب في السّلب والنّهب، وكثيرا ما يتناهبون هم والعوامر وآل كثير النّعم بأنواعها، ولكنّ أولاء لا يقدرون على الانتصاف منهم، إلّا إذا انضمّوا إلى المهرة والمناهيل، وتجمّعوا من كلّ صوب، وأمّا هم؛ أعني الصّيعر والمناهيل، والمهرة، ويام، ودهم، والكرب.. فلا يتناهبون إلّا الإبل؛ لبعد الشّقّة.
وفي الشّتاء من هذه السّنة غزت آل حاتم إلى بعض البوادي الدّاخلة في الحدود السّعوديّة، فغنموا إبلا كثيرا، فاحتجّت عليهم حكومة عدن، فقيل: إنّهم أرجعوها كلّها أو بعضها، وقيل: لم يردّوا شيئا.
وفي جمادى الآخرة من هذه السّنة غزت طائفة من قبيلة يقال لهم: (القحطانيّون) مكانا في شرقيّ العبر وشماله، يقال له: (شمال)، وفيه أخبية لكثير من الصّيعر والكرب ونهد، فالتحم القتال ودام نحو ثلاث ساعات، وأنجدهم عسكر البادية المحافظ على الأمن بطرف حضرموت من جهة الحكومة الإنكليزيّة، ولكنّه قليل جدّا، فلم ينجه مع ألفافه إلّا الهرب بعد أن قتل منهم ثمانية عشر، ونهبت إبلهم وسائر ما معهم، وبيان القتلى: سبعة من الكرب، وسبعة من الصّيعر، واثنان من نهد، واثنان من العسكر، ويزعم المنهوبون أنّهم ومن لفّهم قتلوا ثلاثة من القحطانيّين، ولكنّه زعم بدون تعيّن، وعلى هذه.. فقس ما سواها.
وعن امبارك بن يسلم العوينيّ عن صالح بالخليس الصّيعريّ الكسيليّ قال: غزوت على ظهر الجبل من نجدنا إلى نجد المهرة، فلمّا قارب الجبل الانتهاء.. استدقّ حتّى صار مثل السّيف، فنزلنا عنه ونحن ستّة على ستّ من المطايا، فلاقانا سوماليّ على جمل في طلب اللّبان، فهابنا، فآمنّاه، وسألناه: من أين أقبلت؟
قال: من عيان، وهو موضع قريب من سيحوت، يجري فيه غيل، تقام فيه الأسواق.
قلنا له: من هناك؟ قال: تجّار ببضائعهم يتأهّبون لقيام السّوق.
فأبقيناه مع أحدنا عند المطايا، ولمّا قاربناهم.. ألفينا عندهم مهريا يحلب ناقة له، فأرديناه وانتهبنا ستّين مطيّة مع ما قدرنا عليه من خفيف البضائع، وضربنا آباط الإبل مساءها واليوم الثّاني وردهة من اللّيلة الثّانية، فكلّ أصحابي وأرادوا التّعريس، فنهيتهم فلم يسمعوا، فأكلوا وأغفوا، ولم يكد يطرقني النّوم من الذّعر حتّى انتبهت فقمت أعسّ فشممت رائحة الوزيف من عرق جمال النّجدة؛ لأنّها تأكل منه، فأقبلت على أصحابي فسبقتني إليهم البنادق، واعتصمت بأكمة، وناديت القوم في أن يعود كلّ بحلاله، فأجابني الشّوص أحد آل عليّ بن كثير وكان معهم فقال: انتظر حتّى نتشاور، ولمّا ناديته مرّة أخرى.. قال: إنّ الّذين قتلتم أخاهم بالأمس وهو يحلب ناقته أبوا؛ فجاء موضع قول أبي مكعب [من البسيط]:
«إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم *** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما»
ولهذا البيت قصّة جاءت في (ج 10 ص 250) من «خزانة الأدب».
وأمر جماعة أن يكمنوا لي على الطّريق، وكان أحد أصحابي نجا براحلتين من النّهب، فاقتعدناهما، فلم يقدر علينا الكمين؛ لأنّهما كما قال القطاميّ [من البسيط]:
«يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة *** ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل »
وكانت هذه القضيّة في حدود سنة (1350 ه)، وآثار الصّدق لائحة عليها.
وفيها فوائد كثيرة؛ أهمّها: أنّ الجبل لا ينتهي إلّا على قرب سيحوت حسبما قدّمنا، وقد نقلنا في شرح البيت (36) في الجزء الأوّل من «الأصل» عن أبي شكيل: (أنّ مدينة تريم في شمال لسعا، وجبالها اثنان ممتدّان من الشّرق إلى الغرب، فيها قوم من المهرة كالوحوش، يتكلّمون بلغة عاد، وإليهم تنسب الإبل المهريّة) اه وما كان الخليسيّ مع أصحابه في المراجعة إلّا كدريد بن الصّمّة في الحادثة الّتي غزا فيها بني كعب بن الحارث بنجران فتبعوهم وقتلوا أخاه عبد الله في حبونن واستردّوا منهم ما أخذوا، وفي ذلك يقول قصيدته الّتي منها [من الطّويل]:
«بذلت لهم نصحي بمنعرج اللّوى *** فلم يستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد»
«وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد»
«تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا *** فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي؟! »
«لئن كان عبد الله خلّى مكانه *** فلا طائشا خلو الجنان ولا اليد»
وفي أرض الصّيعر بئر يقال لها: منوخ، فيها ماء، إلّا أنّه ينضب عند قلّة الأمطار، وهذه البئر في منطقة يقال لها: منوخ.
وقد بنت فيه الحكومة مركزا على أكمة صخريّة عالية، وهي في الجنوب الشّرقيّ لوادي عيوه.
وفي غربيّ هذه المنطقة على بعد خمسة وخمسين ميلا: منطقة زمخ، وفيها بئر مهمّة يستقي منها الغزاة القادمون من بوادي نجران، ويحملون ما يكفيهم من الماء في غزوهم للصّيعر، وآل كثير والعوامر والمناهيل والمهرة، وكذلك هؤلاء يتزوّدون منها لغزو يام والقبائل السّعوديّة وغيرهم.
ومركز زمخ يبعد عن مركز العبر بسبعة وثلاثين ميلا.
وعن قرية الحجر بريدة الصّيعر نحوا من أربعين ميلا.
وفي شمالها: رمال الدّهناء، أو الرّبع الخالي.
وموقع زمخ بمكان كبير من الأهمّيّة، ولذا بنت فيه الحكومة الإنكليزيّة على حساب الحكومة القعيطيّة مركزا لصدّ عوادي الغزاة أو تخفيفها.
وأمّا بير ثمود ـ الآتي ذكرها ـ فتبعد عن منطقة زمخ بمئتين وثلاثة وسبعين ميلا في جهة الشّرق.
وسكّان منطقة زمخ: آل عبد الله بن عون من الصّيعر، وهم بدو رحّل.
وفي وادي دهر مكان يسمّى: زمخا، وبئر تسمّى: ببئر زمخ، ولكنّها أقلّ شهرة من المكان الّذي نحن بسبيله.
وسكّان منطقة منوخ: آل عليّ بلّيث من الصّيعر، وسيأتي في وبار أنّها تمتّعت بالثّروة زمانا طويلا، وأنّها كانت طريق التّجارة الأهمّ بين الشّرق والغرب. وقد كانت كلّ من منطقة ثمود ومنوخ وزمخ مدنا عظيمة للتّجارة؛ ولكن أفناها ما أفنى القرون الماضية، ولا شكّ أنّ آثارها مطمورة بالرّمال.
ومنذ أربعين يوما غزت يام وقتلت ثلاثة من الكرب، وغنمت مئة راحلة، ولم يقتل منها إلّا واحد، ولم يصب إلّا اثنان.
وفي مكان المحارقة من أرض الصّيعر شيء من النّخل، ولا نخل في سواها من
أرضهم، والطّرق من ريدة الصّيعر مفتوحة إلى كلّ مكان، ومن أقربها طريق وادي هينن، ومن سرّ إلى مكان آل عليّ بلّيث في الرّيدة مسير يوم ونصف.
ومنذ ثمان سنوات تقريبا أمطرت الطّائرات الإنكليزيّة نارها على حصن يسلم بن يربوع ملهيّ، وحصن عبد الله بن عون فهدمتهما، ثمّ سوّيت القضيّة على ما تريد الحكومة من الموافقة على الحلف السّابق ذكره عمّا قريب.
وبلغني أنّ الحكومة جعلتهم بالآخرة تبعا للقعيطيّ برغم الاستقلال الّتي اعترفت لهم به في ذلك الحلف.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
71-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (نجد العوامر)
نجد العوامرهو في شرقيّ نجد آل كثير، ومن أوديته: يبا، والدّخان، وامباركه، والعرج، وغيرهنّ، ورجالهم لا يزيدون عن مئة وخمسين، وفي أرضهم بئر يقال لها: تميس، لكنّها بعيدة عن أماكنهم لا تنفعهم أيّام الظّمأ، فيفضّلون عليها الانتقال إلى تاربه.
وفي نجد العوامر يزكو النّخل كثيرا، غير أنّه يذوي ويموت إذا تتابعت عليه الجدوب، ولأوّليهم في تعهّده اعتناء أكثر من متأخّريهم، وإلّا.. فنخل تاربه لا يعدّ في جانبه شيئا مذكورا.
ولسيّدي الفاضل علويّ بن عبد الرّحمن المشهور ـ السّابق ذكره في تريم ـ رحلات إلى النّجدين لنشر الدّعوة الدّينيّة والإرشاد إلى طريق الحقّ، غير أنّ المادّة لا تساعده، وما أشدّ اهتمامه بحفر الآبار وبناية الأحواض والصّهاريج؛ لأنّها ضروريّة هناك لو ساعدته القدرة، لكنّ الأمر كما قال أبو الطّيّب [في العكبريّ» 2 / 370 من الخفيف]:
«والغنى في يد اللّئيم قبيح *** قدر قبح الكريم في الإملاق »
وبناء على هذا تكلّمت مع سماحة الملك ابن السّعود في ذلك أواخر سنة (1354 ه)؛ إذ كانت حضرموت تمتّ إليه بحرمة وذمام بما كان بها لأوّليه من الإلمام؛ إذ هتف بهم منها صريخ في حدود سنة (1217 ه)، فإذا هم لذلك العهد كما قال الشّريف الرّضيّ
[في «ديوانه» 2 / 421 ـ 422 من الطّويل]:
«من القوم ما زرّوا الجيوب على الخنا *** ولا قرعت أسماعهم بملام »
«سريعون إن نودوا ليوم كريهة *** جريئون إن قيدوا ليوم خصام »
«يهاب بهم مستلئمين إلى الرّدى *** على عارفات بالطّعان دوام »
«عناجيج قد طوّحن كلّ حقيبة *** من الرّكض واستهلكن كلّ لجام »
«نزائع ما تنفكّ تطري صدورها *** جيوب ظلام، أو ذيول قتام »
«يخالطن بالفرسان كلّ طريدة *** ويبلغن بالأرماح كلّ مرام »
تلك هي حالهم قبل أن ينغمسوا في التّرف، أمّا بعده.. فما أراهم يقدرون على مثل ذلك الشّرف، سنّة الله في خلقه.
وقد قرّرت في «بلابل التّغريد» ما ينشأ عن التّرف من الأضرار وما ينجرّ به من المصايب، ودلّلت عليه بما لا يوجد في سواه.
تكلّمت مع الملك في بناية الأحواض والصّهاريج بذلك النّجد فوعد، غير أنّ الظّروف والاستعجال حالا عن استنجاز ذلك؛ إذ لا بدّ وأن تقوم دونه عقاب كأداء من الماليّة المعروفة بذلك، وهي تطلب من الانتظار ما لا يقدر عليه أمثالي من الأحرار، ولقد أخبرني غير واحد ممّن لا أشكّ فيهم عن الأمير الخطير الثّقة عبد الله بن عبد الرّحمن بأنّ أخاه الملك أمر لي عامئذ بمئة دينار من الذّهب.. فاختانها وزير الماليّة، وما أدري هل الفرصة باقية لبناء الخزّانات إلى اليوم أم قد فاتت؛ فإنّ جمعيّة الأخوّة والمعاونة أرادت أن تبني مسجدا بالعبر ـ وهو نظير تلك النّاحية ـ فلم يسمح لها.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
72-العباب الزاخر (ضهأ)
ضهأضُهَاءٌ -بالضم والمد-: بلد دُفِن فيه ابن لساعدة بن جُؤَيَّة الهُذليّ، وفيه يقول:
«لَعَمْرُكَ ما أنْ ذو ضُهَاء بهَيِّنٍ *** عَلَيَّ وما أعْطَيْتُه سَيْبَ نائلِ»
أي: لم أتَوَجَّعْ عليه كما هو أهله ولم أفعل ما يجب له عليَّ، و"ذو ضُهَاء" ابنه لأنَّه دُفن فيه.
أبو زيد: الضَّهْيَأُ -بالهمز والقصْر-: مثل السَّيَال وجَناتُهما واحدة في سِنْفَةٍ؛ وهي ذات شَوك ضعيف، قال: ومَنبِتُها الأودية والجبال. وكذلك امرأةٌ ضَهْيَأَةٌ وهي صفة للمرأة التي لا تَحيض لأنَّها ضاهَأَت الرِّجال.
وفلاةٌ ضَهْيَأَةٌ: لا ماء فيها، وامرأة ضَهْيَأَةٌ: لا لبن لها ولا ثدي.
والضَّهْيَأَتان: شِعْبانِ يَجِيْئان من السَّراة قُبالةَ عشر؛ وهو شعب لهُذَيل.
وقال الدِّينوريّ: أخبرني بعض أعراب الأزدانَّ الضَّهْيَأ شجرة من العِضاه عظيمة لها بَرَمة وعُلَّفَة؛ وهي كثيرة الشوك؛ وعُلَّفُها أحمر شديد الحُمرة؛ وورقُها مثل وَرق السَّمُر.
وضَهْيَأَ فلان أمره: إذا مَرَّضَه ولم يَصْرِمْه.
والمُضَاهَأَةُ: المُشاكلة، يَقال: ضاهَأْتُ وضاهَيْتُ، يُهمز ولا يُهْمَز، وقرأ عاصم قوله تعالى: (يُضاهِئونَ قَوْلَ الذين كَفَروا من قَبْل) بالهمز "و" الباقون بغير هَمْز.
والتركيب يدل على مشابهة شيء لِشيء.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
73-العباب الزاخر (بيس)
بيسبَيْسَان: موضع بالشام تُنسَب إليه الخمر، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
«من خَمْرِ بَيْسَانَ تَخيَّرتُهـا *** دِرياقَةً توْشِكُ فَتْرَ العِظامْ»
وقال أبو دُوَادٍ جارية بن الحجّاج الإيادي:
«نَخَلاتٌ من نخل بَيْسان أيْنَعْ *** نَ جميعًا ونَبْتُهًـنَّ تُـؤامُ»
وفي حديث تميم الداريّ -رضي الله عنه- وذِكرِ الجَسّاسَةِ والدَّجّال: أخبرني عن نخل بَيْسان، قُلنا: عن أيِّ شأنِها تستخبِرُ، قال: أسألُكُم عن نخلِها هل تُثمِرُ؟ قُلنا نعم، قال أما أنها توشِك ألاّ تثمِرَ.
وباليمامة موضعٌ يقال له: بَيسان.
وبمَرو قريةٌ يقال لها: بَيْسان.
وقال ابنُ عبّاد: يقولون: بَيْسَ الرجل -بفتح الباء-.
وبَيْسَك: بمعنى وَيْسَك.
وبَيْسُ: ناحية بسَرقُسْطة من الأندُلُس.
وقال ابن الأعرابي: باسَ يبيسُ بَيسًا: إذا تكبَّرَ على الناس وآذاهُم.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
74-العباب الزاخر (حيس)
حيسالحَيْس: الخَلْط، ومنه سُمِّيَ الحَيْس، وهو تمر يُخْلَط بسَمْن وأقِطٍ ثم يعجن عجناٍ شديدًا حتى يَنْدُرَ منه نَواه واحِدة واحِدة؛ ثم يُسَوَّى كالثَّريد وهي الوطيئة -أيضًا-؛ إلاّ أنَّ الحَيْسَ ربَّما جعل فيه السَّويق، فأما في الوَطيئَةِ فلا. يقال: حاسَ الحَيْسَ يَحِيْسُه حَيْسًا، قال:
«التمر والسَّمن معًا ثم الأقِطْ *** الحَيسُ إلاّ أنَّه لم يَخْتَلِـطْ»
وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أعتقَ صفيَّة وتزوَّجَها وجَعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها وأوْلَمَ عليها بِحَيْسٍ.
وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: فُطِمْتُ على الحَيْسِ والمَوْزِ.
وقال سيبويه والآمدي: قال هُنَيُّ بن أحمر. وقال ابن السِّيرافي: قال زرافة الباهلي. وقال أبو رِياش: قال هَمّام بن مُرَّة أخو جَسّاس بن مُرَّة. وقال الأصفهاني: قال ضمرة بن ضمرة. وقال ابن الأعرابي: انَّه قيل قبل الإسلام بخمس مائة عام. وقال ابن الكَلْبي في جمهرة النسب: قال الأحمر واسمه عمرو بن الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة. وقال غيرهم: قال عمرو بن الغَوث بن طّيِّئٍ. قال الصَّغانيُّ مؤلف هذا الكتاب: الصحيح أنَّه لعمرو بن الغوث بن طيِّئ، وسبب هذا الشعر أنَّه بينما طّيِّئٌ، كان جالِسًا مع ولده بالجَبَلَين إذ أقبَلَ الأسود بن عفَّان بن الضَّبور الحُدَيسيُّ فقال: من أدخَلَكُم بلادي؟ اخرجوا منها، فقال طيِّئٌ: البلادُ بِلادُنا. ثم تواعدا للقتال، فقال طيِّئٌ لجُندَبِ بن خارِجَة بن سعد بن فُطرَة بن طيِّئٍ؛ وأمُّهُ جَديلَة: قاتِلْ عن مَكْرُمَتِكَ، فأبَت أُمُّهُ أن يُقاتِل، فقال طيِّئٌ لعمرو بن الغوث بن طيِّئ: فَدونَكَ يا عمرو الرجُل فقاتِلْهُ، فأنشأ يقول، وهو أوَّل من قال الشعرَ في طيِّئٍ بعد طيِّئٍ:
«يا طيِّئ أخبرني فلَسْتَ بكـاذِبٍ *** وأخوكَ صادِقُكَ الذي لا يكذِبُ»
«أمِنَ القضيَّةِ أن إذا اسْتَغْـنَـيْتُـمُ *** وأمنتم فأنا البعـيدُ الأجـنـبُ»
«وإذا الشدائدُ بـالـشـدائِدِ مَـرَّةً *** أحْجَرْنَكُم فأنا الحبيبُ الأقـرَبُ»
«عجَبٌ لتلكَ قضيَّةٌ وإقـامـتـي *** فيكُم على تلك القضيَّةِ أعجَبُ»
«ولكم معًا طِيْبُ المياهِ ورِعْيُهـا *** ولِيَ الثِّمَادُ ورِعْيُهُنَّ المُحْـدِبُ»
«هذا لَعَمْرُكُمُ الصَّغَارُ بـعـينِـهِ *** لا أُمُّ لي إنْ كـان ذاكَ ولا أبُ»
«أإذا تكونُ كَريهَةٌ أُدعـى لـهـا *** وإذا يُحَاسُ الحَيْسُ يُدْعى جُنْدَبُ»
عَجَبٌ: رفعُ بالإبتداء، ولِتِلْكَ: خَبَرُه، وقَضِيَّةً: حال.
وفي المثل: عادَ الحَيْسُ يُحاس: أي عاد الفاسِدُ يَفْسَد، ومعناه أن تقول لصاحبك: إنَّ هذا الأمرَحَيْسٌ؛ أي ليس بِمُحْكَمْ ولا جيِّد وهو رديءٌ، وأنشد شَمِرٌ:
«تَعِيْبِيْنَ أمرًا ثم تـأتـين مـثـلـهُ *** لقد حاس هذا الأمرُ عندَكِ حائسُ»
وأصل المثل: أنَّ امرأةً وجدت رجُلاُ على فُجُورٍ فعيَّرتهُ فُجُورَهُ، فلم تلبث أن وجدها الرجل على مثل ذلك. وقيل: انَّ رجلًا أُمِرَ بأمرٍ فلم يُحْكِمْهُ؛ فَذَمَّهُ آخر فجاءَ بِشَرٍ منه، فقال الآمِرُ: عادَ الحَيْسُ يُحَاسُ.
وقال الفرّاء: يقال قد حِيْسَ حَيْسُهم: إذا دَنا هلاكهم.
وقال ابن دريد: رجلٌ مَحْيُوْسٌ: إذا وَلَدَتْهُ الإماءُ من قِبَلِ أبيه وأُمِّه، أخرجه على الأصل، والوجه أن يكون مَحيسًا -مثل مَخيط-. وفي حديث أهل البيت -رِضوان الله عليهم-: لا يُحِبُّنا اللُّكَعُ ولا المَحْيُوْسُ، كأنَّه مأخوذ من الحَيْسِ وهو الخَلْطُ.
وقال ابن فارس: حِسْتُ الحَبْلَ أحِيْسُه حَيْسًا: إذا فَتَلْتَه، لأنَّه إذا فَتَلَه تداخَلَتْ قواه وتَخالَطَتْ.
والتَّركيب يدل على الخَلْطِ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
75-العباب الزاخر (خمس)
خمسالخَمْسة: عدد، يقال: خمسة رجال وخمسُ نسوة، والتذكير بالهاء. وجاء فلان خامِسًا وخامِيًا -أيضًا-، وأنشد ابن السكِّيت:
«كم للمنازِلِ من شهرٍ وأعـوامِ *** بالمُنحنى بين أنهـاءٍ وآجـامِ»
«مضى ثلاثُ سنينٍ منذُ حلَّ بها *** وعام حُلَّ وهذا التابع الخامي»
وثوبٌ مَخْموس: طولُه خَمسُ أذرُع، وكذلك الرُّمح وغيره، قال عَبيد بن الأبرص:
«هاتِيْكَ تَحمِلُني وأبيَضَ صارِمًا *** ومُدَرَّبًا في مارِنٍ مَخمُوسِ»
يعني رمحًا طولُ مارِنِهِ خَمْسُ أذرُع.
وخَمَسْتُ القومَ أخْمُسُهُم -بالضم-: إذا أخذتُ منهم خُمْسَ أموالهم.
وخَمَسْتُهُم أخْمِسُهُم -بالكسر-: إذا كنتُ خامِسَهم؛ أو كَمَّلْتَهُمْ خمسةً بنفسك.
وحبلٌ مخموس: أي من خَمْسِ قُوىً.
وتقول: عندي خمسة دراهم، الهاء مرفوعة. وإن شئتَ أدغَمْتَ، لأنَّ الهاء من خمسة تصير تاءً في الوصل فتُدغَمُ في الدّال. فإن أدخَلْتَ الألف واللام في الدراهم قُلْتَ: عندي خمسةُ الدَّراهِمِ -بضم الهاء- ولا يجوز الإدغام، لأنَّكَ قد أدغَمْتَ اللاّم في الدّال؛ فلا يجوز أن تُدغِمَ الهاء من خمسةِ وقد أدغَمْتَ ما بَعدها. قال الفرزدق يمدح آل المُهَلَّبِ:
«ما زال مُذْ عَقَدَت يداهُ إزارَه *** فَدَنا فأدرَكَ خمسة الأشبـارِ»
«يُدني خَوافِقَ من خَوافِقَ تلتقي *** في كُلِّ مُعتَبَطِ الغُبارِ مُثارِ»
وتقول في المؤنَّث: عندي خَمْسُ القدور، كما قال ذو الرُّمَّة:
«وهل يرجع التسليم أو يَكشِف العمى *** ثلاثَ الأثافي والرُّسُومُ البـلاقِـعُ»
وتقول: هذه الخمسة الدراهم، وإن شئت رفعت الدراهم وتُجريها مجرى النَّعْتِ، وكذلك إلى العشرة، وحكى الفرّاء عن الكِسائي أنَّهُ أنشده:
«فيمَ قَتَلْتُم رجُلًا تَعَـمُّـدا *** مُذْ سَنَةٌ وخَمِسون عددا»
ويروى: "علامَ قَتْلُ مُسلِمٍ تَعَبُّدا" و "تَعَبَّدا"، الأولى رواية أبي زيد، والثانية رواية أبي حاتم. فَكَسَرَ الميم من خَمٍسون؛ والكلام خَمْسون، كما قالوا خمسَ عَشِرَة بكسر الشين-. وقال الفرّاء: رواهُ غَيْرُه "خَمَسون عددًا" -بفتح الميم-، بَنَاهُ على خَمْسَةٍ وخَمَسَات.
ويوم الخَميس: جمعُهُ أخْمِساء وأخْمِسَة، قال رؤبة يصِف كِبَرَه:
«أحسِبُ يومَ الجَمْعَةِ الخَميسا»
والخميس: الجيش؛ لأنّه خمس فرق: المقدَّمة والقلب والميمنة والميسرة والسّاقَة. ومنه ما رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلّم- صَبَّح خيبر يوم الخميس بُكرَةً، فجاء وقد فَتَحوا الحِصْنَ وخرجوا منه معهم المَسَاحيُّ، فلمّا رأوه حالوا إلى الحصن وقالوا: محمد والخميس محمد والخميس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلّم-: الله أكبر خَرِبَت خَيبر، إنّا إذا نَزَلْنا بِسَاحَةِ قومٍ فَسَاءَ صباح المُنْذَرين. قال:
«قد نضرِبُ الجيش الخميس الأزورا *** حتـى نـرى زَويرَه مُـجَـوَّرا»
الزَّوِيْر: الزعيم؛ فجعله صفة.
والخميس أيضًا-: الثوب الذي طوله خمس أذرع. ومنه حديث مُعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ائتوني بخميس أو لَبيس آخذه منكم في الصَّدَقة فانَّه أيسرُ عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. كأنَّه يَعني القصير من الثياب.
وقال ابن عبّاد: يقال ما أدري أيُّ خميسِ الناسِ هو: أي أيُّ جماعةِ النّاسِ هو.
وقد سَمَّوا خميسًا.
والخِمْس -بالكسر-: من إظماء الإبل: هو أن ترعى ثلاثةَ أيّامٍ وتَرِدَ اليوم الرابع، قال العجّاج يَصِفُ بعيرًا:
«كأنّه من بعدِ طولِ العَـفْـسِ *** ورَمَلانِ الخِمْسِ بَعْدَ الخِمْسِ»
«والسِّدْسِ أحيانًا وفوق السِّدْسِ *** يُنْحَتُ من أقطارِهِ بـفـأسِ»
وهي إبلٌ خَوَامِس. وأما قول شبيب بن عَوَانة:
«عَقيلَةُ دَلاّهُ لِلَحْـدِ ضَـريحِـهِ *** وأثوابُهُ يَحْمِلْنَ والخِمْسُ مائحُ»
فعقيلة والخِمْس: رجُلان.
والخِمْس -أيضًا-: ضَرْبٌ من بُرُود اليمن، قال أبو عمرو: أوَّلُ من عُمِلَ له ملكُ من ملوك اليَمَن يقال له الخِمْس فنُسِبَ إليه، قال الأعشى يصف الأرض:
«يومًا تراها كَشِبه أرْدِيَة ال *** خِمْسِ ويومًا أدِيْمَها نَغِلا»
وفَلاةُ خِمْس: إذا انتاط ماؤها حتى يكون وِرْدُ النَّعَمِ اليومَ الرَابع سِوى اليومَ الذي شَرِبتَ فيه وصَدَرْتَ فيه.
ويقال: هُما في بُرْدَةِ أخْماسٍ: إذا تقاربا واجتمَعا واصطَلَحا، وأنْشَدَ ابنُ السكِّيت:
«صَيَّرَني جُودُ يديهِ ومَـنْ *** أهْواهُ في بُرْدَةِ أخْماسِ»
كأنَّه اشترى له جارِية أو ساقَ مهرَ امرأتِهِ عنه. وقال ابن الأعرابي: يقال هما في بَرْدَةِ أخماسٍ: إذا كانا يفعلان فِعلًا واحِدًا يشتبهان فيه كأنَّهُما في ثوبٍ واحِدٍ.
وقولَهُم: فلان يضرِب أخماسًا لأسداس: أي يسعى في المَكْرِ والخديعة، وأصله من إظماء الإبل، وذلك أنَّ الرجل إذا أراد سفرًا بعيدًا عَوَّدَ إبِلَهُ أن تشرَبَ خِمسًا ثم سِدسًا، حتى إذا أخذت في السير صَبَرَت عن الماء. وضَرَبَ: بمعنى بيَّنَ وأظهَرَ، كقوله عزَّ وجلَّ: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا)، والمعنى: أظهَرَ أخماسًا لأجل أسداسٍ، أي رَقّى إبِلَهُ من الخِمْسِ إلى الِّدْسِ، يُضرَب لِمَن يُظهِر شيئًا ويريد غيره، وأنشد ثعلب:
«الله يعلـمُ لـولا أنَّـنـي فَـرِقٌ *** من الأمير لعاتَبْتُ ابن نِبـراسِ»
«في موعِدٍ قالَهُ لي ثُمَّ أخلَـفَـنـي *** غدًا غدًا ضَرْبُ أخماسٍ لأسداسِ»
وقال الكُمَيت:
«وعَطَّفَتِ الضِّبابَ أكُفُّ قومٍ *** على فُتْخِ الضفادعِ مُرْئمِينْا»
«وذلك ضَرْبُ أخماسٍ أُريدَت *** لأسداسٍ عسى ألاّ تكونـا»
وقيل في أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أيّامَ الحَكَمَيْنِ حين كان من أمرِه ما كان:
«لو كان للقوم رأيٌ يُعْصَمـونَ بَـهِ *** عند الأمور رَمَوْهُم بابنِ عَبّـاسِ»
«لكن رَمَوْهُم بِشَيخٍ من ذوي يَمَـنِ *** لا يَضْرِبُ الأمْرَ أخماسًا لأسْداسِ»
وقال سابق البربري:
«أذاكِرُ أنت عهد الحـيِّ أم نـاسِ *** وليس للصبرِ عند الحُبِّ من باسِ»
«إذا أراد امرؤٌ هَجْرًا جنى عِلَـلًا *** وظلَّ يضرِبُ أخماسًا لأسـداسِ»
وقال الكُمَيْتُ يمدح مَسْلَمَة بن هِشام:
«ألَسـتُـم أيْقَـظَ الأقـوامِ أفـئدةً *** وأضْرَبَ الناس أخماسًا لأعشارِ»
وغُلامٌ رُباعيّ وخُماسيّ: أي طوله أربعة أشبار وخمسة أشبار، ولا يقال سُداسيّ ولا سُباعيّ؛ لأنه إذا بلغ ستّة أشبار أو سبعة أشبار صار رجلًا. وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله-: حدَّثَنا الحسن بن عبد العزيز عن الحارِث عن ابن وَهْب قال: أخْبَرَني ابنُ لهيعة عن خالِد: أنه سأل القاسم وسالِمًا عن الرَّجل يشتري غلامًا تامًّا ويُسْلِفُهُ ثمنه فإذا حلَّ الأجَل قال خُذ منّي غُلامَين خَماسيَّينِ أو عِلْجًا أمْرَد، قال: لا بأس.
والخُمْسُ والخُمُسُ: جزءٌ من خمسة، قال الله تعالى: (واعْلَمُوا أنَّ ما غَنِمْتُم من شيءٍ فأنَّ للّهِ خُمُسَه)، وقرَأَ الخليل: "خُمْسَه" بإِسكان الميم.
ويُقال: جاءوا خُماسَ ومَخْمَسَ؛ كما يقال ثلاث ومَثْلَث.
وخَمَاساء -مثال بَراكاء-: موضِع.
وأخْمَسَ القَوم: صاروا خَمْسَة.
وأخْمَسَ الرجل: إذا وَرَدَت إبلُه خِمْسًا. وقال رؤبة: سَمِعْتُ أبي يتعجَّب من قوله:
«يُثيرُ ويُذري تُرْبَها ويَهـيلُـهُ *** إثارَةَ نبّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ»
وخَمَّسْتُ الشيءَ تَخميسًا: جعلتُهُ ذا خَمْسَةِ أركان.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
76-العباب الزاخر (شحس)
شحسالدِّيْنَوَري: أخبرني بعض أعراب عُمان قال: الشَّحْس من شَجَرِ جِبالِنا، وهو مثل العُتَمِ ولكنه أطولَ منه، ولا تُتَّخَذُ منه القِسِيُّ لِصَلابَتِه فإنَّ الحَديدَ يَكِلُّ عنه، ولو صَنِعَتْ منه القِسِيُّ لم تُواتِ النَّزْعَ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
77-العباب الزاخر (ضغبس)
ضغبسالضَّغَابِيْسُ: صغار القِثّاء، الواحِد: ضُغْبُوْس، وفي الحديث: أنَّه أُهدِيَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- ضَغَابِيسَ فَقَبِلَها وقَبَّلَها وأكل منها. قال أبو عُبَيد: هي شِبه صغار القِثاء تُؤكَل، وهي الشَّعارير أيضًا. وقال ابن فارِس: السين فيها زائِدة، قال: والدليل على ذلك قولهم للذي يأكُلُها كثيرًا: ضَغِب. وقال جار الله العَلاّمة الزمَخْشَري -رحمه الله- بعد ذِكرِه أنَّه قيل لِعَجوز: ما طَعامُكِ؟ فقالت: الحارُّ والقارُّ وما حُشَّت به النار؛ وإنْ ذكِرَتِ الضَّغَابِيْس فإني ضَغِبَة: ليس هذا بمُشْتَقٍ منه، لأن السين فيه غير مَزِيْدَة، وانَّما هو كَسَبِطٍ من سِبَطْرٍ ودَمِثٍ من دِمَثْرٍ، قال: ولا فَصْلَ بين حَرْفٍ لا يُزادُ أصْلًا وبين حرف وقع في موضع غير الزيادة وإنْ عُدَّ في جُمْلَةِ الزَّوائِد.
وفي حديث آخَر: أنَّ صَفوان بن أُمَيَّة -رضي الله عنه- أهدى لرسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ضَغابيس وجَدَايَةً، وقال ابراهيم الحَرْبيُّ -رحمه الله-: بضَغابيسَ ولَبَإٍ ولَبَنٍ، والنبي -صلى الله عليه وسلّم- بأعلى الوادي، على يَدَيْ كلَدَةَ بن حَنْبَل -رضي الله عنه- قال: فَدَخَلْتُ عليه ولم أُسَلِّم ولم أسْتأذِنْ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلّم-: ارجِع فَقُل السَّلام عليكم أأدْخُل.
وفي الحديث: لا بأسَ باجْتِناءِ الضَّغابيس في الحَرَمِ. وقال الليث: هي شبه العَرَاجِيْنِ تنبُتُ بالغَوْرِ في أُصُول الثُّمَام؛ طِوالٌ حُمْرٌ رَخْصَةٌ تُؤكَل. وقال الأصمعي: هو نَبْتٌ يَنْبُت في أُصول الثُّمَام يُشْبِه الهِلْيَوْنَ؛ يُسْلَقُ بالخلِّ والزَّيت ويُؤكَل.
ويُقال لأغصان الثُّمَامِ والشَّوْكِ التي تؤكَل: ضَغَابِيْسُ، وللرجل الضعيف: ضُغْبُوْسٌ؛ على التَّشْبيه، قال جرير:
«قد جَرَّبَتْ عَرَكي في كُلِّ مُعْتَرَكٍ *** غُلْبُ الأُسُوْدِ فما بالُ الضَّغَابِيْسِ»
وقال رؤبة يذكُر العَفائفَ:
«وتَحْصِبُ اللاّعِنَة الجـاسُـوسـا *** بعَشْرِ أيْدِيْهِنَّ والضُّغْـبُـوْسـا»
«حَصْبَ الغُوَاةِ العَوْمَجَ المَنْسُوْسا»
وقال الدِّيْنَوَري: أخْبَرَني بعض الأعراب قال: الضَّغَابيس ينبُتُ نباتَ الهِلْيَوْنِ سَواءً؛ وهو ضَعيف؛ فإذا جَفَّ حَتَتْهُ الرِّيْحُ فَطَيَّرَتْه، قال: والضَّغابيسُ حامِضَة.
وقال أبو زياد: الضَّغابيس تَفَقَّعُ من تحت الأرض فَيَخْضَرُّ ما يَخرُجُ منها، وما في الأرض خيرٌ من ذلك، وهو أبيَض، يأكَلَه الناس أخْضَرَهُ وأبيَضَه، وانَّما تخرجُ ساقًا ساقًا، ليس لها ورق ولا شُعَب، وما في الأرض منها حُلْوٌ، وما خَرَجَ منها فإنَّه حامِضٌ. قال: ويقال: أرضٌ مُضْغِبَة: إذا كانت كثيرَةَ الضَّغابيس.
والضُّغْبوس: وَلَد الثُّرْملةِ.
وقال ابن عبّاد: الضُّغْبُوْسُ: البعير الذي ليس بِمُسِنٍّ ولا سَمِيْنٍ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
78-العباب الزاخر (لسس)
لسساللَّسُّ: الأكلُ، وقال ابن فارِس: اللَّسُّ: اللَّحْسُ، يقال: لَسَّتِ الدّابَّةُ الكَلأَ تَلُسُّه -بالضم- لَسًّا: إذا نَتَفَتْهُ بِمُقَدَّمِ فَمِها، قال زهير بن أبي سلمى:
«فَبَـيْنـا نُـبَـغّـي الـصَّـيْدَ جــاءَ غُـــلامُـــنـــا *** يَدِبُّ ويُخْـفـي شَـــخْـــصَـــهُ ويُضـــائلُـــهْ»
«فقــال: شِـــيَاهٌ راتِـــعـــاتٌ بِـــقَـــفْـــرَةٍ *** بمُـسْـتَـأسِـدِ الـقُـرْيانِ حُـــوٍّ مَـــســـائلُـــه»
«ثلاثٌ كأقوَاسِ السَّرَاءِ وناشِطٌ قد اخضَرَّ من لَسِّ الغَمِيرِ جَحافِلُهْ»
وقال الدِّيْنَوَرِيُّ: اللُّسَاسُ -بالضَّمِّ- من البَقْل: ما اسْتَمْكَنَت منه الرّاعِيَة وهو صِغار، قال: واللَّسُّ أصْلُه الأخْذُ باللِّسان من قَبْلِ أنْ يطولَ البَقْلُ، وأنشَدَ -وهو لِزَيْد بن تُركي يصف إبِلًا وفَحْلَها-:
«يُوشِكُ أنْ يوجِسَ في الإيْجاسِ *** في باقِلِ الرِّمْثِ وفي اللُّسَاسِ»
«منها هَدِيْمَ ضَـبَـعٍ هَـوّاسِ»
الهَدَمَة: شِدَّة الضَّبَعَة.
قال: واللُّسّان، أخْبَرَني بعض أعراب السَّرَاةِ قال: اللُّسّانُ: عُشْبَةٌ من الجَنْبَةِ، لها وَرَقٌ مُتَفَرِّشٌ أخْشَنُ كأنَّه المَسَاحِلُ كخُشُونَةِ لِسانِ الثَّور، يَسْمو من وَسَطِها قَضيبٌ كالذِّراعِ طولًا، في رأسِهِ نَوْرَةٌ كَحْلاءُ، وهي دَواءٌ من أوجاع اللِّسان؛ ألسِنَةِ النّاس وألسِنَةِ الإبل؛ من داءٍ يُسَمّى الحارِشَ، وهو بُثُورٌ تَظْهَرُ بالألسِنَة مِثْلِ حَبِّ الرُّمّان.
ولَسْلَسى -مثال جَحْجَبى-: موضِع.
ولَسِيْسٌ -مثال مَسِيْسٍ-: من حُصُون زُبَيد باليَمَن.
واللِّسْلاس -بالكسر-: السَّنام المُقَطَّعُ، عن ابنِ الأعرابيّ. وقال الأصمعيّ: هو اللِّسْلِسَة؛ وهي السَّنام المقطوع.
وقال ابن الأعرابي: اللُّسُسُ -بضمَّتَين-: الجَمّالون الحُذّاق. قال الأزهري: والأصلُ النُّسُس، والنَّسُّ: السَّوْقُ، فقُلِبَت النونُ لامًا.
وألَسَّتِ الأرْضُ: إذا طَلَعَ أوّل نباتِها.
وما لَسْلَسْتُ طعامًا: أي ما أكَلْتُه.
والمُلَسْلَس والمُسَلْسَل: واحِد. وثوبٌ مُلَسْلَسٌ ومُسَلْسَلٌ: إذا كان فيه وَشْيٌ مُخَطَّطٌ.
والتركيب يدل على لَحْسِ الشَّيْءِ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
79-العباب الزاخر (ميس)
ميسالمَيْس والمَيَسَانُ: التَّبَخْتُر، يقال: ماسَ يَمِيْسُ مَيْسًا وميَسانًا، قال لَقيط بن زُرارَة:
«يا لَيْتَ شِعْري اليَومَ دَخْتَنوسُ *** إذا أتاها الخَبَرُ المَرْمَوْسُ»
«أتحْلِقُ القُرُوْنَ أمْ تَـمِـيْسُ *** لا بَلْ تَمِيْسُ إنَّها عَـرُوْسُ»
فهو مائِس ومَيُوس ومَيّاس، قال رؤبة يصف الغواني:
«مِثْلُ الدُّمى تَصْوِيرُهُنَّ أطْواسْ *** ومِرْفَلُ العَيْشِ رِفَلٌّ مَـيّاسْ»
وقال رؤبة -أيضًا- يَذْكُرُ كِبَرَه وهَرَمَه:
«أحْدُوا المُنى وأغْبِطُ العَرُوْسا *** لا أسْتَحي القُرّاءَ أنْ أمِيْسا»
«أحْسِبُ يَوْمَ الجُمْعَةِ الخَمِيْسا»
وفي حديث أبي الدَّرْداء -رضي الله عنه-: تَدْخُلُ قَيْسًا وتَخْرُجُ مَيْسًا. وقد كُتِبَ الحديث بتمامه في تركيب ق ي س.
والجَمَلُ رُبَّما ماسَ بِهَوْدَجِهِ في مَشْيِهِ ميَسَانًا.
وفي المَثَل: إنَّ الغَنِيَّ الطويلَ الذَّيْلِ مَيّاس. أي لا يَقْدرُ أن يَكْتُمَ الغِنى.
ومَيّاس -أيضًا-: فَرَسٌ شَقيقِ بن جَزْءٍ أحَدِ بَني قُتَيْبَة قال فيه عمرو بن أحْمَر الباهليّ:
«مَنى لكَ أنْ تَلْقى ابنَ هِنْدٍ منِيةٌ *** وفارِسَ مَيّاسٍ إذا ما تَلَبَّبـا»
مَنى: قَدَّرَ.
والمَيّاس -أيضًا-: الأسَد الذي يختال في مِشْيَتِه، ويَتَبَخْتَر؛ لِقِلَّةِ اكْتِراثِه بِمَن يَلْقاه، قال أبو زُبَيْد حَرْمَلة بن المنذر الطّائيّ يصف الأسَد:
«فَلَمّا أنْ رَآهُم قد تَـدانَـوا *** تَقَرّى حَوْلَ أرْجُلِهم يَمِيْسُ»
وقال ابن الأعرابيّ: ماسَ يَمِيْسُ مَيْسًا: إذا مَجَنَ، مِثْلُ مَسَأ يَمْسَأ مَسْأً. ومَاسَ اللهُ فيهم المَرَضَ يَمِيْسُه: أي كَثَّرَه فيهم.
ومَيسون بنت بَحْدَل بن أُنَيْفٍ؛ من بَني حارِثَة بن جَنَابٍ؛ أُمُّ يَزِيْدَ بن مُعَاوِيَة: من التّابِعِيّات.
والمَيْسون: الحَسَنْ القَدِّ الحَسَنُ الوَجْهِ من الغِلْمانِ.
والزَّبّاءُ المَلِكَة: اسْمُها مَيْسُونُ.
والمَيْسَان: من نجوم الجَوْزاء؛ عن ابن دُرَيْد. وقال أبو عمرو: المَيَاسِينُ: النجوم الزاهِرَة.
ومَيْسان: كُوْرَة مَشْهورة بينَ البَصْرَة وواسِط، فُتِحَتُ في خِلافَةِ عُمَرَ -رضي الله عنه-، ووَلاّها النُّعمان بن عَدِيِّ بن نَضْلَةَ العَدَوِيَّ -رضي الله عنه-، ولم يُوَلَّ أحَدًا من بَني عَدِيٍّ غيرَه وِلايَة قَطُّ، لِما كانَ يَعْلَمُ من صَلاحِه.
وأرادَ النُّعمانُ امْرَأتَه على الخُروجِ إلى مَيْسانَ فأبَت عليه، فَكَتَبَ إلَيْها:
«ألا هَلْ أتى الحَسْناءَ أنَّ حَلِيْلَـهـا *** بِمَيْسَانَ يُسْقى في زُجاجٍ وحَنْتَمِ»
«إذا شِئْتَ غَنَّتْني دَهَـاقِـينُ قَـرْيَةٍ *** وصَنّاجَةٌ تَجْذُو على حَرْفِ مَنْسِمِ»
«فإن كُنْتُ نَدْماني فبالأكْبَرِ اسْقِنـي *** ولا تَسْقِني بالأصْغَرِ المُتَثَـلِّـمِ»
«لَعَلَّ أمِيْرَ المـؤْمـنـينَ يَسُـوْؤُهُ *** تَنَادُمُنا في الجَوْسَقِ المُتَـهَـدِّمِ»
فَبَلَغَ ذلِكَ عُمَرَ -رضي الله عنه- فَكَتَبَ إلَيه: بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل الكِتابِ من الله العَزيزِ العَلِيم، غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَديدِ العِقابِ ذي الطَّوْلِ لا إلهَ إلاّ هو. أمّا بَعْدُ: فقد بَلَغَني قَوْلُكَ:
«لَعَلَّ أمِيْرَ المؤْمنينَ يَسُـوْؤُهُ *** تَنَادُمُنا في الجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ»
وأيْمُ اللهِ لقد ساءني ذلك وقد عَزَلْتُكَ. فَلَمّا قَدِمَ عليه سألَه فقال: واللهِ ما كانَ مِن ذلك شَيْءٌ، وما كانَ إلاّ فَضْلُ شِعْرٍ وَجَدْتُهُ، وما شَرِبْتُها قَطُّ. فقال: أظُنُّ ذاكَ، ولكن لا تَعْمَلَ لي على عَمَلٍ أبَدًا.
والنّسْبَةُ إلى مَيْسانَ: مَيْسَانيٌّ؛ على الأصْلِ، ومَيْسَنانيٌّ؛ على التغيير. قال العجّاج:
«خَوْدًا تَخَالُ رَيْطَها المُدَمْقَـسـا *** ومَيْسَنانـيًّا لـهـا مُـمَـيَّسـا»
«أُلْبِسَ دِعْصًا بَيْنَ ظَهْرَيْ أوْعَسا»
وقال ابن عبّاد: رَجُلٌ مَيْسَانٌ: أي مُتَبَخْتِر، وامْرَأةٌ مَيْسَانَةٌ، وقيل: مَيْسَانُ ومَيْسى.
قال: ويقال لِلَيْلَةِ البَدْرِ: مَيْسانُ.
ويقال لأحَدِ كَوْكَبيِ الهَقْعَةِ: مَيْسَانُ.
وقال الدِّيْنَوَريّ: المَيْسُ: أخْبَرَني بَعْضُ أعْرابِ عُمَانَ -وعُمَانُ مَعْدِنُ المَيْسِ- فقال: شجر المَيْسِ عِظامٌ، شَبِيهٌ في نَبَاتِه ووَرَقِه بالغَرَبِ، وإذا كانَ شابًّا فهو أبْيَضْ الجَوْفِ، فإذا قَدُمَ اسْوَدَّ فَصَارَ كالآبَنُوْسِ، ويَغْلُظُ حتّى تُتَّخَذُ منه الموائِد الواسِعة، وتَتَّخَذ منه الرِّحالُ، قال العجّاج يصف الإبل:
«يَنْتُقْنَ بالقَوْمِ من الـتَّـزَعُّـلِ *** وهِزَّةِ المِرَاحِ والتَّـخَـيُّلِ»
«مَيْسَ عُمَانَ ورِحالَ الإسْحِلِ»
وقال حُمَيْد بن ثَور الهِلاليّ -رضي الله عنه- يصف الإبل:
«صُهْبٌ إذا غَرِثَتْ فُضُولُ حِبالها *** شَبِعَتْ بَرَاذِعُها ومَيْسٌ أحْمَرُ»
فَوَصَفَهُ بالحُمْرَةِ لأنَّه لم يَسْوَدَّ بَعْدُ. قال: والمَيْس رِيفيٌّ وليس بِبَرِّيٍّ يُغْرَسُ غَرْسًا. وفي حديث طَهْفَةَ بن أبي زُهَيْر النَّهْدِيّ -رضي الله عنه-: أتَيْناكَ يا رَسولَ اللهِ مِن غَوْري تِهَامَةَ بأكْوارِ المَيْسِ. وقد كُتِبَ الحديث بِتَمامِهِ في تركيب و ط ء. وقال ذو الرُّمَّة:
«كأنَّ أصْواتَ مِن إيغالِهِـنَّ بِـنـا *** أواخِرِ المَيْسِ أصْواتُ الفَرارِيْجِ»
أي كأنَّ أصواتَ أواخِرِ المَيْسِ من ايغالِهِنَّ بنا أصوات الفَراريج. وقال الشمَّاخ:
«وشُعْبَتَا مَيْسٍ بَرَاها إسْكافْ»
وقال الدِّيْنَوَريّ: المَيْسُ -أيضًا-: ضَرْبٌ من الكُرُوم ينهض على ساقٍ بعض النهوض، ثمَّ يَتَفَرَّع. أخْبَرَني بذلك بعض أهلِ المَعْرِفة، ومَعْدِنُه أرْضُ سَرُوْجَ من أرض الجزيرة، قال: وأخْبَرَني أنَّه قد رآه بالطائِفِ، وإليه يُنْسَبُ الزَّبِيْبُ الذي يُسَمّى المَيْس، قال: وأخبَرَني أنَّ للمَيْسِ ثَمَرَةٌ في خِلْقَةِ الإجّاصَةِ الصَّغيرة.
وقال ابن دريد: المَيّاس: الذِّئب؛ لأنَّه يَمِيْسُ أي يَتَحَرَّك.
والتَّمْيِيْسُ: التَّذْيِيْلُ. وفُسِّرَ قولُ العَجّاج:
«ومَيْسَنانِيًّا لها مُمَيَّسا»
بالمُذَيَّلِ؛ أي له ذَيْلٌ.
وتَمَيَّسَ: أي تَبَخْتَرَ؛ مِثْلُ ماسَ، قال:
«وإنّي لَمِنْ قُنْعَانِها حِيْنَ اعْتَزي *** وأمْشي بِهِ نحوَ الوَغى أتَمَيَّسُ»
والتَّركيبُ يَدُلُّ على المَيَلان.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
80-العباب الزاخر (ضبط)
ضبطضَبطُْ الشيء: حفْظهُ بالحزْم. ورجلّ ضابطَ: أي حازمّ.
والضبْطُ: لزوْمُكَ الشيَءَ لا تفَارِقهُ، يقالُ ذلك في كلّ شيْءٍ.
وقال ابن دريدٍ: ضبطَ الرّجلُ الشيْءَ يضْبطهُ ضَبْطًا: إذا أخذَه أخذَاَ شديدًا. والرّجلُ الضاّبطَ: الشديدُ الأيدُ. وقال غيرهُ: جملّ ضابّطِ: كذلك، وقال أسامةُ الهذّليَ:
«وما أنا والسيّيرُ في متْلفٍ *** يبُرجُ بالذكرِ الضّابِـط»
ويرْوى: "يعبرُ" أي يرْيه عبرَ عينهْ.
وفي المثلِ: أضبطُ من أعمى وأضبط من ذَرةٍ، وذلك أنها تجرماّ هوُ على أضعاَفهاِ، وربماّ سقطاَ من مكان مرتفع فلا ترسلهُ.
ويقال: أضْبطَ من عائشةَ بن عثمْ من بنيَ عبد شمْسَ بن سعدٍْ، وكانّ من حدَيثهُ إنهَ سقى إبلهَ يومًا وقد أنزلَ أخاه في الركيةّ للميحِ فازدحمت الإبل فهوتْ بكرةَ منها في البئرِ فأخذَ بذَنبها؛ وصاحَ به أخوه: يا أخي الموتَ، قال: ذاك إلى ذَنبَ البكرةَ؛ يريْدَ: أنه انقطعَ ذَنبهاُ وقعتْ، ثم اجتْذبها فأخرجها. هذه رواية حمزَةَ وأبي الندى. وقال المنذري: هو عابسةُ، من العبوسْ. ولم يذكرُ عائشةَ بن عثمٍ ابن الكلْبي في جمهرةَ نسبٍ عَبد شمسَ بن سعدِ ابن زيدِ مناةَ بن تميمٍ.
وأرْضّ مضبوْطةَ: عمها المطرُ.
والضّابطُ والأضْبطُ: الأسدُ، وإنما وصفَ بذلك لأنهُ يأخذَُ الفريسْةَ أخذًَا شديدًا ويضْبطها فلا تكادُ تفلتُ منه. وقال الأصمعيّ: أخْبرنيَ من حضرَ جنازةَ رَوحِ بن حاتمٍ؛ وباكيتهَ تقولُ:
«أسدّ أضْبطَ يمشـي *** بينَ طرْفاءَ وغيلِ»
«لبسهُ من نَسـجِ داود *** كضحْضاحِ المسْيلِ»
وقال الكمَيتُْ:
«هو الأضْبطُ الهواسُ فينا شجاَعةً *** وفيمنْ يعادْيهِ الهجفَ المثقـلُ»
واللبؤةَ: ضبْطاءُ، قال الجميحُ- واسمهُ منقدّ- يصفَُ امرأتهَ:
«أما اذا حردَتْ حرْدي فمـجـرية *** ضبْطاءُ تمنعُ غيلًا غيرَ مقروْبِ»
ويروْى: "جرْداء". وكذلك ناقةّ ضبْطاء، قال:
«عذُافرةَ ضَبْطاء تخْدي كأنها *** فَنيْقّ غدا السوّامَ السوّارحا»
وسُلَ النبّي-صلّى الله عليه وسلّم- عن الأضَبطَ فقال: الذي يعملُ بيسارهِ كما يعْملُ بيمينهِ.
وقال ابن دريد: رَجلُ أضبطَ؛ ولا أعلمُ له فعْلًا يتصرفُ منه؛ وهو الذي يعْملُ بيدِيهَ جميعًا. وكان عمرُ -رضي الله عنه- أضبطَ وربيعةُ بن الأضبطَ الأشجعيّ: من الأشدّاء على الأسراء، قال إبراهيم بن علي بن محمد بن سلمةَ بن عامر بن هرْمةَ:
«هزمَ الولائدُ رأسهَ فكـأنـمّـا *** يشْكو إسارَ ربيعةَ بن الأضَبطِ»
قال: والأضْبطُ بن كلاب.
والأضْبطُ بن قريعْ بن عَوفْ بن كعب بن سعْد ابن زّيدِ مناة بن تميم، شاعرّ مشهورّ، ونبو تميمٍَ يزعمونُ أنهَ اولُ من رأسِ فيهم.
والضّبنْطى: القويَ، وبعضهم يجعلُ النونَ والألف زائدتينِ، وسنْعيدّ ذكرهُ إن شاء الله تعالى. والضبْطة والمسةُ والطريدْةُ: من لعبُ العرَب.
وتضبّطتُ فلانًا: أي أخذتهُ على حبسٍ مني له وقهرٍ، ومنه حديث أنيسٍ رضي الله عنه: سافر ناس من الأنصار فأرْملوا؛ فمروا بحي من العربَ فسألوهم القرى فلم يقروْهمُ وسألوهم الشرى فلم يبيعُوهم؛ فأصابوا منهم وتضبطوُا.
ويقال: تَضّبطتِ الضّانُ: أي أسْرعتْ في المرْاعى وقويتْ.
وقال ابن الأعرابيّ: إذا تضَبطتِ المعْزى شبعتِ الإبلُ، وذلك أنّ الضاَنَ يقال لها الإبل الصغرى لأنها أكثر أكلًا من المعزى والمعزلى ألطفُ أحْناكًا وأحْسنُ إراغةً وأزْهد زهدًا منها، فإذا شَبعتِ الضانُ فقد أحيّا النّاسُ لكثيرةِ العُشب.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
81-العباب الزاخر (رنف)
رنفأبو عبيد: الرَّنْفُ والرَّنَفُ: بَهْرَامَجُ البر، وقال غيره: الرَّنْفُ: من شجر الجبال. وفي مقتل تأبط شرًا: أن الذي رماه لاذ منه بِرَنْفَةٍ؛ فلم يزل تأبط شرًا يخذِمُها بالسيف حتى وصل إليه فقتله ثم مات من رميته، قال أوس بن حجر يذكر نبعة:
«تعلمها في غِيْلِها وهي حظوةٌ *** بوادٍ به نبع طوال وحثـيل»
«وبانٌ وظَيَّانٌ ورَنْفٌ وشَوحَطٌ *** ألفُّ أثْيِتٌ ناعِمٌ مُـتَـغَـيّلُ»
أي صار غيلًا، ويُرْوَى: "مُتَعَبِّلُ" أي قد سقط ورقه. وهذه كلها من شجر الجبال. وقال الدِّيْنَوَرِيُّ: أخبرني أعرابي من أهل السَّرَاةِ قال: الرَّنْفُ هو هذا الشجر الذي يقال له الخِلاَفُ البَلْخِيُّ وهو بعينه. والرَّنْفُ: ما ينضم ورقه إلى قضبانه إذا جاء الليل وينتشر بالنهار.
والرَّانِفَةُ: أسفل الألْيَة وطرفها الذي يلي الأرض من الإنسان إذا كان قائمًا، وقيل: الرّانِفَةُ ما سأل من الألْيَةِ على الفخذين، وفي حديث عبد الملك بن مرْوان أنه قال له رجل: خرَجتْ بي قَرْحَةٌ؛ فقال: في أي موضع من جسدك؟ قال: بين الرّانِفَةِ والصفن، فأعجبه حُسْنُ ما كنَى، قال عنترة بن شداد يهجو عمارة بن زياد العبسي:
«مَتَا ما تلقني فَرْدَيْنِ ترجف *** رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وتُسْتَطارا»
وقال أبو حاتم: رانِفَةُ الكبد: ما رَقَّ منها.
وقال اللِّحْياني: رَوَانِفُ الأكمام رؤوسها.
والرّانِفَةُ أيضًا: طرف غضروف الأذن، وألْيَةُ اليد، وجُلَيْدَةُ طرف الروثة.
والرَّوَانِفُ: أكسيةٌ تُعَلَّق إلى شقاق بيوت الأعراب حتى تلحق بالأرض، الواحدة: رَانِفَةٌ.
وقال أبن عباد: رَانِفُ كل شيء: ناحيته.
والمِرْنَافُ: سيف الحَوْفَزَانِ بن شريك، وهو القائل فيه:
«إن يكن المِرْنَافُ قد فـل حَـدَّه *** جِلادِي به في المأزقِ المتلاحمِ»
«تَوَارَثَه الآباء من قبل جُـرْهـم *** فأردفه قدّي شؤونَ الجمَاجِـمِ»
وأرنفت الناقة بأذنيها: إذا أرْخَتْهُما من الإعياء، وفي الحديث: أنه كان إذا نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي وهو على القصواء تذرف عيناها وتُرْنِفُ بأذُنَيْها من ثقل الوحي.
وقال أبن عبّاد: أرْنَفَ البعير: إذا سار فحرَّك رأسه فتقدمت جِلْدَةُ هامته.
وجاءني الرجل مُرْنِفًا: أي مسرعًا.
والتركيب يدل على ناحية من الشيء.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
82-العباب الزاخر (زلف)
زلفابن دريد: الزَّلَفُ -بالتحريك-: القُرْبَةُ.
وقال غيره: الزَّلَفَةُ -بالتحريك-: المَصْنَعَةُ المَمْتلئة، والجمع: زَلَفٌ. وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه ذكر ياجوج وماجوج وأن نبي الله عيسى -عليه السلام- يُحْصَر هو وأصحابه فيرغب إلى الله فيُرْسَلُ عليهم النَّغَفُ في رقابهم فيُصبِحون فرسى كموت نفسٍ واحدةٍ ثم يرسل الله مطرًا فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَفَةِ. قال القُتبي: وقد فُسِّرَتِ الزَّلَفَةُ في الحديث أنها المحارة وهي الصدفة، قال: ولست أعرف هذا التفسير إلا أن يكون الغدير يُسمى محارةً؛ لأن الماء يَحُور إليه ويَجْتَمع فيه، فتكون بمنزلة تفسيرنا، وقال لَبيد -رضي الله عنه-:
«حتى تحيَّرَتِ الدِّبَارُ كأنـهـا *** زَلَفٌ وأُلْقِيَ قِتبُها المَحْزومُ»
وقال ابن الأعرابي: الزَّلَفَةُ: وجه المرآة. وقال الكسائي: هي المِرآةُ؛ كذا تُسمِّيْها العرب، والجمع: زَلَفٌ، وأنشد:
«يقذف بالطَّلْحِ والقَتَادِ على *** مُتُونِ رَوْضٍ كأنها زَلَفُ»
وقال أبو حاتم: لم يدرِ الأصمعي ما الزَّلَفُ ولكن بلغني عن غيره أن الزَّلَفَ الأجاجِيْنُ الخضر. وكذا قال ابن دريد وقال: هكذا أخبرني أبو عثمان عن التَّوَّزيِّ عن أبي عبيدة، قال: وقد كنت قرأتُ عليه في رَجَز العماني:
«حتى إذا ماءُ الصَّهَارِيجِ نـشـفْ *** من بعدِ ما كانت مِلاءً كالزَّلَـفْ»
«وصار صلصال الغديرِ كالخَزَفْ»
قال: فسألته عن الزَّلَفِ فذكر ما ذكرته لكَ آنِفًا، وسألت أبا حاتمِ والرِّياشيَّ فلم يُجِيْبافيه بشيءٍ.
وقال الليث: الزَّلَفَةُ: الصَّحْفَةُ، وجمعها زَلَفٌ.
قال: والمَزْلَفَةُ: قرية تكون بين البَر وبلاد الريفِ، والجميع: المَزَالِفُ، وقال أُذَيْنَةُ العبدي: حججتُ من رأس هرٍ أو خارَكَ أو بعض هذه المَزَالِفِ فقلتُ لِعُمَرَ -رضي الله عنه-: من أين أعتَمِرُ؟ فقال: ائْتِ عَليًّا فسله، فسألته فقال: من حيث ابتدأت.
ويُقال للمراقي: المَزَالِفُ، لأن الرّاقِيَ فيها تُزْلِفُه أي تُدْنِيْه مما يَرْتَقي إليه.
والزُّلْفَةُ والزُّلْفى: القُرْبَةْ والمَنْزِلَةُ، قال الله تعالى: (فلما رأوْهُ زُلْفَةً)، وقوله تعالى: (وإن له عندنا لَزُلْفى) وهي اسم المصدر؛ كأنه قال ازدلافًا. وجمع الزُّلْفَةِ: زُلَفٌ.
وقو العجاج:
«ناجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مما وجَـفَـا *** طيَّ اللَّيالي زُلَفًا فَزُلَـفـا»
«سَمَاوَةَ الهلال حتى احقَوْقَفا»
يقول: منزلةً بعد منزلةً ودرجة بعد درجة. وأنشد ابن دريد لابن جُرْمُوز:
«أتيتُ عليًا برأسِ الزُّبَيْرِ *** وقد كنت أحسبُه زُلْفَهْ»
والزُّلْفَةُ -أيضًا-: الطائفة من أول الليل، والجمع: زُلَفٌ وزُلُفَاتٌ وزُلْفَاتٌ. وقوله تعالى: (وزُلَفًا من الليل) أي ساعةً بعد ساعةٍ يَقرُبُ بعضها من بعض، وعُني بالزُّلَفِ من الليل المغرب والعشاء.
وزُلْفَةُ -أيضًا-: ماءةٌ شرقيَّ سَمِيراء، قال عبيد بن أيوب:
«لعـمـرُكَ إنـي أقْـواعِ زُلْــفةٍ *** على ما أرى خلف القفا لَوَقُـوْرُ»
«أرى صارمًا في كفِّ أشْمَطَ ثـائرٍ *** طوى سِرَّه في الصدر فهو ضميرُ»
وقال ابن عبّاد: الزُّلَفُ: الأجاجين الخضر كالزَّلَفِ وزُلَيْفَةُ -مصغرة-: بطن من العرب.
وقال ابن دريد: الزَّلِيْفُ: المتقدم من موضع إلى موضع.
وقال ابن فارس: عُقْبَةٌ زَلُوْفٌ: أي بعيدة.
وأزْلَفَه: أي قرَّبه. وقوله تعالى: (وأزْلَفْنا ثم الآخرينَ) قال ابن عرفة: أي جمعناهم، قال: وأحسن من هذا: أدنَيْناهم؛ يعني إلى الغرق، قال: وكذلك قوله تعالى: (وأُزْلِفَتِ الجنَّةُ للمُتَّقين) أي أُدنِيَتْ.
وزَلَّفْتُ الشيء تَزْلِيْفًا: أي أسلفت وقدمت، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا أسلم العبد فَحَسُنَ إسلامه يُكَفَّرُ عنه كل سيئةٍ زَلَّفَها.
وقال ابن دريد: فلانٌ يُزَلِّفُ في حديثه ويُزَرِّفُ: أي يزيد.
وقال ابن عبّاد: فلان يُزَلِّفُ الناس: أي يُزْعِجُهم مَزْلَفَةً مَزْلَفَةً.
وازْدَلَفَ القوم: أي تقدموا، وقيل: اقتربوا.
وقال ابن دريد: المُزْدَلِفُ: رجل من فرسان العرب، قيل له المُزْدَلِفُ لأنه ألقى رمحه بين يديه في حربٍ كانت بينه وبين قومٍ ثم قال: ازْدَلِفُوا إلى رُمْحي، وله حديث. قال الصغانيُّ مؤلف هذا الكتاب: المُزْدَلِفُ هو أبو رَبيْعَةَ واسمه الخصيب وهذه الحرب هي حرب كُلَيْبٍ؛ وكان إذا رَكِبَ لم يُعْتَمَّ معه غيره.
وقال ابن حبيب: في بني شيبان: المُزْدَلِفُ وهو عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهْلِ بن شيبان؛ قيل له المُزْدَلِفُ لاقترابه إلى الأقران وإقدامه عليهم. وفي طيءٍ: المُزْدَلِفُ بن أبي عمرو بن معترِ بن بولان بن عمرو بنِ الغوث.
والمُزْدَلِفَةُ: موضع بين عرفات ومنىً، قيل: سُمِّيَتْ بها لأنه يتقرب فيها. وقال الليث: سُمِّيَتْ بهذا الاسم لاقتراب الناس إلى منىً بعد الإفاضة من عرفاتٍ.
ومن الازدلافِ بمعنى الاقتراب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه أُتِيَ ببدنات خمسٍ أو ستٍّ فطفقنَ يَزْدلِفْنَ إليه بأيتهن يبدأ، قال عبد الله بن قرطٍ -رضي الله عنه-: فلما وَجَبَتْ لجنوبها تكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكلمة خفيةٍ لم أفهمها -أو قال: لم أفقهها- فسألتُ الذي يليه فقال: قال: من شاء فليقتطع. وفي حديثه الآخر -صلى الله عليه وسلم-: أنه كَتَبَ إلى مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وهو بالمدينة: أنظر من اليوم الذي تُجَهِّزُ فيه اليهود لِسَبْتِهم فإذا زالت الشمس فصل إلى الله فيه بركعتين واخطب فيهما. ومنه حديث محمدِ بن عليٍ: مالك من عيشك إلا لَذَّةٌ تَزْدَلِفُ بك إلى حمامكَ.
وتَزَلَّفَ القوم: أي تقدموا؛ مثل ازْدَلَفُوا.
والتكريب يدل على اندفاعٍ وتقدمٍ في قُرْبِ إلى شيءِ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
83-العباب الزاخر (سلف)
سلفسَلَفْتُ الأرض أسفلها-بالضم-سَلْفًا: إذا سويتها بالمِسْلَفَةِ وهي شيء تسوى به الأرض. وفي الحديث: أرض الجنة مَسْلُوْفَةٌ وحِصْلِبُها الصُّوَارُ وهواؤها السَّجْسَجُ. ذكر أبو عبيد هذا الحديث لعبيد بن عمير، وذكره الأزهري لمحمد ابن الحنفية؛ ولم أجده في أحاديثه، وذكره الخطابي والزمخشري لابن عباس -رضي الله عنهما-، وذكر الخطابي أنه أخذه من كتاب أبي عمر يعني اليواقِيْتَ. قال الأصمعي: هي المُسْتَوِيَةُ أو المُسَوّاةُ.
وسَلَفَ يَسْلُفُ سَلَفًا -بالتحريك- مثال طَلَب يَطْلُبُ طَلَبًا: أي مضى، قال الله تعالى: (فَلَهُ ما سَلَفَ). والقوم السُّلاّفُ: المتقدمون. وسَلَفُ الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع: أسْلافٌ وسُلاّفٌ.
والسَّلَفُ: نوع من البيوع يُعجَّل فيه الثمن وتُضبَطُ السلعة بالوصف إلى أجلٍ معلوم. وقال أبو عبيد الهروي: السَّلَفُ في المعاملات له معينان: أحدهما القرض الذي لا مُتْعَةَ فيه للمقرض؛ وعلى المقرض رده كما أخذه؛ والعرب تسميه سَلَفًا، والمعنى الثاني في السَّلَفِ السَّلَمُ؛ وهو اسم من أسْلَمْتُ. قال: وللسلف معنيان آخران: أحدهما كل عمل صالح قدمه العبد أو فَرَطٍ فَرَطَ له، والسَّلَفُ من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك. انتهى كلام أبي عبيد.
وقال أبو عمرو: أرض سَلِفَةٌ: قليلة الشجر.
وفي الحديث: عُبَابُ سالِفِها: أي من سَلَفَ من مذحج؛ أو ما سَلَفَ من غيرهم ومجدهم، يريد أنهم أهل سابقة وشرف، وقد كتب الحديث بتمامه في تركيب س ر د ح.
والسَّلْفُ -بسكون اللام- الجِرَاب الضخم، وقيل: هو أديم لم يُحْكَم دبغه كأنه الذي أصاب أول الدباغ ولم يبلغ آخره. ومنه حديث عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعثنا ومالنا طعام إلا السَّلْفُ من التمر فنقسمه قبضة قبضة حتى ننتهي إلى تمرة تمرة، فقال له عبد الله بن عامر: ما عسى أن تنفعكم تمرة تمرة؟، قال: لا تقل ذاك فوالله ما عدا أن فقدناها اختللناها. أي اختللنا إليها؛ فحذف الجار وأوصل الفعل، والمعنى: احتجنا إليها؛ من الخلة وهي الحاجة.
والسُّلْفَةُ بالضم- ما يتعجله الرجل من الطعام قبل الغداء كاللُّهْنَةِ.
وقال الليث: تسمى غُرْلَةُ الصبي سُلْفَةً.
والسُّلْفَةُ: جلد رقيق يجعل بطانة للخِفافِ، وربما كان أحمر وأصفر.
وقال الأزهري: أخبرني المنذري عن الحَسَنِ المؤدب أنه أنشده بيت سعد القرقرة:
«نحن بغرسِ الوَدِيِّ أعلـمـنـا *** منا بركضِ الجياد في السُّلَفِ»
وقال: السُّلَفُ: جمع السُّلْفَةِ من الأرض وهي الكُرْدَِةُ المسواة. وقد مرَّ البيت في تركيب س د ف.
وقال أبو زيد: يقال جاء القوم سُلْفَةً سُلْفَةً: إذا جاء بعضهم في أثر بعض.
والسُّلَفُ -مثال صُرَدٍ-: بطن من ذي الكلاع من حمير، وهو السُّلَفُ بن يَقطن.
والسُّلَفُ أيضًا: من أولاد الحَجَل، والجمع: سِلْفَانٌ؛ مثال صُرَدٍ وصِرْدَانٍ.
وقال أبو عمرو: لم نسمع سُلَفَةً للأنثى، ولو قيل سُلَفَةٌ كما قيل سُلَكَةٌ لواحدة السِّلْكِانِ لكان جيدًا، قال:
«خَطِفنَهُ خطف القطامي السُّلَفْ»
وقال آخر:
«أُعالج سِلْفانًا صِغَارًا تخـالـهـم *** إذا درجوا بُجْرَ الحواصل حُمَّرا»
وقال مُرة بن عبد الله الهذلي:
«كأن ثيابه سِلْفَـانُ رُخـمٍ *** حواصلهن أمثال الزِّقَاقِ»
وسُلاَفَةُ: اسم امرأة من بني سهم.
والسُّلاَفُ والسُّلاَفَةُ من الخمر: أخلصها وأفضلها، وذلك إذا تحلب من العنب بلا عصر ولا مَرْثٍ، وكذلك من التمر والزبيب ما لم يعد عليه الماء بعد تَحَلُّب أوله، قال أمرؤ القيس:
«كأن مَكَاكـي الـجِـوَاءِ غُـدَيَّةً *** صبحن سُلاَفًا من رحيق مفلفلِ»
وسُلاّفُ العسكر: مقدمتهم.
وسُوْلافُ: قرية غربي دجيل من أرض خوزستان كانت بها وقعة بين الأزارقة وأهل البصرة، قال عبيد الله بن قيس الرقيات:
«تبيت وأرض السُّوْسِ بيني وبينهـا *** وسُوْلافُ رُسْتَاقٌ حَمَتْهُ الأزارقهْ»
ومن شواهد العروض:
«لما التقوا بسُوْلافْ»
والسَّلُوْفُ: الناقة تكون في أوائل الإبل إذا وردت الماء.
والسَّلُوْفُ من نصال السهام: ما طال، قال:
«شكَّ كُلاها بِسَلُوْفٍ سَنْدريْ»
والأمم السّالِفَة: الماضية أمام الغابرة، وتجمع سَوَالِفَ، قال:
«ولاقت مناياها القرون السَّوَالِفُ *** كذلك تلقاها القرون الخَوَالِفُ»
والسّالِفَةُ: ناحية مقدم العنق من لدن معلق القُرْطِ إلى قلت الترقوة، قال أوس بن حجر:
«نواعم ما يضحكن إلا تَبَـسُّـمـًا *** إلى اللهو قد مالت بِهِن السَّوَالِفُ»
وسالِفَةُ الفرس وغيره: هاديته؛ أي ما تقدم من عنقه.
وسَلِفُ الرجل: زوج أخت امرأته، وكذلك سِلْفُه، مثال كَبِدٍ وكِبْدٍ. وبينهما أُسْلُوْفَةٌ: أي صهر.
وسِلْفَةُ -بالكسر- وسِلَفَةُ -مثال عِنَبَةٍ-: من أعلام النساء.
وأسْلَفْتُ في كذا: من السَّلَفِ.
والمُسْلِفُ من النساء: التي بلغت خمسًا وأربعين سنة ونحوها، وهو وصف خُصَّ به الإناث، قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
«هاج فؤادي موقـف *** ذكَّرَني ما أعـرف»
«ممـشـاي ذاة لـيلةٍ *** والشوق مما يَشْعَفُ»
«إلى ثلاثٍ كالـدمـى *** كواعب ومُسْلِـفُ»
وأسْلَفْتْ الأرض: مثل سَلَفْتُها.
وسَلَّفْتُ في الطعام تَسْليفًا: مثل أسْلَفْتُ، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ في كيل معلوم وزن معلوم.
وسَلَّفْتُ الرجل: من السُّلْفَةِ أي اللُّهنة.
وسَلَّفْتُ-أيضا-: أي قدمتُ.
وقال ابن عباد: المُسَالِفُ للرجل في الأرض: المُسَايِرُ له فيها. وهو -أيضًا-: المساوي له في الأمر.
قال: وبعير مُسَالِفٌ: أي متقدم.
وتَسَلَّفْتُ منه كذا: أي اقترضت، ومن السَّلَفِ في الشيء أيضًا.
والتركيب يدل على تقدم وسبق، وقد شذ عنه السَّلْفُ للجراب.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
84-العباب الزاخر (صرف)
صرفالصَّرْفُ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: المدينة حرمٌ ما بين عائر -ويُروى: عَيْرِ- إلى كذا من احدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقْبَلٌ منه صَرْفُ ولا عدلٌ ومن تولى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عدلٌ: التوبة؛ وقيل: النافلة. وقال قومٌ: الصَّرْفُ: الوزن؛ والعدل: الكيل. وقال يونس: الصرف: الحيلة، قال الله تعالى: (فما تَستطيعون صَرْفًا ولا نصرًا). وقال غيره: أي ما يستطيعون أن يَصْرِفُوا عن أنفسهم العذاب ولا أن يَنْصُروا أنفسهم.
وصَرْفُ الدهر: حَدَثانه ونوائبه.
والصَّرْفانِ: الليل والنهار، وابن عبّاد كَسَرَ الصّاد.
وقوله تعالى: (سَأصْرِفُ عن آياتي) أي أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي.
وفي حديث أبي إدريس الخولاني: من طلب صَرْفَ الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس إليه لم يَرَحْ رائحة الجنة. هو أن يزيد فيه ويُحَسنه، من الصَّرْفِ في الدراهم وهو فضل الدرهم على الدرهم في القيمة.
ويقال: فلان لا يعرف صَرْفَ الكلام: أي فضل بعضه على بعضٍ. ولهذا على هذا صرف: أي شِفٌّ وفضلٌ. وهو من: صَرَفَه يَصْرِفُه، لأنه إذا فُضِّلَ صُرِفَ عن أشكاله ونظائره.
والصَّرْفَةُ: منزل من منازل القمر، وهو نجم واحد نير يتلو الزُّبْرَةَ؛ يقال إنه قلب الأسد، وسميت الصَّرْفَةَ لانصراف البرد وإقبال الحر بطلوعها، قال السّاجع، إذا طلعت الصَّرْفَة؛ بكرت الخُرْفَة؛ وكثرت الطّرْفَة؛ وهانت للضيف الكلفة، وقال أيضًا: إذا طَلَعَت الصَّرْفَة؛ احتال كل ذي حرفة.
والصَّرْفَةُ -أيضًا-: خرزة من الخَرز الذي تذكر في الأُخَذِ.
وقال ابن عبّاد: الصَّرْفَةُ: ناب الدهر الذي يفتر.
وحلبت النّاقة صَرْفَةً: وهي أن تحلبها غدوة ثم تتركها إلى مثل وقتها من أمس.
والصَّرْفَةُ من القِسِيِّ: التي فيها شامة سوداء لا تُصِيْبُ سِهامها إذا رميت.
وصَرَفَ الله عنه الأذى.
وكلبةٌ صارِفٌ: إذا اشتهت الفحل، وقد صَرَفَتْ تَصْرِفُ صُرُوْفًا وصِرَافًا.
وصَرْفُ الكلمة: إجراؤها بالتنوين.
وقال ابن عبّاد: صَرَفْتُ الشراب: إذا لم تمزجها، وشراب مَصْرُوْفٌ.
وصَريْفُ البكرة: صوتها عند الاسْتِقاء، وقد صَرَفَتْ تَصْرِفُ -بالكسر-. وكذلك صَرِيْفُ الباب وصَرِيْفُ ناب البعير، قال النابغة الذبياني يصف ناقةً:
«مقذوفة بدخيسِ النَّحضِ بازلـهـا *** له صَرِيْفٌ صَرِيْفَ القعو بالمسد»
يقال منه: ناقة صَرُوْفٌ.
وقال ابن السكيت: الصَّرِيْفُ: الفضة، وأنشد:
«بني غُدَانَةَ ما إن أنتم ذهـبـًا *** ولا صَرِيْفًا ولكن أنتم خَزَفُ»
والصَّرِيْفُ: اللبن ينصرف به عن الضرع حارًا إذا حُلِبَ، قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
«لكن غذاها اللبـن الـخـريف *** المحض والقارص والصَّرِيْفُ»
وقد ذكر الرجز بتمامه والقصة في تركيب ق ر ص.
والصَّرِيْفُ: موضع على عشرة أميال من النباج، وهو بلد لبني أُسَيِّد بن عمرو بن تميم، قال جرير:
«أجنَّ الهوى ما أنْـسَ مـوقـفـًا *** عشية جرعاء الصَّرِيْفِ ومنظرا»
وقال الدينوري: زعم بعض الرواة أن الصَّرِيْفَ ما يبس من الشجر، وهو الذي يقال له بالفارسية: الخَذْخُوَشْ، وهو القفلة أيضًا.
وصَرِيْفُوْنَ: في سواد العراق في موضعين: أحدهما قرية كبيرة غناء شجراء قرب عكبراء وأوانى على ضفة نهر دجيل، وصَرِيْفًوْنَ -أيضًا- من قرى واسط.
وأما قول الأعشى:
«وتجبى إليه السَّيْلَحُـوْنَ ودونـهـا *** صَرِيْفُوْنَ في أنهارها والخورنق»
فإنها هي الأولى التي ذكرتها، والخمر الصَّرِيْفِيَّةُ-أيضًا-منسوبة إليها، قال الأعشى أيضًا:
«تُعاطي الضجيع إذا أقبلت *** بُعَيْدَ الرقاد وعند الوسن»
«صَرِيْفِيَّةً طيبًا طعمـهـا *** لها زبد بين كوبٍ ودَنْ»
وقيل: جعلها صَرِيْفِيَّةً لأنها أخذت من الدن ساعتئذٍ كاللبن الصَّرِيْفِ.
وقال ابن الأعرابي: الصَّرَفانُ اسم للموت.
وقال ابن عبّاد: الصَّرَفانُ: النحاس.
والصَّرَفَانُ -بالتحريك-: الرصاص.
والصَّرَفَانُ: جنس من التمر، قالت الزَّبّاء:
«ما للجمال مشيها وئيدا *** أجندلا يحملن أم حديدا»
«أم صَرَفَانًا باردا شديدا *** أم الرجال جثمًا قعودا»
وقال الدينوري: أخبرني بعض العرب قال: الصَّرَفَانَةُ تمرة حمراء نحو البرنية إلا أنها صُلْبَة الممضغة علكة، وهي أرزن التمر كله، يعدها ذوو العيالات وذوو العبيد والأجراء لجزاءتها وعظم موقعها، والناس يدخرونها. ومن أمثالهم: صَرَفَانَةٌ ربعية تُصْرَمُ بالصيف وتؤكل بالشتية. قال: وأخبرني النُّوْشَجَاني قال: الصَّرَفَانَةُ هي الصَّيْحَانِيَّةُ بالحجاز نخلتها كنخلتها، قال النجاشي:
«حسبتم قتال الأشعرين ومذحجٍ *** وكندة أكل الزُّبْدِ بالصَّرَفَانِ»
والصِّرْفُ -بالكسر-: صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال، قال الكلْحَبَةُ:
«كميت غير مُحْلِـفَةٍ ولـكـن *** كلون الصِّرْفُ عُلَّ به الأديم»
وقال عبدة بن الطبيب العبشمي:
«عَيْهَمَةُ ينتحي في الأرض منسمهـا *** كما انتحى في أديم الصَّرْفِ إزميلُ»
وشراب صِرْفٌ: أي بَحْتٌ غير ممزوج.
والصَّيْرَفُ: المحتال في الأمور، قال أمية بن أبي عائذٍ الهذلي:
«قد كنت خرّاجًا ولوجًا صَـيْرَفـًا *** لم تلتحصني حَيْصَ بَيْصَ لَحَاصِ»
وكذلك الصَّيْرَفيُّ، قال سويد بن أبي كاهلٍ اليشكري:
«ولسانًا صَيْرَفِـيًّا صـارمـًا *** كحسام السيف ما مَسَّ قطع»
والصَّيْرَفيُّ: الصَّرّافُ؛ من المُصَارَفَةِ؛ وقومٌ صَيَارِفَةٌ؛ والهاء للنسبة، وقد جاء فس الشعر: الصَّيَارِيْفُ، قال-وليس للفرزدق كما أنشده سيبويه-:
«تنفي يداها الحصى في كل هاجرة *** نفي الدارهيم تنقاد الصَّـيَارِيْفِ»
لما احتاج إلى إتمام الوزن أشبع الحركة ضرورة حتى صارت حرفًا.
وصَرَفْتُ الصبيان: أي قلبتهم.
وصارِفٌ: من الأعلام.
وقال الليث: الصَّرَفيُّ من النجائب؛ هو منسوب، ويقال: هو الصَّدَفيُّ.
وقال ابن الأعرابي: أصْرَفَ الشاعر شِعره: إذا أقوى فيه، وقيل: الإصراف إقواءٌ بالنصب، ذكره المفضل بن محمد الضَّبِّي الكوفي، ولم يعرف البغداديون الإصراف، والخليل وأصحابه لا يجيزون الإقواء بالنصب، وقد جاء في أشعار العرب كقوله:
«أطعمت جابان حتى أستد مغْرِضُهُ *** وكاد يَنقَـدُّ لـولا أنـه طـافـا»
«فقل لجابان يتركـنـا لـطـيتـه *** نوم الضحى بعد نوم الليل إسرافُ»
وبعض الناس يزعم أن قول امرئ القيس:
«فخر لروقيه وأمضيت مقـدمـًا *** طوال القرا والروق أخنَسَ ذيّالِ»
من الإقواء بالنصب؛ لأنه وصل الفعل إلى أخْنَسَ وقال الأزهري: تَصْرِيْفُ الآيات: تبيينها، وقوله تعالى: (وصَرَّفْنَا الآيات) أي بيناها.
وصَرَّفْتُ الرجل في أمري تَصْرِيْفًا.
وتَصْرِيْفُ الدراهم في البياعات كلها: إنفاقها.
والتَّصْرِيْفُ: اشتقاق بعض الكلام من بعض.
وتَصْرِيْفُ الرياح: تحويلها من حالٍ إلى حالٍ ومن وجه إلى وجه.
وطلحة بن سنان بن مُصَرِّفٍ الإيامي: من أصحاب الحديث.
والتَّصَرُّفُ: مطاوع التَّصْرِيْفِ، يقال: صَرَّفْتُه فَتَصَرَّفَ.
وتَصْرِيْفُ الخمر: شربها صِرْفًا.
واصْطَرَفَ: أي تصرف في طلب الكسب، قال العجاج:
«من غير لا عَصْفٍ ولا اصْطِرَافِ»
واسْتَصْرَفْتُ الله المكاره: أي سألته صَرْفَها عني.
والانصراف: الانكفاء.
والاسم على ضربين: مُنْصَرِفٌ وغير مُنْصَرِفٍ. قال جار الله العلامة الزمخشيري -رحمه الله-: الاسم يمتنع من الصَّرْفِ متى اجتمع فيه اثنان من أسباب تسعة أو تكرر واحد؛ وهي العلمية، والتأنيث اللازم لفظًا أو معنى نحو سُعَادَ وطَلْحَةَ، ووزن الفعل الذي يغلبه في نحو أفْعَلَ فإنه فيه أكثر منه في الاسم أو يخصه في نحو ضُرِبَ إن سُمي به، والوصيفة في نحو أحمر، والعدل عن صيغة إلى أخرى في نحو عمر وثلاث، وأن يكون جمعًا ليس على زنته واحد كمَسَاجِدَ ومَصَابِيْحَ إلا ما اعتل آخره نحو جَوَارٍ فإنه في الرفع والجر كقاضٍ وفي النصب كضَوَارِبَ وحَضَاجِرُ وسَرَاوِيْلُ في التقدير؛ جمع حِضَجْرٍ وسِرْوَالَةٍ، والتركيب في نحو مَعْدِيْ كَرِبَ وبعلبك، والعجمة في الأعلام خاصة، والألف والنون المُضَارِعتان لألفي التأنيث في نحو عثمان وسكران إلا إذا اضطر الشاعر فَصَرفَ. وأما السبب الواحد فغير مانع أبدًا، وما تعلق به الكوفيون في إجازة منعه في الشِّعْرِ ليس بثبتٍ، وما أحد سببيه أو أسبابه العلمية فحكمه حكم الصَّرْفِ عند التنكير كقولك رب سُعَادٍ وقَطَامٍ؛ لبقائه بلا سببٍ أو على سببٍ واحدٍ؛ إلا نحو أحمر فإن فيه خِلافًا بين الأخفش وصاحب الكتاب. وما فيه سببان من الثلاثي السّاكن الحشو كنوحٍ ولوطٍ مُنْصَرِفٌ في اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل؛ لمقاومة السُّكُوْنِ أحد السببين، وقوم يجرونه على القياس فلا يصرفونه، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
«لم تتلفعْ بفضـل مـئزرهـا *** دَعْدٌ ولم تُسْقِ دَعْدُ في العلب»
وأما ما فيه سبب زائد ك"مَاهَ" و"جُوْرَ" فإن فيهما ما في نوح مع زيادة التأنيث فلا مقال في امتناع صَرْفِه. والتكرر في نحو بُشْرى وصحراء ومساجد ومصابيح، نُزُّلَ البناء على حَرْفِ تأنيث لا يقع منفصلا بحالٍ؛ والزِّنَةُ التي لا واحد عليها؛ منزلة تأنيث ثانٍ وجمع ثانٍ. انتهى كلامه.
والتركيب معظمه يدل على رجع الشيء، وقد شَذَّ عنه الصِّرْفُ للصبغ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
85-العباب الزاخر (طهف)
طهفالدينوري: الطَّهْفَةُ: أعالي الجنبة إذا كانت غَضَّةً غير متكاوسةٍ، قال: وأخبرني بعض الأعراب من ذوي المعرفة قال: الطَّهَفُ -بالتحريك-: عُشْبٌ ضعيف دقاق لا ورق له إلا ما لا يذكر؛ وه مرعى؛ وله ثمرة حمراء إذا اجتمعت في مكانٍ واحدٍ ظهرت حمرتها وإذا تفرقت خفيت. فأما الفرّاء فروي عنه الطَّهْفُ بإسكان الهاء، قال: هكذا سمعته من الثقات بالتخفيف، وأظنها لغتين، قال الفرّاء: وهو شيء يختبز به. وقال غير هؤلاء: الطَّهْفُ: مثل المرعى له سُبُوْلٌ وورَقٌ مثل ورقِ الدُّخنِ وحبة حمراء دقيقة جدًا طويلة، قال: وكذلك أخبرني أعرابي من ربيعة وحرك الهاء وقال: له حب يؤكل في المجهدة ضاوي دقيق.
وطَهْفَةُ بن أبي زهير النهدي -رضي الله عنه-: من الوافدين على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
وقال الفرّاء: زبدة طَهفَةٌ: إذا استرخت.
والطَّهْفَةُ من الشيء: القطعة منه.
والطَّهَافُ -مثال السَّحَاب-: المرتفع من السحاب.
وقال الدينوري: يقال أطْهَفَ هذا الصِّلِّيان: أي نبت نباتًا حسنًا ليس بالأثيث.
وقال ابن عباد: يقال أطْهَفَ له طِهْفَةً من ماله: أي أعطاه منه قطعة.
وأطْهَفَ في كلامه: خفف منه.
وقال الفرّاء: أطْهَفَ السَّقَاءُ: استرخى.
وقال ابن فارس: الطّاء ولاهاء والفاؤ ليس بشيء؛ وذكر الطَّهف والطُّهَافَةَ قال: كل ذلك كلام.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
86-العباب الزاخر (عقف)
عقفالعَقْفُ: العَطْفُ، يقال: عَقَفْتُه أعْقِفُهُ عَقْفًا: أي عَطَفْتُه.
وقال ابن فارس: يقال إن العَقْفَ الثعلب، وأنشد للأرقط:
«كأنه عَقْفٌ تولى يهرب *** من أكْلُبٍ يتبعهن أكْلُبُ»
وليس الرجز لأحد الحميدين.
وقال الليث: يقال للفقير المحتاج: أعْقَفُ، قال يزيد بن معاوية:
«يا أيها الأعْقَفُ المزجي مطيته *** لا نعمة يبتغي عندي ولا نَشَبا»
وأعرابي أعْقَفُ: أي جافٍ.
وقال ابن دريد: كل أعوج أعْقَفُ، قال العبدي:
«إذا أخذت في يميني ذا القفـا *** وفي شمالي ذا نِصَابٍ أعْقَفا»
«وجدتني للدارِعِيْنَ مِنْقَـفـا»
قال: قوله "ذا القَفا" يعني سيفًا شبه الصغدي، وقوله "ذا نِصَابٍ" يعني منجلًا.
والأعْقَفُ: المنحني، وكلب أعْقَفُ.
قال: والعَقْفَاءُ: من النبات. قال الأزهري: الذي أعْرِفُهُ في البقول: الفَقْعَاءُ؛ ولا أعرف العَقْفَاءَ. وقال الدينوري: أخبرني بعض أعراب اليمامة قال: العُقَيْفاءُ: نبت ورقها مثل ورق السَّذَابِ ولها زهرة حمراء وثمرة عَقْفَاءُ كأنها شِصٌّ فيها حَبٌّ وهي تقتل الشاء ولا تضر بالإبل.
وقال غيره: العَقْفَاءُ حديدة قد لوي طَرَفُها وفيها انحناء.
والعُقّافَةُ -بالتشديد-: خشبة في رأسها حُجْنَةٌ يمد بها الشيء كالمحجن.
والعُقَافُ -بالخفيف-: داءٌ يأخذ الشاء في قوائمها حتى تعوج، ويقال: شاةٌ عاقِفٌ، ويقال: مَعْقُوْفَةٌ، ويقال: مَعْقُوْفَةُ الرجل. وربما اعترى ذلك كل الدواب.
وقال الليث: عُقْفَانُ: حي من خُزاعة.
وقال أبو ضمضم النسابة البكري: للنمل جدان: فارز وعُقْفَانُ، فَفَارزٌ: جد السود، وعُقْفَانُ: جد الحمر. وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله-: النمل ثلاثة أصناف: الذر والفارز والعُقَيْفانُ، فالعُقَيْفانُ: الطويل القوائم يكون في المقابر والخرابات، وأنشد:
«سُلَّطَ الذر فارز وعُقَيْفا *** ن فأجْلاهُمُ شَطُـوْنِ»
قال: والذر: الذي يكون في البيوت يؤذي الناس، والفارز: المدور الأسود يكون في التمر.
وعُقْفَانُ: موضع بالحجاز.
وقال أبو حاتم: ومن ضروع البقر العَقُوْفُ: وهو الذي يخالف شُخْبُهُ عند الحلب.
وانْعَقَفَ: انعَطَفَ.
وتَعَقَّفَ: تَعَوَّجَ.
والتركيب يدل على عَطْفِ شيء وحنيه.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
87-العباب الزاخر (غيف)
غيفغافَتِ الشجرةُ تَغِيْفُ غَيَفانًا: إذا مالت أغصانُها يمينًا وشمالًا.
والأغْيَفُ كالأغْيَد إلاّ أنَّه في غَير نُعاسٍ، قال العَجّاجُ يَصف ثورًا:
«في دِفْءِ أرْطاةٍ لها حَنِيُّ *** عُوْجٌ جَوَافٍ ولها عِصِيُّ»
«وَهَدَبٌ أغْيَفُ غَيْفـانـيُّ»
ويُروى: "أهْدَبُ".
وقال ابن عَبّاد: عَيْشٌ أغْيَفُ: أي اعِمٌ؛ مثْلُ أغْيَفُ.
والغَيْفُ: جماعةُ الطَّيْرِ.
والغَيّافُ: الذي طالَتْ لِحْيَتُه وعَرُضَتْ من كل جانبٍ.
والغَيَّفَانُ والغَيْفَانُ: المَرِحُ.
وقال الدِّيْنَوَريُّ: الغافُ شجرٌ عِظامٌ تَنْبُتُ في الرَّمْلِ وتَعْظُمُ، وورق الغافِ أصغر من ورق التفاح وهو في خِلْقَتِه، وله ثمر حلو جدًا، وثمره عُلَّفٌ كأنَّه قرون الباقِلّى، وخَشَبه أبيض، أخبرني بذلك بعض أعراب عُمَان وهناك معدنُ الغافِ، قال ذو الرُّمَّةِ:
«إلى ابْنِ أبي العاصي هِشَامٍ تَعَـسَّـفَـتْ *** بنا العِيْسُ من حَيْثُ الْتَقى الغافُ والرَّمْلُ»
الواحدة غافةٌ. وذكر بعض العرب أنَّ الغاف هو شجر اليَنْبُوْتِ.
وأغَفْتُ الشجرة: أمَلْتُها.
وقال أبو عبيدة: غَيَّفَ: إذا فَرَّ وعَرَّدَ، يُقال: حَمَلَ في الحرب فَغَيَّفَ: أي جَبُنَ وكذَّب، قال القطاميُّ:
«وحَسِبْتُنا نَزَعُ الكَتِيبَةَ غُدْوَةً *** فَيُغَيِّفُوْنَ ونُوْجِعُ السَّرَعانا»
ويُروى: "ونَرْجِعُ".
وتَغَيَّفَ الفَرَسُ: إذا تعطَّفَ ومال في أحد جانبيه، قال العَجّاج:
«يَكادُ يُرْمي القاتِرَ المُغَلَّفا *** منه أجَارِيُّ إذا تَغَيَّفـا»
وتَغَيَّفَتِ الشجرةُ: إذا مالت أغصانُها يمينا وشمالًا؛ مثل غافَتْ.
والمُتَغَيِّفُ: فَرَسُ أبي فَيْدِ بن حَرْمَلٍ السَّدُوْسِيِّ.
والتركي يدل على ميل وميل وعُدُوْلٍ عن الشيء.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
88-العباب الزاخر (قطف)
قطفقَطَفْتُ العنب أقطِفُه قَطْفًا: جَنَبْته. والقِطْفُ -بالكسر-: العُنقود. وقال الليث: القِطْفُ اسم للثمار المَقْطُوْفَةِ. وقوله تعالى: (قُطُوْفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها دانية من متناولها لا يمنعه بُعد ولا شوك. وفي الحديث: يجتمع النفر على القطف فيُشبعهم، وقد كُتب الحديث بتمامه في تركيب ف ث ر.
وقال الدينوري: القِطْفَةُ: من السُّطّاح؛ وهي بَقْلَةٌ رِبْعِيَّةٌ تسلنطح وتطول، ولها شوك كالحسك وجوفه أحمر، وورقها أغبر، وهذا عن الأعراب القدم. وقال غيرهم من الرواة: القِطْفُ يُشبه الحسك. والقولان متَّفقان.
قال: والقَطَفُ -بالتحريك-: من شجر الجبل وهو مثل شجر الإجّاص في القدر؛ وورقته خضراء معرضة حمراء الأطراف خشناء، وخشبه صُلب متين تُتخذ منه الأصناق أي الحَلَقُ التي تُجعل في أطراف الأروية. أخبرني بذلك كله أعرابي، وأنشد:
«أمِرَّة اللّيف وأصْنَاق القَطَفْ»
وقَطَفٌ آخر: من احارا البقول، وهو الذي يسمى بالفارسية: السَّرْمَقَ.
والقَطَافُ والقِطَافُ: وقت القَطْفِ. وفي حديث الحجّاج: أنه خطب حين دخل العراق فقال في خطبته: إني أرى رؤوسا قد أيْنَعَتْ وحان قِطافها.
والقِطَافُ: اسم من قَطَفَتِ الدابة تَقْطِفُ -بالكسر- قَطْفًا: إذا ضاق مشيُها، قال زهير بن أبي سُلمى يصِفُ ناقةً:
«بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لـم يَخُـنْـهـا *** قِطَافٌ في الرِّكابِ ولا خِلاَءُ»
وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: خرجْت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات، فبينا أنا على جملي أسير -وكان جملي فيه قِطَافٌ- فلحق بي فضرب عَجُز الجمل بسنوط؛ فانطلق أوسع جمل ركبته قط يواهق ناقته مواهقة. واشتاق القِطَافِ من القَطْفِ وهو القَطْعُ، لأن السير يجيءُ مُقطعًا غير مُطردٍ، والمُوَاهَقَةُ: المباراة في السير.
ودابة قَطُوْفٌ: من القِطَافِ، قال رُؤْبَةُ:
«كأنَّهُنَّ في الدَّمِ السَّـدِيْفُ *** أرَاكُ أيْكٍ مَشْيُها قَطُوْفُ»
والقَطُوْفُ: فرس جبار بن مالك بن حمار الشَّمْخيِّ، قال نَجَبَة بن ربيعة الفزاري:
«لم أنْسَ جَبّارًا ومَـوْقِـفَـهُ الـذي *** وَقَفَ القَطُوْفُ وكان نِعْمَ المَوْقِفُ»
ويقال: لأُلحقَنَّ قَطُوْفَها بالمِعْنَاقِ.
ويقال: أقْطَفُ من ذرة، ومن حَلَمة، ومن أرنب.
والقُطُوْفُ: الخدوش، الواحد: قَطْفٌ، قال يعقوب عن أبى عمرو، يقال: قَطَفَه يَقْطِفُه: أي خدشه، قال حاتم:
«سِلاحُكَ مَرْقيٌّ فلا أنتَ ضـائرٌ *** عَدٌوًّا ولكنْ وَجْهَ مَوْلاكَ تقْطِفُ»
والقَطَفُ والقُطْفَةُ: الأثر.
والقَطِيْفَةُ: دِثار مُخْمل، والجمع: قطائف وقُطُف، قال ذو الرُّمة يصف ظليما:
«هَجَنَّعٌ راحَ في سَوْداءَ مُخْمَـلَةٍ *** من القَطائِف أعْلى ثَوْبِهِ الهُدُبُ»
والقَطِيْفَةُ: قرية دون ثنيَّة العقاب لمن طلب دمشق في طرف الربية من ناحية حمص.
وأما القَطائف التي تؤكل فلا تعرفها العرب، وقيل لها ذلك لأن على وجهها مثل خَمْلِ القطائف.
والقَطائفُ من التمر: صُهْبٌ مُنضمرة.
والقَطِيْفُ: قرية بالبحرين.
وقَطَافِ -مثال قَطَامِ-: الأمة.
والقُطَافَةُ: ما يَسقط من العنب إذا قَطِفَ كالجُرَامة من التمر.وأقْطَفَ الكَرم: أي دنا قِطَافُه. وأقْطَفَ القوم: أي حان قِطَافُ كُرومهم.
وأقْطَفَ الرجل: إذا كانت دابَّته قَطُوْفًا، قال ذو الرُّمَّة يصف جنديا:
«كأنَّ رِجْلَيْهِ رِجْلا مُطْطِفٍ عَجِلٍ *** إذا تَجَاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَـرْنِـيْمُ»
وقَطَّفَ في الشيء: أثر فيه.
والتَّقْطِيْفُ: مبالغة القَطْفِ وهو الخدش، وأنشد الأزهري:
«وهُنَّ إذا أبْصَرْنَـهُ مُـتَـبَـذَّلاُ *** خَمَشْنَ وُجُوْهًا حُرَّةً لم تُقَطَّفِ»
أي لم تُخدَّش.
والتَّقْطِيْفُ -أيضًا-: مبالغة القَطْفِ وهو جَني الثمر، قال العجاج:
«كأنَّ ذا فَدّامَةٍ مُنَـطَّـفـا *** قَطَّفَ من أعْنابِهِ ما قَطَّفا»
والمُقطَّفَةُ من الرجل: القِصار.
والتركيب يدل على أخذ ثمرة من شجرها ثم يُستعار ذلك.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
89-العباب الزاخر (وكف)
وكفالوَكْفُ: النِّطَعُ، قال أبو ذُؤيب الهُذليّ:
«تَدَلّى عليها بـين سِـبٍّ وخَـيْطَةٍ *** بجَرْداءَ مِثْلِ الوَكْفِ يَكْبُو غُرَابُها»
"و" وَكَفَ البيت يَكِف وَكْفًا ووَكِيْفًا وتَوْكافًا: أي قطر، قال العجّاج:
«وانْحَلَبَتْ عَيْناهُ من فَرْطِ السى *** وَكِيْفَ غَرْبَيْ دالِجٍ تَبَجَّسَـا»
وناقة وَكُوْفٌ: أي غزيرة. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم-: أن رجلا جاءه فقال: أخبرني بعمل يُدْخِلُني الجَنّة قال: المِنْحَةُ الوكُوْفُ والفَيْءُ على ذي الرَّحِم.
وقال الليث: الوَكَفُ بالتحريك-: وَمَفُ البيت؛ مثل الجناح يكون على الكَنِيْفِ.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم-: خِيار الشهداء عند الله أصحاب الوَكَفِ قيل: يا رسول الله ومن أصحاب الوَكَفِ؟ قال: قوم تَكَفَّأ عليهم مَرَاكِبُهم في البحر. قال شَمِر: الوَكَفُ قد جاء مفسّرًا في الحديث والمعنى: أنَّ مراكبهم قد اجْتَنَحَت عليهم وتَكَفَّأَتْ فصارت فوقهم مثل أوْكافِ البيوت.
والوَكَفُ أيضًا-: العَيب والإثم، وقد وَكِفَ بالكسر- وَكَفًا. ومنه الحديث: البَخِيل في غير وَكَفٍ. وقد كُتِب الحديث بتمامه في تركيب ض ب س. قال مالك بن العَجلان الخَزرجي وهو من أبيات الكِتاب- ويُروى لشُرَيح بن عمران القُضاعيِّ، ورواه أبو زكريا التَبْريزيّ لعمرو بن امْرِئ القيس الخزرجي، ورواه سيبويه لرجل من الأنصار، وهو لمالك:
«الحافِظُو عَوْرَةِ العَشِيْرَةِ لا يَأْ *** تِيْهمُ من وَرائنـا وَكَـفُ»
أي هُمُ الحافِظُو عَوْرَةِ العَشِيْرَةِ.
والوَكَفُ في قَول العجاج يصِف ثورًا:
«غَدا يُباتري خَرِصًا واسْتَأْنَفا *** يَعْلُو دَكادِيْكَ ويَعْلُو وَكَفًا»
سَفْحُ الجبل.
والوكَفُ أيضًا-: الميل والجَوْر، يُقال: إنّي لأَخشى وَكَفَ فلان: أي جوْرَه.
وإذا انْحَدَرْت من الصَّمان وقعْت في الوَكَفِ: وهو مُنحَدَرُكَ إذا خَلَّفْتَ الصَّمان.
وقال ابن فارس: الوَكَفُ: الفَرَق، كذا في نُسَخ المُجْمَل والمَقاييس، وذكر إبراهيم الحَربيّ رحمه الله- في غريب الحديث من تأليفه في هذا التركيب: الوَكَفُ: العَرَق بعين مُحقَّقة-، وأنْشد:
«رَأْيت مُلوكَ النّاسِ عاكِفَةً بـهـمْ *** على وَكَفٍ من حُبِّ نَقْدِ الدَّراهِمِ»
وقال ابن دريد: ليس في هذا الأمر وَكْفٌ ولا وَكَفٌ: أي فَساد وضَعْف.
ووَكَفَ عن الأمر: قصَّر ونَقَصَ. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم-: لَيَخْرُجنَّ ناس من قبورهم في صورة القردة بما داهَنوا أهل المعاصي ثمَّ وَكَفوا عن عَمَلهم وهم يستطيعونَ.
والوَكْفُ -بسُكُونِ الكاف-: النِّطَعُ.
والوِكَافُ والوُكافُ: لُغتان في الإكافِ والأُكافِ.
وقال ابن عَبّاد: أوْكَفْتُه: أوقعتُه في الإثم.
وأوْكَفَ البيت: لغة في وَكَفَ.
ويقال: أوْكَفْتُ البغل وآكَفْتُه ووَكَّفْتُه تَوْكِيْفًا وأكَّفْتُه تَأكِيْفًا: إذا وضعْت عليه الوِكافَ.
واسْتَوْكَفَ: أي اسْتَقطَر. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه توَضَّأ فاستوكف ثلاثًا. والمعنى: أنه اصطَبّه على يديه ثلاث مرّات فغسلهما قبل إدخالِهما الإناء. وأنشد الأزهري لحُمَيد بن ثور -رضي الله عنه- يَصف الخَمْر.
«إذا اسْتُوْكِفَتْ باتَ الغَوِيُّ يَشَمُّها *** كما جََّ أحشَاءَ السَّقِيْمِ طَبِـيْبُ»
وواكَفْتُ الرجلَ في الحرب وغيرها: إذا واجهته وعارضته، قال ذو الرُّمة:
«مَتا ما يُوَاكِفْهُ ابنُ أنْثَى رَمَتْ بهِ *** مَعَ الجَيْشِ يَبْغِيْها المَغَانِمَ تَثْكَلِ»
ويُروى: "مَتا ما يُواجِهْها" أي مَتَا ما يُواجِه هذه الفَرَس ابن أُنثى أي رجل.
ويقال: هو يَتَوَكَّف عِيالَه وَحَشمه: أي يتعهَّدهم وينظر في أمورهم.
ويقال: توَكَّفَ الخبر وتوقَّعه وتسقَّطه: إذا انتظر وَكْفَ، ويدُلّ على أنه منه ما رواه الأصمعي من قولهم: استقْطَر الخبر واستوْدَفه. ومنه حديث عُبيد بن عُمير: أهل القبور يتوكَّفون الأخبار؛ فإذا مات الميت ألوه ما فعل فلان وما فعل فلان.
وقال أبو عمرو: التَّوَكُّفُ: التعرُّض، يقال: مازلتُ أتَوَكَّفُ له: أي أتعرَّض له حتى لقيْتُه، قال:
«سَرى مُتَوَكِّفًا عن آلِ سُعْدى *** ولو أسْرى بلَيْلٍ قاطِنِيْنـا»
وقال ابن عَبّاد: تَوَاكَفَ القوم: أي انْحَرَفوا.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
90-القاموس المحيط (الثور)
الثَّوْرُ: الهَيَجانُ، والوَثْبُ، والسُّطوعُ، ونُهوضُ القَطا والجَرادِ، وظُهورُ الدَّمِ،كالثُّؤُور والثَّوَرانِ والتَّثَوُّرِ في الكُلِّ. وأثارَهُ وأثَرَهُ، وهَثَرَهُ، وثَوَّرَهُ، واسْتَثارَهُ غيرُه،
وـ: القِطْعَةُ
العظيمَةُ من الأَقِطِ، ج: أثْوارٌ وثِوَرَةٌ، وذَكَرُ البَقَرِ، ج: أثوارٌ وثِيارٌ وثِوَرَةٌ وثِيَرَةٌ وثِيرانٌ، كجِيرَةٍ وجِيرانٍ.
وأرضٌ مَثْوَرَةٌ: كثيرَتُهُ،
وـ: السَّيِّدُ، والطُّحْلُبُ، والبَياضُ في أصْلِ الظُّفُرِ، وكُلُّ ما عَلا الماءَ، والمَجْنُونُ، وحُمْرَةُ الشَّفَقِ النائرَةُ فيه، والأَحْمَقُ، وبُرْجٌ في السماءِ، وفَرَسُ العاصِ بنِ سَعيدٍ.
وثَوْرٌ: أبو قبيلةٍ من مُضَرَ، منهم: سُفْيانُ بنُ سَعيدٍ، ووادٍ ببِلادِ مُزَيْنَةَ، وجبلٌ بمكَّةَ، وفيه الغارُ المذكورُ في التَّنْزِيلِ، ويقالُ له: ثَوْرُ أطْحَلَ، واسمُ الجَبَلِ: أطْحَلُ، نَزَلَهُ ثَوْرُ بنُ عبدِ مَناةَ، فَنُسِبَ إليه، وجبلٌ بالمدينةِ، ومنه الحديثُ الصحيحُ: "المدينةُ حَرَمٌ ما بَيْنَ عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ"، وأما قولُ أبي عُبَيْدِ بنِ سَلاَّمٍ وغيرِهِ من الأَكابِرِ الأَعْلامِ: إنَّ هذا تَصْحيفٌ، والصوابُ: إلى أُحُدٍ، لأِنَّ ثَوْرًا إنما هو بمكَّةَ، فَغَيْرُ جَيِّدٍ لما أخْبَرَنِي الشُّجاعُ البَعْلِيُّ الشيخُ الزاهدُ، عن الحافِظِ أبي محمدٍ عبدِ السلامِ البَصْرِيِّ، أن حِذاءَ أُحُدٍ جانِحًا إلى ورائِه جَبَلًا صغيرًا يقالُ له: ثَوْرٌ، وتَكَرَّرَ سُؤالي عنه طَوائِفَ من العَرَبِ العارِفينَ بِتِلْكَ الأرضِ، فكُلٌّ أخْبَرَنِي أن اسْمَهُ ثَوْرٌ، ولما كتَبَ إليَّ الشيخُ عَفيفُ الدِّينِ المَطَرِيُّ عن والِدِه الحافِظِ الثِّقَةِ، قال: إن خَلْفَ أُحُدٍ عن شِمالِيِّه جَبلًا صغيرًا مُدَوَّرًا يُسَمَّى ثَوْرًا، يَعْرِفُهُ أهلُ المدينةِ خَلَفًا عن سَلَفٍ.
وثَوْرُ الشِّباكِ،
وبُرْقَةُ الثَّوْرِ: مَوْضِعانِ.
وثَوْرَى، وقد يُمَدُّ: نَهْرٌ بِدِمَشْقَ.
وأبو الثَّوْرَيْنِ: محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ التابِعِيُّ.
وثَوْرَةٌ من مالٍ ورِجالٍ: كثيرٌ.
والثَّوَّارَةُ: الخَوْرانُ.
والثائِرُ: الغَضَبُ.
والثِّيرُ، بالكسر: غطاءُ العينِ.
والمُثيرَةُ: البَقَرَةُ تُثيرُ الأرضَ.
وثاوَرَهُ مُثاوَرَةً وثِوارًا: واثَبَه.
وثَوَّرَ القرآنَ: بَحَثَ عن عِلْمِهِ. وثُوَيْرُ بنُ أبي فاخِتَةَ: سعيدُ بنُ عِلاقَةَ، تابِعِيٌّ.
والثُّوَيْرُ: ماءٌ بالجَزيرَةِ من مَنازِلِ تَغْلِبَ، وأبْرَقٌ لجعفرِ بنِ كِلابٍ قُرْبَ جِبالِ ضَرِيَّةَ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
91-القاموس المحيط (عرفه)
عَرَفَهُ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً وعِرْفانًا وعِرفَةً وعِرِفَّانًا، بكَسْرَتَيْنِ مُشَدَّدَةَ الفاءِ: عَلِمَه، فهو عارِفٌ وعَريفٌ وعَروفَةٌ،وـ الفَرسَ عَرْفًا، بالفتح: جَزَّ عُرْفَهُ،
وـ بذَنْبِه، وله: أقَرَّ،
وـ
فلانًا: جازاهُ. وقَرَأ الكِسائِيُّ {عَرَفَ بعضَه}، أي: جازَى حَفْصَةَ، رضي الله تعالى عنها، ببعضِ ما فَعَلَتْ، أو مَعناهُ: أقَرَّ ببعضِه وأعْرَضَ عن بعضٍ، ومنه: أنا أعْرِفُ للمُحْسِنِ والمُسِيءِ، أي: لا يَخْفَى عَلَيَّ ذلك ولا مُقَابَلَتُه بما يُوافِقُه.
والعَرْفُ: الريحُ، طَيِّبَةً أو مُنْتِنَةً، وأكْثَرُ اسْتِعْمَالِه في الطِّيِّبَةِ
و"لا يَعْجِزُ مَسْكُ السَّوْءِ عن عَرْفِ السَّوْءِ": يُضْرَبُ لِلَّئِيمِ لا يَنْفَكُّ عن قُبْحِ فِعْلِهِ، شُبِّهَ بِجِلْدٍ لم يَصْلُحْ للدِباغ.
والعَرْفُ: نَباتٌ، أو الثُّمامُ، أو نَبْتٌ ليس بِحَمْضٍ ولا عِضاهٍ، وبهاءٍ: الريحُ، واسمٌ مِن:
اعْتَرَفَهُمْ: سَألَهُم، ويُكْسَرُ، وقُرْحَةٌ تَخْرُجُ في بياضِ الكَفِّ.
وعُرِفَ، كعُنِي، عَرْفًا، بالفتح: خَرَجَتْ به.
والمَعْروفُ: ضِدُّ المُنْكَرِ.
ومَعْروفٌ: فَرَسُ سَلَمَةَ الغاضِرِيِّ،
وـ ابنُ مُسْكانَ: بانِي الكَعْبَةِ،
وـ ابنُ سُوَيْدٍ، وابنُ خَرَّبُوذ: مُحدِّثانِ،
وـ ابنُ فَيْرُوزانَ الكَرْخِيُّ: قَبْرُه التِّرْياقُ المُجَرَّبُ ببَغْدَادَ، وبهاءٍ: فَرَسُ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ.
ويومُ عَرَفَةَ: التاسِعُ من ذي الحِجَّةِ.
وعَرَفَاتٌ: مَوْقِفُ الحاجِّ ذلك اليَومَ، على اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا من مكَّةَ، وغَلِطَ الجوهرِيُّ فقال: مَوْضِعٌ بمنًى سُمِّيَتْ لأنَّ آدَمَ وحوَّاءَ تَعَارفا بها، أو لقولِ جبريل لإِبراهيمَ، عليهما السلامُ، لما عَلَّمَهُ المناسِكَ: أعَرَفْتَ؟ قال: عَرَفْتُ،
أو لأنها مُقَدَّسَةٌ مُعَظَّمَةٌ كأنها عُرِفَتْ، أي: طُيِّبَتْ، اسمٌ في لَفْظِ الجَمْعِ فلا يُجْمَعُ، مَعْرِفَةٌ، وإن كان جَمْعًا، لأنَّ الأماكِنَ لا تَزولُ، فَصارَت كالشيءِ الواحِد، مَصْروفَةٌ لأن التاءَ بِمَنْزِلَةِ الياءِ والواوِ في مُسْلمينَ ومُسْلمونَ،
والنِسْبَةُ: عَرَفِيٌّ. وزَنْفَلُ بنُ شَدَّادٍ العَرَفِيُّ سَكَنَها فَنُسبَ إليها. وقولُهُم نَزَلْنَا عَرَفَةَ: شَبيهُ مُوَلَّدٍ.
والعارِفُ والعَروفُ: الصَّبورُ.
والعارِفَةُ: المَعْروفُ،
كالعُرْفِ، بالضم، ج: عَوارِفُ. وكشَدَّادٍ: الكاهِنُ، والطَّبيبُ، واسمٌ.
وأمرٌ عارِفٌ: مَعْروفٌ.
وعَرِفَ، كَسَمِعَ: أكثَرَ الطِّيبَ.
والعُرْفُ، بالضم: الجودُ، واسمُ ما تَبْذُلُهُ وتُعْطيهِ، ومَوْجُ البَحْرِ، وضِدُّ النُّكْرِ، واسمٌ من الاعتِرافِ،
تقولُ له: عَلَيَّ ألْفٌ عُرْفًا، أي: اعْتِرافًا،
وـ: شَعَرُ عُنُقِ الفَرَسِ، ويُضَمُّ راؤُهُ،
وع،
وـ: عَلَمٌ، والرَّمْلُ والمَكانُ المُرْتَفِعَانِ، ويُضَمُّ راؤُهُ،
كالعُرْفَةِ، بالضم، ج: كصُرَدٍ وأقْفالٍ، وضَرْبٌ من النَّخْلِ، أو أوَّلُ ما تُطْعِمُ، أو نَخْلَةٌ بالبَحْرَيْنِ تُسَمَّى: البُرْشومَ، وشَجَرُ الأُتْرُجِّ،
وـ من الرَّمْلَةِ: ظَهْرُها المُشْرِفُ،
وجَمْعُ عَروفٍ: للصابِرِ، وجَمْعُ العَرْفاءِ من الإِبِلِ والضِباع، وجَمْعُ الأَعْرَفِ من الخَيْلِ والحَيَّاتِ.
وطارَ القَطا عُرْفًا، أي: بعضُها خَلْفَ بعضٍ.
وجاءَ القومُ عُرْفًا عُرْفًا: كذلك، قيلَ: ومنه: {والمُرْسَلاتِ عُرْفًا}، أي أرادَ أنها تُرْسَلُ بالمَعْرُوفِ. وذو العُرْفِ، بالضم: رَبيعَةُ بنُ وائِلٍ ذي طَوَّافٍ الحَضْرَمِيُّ، من ولَدِهِ: الصَّحابيُّ رَبيعَةُ ابنُ عَيْدَانَ بنِ رَبيعَةَ ذي العُرْفِ.
وعُرُفٌ، كعُنُقٍ: ماءٌ لِبَنِي أسَدٍ،
وع. والمُعَلَّى بنُ عُرْفانَ، بالضم: من أتباعِ التابِعينَ. وكجُرُبَّانٍ وعِفِتَّانٍ، بضمتينِ مُشَدَّدَةً، وبكسرتينِ مُشَدَّدَةً: جُنْدَبٌ ضَخْمٌ كالجَرادَةِ، لا يكونُ إلا في رِمْثَةٍ أو عُنْظُوانَةٍ، أو دُوَيْبَّةٌ صَغيرَةٌ تكونُ بِرَمْلِ عالِجٍ والدَّهْناءِ، وجَبَلٌ، وبكسرتينِ مُشَدَّدَةً فقط: صاحِبُ الراعي الذي يقولُ فيه:
«كفاني عِرِفَّانُ الكَرَى وكَفَيْتُهُ *** كُلوءَ النُّجومِ والنُّعاسُ مُعانِقُهْ»
«فَباتَ يُريهِ عِرْسَهُ وبَنَاتِهِ *** وبِتُّ أُريهِ النَّجْمَ أيْنَ مَخَافِقُهْ»
والمُعْتَرِفُ بالشيءِ: الدالُّ عليه، ويُضَمُّ. وعِرْفانُ، كَعِتْبانَ: مُغَنِّيةٌ مَشْهُورَةٌ.
والعُرْفَةُ، بالضم: أرضٌ بارِزَةٌ مُسْتَطيلَةٌ، تُنْبِتُ، والحَدُّ بين الشَّيْئَيْنِ، ج: عُرَفٌ.
والعُرَفُ: ثلاثةَ عَشَرَ مَوْضِعًا:
عُرْفَةُ صارَةَ، وعُرْفَةُ القَنانِ، وعُرْفَةُ ساقِ الفَرْوَيْنِ، وعُرْفَةُ الأَمْلَحِ، وعُرْفَةُ خَجا، وعُرْفَةُ نِباطٍ، وغيرُ ذلك.
والأَعْرافُ: ضَرْبٌ من النَّخْلِ، وسُورٌ بين الجَنَّةِ والنارِ،
وـ من الرياحِ: أعاليها.
وأعْرافُ نَخْلٍ: هِضَابٌ حُمْرٌ لبني سَهْلَةَ.
وأعْرافُ لُبْنَى،
وأعْرافُ غَمْرَةَ: مَواضِعُ.
والعَريفُ، كأميرٍ: مَن يُعَرِّفُ أصحابَهُ، ج: عُرَفاءُ.
وعَرُفَ، ككرُمَ وضَرَبَ، عَرَافَةً: صارَ عَريفًا. وككتَبَ كِتابَةً: عَمِل العِرافَةَ.
والعَريفُ: رَئيسُ القومِ، سُمِّيَ لأَنه عُرِفَ بذلك، أو النَّقيبُ، وهو دونَ الرئيسِ. وعَريفُ بنُ سَريعٍ، وابنُ مازِنٍ:
تابعيَّانِ،
وـ ابنُ جُشَمَ: شاعِرٌ فارِسٌ، وابنُ العَريفِ: أبو القاسِمِ الحُسَيْنُ بنُ الوَليدِ الأنْدَلُسِيُّ: نحويُّ شاعرٌ. وكزُبَيْرٍ: ابنُ دِرْهَمٍ، وابنُ إبراهيمَ، وابنُ مُدْرِكٍ: محدِّثونَ. والحَارِثُ بنُ مالِكِ بنِ قَيْسِ بنِ عُرَيْفٍ: صحابيٌّ. وعُرَيْفُ بنُ آبَدَ: في نَسَبِ حَضْرَمَوْتَ.
وما عَرَفَ عِرْفي، بالكسر، إلاَّ بأخَرَةٍ، أي: ما عَرَفَنِي إلا أخيرًا،
أو العِرْفَةُ، بالكسر: المَعْرِفَةُ.
والعِرْفُ، بالكسر: الصَّبْرُ. وقد عَرَفَ للأمرِ يَعْرِفُ، واعْتَرَفَ.
والمَعْرَفَةُ، كَمَرْحَلَةٍ: موضِعُ العُرْفِ من الفرسِ.
والأَعْرَفُ: مالَهُ عُرْفٌ.
والعَرْفاءُ: الضَّبُعُ، لكَثْرَةِ شَعَرِ رَقَبَتِهَا.
وامرأةٌ حَسَنَةُ المَعارِفِ أي: الوَجْهِ، وما يَظْهَرُ منها، واحدُها: كَمَقْعَدٍ.
وهو من المعَارِفِ، أي: المَعْروفينَ،
وحَيَّا اللهُ المَعارِفَ: أي: الوُجوهَ.
وأعْرَفَ: طالَ عُرْفُه.
والتَّعْريفُ: الإِعْلامُ، وضِدُّ التَّنْكيرِ، والوقُوف بعَرَفَاتٍ.
والمُعَرَّفُ، كمُعظَّمٍ: المَوْقِفُ بعَرَفاتٍ.
واعْرَوْرَفَ: تَهَيَّأ للشَّرِّ،
وـ البَحْرُ: ارْتَفَعَتْ أمْواجُهُ،
وـ النَّخْلُ: كَثُفَ والتَفَّ كأنَّهُ عُرْفُ الضَّبُعِ،
وـ الدَّمُ: صارَ له زَبَدٌ،
وـ الفَرَسَ: عَلا على عُرْفِه،
وـ الرَّجُلُ: ارْتَفَعَ على الأعْرافِ.
واعْتَرَفَ به: أَقَرَّ،
وـ فُلانًا: سَألَهُ عن خَبَرٍ ليَعْرِفَهُ،
وـ الشيءَ: عَرَفَهُ، وذَلَّ، وانْقادَ،
وـ إليَّ: أَخْبَرَنِي باسْمِه وشَأنِه.
وتَعَرَّفْتُ ما عندَك: تَطَلَّبْتُ حتى عَرَفْتُ، ويقالُ: ائْتِه فاسْتَعْرِفْ إليه حتى يَعْرِفَكَ.
وتَعارَفوا: عَرَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وسَمَّوْا: عَرَفَةَ، مُحَرَّكَةً، ومَعْروفًا وكَزُبيْرٍ وأَميرٍ وشَدَّادٍ وقُفْلٍ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
92-القاموس المحيط (الكوفة)
الكُوفةُ، بالضم: الرَّمْلَةُ الحَمْراءُ المُسْتَديرَةُ، أو كلُّ رَمْلَةٍ تُخالِطُها حَصْباءُ، ومدينَةُ العِراقِ الكُبْرَى، وقُبَّةُ الإِسلامِ، ودارُ هِجْرَةِ المُسْلِمينَ، مَصَّرَها سَعْدُ بنُ أبِي وقَّاصٍ، وكان مَنْزِلَ نوحٍ، عليه السلامُ، وبَنَى مَسْجِدَها، سُمِّيَ لاسْتدارَتِها واجْتِماعِ الناسِ بها، ويقال لها: كُوفانُ، ويُفْتَحُ، وكُوفَةُ الجُنْدِ، لأَنَّهُ اخْتُطَّتْ فيها خِطَطُ العَرَبِ أيَّامَ عُثمانَ، خَطَّطَها السائِبُ بنُ الأَقْرَعِ الثَّقَفِيُّ،أو سُمِّيَتْ بكُوفانَ، وهو جُبَيْلٌ صَغيرٌ، فَسَهَّلوهُ، واخْتَطُّوا عليه،
أو من: الكَيْف: القَطْعِ، لأِن أبْرَويزَ أقْطَعَهُ لبَهْرامَ، أو لأَنها قِطْعَةٌ من البِلادِ، والأَصْلُ: كُيْفَةٌ، فلما سَكَنَتِ الياءُ وانْضَمَّ ما قَبْلَها، جُعِلَتْ واوًا،
أو من قولِهِم: هُم في كُوفانٍ، بالضم ويُفْتَحُ،
وكَوَّفانٍ، مُحرَّكةً مُشدَّدَةَ الواوِ، أي: في عِزٍّ ومَنَعَةٍ، أو لأن جَبَلَ ساتِيدَما مُحيطٌ بها كالكافِ، أو لأَِنَّ سَعْدًا لَمَّا ارْتَادَ هذه المَنْزِلَةَ للمسلمينَ قال لهم: تَكَوَّفوا ط أو لأِنه قال:
كَوِّفوا ط هذه الرَّمْلَةَ، أي: نحُّوها.
وكجُهَيْنَةَ: ع بقُرْبِها، ويُضافُ لابنِ عُمَرَ لأَِنه نَزَلَها.
وكطُوبَى: د بِباذَغيسَ قُرْبَ هَراةَ.
والكُوفانُ، ويُفْتَحُ،
والكَوَّفانُ والكُوَّفانُ، كهَيَّبانٍ وجُلَّسانٍ: الرَّمْلَةُ المُسْتَديرَةُ، والأمرُ المُسْتَديرُ، والعَناءُ، والعِزُّ، والدَّغَلُ من القَصَبِ والخَشَبِ.
وظَلُّوا في كُوفانٍ: في عَصْفٍ كعَصْفِ الريحِ، أو اخْتِلاَطٍ وشَرٍّ، أو حَيْرَةٍ، أو مَكْروهٍ، أو أمْرٍ شَديدٍ.
ولَيْسَتْ به كُوفَة ولا تُوفَة: عَيْبٌ.
وكافَ الأَديمَ: كَفَّ جَوانِبَهُ.
والكافُ: حَرْفُ جَرٍّ، ويكونُ للتَّشبيهِ، وللتَّعْليلِ عند قومٍ، ومنه: {كما أرْسَلْنا فيكُم رَسولًا} أي: لأَجْلِ إرْسالِي. وقولُه تعالى: {اذْكُروهُ كما هَداكُم}، وللاسْتِعْلاَءِ: كُنْ كما أنتَ عليه، وكخَيْرٍ في جَوابِ: كيْفَ أنتَ؟ وللمُبادَرَةِ: إذا اتَّصَلَتْ بـ "ما" نَحْو: سَلِّمْ كما تَدْخُلُ، وصَلِّ كمَا يَدْخُلُ الوقْتُ، وللتَّوكيدِ: وهي الزائِدَةُ {ليس كَمِثْلِهِ شيءٌ}، وتكونُ اسْمًا جارًّا مُرَادِفًا "لمِثْلٍ"، أو لا تكونُ إلا في ضَرورةٍ، كقولِهِ:
يَضْحَكْنَ عنْ كالبَرَدِ المُنْهَمِّ.
وتكونُ ضَميرًا مَنصوبًا ومَجْرورًا نحو {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى}، وحَرْفَ معنىً لاحِقَةً اسم الإِشارةِ: كذلك وتِلْك، ولاحِقَةً للضميرِ المُنْفَصِلِ المنصوبِ: كإيَّاكَ وإياكُما، ولِبَعْضِ أسْماءِ الأفْعالِ: كحَيَّهَلَكَ ورُوَيْدَكَ والنَّجَاكَ، ولاحِقَةً لأَرَأَيْتَ بمعنَى أخْبِرْني نحوُ: {أرأيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ علَيَّ}.
وتُكافُ بضم المُثَنَّاةِ الفَوْقيَّةِ: ة بجُوزَجانَ،
وة بنَيْسابور.
وكَوَّفْتُ الأَديمَ: قَطَعْتُه،
ككَيَّفْتُه،
وـ الكافَ: كَتَبْتُها.
وتَكَوَّفَ تَكَوُّفًا وكَوْفانًا، بالفتح: اسْتَدارَ، وتَشَبَّهَ بالكُوفِيِّينَ، أو انْتَسَبَ إليهم.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
93-القاموس المحيط (الرؤية)
ي: الرُؤْيَةُ: النَّظَرُ بالعَيْنِ وبالقَلْبِ. ورأيتُه رُؤْيَةً ورَأْيًا وراءَةً ورَأْيَةً ورِئْيانًا وارْتَأَيْتُه واسْتَرْأَيْتُه.والحمدُ للهِ على رِيَّتكَ، كنِيَّتِكَ، أي: رُؤْيَتِكَ.
والرَّءَّاءُ، كشَدَّادٍ: الكَثيرُ الرُّؤْيَةِ.
والرُّؤِيُّ، كصُلِيٍّ،
والرُّؤَاءُ، بالضم،
والمَرْآةُ، بالفتح: المَنْظَرُ، أو الأَوَّلانِ: حُسْنُ المَنْظَرِ، والثالِثُ مُطْلَقًا.
والتَّرْئِيَةُ: البَهاءُ، وحُسْنُ المَنْظَرِ.
واسْتَرْآهُ: اسْتَدْعَى رُؤْيَتَهُ.
وأرَيْتُه إيَّاهُ إراءَةً وإراأً،
وراءَيْتُه مُراآةً ورِئَاءً: أرَيْتُه على خلاف ما أنا عليه،
كَرَأَّيْتُه تَرْئِيَةً، وقابَلْتُه فَرَأَيْتُه.
والمِرْآةُ، كمِسْحاةٍ: ما تَرَاءَيْتَ فيه،
ورَأَّيْتُه تَرْئِيَةً: عَرَضْتُها عليه، أو حَبَسْتُها له يَنْظُرُ فيها. وتَرَاءَيْتُ فيها، وتَرأَّيْتُ.
والرُّؤْيا: ما رَأَيْتَه في مَنَامِكَ
ج: رُؤًى، كهُدًى،
والرَّئِيُّ، كغَنِيٍّ ويُكْسَرُ: جِنِّيٌّ يُرَى فَيُحَبُّ، أو المَكْسُورُ: لِلمَحْبُوبِ مِنهمْ، والحَيَّةُ العظيمَةُ تَشْبِيهًا بالجِنِّيِّ، والثَّوْبُ يُنْشَرُ لِيُباعَ.
وتَرَاءَوْا: رَأَى بعضُهُم بَعْضًا،
وـ النَّخْلُ: ظَهَرَتْ ألْوانُ بُسْرِهِ.
وتَراءَى لي،
وتَرَأَّى: تَصَدَّى لأَراهُ.
و"لا تَراءَى نارُهُما"، أي: لا يَتَجَاوَرُ المُسْلِمُ والمُشْرِكُ، بَلْ يَتَبَاعَدُ عنه مَنْزِلَةً بحيثُ لَوْ أوْقَدَ نارا ما رَآها.
وهو مِنِّي مَرْأًى ومَسْمَعٌ، ويُنْصَبُ، أي: بِحَيْثُ أراهُ وأسْمَعُهُ.
ورِئاءُ ألفٍ، بالكسر: زهاؤُهُ في رَأيِ العَيْنِ.
وجاءَ حِينَ جَنَّ رُؤْيٌ ورُؤْيًا، مَضْمُومَتَيْنِ ومَفْتُوحَتَيْنِ، أي: حِينَ اخْتَلَطَ الظَّلامُ فَلَمْ يَتَراءَوْا.
وارْتَأَيْنا
في الأمْرِ،
وتَرَاءَيْنا: نَظَرْناه.
والرَّأْيُ: الاعْتِقادُ
ج: آراءٌ وأَرْآءٌ وأَرْيٌ ورُيٌّ ورِيٌّ ورَئِيٌّ، كَغَنِيٍّ.
وفي الحديثِ: أَرَأَيْتَكَ، وأرَأيْتَكُما، وأرأَيْتَكُم: وهي كَلِمَةٌ تَقُولُها العَرَبُ بمَعْنَى: أخْبِرْنِي، وأخْبِرانِي، وأخْبِرونِي، والتاءُ مَفتوحَةٌ.
وكذلكَ ألَمْ تَرَ إلَى كذا: كلِمَةٌ تُقالُ عند التَّعَجُّبِ.
وهو مَرْآةٌ بِكَذا، أي: مَخْلَقَةٌ.
وأنَا أَرْأَى: أخْلَقُ.
والرِّئَةُ: مَوْضِعُ النَّفَسِ والرِّيحِ من الحَيَوانِ
ج: رِئاتٌ ورِئُونَ.
ورَآهُ: أصابَ رِئَتَه،
وـ الرَّايَةَ: رَكَزَهَا،
كأَرْآها،
وـ الزَّنْدَ: أوْقَدَهُ، فَرَأَى هو.
وأرَى اللهُ بفُلانٍ، أيْ: أرَى الناسَ به العَذابَ والهَلاكَ.
ورَأسٌ مُرْأًى، كَمُضْنًى: طَويلُ الخَطْمِ، فيه تَصْويبٌ.
واسْتَرْأَيْتُه: اسْتَشَرْتُه.
ورَاءَيْتُه: شاوَرْتُه.
وأرْأَى إرْآءً: صارَ ذا عقلٍ، وتَبَيَّنَتِ الحَمَاقَةُ في وجْهِهِ، ضِدٌّ، ونَظَرَ في المِرْآةِ، وصارَ له رَئِيٌّ من الجِنِّ، وعَمِلَ رِئاءً وسُمْعَةً، واشْتَكَى رِئَتَهُ، وحَرَّكَ جَفْنَيْهِ عند النَّظَرِ، وتَبِعَ رَأْيَ بعضِ الفُقَهاءِ، وكثُرَتْ رُؤَاهُ،
وـ البَعيرُ: انْتَكَبَ خَطْمُه على حَلْقِه،
وـ الحاملُ من غيرِ الحافِرِ والسَّبُعِ: رُؤِيَ في ضَرْعِها الحَمْلُ واسْتُبِينَ، فهي مُرْءٍ ومُرْئِيَةٌ.
ولا تَرَما ولم تَرَما وأوْتَرَما، بمعنَى: لا سِيَّما.
وذُو الرَّأيِ: العَبَّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ، والحُبابُ بنُ المُنْذِرِ.
ورَبيعةُ الرَّأيِ: شَيْخُ مالِكٍ.
وهِلالُ الرأيِ: من أعْيانِ الحَنَفِيَّةِ.
وسُرَّ مَن رَأى: في س ر ر.
وأصحابُ الرَّأيِ: أصحابُ القِياسِ، لأَنَّهُمْ يقولُون بِرَأيِهِمْ فيما لم يَجِدُوا فيه حَديثًا أو أثَرًا.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
94-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (حرج)
(حرج) - في الحديث: "الَّلهُمَّ إنّي أُحرِّج حقَّ الضَّعِيفَين: اليَتِيمِ والمَرْأة".: أي أُضَيِّقه وأُحرِّمه على من ظَلَمَهما والحَرَج: الحَرامُ.
قال الأصمَعِيّ: يقال: حَرِج عليَّ ظُلمُك: أي حَرُمَ. ويقال: أَحرِجْها بِتَطْلِيقَة: أي حَرِّمها. وقيل: الحَرَج: أَضيَقُ الضِّيق.
- ومنه الحَدِيث: "حدِّثوا عن بَنِي إِسرائيل ولا حَرَج".
قال بعضهم: أي لا حَرَج إِن لم تُحدِّثوا عنهم؛ لأنَّ قولَه عليه الصَّلاة والسَّلام في أَولِ الحَدِيث: "بَلِّغوا عَنِّي" على الوُجُوب، فلما أَتبعَ ذلك قَولَه: "وحَدِّثُوا عن بَنِي إسرائِيلَ ولا حَرَج" أَعلمَهم أَنَّه ليس على الوُجُوب، ولكنه على التَّوسِعَة. وهذا تَأوِيلٌ بَعِيدٌ.
كتب إليّ قراتكِين بن الأَسْعَد بن المَذْكور - رحمه الله - أَنَّ أَبا مُحمَّد الجوهَرِيّ أَخبرَهم، أنا علي بن عبد العزيز بن مَرْدَك، أنا عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم [الرَّازِي] نا أَبِي، نا مُحَمَّد بن عبد الله ابن عبد الحكم قال: قال الشَّافعيّ: مَعنَى حَديثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "حَدِّثُوا عن بَنِي إسرائِيلَ ولا حَرَج".
: أي لا بَأْس أن تُحَدِّثوا عنهم ما سَمِعْتم، وإن استَحال أن يَكُونَ في هذه الأمة مِثلُ ما رُوِي أَنَّ ثِيابَهم تَطُول، والنار تَنْزِل من السَّماءِ فتَأكُلُ القُربَان ليس أن يُحدَّث عنهم بالكَذِب، ويَدلُّ على صِحَّة قَولِ الشافِعِيّ، رضي الله عنه، ما رُوِي في بعضِ الرِّوايات عَقِيبَ الحَدِيث، فإنّ فيهم العَجَائِبَ.
وأخبرنا الِإمامُ أبو نَصْر: أَحْمد بن عمر، رضي الله عنه، أنا
مَسْعُود بن نَاصر، نا علِيّ بن بُشْرَى، أنا مُحمَّد بنُ الحُسَين بن عَاصِم.
قال: أخبرني محمَّدُ بنُ عبد الرَّحْمَن الهَمْدَاني بَبَغْداد، نا مُحَمَّد ابن مَخْلد، نا أبو بَكْر: أَحْمد بن عثمان بن سَعِيد الأَحْوَل. قال: سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل يقول: "ما كَانَ أَصحابُ الحَديثِ يَعرِفون مَعانِي حَدِيثِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى جَاءَ الشَّافِعِيُّ فَبيَّنَها لهم.
وبإسناده أنا محمّدُ بن الحُسَين: أخبرَني عبدُ الرَّحمن بنُ العَبَّاس، قال: سَمِعتُ يَحيَى بنَ زكريا النَّيسَابُورِي، يقول: وجدت في كِتابِ أبي سَعِيد الفِريَابِي، عن المُزَنِيّ أَنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَدِّثوا عن بَنِي إسرائِيلَ ولا حَرَج، وحَدِثُّوا عَنِّي ولا تَكذِبوا عَليَّ". قال: ومَعْناه: أَنَّ الحَدِيث عنهم إذا حُدِّثتَ به فأَدَّيتَه كما سَمِعْتَه، حَقًّا كان أو غَيرَ حقٍّ، لم يَكُن عليك حَرَج لطُول العَهْد ووقُوعِ الفَتْرة.
والحَدِيث عن رَسُولِ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، لا يَنْبَغِي أن تُحَدِّث به وتَقْبلَه إلَّا عن ثِقَة. وقد قال: "مَنْ حَدَّث عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنّه كَذِب، فهو أَحَدُ الكاذِبَيْن" قال: فإذا حُدِّثْتَ بالحَدِيث يَكُون عِندَك كَذِبًا، ثم تُحدِّثُ به فأَنتَ أَحدُ الكَاذبين في المَأْثمَ.
- في الحديث: "قَدِم وفْدُ مَذْحِج على حَراجِيجَ".
الحَراجِيجُ: سمع حُرجُوج. قال الأصْمَعىّ: هي النَّاقة الطَّوِيلَة.
وقال أبو عَمْرو: هي الضامِرَة. وقيل: هي الوَقَّادَة القَلْب، ويقال: هو الذاهب اللحم حتَّى يتقَوَّس. وكذلك الحُرجُج، والحُرجُوج أَيضا: الرِّيح البَارِدَة.
- في حَديثِ يَوم حُنَيْن: "تَركُوه في حَرجَة".
: أي شَجْراء مُلتَفَّة.
- وفي حَديثٍ آخَر: "ذَهبتُ إلى أَبِي جَهْل في مثل الحَرَجَة ".
أي: الغَيْضَة التي تَضايَقَت لالْتِفافِها، والحَرَجُ: الضِّيق.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
95-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ليل)
(ليل) - في الحديث: "إني أرَى اللَّيلَةَ ظُلَّةً "أخبرَنا أبو الخير الهَرَوِىّ، إجازَةً، أنا الرُّويَاني، أنا أبُو نَصْر المُقْرِئ، أنا أبُو سُليمَان الخطابىُّ قال: أخَبرني أبو عُمَرَ، عن أبى العبَّاسَ قال:
تقول: مَا بَينَكَ مِن لَدُن الصَّبَاح وبين الظُّهْرِ: رَأيتُ اللّيلَةَ، وبَعدَ الظُّهْرِ إلى اللَّيل: رَأيتُ البارِحَة.
وقال غيرُه: اللَّيْلُ ظَلامُ النَّهارِ والنَّهارُ: الضِّيَاءُ، وليلة لَيلاَء. ولَيْلٌ ألْيلُ: اشتَدَّت ظُلمتُها ولَيْلٌ ذُو لَيِّلٍ، على وزن جَيِّد: أي ذو ظُلْمَةٍ.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
96-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (لا)
(لا) - قوله تَبارك وتعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}: أي لَم يَتصدَّق، ولم يُصَلِّ، وأكثَر مَا تجىء مكررة
- في الحديث: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ "
: أي لَم يُؤمِنْ.
ومنه قَول عُمَر - رضي الله عنه -: "وأَىُّ عَبدٍ لكَ لَا ألَمَّا "
: أي لم يُلِمَّ بالذّنب.
وقد تَجِيءُ "لاَ" زَائِدة نحو قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}
: أىَ ليَعْلَم أهل الكتاب، وهي من حُروُف العَطْفِ، وتُزادُ فيها التَّاء فيخفض بها، كقَول الشاعِرِ:
« طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاتَ أَوَانٍ »
- في حديث أبى قَتادةَ وغَيْره: "إِمَّا لا فلا تَفعَلُوا"
فالعَربُ تُمِيل هذه اللام؛ وقد تُكْتَب بالياء فيُغْلَط فيه، فيظنُّونَها لى التي هي قَرِينَةُ لك، وليس كذلك، ذكره الميداني.
- في حديث بَريرَةَ - رَضى الله عنها - مِن طَرِيق هِشَام بن عُرْوةَ: "اشْتَرِطى لَهُم الوَلَاءَ "
قيل: إنّ هذه اللَّفظَةَ غِيرُ محْفُوظَةٍ، ولَوْ صَحَّتْ لَكانَ
معناهَا: لا تُبالِى بقَولِهم لا أَن تَشْتَرِطِيهِ لَهُم، فَيكُون خلفًا لِمَوعودِ شَرْطٍ، وَكان المُزَنيّ يتأوّله فيقُول: [معناه]: اشْتَرطِى عليهم، كمَا قالَ تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}: أي عليهم.
ولِلَّام وُجُوهٌ صُنِّفَ فيها كُتُبٌ مُفرَدةٌ:
قال الطحاوىُّ: هذه اللَّفْظَة لم نَجِدْها إلَّا في رِوَاية مَالِك وجَرِير بن عبد الحَميدِ، عن هِشَام بن عُرْوَة، ويزيد بن رُومَان، عن عُرْوَةَ. وقيل: هو كقَولَه تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}: أي عليها. وهو قول عبد الملِكِ بن هِشَام النّحوى. قال مُحمَّد بن العَبَّاس: فَذَكَرتُ ذلك لأَحمَدَ بن أبى عِمْرَان، فَقال: قد كَان مُحمّد بن شُجَاع يحمل ذلك على الوَعِيد الذي ظاهِرُه الأَمرُ وباطنه النَّهى.
- ومنه قوله تعالَى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ..} الآية.
وَقولُه تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}؛ وقال: أَلا تَراه قد أَتْبَع ذلك صُعُودَ المِنبَر وخُطبتَه بِقَوله: "مَا بَال رِجَالٍ يَشتَرِطُون.. " الحديث، ثم أتبع ذلك بِقَوله عليه الصّلاة وَالسّلام: "إنما الوَلَاءُ لمن أعْتِق" وَذكر أبو بكرٍ الأثرم؛ أنّه سَأل أحمدَ بنَ حَنبَل - رحمه الله -: عن وجهه، فقال: نُرى - والله أعلَم -: أنَّ هذا كَانَ [قَدْ] تَقدَّم مِن النبىّ - صلّى الله عليه وسلّم - القولُ فيه، فتقدَّم هؤلاء على نَهى النَّبىِّ - صلَّى الله عليه وسلّم - فقالَ: اشتَرِطى لهم. قال: قلتُ له: فَكأنّه عندك، لمّا تقَدَّمُوا على نَهْىِ النَّبِىّ - صلّى الله عليه وسلّم [وخلافِه]. كان هذا تَغلِيظًا مِن النّبىّ - صلّى الله عليه وَسلم وغَضَبًا، فقال: هكَذَا هو عِندنا - والله تعالى أعلم.
أخبرنا هِبَة الله السَّيِّدى [إجازَةً]، أنا أبو بكر البَيْهَقِى، أنا الحاكم أبو عبد الله، أخبرني أبو أحمد بن أبى الحسَن، أنا عبد الرحمَنِ - يعنى - ابن محمد، ثنا أبى، ثنا حَرمَلة، سمعتُ الشافعىَّ - رحمه الله - يقول: في حديث النّبىّ - صلَّى الله عليه وسلّم - حَيثُ قال: اشتَرطِى لهم الوَلاء. معناه: اشترطى عليهم الولاء.
قال الله - عزّ وجلّ - {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}
: أي عليهم اللَّعْنة.
قال الحاكِمُ: ثنا الأصَمُّ، أنا الرّبيع، قال الشّافِعى: حَدِيثُ يحيى بن مَعين، عن عَمْرَة، عن عائشةَ: أثبَتُ من حديث هِشَامٍ، وأَحسِبُه غلط في قوله: "واشتَرِطى لهم الوَلاءَ". وأحْسِبُ حديث عَمْرَةَ: أنَّ عائشة كانت شرطت لهم بِغَير أمْرِ النَّبى - صلّى الله عليه وسلّم -، وهي تَرى ذلك يَجوز، فأَعْلَمها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلّم - أَنَّها إن أَعتَقتْها فالوَلَاء لها، وقال: لا يَمْنَعَنْك عنها مَا تقدَّم من شرطِكِ، ولا أَرَى أنّه أَمرَها أن تشتَرِط لهم ما لا يَجوُز.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
97-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (هيأ)
(هيأ) - في الحديث: "أقِيلُوا ذَوِى الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِم"قال أخبرنا الإمام أبو نَصرٍ الغَازِى، بقراءتى علَيه، أنا مَسْعود بنُ ناصر، أنا علي بن بشرى، أنا أبو الحسَن بن عاصم، أُخبِرتُ عن الرّبيع قال: قال الشَّافِعِىُّ: في حَديث النَّبىّ - صلَّى الله عليه وسَلّم - "أقِيلُوا ذَوِى الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِم"
: هم الذين لَيسَ يُعْرَفُون بالشَّرِّ فيزِلُّ أحَدُهم الزَّلَّة.
وبه قال عاصم: أخَبرنى محمد بن عبد الرحمن الهَمْدَانى ببغدَادَ، نا محمد بن مَخلَد، نا أبو بكر أحمد بن عثمان بن سَعِيدٍ الأَحْول قال: سمِعتُ أحمدَ بن حَنبَل يقول: مَا كانَ أَصْحَابُ الحدِيث يَعْرفُون معَانيَ حديث النّبىّ - صلّى الله عليه وسلّم - حتى جاءَ الشافِعىّ فبَيَّنَها لهم.
الهَيْئَةُ: صُورَةُ الشَّىءِ وشَكْلُه وما يُدرَكُ عليه.
وقد هَاءَ يَهَاءُ ويَهِىءُ، وَهَيأَ فهو هَيءٌ؛ أي صاحِبُ هَيئَةٍ، كَمَا يُقالُ: مَرُؤَ فهو مَرِىءٌ: أي صِاحِبُ مُرُوءَةٍ.
وتَهيَّأَ للشَّىء: أي تَيَسَّر وحَصَلَ على هَيْئَتِه. وهِئتُ:
: أي تَهيَّأْتُ، وقُرِئ في قِصَّة يُوسُف عليه السَّلامُ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}.
وَمعنَى الحديث: كأنه قال: أقِيلُوا ذَوِى الهَيْئاتِ الحَسَنَةِ عَثَراتِهِم؛ ويُقوِّى قولَ الشّافعى مَا رُوِىَ عن سَارِق أبى بَكرٍ - رضي الله عنه - قال: هذا شىَء ما عَمِلته قَطّ، قال: كذَبتَ، إن الله عزّ وجلّ لَا يهتِكُ على عَبدِه في أوَّل دَفعةٍ، أو كما قال.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
98-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (يوم)
(يوم) - في الحديث: "سَيّدُ الأَيَّام يَوْم الجُمعَةِ": يُرِيد به الأَيّامَ السَّبْعَةَ، والأَيّامُ - أيضًا -: الوَقْتُ.
قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
- وفي الحديث: "تِلْكَ أيَّامُ الهَرْجِ"
: أي وَقْت الهَرْجِ؛ لأنَّ ذلك لا يختَصُّ باليَوم دُون اللّيلِ،
وَاليومُ بَياضُ النهار. وقيل: هو من حين الصُّبح، وَالنّهارُ من حين طُلُوع الشَّمس.
- في حديث ابن مسْعُود - رضي الله عنه -: "إذا اختَلفتُم في اليَاءِ والتّاءِ، يَعنِى في القرآن - فاجعلُوهُ ياءً"
: أي إن وقَعَت كلمةٌ تُقرأ باليَاءِ والتَّاءِ فاكتبُوهَا باليَاءِ، نحو قَوله تَعالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}، و {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} و {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}.
وفي رِوَايَةٍ أخرى: "القُرآن ذكَرٌ فذَكِّرُوهُ"
: أي جليلٌ خَطيرٌ، فأجِلُّوهُ بالتَّذكِير.
والله تعالى أعلم.
قال المصنِّف - رَحِمَه الله -: هذا آخر مَا جَمعْنَاهُ في الوقتِ، وأنا أَعتَذرُ إلى الله تعالى، وأسْتَعْفيِهِ مِمَّا لم يرضَ من قولى وفِعلِى في هذا الكِتَاب وغَيره؛ فقد أخبرنى غَيرُ واحدٍ من مَشايخى - رَحِمَهم الله - إذنًا، أنَّ عبد الرحمن بن مُحمَّد الحَافظ، أخبرهم: حدَّثَنا على بن محمّد بن على الأَسفَراييني، أن أبو عمرو أحمد بن محمد بن عيسى الصفَّار الضَّرِير الأَسْفراييني قال: سَمِعتُ أبا عَوَانَةَ يقول: سَمِعتُ الميمونى يَقول: سُئل أحْمَد عن حَرفٍ مِن غَريب الحَدِيث
فقال: سَلُوا أصحَابَ الغَرِيب، فإنّى أكرَهُ أن أتكلَّم في قَولِ رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلّم - بالظَّنّ فأُخْطِئ، والآدمِىُّ لا يخلُو من سَهْوٍ وغَلَطٍ.
هذا مع اعْترافى بقصُورى وتَقْصِيرى؛ ولقد بلغنى بإسنادٍ لم يَحضُرنى عن الشافعىِ، فيما يغلبَ على ظنى: أنه طالَع كِتاَبًا لَهُ مِرارًا عِدَّةً يُصَحِّحه، فلما نَظَر فيه بَعدَ ذلك عَثرَ علَى خَلَلٍ فيه، فقال: "أبَى الله تعالى أن يَصِحَّ كِتَابٌ غيرُ كِتَابِه"
وأنَشَدَ بعضُ مَشايخِى عن بَعضِهم:
رُبَّ كتَابٍ قد تَصفَّحتُه
فقلتُ في نَفْسِىَ صَحَّحتُه
ثم إذا طالَعتُه ثانِيًا
رَأيتُ تصْحِيفًا فأصْلَحْتُه
فعَلَى الناظِرِ في هذا الكتاب إذا عَثَرَ على سَهْوٍ فيه أو خطَإٍ أن يَتأَمَّل فيه مُنصِفًا، فإن كان صَوَابُه أكثَر عفَا عن الخَطَأ وأَصلَحَه، وتَرحَّمَ على جامِعِه، وعَذرَه بما شَقِى في جمعِهِ وتَرتيبه، وأفنى مِن عُمُرِه في تحصِيلِهِ، وتَهْذِيبِه، رَغْبَةً في دُعَاءِ المستفيد منه بالغُفرَان والعَفو، وتفضَّل الله تعالى على ذُنُوبه بالمحْو. فإنَّه العَفُوُّ الغَفُور الرحيم الكَرِيم، وأنشِدُ قَولَ القائل:
يَا ناظِرًا في الكتَابِ بَعدِى
مُجتنِيًا من ثِمارِ جهدِى
إنّى فَقِيرٌ إلى دعاءٍ تُهدِ
يهِ لى في ظَلام لَحْدِى
وأَختِم الكِتابَ بما خَتَم به الهَرَوىُّ كِتابَه، وهوَ ما وجَدتُه على ظهرِ جُزءٍ لى بخَطٍّ عَتِيقٍ: أنشدنا المُقْرِئُ أبو عثمان سَعِيد بن مُحمّد
المزكِّى، قال: أنشدنا أبُو بَشير أحمد بن محمد بن حَسْنويه الحَسْنوِى، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة قال: رَأيت في آخرِ كِتَابٍ لإسحاق بن إبراهيم الحنظَلِى بخطِّ يَدهِ، فَلاَ أدرِى عن قيلِه، أم قِيلِ غيره:
«لقدَ أتْمَمْتُه حَمدًا لِربّى *** على ما قد أعَانَ على الكتَابِ»
«ليَدعُو الله بعدِى مَن رَآه *** بِمَغفِرتى وإجْزالى الثَّوابِ»
«فقد أَيقَنتُ أن الكُتْبَ تَبقَى *** وتَبلَى صُورَتي تَحتَ التُّرابِ»
«وصلَّى الله ربُّ الخَلْقِ طُرًّا *** على المَبعُوثِ في خَيْر الصِّحابِ»
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
99-المعجم الاشتقاقي المؤصل (رأى)
(رأى): {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]الرؤية بالعين. الرؤيةُ: النظرُ بالعين والقلب. ولهذا البعير رَأْسٌ مُرْأًى -اسم مفعول من أَرْأَى: طويلُ الخَطْم فيه شَبِيه بالتصويب/ مُنْتَكِبٌ خَطْمُه على حَلْقِه/ كهيئة الإبريق (الخَطْمُ من الطائر: منقاره، ومن كل دابة: مُقَدَّم أنفها وفمها).
° المعنى المحوري
لُحظ العينِ الشيءَ حال اتجاهها إليه -كالرؤية وهي انتقال صورة المَرئى من خلال عين الرائي- حين اتجاهها إليه إلى قلبه أو ذهنه، وكما في انْثناء خطم البعير متجهًا إلى بدنه. ومن الرؤية بالعين أخذت الرُّؤْية العِلْمية (اعتقاد في القلب) والرَأْى (وجهةٌ فِكرية تكونت في القلب عن أمرٍ ما)، والرُؤْيا المنامية (صورة تظهر للقلب منامًا) وأصلها صور لطيفة تنفذ إلى القلب أو تتكون فيه. {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77]، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61]، رأى كل منهما الآخر (كلتاهما بصرية). وبالرؤية البصرية جاء جمهور ما في القرآن من التركيب. ويحمل عليها مثل {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] (الرائي هو النار). {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]، {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]: وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله في ما يَرَى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذِكْرُه فيَحْمَدونه عليه، وهو (في الحقيقة) غيرُ مريدٍ به اللهَ ولا طالبٍ منه الثواب.. [طب/ 5/ 521]. "وأَرْأَت الحاملُ من غير الحافر والسَبُع: رُئِى في ضَرْعها (أَثَرُ) الحَمْلِ واستبانَ وعَظُم ضرعها " (أي أنه من رؤية العين)، وكذا تراءى النخل: ظهرت ألوان بُسره. والرِئى -بالكسر: ما يقع عليه النظرُ من الشيء ويُرَى منه {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] أي أحسن منظرًا بالهيئة والملابس. والروَاء -كغراب: حُسْن المَنْظَر. والرَئىّ -كغَنِىّ: الجِنِّيّ يراه الإنسان "أي هو مَرْئِىٌّ له وحدَه دُونَ سائر الناس.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]. (كلتاهما قلبية) ومثلها {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا} [الأعراف: 147]، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29، الأحقاف: 23] وهكذا كل (رأى ومضارعها) حين تطلب مفعولين الثاني حُكْم. وسياقات البصرية والقلبية (العلمية) واضحة. ومن العِلْميه كلّ (أرأيت. أفرأيت. أرأيتم. أفرأيتم. أرأيتك. أرأيتكم) كلها من راى العِلْمية. و "أرَأيْتَك ": بمعنى أخْبرني -من رَأَى العِلْمية كأنما المقصود تأملْ وكوّن رأيك في الأمر المعروض وأَخْبرني ما رأيُك، أو ما الرأيُ والعمل. "ولا تلحق كاف الخطاب هذه إلا إذا كانت بمعنى أخبِرْني " [بحر 6/ 54] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46]. [وانظر قر 6/ 422، 3/ 230 وابن قتيبة في المشكل 381 وفي تفسير غريب القرآن 128 ل 12]. وخلاصة المعنى في الآية الأولى (والثانية على نمطها): أخبروني هل إذا وقع بكم عذاب الله أو وقعت الساعة هل تدْعون غيرَ الله أي تلك الأصنام التي تعبدونها؟ وهو سؤال مقصود به أن يَتَبَيَّنوا بأنفسهم زيف عقيدتهم، وأنهم لن يدْعوا الأصنام حينئذ {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] و [ينظر بحر 4/ 124]. وأما (ألم تر) فكل منها لَفْت إلى أمر للتعجب منه [ينظر بحر 2/ 258 ي فهي قريبة المعنى من (انظر كيف).
* وأخيرًا فإن الرؤيا المنامية واضحة السياق {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4، وكذلك ما في 36، 43، 100 منها، والصافات 102، 105] أما {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] فالمسألة خلافية. هناك مَنْ جَعَلها بشرى بدخول مكة فهي منامية
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27]، والفتة ما حدث من صلح الحديبية والعودة دون دخول مكة، ومَنْ جعلها للإسراء وهؤلاء فريقان: فريق عدّه رؤيا منامية، وفريق قال إنه رؤية عين، وعبر بـ (رؤيا) لأنها مصدر لـ (رأى) مثل (رؤية)، ولوقوع الإسراء ليلًا، وسرعة تَقَضِّيه كأنه منام. [ينظر بحر 6/ 52 - 53].
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
100-المعجم الجغرافي للسعودية (عوارض)
عوارض: ـ قال ياقوت: بضم أوله وبعد الالف راء مكسورة وآخره ضاد ـ اسم علم مرتجل لجبل فى بلاد طيّء. قال العمرانيّ:أخبرنى جار الله أن عليه قبر حاتم طيء، وقيل: هو لبني أسد. وقال الأبيورديّ: قنا وعوارض جبلان لبني فزارة. وأنشد:
فلأبغينّكم قنا وعوارضا
والصحيح أنه ببلاد طيء
وقال نصر: عوارض جبل أسود فى أعلا ديار طيّء وناحية دار فزارة وقال البرج بن مسهر الطائيّ:
«إلى الله أشكو من خليل أودّه ***ثلاث خلال كلّها لي غائض »
«فمنهنّ أن لا تجمع الدّهر تلعة***بيوتا لنا، يا تلع سيلك غامض »
«ومنهنّ أن لا أستطيع كلامه ***ولا ودّه حتّى يزول عوارض »
«ومنهنّ أن لا يجمع الغزو بيننا***وفى الغزو ما يلقى العدوّ المباغض »
وقال البكريّ: عوارض: فى شقّ غطفان، قال الشماخ:
«تربّع من جنبى قنا فعوارض ***نتاج الثّريّا، نوءها غير مخدج »
وقال أبو رياش: عوارض: جبل فى بلاد طيّء، وعليه قبر حاتم، وهذا هو الصحيح. وقال أوس بن حجر:
«فخلّي للأذواد بين عوارض ***وبين عرانين اليمامة مرتع »
وعوارض جبل لا يزال معروفا ولكن بعضهم ينطقه عويرض، توهّما أن الألف فيه على لهجة أبناء البادية كما فى مثل (فاصل) و (سلامان) فى فيصل وسليمان ـ وهو جبل مستطيل شامخ أسود، يقع فى مهب الشمال من أجا على مقربة من توارن يبعد عن مدينة حائل بما يقرب من 45 كيلا.
ولكن هذا الجبل يعتبر امتدادا لسلسلة جبال أجا، فهو ليس من بلاد غطفان. ولعل الاسم يطلق على جبلين أو أكثر.
ويظهر أن موزل لم يدرك أنّ عوارضا لا يزال معروفا، لأنّه قال فى شرح شعر جابر بن حريش: من المحتمل جدا مطابقة عوارض مع العرضى، شمال أجا.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
101-المعجم الجغرافي للسعودية (الغمار)
الغمار: بكسر الغين المعجمة وآخره راء جمع غمر وهو الماء المغرق: قال البكريّ: واد في ديار طيء قال الشاعر:«فما عن قلى سلمى ولا بغضي الملا***ولا العبد من وادي الغمار تمار»
وقال ياقوت في «معجم البلدان»: الغمار اسم واد بنجد، وقيل: ذو الغمار: موضع قال القعقاع بن حريث الكلبيّ ـ المعروف بابن درماء ـ ولطمه امرؤ القيس بن عديّ الكلبيّ فلم يغظ بلطمته، فلحق ببني بحتر من طيء فنزل بأنيف بن مسعود بن قيس ـ في الجاهلية، فطرب إلى أهله فقال:
«تبصّر يا ابن مسعود بن قيس ***بعينك هل ترى ظعن القطين؟»
«خرجن من الغمار مشرّقات ***تميل بهنّ أزواج العهون »
«بذمّك يا امرأ القيس استقلّت ***رعان غوارب الجبلين دوني »
وفي كتاب «المناسك»: بعد أن ذكر أن الحاجر الذي في وادي الرّمة، كان اسمه المنيفة: (قال علي بن محمد الشاعر:
«أقول لصاحبي والعيس تهوي ***بنا بين المنيفة والغمار»
«تمتّع من شميم عرار نجد***فما بعد العشيّة من عرار»
«وبين قفارها فقف المطايا***فإنّ العين تحبس بالقفار»
ثم أوردها غير منسوبة قائلا: أخبرني ابن أبي سعد عن النوفلي عن أبيه أن غمرة التي يقول فيها الشاعر: أقول لصاحبي ـ الأبيات الثلاثة وبعدها:
«أيست من الحياة وطال حزني ***فقلبي موجع والدّمع جاري “
والغمار هي غمرة وما والاها إلى طريق البصرة، ووجرة من الغمار، وهي جبال غمرة..
وأقول: 1 ـ ورد اسم الغمار في الأبيات المتقدمة، في كثير من كتب الأدب مصحفا إلى (الضمار) ولكن صاحب «المناسك» صححه، وما ذكره يوافق ما أورده أبو تمام في «الحماسة».
2 ـ اختلف في نسبة الأبيات فقيل للصّمّة بن عبد الله القشيريّ وصحح الصاغاتي في «التكملة» أنها لجعدة بن معاوية القشيريّ. أما ما ورد في كتاب «المناسك» فلم أره في غيره فيما اطلعت عليه.
3 ـ بعد البيتين في «الحماسة»:
«ألا يا حبّذا نفحات نجد***وريّا روضه بعد القطار»
«وأهلك إذ يحلّ الحىّ نجدا***وأنت على زمانك غير زارى »
«شهور ينقضين وما علمنا***بأنصاف لهنّ ولا سرار»
«تقاصر ليلهنّ فخير ليل ***وأطيب ما يكون من النّهار»
أوردتها لرقتها ولترويح النفس من جفاف البحث.
4 ـ أما ما ذكر صاحب «المناسك» من أن المقصود غمرة وما والاها فأراه بعيدا، وأن الصواب مما ذكره أولا عندما ذكر قرب الغمار من المنيفة وأرى الشاعر قالها وهو متجه من المنيفة (الحاجر) شرقا إلى الغمار ليغادر نجدا، سواء كان القائل الصمة حينما ذهب من نجد مغاضبا عمّه الذي أبى تزويجه ابنته أو غيره من الشعراء.
أما الغمار ـ الذي تقدمت الأقوال في ذكره ـ فلا يزال معروفا، وهو واد ينحدر من جبل حبشيّ وما حوله من الجبال والتّلال، ويسير متجها صوب الشرق، وترفده شعاب وأودية من أشهرها وادي العظيم. بضم العين.
وفيه جوّ فيه ماء عدّ، كان من أشهرر مناهل البادية فى تلك الجهة يقع شمال غرب جبل الموشّم، جنوب وادى التّرمس ـ الذى يفيض فيه وادي الغمار، وقد أنشىء فوق ذلك الماء هجرة أنشأها غازي أبو شرّين الناحليّ ـ من النواحل من بني سالم من حرب، على ما أخبرني الأستاذ محمد العبوديّ.
وماء الغمار عذب بخلاف ماء جرثم (الجرثمي) القريب منه.
(ويقع وادي الغمار من أعلاه حتى يفيض بوادي الترمس، فيسمى بهذا الاسم بين خطّي الطول 30؟ ـ 42؟ و..؟ ـ 43؟ وخطي العرض 35؟ ـ 26؟
و 45؟ ـ 26؟ تقريبا).
وبعض العامة يشبع كسرة الغين فيقول: الغيمار، وبعضهم يفتح ـ الغين ويزيد الاسم ياء (الغيمار).
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
102-المعجم الجغرافي للسعودية (غميز الجوع)
غميز الجوع: قال ياقوت: بالفتح ثم الكسر وزاي ـ تل عنده مويهة في طرف رمّان في غربيّ سلمى ـ أحد جبلي طيء أخبرني به محمود بن زعل صاحب محمود بن بريك بحلب. انتهى.وأقول: لا يزال غميز الجوع معروفا، جبل مفرد، كأنه رجل قائم شرق سلمى لا غربها، وفي الجنوب الغربيّ من قرية الكهفة، وفي الشمال الغربي من قرية القوارة، وهو بعيد عن جبل رمّان.
وقال موزل: وإلى الغرب من قرية العظيم آبار الأفعى والثّعيلبيّ. وهذا يقع أسفل هضبة غميز الجوع، وإلى الشمال الشرقي من هذه الهضبة بئر بقيعا في سهل بهذا الاسم. انتهى.
وفي غميز الجوع قال محمد المهاديّ ـ ويقال إنه من الفضول، أو من بني خالد ـ:
«واديرتي من حدّ تيما إلى اللّوى ***إلى حدّ غميز الجوع مركز هضابها»
«ديرة لنا ما هي بديرة لغيرنا***الاجناب لوحنّا بعيد تهابها»
وقال عبد الله المعاشي من أهل فيد يرثي فهد بن سعد آل سعود ـ أمير حايل المتوفي سنة 1392 ه (1972 م):
«وبكاه بدو (شمّر) جميعهم ***وأهل القرى من (جبّة) ل (قفارّ) »
«ويبكيه (غميز الجوع) وأجا وسلمى ***و (رمّان) و (جلديّة) معهم (مشار) »
وغميز الجوع يقع جنوب شرق فيد يرى منه بعيدا.
ومن مأثور حكاياتهم أنّ امرأة في فيد رأت فوقه رجلا فدعت إنسانا غير بعيد منها فأرته إياه، فعمد ذلك الرجل الذي فوق الجبل فأخذ جلدا مفريّا (جاعدا) فوضع فوقه قليلا من الدّقيق، ثم أطاره فلما أبصرته المرأة ومن عندها حسبوه طائرا رمى بذرقه، فعل ذلك للتضليل، لكى يغير على البلدة على غرة.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
103-المعجم الجغرافي للسعودية (غنيم)
غنيم ـ بضم الغين وفتح النون تصغير غانم ـ جبل ذو رؤوس، أسود، مطل على تيماء من الناحية الجنوبية الشرقية، وأغلب سيول تيماء تنحدر من سفوحه وما حوله من الآكام والجبيلات، واسمه القديم حدد. ولشهرته في تيماء ينتسب بعض أهل هذه البلدة إليه ـ على ما أخبرني الأمير سليمان الشّنيفي ـ فيقول عندما يسأل عن نسبه: أنا غنيمى، ولعل هذا ناشىء من أن رجلا مشهورا كان يسمى غنيما، ارتبط اسمه بهذا الجبل، فأطلق الاسم على الجبل ومن ثمّ وجد من ينتسب إلى الرجل الذي جهل بعد أن عرف الجبل.المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
104-المعجم الجغرافي للسعودية (قيال)
قيال: أيضا ـ قال كثيّر:«يجتزن أودية البضيع جوازعا***أجواز عينونا فنعف قيال »
وفي «درر الفوائد المنظمة»: أخبرني خليل بن إبراهيم، تابع عمرو بن عامر شيخ بني عقبة أن بالقرب من عيون القصب من الجانب اليمين وأنت متجه إلى الحجاز بين مدين وعيون القصب بالقرب من القرقف بدون نصف بريد، حفائر، ماؤها حلو، تسمى قيال ـ بقاف مشوبة بالكاف ـ تروي الركب انتهى.
وأقول: هذه الحفائر في واد يعرف بهذا الاسم، وهو الوارد في شعر كثير.
وقيال هذا أسفل وادي عفال، واد فيه نخل بقرب الساحل، عند انشعاب خليج العقبة، جنوب مقنا بنحو 50 كيلا، ويبعد عن الخريبة المجاورة لعينونا بثمانية أكيال شمالها تقريبا (قرب الدرجة 1؟ ـ 35؟ طولا و 5؟ ـ 28؟ عرضا).
وقد علق الأستاذ عاتق بن غيث البلادي على هذا قائلا:
صوابه قيال: ـ بالياء المثناة تحت ـ: قرية صغيرة على خليج العقبة من الشرق، شرق جزيرة تيران والشيخ حميد، فيها مزارع ونخل يمر سيل وادي عفال شرقها وجنوبها. تعرف باللسان، تفترق عندها الطريق إلى الشيخ حميد والبدع ومقنا، سكانها المساعيد، وإلى مثل هذا التحديد ذهب الشيخ حمد الجاسر في شرحها.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
105-المعجم الجغرافي للسعودية (المخاضة)
المخاضة: ـ مؤنث المفعول قال ـ فى كتاب «المناسك»: تفضى إلى مسجد النبي الأعظم ـ في خيبر ـ الذي صلى فيه أربعين يوما أخبرني الحسنيّ أنّ عيسى بن موسى بناه وأنفق عليه مالا جليلا، يسمى المسجد المنزلة، وله رحاب واسعة، وهو على طاقات معقودة، وفيه تصلّي الأعياد اليوم، وفيه الصخرة التي صلى اليها النبي صلىاللهعليهوسلم وهو أول نطاة.المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
106-المعجم العربي لأسماء الملابس (المهرود)
المَهْرُود: المَهْرُود اسم مفعول من الفعل هُرِد: هو الثوب المصبوغ بالهُرْد، والهُرْد: العروق التى يُصبغ بها، وقيل: هو الكُرْكُم.وثوب مهرود: مصبوغ أصفر بالهُرْد، وفى الحديث "ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في ثوبين مهرودين" ورُوى "عليه ثوبان مهرودان".
قال الأزهرى: أخبرنى العالم من أعراب باهلة أن الثوب المهرود الذى يُصبغ بالوَرْث ثم بالزعفران فيجئ لونه مثل لون زهرة الحوذانة، فذلك الثوب المهرود.
وفى الحديث: ينزل بين مهرودتين؛ أى بين مُمَصَّرتين، والمُمَصَّرة من الثياب: التى فيها صُفرة خفيفة، وقيل المهرود الثوب الذى يُصبغ بعروق يُقال لها: الهُرْد.
والمهرود أيضًا: الثوب المُمَزّق المُخرَّق؛ ويُقال: هرد الثوب هَرْدًا: مزَّقه، وهرَّده: شقَّقه، وهرَّد القصار الثوب: مزَّقه وخرَّقه وضربه.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
107-معجم النحو (كاف الخطاب)
كاف الخطاب: هي حرف معنى لا محلّ له، ومعناه الخطاب.وتلحق اسم الإشارة للبعيد، وتتصرّف تصرّف كاف الضّمير الاسميّة غالبا، فتفتح للمخاطب وتكسر للمخاطبة، وتتّصل بها علامة التّثنية والجمع فتقول: ذاك، ذاك، ذاكما، ذاكم، ذاكنّ.
وتلحق أيضا: الضمير المنفصل المنصوب في قولهم: «إيّاك، إيّاك، إيّاكما، إيّاكم، إيّاكنّ».
وتلحق أيضا: بعض أسماء الأفعال نحو «حيهلك» و «رويدك».
وتلحق: أرأيت بمعنى أخبرني نحو {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
108-المعجم المفصل في النحو العربي (باب أرى)
باب أرىاصطلاحا: رأى بمعنى: «اعتقد»، «تيقّن»، «ظنّ». وهي من أفعال القلوب التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَراهُ قَرِيبًا} «يرونه» الأولى بمعنى: الظّنّ، «ونراه» الثانية بمعنى اليقين وكلاهما نصب مفعولين. وكقول الشاعر:
«وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ***في موطن فالحزم أن يترحّلا»
وفيه «رأى» بمعنى: اليقين نصب مفعولين:
الأوّل: «الخمول»، والثاني: «نزيله». وتأتي «رأى» بمعنى: الحلم، أي: الرّؤيا في المنام، مثل: «رأيت في المنام الطالب ناجحا» «الطالب»:
مفعول به أوّل. «ناجحا»: مفعول به ثان. وكقول الشاعر:
«أراهم رفقتي حتى إذا ما***تجافى اللّيل وانخزل انخزالا»
«أرى» بمعنى أبصر في المنام. نصب مفعولين: الأوّل: هو الضمير المتّصل بالفعل «هم» والثاني، هو «رفقتي».
وتأتي «رأى» بمعنى ابداء الرأي في أمر عقليّ، وهو بهذا المعنى قد ينصب مفعولا واحدا، أو مفعولين حسب ما يقتضيه المعنى، مثل: «يختلف النّاس في أمر النّبيذ فمنهم من يراه ضارّا ومنهم من يراه مفيدا»؛ فقد نصب الفعل «يراه» مفعولين الأوّل هو «الهاء» والثاني هو «ضارا»؛ ومثله: «يراه مفيدا». أو تقول: «يختلف الناس في أمر النّبيذ فمنهم من يرى ضرره، ومنهم من يرى فائدته» حيث اكتفى الفعل «يرى» بمفعول واحد. وهو «ضرره»، وللثاني: «فائدته». وتأتي «رأى» بمعنى «أبصر» فينصب مفعولا واحدا، كقول الشاعر:
«فإذا نظرت رأيت قوما سادة***وشجاعة ومهابة وكمالا»
حيث أتى الفعل «رأيت» بمعنى «أبصرت» فنصب مفعولا به واحدا هو «قوما».
ومثل:
«إنّ العرانين تلقاها محسّدة***ولن ترى للئام النّاس حسّادا»
حيث نصب الفعل «ترى» مفعولا به واحدا هو «حسادا».
ورأى بمعنى: أصاب الرّئة. فينصب مفعولا به واحدا، مثل: «ضربه فرآه» أي: فأصاب رئته.
«فالهاء» في «رآه» هي مفعول به لفعل «رأى»، ومثل: «أطلق الصيّاد السّهم فرأى العصفور»، أي: فأصابه في رئته.
وتردّد في بعض الأساليب فعل «رأى» بصيغة الماضي مسبوقا بهمزة الاستفهام أو بأداة منه، بمعنى: «أخبرني»، مثل: «أرأيتك هذا المنزل أواسع هو أم ضيّق» فالفعل «أرأيتك»: يتألف من همزة الاستفهام يليها الفعل الماضي «رأى» وفاعله تاء الضمير، ثم كاف الخطاب. ولا تتعرّف «التاء» إنما تدل «الكاف» على المخاطب، فتتعرّف لتدلّ على نوع المخاطبين، مثل: «أرأيتك»، للمخاطبة، «أرأيتكما»، للمثنّى «أرأيتكن» لجمع المؤنّث، «أرأيتكم» لجمع المذكّر، وكلّها بمعنى أخبرني، أو أخبريني أو أخبراني، أو أخبرنني، أو أخبروني.. ومعنى «رأيت» منقول إمّا من معنى «عرفت»، أو «أبصرت»، فيحتاج إلى مفعول به واحد، أو من معنى «علمت» فيحتاج إلى مفعولين. ومثل: «أرأيتك هذا الكتاب هل عرفت قيمته! » فإن قصد بـ «أرأيتك» التعجّب، تكون «هذا» «الهاء»: للتنبيه و «ذا» اسم إشارة مبني على السّكون في محل نصب مفعول به «الكتاب»: بدل منصوب. والجملة الاستفهاميّة في محل نصب مفعول به ثان والكاف للخطاب.
وإذا لوحظ فيه معنى «علمت»، «فالتاء» فاعله والكاف في محل نصب مفعول به أوّل و «هذا» المفعول الثاني.
وكذلك يتردّد في الأساليب عينها ورود الفعل «رأى» بصيغة المضارع المجهول ومعناه «أظن»، فينصب مفعولين الأول هو نائب فاعله والثاني هو مفعوله الظّاهر، كقول الشاعر:
«وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا***إذا أنّه عبد القفا واللهازم»
حيث أتى الفعل «أرى» مضارعا مجهولا بمعنى «أظن». ونائب فاعله ضمير مستتر تقديره: أنا.
«زيدا» مفعول به ثان.
وكذلك يتردّد في بعض الأساليب المسموعة فعل «رأى» بصيغة المضارع وقد حذف آخره، وقبله الحرف «لا»، أو «لو»، وبعده «ما» الموصولة دائما. ومعناه في الحالتين «ولا سيّما»، مثل: «احترمت الرّفاق لا تر ما سمير» أو لو تر ما سمير، أي: ولا سيّما سمير. فالفعل «لا تر ما» و «لو تر ما» حذف آخره وسبقته «لو»، أو «لا» وبعده «ما» الموصولة. وهو بمعنى: ولا سيّما وكلمة «سمير»: خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هو».
ويجوز في الاسم الواقع بعد «ولا سيّما» الرّفع والجرّ إذا كان معرفة، فالرّفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف كما أعربنا كلمة «سمير»، والجرّ على أنّه بدل من «ما» في «ولا سيّما». أو مضاف إليه والمضاف هو «سيّ» و «ما» زائدة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
109-المعجم المفصل في النحو العربي (الضمير البارز المنفصل)
الضمير البارز المنفصلهو الذي يصح الابتداء به، فيسبق العامل، أو يتأخّر عنه مفصولا بفاصل، مثل: «أنا قائم وما قائم إلا أنا»، وكقول الشاعر:
«أنا الذّائد الحامي الذّمار، وإنّما***يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي»
حيث ورد الضمير المنفصل «أنا» بعد الاستثناء بـ «إنّما» وكقول الشاعر:
«وما أصاحب من قوم فأذكرهم ***إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم»
فقد ورد الضمير المرفوع في آخر البيت وقد فصل عن الفعل «يزيد» والقياس والمعنى أن يكون متصلا والتقدير: إلا «يزيدونهم» حبّا إليّ.
وكقول الشاعر:
«أصرمت حبل الوصل؟ بل صرموا***يا صاح بل قطع الوصال هم»
فقد أتى الشاعر بالضمير «هم» منفصلا لضرورة وزن الشعر رغم أنه من الضمائر المنفصلة ولكن القياس والمعنى يقتضيان أن يكون متصلا والتقدير: بل قطعوا الوصال. ومن المرجّح أنّ الشّاعر أتى به توكيدا للضمير الذي كان من الواجب اتصاله بالفعل وهو «واو» الجماعة والتقدير: «بل قطعوا الوصال هم».
وباعتبار إعرابه يقسم المتصل إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: هو الذي يجب أن يكون دائما في محل رفع، ويشتمل على: ألف الاثنين، مثل: «الطالبان نجحا»، «فالألف» في «نجحا» في محل رفع فاعل. و «واو» الجماعة، مثل: «الطلاب نجحوا»، «الواو» في محل رفع فاعل.
و «نون» النّسوة، مثل: «الطالبات نجحن»، «النون» في «نجحن» في محل رفع فاعل. و «ياء» المخاطبة، مثل: «أيّتها الطالبة ادرسي» «فالياء» في «ادرسي» في محل رفع فاعل، و «التاء» المتحركة التي للمتكلم المبنيّة على الضّم، مثل: «نجحت في الامتحان»، «فالتاء» في «نجحت» في محل رفع فاعل. و «تاء» المخاطبة التي تكون للمفرد والمذكّر والمبنيّة على الفتح، مثل: «أنت نجحت في الامتحان»، «التاء» في «نجحت» في محل رفع فاعل. و «تاء» المخاطبة المبنية على الكسر، مثل: «أنت نجحت في الامتحان»، «التاء» في «نجحت» في محل رفع فاعل. و «تاء» المخاطبة للمثنّى المذكّر والمؤنّث، مثل: «أنتما نجحتما»، «التاء» في «نجحتما» في محل رفع فاعل، و «تاء» المخاطب المذكّر للجمع، مثل: «أنتم نجحتم»، «التاء» في «نجحتم» في محل رفع فاعل. و «تاء» المخاطبة المؤنثة للجمع، مثل: «انتنّ نجحتنّ»، وقد تأتي «تاء» المخاطبة مبنيّة دائما على الفتح وذلك في استعمال معيّن حين يطلب معرفة شيء له حالة عجيبة، ويكون لها اسلوب معيّن أيضا، وهو الذي يبدأ بهمزة الاستفهام يليها فعل «رأيتك» وبعده اسم منصوب يليه جملة استفهاميّة موضع العجب فتقول: «أرأيتك الفكاهة أتغني عن الجدّ والعمل».
«فالتاء» في الفعل «أرأيتك» هي دائما مبنيّة على الفتح، في هذا الاسلوب وفي هذه الشروط الأربعة مجتمعة، والذي يتغيّر هو «الكاف» في «أرأيتك» حسب المخاطبين، فتقول: أرأيتكما، «أرأيتك»، «أرأيتكن» «فالكاف» حرف الخطاب هو وحده الذي يدل على نوع المخاطب. وتكون «أرأيتك» جملة بمعنى: «أبصرت» والاسم المنصوب «الفكاهة» هو مفعول به لفعل «أبصرت» والجملة الاستفهامية بعده لا محل لها من الإعراب لأنها استئنافيّة، وقد تكون جملة «أرأيتك» بمعنى «علمت» ويكون الاسم بعدها «الفكاهة» مفعول به أوّل لفعل «علمت»، والجملة الاستفهاميّة حلّت محل مفعول به ثان. وقد تكون جملة «أرأيتك» بمعنى «أخبرني» ويكون الاسم بعدها «الفكاهة» منصوبا على نزع الخافض والتقدير: أخبرني عن الفكاهة، والجملة الاستفهاميّة لا محل لها من الإعراب لأنها استئنافيّة.
والنوع الثاني: هو الذي يشترك فيه محل النصب ومحل الجر وهذه الضمائر ثلاثة: الضمير الأول هو «ياء» المتكلم، مثل: «أبي علّمني» «فالياء» في «أبي» في محل جر بالإضافة، وهي في «علمني» في محل نصب مفعول به. وقد تأتي «ياء» المتكلم في محل رفع فاعل، مثل: «اكتبي يا سميرة» «فالياء» في «اكتبي» في محل رفع فاعل، وقد يجتمع محل الرفع ومحل النصب في الفعل الذي يكون من الأفعال الخمسة ومتصلا بياء المتكلم، مثل: «تسألينني عن الروح هي من علم الله» «فالياء» الأولى في محل رفع فاعل والثانية في محل نصب مفعول به، «والنون» الأولى علامة الرفع «والنون» الثانية للوقاية.
والضمير الثاني هو كاف الخطاب، مثل: «أدّبك أبوك» «فالكاف» في «أدبك» في محل
نصب مفعول به، وهي في «أبوك» في محل جر بالإضافة.
والضمير الثالث هو «الهاء» التي تدل على الغائب، أو على الغائبة، مثل: «أدّبه أبوه» و «أدّبها أبوها» «فالهاء» في «أدبه» و «أدبها» في محل نصب مفعول به وهي في «أبوه» و «أبوها» في محل جرّ.
وقد تقع «كاف» الخطاب و «هاء» الغائب و «ياء» المخاطبة في محل رفع بعد كلمة «لو لا» التي لا يقع بعدها إلا المبتدأ، مثل: «لولاك لتأخّرت» و «لولاه لتأخرت» و «لولاي لتأخرت» ومثل: «الاجتهاد نافع ولولاه لفشلت» و «الكواكب مضيئة ولولاها لضاع المهتدون بها» «فالياء» في «لولاي» هي ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ خبره محذوف وجوبا ومثلها «الكاف» في «لولاك» أما «الهاء» في «لولاها» وفي «لولاه» فهي مبنيّة على الضم في محل رفع مبتدأ خبره محذوف وجوبا.
والنوع الثالث من الضمائر المتصلة هو «نا» يكون تارة في محل رفع وتارة في محل نصب، وتارة في محل جر، مثل: «ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» حيث أنّ «نا» في كلمة «ربنا» هو في محل جر، وهو في الفعل «تؤاخذنا» في محل نصب وهو في «نسينا» وفي «أخطأنا» في محل رفع. وقد تدخل «هاء» التنبيه على الضمير المنفصل «أنا»، كقول الشاعر:
«وعروة مات موتا مستريحا***وهأنا ميّت في كلّ يوم»
وكان من الشائع دخول «هاء» التنبيه على ضمير الرّفع المنفصل الذي خبره اسم إشارة، مثل: «ها أنذا أقوم بواجباتي المنزليّة»، ومن ذلك ما عرف من الفصل بين «هاء» التنبيه واسم الإشارة بالضمير كالأمثلة السابقة أو بجملة القسم، مثل: «ها والله ذا...» أو يفصل بينهما «إن» الشرطية، «مثل: «ها إن ذي فتاة»... وقد تعاد «هاء» التنبيه بعد الفاصل لتقوية المعنى، مثل: «ها أنتم هؤلاء تنجحون».
6 ـ ملاحظة: قد تقع «كاف» الخطاب متّصلة بكلمات وبصيغ متعدّدة دون أن يكون لها محل من الإعراب، كاتصالها باسم فعل لا ينصب مفعولا به فتقول في: «حيّهل» بمعنى: «أقبل»: حيّهلك، فتكون «حيّهل» اسم فعل أمر بمعنى «أقبل» مبني على الفتح، و «الكاف» للخطاب لا محل لها من الإعراب، ومن «النجاء» بمعنى: أسرع «النجاءك» أي: النجاء لك «النجاء» اسم فعل أمر بمعنى: أسرع. «والكاف» حرف خطاب لا محل له من الإعراب، ومن «رويد» بمعنى «تمهّل» «رويدك» «رويد» اسم فعل أمر بمعنى «تمهّل» مبني على الفتح «والكاف» حرف خطاب لا محل له من الإعراب. وكاتصالها ببعض الأفعال المسموعة عن العرب ويجب الاقتصار عليها، أي: لا يقاس عليها بل نستعملها كما هي لأنّ العرب استعملوها هكذا، مثل: «أبصر» و «ليس»، و «نعم»، «بئس»، «حسب»، فتقول: أبصرك سميرا، «أبصر»: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «والكاف» حرف للخطاب لا محل له من الإعراب، «سميرا» مفعول به منصوب. ولا يمكن أن تكون «الكاف» مفعولا به لأن الفعل «أبصر» لا يأخذ مفعولين. ومثل: «لستك سميرا مسافرا» «لستك»: فعل ماض ناقص «والتاء»: اسمه، و «الكاف»: حرف للخطاب لا محل له من الإعراب «سميرا»: خبر «ليس». «مسافرا»: نعت
سميرا، ومثل: «نعمك الفتى زيد» «نعمك»: فعل ماض مبني على الفتح «والكاف» حرف خطاب لا محل له من الإعراب، «الفتى»: فاعل «نعم» مرفوع بالضّمّة المقدّرة على الألف للتعذر.
«زيد»: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو. وله وجه آخر من الإعراب: «زيد»: مبتدأ مؤخر وجملة «نعم الفتى» خبره مقدّم. ومثل: «بئسك الفتى سعيد» وإعرابه كالمثل السابق، ومثل: «ما حسبتك أن تنجح» «ما»: حرف نفي. «حسبتك»: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله «بالتاء».
«والتاء»: ضمير متصل مبني على الضّم في محل رفع فاعل، «والكاف» حرف خطاب لا محل له من الإعراب، وجملة «أن تنجح» في محل نصب مفعول به. ولا يمكن أن تكون «الكاف» مفعولا به، لأنه لو كان الأمر كذلك لترتّب أن تكون «الكاف» مع المصدر المؤول مبتدأ وخبره، وكاتصالها ببعض الحروف التي يجب الاقتصار عليها، مثل: «كلّا»، «بلى»، فتقول: «كلّاك، أنت لا تهمل واجباتك» ومثل: بلاك، أي: بلى لك، جوابا لمن يسألك: «ألست صاحب فضل عليك؟».
أحكام الضمائر البارزة المنفصلة: تنقسم الضمائر المنفصلة بحسب الإعراب الى قسمين ويصح الابتداء بها وتستقل عن غيرها وهي: ضمائر الرفع، وضمائر النّصب، ولكلّ منها أيضا ألفاظ خاصة:
1 ـ ألفاظ ضمائر الغائب المرفوعة، مثل: «هو»، للمفرد، «هما» للمثنى، «هم» للجمع.
2 ـ ألفاظ ضمائر الغائبة المرفوعة، مثل: «هي» للمفرد، «هما» للمثنى، «هنّ» للجمع.
3 ـ ألفاظ المخاطب المرفوعة هي: «أنت» للمفرد «أنتما» للمثّنى، «أنتم» للجمع.
4 ـ ألفاظ المخاطبة المرفوعة هي: «أنت» للمفرد وللمثنّى «أنتما»، وللجمع «أنتنّ».
5 ـ وللمتكلّم ضميران هما: «أنا» للمتكلم المفرد، و «نحن» للمتكلم المعظم نفسه أو للجمع.
6 ـ ألفاظ ضمائر الغائب المنصوبة: «إيّاه» للمفرد، «إيّاهما» للمثنى، «إياهم» للجمع.
7 ـ ألفاظ ضمائر الغائبة المنصوبة هي: «إياها» للمفرد، «إيّاهما» للمثنّى، «إيّاهنّ» للجمع.
8 ـ ضمائر المخاطب المنصوبة هي: «إيّاك» للمفرد، «إيّاكما» للمثّنى، «إيّاكنّ» للجمع.
9 ـ ضمائر المخاطبة المنصوبة هي: «إيّاك» للمفرد «إيّاكما» للمثنّى، «إيّاكنّ» للجمع.
10 ـ وللمتكلم ضميران للنصب هما: «إيّاي» للمفرد، «إيّانا» للمتكلّم المعظّم نفسه أو للجمع.
ملاحظة: لا تكون الضمائر المنفصلة المرفوعة إلا للرّفع أصالة، ويجوز أن تكون ضميرا للنصب أو للجرّ فتكون بالنيابة عن ضمير النصب أو الجر في بعض الأساليب المسموعة، مثل: «ما أنا كأنت» فالضمير «أنت» هو ضمير رفع بالأصالة وأتى هنا في محل جر بالنّيابة عن ضمير الجر والتقدير: ما أنا مثلك.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
110-المعجم المفصل في النحو العربي (ياء المتكلم)
ياء المتكلمتعريفها: هي ضمير يدخل على المتكلّم وتدخل على الاسم، وعلى الفعل، وعلى الحرف.
اتصالها بالأفعال: تتصل ياء المتكلم بالفعل الماضي والمضارع والأمر. فإذا اتّصلت بالماضي وجب أن تسبقها النون التي تسمّى نون الوقاية لأنها تقي آخر الفعل من الكسر الذي ينشأ عن اتّصاله بـ «الياء»، لأن «الياء» لا يناسبها من الحركات إلّا الكسرة والفعل لا يلحقه الكسر، مثل: «احترمني معلّمي» وإذا اتّصلت ياء المتكلّم بالمضارع وجب أيضا أن تسبقها نون الوقاية أما إذا كان المضارع مرفوعا بثبوت النون أي: إذا كان من الأفعال الخمسة فيجوز أن تلحقه «النّون» ويجوز حذفها، مثل: «المعلمون يكرموني أو يكرمونني». وإذا اتصلت بفعل الأمر وجب أن تسبقها نون الوقاية، مثل: «أخبرني عنك» «سلني ما شئت»، «اسمعني واضربني واقتلني...».
اتصالها بالأسماء: إذا اتصلت ياء المتكلّم بالاسم فيجب كسر آخره وتقدّر عليه علامتا الرّفع والنّصب أما علامة الجرّ أي الكسرة فهي ظاهرة مثل: «هذا كتابي» و «سلّمت على معلّمي»، «رأيت رفيقي».
اتصالها بالحروف: إذا اتصلت ياء المتكلم بحروف الجر يجوز الاستغناء عنها مع «من» و «عن» والأكثر سبقها بالنون، مثل: «منّي العمل» و «عنّي يؤخذ» وإذا اضطرّ الشاعر لإقامة الوزن فيمكنه حذفها، كقول الشاعر:
«أيّها السائل عنهم وعني ***لست من قيس ولا قيس مني»
وإذا اتصلت بحرف الجرّ «في» فتدغم «بالياء» الموجودة في آخر الحرف، مثل: «فيّ الأمل» ومثلها «إلى»، فتقول: «إليّ العود»، وكقوله تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ومثله على: «عليّ العوض» وإذا لحقت حرفي الجرّ «اللّام» و «الباء» فتتصل بهما اتّصالا مباشرا ولا حاجة لنون الوقاية مثل: «لي كتاب» و «بي شفقة على المساكين».
وإذا اتصلت ياء المتكلم بالأحرف المشبّهة بالفعل: إنّ، أنّ، كأنّ، لكنّ، ليت، لعلّ، ففي الأحرف المنتهية بالنّون المشدّدة يجوز أن تتصل نون الوقاية بآخرها أو عدم اتصالها بها، فتقول: «إني أو إنّني آمنت بالله» و «كأنّي أو كأنّني طفلة مدلّلة» و «لكنّي أو لكنّني شابّة» و «علمت أنّي أو أنّني ناجحة» أمّا ليت فالأغلب أن تدخلها نون الوقاية قبل ياء المتكلّم، مثل قوله تعالى: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ...} وقد تحذف منها نون الوقاية لإقامة الوزن، كقول الشاعر:
«كمنية جابر إذ قال: ليتي ***أصادفه وأفقد جلّ مالي»
فحذفت نون الوقاية وكسر آخر الحرف «ليت».
أمّا إذا اتصلت ياء المتكلم بـ «لعلّ» فالأكثر أن تلحقها نون الوقاية، مثل: «أجتهد لعلّني أبلغ ما أريد» والمشهور عدم اقترانها بنون الوقاية، كقوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ} وكقوله تعالى: {يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ} وكقول الشاعر:
«فقلت أعيراني القدوم لعلّني ***أخطّ بها قبرا لأبيض ماجد»
وقد تتصل ياء المتكلم بالفعل «عسى» الذي هو من أفعال المقاربة فتصيّره حرفا بمعنى: «لعلّ»، أي: تغيّر فيه المعنى والعمل فبعد أن كان من أفعال المقاربة التي تدخل على المبتدأ والخبر فترفع الأول اسما لها وتنصب الثاني خبرا تصير «عسى» حرفا من الحروف المشبهة بالفعل بمعنى: «لعلّ» فتدخل مثلها على المبتدأ والخبر، فتنصب الأول اسما لها، وترفع الثاني خبرا لها، مثل:
«ولي نفس أقول لها إذا ما***تنازعني: لعلّي أو عساني»
وفيه دخلت نون الوقاية قبل ياء المتكلم في عسى فصارت «عساني» وفيه أيضا «لعلّ» اتصلت بها ياء المتكلم دون اقترانها بنون الوقاية فتلفظ «لعلّي». وياء المتكلّم تسمّى أيضا ياء الإضافة ياء النّفس.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
111-المعجم المفصّل في الإعراب (أرأيتك)
أرأيتك ـتركيب إنشائي بمعنى: «أخبرني»، مؤلف من الهمزة التي هي حرف استفهام إنكاري، ومن الفعل الماضي «رأى» الّذي هو بمعنى: «أبصر» فيأخذ مفعولا به واحدا، أو بمعنى: «علم» فيأخذ مفعولين، ومن «الكاف» وهي حرف خطاب، نحو: «أرأيتك المال أيغني عن العلم».
(«أرأيتك»: الهمزة حرف استفهام مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. «رأيتك»: فعل ماض مبنيّ على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرّك. والتّاء: ضمير متّصل مبنيّ على الفتح في محلّ رفع فاعل. والكاف: حرف خطاب مبنيّ
على الفتح لا محلّ له من الإعراب. «المال»: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة. إذا كانت «رأى» بمعنى: «علم» يكون «المال» هو المفعول به الأوّل والجملة «يغني» هي المفعول به الثاني. وإذا كانت «رأى» بمعنى «أبصر» أخذت مفعولا به واحدا هو «المال» والجملة بعده استئنافيّة).
المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م
112-معجم الأفعال المتعدية بحرف (عرف)
(عرف) على القوم صار عريفا عليهم وقتا من الأوقات وعرف بذنبه وعرف له به أقر وعرف بزيد أوضحه بعلامة أو غيرها مما يجعله عارفا به وعرف رأسه بالدهن رواه واعترف بذنبه أقر واعترف له وصف نفسه بصفة يحقق نفسه بها طلب أن يعرف وأعترف إلي أخبرني باسمه وبشأنه واعرورف للشر تهيأ له وأشرأب واستعرف إليه انتسب له عرفه من هو ولأعرفن لك ما صنعت أي لأجازينك به وبه فسر قوله تعالى) عرف بعضه وأعرض عن بعض ((عرق) يعرق عرقا وعروقا في الأرض ذهب وعرق وأعرق فيه أعمام وأخوال ضربوا إليه بعروقهم من كرم أو لؤم وهو في الكرم أكثر وعرق في السقاء والدلو ملأهما دون الملء قال الشاعر(لا تملأ الدلو وعرق فيها
أما ترى حبار من يسقيها) الرجز وعرق من كل شيء قلل وأعرق له عرقا أعطاه إياه وتعرقه في المصارعة أخذ رأسه تحت إبطه فصرعه وتعرق في الظل أخذ
منه وانتفع به قليلا قليلا واستعرق الرجل في الشمس إذا نام في المشرفة واستغشى ثيابه ليعرق وعرقت عليه بخير أي نديت ومرت عراقة من الطير.
معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م
113-معجم البلدان (آبه)
آبَهْ:بالباء الموحدة: قال أبو سعد: قال الحافظ أبو بكر احمد بن موسى بن مردويه: آبه من قرى أصبهان، وقال غيره: إن آبه قرية من قرى ساوه، منها جرير بن عبد الحميد الآبي سكن الري. قلت أنا:
أما آبه، بليدة تقابل ساوه تعرف بين العامّة بآوه، فلا شكّ فيها، وأهلها شيعة، وأهل ساوه سنّية، لا تزال الحروب بين البلدين قائمة على المذهب. قال أبو طاهر ابن سلفة: أنشدني القاضي أبو نصر أحمد بن العلاء الميمندي بأهر، من مدن أذربيجان، لنفسه:
«وقائلة أتبغض أهل آبه، *** وهم أعلام نظم والكتابة؟»
«فقلت: إليك عنّي إنّ مثلي *** يعادي كلّ من عادى الصّحابه»
وإليها، فيما أحسب، ينسب الوزير أبو سعد منصور ابن الحسين الآبي، ولّي أعمالا جليلة، وصحب الصاحب ابن عبّاد ثم وزر لمجد الدولة رستم بن فخر الدولة ابن ركن الدولة بن بويه، وكان أديبا شاعرا مصنّفا، وهو مؤلّف كتاب: نثر الدرر، وتاريخ الري، وغير ذلك، وأخوه أبو منصور محمد كان من عظماء الكتّاب وجلّة الوزراء، وزر لملك طبرستان. وآبه أيضا من قرى البهنسا من صعيد مصر. أخبرني بذلك القاضي المفضّل بن أبي الحجاج عارض الجيوش بمصر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
114-معجم البلدان (أجأ)
أَجأ:بوزن فعل، بالتحريك، مهموز مقصور، والنسب إليه أجئيّ بوزن أجعيّ: وهو علم مرتجل لاسم رجل سمّي الجبل به، كما نذكره، ويجوز أن يكون منقولا.
ومعناه الفرار، كما حكاه ابن الأعرابي، يقال: أجأ الرجل إذا فرّ، وقال الزمخشري: أجأ وسلمى جبلان عن يسار سميراء، وقد رأيتهما، شاهقان. ولم يقل عن يسار القاصد إلى مكة أو المنصرف عنها، وقال أبو عبيد السكوني: أجأ أحد جبلي طيّء وهو غربي فيد، وبينهما مسير ليلتين وفيه قرى كثيرة، قال:
ومنازل طيّء في الجبلين عشر ليال من دون فيد إلى أقصى أجإ، إلى القريّات من ناحية الشام، وبين المدينة والجبلين، على غير الجادّة: ثلاث مراحل. وبين الجبلين وتيماء جبال ذكرت في مواضعها من هذا الكتاب، منها دبر وغريّان وغسل. وبين كل جبلين يوم. وبين الجبلين وفدك ليلة. وبينهما وبين خيبر خمس ليال. وذكر العلماء بأخبار العرب أن أجأ سمّي باسم رجل وسمّي سلمى باسم امرأة. وكان من خبرهما أن رجلا من العماليق يقال له أجأ بن عبد الحيّ، عشق امرأة من قومه، يقال لها سلمى. وكانت لها حاضنة يقال لها العوجاء. وكانا يجتمعان في منزلها
حتى نذر بهما إخوة سلمى، وهم الغميم والمضلّ وفدك وفائد والحدثان وزوجها. فخافت سلمى وهربت هي وأجأ والعوجاء، وتبعهم زوجها وإخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى، فقتلوها هناك، فسمّي الجبل باسمها. ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين، فقتلوها هناك، فسمّي
وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم، فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه، قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أحد ما استدللنا به على بطلان ما ذكره النحويّون من أن أجأ مؤنثة غير مصروفة، لأنه جبل مذكّر، سمّي باسم رجل، وهو مذكر.
وكأنّ غاية ما التزموا به قول امرئ القيس:
«أبت أجأ أن تسلم العام جارها، *** فمن شاء فلينهض لها من مقاتل»
وهذا لا حجّة لهم فيه، لأن الجبل بنفسه لا يسلم أحدا، إنما يمنع من فيه من الرجال. فالمراد: أبت قبائل أجإ، أو سكّان أجإ، وما أشبهه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، يدلّ على ذلك عجز البيت، وهو قوله:
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
والجبل نفسه لا يقاتل، والمقاتلة مفاعلة ولا تكون من واحد، ووقف على هذا من كلامنا نحويّ من أصدقائنا وأراد الاحتجاج والانتصار لقولهم، فكان غاية ما قاله: أن المقاتلة في التذكير والتأنيث مع الظاهر وأنت تراه قال: أبت أجأ. فالتأنيث لهذا الظاهر ولا يجوز أن يكون للقبائل المحذوفة بزعمك، فقلت له: هذا خلاف لكلام العرب، ألا ترى إلى قول حسان بن ثابت:
«يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى، يصفّق بالرحيق السّلسل»
لم يرو أحد قط يصفّق إلا بالياء آخر الحروف لأنه يريد يصفّق ماء بردى، فرده إلى المحذوف وهو الماء، ولم يردّه إلى الظاهر، وهو بردى. ولو كان الأمر على ما ذكرت، لقال: تصفّق، لأن بردى مؤنث لم يجيء على وزنه مذكّر قط. وقد جاء الردّ على المحذوف تارة، وعلى الظاهر أخرى، في قول الله، عز وجل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون، ألا تراه قال: فجاءها فردّ على الظاهر، وهو القرية، ثم قال: أو هم قائلون فردّ على أهل القرية وهو محذوف، وهذا ظاهر، لا إشكال فيه. وبعد فليس هنا ما يتأوّل به التأنيث، إلا أن يقال: إنه أراد البقعة فيصير من باب التّحكّم، لأن تأويله بالمذكّر ضروريّ، لأنه جبل، والجبل مذكّر، وإنه سمي باسم رجل بإجماع كما ذكرنا، وكما نذكره بعد في رواية أخرى، وهو مكان وموضع ومنزل وموطن ومحلّ ومسكن. ولو سألت كل عربيّ عن أجإ لم يقل إلا أنه جبل، ولم يقل بقعة. ولا مستند إذا للقائل بتأنيثه البتة. ومع هذا فإنني إلى هذه الغاية لم أقف للعرب على شعر جاء فيه ذكر أجإ غير مصروف، مع كثرة استعمالهم لترك صرف ما ينصرف في الشعر، حتى إن أكثر النحويين قد رجّحوا أقوال الكوفيّين في هذه المسألة، وأنا أورد في ذلك من أشعارهم ما بلغني منها، البيت الذي احتجّوا به وقد مرّ، وهو قول امرئ القيس: أبت أجأ، ومنها قول عارق الطائي:
«ومن مبلغ عمرو بن هند رسالة، *** إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد»
أيوعدني، والرمل بيني وبينه! تأمّل رويدا ما أمامة من هند ومن أجإ حولي رعان، كأنها قنابل خيل من كميت ومن ورد
قال العيزار بن الأخفش الطائي، وكان خارجيا:
«ألا حيّ رسم الدّار أصبح باليا، *** وحيّ، وإن شاب القذال، الغوانيا»
«تحمّلن من سلمى فوجّهن بالضّحى *** إلى أجإ، يقطعن بيدا مهاويا»
وقال زيد بن مهلهل الطائي:
«جلبنا الخيل من أجإ وسلمى، *** تخبّ نزائعا خبب الرّكاب»
«جلبنا كلّ طرف أعوجيّ، *** وسلهبة كخافية الغراب»
«نسوف للحزام بمرفقيها، *** شنون الصّلب صمّاء الكعاب»
وقال لبيد يصف كتيبة النّعمان:
«أوت للشباح، واهتدت بصليلها *** كتائب خضر ليس فيهنّ ناكل»
«كأركان سلمى، إذ بدت أو كأنّها *** ذرى أجإ، إذ لاح فيه مواسل»
فقال فيه ولم يقل فيها، ومواسل قنّة في أجإ، وأنشد قاسم بن ثابت لبعض الأعراب:
«إلى نضد من عبد شمس، كأنهم *** هضاب أجا أركانه لم تقصّف»
«قلامسة ساسوا الأمور، فأحكموا *** سياستها حتى أقرّت لمردف»
وهذا، كما تراه، مذكّر مصروف، لا تأويل فيه لتأنيثه.
فإنه لو أنّث لقال: أركانها، فإن قيل هذا لا حجّة فيه لأن الوزن يقوم بالتأنيث، قيل قول امرئ القيس أيضا، لا يجوز لكم الاحتجاج به لأن الوزن يقوم بالتذكير، فيقول: أبى أجأ لكنّا صدّقناكم فاحتججنا، ولا تأويل فيها، وقول الحيص بيص:
«أجأ وسلمى أم بلاد الزاب، *** وأبو المظفّر أم غضنفر غاب»
ثم إني وقفت بعد ما سطرته آنفا، على جامع شعر امرئ القيس، وقد نصّ الأصمعي على ما قلته، وهو: أن اجأ موضع، وهو أحد جبلي طيّء، والآخر سلمى. وإنما أراد أهل أجإ، كقول الله، عزّ وجل:
واسأل القرية، يريد أهل القرية، هذا لفظه بعينه. ثم وقفت على نسخة أخرى من جامع شعره، قيل فيه:
أرى أجأ لن يسلم العام جاره
ثم قال في تفسير الرواية الأولى: والمعنى أصحاب الجبل لم يسلموا جارهم. وقال أبو العرماس: حدثني أبو محمد أنّ أجأ سمّي برجل كان يقال له أجأ، وسمّيت سلمى بامرأة كان يقال لها سلمى، وكانا يلتقيان عند العوجاء، وهو جبل بين أجإ وسلمى، فسمّيت هذه الجبال بأسمائهم. ألا تراه قال: سمي أجأ برجل وسميت سلمى بامرأة، فأنّث المؤنث وذكّر المذكّر. وهذا إن شاء الله كاف في قطع حجاج من خالف وأراد الانتصار بالتقليد. وقد جاء أجا مقصورا غير مهموز في الشعر، وقد تقدّم له شاهد في البيتين اللذين على الفاء، قال العجّاج:
«والأمر ما رامقته ملهوجا *** يضويك ما لم يج منه منضجا»
«فإن تصر ليلى بسلمى أو أجا، *** أو باللوى أو ذي حسا أو يأججا»
وأما سبب نزول طيّء الجبلين، واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب، فقد اختلفت الرّواة فيه. قال ابن الكلبي، وجماعة سواه: لما تفرق بنو سبا أيام سيل العرم سار جابر وحرملة ابنا أدد بن زيد بن الهميسع قلت: لا أعرف جابرا وحرملة وفوق كل ذي علم عليم، وتبعهما ابن أخيهما طيّء، واسمه جلهمة، قلت: وهذا أيضا لا أعرفه، لأن طيّئا عند ابن الكلبي، هو جلهمة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. والحكاية عنه، وكان أبو عبيدة، قال زيد بن الهميسع: فساروا نحو تهامة وكانوا فيما بينها وبين اليمن، ثم وقع بين طيّء وعمومته ملاحاة ففارقهم وسار نحو الحجاز بأهله وماله وتتبّع مواقع القطر، فسمّي طيّئا لطيّه المنازل، وقيل إنه سمّي طيّئا لغير ذلك، وأوغل طيّء بأرض الحجاز، وكان له بعير يشرد في كل سنة عن إبله، ويغيب ثلاثة أشهر، ثم يعود إليه وقد عبل وسمن وآثار الخضرة بادية في شدقيه، فقال لابنه عمرو: تفقّد يا بنيّ هذا البعير فإذا شرد فاتبع أثره حتى تنظر إلى أين ينتهي. فلما كانت أيام الربيع وشرد البعير تبعه على ناقة له فلم يزل يقفر أثره حتى صار إلى جبل طيء، فأقام هنالك ونظر عمرو إلى بلاد واسعة كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، فرجع إلى أبيه وأخبره بذلك فسار طيء بإبله وولده حتى نزل الجبلين فرآهما أرضا لها شأن، ورأى فيها شيخا عظيما، جسيما، مديد القامة، على خلق العاديّين ومعه امرأة على خلقه يقال لها سلمى، وهي امرأته وقد اقتسما الجبلين بينهما بنصفين، فأجأ في أحد النصفين وسلمى في الآخر، فسألهما طيء عن أمرهما، فقال الشيخ: نحن من بقايا صحار غنينا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر، أفنانا كرّ الليل والنهار، فقال له طيء:
هل لك في مشاركتي إياك في هذا المكان فأكون لك مؤنسا وخلّا؟ فقال الشيخ: إنّ لي في ذلك رأيا فأقم فإن المكان واسع، والشجر يانع، والماء طاهر، والكلأ غامر. فأقام معه طيء بإبله وولده بالجبلين، فلم يلبث الشيخ والعجوز إلا قليلا حتى هلكا وخلص المكان لطي فولده به إلى هذه الغاية.
قالوا: وسألت العجوز طيّئا ممّن هو، فقال طيء:
«إنّا من القوم اليمانيّينا *** إن كنت عن ذلك تسألينا»
«وقد ضربنا في البلاد حينا *** ثمّت أقبلنا مهاجرينا»
«إذ سامنا الضّيم بنو أبينا *** وقد وقعنا اليوم فيما شينا»
ريفا وماء واسعا معينا
ويقال إن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصّحاري والعجوز امرأته. وقال أبو المنذر هشام بن محمد في كتاب افتراق العرب: لما خرجت طيء من أرضهم من الشحر ونزلوا بالجبلين، أجإ وسلمى، ولم يكن بهما أحد وإذا التمر قد غطّى كرانيف النخل، فزعموا أن الجنّ كانت تلقّح لهم النخل في ذلك الزمان، وكان في ذلك التمر خنافس، فأقبلوا يأكلون التمر والخنافس، فجعل بعضهم يقول: ويلكم الميّث أطيب من الحيّ. وقال أبو محمد الأعرابي أكتبنا أبو الندى قال: بينما طيء ذات يوم جالس مع ولده بالجبلين إذ أقبل رجل من بقايا جديس، ممتدّ القامة، عاري الجبلّة، كاد يسدّ الأفق طولا، ويفرعهم باعا، وإذا هو الأسود بن غفار بن الصّبور الجديسي،
وكان قد نجا من حسّان تبّع اليمامة ولحق بالجبلين، فقال لطي: من أدخلكم بلادي وإرثي عن آبائي؟
اخرجوا عنها وإلا فعلت وفعلت. فقال طيء:
البلاد بلادنا وملكنا وفي أيدينا، وإنما ادّعيتها حيث وجدتها خلاء. فقال الأسود: اضربوا بيننا وبينكم وقتا نقتتل فيه فأيّنا غلب استحقّ البلد. فاتّعدا لوقت، فقال طيء لجندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء وأمّه جديلة بنت سبيع بن عمرو ابن حمير وبها يعرفون، وهم جديلة طيء، وكان طيء لها مؤثرا، فقال لجندب: قاتل عن مكرمتك.
فقالت أمه: والله لتتركنّ بنيك وتعرضنّ ابني للقتل! فقال طيء: ويحك إنما خصصته بذلك.
فأبت، فقال طيء لعمرو بن الغوث بن طيء:
فعليك يا عمرو الرجل فقاتله. فقال عمرو: لا أفعل، وأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر في طيء بعد طيء:
«يا طيء أخبرني، ولست بكاذب، *** وأخوك صادقك الذي لا يكذب»
«أمن القضيّة أن، إذا استغنيتم *** وأمنتم، فأنا البعيد الأجنب»
«وإذا الشدائد بالشدائد مرّة، *** أشجتكم، فأنا الحبيب الأقرب»
«عجبا لتلك قضيّتي، وإقامتي *** فيكم، على تلك القضيّة، أعجب»
«ألكم معا طيب البلاد ورعيها، *** ولي الثّماد ورعيهنّ المجدب»
«وإذا تكون كريهة أدعى لها، *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب»
«هذا لعمركم الصّغار بعينه، *** لا أمّ لي، إن كان ذاك، ولا أب»
فقال طيء: يا بنيّ إنها أكرم دار في العرب. فقال عمرو: لن أفعل إلا على شرط أن لا يكون لبني جديلة في الجبلين نصيب. فقال له طيء: لك شرطك.
فأقبل الأسود بن غفار الجديسي للميعاد ومعه قوس من حديد ونشّاب من حديد فقال: يا عمرو إن شئت صارعتك وإن شئت ناضلتك وإلا سايفتك.
فقال عمرو: الصّراع أحبّ إليّ فاكسر قوسك لأكسرها أيضا ونصطرع. وكانت لعمرو بن الغوث ابن طيء قوس موصولة بزرافين إذا شاء شدّها وإذا شاء خلعها، فأهوى بها عمرو فانفتحت عن الزرافين واعترض الأسود بقوسه ونشّابه فكسرها، فلما رأى عمرو ذلك أخذ قوسه فركّبها وأوترها وناداه: يا أسود استعن بقوسك فالرمي أحبّ إليّ. فقال الأسود: خدعتني. فقال عمرو: الحرب خدعة، فصارت مثلا، فرماه عمرو ففلق قلبه وخلص الجبلان لطي، فنزلهما بنو الغوث، ونزلت جديلة السهل منهما لذلك. قال عبيد الله الفقير إليه:
في هذا الخبر نظر من وجوه، منها أن جندبا هو الرابع من ولد طيء فكيف يكون رجلا يصلح لمثل هذا الأمر؟ ثم الشعر الذي أنشده وزعم أنه لعمرو ابن الغوث، وقد رواه أبو اليقظان وأحمد بن يحيى ثعلب وغيرهما من الرّواة الثقات لهانىء بن أحمر الكناني شاعر جاهليّ. ثم كيف تكون القوس حديدا وهي لا تنفذ السّهم إلّا برجوعها؟ والحديد إذا اعوجّ لا يرجع البتّة. ثم كيف يصحّ في العقل أن قوسا بزرافين؟
هذا بعيد في العقل إلى غير ذلك من النظر. وقد روى بعض أهل السير من خبر الأسود بن غفار ما هو أقرب إلى القبول من هذا، وهو أنّ الأسود لما أفلت
من حسّان تبّع، كما نذكره إن شاء الله تعالى في خبر اليمامة، أفضى به الهرب حتى لحق بالجبلين قبل أن ينزلهما طيء، وكانت طيء تنزل الجوف من أرض اليمن، وهي اليوم محلّة همدان ومراد، وكان سيّدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طيء وكان الوادي مسبعة وهم قليل عدده
«اجعل ظريبا كحبيب ينسى، *** لكلّ قوم مصبح وممسى»
وظريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون فيه قبل الجبلين، قال فهجمت طيء على النخل بالشّعاب على مواش كثيرة، وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن غفار، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوّفوه، فنزلوا ناحية من الأرض فاستبرؤوها فلم يروا بها أحدا غيره. فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث: يا بنيّ إن قومك قد عرفوا فضلك في الجلد والبأس والرّمي، فاكفنا أمر هذا الرجل، فإن كفيتنا أمره فقد سدت قومك آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل، فسأله، فعجب الأسود من صغر خلق الغوث، فقال له:
من أين أقبلتم؟ فقال له: من اليمن. وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه، فأخبرهم باسمه ونسبه. ثم شغله الغوث ورماه بسهم فقتله، وأقامت طيء بالجبلين وهم بهما إلى الآن. وأما أسامة بن لؤي وابنه الغوث هذا فدرجا ولا عقب لهما.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
115-معجم البلدان (أشكوران)
أَشْكُورَانُ:بالفتح، وضم الكاف، وواو ساكنة، وراء، وألف، ونون: من قرى أصبهان، قال أبو طاهر محمد أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن ابراهيم بن إبروية الأشكوراني: قدم علينا أصبهان وقرأت عليه وسألته عن مولده، فقال: سنة 417.
وتوفي سنة 493، قال: وأشكوران من ضياع أصبهان، وقال: أخبرني جدي أبو أمي أبو نصر منصور بن محمد بن بهرام.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
116-معجم البلدان (بربعيص)
بَرْبَعيصُ:العين مهملة مكسورة، وياء ساكنة، وصاد مهملة، في قول امرئ القيس:
«يذكّرها أوطانها تلّ ماسح، *** منازلها من بربعيص وميسرا»
قال ابن السكيت في شرح هذا البيت: تل ماسح موضع، قلت أنا: هو من أعمال حلب بالشام.
وميسر: مكان، قال وقال أبو عمرو: كانت ببربعيص وميسر وقعة قديمة فإني سألت عنها من لقيت من العلماء فما أخبرني أحد عنها بشيء.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
117-معجم البلدان (برهوت)
بَرَهُوت:بضم الهاء، وسكون الواو، وتاء فوقها نقطتان: واد باليمن يوضع فيه أرواح الكفار، وقيل: برهوت بئر بحضرموت، وقيل: هو اسم للبلد الذي فيه هذه البئر، ورواه ابن دريد برهوت، بضم الباء وسكون الراء، وقيل: هو واد معروف، وقال محمد بن أحمد: وبقرب حضرموت وادي برهوت، وهو الذي قال فيه النبي، صلى الله عليه وسلم: إن فيه أرواح الكفار والمنافقين، وهي بئر عادية في فلاة واد مظلم، وروي عن عليّ، رضي الله عنه، أنه قال: أبغض بقعة في الأرض إلى الله عز وجل، وادي برهوت بحضرموت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار وعنه أنه قال: شرّ بئر في الأرض بئر بلهوت في برهوت تجتمع فيه أرواح الكفار، وحكى الأصمعي عن رجل من حضرموت قال: إنا نجد من ناحية برهوت الرائحة المنتنة الفظيعة جدّا، فيأتينا بعد
ذلك أن عظيما من عظماء الكفار مات فنرى أن تلك الرائحة منه، وعن ابن عباس، رضي الله عنه:
أن أرواح المؤمنين بالجابية من أرض الشام وأرواح الكفار ببرهوت من حضرموت، وقال ابن عيينة:
أخبرني رجل أنه أمسى ببرهوت، قال: فسمعت منه أصوات الحاجّ وضجيجهم، وذكر أبان بن تغلب أن رجلا آواه المبيت إلى وادي برهوت، قال:
فكنت أسمع طول الليل يا دومة يا دومة فذكرت ذلك لرجل من أهل الكتاب، فقال: إن الملك الذي على أرواح الكفار يقال له دومة، وقال النّعمان بن بشير في بنت هانئ الكندية أمّ ولده وكان النعمان قد ولي اليمن:
«إني لعمر أبيك يا ابنة هانئ، *** لو تصحبين ركائبي لشقيت»
«وتسرّ أمك أننا لم نصطحب، *** فدعي التبسّط، للسّفار نسيت»
«واقني حياءك واقعدي مكفيّة، *** إن كنت للرّشد المصيب هديت»
«ولعلّ ذلك أن يراد فتكرهي، *** وهناك إن عفت السّفار عصيت»
«أنّى تذكّرها وغمرة دونها؟ *** هيهات بطن قناة من برهوت»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
118-معجم البلدان (بست)
بُسْت:بالضم: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، وأظنّها من أعمال كابل، فإن قياس ما نجده من أخبارها في الأخبار والفتوح كذا يقتضي، وهي من البلاد الحارة المزاج، وهي كبيرة، ويقال لناحيتها
اليوم: كرم سير، معناه النواحي الحارة المزاج، وهي كثيرة الأنهار والبساتين إلّا أن الخراب فيها ظاهر، وسئل عنها بعض الفضلاء فقال: هي كتثنيتها يعني بستان، وقد خرج منها جماعة من أعيان الفضلاء، منهم: الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد البستي صاحب معالم السنن وغ
«إذا قيل: أيّ الأرض في الناس زينة؟ *** أجبنا وقلنا: أبهج الأرض بستها»
«فلو أنني أدركت يوما عميدها *** لزمت يد البستيّ دهرا، وبستها»
وقال كافور بن عبد الله الإخشيدي الخصيّ اللّيثي الصّوري:
«ضيّعت أيامي ببست، وهمّتي *** تأبى المقام بها على الخسران»
«وإذا الفتى في البؤس أنفق عمره، *** فمن الكفيل له بعمر ثان؟»
وأبو حاتم محمد بن حبّان بن معاذ بن معبد بن سعيد ابن شهيد التميمي، كذا نسبه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد البخاري المعروف بغنجار، ووافقه غيره إلى معبد، ثم قال: ابن هدبة بن مرة بن سعد ابن يزيد بن مرة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ ابن طابخة بن الياس بن مضر الامام العلامة الفاضل المتقن، كان مكثرا من الحديث والرحلة والشيوخ، عالما بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمّل تصانيفه تأمّل منصف علم أن الرجل كان بحرا في العلوم، سافر ما بين الشاش والإسكندرية، وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية، وأخذ فقه الحديث والفرض على معانيه عن إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة، ولازمه وتلمذ له، وصارت تصانيفه عدّة لأصحاب الحديث غير أنها عزيزة الوجود، سمع ببلده بست أبا أحمد إسحاق بن ابراهيم القاضي وأبا الحسن محمد بن عبد الله ابن الجنيد البستي، وبهراة أبا بكر محمد بن عثمان بن سعد الدارمي، وبمرو أبا عبد الله وأبا عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن سليمان السعدي وأبا يزيد محمد بن يحيى بن خالد المديني، وبقرية سنج أبا علي الحسين بن محمد بن مصعب السنجي وأبا عبد الله محمد بن نصر بن ترقل الهورقاني، وبالصغد بما وراء النهر أبا حفص عمر بن محمد بن يحيى الهمداني، وبنسإ أبا العباس الحسن بن سفيان الشيباني ومحمد بن عمر بن يوسف ومحمد بن محمود بن عدي النسويّين، وبنيسابور أبا العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السرّاج الثّقفي وأبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه الأزدي، وبأرغيان أبا عبد الله محمد بن المسيب بن إسحاق الأرغياني، وبجرجان عمران بن موسى بن
مجاشع وأحمد بن محمد بن عبد الكريم الوزّان الجرجانيين، وبالرّيّ أبا القاسم العبّاس بن الفضل بن عاذان المقري وعلي بن الحسن بن مسلم الرّازي، وبالكرج أبا عمارة أحمد بن عمارة بن الحجاج الحافظ والحسين بن إسحاق الأصبهاني، وبعسكر مكرم أبا محمد عبد الله بن أحمد
هارون الزّوزني وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن خشنام الشّروطي وجماعة كثيرة لا تحصى.
أخبرنا القاضي الإمام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الحرستاني اذنا عن أبي القاسم زاهر بن طاره الشّحّامي عن أبي عثمان سعيد البحتري قال: سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: أبو حاتم البستي القاضي كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه، وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن ثم ورد نيسابور سنة 334، وحضرناه يوم جمعة بعد الصلاة فلما سألناه الحديث نظر إلى الناس وأنا أصغرهم سنّا فقال:
استمل، فقلت: نعم، فاستمليت عليه، ثم أقام عندنا وخرج إلى القضاء بنيسابور وغيرها وانصرف إلى وطنه، وكانت الرحلة بخراسان إلى مصنّفاته.
أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي شفاها قال:
أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي اذنا عن أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت كتابة قال: ومن الكتب التي تكثر منافعها إن كانت على قدر ما ترجمها به واضعها مصنّفات أبي حاتم محمد بن حبّان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر السّجزي ووقفني على تذكرة بأسمائها، ولم يقدّر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معروفة عندنا، وأنا أذكر منها ما استحسنته سوى ما عدلت عنه واطرحته: فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء وكتاب التابعين اثنا عشر جزءا وكتاب اتباع التابعين خمسة عشر جزءا وكتاب اتباع التابعين خمسة عشر جزءا وكتاب تبع الاتباع سبعة عشر جزءا وكتاب تبّاع التبع عشرون جزءا وكتاب الفصل بين النقلة عشرة أجزاء وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ عشرة أجزاء وكتاب علل حديث الزّهري عشرون جزءا وكتاب علل حديث مالك عشرة أجزاء وكتاب علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه عشرة أجزاء وكتاب علل ما استند إليه أبو حنيفة عشرة أجزاء وكتاب ما خالف الثّوريّ شعبة ثلاثة أجزاء وكتاب ما انفرد فيه أهل المدينة من السّنن عشرة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل مكة من السنن عشرة أجزاء وكتاب ما عند شعبة عن قتادة وليس عند سعيد عن قتادة جزآن وكتاب غرائب الأخبار عشرون جزءا وكتاب ما أغرب الكوفيون عن البصريين عشرة أجزاء وكتاب ما أغرب البصريون عن الكوفيين ثمانية أجزاء وكتاب أسامي من يعرف بالكنى ثلاثة أجزاء وكتاب كنى من يعرف بالاسامي ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل والوصل عشرة أجزاء وكتاب التمييز بين حديث النضر الحدّاني والنضر الحزّاز جزآن وكتاب الفصل بين حديث أشعث بن مالك وأشعث بن سوار جزآن وكتاب الفصل بين حديث منصور بن المعتمر ومنصور ابن راذان ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل بين مكحول الشامي ومكحول الأزدي جزء وكتاب موقوف ما رفع عشرة أجزاء وكتاب آداب الرجالة جزآن وكتاب ما أسند جنادة عن عبادة جزء وكتاب الفصل بين حديث نور بن يزيد ونور بن زيد جزء وكتاب ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر جزآن وكتاب ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان ثلاثة أجزاء وكتاب مناقب مالك بن أنس جزآن وكتاب مناقب الشافعي جزآن وكتاب المعجم على المدن عشرة أجزاء وكتاب المقلّين من الحجازيين عشرة أجزاء وكتاب المقلّين من العراقيين عشرون جزءا وكتاب الأبواب المتفرّقة ثلاثون جزءا وكتاب الجمع بين الأخبار المتضادّة جزآن وكتاب وصف
المعدل والمعدّل جزآن وكتاب الفصل بين حدثنا وأخبرنا جزء وكتاب وصف العلوم وأنواعها ثلاثون جزءا وكتاب الهداية إلى علم السنن، قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه، يذكر حديثا ويترجم له ثم يذكر من يتفرّد بذلك الحديث ومن مفاريد أيّ بلد هو ث
وأخبرني القاضي أبو القاسم الحرستاني في كتابه قال:
أخبرني وجيه بن طاهر الخطيب بقصر الريح اذنا سمعت الحسن بن أحمد الحافظ سمعت أبا بشر
النيسابوري يقول سمعت أبا سعيد الإدريسي يقول سمعت أبا حامد أحمد بن محمد بن سعيد النيسابوري الرجل الصالح بسمرقند يقول: كنّا مع أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في بعض الطريق من نيسابور وكان معنا أبو حاتم البستي، وكان يسأله ويؤذيه، فقال له محمد بن إسحاق بن
سمعت أبا عليّ الحسين بن عليّ الحافظ وذكر كتاب المجروحين لأبي حاتم البستي فقال: كان لعمر بن سعيد بن سنان المنبجي ابن رحل في طلب الحديث وأدرك هؤلاء الشيوخ وهذا تصنيفه، وأساء القول في أبي حاتم، قال: الحاكم أبو حاتم كبير في العلوم وكان يحسد لفضله وتقدّمه، ونقلت من خطّ صديقنا الإمام الحافظ أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن هبة الله بن وهبان السّلمي الحديثي، وذكر أنه نقله من خطّ أبي الفضل أحمد بن علي بن عمرو السليماني البيكندي الحافظ من كتاب شيوخه، وكان قد ذكر فيه ألف شيخ في باب الكذّابين، قال: وأبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي قدم علينا من سمرقند سنة 330 أو 329، فقال لي: أبو حاتم سهل ابن السري الحافظ لا تكتب عنه فإنه كذّاب، وقد صنف لأبي الطيب المصعبي كتابا في القرامطة حتى قلّده قضاء سمرقند، فلما أخبر أهل سمرقند بذلك أرادوا أن يقتلوه فهرب ودخل بخارى وأقام دلّالا في البزّازين حتى اشترى له ثيابا بخمسة آلاف درهم إلى شهرين، وهرب في الليل وذهب بأموال الناس، قال: وسمعت السليماني الحافظ بنيسابور قال لي:
كتبت عن أبي حاتم البستي؟ فقلت: نعم، فقال.
إياك أن تروي عنه فإنه جاءني فكتب مصنّفاتي وروى عن مشايخي ثم إنه خرج إلى سجستان بكتابه في القرامطة إلى ابن بابو حتى قبله وقلّده أعمال سجستان فمات به، قال السليماني: فرأيت وجهه وجه الكذّابين وكلامه كلام الكذابين، وكان يقول:
يا بني اكتب: أبو حاتم محمد بن حبان البستي إمام الائمة، حتى كتبت بين يديه ثم محوته، قال أبو يعقوب إسحاق بن أبي إسحاق القرّاب: سمعت أحمد ابن محمد بن صالح السجستاني يقول: توفي أبو حاتم محمد بن أحمد بن حبان سنة 354، وعن شيخنا أبي القاسم الحرستاني عن أبي القاسم الشّحّامي عن أبي عثمان سعيد بن محمد البحتري، سمعت محمد بن عبد الله الضّبّيّ يقول: توفي أبو حاتم البستي ليلة الجمعة لثماني ليال بقين من شوّال سنة 354، ودفن بعد صلاة الجمعة في الصّفّة التي ابتناها بمدينة بست بقرب داره، وذكر أبو عبد الله الغنجار الحافظ في تاريخ بخارى أنه مات بسجستان سنة 354، وقبره ببست معروف يزار إلى الآن، فإن لم يكن نقل من سجستان إليها بعد الموت وإلّا فالصواب أنه مات ببست.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
119-معجم البلدان (البشمور)
البُشمُورُ:بالضم: كورة بمصر قرب دمياط، وفيها قرى وريف وغياض، وفيها كباش ليس في الدنيا مثلها عظما وحسنا وعظم الأليات، وذلك أن الكبش لا يستطيع حمل أليته، فيعمل له عجلة تحمل عليها أليته وتشدّ تلك العجلة بحبل إلى عنقه، فيظلّ يرعى وهو يجرّ العجلة التي تحمل أليته، وهي ألية فيها طول تشبه أليات الكباش الكردية، فإذا نزعت
العجلة أو انقطعت وسقطت أليته على الأرض ربض الكبش ولم يمكنه القيام لثقلها، فإذا كان أيام السفاد رفع الراعي ألية الأنثى حتى يضربها الفحل ضربة خفيفة، ولا يوجد هذا النوع من الضّأن في موضع آخر من الدنيا، أخبرني بذلك جماعة من أهل مصر والبشمور باتفاق لم يختلفوا في شيء منه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
120-معجم البلدان (البصرة)
البَصْرَةُ:وهما بصرتان: العظمى بالعراق وأخرى بالمغرب، وأنا أبدأ أولا بالعظمى التي بالعراق، وأما البصرتان: فالكوفة والبصرة، قال المنجمون:
البصرة طولها أربع وسبعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الثالث، قال ابن الأنباري: البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال قطرب: البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدوابّ، قال:
ويقال بصرة للأرض الغليظة، وقال غيره: البصرة حجارة رخوة فيها بياض، وقال ابن الأعرابي:
البصرة حجارة صلاب، قال: وإنما سميت بصرة لغلظها وشدّتها، كما تقول: ثوب ذو بصر وسقاء ذو بصر إذا كان شديدا جيّدا، قال: ورأيت في تلك الحجارة في أعلى المربد بيضا صلابا، وذكر الشرقي بن القطامي أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة أن البصرة الطين العلك، وقيل: الأرض الطيبة الحمراء، وذكر أحمد بن محمد الهمداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حسنة أنه قال: إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة، وهي البصرة، وأنشد لخفاف بن ندبة:
«إن تك جلمود بصر لا أؤبّسه *** أوقد عليه فأحميه فينصدع»
وقال الطّرمّاح بن حكيم:
«مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى، *** من النّيق فوق البصرة، المتطحطح»
وهذان البيتان يدلان على الصلابة لا الرخاوة، وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني: سمعت موبذ بن اسوهشت يقول: البصرة تعريب بس راه، لأنها كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة، وقال قوم: البصر والبصر الكذّان، وهي الحجارة التي ليست بصلبة، سمّيت بها البصرة، كانت ببقعتها عند اختطاطها، واحده بصرة وبصرة، وقال الأزهري: البصر الحجارة إلى البياض، بالكسر، فإذا جاءوا بالهاء قالوا: بصرة، وأنشد بيت خفاف:
«إن كنت جلمود بصر»، وأما النسب إليها فقال بعض أهل اللغة: إنما قيل في النسب إليها بصريّ، بكسر الباء لإسقاط الهاء، فوجوب كسر الباء في البصري مما غيّر في النسب، كما قيل في النسب إلى اليمن يمان وإلى تهامة تهام وإلى الرّيّ رازيّ وما أشبه ذلك من المغيّر، وأما فتحها وتمصيرها فقد روى أهل الأثر عن نافع بن الحارث بن كلدة الثّقفي وغيره أن عمر بن الخطاب أراد أن يتخذ للمسلمين مصرا، وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين توّج ونوبندجان وطاسان، فلما فتحوها كتبوا إليه:
إنا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به. فكتب إليهم:
إن بيني وبينكم دجلة، لا حاجة في شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. ثم قدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت، فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه مسالح للعجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة، بينه وبين دجلة أربعة فراسخ، له خليج بحريّ فيه الماء إلى أجمة قصب، فأعجب ذلك عمر، وكانت قد جاءته أخبار الفتوح من ناحية الحيرة، وكان سويد ابن قطبة الذّهلي، وبعضهم يقول قطبة بن قتادة، يغير في ناحية الخريبة من البصرة على العجم، كما كان
المثنّى بن حارثة يغير بناحية الحيرة، فلما قدم خالد ابن الوليد البصرة من اليمامة والبحرين مجتازا إلى الكوفة بالحيرة، سنة اثنتي عشرة، أعانه على حرب من هنالك وخلّف سويدا، ويقال: إن خالدا لم يرحل من البصرة حتى فتح الخريبة، وكانت مسلحة للأعاجم، وقتل وسبى، و
فأتاها عتبة وانضمّ إليه سويد بن قطبة فيمن معه من بكر بن وائل وتميم.
قال نافع بن الحارث: فلما أبصرتنا الديادبة خرجوا هرّابا وجئنا القصر فنزلناه، فقال عتبة: ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال: فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرزّ بقشره، فجذبناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما، فقال عتبة: هذا سمّ أعدّه لكم العدوّ، يعني الأرز، فلا تقربنّه، فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه، فإننا لكذلك إذا بفرس قد قطع قياده وأتى ذلك الأرز يأكل منه، فلقد رأينا أن نسعى بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت، فقال صاحبه: أمسكوا عنه، أحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه، فقالت أختي: يا أخي إني سمعت أبي يقول: إن السمّ لا يضرّ إذا نضج، فأخذت من الأرز توقد تحته ثم نادت: الا انه يتفصّى من حبيبة حمراء، ثم قالت: قد جعلت تكون بيضاء، فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة، فقال عتبة: اذكروا اسم الله عليه وكلوه، فأكلوا منه فإذا هو طيب، قال: فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه، فلقد رأيتني بعد ذلك وأنا أعدّه لولدي، ثم قال: إنا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهنّ أختي. وأمدّ عمر عتبة بهرثمة بن عرفجة، وكان بالبحرين فشهد بعض هذه الحروب ثم سار إلى الموصل، قال: وبنى المسلمون بالبصرة سبع دساكر: اثنتان بالخريبة واثنتان بالزابوقة وثلاث في موضع دار الأزد اليوم، وفي غير هذه الرواية أنهم بنوها بلبن: في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، ففرّق أصحابه فيها ونزل هو الخريبة. قال نافع: ولما بلغنا ستمائة قلنا: ألا نسير إلى الأبلّة فإنها مدينة حصينة، فسرنا إليها ومعنا العنز، وهي جمع عنزة وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي رأسها زجّ، وسيوفنا، وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهن أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنا قد دنونا من المدينة، فلما دنونا منها صففنا أصحابنا، قال:
وفيها ديادبتهم وقد أعدّوا السّفن في دجلة، فخرجوا إلينا في الحديد مسوّمين لا نرى منهم إلا الحدق، قال: فو الله ما خرج أحدهم حتى رجع بعضهم إلى
بعض قتلا، وكان الأكثر قد قتل بعضهم بعضا، ونزلوا السّفن وعبروا إلى الجانب الآخر وانتهى إلينا النساء، وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم: ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا: عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه، ير
ما نرى سمنا، وقال عوانة بن الحكم: كانت مع عتبة بن غزوان لما قدم البصرة زوجته أزدة بنت الحارث بن كلدة ونافع وأبو بكرة وزياد، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرّض المؤمنين على القتال، وهي تقول: إن يهزموكم يولجوا فينا الغلف، ففتح الله على المسلمين تلك المدينة وأصابوا غنائم كثيرة ولم يكن فيهم أحد يحسب ويكتب إلا زياد فولّاه قسم ذلك الغنم وجعل له في كل يوم درهمين، وهو غلام في رأسه ذؤابة، ثم إن عتبة كتب إلى عمر يستأذنه في تمصير البصرة وقال:
إنه لا بدّ للمسلمين من منزل إذا أشتى شتوا فيه وإذا رجعوا من غزوهم لجأوا إليه، فكتب إليه عمر أن ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته، فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. والقضّة من المضاعف: الحجارة المجتمعة المتشقّقة، وقيل: ارض قضّة ذات حصّى، وأما القضة، بالكسر والتخفيف: ففي كتاب العين أنها أرض منخفضة ترابها رمل، وقال الأزهري:
الأرض التي ترابها رمل يقال لها قضّة، بكسر القاف وتشديد الضاد، وأما القضة، بالتخفيف:، فهو شجر من شجر الحمض، ويجمع على قضين، وليس من المضاعف، وقد يجمع على القضى مثل البرى، وقال أبو نصر الجوهري: القضّة، بكسر القاف والتشديد، الحصى الصغار، والقضة أيضا أرض ذات حصّى، قال: ولما وصلت الرسالة إلى عمر قال: هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب، فكتب إليه أن أنزلها، فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم، وكانت تسمّى الدهناء، وفيها السّجن والديوان وحمّام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان. وقال الأصمعي: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود ولد بالبصرة، فنحر أبوه جزورا أشبع منها أهل البصرة، وكان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة قبل الكوفة بستّة أشهر، وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال: هذه أرض نخل، ثم غرس الناس بعده، وقال أبو المنذر:
أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني، وقد روي من غير هذا الوجه أنّ الله عزّ وجل، لما أظفر سعد بن أبي وقّاص بأرض الحيرة وما قاربها كتب إليه عمر بن الخطاب أن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا وقد شهد بدرا، وكانت الأبلّة يومئذ تسمّى أرض الهند، فلينزلها ويجعلها قيروانا للمسلمين ولا يجعل بيني وبينهم بحرا، فخرج عتبة من الحيرة في ثمانمائة رجل حتى نزل موضع البصرة، فلما افتتح الأبلّة ضرب قيروانه وضرب للمسلمين أخبيتهم، وكانت خيمة عتبة من أكسية، ورماه عمر بالرجال
فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن، منها في الخريبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، وكان سعد بن أبي وقاص يكاتب عتبة بأمره ونهيه، فأنف عتبة من ذلك واستأذن عمر في الشخوص إليه، فأذن له، فاستخلف مجاشع بن مسعود السّلمي على جنده، وك
فلقد جرّبناهم فوجدنا له الفضل عليهم، قال: وشكا عتبة إلى عمر تسلّط سعد عليه، فقال له: وما عليك إذا أقررت بالإمارة لرجل من قريش له صحبة وشرف؟ فامتنع من الرجوع فأبى عمر إلّا ردّه، فسقط عن راحلته في الطريق فمات، وذلك في سنة ست عشرة، قال: ولما سار عتبة عن البصرة بلغ المغيرة أنّ دهقان ميسان كفر ورجع عن الإسلام وأقبل نحو البصرة، وكان عتبة قد غزاها وفتحها، فسار إليه المغيرة فلقيه بالمنعرج فهزمه وقتله، وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح منه، فدعا عمر عتبة وقال له: ألم تعلمني أنك استخلفت مجاشعا؟ قال.
نعم، قال: فإنّ المغيرة كتب إليّ بكذا، فقال:
إن مجاشعا كان غائبا فأمرت المغيرة بالصلاة إلى أن يرجع مجاشع، فقال عمر: لعمري إن أهل المدر لأولى أن يستعملوا من أهل الوبر، يعني بأهل المدر المغيرة لأنه من أهل الطائف، وهي مدينة، وبأهل الوبر مجاشعا لأنه من أهل البادية، وأقرّ المغيرة على البصرة، فلما كان مع أمّ جميلة وشهد القوم عليه بالزنا كما ذكرناه في كتاب المبدأ والمآل من جمعنا، استعمل عمر على البصرة أبا موسى الأشعري، أرسله إليها وأمره بإنفاذ المغيرة إليه، وقيل: كان أبو موسى بالبصرة فكاتبه عمر بولايتها، وذلك في سنة ست عشرة وقيل في سنة سبع عشرة، وولي أبو موسى والجامع بحاله وحيطانه قصب فبناه أبو موسى باللبن، وكذلك دار الإمارة، وكان المنبر في وسطه، وكان الإمام إذا جاء للصلاة بالناس تخطّى رقابهم إلى القبلة، فخرج عبد الله بن عامر بن كريز، وهو أمير لعثمان على البصرة، ذات يوم من دار الإمارة يريد القبلة وعليه جبّة خزّ دكناء، فجعل الأعراب يقولون: على الأمير جلد دبّ، فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة قال زياد: لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس، فحوّل دار الإمارة من الدهناء إلى قبل المسجد وحوّل المنبر إلى صدره، فكان الإمام يخرج من الدار من الباب الذي في حائط القبلة إلى القبلة ولا يتخطى أحدا، وزاد في حائط المسجد زيادات كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص وسقفه بالساج، فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه البصرة فلم يعب فيه إلّا دقة الأساطين، قال: ولم يؤت منها قط صدع ولا ميل ولا عيب، وفيه يقول حارثة ابن بدر الغداني:
«بنى زياد، لذكر الله، مصنعه *** بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين»
«لولا تعاون أيدي الرافعين له، *** إذا ظنناه أعمال الشياطين»
وجاء بسواريه من الأهواز، وكان قد ولى بناءه الحجاج بن عتيك الثّقفي فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل، ففيه قيل:
«يا حبّذا الإماره *** ولو على الحجاره»
وقيل: إن أرض المسجد كانت تربة فكانوا إذا فرغوا من الصلاة نفضوا أيديهم من التراب، فلما رأى زياد ذلك قال: لا آمن أن يظنّ الناس على طول الأيام أن نفض اليد في الصلاة سنّة، فأمر بجمع الحصى وإلقائه في المسجد الجامع، ووظّف ذلك على الناس، فاشتد الموكّلون بذلك
«يا حبذا الإماره *** ولو على الحجاره»
فذهبت مثلا، وكان جانب الجامع الشمالي منزويا لأنه كان دارا لنافع بن الحارث أخي زياد فأبى أن يبيعها، فلم يزل على تلك الحال حتى ولّى معاوية عبيد الله بن زياد على البصرة، فقال عبيد الله بن زياد:
إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة فاعلمني.
فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضجّ، فقال له: إني أثمن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك، فرضي فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد فدخلت الدار كلّها في المسجد، ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد، وقد أمر بذلك الرشيد، ولما قدم الحجّاج خبّر أن زيادا بنى دار الإمارة فأراد أن يذهب ذكر زياد منها فقال: أريد أن أبنيها بالآجرّ، فهدمها، فقيل له: إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد منها، فما حاجتك أن تعظم النفقة وليس يزول ذكره عنها، فتركها مهدومة، فلم يكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين، فقال له صالح إنه ليس بالبصرة دار إمارة وخبّره خبر الحجاج، فقال له سليمان: أعدها، فأعادها بالجصّ والآجرّ على أساسها الذي كان ورفع سمكها، فلما أعاد أبوابها عليها قصرت، فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة، فبنى فوقها غرفا فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه:
هبلتك أمك يا ابن عمّ عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابنه؟ فأمسك عدي عن بنائها، فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفّاح أنشأ فوق البناء الذي كان لعديّ بناء بالطين ثمّ تحوّل إلى المربد، فلما ولي الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة مسجد الجامع فلم يبق للأمراء بالبصرة دار إمارة، وقال يزيد الرّشك: قست البصرة في ولاية خالد بن عبد الله القسري فوجدت طولها فرسخين وعرضها فرسخين إلّا دانقا، وعن الوليد بن هشام أخبرني أبي عن أبيه وكان يوسف بن عمر قد ولاه ديوان جند البصرة قال:
نظرت في جماعة مقاتلة العرب بالبصرة أيام زياد فوجدتهم ثمانين ألفا ووجدت عيالاتهم مائة ألف وعشرين ألف عيّل ووجدت مقاتلة الكوفة ستين ألفا وعيالاتهم ثمانين ألفا.
ذكر خطط البصرة وقراها
وقد ذكرت بعض ذلك في أبوابه وذكرت بعضه هاهنا، قال أحمد بن يحيى بن جابر: كان حمران ابن أبان للمسيّب بن نجبة الفزاري أصابه بعين التمر فابتاعه منه عثمان بن عفّان وعلمه الكتابة واتخذه كاتبا، ثم وجد عليه لأنه كان وجّهه للمسألة عما رفع على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فارتشى منه وكذّب ما قيل فيه، ثم تيقّن عثمان صحة ذلك فوجد عليه
وقال: لا تساكنّي أبدا، وخيّره بلدا يسكنه غير المدينة، فاختار البصرة وسأله أن يقطعه بها دارا وذكر ذرعا كثيرا استكثره عثمان وقال لابن عامر:
أعطه دارا مثل بعض دورك، فأقطعه دار حمران التي بالبصرة في سكة بني سمرة بالبصرة، كان صاحبها عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، قال المدايني: قال أبو بكرة لابنه: يا بنيّ والله ما تلي عملا قط وما أراك تقصر عن إخوتك في النفقة، فقال: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: فإني أغتلّ من حمّامي هذا في كلّ يوم ألف درهم وطعاما كثيرا. ثم إنّ مسلما مرض فأوصى إلى أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأخبره بغلة حمّامه، فأفشى ذلك واستأذن السلطان في بناء حمّام، وكانت الحمامات لا تبنى بالبصرة إلّا بإذن الولاة، فأذن له واستأذن غيره فأذن له وكثرت الحمامات، فأفاق مسلم بن أبي بكرة من مرضه وقد فسد عليه حمّامه فجعل يلعن عبد الرحمن ويقول: ما له قطع الله رحمه! وكان لزياد مولى يقال له فيل، وكان حاجبه، فكان يضرب المثل بحمّامه بالبصرة، وقد ذكرته في حمام فيل. نهر عمرو: ينسب إلى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان. نهر ابن عمير: منسوب إلى عبد الله بن عمير بن عمرو بن مالك اللّيثي، كان عبد الله بن عامر بن كريز أقطعه ثمانية آلاف جريب فحفر عليها هذا النهر، ومن اصطلاح أهل البصرة أن يزيدوا في اسم الرجل الذي تنسب إليه القرية ألفا ونونا، نحو قولهم طلحتان:
نهر ينسب إلى طلحة بن أبي رافع مولى طلحة بن عبيد الله. خيرتان: منسوب إلى خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلّب بن أبي صفرة. مهلّبان:
منسوب إلى المهلّب بن أبي صفرة، ويقال بل كان لزوجته خيرة فغلب عليه اسم المهلب، وهي أمّ أبي عيينة ابنه. وجبيران: قرية لجبير بن حيّة.
وخلفان: قطيعة لعبد الله بن خلف الخزاعي والد طلحة الطلحات. طليقان: لولد خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي، وكان خالد ولي قضاء البصرة. روّادان: لروّاد بن ابي بكرة.
شط عثمان: ينسب إلى عثمان بن أبي العاصي الثقفي، وقد ذكرته، فأقطع عثمان أخاه حفصا حفصان وأخاه أميّة أميّان وأخاه الحكم حكمان وأخاه المغيرة مغيرتان. أزرقان: ينسب إلى الأزرق بن مسلم مولى بني حنيفة. محمّدان: منسوب إلى محمد ابن علي بن عثمان الحنفي. زيادان: منسوب إلى زياد مولى بني الهجيم جدّ مونس بن عمران بن جميع بن يسار بن زياد وجد عيسى بن عمر النحوي لأمّهما.
عميران: منسوب إلى عبد الله بن عمير الليثي. نهر مقاتل بن حارثة بن قدامة السعدي. وحصينان:
لحصين بن أبي الحرّ العنبري. عبد الليان: لعبد الله بن أبي بكرة. عبيدان: لعبيد بن كعب النّميري. منقذان: لمنقذ بن علاج السّلمي. عبد الرحمانان: لعبد الرحمن بن زياد. نافعان: لنافع ابن الحارث الثقفي. أسلمان: لأسلم بن زرعة الكلابي. حمرانان: لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان. قتيبتان: لقتيبة بن مسلم. خشخشان:
لآل الخشخاش العنبري. نهر البنات: لبنات زياد، أقطع كلّ بنت ستين جريبا، وكذلك كان يقطع العامة. سعيدان: لآل سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. سليمانان: قطيعة لعبيد بن نشيط صاحب الطرف أيام الحجاج، فرابط به رجل من الزهاد يقال له سليمان بن جابر فنسب إليه. عمران:
لعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. فيلان: لفيل
مولى زياد. خالدان: لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. المسماريّة: قطيعة مسمار مولى زياد بن أبيه، وله بالكوفة ضيعة.
سويدان: كانت لعبيد الله بن أبي بكرة قطيعة مبلغها أربعمائة جريب فوهبها لسويد بن منجوف السّدوسي، وذلك أن سويدا مرض فعاده عبيد الله بن أبي بكرة فقال له: كيف تجدك؟ فقال: صالحا إن شئت، فقال: قد شئت، وما ذلك؟ قال: إن أعطيتني مثل الذي أعطيت ابن معمر فليس عليّ بأس، فأعطاه سويدان فنسب إليه. جبيران: لآل كلثوم بن جبير. نهر أبي برذعة بن عبيد الله بن أبي بكرة.
كثيران: لكثير بن سيّار. بلالان: لبلال بن أبي بردة، كانت قطيعة لعبّاد بن زياد فاشتراه. شبلان:
لشبل بن عميرة بن تيري الضّبيّ.
ذكر ما جاءَ في ذم البصرة
لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة يا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة يا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، أما إني ما أقول ما أقول رغبة ولا رهبة منكم غير أني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة، أقوم أرض الله قبلة، قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس وعالمها أعلم الناس ومتصدقها أعظم الناس صدقة، منها إلى قرية يقال لها الأبلّة أربعة فراسخ يستشهد عند مسجد جامعها وموضع عشورها ثمانون ألف شهيد، الشهيد يومئذ كالشهيد يوم بدر معي، وهذا الخبر بالمدح أشبه، وفي رواية أخرى أنه رقي المنبر فقال:
يا أهل البصرة ويا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، دينكم نفاق وأحلامكم دقاق وماؤكم زعاق، يا أهل البصرة والبصيرة والسّبخة والخريبة أرضكم أبعد أرض الله من السماء وأقربها من الماء وأسرعها خرابا وغرقا، ألا إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أما علمت أن جبريل حمل جميع الأرض على منكبه الأيمن فأتاني بها؟ ألا إني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثها ترابا وأسرعها خرابا، ليأتينّ عليها يوم لا يرى منها إلا شرفات جامعها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر، ثم قال: ويحك يا بصرة ويلك من جيش لا غبار له! فقيل: يا أمير المؤمنين ما الويح وما الويل؟ فقال: الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب، وفي رواية أن عليّا، رضي الله عنه، لما فرغ من وقعة الجمل دخل البصرة فأتى مسجدها الجامع فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، فان الله ذو رحمة واسعة فما ظنكم يا أهل البصرة يا أهل السبخة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثا وعلى الله الرابعة يا جند المرأة، ثم ذكر الذي قبله ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم وأطيعوا الله وسلطانكم، وخرج حتى صار إلى المربد والتفت وقال: الحمد لله الذي أخرجني من شرّ البقاع ترابا وأسرعها خرابا. ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس، أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناءة فلا ينفق في شهر إلّا درهمين، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم، وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له استه يخرأ ويبيع، وقال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد لأنهم يلبسون القمص مرة والمبطّنات مرة لاختلاف جواهر
الساعات، ولذلك سمّيت الرّعناء، قال الفرزدق:
«لولا أبو مالك المرجوّ نائله *** ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا»
وقد وصف هذه الحال ابن لنكك فقال:
«نحن بالبصرة في لو *** ن من العيش ظريف»
«نحن، ما هبّت شمال، *** بين جنّات وريف»
«فإذا هبّت جنوب، *** فكأنّا في كنيف»
وللحشوش بالبصرة أثمان وافرة، ولها فيما زعموا تجار يجمعونها فإذا كثرت جمع عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل إليهم نتنها فإنه كلما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد الناس فيها، وقد قصّ هذه القصة صريع الدّلاء البصري في شعر له ولم يحضرني الآن، وقد ذمّتها الشعراء، فقال محمد بن حازم الباهلي:
«ترى البصريّ ليس به خفاء، *** لمنخره من البثر انتشار»
«ربا بين الحشوش وشبّ فيها، *** فمن ريح الحشوش به اصفرار»
«يعتّق سلحة، كيما يغالي *** به عند المبايعة التجار»
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي:
«لهف نفسي على المقام ببغدا *** د، وشربي من ماء كوز بثلج»
«نحن بالبصرة الذميمة نسقي، *** شرّ سقيا، من مائها الأترنجي»
«أصفر منكر ثقيل غليظ *** خاثر مثل حقنة القولنج»
«كيف نرضى بمائها، وبخير *** منه في كنف أرضنا نستنجي»
وقال أيضا:
«ليس يغنيك في الطهارة بال *** بصرة، إن حانت الصلاة، اجتهاد»
«إن تطهّرت فالمياه سلاح، *** أو تيمّمت فالصعيد سماد»
وقال شاعر آخر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم:
«أبغضت بالبصرة أهل الغنى، *** إني لأمثالهم باغض»
«قد دثّروا في الشمس أعذاقها، *** كأنّ حمّى بخلهم نافض»
ذكر ما جاء في مدح البصرة
كان ابن أبي ليلى يقول: ما رأيت بلدا أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة، وقال شعيب بن صخر:
تذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها، وقال ابن سيرين: كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه إذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب على المغيرة وعزله عن البصرة وولاه الكوفة، وقال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
«يا جنّة فاقت الجنان، فما *** يعدلها قيمة ولا ثمن»
«ألفتها فاتخذتها وطنا، *** إنّ فؤادي لمثلها وطن»
«زوّج حيتانها الضّباب بها، *** فهذه كنّة وذا ختن»
«فانظر وفكّر لما نطقت به، *** إنّ الأديب المفكّر الفطن»
«من سفن كالنّعام مقبلة، *** ومن نعام كأنها سفن»
وقال المدائني: وفد خالد بن صفوان على عبد الملك ابن مروان فوافق عنده وفود جميع الأمصار وقد اتخذ مسلمة مصانع له، فسأل عبد الملك أن يأذن للوفود في الخروج معه إلى تلك المصانع، فأذن لهم، فلما نظر إليها مسلمة أعجب بها فأقبل على وفد أهل مكة فقال: يا أهل مكة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فقالوا: لا الا أن فينا بيت الله المستقبل، ثم أقبل على وفد أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة هل فيكم مثل هذه؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا قبر نبي الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة هل فيكم مثل هذه المصانع؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا تلاوة كتاب الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل البصرة فقال: يا أهل البصرة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فتكلم خالد بن صفوان وقال: أصلح الله الأمير! إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم ولو أن عندك من له ببلادهم خبرة لأجاب عنهم، قال: أفعندك في بلادك غير ما قالوا في بلادهم؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! أصف لك بلادنا؟ فقال: هات، قال: يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشّبوط والشّيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا، بيوتنا الذهب ونهرنا العجب أوله الرّطب وأوسطه العنب وآخره القصب، فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه كالزّيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه كذاك على أغصانه، هذا في زمانه كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل يخرجن أسفاطا عظاما وأقساطا ضخاما، وفي رواية: يخرجن أسفاطا وأقساطا كأنما ملئت رياطا، ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض ثم تتبدّل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر ثم تصير عسلا في شنّة من سحاء ليست بقربة ولا إناء حولها المذابّ ودونها الجراب لا يقربها الذباب مرفوعة عن التراب ثم تصير ذهبا في كيسة الرجال يستعان به على العيال، وأما نهرنا العجب فإنّ الماء يقبل عنقا فيفيض مندفقا فيغسل غثّها ويبدي مبثّها، يأتينا في أوان عطشنا ويذهب في زمان ريّنا فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا فيقبل الماء وله ازدياد وعباب ولا يحجبنا عنه حجاب ولا تغلق دونه الأبواب ولا يتنافس فيه من قلّة ولا يحبس عنّا من علّة، وأما بيوتنا الذهب فإنّ لنا عليهم خرجا في السنين والشهور نأخذه في أوقاته ويسلمه الله تعالى من آفاته وننفقه في مرضاته، فقال له مسلمة: أنّى لكم هذه يا ابن صفوان ولم تغلبوا عليها ولم تسبقوا إليها؟ فقال: ورثناها عن الآباء ونعمّرها للأبناء ويدفع لنا عنها ربّ السماء ومثلنا فيها كما قال معن بن أوس:
«إذا ما بحر خندف جاش يوما *** يغطمط موجه المتعرّضينا»
«فمهما كان من خير، فإنّا *** ورثناها أوائل أوّلينا»
«وإنّا مورثون، كما ورثنا *** عن الآباء إن متنا، بنينا»
وقال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كلّ ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقال أبو حاتم: ومن العجائب، وهو مما أكرم الله به الإسلام، أنّ النخل لا يوجد إلّا في بلاد الإسلام البتة مع أن بلاد الهند والحبش والنوبة بلاد حارة خليقة بوجود النخل فيها، وقال ابن أبي عيينة يتشوّق البصرة:
«فإن أشك من ليلي بجرجان طوله، *** فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر»
«فيا نفس قد بدّلت بؤسا بنعمة، *** ويا عين قد بدّلت من قرّة عبر»
«ويا حبذاك السائلي فيم فكرتي *** وهمّي، ألا في البصرة الهمّ والفكر»
«فيا حبّذا ظهر الحزيز وبطنه، *** ويا حسن واديه، إذا ماؤه زخر»
«ويا حبذا نهر الأبلّة منظرا، *** إذا مدّ في إبّانه الماء أو جزر»
«ويا حسن تلك الجاريات، إذا غدت *** مع الماء تجري مصعدات وتنحدر»
«فيا ندمي إذ ليس تغني ندامتي! *** ويا حذري إذ ليس ينفعني الحذر! »
«وقائلة: ماذا نبا بك عنهم؟ *** فقلت لها: لا علم لي، فاسألي القدر»
وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أنّ عدد المدّ والجزر في جميع الدهر شيء واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتدّ عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلّا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبّها ظمأ ولا عطشا، يجيء على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلّات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة، قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلّا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدّا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرّتين، فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بيّنا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمدّ كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمدّ في كل يوم أكثر من مدّه في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مدّه في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار، قال الجاحظ: والأعجوبة الثانية ادّعاء أهل أنطاكية وأهل حمص وجميع بلاد الفراعنة
الطلسمات، وهي بدون ما لأهل البصرة، وذاك أن لو التمست في جميع بيادرها وربطها المعوّذة وغيرها على نخلها في جميع معاصر دبسها أن تصيب ذبابة واحدة لما وجدتها إلا في الفرط، ولو أن معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسنّاة لما استبقيتها من كثرة الذّبّان، والأعجوبة الثالثة أن الغربان القواطع في الخريف يجيء منها ما يسوّد جميع نخل البصرة وأشجارها حتى لا يرى غصن واحد إلا وقد تأطّر بكثرة ما عليه منها ولا كربة غليظة إلا وقد كادت أن تندقّ لكثرة ما ركبها منها، ثم لم يوجد في جميع الدهر غراب واحد ساقط إلا على نخلة مصرومة ولم يبق منها عذق واحد، ومناقير الغربان معاول وتمر الأعذاق في ذلك الإبّان غير متماسكة، فلو خلاها الله تعالى ولم يمسكها بلطفه لاكتفى كل عذق منها بنقرة واحدة حتى لم يبق عليها إلا اليسير، ثم هي في ذلك تنتظر أن تصرم فإذا أتى الصرام على آخرها عذقا رأيتها سوداء ثم تخللت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلا استخرجتها، فسبحان من قدّر لهم ذلك وأراهم هذه الأعجوبة، وبين البصرة والمدينة نحو عشرين مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة قرب معدن النّقرة، وأخبار البصرة كثيرة والمنسوبون إليها من أهل العلم لا يحصون، وقد صنف عمر بن شبّة وأبو يحيى زكرياء الساجي وغيرهما في فضائلها كتابا في مجلدات، والذي ذكرناه كاف.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
121-معجم البلدان (بطروش)
بِطْرَوْشُ:بالكسر ثم السكون، وفتح الراء، وسكون الواو، وشين معجمة: بلدة بالأندلس، وهي مدينة فحص البلّوط فيما حكاه عنهم السلفي، منها أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن البطروشي، فقيه كبير حافظ لمذهب مالك، قرأ على أبي الحسن أحمد ابن محمد وغيره، الفقه، وروى الحديث عن محمد بن فرّوخ بن الطلاع وطبقته، وأخذ كتب ابن حزم عن ابنه أبي رافع أسامة بن عليّ بن حزم الطاهري، كان يوما في مقبرة قرطبة فقال: أخبرني صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر أبي الوليد يونس بن عبد الله ابن الصّفّار عن صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر أبي عيسى عن صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر عبد الله عن صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر أبيه يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس المديني، قال: فاستحسن ذلك منه كلّ من حضر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
122-معجم البلدان (بغداد)
بَغْدَادُ:أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري:
أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا:
ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال:
هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات:
بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي:
كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال:
لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:
بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطية
الملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم ال
فصل
في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من
بارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد
وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال:
هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني
هذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت:
أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها:
افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.
قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة:
وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك.
وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ
الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا:
هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه.
فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد
ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال:
أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:
«أعاينت في طول من الأرض أو عرض، *** كبغداد من دار بها مسكن الخفض»
«صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، *** وعيش سواها غير خفض ولا غضّ»
«تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها *** مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض»
«قضى ربّها أن لا يموت خليفة *** بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي»
«تنام بها عين الغريب، ولا ترى *** غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض»
«فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، *** فما أسلفت إلّا الجميل من القرض»
«وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، *** فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض»
وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم.
وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
«سافرت أبغي لبغداد وساكنها *** مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس»
«هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها *** عندي، وسكان بغداد هم الناس»
وقال آخر:
«بغداد يا دار الملوك ومجتنى *** صوف المنى، يا مستقرّ المنابر»
«ويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، *** ومنبسط الآمال عند المتاجر»
وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير:
«ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، *** على تقلّبها في كلّ ما حين»
«ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة *** تندى، ومنبت خيريّ ونسرين»
«تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، *** وخرّشت بين أوراق الرّياحين»
«سقيا لتلك القصور الشاهقات وما *** تخفي من البقر الإنسيّة العين»
«تستنّ دجلة فيما بينها، فترى *** دهم السّفين تعالى كالبراذين»
«مناظر ذات أبواب مفتّحة، *** أنيقة بزخاريف وتزيين»
«فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، *** بالزائرين إلى القوم المزورين»
«من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، *** قصر من الساج عال ذو أساطين»
وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:
«أيا بغداد يا أسفي عليك! *** متى يقضى الرجوع لنا إليك؟»
«قنعنا سالمين بكلّ خير، *** وينعم عيشنا في جانبيك»
ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:
«فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي *** مشوق ويحظى بالزيارة زائر»
«إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه *** على كشف ما ألقى من الهمّ قادر»
وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال:
«سلام على بغداد من كلّ منزل، *** وحقّ لها منّي السلام المضاعف»
«فو الله ما فارقتها عن قلى لها، *** وإني بشطّي جانبيها لعارف»
«ولكنها ضاقت عليّ برحبها، *** ولم تكن الأرزاق فيها تساعف»
«وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، *** وأخلاقه تنأى به وتخالف»
ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال:
«أقول وقد جزنا زرود عشيّة، *** وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا»
«على أهل بغداد السلام، فإنني *** أزيد بسيري عن ديارهم بعدا»
وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن:
«سقى الله صوب الغاديات محلّة *** ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر»
«هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها *** بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر»
«هواء رقيق في اعتدال وصحّة، *** وماء له طعم ألذّ من الخمر»
«ودجلتها شطّان قد نظما لنا *** بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر»
«ثراها كمسك، والمياه كفضّة، *** وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر»
قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:
«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»
فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:
«على بغداد معدن كلّ طيب، *** ومغنى نزهة المتنزّهينا: »
«سلام كلما جرحت بلحظ *** عيون المشتهين المشتهينا»
«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»
«وما حبّ الديار بنا، ولكن *** أمرّ العيش فرقة من هوينا»
قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد:
«طيب الهواء ببغداد يشوّقني *** قدما إليها، وإن عاقت معاذير»
«وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت *** طيب الهواءين ممدود ومقصور؟»
وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال:
«أيرحل آلف ويقيم إلف، *** وتحيا لوعة ويموت قصف؟»
«على بغداد دار اللهو منّي *** سلام ما سجا للعين طرف»
«وما فارقتها لقلى، ولكن *** تناولني من الحدثان صرف»
«ألا روح ألا فرج قريب، *** ألا جار من الحدثان كهف»
«لعلّ زماننا سيعود يوما، *** فيرجع آلف ويسر إلف»
فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:
«ولما تجاوزت المدائن سائرا، *** وأيقنت يا بغداد أني على بعد»
علمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟
وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني:
«فدى لك يا بغداد كل مدينة *** من الأرض، حتى خطّتي ودياريا»
«فقد طفت في شرق البلاد وغربها، *** وسيّرت خيلي بينها وركابيا»
«فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، *** ولم أر فيها مثل دجلة واديا»
«ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، *** وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا»
«وقائلة: لو كان ودّك صادقا *** لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا: »
«يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، *** وترمي النوى بالمقترين المراميا»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
123-معجم البلدان (بوان)
بَوَّانُ:بالفتح، وتشديد الواو، وألف، ونون:
في ثلاثة مواضع، أشهرها وأسيرها ذكرا شعب بوّان بأرض فارس بين أرّجان والنّوبندجان، وهو أحد متنزهات الدنيا، قال المسعودي، وذكر اختلاف الناس في فارس فقال: ويقال إنهم من ولد بوّان بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح، عليه السلام، وبوّان هذا هو الذي ينسب إليه شعب بوّان من أرض فارس، وهو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن وكثرة الأشجار وتدفق المياه وكثرة أنواع الأطيار، قال الشاعر:
«فشعب بوّان فوادي الراهب، *** فثمّ تلقى أرحل النجائب»
وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنه من متنزهات الدنيا، وبعض قال: جنان الدنيا أربعة مواضع: غوطة دمشق وصغد سمرقند وشعب بوّان ونهر الأبلة، وقالوا: وأفضلها غوطة دمشق، وقال أحمد بن محمد الهمداني: من أرّجان إلى النوبندجان ستة وعشرون فرسخا، وبينهما شعب بوّان الموصوف بالحسن والنزاهة وكثرة الشجر وتدفّق المياه، وهو موضع من أحسن ما يعرف، فيه شجر الجوز والزيتون وجميع الفواكه النابتة في الصخر، وعن المبرّد أنه قال: قرأت على شجرة بشعب بوّان:
«إذا أشرف المحزون، من رأس تلعة، *** على شعب بوّان استراح من الكرب»
«وألهاه بطن كالحريرة مسّه، *** ومطّرد يجري من البارد العذب»
«وطيب ثمار في رياض أريضة، *** على قرب أغصان جناها على قرب»
«فبالله يا ريح الجنوب تحمّلي، *** إلى أهل بغداد، سلام فتى صبّ»
وإذا في أسفل ذلك مكتوب:
«ليت شعري عن الذين تركنا *** خلفنا بالعراق هل يذكرونا»
«أم لعلّ الذي تطاول حتى *** قدم العهد بعدنا، فنسونا؟»
وذكر بعض أهل الأدب أنه قرأ على شجرة دلب تظلل عينا جارية بشعب بوّان:
«متى تبغني في شعب بوّان تلقني *** لدى العين، مشدود الركاب إلى الدّلب»
«وأعطي، وإخواني، الفتوّة حقّها *** بما شئت من جدّ وما شئت من لعب»
«يدير علينا الكأس من لو رأيته *** بعينك ما لمت المحبّ على الحبّ»
وذكر لي بعض أهل فارس أن شعب بوّان واد عميق، والأشجار والعيون التي فيه إنما هي من جلهتيه، وأسفل الوادي مضايق تجتمع فيها تلك المياه وتجري، وليس في أرض وطيئة البتّة بحيث تبنى فيه مدينة ولا قرية كبيرة، وقد أجاد المتنبي في وصفه فقال:
«مغاني الشعب، طيبا، في المغاني، *** بمنزلة الربيع من الزمان»
«ولكنّ الفتى العربيّ فيها، *** غريب الوجه، واليد، واللسان»
«ملاعب جنّة، لو سار فيها *** سليمان لسار بترجمان»
«طبت فرساننا والخيل حتى *** خشيت، وإن كرمن، من الحران»
«غدونا تنفض الأغصان فيها، *** على أعرافها، مثل الجمان»
«فسرت وقد حجبن الحرّ عني، *** وجئن من الضياء بما كفاني»
«وألقى الشرق منها، في ثيابي، *** دنانيرا تفرّ من البنان»
«لها ثمر، تشير إليك منه *** بأشربة، وقفن بلا أواني»
«وأمواه تصلّ بها حصاها *** صليل الحلي، في أيدي الغواني»
«ولو كانت دمشق ثنى عناني *** لبيق الثّرد صينيّ الجفان»
«يلنجوجيّ، ما رفعت لضيف *** به النيران، ندّيّ الدّخان»
«تحلّ به على قلب شجاع، *** وترحل منه عن قلب جبان»
«منازل، لم يزل منها خيال *** يشيّعني إلى النّوبنذجان»
«إذا غنّى الحمام الورق فيها، *** أجابته أغانيّ القيان»
«ومن بالشعب أحوج من حمام، *** إذا غنّى وناح إلى البيان؟»
«وقد يتقارب الوصفان جدّا، *** وموصوفاهما متباعدان»
«يقول بشعب بوّان حصاني: *** أعن هذا يسار إلى الطّعان؟»
«أبوكم آدم سنّ المعاصي، *** وعلمكم مفارقة الجنان»
«فقلت: إذا رأيت أبا شجاع *** سلوت عن العباد، وذا المكان»
وكتب أحمد بن الضحاك الفلكي إلى صديق له يصف شعب بوّان: بسم الله الرحمن الرحيم، كتبت إليك من شعب بوّان وله عندي يد بيضاء مذكورة، ومنّة غرّاء مشهورة، بما أولانيه من منظر أعدى على الأحزان، وأقال من صروف الزمان، وسرّح طرفي في جداول تطرّد بماء معين منسكب أرقّ من دموع العشّاق، مررتها لوعة الفراق، وأبرد من ثغور الأحباب، عند الالتئام والاكتئاب، كأنها حين جرى آذيّها يترقرق، وتدافع تيارها يتدفّق، وارتجّ حبابها يتكسر في خلال زهر ورياض ترنو بحدق تولّد قصب لجين في صفائح عقيان، وسموط درّ بين زبرجد ومرجان، أثر على حكمة صانعه شهيد، وعلم على لطف خالقه دليل إلى ظلّ سجسج أحوى، وخضل ألمى، قد غنّت عليه أغصان فينانة، وقضب غيدانة، تشوّرت لها القدود المهفهفة خجلا، وتقيّلتها الخصور المرهفة تشبّها، يستقيدها النسيم فتنقاد، ويعدل بها فتنعدل، فمن متورد يروق منظره، ومرتجّ يتهدّل مثمره، مشتركة فيه حمرة نضج الثمار، ينفحه نسيم النّوّار، وقد أقمت به يوما وأنا لخيالك مسامر، ولشوقك منادم، وشربت لك تذكارا، وإذا تفضل الله بإتمام السلامة إلى أن أوافي شيراز كتبت إليك من خبري بما تقف عليه إن شاء الله تعالى. وبوّان، أيضا، شعب بوّان: واد بين فارس وكرمان، يوصف أيضا بالنزاهة والطيب ليس بدون الأول، أخبرني به رجل من أهل فارس. وبوّان أيضا: قرية على باب أصبهان، ينسب إليها جماعة، منهم: القاضي أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن سليم البوّاني من أهل هذه القرية، كان شيخا صالحا مكثرا، سمع الحافظ أبا بكر مردويه بأصبهان والبرقاني ببغداد وغيرهما، روى عنه الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني وغيره، وولي القضاء ببعض نواحي أصبهان، وتوفي في ذي القعدة سنة 484، وولد في صفر سنة 401.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
124-معجم البلدان (بوصير)
بُوصِيرُ:بكسر الصاد، وياء ساكنة، وراء: اسم لأربع قرى بمصر، بوصير قوريدس، وقال الحسن بن إبراهيم بن زولاق: بها قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الذي به انقرض ملك بني أمية، وهو المعروف بالحمار، والجعدي قتل بها لسبع بقين من ذي الحجة سنة 132، وقال أبو عمر الكندي: قتل مروان ببوصير من كورة الأشمونين، وقال لي القاضي المفضل بن الحجاج: بوصير قوريدس من كورة البوصيرية، وإلى بوصير قوريدس ينسب أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت بن غالب ابن هاشم الأنصاري الخزرجي، كتب إليّ أبو الربيع سليمان بن عبد الله التميمي المكي في جواب كتاب كتبته إليه من حلب أسأله عنه فقال: سألت ابن الشيخ البوصيري عن سلفه ونسبه وأصله فأخبرني أنهم من المغرب من موضع يسمى المنستير، قال وبالمغرب موضعان يسميان المنستير، أحدهما بالأندلس بين لقنت وقرطاجنّة في شرق الأندلس والآخر بقرب سوسة من أرض إفريقية، بينه وبينها اثنا عشر ميلا، قال: ولم يعرّفني والدي من أيهما نحن، وكان أول قادم منّا إلى مصر جدّ والدي مسعود، فنزل بوصير قوريدس فأولد بها جدي عليّا ودخل عليّ إلى مصر فأقام بها فأولد بها أبي القاسم، ولم يخرج من الإقليم إلى سواه إلى أن توفي في ليلة الخميس الثاني من صفر سنة 598، أخبرني بالوفاة الحافظ الزكي عبد
العظيم المنذري، وسألته عن مولد أبيه فلم يعرفه إلا أنه قال: مات بعد أن نيف على التسعين بسنتين أو ثلاث، أخبرني الحافظ زكي الدين المنذري أنه ظفر بمولده محقّقا بخط أبيه وأنه يظن أنه في سنة 505 أو 506.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
125-معجم البلدان (بوقة)
بُوقَةُ:من قرى أنطاكية، وفي كتاب الفتوح: بنى هشام بن عبد الملك حصن بوقة من عمل أنطاكية ثم جدّد وأصلح حديثا، ينسب إليها أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله الجزري البوقي، روى عن مالك ابن أنس وهشيم بن بشير وسفيان بن عيينة، روى عنه هلال بن العلاء الرّقّي ومحمد بن الخضر مناكير، قاله أبو عبد الله بن مندة ونسبه كذلك، وأبو سليمان داود بن أحمد البوقي سكن أنطاكية، سمع أبا عبد الرحمن معمّر بن مخلّد السّروجي، ذكره أبو أحمد في الكنى. وبوقة: من قرى الصعيد، عن الأمير
شرف الدين يعقوب الهذياني، أخبرني به من لفظه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
126-معجم البلدان (البياض)
البَيَاضُ:ضدّ السواد: موضع باليمامة في موضع قريب من يبرين، وأنشد بعضهم:
«ألم يكن أخبرني غلامي *** أنّ البياض طامس الأعلام؟»
والبياض أيضا: حصن باليمن من أعمال الحقل قرب صنعاء. والبياض: أرض بنجد لبني كعب من بني عامر بن صعصعة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
127-معجم البلدان (جروس)
جَرْوَسُ:بالضم ثم السكون، وفتح الواو، والسين مهملة: من مدن الغور بين هراة وغزنة في الجبال أخبرني به بعض أهله.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
128-معجم البلدان (الجزيرة الخضراء)
الجزيرَةُ الخضْرَاءُ:مدينة مشهورة بالأندلس، وقبالتها من البرّ بلاد البربر سبتّة، وأعمالها متصلة بأعمال شذونة، وهي شرقي شذونة وقبلي قرطبة، ومدينتها من أشرف المدن وأطيبها أرضا، وسورها يضرب به ماء البحر، ولا يحيط بها البحر كما تكون الجزائر، لكنها متصلة يبرّ الأندلس لا حائل من الماء دونها كذا أخبرني جماعة ممن شاهدها من أهلها، ولعلّها سميت بالجزيرة لمعنى آخر على أنه قد قال الأزهري: إن الجزيرة في كلام العرب أرض في البحر يفرج عنها ماء البحر فتبدو، وكذلك الأرض التي يعلوها السيل ويحدق بها ومرساها من أجود المراسي للجواز وأقربها من البحر الأعظم، بينهما ثمانية عشر ميلا، وبين الجزيرة الخضراء وقرطبة خمسة وخمسون فرسخا، وهي على نهر برباط ونهر لجأ إليه أهل الأندلس في عام محل، والنسبة إليها جزيريّ وإلى التي قبلها جزريّ للفرق وقد نسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم: أبو زيد عبد الله بن عمر بن سعيد التميمي الجزيري الأندلسي، يروي عن أصبغ بن الفرج وغيره، مات سنة 365 وبخط الصوري بزايين معجمتين، ولا يصح كذا قال الحازمي. والجزيرة الخضراء أيضا جزيرة عظيمة بأرض الزنج من بحر الهند، وهي كبيرة عريضة يحيط بها البحر الملح من كل جانب، وفيها مدينتان: اسم إحداهما متنبّي واسم الأخرى مكنبلوا، في كل واحدة منهما سلطان لا طاعة له على الآخر، وفيها عدة قرى ورساتيق، ويزعم سلطانهم أنه عربيّ وأنه من ناقلة الكوفة إليها، حدثني بذلك الشيخ الصالح عبد الملك الحلّاوي البصري، وكان قد شاهد ذلك وعرفه، وهو ثقة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
129-معجم البلدان (الجلسد)
الجَلْسَدُ:اسم ضم كان بحضرموت ولم أجد ذكره في كتاب الأصنام لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي، ولكني قرأت في كتاب أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري: أخبرنا ابن دريد قال أخبرني عمي الحسين بن دريد قال أخبرني حاتم بن قبيصة المهلّبي عن هشام بن الكلبي عن أبي مسكين قال: كان بحضرموت صنم يسمى الجلسد تعبده كندة وحضرموت، وكانت سدنته بني شكامة بن شبيب بن السّكون بن أشرس بن ثور بن مرتع وهو كندة ثم أهل بيت منهم يقال لهم بنو علّاق، وكان الذي يسدنه منهم يسمى الأخزر بن ثابت، وكان للجلسد حمى ترعاه سوامه وغنمه، وكانت هوا في الغنم إذا رعت حمى الجلسد حرمت على أربابها، وكانوا يكلّمون منه، وكان كجثّة الرجل العظيم، وهو من صخرة بيضاء لها كرأس أسود، وإذا تأمّله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان قال الأخزر: فإني ليوما
عند الجلسد وقد ذبح له رجل من بني الامريّ بن مهرة ذبحا إذ سمعنا فيه كهمهمة الرعد، فأصغينا فإذا قائل يقول: شعار أهل عدم، انه قضاء حتم، ان بطش سهم فقد فاز سهم، فقلنا: ربنا وضاح وضاح! فأعاد الصوت وهو يقول: ناء نجم العراق، يا أخزر بن علاق، هل أحسست جمعا عما
فانكسر لذلك، وقد كان فيما مضى يخبرنا بالأعاجيب، فلما جن علينا الليل بتّ مبيتي عنده فإذا هاتف يقول:
لا شأن للجلسد ولا رثي لهدد، استقام الأود وعبد الواحد الصمد، واكفى الحجر الأصلد، والرأس الأسود، قال: فنهضت مذعورا فأتيت الصنم فإذا هو منقلب على رأسه وكان لو اجتمع فئام من الناس ما حلحلوه، فو الذي نفسي بيده ما عرّجت على أهل ولا مال حتى أتيت راحلتي وخرجت حتى أتيت صنعاء فقلت: هل من خابئة خبر؟ فقيل لي: ظهر رجل بمكة يدعو إلى خلع الأوثان ويزعم أنه نبيّ، فلم أزل أطوف في مخاليف اليمن حتى ظهر الإسلام، فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وفي أشعارهم:
«............... *** كما *** بيقر من يمشي إلى الجلسد»
والبيقرة: مشية يطأطئ الرجل فيها رأسه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
130-معجم البلدان (جماعيل)
جَمَّاعِيلُ:بالفتح، وتشديد الميم، وألف، وعين مهملة مكسورة، وياء ساكنة، ولام: قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين منها كان الحافظ
عبد الغني بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور بن نافع ابن حسن بن جعفر المقدسي أبو محمد، انتسب إلى بيت المقدس لقرب جمّاعيل منها ولأن نابلس وأعمالها جميعا من مضافات البيت المقدس وبينهما مسيرة يوم واحد، ونشأ بدمشق ورحل في طلب الحديث إلى أصبهان وغيرها، وكان حريصا كثير الطلب، ورد بغداد فسمع بها من ابن النقور وغيره في سنة 560، ثم سافر إلى أصبهان وعاد إليها في سنة 578، فحدث بها وانتقل إلى الشام ثم إلى مصر فنفّق بها سوقه، وصار له بها حشد وأصحاب من الحنابلة، وكان قد جرى له بدمشق أن ادّعي عليه أنه يصرّح بالتجسيم وأخذت عليه خطوط الفقهاء، فخرج من دمشق إلى مصر لذلك ولم يخل في مصر عن مناكد له في مثل ذلك تكدّرت عليه حياته بذلك، وصنف كتبا في علم الحديث حسانا مفيدة، منها كتاب الكمال في معرفة الرجال، يعني رجال الكتب الستة من أول راو إلى الصحابة، جوّده جدّا، ومات في سنة 600 بمصر ومنها أيضا الشيخ الزاهد الفقيه موفّق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر الجماعيلي المقدسي المقيم بدمشق، كان من الصالحين العلماء العاملين، لم يكن له في زمانه نظير في العلم على مذهب أحمد بن حنبل والزهد، صنف تصانيف جليلة، منها كتاب المغني في الفقه على مذهب أحمد بن حنبل والخلاف بين العلماء، قيل لي إنه في عشرين مجلدا، وكتاب المقنع وكتاب العهدة، وله في الحديث كتاب التوّابين وكتاب الرقة وكتاب صفة الفلق وكتاب فضائل الصحابة وكتاب القدر وكتاب الوسواس وكتاب المتحابّين، وله في علم النسب كتاب التبيين في نسب القرشيين وكتاب الاستبصار في نسب الأنصار ومقدمة في الفرائض ومختصر في غريب الحديث وكتاب في أصول الفقه وغير ذلك، وكان قد تفقه على الشيخ أبي الفتح بن المني ببغداد، وسمع أبا الفتح محمد بن عبد الباقي بن سلمان بن البطي وأبا المعالي أحمد ابن عبد الغني بن حنيفة الباجسرائي وأبا زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهم كثيرا، وتصدّر في جامع دمشق مدة طويلة يقرأ في العلم، أخبرني الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأزهري الصيرفي أنه آخر من قرأ عليه، وأنه مات بدمشق في أواخر شهر رمضان سنة 620، وكان مولده في شعبان سنة 541.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
131-معجم البلدان (الجوز)
الجَوْزُ:بالفتح ثم السكون، وزاي وفي كتاب هذيل: جبال الجوز أودية تهامة قالوا ذلك في تفسير قول معقل بن خويلد الهذلي حيث قال:
«لعمرك ما خشيت، وقد بلغنا *** جبال الجوّز من بلد تهامي»
وقال عبدة بن حبيب الصاهلي:
«كأنّ رواهق المعزاء خلفي *** رواهق حنظل بلوى عيوب»
«فلا والله لا ينجو نجاتي، *** غداة الجوز، أضخم ذو ندوب»
قلت أخبرني من أثق به أن جبال السراة المقاربة للطائف وهي بلاد هذيل يقال لها الجوز، وإليها تنسب الأبراد الجوزية، وهي وزرات بيض ذات حواش يأتزرون بها قال السكري: الجوز جبال ناحيتهم، ويقال: الجوز الحجاز كله، ويقال للحجازي جوزيّ وينسب إلى هذه النسبة الفقيه أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي يعرف بابن مشكار، يروي عن الحارث بن أبي أسامة وابن أبي الدنيا وغيرهما.
ونهر الجوز: ناحية ذات قرى وبساتين ومياه بين حلب والبيرة التي على الفرات، وهي من عمل البيرة في هذا الوقت، وأهل قراها كلهم أرمن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
132-معجم البلدان (الحجر الأسود)
الحجَرُ الأَسْوَد:قال عبد الله بن العباس: ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة، ولولا من مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وقال محمد بن علي:
ثلاثة أحجار من الجنة: الحجر الأسود والمقام وحجر بني إسرائيل، وقال أبو عرارة: الحجر الأسود في الجدار، وذرع ما بين الحجر الأسود إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع، وهو في الركن الشمالي، وقد ذكرت أركان الكعبة في مواضعها، وقال عياض: الحجر الأسود يقال هو الذي أراده النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: إني لأعرف حجرا كان يسلّم عليّ، إنه ياقوتة بيضاء أشد بياضا من اللبن فسوّده الله تعالى بخطايا بني آدم ولمس المشركين إياه، ولم يزل هذا الحجر في الجاهلية والإسلام محترما معظّما مكرّما يتبركون به ويقبّلونه إلى أن دخل القرامطة، لعنهم الله، في سنة 317 إلى مكة عنوة، فنهبوها وقتلوا الحجّاج وسلبوا البيت وقلعوا الحجر الأسود وحملوه معهم إلى بلادهم بالأحساء من أرض البحرين، وبذل لهم بجكم التركي الذي استولى على بغداد في أيام الراضي بالله ألوف دنانير على أن يردوه فلم يفعلوا حتى توسط الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي بين الخليفة المطيع لله في سنة 339 وبينهم حتى أجابوا إلى ردّه وجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامع ثم حملوه وردّوه إلى موضعه واحتجوا وقالوا: أخذناه بأمر ورددناه بأمر، فكانت مدة غيبته اثنتين وعشرين سنة، وقرأت في بعض الكتب أن رجلا من القرامطة قال لرجل من أهل العلم بالكوفة، وقد رآه يتمسّح به وهو معلّق على الأسطوانة السابعة كما ذكرناه: ما يؤمنكم أن نكون غيبنا ذلك الحجر وجئنا بغيره؟ فقال له: إن لنا فيه علامة، وهو أننا إذا طرحناه في الماء لا يرسب، ثم جاء بماء فألقوه فيه فطفا على وجه الماء.
وحجر الشّغرى، الغين والشين معجمتان وراء، بوزن سكرى، ورواه العمراني بالزاي، والأول أكثر، ولم أجد في كتب اللغة كلمة على شغز إلا ما ذكره الأزهري عن ابن الأعرابي أن الشغيزة المخيط، يعني المسلّة، عربية سمعها الأزهري بالبادية، وأما الراء فيقال: شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول، وشغر البلد إذا خلا من الناس، وفيه غير ذلك، وهو حجر بالمعرّف، وقيل مكان، وقال أبو خراش الهذلي:
«فكدت، وقد خلّفت أصحاب فائد *** لدى حجر الشغرى، من الشدّ أكلم»
كذا رواه السكري، ورواه بعضهم لدى حجر الشّغرى بضمتين. حجر الذّهب: محلّة بدمشق، أخبرني به الحافظ أبو عبد الله بن النجار عن زين الأمناء أبي البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن عساكر، وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: أحمد ابن يحيى من أهل حجر الذهب، روى عن إسماعيل ابن إبراهيم، أظنّه أبا معمر، وأبي نعيم عبيد بن هشام، روى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن صالح ابن سنان وأثنى عليه. حجر شغلان، بضم الشين المعجمة وسكون الغين المعجمة أيضا، وآخره نون:
حصن في جبل اللّكّام قرب أنطاكية مشرف على بحيرة يغرا، وهو للداوية من الفرنج، وهم قوم حبسوا أنفسهم على قتال المسلمين ومنعوا أنفسهم النكاح، فهم بين الرهبان والفرسان.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
133-معجم البلدان (حطين)
حِطِّينٌ:بكسر أوله وثانيه، وياء ساكنة، ونون:
قرية بين أرسوف وقيسارية، وبها قبر شعيب، عليه السلام، كذا قال الحافظان أبو القاسم الدمشقي وأبو سعد المروزي، ونسبا إليها أبا محمد هيّاج بن محمد بن عبيد بن حسين الحطّيني الزاهد نزيل مكة، سمع أبا الحسن عليّ بن موسى بن الحسين السمسار وأبا عبد الله محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن بن معدان الدمشقي وأبا القاسم عبد الرحمن بن عبد العزيز السّرّاج وأبا الحسن عليّ بن محمد بن إبراهيم الحنّائي بدمشق، وأبا أحمد محمد بن أحمد بن سهل القيسراني بقيسارية، وأبا العباس إسماعيل بن عمر النحاس، وأبا الفرج النحوي المقدسي وغيرهم، وسمع منه جماعة من الحفّاظ، منهم محمد بن طاهر المقدسي، وأبو القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، وأبو جعفر محمد بن أبي عليّ وغيرهم، وكان زاهدا فقيها مدرّسا، يفطر كل ثلاثة أيام ويعتمر كل يوم ثلاث عمر، ويلقي على المستفيدين كل يوم عدّة دروس، ولم يكن يدّخر شيئا، وكان يزور رسول الله، عليه الصلاة والسلام، كل سنة حافيا ويزور ابن عباس بالطائف، وكان يأكل بمكة أكلة وبالطائف أخرى، واستشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السّنّة والرافضة، فحمله أميرها محمد بن أبي هاشم فضربه ضربا شديدا على كبر السنّ، ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياما ثم مات في سنة 472 وقد جاوز الثمانين. قال المؤلف، رحمة الله عليه:
كان صلاح الدين يوسف بن أيوب قد أوقع بالأفرنج في منتصف ربيع الآخر سنة 583 وقعة عظيمة منكرة ظفر فيها بملوك الأفرنج ظفرا كان سببا لافتتاحه بلاد الساحل، وقتل فرعونهم ارباط صاحب الكرك والشوبك، وذلك في موضع يقال له حطّين بين طبرية وعكّا، بينه وبين طبرية نحو فرسخين، بالقرب منها قرية يقال لها خيارة، بها قبر شعيب، عليه السلام، وهذا صحيح لا شك فيه وإن كان الحافظان ضبطا أن حطّين بين أرسوف وقيسارية ضبطا صحيحا، فهو غير الذي عند طبرية وإلا فهو غلط منهما. وحطّين أيضا:
موضع بين الفرما وتنّيس من أرض مصر، وهو بحيرة يصاد منها السمك يعرف بالحطّينيّ، وهو سمك فاضل، إذا شقّ عن جوفه لا يوجد فيه غير الشحم فيملّح ويحمل إلى النواحي، أخبرني بذلك رجل اتّجر في هذا السمك لقيته بقطية موضع قرب الفرما.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
134-معجم البلدان (حلوان)
حُلْوانُ:بالضم ثم السكون، والحلوان في اللغة الهبة، يقال: حلوت فلانا كذا مالا أحلوه حلوا وحلوانا إذا وهبت له شيئا على شيء يفعله غير الأجر، وفي الحديث: نهي عن حلوان الكاهن، والحلوان: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه. وحلوان في عدة مواضع: حلوان العراق، وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، وقيل: إنها سميت بحلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة كان بعض الملوك أقطعه إياها فسميت به.
وفي كتاب الملحمة المنسوب إلى بطليموس: حلوان
طولها إحدى وسبعون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها أربع وثلاثون درجة، بيت حياتها أول درجة من الأسد، طالعها الذراع اليماني تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها من الحمل، عاقبتها مثلها من الميزان، وهي في الإقليم الرابع، وكانت مدينة كب
وأما فتحها فإن المسلمين لما فرغوا من جلولاء ضمّ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وكان عمه سعد قد سيّره على مقدمته إلى جرير بن عبد الله في خيل ورتبه بجلولاء، فنهض إلى حلوان فهرب يزدجرد إلى أصبهان وفتح جرير حلوان صلحا على أن كفّ عنهم وآمنهم على ديارهم وأموالهم ثم مضى نحو الدينور فلم يفتحها وفتح قرميسين على مثل ما فتح عليه حلوان وعاد إلى حلوان فأقام بها واليا إلى أن قدم عمار بن ياسر، فكتب إليه من الكوفة أن عمر قد أمره أن يمد به أبا موسى الأشعري بالأهواز، فسار حتى لحق بأبي موسى في سنة 19، قال الواقدي: بحلوان عقب لجرير بن عبد الله البجلي، وكان قد فتح حلوان في سنة 19، وفي كتاب سيف: في سنة 16، وقال القعقاع بن عمرو التميمي:
«وهل تذكرون، إذ نزلنا وأنتم *** منازل كسرى، والأمور حوائل»
«فصرنا لكم ردءا بحلوان بعد ما *** نزلنا جميعا، والجميع نوازل»
«فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما *** أرنّت، على كسرى، الإما والحلائل»
وقال بعض المتأخرين يذم أهل حلوان:
«ما إن رأيت جواميسا مقرّنة، *** إلا ذكرت ثناء عند حلوان»
«قوم، إذا ما أتى الأضياف دارهم *** لم ينزلوهم ودلوهم على الخان»
وينسب إلى حلوان هذه خلق كثير من أهل العلم، منهم: أبو محمد الحسن بن عليّ الخلّال الحلواني، يروي عن يزيد بن هرون وعبد الرزاق وغيرهما، روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، توفي سنة 242، وقال أعرابيّ:
«تلفّتّ من حلوان، والدمع غالب، *** إلى روض نجد، أين حلوان من نجد؟»
«لحصباء نجد، حين يضربها الندى، *** ألذّ وأشفى للعليل من الورد»
«ألا ليت شعري! هل أناس بكيتهم *** لفقدهم هل يبكينّهم فقدي؟»
«أداوي ببرد الماء حرّ صبابة، *** وما للحشا والقلب غيرك من برد»
وأما نخلتا حلوان فأول من ذكرهما في شعره فيما علمنا مطيع بن إياس الليثي، وكان من أهل فلسطين من أصحاب الحجاج بن يوسف، ذكر أبو الفرج عن أبي الحسن الأسدي حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه
عن سعيد بن سلم قال: أخبرني مطيع بن إياس أنه كان مع سلم بن قتيبة بالرّيّ، فلما خرج إبراهيم بن الحسن كتب إليه المنصور يأمره باستخلاف رجل على عمله والقدوم عليه في خاصته على البريد، قال مطيع ابن إياس: وكانت لي جارية يقال لها جوذابة كنت أحبّها، فأمرني سلم ب
«أسعداني يا نخلتي حلوان، *** وابكياني من ريب هذا الزمان»
«واعلما أن ريبه لم يزل يف *** رق بين الألّاف والجيران»
«ولعمري، لو ذقتما ألم الفر *** قة أبكاكما الذي أبكاني»
«أسعداني، وأيقنا أن نحسا *** سوف يأتيكما فتفترقان»
«كم رمتني صروف هذي الليالي *** بفراق الأحباب والخلّان»
«غير أني لم تلق نفسي كما لا *** قيت من فرقة ابنة الدهقان»
«جارة لي بالريّ تذهب همّي، *** ويسلّي دنوّها أحزاني»
«فجعتني الأيام، أغبط ما كن *** ت، بصدع للبين غير مدان»
«وبزعمي أن أصبحت لا تراها ال *** عين مني، وأصبحت لا تراني»
وعن سعيد بن سلم عن مطيع قال: كانت لي بالرّيّ، جارية أيام مقامي بها مع سلم بن قتيبة، فكنت أتستر بها وأتعشق امرأة من بنات الدهاقين، وكنت نازلا إلى جنبها في دار لها، فلما خرجنا بعت الجارية وبقيت في نفسي علاقة من المرأة، فلما نزلنا بعقبة حلوان جلست مستندا إلى إحدى النخلتين اللتين على العقبة وقلت، وذكر الأبيات، فقال لي سلم: فيمن هذه الأبيات، أفي جاريتك؟ فاستحييت أن أصدقه فقلت:
نعم، فكتب من وقته إلى خليفته أن يبتاعها لي، فلم يلبث أن ورد كتابه بأني قد وجدتها وقد تداولها الرجال وقد بلغت خمسة آلاف درهم فإن أمرت أن أشتريها، فأخبرني بذلك سلم وقال: أيما أحب إليك هي أم خمسة آلاف درهم؟ فقلت: أما إن كانت قد تداولها الرجال فقد عزفت نفسي عنها، فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فقلت: والله ما كان في نفسي منها شيء ولو كنت أحبها لم أبال إذا رجعت إلي بمن تداولها ولا أبالي لو ناكها أهل منى كلهم، وذكر المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان وكانت إحداهما على الطريق وكانت تضيّقه وتزدحم الأثقال عليه فأمر بقطعها، فأنشد قول مطيع:
«واعلما إن بقيتما أن نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان»
فقال: لا والله لا كنت ذلك النحس الذي يفرق بينهما! فانصرف وتركهما، وذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسمعيل بن داود أن المهدي قال:
أكثر الشعراء في ذكر نخلتي حلوان ولهممت بقطعهما فبلغ قولي المنصور فكتب إليّ: بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان ولا فائدة لك في قطعهما ولا ضرر عليك في بقائهما وأنا أعيذك بالله أن تكون النحس الذي يلقاهما فيفرق بينهما، يريد بيت مطيع، وعن أبي نمير عبد الله بن أيوب قال: لما خرج المهدي فصار بعقبة حلوان استطاب الموضع فتغدّى به ودعا بحسنة فقال لها: ما ترين طيب هذا الموضع! غنيني بحياتي حتى أشرب ههنا أقداحا، فأخذت محكّة كانت في يده فأوقعت على فخذه وغنته فقالت:
«أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا، *** إذا نام حرّاس النخيل، جناكما»
فقال: أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين، يعني نخلتي حلوان، فمنعني منهما هذا الصوت، فقالت له حسنة: أعيذك بالله أن تكون النحس المفرق بينهما! وأنشدته بيت مطيع، فقال: أحسنت والله فيما فعلت إذ نبّهتني على هذا، والله لا أقطعهما أبدا ولأوكلن بهما من يحفظهما ويسقيهما أينما حييت! ثم أمر بأن يفعل ذلك، فلم تزالا في حياته على ما رسمه إلى أن مات، وذكر أحمد بن أبي طاهر عن عبد الله ابن أبي سعد عن محمد بن المفضل الهاشمي عن سلام الأبرش قال: لما خرج الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان فأشار عليه الطبيب بأكل جمّار، فأحضر دهقان حلوان وطلب منه، فأعلمه أن بلادهم ليس بها نخل ولكن على العقبة نخلتان، فأمر بقطع إحداهما، فلما نظر إلى النخلتين بعد أن انتهى إليهما فوجد إحداهما مقطوعة والأخرى قائمة وعلى القائمة مكتوب، وذكر البيت، فأعلم الرشيد وقال: لقد عز عليّ أن كنت نحسكما ولو كنت سمعت هذا البيت ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم، ومما قيل في نخلتي حلوان من الشعر قول حمّاد عجرد:
«جعل الله سدرتي قصر شي *** رين فداء لنخلتي حلوان»
«جئت مستسعدا فلم تسع داني، *** ومطيع بكت له النخلتان»
وروى حماد عن أبيه لبعض الشعراء في نخلتي حلوان:
«أيها العاذلان لا تعذلاني، *** ودعاني من الملام دعاني»
«وابكيا لي، فإنني مستحقّ *** منكما بالبكاء أن تسعداني»
«إنني منكما بذلك أولى *** من مطيع بنخلتي حلوان»
«فهما تجهلان ما كان يشكو *** من هواه، وأنتما تعلمان»
وقال فيهما أحمد بن إبراهيم الكاتب من قصيدة:
«وكذاك الزمان ليس، وإن أل *** لف، يبقى عليه مؤتلفان»
«سلبت كفّه العزيز أخاه، *** ثم ثنّى بنخلتي حلوان»
«فكأنّ العزيز مذ كان فردا، *** وكأن لم تجاور النخلتان»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
135-معجم البلدان (الحوف)
الحَوْفُ:بالفتح، وسكون الواو، والفاء، والحوف:
القربة في بعض اللغات، كذا أظنّه، والذي ضبطته من خط أبي منصور الأزهري: الحوف القربة، بكسر القاف والباء موحدة، والجمع الأحواف، والحوف لغة أهل الشّحر كالهودج وليس به، والحوف: إزار من أدم يلبسه الصبيان، وجمعه أحواف، قال البخاري: الحوف بناحية عمان.
والحوف بمصر حوفان: الشرقي والغربي، وهما متصلان، أول الشرقي من جهة الشام وآخر الغربي قرب دمياط، يشتملان على بلدان وقرى كثيرة، وقد ينسب إليها قسيم بن أحمد بن مطير الحوفي المقري، وأبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي، روى عن ابن رشيق والأدفوي وغيرهما، وروي من طريقه عدّة كتب من تصانيف النحاس، وقال السّكّري:
أخبرني أبو محكم قال: أنشدني أبو مطهّر لعبيد بن عيّاش البكري أحد بني قوالة وطرد هو وعارم إبلا لرجل نصرانيّ من حوف مصر حتى أوردها حجر اليمامة فقال:
«سرت من قصور الحوف ليلا، فأصبحت *** بدجلة، ما يرجو المقام حسيرها»
«نباطيّة، لم تدر ما الكور قبلها، *** ولا السير بالموماة مذ دقّ نورها»
«يدور عليها حادياها إذا ونت، *** وأنت على كأس الصليب تديرها»
«سلوا أهل تيماء اليهود ممرّها، *** صبيحة خمس، وهي تجري صفورها»
«ألا لا يبالي عارم ما تجشّمت، *** إذا واجهته سوق حجر ودورها»
وحوف رمسيس: موضع آخر بمصر. وجوف مراد وجوف همدان، بالجيم: مخلافان باليمن، ورواه بعضهم بالحاء، وإنما ذكرناه ليجتنب.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
136-معجم البلدان (خابوراء)
خابُوراءُ:بعد الألف باء موحدة بوزن عاشوراء:
موضع، قاله ابن الأعرابي، وقال ابن دريد:
أخبرني بذلك حامد ولا أدري ما هو، ولعلّه لغة في الخابور.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
137-معجم البلدان (خيسار)
خَيْسارُ:بفتح الخاء، وسكون الياء، وسين مهملة، وآخره راء: من مدن الثغور التي بين غزنة وهراة، أخبرني بعض أهل الغور.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
138-معجم البلدان (دمانس)
دُمانِس:مدينة من نواحي تفليس بأرمينية يجلب منها الإبريسم، قال أبو القاسم: أخبرني به رجل منها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
139-معجم البلدان (دير سليمان)
دَير سُلَيمانَ:بالثغر قرب دلوك مطلّ على مرج العين، وهو غاية في النزاهة، قال أبو الفرج: أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر عقيب نكبته وزوالها عنه الثغور الجزريّة وكان أكثر مقامه بمنبج، فخرج في بعض ولايته إلى نواحي دلوك برعبان وخلّف بمنبج جارية كان يتحظاها يقال لها غادر فنزل بدلوك على جبل من جبالها بدير يعرف بدير سليمان من أحسن بلاد الله وأنزهها ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب:
«أيا ساقيينا وسط دير سليمان *** أديرا الكؤوس فانهلاني وعلّاني»
«وخصّا بصافيها أبا جعفر أخي، *** فذا ثقتي دون الأنام وخلصاني»
«وميلا بها نحو ابن سلّام الذي *** أودّ وعودا بعد ذاك لنعمان»
«وعمّا بها النعمان والصحب، إنني *** تنكّرت عيشي بعد صحبي وإخواني»
«ولا تتركا نفسي تمت بسقامها *** لذكرى حبيب قد سقاني وغنّاني»
«ترحّلت عنه عن صدود وهجرة، *** فأقبل نحوي وهو باك فأبكاني»
«وفارقته، والله يجمع شملنا، *** بلوعة محزون وغلّة حرّان»
«وليلة عين المرج زار خياله *** فهيّج لي شوقا وجدّد أحزاني»
«فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحا *** بألمح آماق وأنظر إنسان»
«لعلِّي أرى أبيات منبج رؤية *** تسكّن من وجدي وتكشف أشجاني»
«فقصّر طرفي واستهلّ بعبرة، *** وفدّيت من لو كان يدري لفدّاني»
«ومثّله شوقي إليه مقابلي، *** وناجاه عني بالضمير وناجاني»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
140-معجم البلدان (رومية)
رُومِيَةُ:بتخفيف الياء من تحتها نقطتان، كذا قيّده الثقات، قال الأصمعي: وهو مثل أنطاكية وأفامية ونيقية وسلوقية وملطية، وهو كثير في كلام الروم وبلادهم، وهما روميتان: إحداهما بالروم والأخرى بالمدائن بنيت وسمّيت باسم ملك، فأمّا التي في بلاد الروم فهي مدينة رياسة الروم وعلمهم، قال بعضهم: هي مسماة باسم رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام، وذكر بعضهم: إنّما سمّي الروم روما لإضافتهم إلى مدينة رومية واسمها رومانس بالروميّة، فعرّب هذا الاسم فسمّي من كان بها روميّا، وهي شمالي وغربي القسطنطينيّة بينهما مسيرة خمسين يوما أو أكثر، وهي اليوم بيد الأفرنج، وملكها يقال له ملك ألمان، وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنجية، وهو لهم بمنزلة الإمام، متى خالفه أحد منهم كان عندهم عاصيا مخطئا يستحق النفي والطرد والقتل، يحرّم عليهم نساءهم وغسلهم وأكلهم وشربهم فلا يمكن أحدا منهم مخالفته، وذكر بطليموس في كتاب الملحمة قال: مدينة رومية طولها خمس وثلاثون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها إحدى وأربعون درجة وخمسون دقيقة، في
الإقليم الخامس، طالعها عشرون درجة من برج العقرب تحت سبع عشرة درجة من برج السرطان، يقابلها مثلها من برج الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، لها شركة في كفّ الجذماء، حولها كل نحو عامر، وفيها جاءت الرواية من كلّ فيلسوف وحكيم، وف
دخلت رومية وإن سوق الطير فيها فرسخ، وقال مجاهد: في بلد الروم مدينة يقال لها رومية فيها ستمائة ألف حمّام، وقال الوليد بن مسلم الدمشقي:
أخبرني رجل من التجار قال: ركبنا البحر وألقتنا السفينة إلى ساحل رومية فأرسلنا إليهم إنّا إيّاكم أردنا، فأرسلوا إلينا رسولا، فخرجنا معه نريدها فعلونا جبلا في الطريق فإذا بشيء أخضر كهيئة اللّجّ فكبّرنا فقال لنا الرسول: لم كبّرتم؟ قلنا:
هذا البحر ومن سبيلنا أن نكبّر إذا رأيناه، فضحك وقال: هذه سقوف رومية وهي كلّها مرصّصة، قال: فلمّا انتهينا إلى المدينة إذا استدارتها أربعون ميلا في كلّ ميل منها باب مفتوح، قال: فانتهينا إلى أوّل باب وإذا سوق البياطرة وما أشبهه ثمّ صعدنا درجا فإذا سوق الصيارفة والبزّازين ثمّ دخلنا المدينة فإذا في وسطها برج عظيم واسع في أحد جانبيه كنيسة قد استقبل بمحرابها المغرب وببابها المشرق، وفي وسط البرج بركة مبلّطة بالنحاس يخرج منها ماء المدينة كلّه، وفي وسطها عمود من حجارة عليه صورة رجل من حجارة، قال: فسألت بعض أهلها فقلت ما هذا؟ فقال: إن الذي بنى هذه المدينة قال لأهلها لا تخافوا على مدينتكم حتى يأتيكم قوم على هذه الصفة فهم الذين يفتحونها، وذكر بعض الرهبان ممن دخلها وأقام بها أن طولها ثمانية وعشرون ميلا في ثلاثة وعشرين ميلا، ولها ثلاثة أبواب من ذهب، فمن باب الذهب الذي في شرقيّها إلى البابين الآخرين ثلاثة وعشرون ميلا، ولها ثلاثة جوانب في البحر والرابع في البرّ، والباب الأوّل الشرقيّ والآخر الغربي والآخر اليمني، ولها سبعة أبواب أخر سوى هذه الثلاثة الأبواب من نحاس مذهّب، ولها حائطان من حجارة رخام وفضاء طوله مائتا ذراع بين الحائطين، وعرض السور الخارج ثمانية عشر ذراعا، وارتفاعه اثنان وستون ذراعا، وبين السورين نهر ماؤه عذب يدور في جميع المدينة ويدخل دورهم مطبق بدفوف النحاس كلّ دفّة منها ستة وأربعون ذراعا، وعدد الدفوف مائتان وأربعون ألف دفة، وهذا كلّه من نحاس، وعمود النهر ثلاثة وتسعون ذراعا في عرض ثلاثة وأربعين ذراعا، فكلّما همّ بهم عدوّ وأتاهم رفعت تلك الدفوف فيصير بين السورين بحر لا يرام، وفيما بين أبواب الذهب إلى باب الملك اثنا عشر ميلا وسوق مادّ من شرقيّها إلى غربيّها بأساطين النحاس
مسقّف بالنحاس وفوقه سوق آخر، وفي الجميع التجار، وبين يدي هذا السور سوق آخر على اعمدة نحاس كل عمود منها ثلاثون ذراعا، وبين هذه الأعمدة نقيرة من نحاس في طول السوق من أوّله إلى آخره فيه لسان يجري من البحر فتجيء السفينة في هذا النقير وفيها الأمتعة حتى تجتا
آلاف جرّة ذهب يقال لها الميزان وعشرة آلاف خوان ذهب وعشرة آلاف كأس وعشرة آلاف مروحة ذهب ومن المنائر التي تدار حول المذبح سبعمائة منارة كلها ذهب، وفيها من الصلبان التي تخرج يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب ذهب ومن صلبان الحديد والنحاس المنقوشة المموّهة بالذه
ما يقارب هذا وإنّما يشكل فيه أن القارئ لهذا لم ير مثله، والله أعلم، فأمّا أنا فهذا عذري على أنني لم أنقل جميع ما ذكر وإنّما اختصرت البعض.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
141-معجم البلدان (سامراء)
سامَرّاء:لغة في سرّ من رأى: مدينة كانت بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة وقد خربت، وفيها لغات: سامرّاء، ممدود، وسامرّا، مقصور، وسرّ من رأ، مهموز الآخر، وسرّ من را، مقصور الآخر، أمّا سامرّاء فشاهده قول البحتري:
«وأرى المطايا لا قصور بها *** عن ليل سامرّاء تذرعه»
وسرّ من را مقصور غير مهموز في قول الحسين بن الضحاك:
«سرّ من را أسرّ من بغداد، *** فاله عن بعض ذكرها المعتاد»
وسرّ من راء ممدود الآخر في قول البحتري:
«لأرحلنّ وآمالي مطرّحة *** بسرّ من راء مستبطي لها القدر»
وسامرّا، مقصور، وسرّ من رأى وساء من رأى، عن الجوهري، وسرّاء، وكتب المنتصر إلى المتوكل وهو بالشام:
«إلى الله أشكو عبرة تتحيّر، *** ولو قد حدا الحادي لظلّت تحدّر»
«فيا حسرتا إن كنت في سرّ من رأى *** مقيما وبالشام الخليفة جعفر! »
وقال أبو سعد: سامرّاء بلد على دجلة فوق بغداد بثلاثين فرسخا يقال لها سرّ من رأى فخففها الناس وقالوا سامرّاء، وهي في الإقليم الرابع، طولها تسع وستون درجة وثلثا درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وسدس، تعديل نهارها أربع عشرة ساعة، غاية ارتفاع الشمس بها تسع وسبعون درجة وثلث، ظل الظهر درجتان وربع، ظل العصر أربع عشرة درجة، بين الطولين ثلاثون درجة، سمت القبلة إحدى عشرة درجة وثلث، وعن الموصلي ثلاث وثمانون درجة، وعرضها مائة وسبع عشرة درجة وثلث وعشر، وبها السرداب المعروف في جامعها الذي تزعم الشيعة أن مهديهم يخرج منه، وقد ينسبون إليها بالسّرّ مرّي، وقيل: إنّها مدينة بنيت لسام فنسبت إليه بالفارسية سام راه، وقيل: بل هو موضع عليه الخراج، قالوا بالفارسية: ساء مرّة أي هو موضع الحساب، وقال حمزة: كانت سامراء مدينة عتيقة من مدن الفرس تحمل إليها الإتاوة التي
كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم، ودليل ذلك قائم في اسم المدينة لأن سا اسم الإتاوة، ومرّة اسم العدد، والمعنى أنّه مكان قبض عدد جزية الروم، وقال الشعبي: وكان سام بن نوح له جمال ورواء ومنظر، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح، عليه السلام، عند خروجه م
ندعو عليك، فقال المعتصم: لا طاقة لي بذلك، وخرج من بغداد ونزل سامراء وسكنها وكان الخلفاء يسكنونها بعده إلى أن خربت إلّا يسيرا منها، هذا كلّه قول السمعاني ولفظه، وقال أهل السير: إن جيوش المعتصم كثروا حتى بلغ عدد مماليكه من الأتراك سبعين ألفا فمدوا أيديهم إلى حرم الناس وسعوا فيها بالفساد، فاجتمع العامة ووقفوا للمعتصم وقالوا: يا أمير المؤمنين ما شيء أحبّ إلينا من مجاورتك لأنّك الإمام والحامي للدين وقد أفرط علينا أمر غلمانك وعمّنا أذاهم فإمّا منعتهم عنّا أو نقلتهم
عنّا، فقال: أمّا نقلهم فلا يكون إلّا بنقلي ولكني أفتقدهم وأنهاهم وأزيل ما شكوتم منه، فنظروا وإذا الأمر قد زاد وعظم وخاف منهم الفتنة ووقوع الحرب وعاودوه بالشكوى وقالوا: إن قدرت على نصفتنا وإلّا فتحوّل عنّا وإلّا حاربناك بالدعاء وندعو عليك في الأسحار، فق
«وما زلت أسمع أنّ الملو *** ك تبني على قدر أقدارها»
«وأعلم أنّ عقول الرّجا *** ل يقضى عليها بآثارها»
«فلمّا رأينا بناء الإما *** م رأينا الخلافة في دارها»
«بدائع لم ترها فارس *** ولا الرّوم في طول أعمارها»
«وللرّوم ما شيّد الأوّلون *** وللفرس آثار أحرارها»
«وكنّا نحسّ لها نخوة *** فطامنت نخوة جبّارها»
«وأنشأت تحتجّ للمسلمين *** على ملحديها وكفّارها»
«صحون تسافر فيها العيون *** إذا ما تجلّت لأبصارها»
«وقبّة ملك كأنّ النجوم *** تضيء إليها بأسرارها»
«نظمن الفسافس نظم الحليّ *** لعون النّساء وأبكارها»
«لو انّ سليمان أدّت له *** شياطينه بعض أخبارها»
«لأيقن أنّ بني هاشم *** يقدّمها فضل أخطارها»
وقال الحسين بن الضحاك:
«سرّ من را أسرّ من بغداد، *** فاله عن بعض ذكرها المعتاد»
«حبّذا مسرح لها ليس يخلو *** أبدا من طريدة وطراد»
«ورياض كأنّما نشر الزّه *** ر عليها محبّر الأبراد»
«واذكر المشرف المطلّ من ال *** تلّ على الصّادرين والورّاد»
«وإذا روّح الرّعاء فلا تن *** س رواعي فراقد الأولاد»
وله فيها ويفضلها على بغداد:
«على سرّ من را والمصيف تحيّة *** مجلّلة من مغرم بهواهما»
«ألا هل لمشتاق ببغداد رجعة *** تقرّب من ظلّيهما وذراهما؟»
«محلّان لقّى الله خير عباده *** عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما»
«وقولا لبغداد إذا ما تنسمت *** على أهل بغداد جعلت فداهما»
«أفي بعض يوم شفّ عينيّ بالقذى *** حرورك حتى رابني ناظراهما؟»
ولم تزل كل يوم سر من رأى في صلاح وزيادة وعمارة منذ أيّام المعتصم والواثق إلى آخر أيّام المنتصر ابن المتوكل، فلمّا ولي المستعين وقويت شوكة الأتراك واستبدوا بالملك والتولية والعزل وانفسدت دولة بني العبّاس لم تزل سر من رأى في تناقص للاختلاف الواقع في الدولة بسبب العصبية التي كانت بين أمراء الأتراك إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سر من رأى بالكلية المعتضد بالله أمير المؤمنين كما ذكرناه في التاج وخربت حتى لم يبق منها إلا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة ان به سرداب القائم المهدي ومحلّة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامراء وسائر ذلك خراب يباب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلّها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكا منها، فسبحان من لا يزول ولا يحول، وذكر الحسن بن أحمد المهلبي في كتابه المسمّى بالعزيزي قال: وأنا اجتزت بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد مادّ عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلّا الأبواب والسقوف، فأمّا حيطانها فكالجدد، فما زلنا نسير إلى بعد الظهر حتى انتهينا إلى العمارة منها، وهي مقدار قرية يسيرة في وسطها، ثمّ سرنا من الغد على مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناء إلى نحو الظهر، ولا شك أن طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ،
وكان ابن المعتز مجتازا بسامرّاء متأسفا عليها وله فيها كلام منثور ومنظوم في وصفها، ولما استدبر أمرها جعلت تنقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمّر بها، فقال ابن المعتز:
«قد أقفرت سرّ من را، *** وما لشيء دوام»
«فالنّقض يحمل منها *** كأنّها آجام»
«ماتت كما مات فيل *** تسلّ منه العظام»
وحدثني بعض الأصدقاء قال اجتزت بسامرّاء أو قال أخبرني من اجتاز بسامرّاء: فرأيت على وجه حائط من حيطانها الخراب مكتوبا:
«حكم الضّيوف بهذا الرّبع أنفذ من *** حكم الخلائف آبائي على الأمم»
«فكلّ ما فيه مبذول لطارقه، *** ولا ذمام به إلّا على الحرم»
وأظنّ هذا المعنى سبق إليه هذا الكاتب فإذا هو مأخوذ من قول أرطاة بن سهية المري حيث قال:
«وإنّي لقوّام لدى الضيف موهنا *** إذا أغدف الستر البخيل المواكل»
«دعا فأجابته كلاب كثيرة *** على ثقة مني بأنّي فاعل»
«وما دون ضيفي من تلاد تحوزه *** لي النّفس إلّا أن تصان الحلائل»
وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرّ من رأى ويصف خرابها ويذم بغداد وأهلها ويفضل سامراء: كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد جدرانها، فشاهد اليأس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى، وكأنّ خرابها ينشر، وقد وكّلت إلى الهجر نواحيها، واستحثّ باقيها إلى فانيها، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فالظاعن منها ممحوّ الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام، ليس له زاد فيرحل ولا مرعى فيرتع، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذمّ الدنيا، بعد ما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض وقرار الملك، تفيض بالجنود أقطارها عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد، كأنّ رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها وتمدّ بالنقع حوافرها، قد نشرت في وجوهها غررا كأنّها صحائف البرق وأمسكها تحجيل كأسورة اللّجين ونوّطت عذرا كالشّنوف في جيش يتلقّف الأعداء أوائله ولم ينهض أواخره، وقد صبّ عليه وقار الصبر، وهبّت له روائح النصر، يصرفه ملك يملأ العين جمالا، والقلوب جلالا، لا تخلف مخيلته، ولا تنقض مريرته، ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب، قابضا بيد السياسة على أقطار ملك لا ينتشر حبله، ولا تتشظّى عصاه، ولا تطفى جمرته، في سن شباب لم يجن مأثما، وشيب لم يراهق هرما، قد فرش مهاد عدله، وخفض جناح رحمته، راجما بالعواقب الظنون، لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم، ساعيا على الحقّ يعمل به عارفا بالله يقصد إليه، مقرّا للحلم ويبذله، قادرا على العقاب ويعدل فيه، إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنّت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام تطير بها أجنحة السرور، ويهب فيها نسيم الحبور، فالأطراف على مسرة، والنظر إلى مبرّة، قبل أن تخب مطايا الغير، وتسفر
وجوه الحذر، وما زال الدهر مليئا بالنوائب، طارقا بالعجائب، يؤمّن يومه، ويغدر غدره، على أنّها وإن جفيت معشوقة السكنى، وحبيبة المثوى، كوكبها يقظان، وجوها عريان، وحصاها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وشرابها م
«غدت سر من را في العفاء فيا لها *** قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»
«وأصبح أهلوها شبيها بحالها *** لما نسجتهم من جنوب وشمأل»
«إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله *** يقولون لا تهلك أسى وتجمّل»
وبسامراء قبر الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى ابن جعفر وابنه الحسن بن علي العسكريّين، وبها غاب المنتظر في زعم الشيعة الإمامية، وبها من قبور الخلفاء قبر الواثق وقبر المتوكل وابنه المنتصر وأخيه المعتز والمهتدي والمعتمد بن المتوكل.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
142-معجم البلدان (سلوان)
سلْوَانُ:بضم أوّله، قال أبو منصور: أخبرني المنذري عن أبي الهيثم قال: سمعت محمد بن حيّان يحكي أنّه حضر الأصمعي ونصر بن أبي نصير يعرض عليه بالري فأجرى هذا البيت لرؤبة:
لو أشرب السّلوان ما سليت
فقال لنصر: ما السلوان؟ فقال: يقال إنّها خرزة تسحق فيشرب ماؤها فيورث شاربه سلوة، فقال:
اسكت لا يسخر منك هؤلاء، إنّما السلوان مصدر قولك سلوت أسلو سلوانا، فقال: لو أشرب السلو سلوا شربا ما سلوت، وقال أبو الحسن الخوارزمي: قال علي بن عيسى السلوان ماء من شرب منه ذهب همّه فيما يقال، هكذا في كتاب البلدان من جمعه، وهو تخلّق منه لا معنى له لأنّه ليس بموضع بعينه إنّما هو ماء يرقى أو حصاة تلقى في ماء فيشرب ذلك الماء، وإنّما عين سلوان عين نضّاخة يتبرّك بها ويستشفى منها بالبيت المقدس، قال ابن البنّاء البشّاري: سلوان محلّة في ربض بيت المقدس تحتها عين عذبة تسقي جنانا عظيمة وقفها عثمان ابن عفّان، رضي الله عنه، على ضعفاء بيت المقدس تحت بئر أيّوب، عليه السلام، ويزعمون أن ماء زمزم يزور ماء سلوان كل ليلة عرفة. وسلوان
أيضا: واد بأرض بني سليم، قال العباس بن مرداس:
«شنعاء جلّل من سوآتها حضن، *** وسال ذو شوعر منها وسلوان»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
143-معجم البلدان (سمرقند)
سَمَرْقَنْدُ:بفتح أوّله وثانيه، ويقال لها بالعربيّة سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنّه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر، وهو قصبة الصّغد مبنيّة
على جنوبي وادي الصغد مرتفعة عليه، قال أبو عون:
سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف، وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب فسميت شمر كنت فأعربت فقيل سمرقند، هكذا تلفظ به العرب في كلامها وأشعارها، وقال يزيد بن مفرّغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
«لهفي على الأمر الذي *** كانت عواقبه النّدامه»
«تركي سعيدا ذا النّدى، *** والبيت ترفعه الدّعامه»
«فتحت سمرقند له، *** وبنى بعرصتها خيامه»
«وتبعت عبد بني علا *** ج، تلك أشراط القيامه»
وبالبطيحة من أرض كسكر قرية تسمى سمرقند أيضا، ذكره المفجّع في كتاب المنقذ من الإيمان في أخبار ملوك اليمن قال: لما مات ناشر ينعم الملك قام بالملك من بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة فجمع جنوده وسار في خمسمائة ألف رجل حتى ورد العراق فأعطاه يشتاسف الطاعة وعلم أن لا طاقة له به لكثرة جنوده وشدّة صولته، فسار من العراق لا يصدّه صادّ إلى بلاد الصين فلمّا صار بالصّغد اجتمع أهل تلك البلاد وتحصّنوا منه بمدينة سمرقند فأحاط بمن فيها من كلّ وجه حتى استنزلهم بغير أمان فقتل منهم مقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهدمت فسميت شمركند، أي شمر هدمها، فعرّبتها العرب فقالت سمرقند، وقد ذكر ذلك دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها ويردّ بها على الكميت ويذكر التبابعة:
«وهم كتبوا الكتاب بباب مرو، *** وباب الصّين كانوا الكاتبينا»
«وهم سمّوا قديما سمرقندا، *** وهم غرسوا هناك التّبّتينا»
فسار شمر وهو يريد الصين فمات هو وأصحابه عطشا ولم يرجع منهم مخبّر، فبقيت سمرقند خرابا إلى أن ملك تبّع الأقرن بن أبي مالك بن ناشر ينعم فلم تكن له همّة إلّا الطلب بثأر جدّه شمر الذي هلك بأرض الصين فتجهّز واستعدّ وسار في جنوده نحو العراق فخرج إليه بهمن بن إسفنديار وأعطاه الطاعة وحمل إليه الخراج حتى وصل إلى سمرقند فوجدها خرابا، فأمر بعمارتها وأقام عليها حتى ردّها إلى أفضل ما كانت عليه، وسار حتى أتى بلادا واسعة فبنى التّبّت كما ذكرنا، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأحرق وعاد إلى اليمن في قصة طويلة، وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا، وفيها بساتين ومزارع وأرحاء، ولها اثنا عشر بابا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كلّ بابين منزل للنوّاب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق، وفي ربضها من المزارع عشرة آلاف جريب، ولهذه المدينة، أعني الداخلة، أربعة أبواب، وساحتها ألفان وخمسمائة جريب، وفيها المسجد الجامع والقهندز وفيه مسكن السلطان، وفي هذه المدينة الداخلة نهر يجري في رصاص، وهو نهر قد بني عليه مسنّاة عالية من حجر يجري عليه الماء إلى أن يدخل المدينة من باب كسّ، ووجه هذا النهر رصاص كلّه، وقد عمل في خندق المدينة مسنّاة وأجري عليها، وهو نهر يجري في وسط السوق بموضع يعرف بباب الطاق،
وكان أعمر موضع بسمرقند، وعلى حافات هذا النهر غلّات موقوفة على من بات في هذا النهر وحفظة من المجوس عليهم حفظ هذا النهر شتاء وصيفا مستفرض ذلك عليهم، وفي المدينة مياه من هذا النهر عليها بساتين، وليس من سكة ولا دار إلّا وبها ماء جار إلّا القليل، وقلّما تخل
ثبت فيها ملك العرب، وأخذ رهانهم وانصرف، فلمّا كانت سنة 87 عبر قتيبة بن مسلم النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثمّ غزا ما وراء النهر عدّة غزوات في سنين سبع وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام فسلب حليها وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصناما من أحرقها هلك! فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأضرمها فاضطرمت فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وبسمرقند عدّة مدن مذكورة في مواضعها، منها: كرمانية ودبوسية وأشروسنة والشاش ونخشب وبناكث، وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند، وقد شبهها حضين بن المنذر الرقاشي فقال:
كأنّها السماء للخضرة وقصورها الكواكب للإشراق ونهرها المجرّة للاعتراض وسورها الشمس للإطباق، ووجد بخط بعض ظرفاء العراق مكتوبا على حائط سمرقند:
«وليس اختياري سمرقند محلّة *** ودار مقام لاختيار ولا رضا»
«ولكنّ قلبي حلّ فيها فعاقني *** وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا»
«وإنّي لممّن يرقب الدّهر راجيا *** ليوم سرور غير مغرى بما مضى»
وقال أحمد بن واضح في صفة سمرقند:
«علت سمرقند أن يقال لها *** زين خراسان جنّة الكور»
«أليس أبراجها معلّقة *** بحيث لا تستبين للنّظر»
«ودون أبراجها خنادقها *** عميقة ما ترام من ثغر»
«كأنّها وهي وسط حائطها *** محفوفة بالظّلال والشّجر»
«بدر وأنهارها المجرّة وال *** آطام مثل الكواكب الزّهر»
وقال البستي:
«للنّاس في أخراهم جنّة، *** وجنّة الدنيا سمرقند»
«يا من يسوّي أرض بلخ بها، *** هل يستوي الحنظل والقند؟»
قال الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية:
بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ، وبين بغداد وبين إفريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مائتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر
فرسخا، وقال الشيخ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن المظفّر الكسّي بسمرقند أنبأنا أبو الحسن عليّ بن عثمان بن إسماعيل الخرّاط إملاء أنبأنا عبد الجبار بن أحمد الخطيب أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخطيب
يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كلّ باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبّحون ويهلّلون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي يا دائم يا دائم يا الله يا صمد احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنّة ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وخارج المدينة على ثلاثة فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ويدعون الله بالذكر لهم، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيّات وحيّة تخرج على صفة الآدميّين تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبّد فيها ليلة تقبّل الله منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يوما فكأنّما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا، ومن مات في هذه المدينة فكأنّما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة، وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفع كلّ شهيد منهم في سبعين من أهل بيته، وقال حذيفة: وددت أن يوافقني هذا الزمان وكان أحبّ إليّ من أن أوافق ليلة القدر، وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، وينسب إلى سمرقند جماعة كثيرة، منهم: محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي نزيل مصر، سمع بدمشق أبا الحسين الميداني، وبمصر أبا مسلم الكاتب وأبا الحسن عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي وأبا الحسين أحمد بن محمد الأزهر التنيسي المعروف بابن السمناوي ومحمد ابن سراقة العامري وأحمد بن محمد الجمّازي وأبا القاسم الميمون بن حمزة الحسيني وأبا الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي وأبا الحسن علي بن محمد ابن سنان، روى عنه أبو الربيع سليمان بن داود بن أبي حفص الجبلي وأبو عبد الله بن الخطّاب وسهل بن بشر وأبو الحسن عليّ بن أحمد بن ثابت العثماني الديباجي وأبو محمد هيّاج بن عبيد الحطّيني، ومات سنة 444 وأحمد بن عمر بن الأشعث أبو بكر السمرقندي، سكن دمشق مدة وكان يكتب بها المصاحف ويقرأ ويقرئ القرآن، وسمع بدمشق أبا علي بن أبي نصر وأبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، روى عنه أبو الفضل كمّاد بن ناصر بن نصر المراغي الحدّادي، حدث عنه ابنه أبو القاسم، قال ابن عساكر:
سمعت الحسن بن قيس يذكر أن أبا بكر السمرقندي كان يكتب المصاحف من حفظه وكان لجماعة من أهل دمشق فيه رأي حسن فسمعت الحسن بن قيس يذكر أنّه خرج مع جماعة إلى ظاهر البلد في فرجة فقدّموه يصلي بهم وكان مزّاحا، فلمّا سجد بهم تركهم في
الصلاة وصعد إلى شجرة، فلمّا طال عليهم انتظاره رفعوا رؤوسهم فلم يجدوه فإذا هو في الشجرة يصيح صياح السنانير فسقط من أعينهم، فخرج إلى بغداد وترك أولاده بدمشق واتصل ببغداد بعفيف الخادم القائمي فكان يكرمه وأنزله في موضع من داره، فكان إذا جاءه الفرّاش بالطعا
سله عن سبب بكائه، فسأله فقال: إن لي بدمشق أولادا في ضيق فإذا جاءني الطعام تذكّرتهم، فأخبره الفرّاش بذلك، فقال: سله أين يسكنون وبمن يعرفون، فسأله فأخبره، فبعث عفيف إليهم من حملهم من دمشق إلى بغداد، فما أحسّ بهم أبو بكر حتى قدم عليه ابنه أبو محمد وقد خلّف أمّه وأخويه عبد الواحد وإسماعيل بالرحبة ثمّ قدموا بعد ذلك فلم يزالوا في ضيافة عفيف حتى مات، وسألت ابنه أبا القاسم عن وفاته فقال في رمضان سنة 489.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
144-معجم البلدان (سورين)
سُورِين:هذا بكسر الراء، وباقيه مثل الأوّل:
نهر بالرّيّ، قال مسعر بن مهلهل: رأيت أهل الريّ يتكرهونه ويتطيرون منه ولا يقربونه، فسألت عن أمره فقال لي شيخ منهم: إن السيف الذي قتل به يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، غسل فيه. وسورين أيضا: قرية على نصف فرسخ من نيسابور، ينسب إليها محمد بن محمد بن أحمد بن علي المولقاباذي أبو بكر السوري وهو ابن عم حسان الزكي، حدث عن أبي عمرو بن نجيد وأبي عمرو بن مطير الأولكي الفامي المولقاباذي وأبي الحسين محمد بن أحمد بن حامد العطار، مات في رجب سنة 430، وفي تاريخ دمشق: إبراهيم بن نصر بن منصور أبو إسحاق السوريني، ويقال السوراني الفقيه، وسورين: محلة بأعلى نيسابور، له رحلة إلى الشام، سمع محمد بن بكار بن بلال ويحيى بن صالح الوحاظي وعطاء بن مسلم الحلبي الخفّاف وسفيان بن عيينة وأبا مسلم بكر بن عبّاس ووكيع بن الجرّاح وأبا معاوية محمد بن فضيل وعمر بن شيب المسلي وعبد الوهاب الثقفي وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الله بن المبارك وجرير بن عبد الحميد وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد العدني ومروان الفزاري والوليد بن القاسم وعمرو بن محمد العبقري وعبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن مغراء وأبا البختري وهب بن وهب، روى عنه أيّوب بن الحسن الزاهد وأحمد بن يوسف السلمي وعليّ بن الحسن الرزانجردي ومحمد بن عبد الوهاب الفراء وأبو زرعة
وأبو حاتم الرازيان ومحمد بن أشرس السلمي ومحمد ابن عمر الجرشي ومهدي بن الحارث، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقدمان إبراهيم بن نصر السوريني المطّوّعي النيسابوري في حفظ المسند، وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: سمعت أبا زرعة يثني على إبراهيم بن نصر فقال: هو رجل مشهور صدوق أعرفه رأيته بالبصرة، وأثنى عليه خيرا، فقال أبو محمد: نظرت في علمه فلم أر فيه منكرا، وهو قليل الخطإ، وقال أبو عبد الله الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي قال لي أبو أحمد: محمد بن عبد الوهاب إبراهيم بن نصر العالم الديّن الورع أوّل من أظهر علم الحديث بنيسابور قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي حدثني محمد بن ماهان بن عبد الله أخبرني محمد بن الحكم أنّه رأى إبراهيم بن نصر السوريني في عسكر محمد بن حميد الطوسي بالدّينور في قتال بابك فوجد إبراهيم بن نصر مقتولا في سنة 210.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
145-معجم البلدان (شبداز)
شِبْدَازُ:بكسر أوّله، وسكون ثانيه ثمّ دال مهملة، وآخره زاي، ويقال شبديز، بالياء المثناة من تحت:
موضعان أحدهما قصر عظيم من أبنية المتوكّل بسرّ من رأى، والآخر منزل بين حلوان وقرميسين في لحف جبل بيستون سمي باسم فرس كان لكسرى، عن نصر، وقال مسعر بن المهلهل: وصورة شبديز على فرسخ من مدينة قرميسين، وهو رجل على فرس من حجر عليه درع لا يخرم كأنّه من الحديد يبين زرده والمسامير المسمرة في الزرد لا شك من نظر إليه يظن أنّه متحرّك، وهذه الصورة صورة أبرويز على فرسه شبديز وليس في الأرض صورة تشبهها، وفي الطاق الذي فيه هذه الصورة عدة صور من رجال ونساء ورجّالة وفرسان وبين يديه رجل في زيّ فاعل على رأسه قلنسوة وهو مشدود الوسط بيده بيل كأنّه يحفر به الأرض والماء يخرج من تحت رجليه، وقال أحمد بن محمد الهمذاني: ومن عجائب قرميسين وهي إحدى عجائب الدنيا صورة شبديز وهي في قرية يقال لها خاتان ومصوره قنطوس بن سنمّار، وسنمار هو الذي بنى الخورنق بالكوفة، وكان سبب صورته في هذه القرية أنّه كان أزكى الدواب وأعظمها خلقة وأظهرها خلقا وأصبرها على طول الركض، وكان ملك الهند أهداه إلى الملك أبرويز فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه ولا ينخر ولا يزبد، وكانت استدارة حافره ستة أشبار، فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه وعرف أبرويز ذلك وقال: لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه، فلمّا مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدّا من إخباره بموته فيقتله، فجاء إلى البهلبند مغنيه، ولم يكن فيما تقدّم من الأزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود والغناء، قالوا: كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله:
فرسه شبديز وسريته شيرين ومغنيه بهلبند، وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا، فوعده الحيلة، فلمّا حضر بين يدي الملك غناه غناء ورّى فيه عن القصة إلى أن فطن الملك وقال له:
ويحك مات شبديز! فقال: الملك يقوله، فقال له:
زه ما أحسن ما تخلصت وخلّصت غيرك! وجزع عليه جزعا عظيما فأمر قنطوس بن سنمّار بتصويره فصوّره على أحسن وأتمّ تمثال حتى لا يكاد يفرق بينهما إلّا بإدارة الروح في جسدهما، وجاء الملك ورآه فاستعبر باكيا عند تأمّله إيّاه وقال: لشدّ ما نعى إلينا أنفسنا هذا التمثال وذكّرنا ما نصير إليه من فساد حالنا، ولئن كان في الظاهر أمر من أمور الدنيا يدلّ على أمور الآخرة إن فيه لدليلا على الإقرار بموت جسدنا وانهدام بدننا وطموس صورتنا ودروس أثرنا للبلى الذي لا بدّ منه مع الإقرار بالتأثير الذي لا سبيل إليه أن يبقى من جمال صورتنا، وقد أحدث لنا وقوفنا على هذا التمثال ذكرا لما تصير إليه حالنا وتوهمنا وقوف الواقفين عليه بعدنا حتى كأننا بعضهم ومشاهدون لهم، قال: ومن عجائب هذا التمثال أنّه لم ير مثل صورته صورة ولم يقف عليه أحد منذ صوّر من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق إلّا استراب بصورته وعجب منها، حتى لقد سمعت كثيرا من هذا الصنف يحلفون أو يقاربون اليمين أنّها ليست من صنعة العباد وأن لله تعالى خبيئة سوف يظهرها يوما، قال: وسمعت بعض فقهاء المعتزلة يقول لو أن رجلا خرج من فرغانة القصوى وآخر من سوس الأبعد قاصدين النظر إلى صورة شبديز ما عنفا على ذلك، قال: وأنت إذا فكّرت في أمر صورة
شبديز وجدتها كما ذكر هذا المعتزلي، فإن كان من صنعة الآدميين فقد أعطي هذا المصوّر ما لم يعط أحد من العالمين، فأي شيء أعجب أو أظرف أو أشد امتناعا من أنه سخرت له الحجارة كما يريد، ففي الموضع الذي يحتاج أن يكون أسود اسودّ وفي الموضع الذي يحتاج أن يكون أحمر
«والملك كسرى شهنشاه تقنّصه *** سهم بريش جناح الموت مقطوب»
«إذ كان لذّته شبديز يركبه، *** وغنج شيرين والدّيباج والطّيب»
«بالنّار آلى يمينا شدّ ما غلظت *** أن من بدا فنعى الشبديز مصلوب»
«حتى إذا أصبح الشبديز منجدلا، *** وكان ما مثله في الخيل مركوب»
«ناحت عليه من الأوتار أربعة *** بالفارسيّة نوحا فيه تطريب»
«ورنّم البهلبند الوتر فالتهبت *** من سحر راحته اليمنى شآبيب»
«فقال: مات! فقالوا: أنت فهت به *** فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب»
«لولا البهلبند والأوتار تندبه *** لم يستطع نعي شبديز المرازيب»
«أخنى الزّمان عليهم فاجرهدّ بهم، *** فما يرى منهم إلّا الملاعيب»
وقال أبو عمران الكسروي يذكره:
«وهم نقروا شبديز في الصّخر عبرة، *** وراكبه برويز كالبدر طالع»
«عليه بهاء الملك والوفد عكّف *** يخال به فجر من الأفق ساطع»
«تلاحظه شيرين واللّحظ فاتن، *** وتعطو بكفّ حسّنتها الأشاجع»
«يدوم على كرّ الجديدين شخصه، *** ويلفى قويم الجسم واللون ناصع»
واجتاز بعض الملوك هناك ونزل وشرب وأعجبه الموضع فاستدعى خلوقا وزعفرانا فخلّق وجه شبديز وشيرين والملك، فقال بعض الشعراء:
«كاد شبديز أن يحمحم لمّا *** خلّق الوجه منه بالزّعفران»
«وكأنّ الهمام كسرى وشيري *** ن مع الشيخ موبذ الموبذان»
«من خلوق قد ضمّخوهم جميعا *** أصبحوا في مطارف الأرجوان»
وقال ابن الفقيه: أنشدني أبو محمد العبدي الهمذاني لنفسه في صورة شبديز:
«من ناظر معتبر أبصرت *** مقلته صورة شبديز»
«تأمّل الدّنيا وآثارها *** في ملك الدّنيا أبرويز»
«يوقن أنّ الدّهر لا يأتلي *** يلحق موطوءا بمهزوز»
«أبعد كسرى اعتاض من ملكه *** مخطّ رسم ثمّ مرموز»
«يغبط ذو ملك على عيشة *** رنق يعانيها بتوفيز»
وقال آخر يذكر شبديز وأبرويز:
«شبديز منحوت صخر بعد بهجته *** للناظرين، فلا جري ولا خبب»
«عليه برويز مثل البدر منتصبا *** للنّاظرين، فلا يجدي ولا يهب»
«وربّما فاض للعافين من يده *** سحائب، ودقها المرجان والذّهب»
«فلا تزال مدى الأيّام صورته *** تحنّ شوقا إليها العجم والعرب»
قلت: وعندي أشعار وأراجيز اكتفيت منها بهذا القدر تجنّبا للإطالة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
146-معجم البلدان (شعوب)
شَعُوبُ:بفتح أوّله، وآخره باء موحدة، قصر شعوب: قصر باليمن معروف بالارتفاع، وخبرني القاضي المفضل بن أبي الحجّاج قال: أخبرني كثير من أهل اليمن أن شعوب بساتين بظاهر صنعاء، وهو الذي أراد زياد بن منقذ بقوله:
لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلد ولا شعوب هوى مني ولا نقم قال: والشّعبة الفرقة، ومنه سميت المنيّة شعوب لأنّها تفرّق، وشعوب: اسم علم للمنية غير منصرف.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
147-معجم البلدان (شلوبينية)
شَلوبِينِيَةُ:بفتح أوله، وبعد الواو الساكنة باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت، ونون مكسورة، وياء أخرى خفيفة مثناة من تحت:
حصن بالأندلس من أعمال كورة البيرة على شاطئ البحر كثير الموز وقصب السكر والشاه بلوط، ينسب إليها أبو علي عمر بن محمد بن عمر الأزدي النحوي، إمام عظيم مقيم بإشبيلية، وهو حيّ أو مات عن قريب، أخبرني خبره أبو عبد الله محمد بن عبد الله المرسي يعرف بأبي الفضل وكان من تلاميذه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
148-معجم البلدان (الشيحة)
الشِّيحَةُ:بلفظ واحدة الذي قبله، قال أبو عبيد السّكوني: الشيحة شرقي فيد، بينهما مسيرة يوم وليلة، ماءة معروفة تناوح القيصومة وهي أول الرمل، وقال نصر: الشيحة موضع بالحزن من ديار بني يربوع، وقيل: هي شرقي فيد بينهما يوم وليلة، وبينها وبين النباج أربع، وقيل: الشيحة ببطن الرّمة. والشيحة أيضا: من قرى حلب، قد نسب إليها بعض الأعيان، وقال الحافظ المعادي: نسب إليها عبد المحسن الشيحي المعروف بابن شهدانكه، سمع بدمشق أبا الحسن بن أبي نصر وأبا القاسم الحنّائي وأبا القاسم التنوخي وأبا الطيّب الطبري وأبا بكر الخطيب وأبا عبد الله القضاعي وذكر جماعة، وروى عنه الخطيب أبو بكر، وهو أكبر منه وأعلى إسنادا، ونجيب بن علي الأرمنازي قال: ولدت في سنة 421، وأول سماعي سنة 427، ومات سنة 487 هذا كله عن الحافظ أبي القاسم من خط ابن النجّار الحافظ، وقال السمعاني: ينسب إليها عبد المحسن بن محمد بن علي بن أحمد بن منصور الناجي الشيحي البغدادي، كتب الحديث بالعراق والشام ومصر وحدّث، وكان له أنس بالحديث، أخبرني القاضي أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي أن هذه القرية يقال لها شيح الحديد وقال: ومنها يوسف ابن أسباط، وقال السكري: كان جحدر اللّصّ ينزل الشيحة من أرض عمان.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
149-معجم البلدان (صقلب)
صَقْلَبُ:بالفتح ثمّ السكون، وفتح اللام، وآخره باء موحدة، قال ابن الأعرابي: الصّقلاب الرجل الأبيض، وقال أبو عمرو: الصقلاب الرجل الأحمر، قال أبو منصور: الصقالبة جيل حمر الألوان صهب الشعور يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم، وقيل للرجل الأحمر صقلاب على التشبيه بألوان الصقالبة، وقال غيره: الصقالبة بلاد بين بلغار وقسطنطينية وتنسب إليهم الخرم الصقالبة واحدهم صقلبيّ، وقال ابن الكلبي: ومن أبناء يافث بن نوح، عليه السلام، يونان والصقلب والعبدر وبرجان وجرزان وفارس والروم فيما بين هؤلاء والمغرب، وقال ابن الكلبي في موضع آخر: أخبرني أبي قال رومي وصقلب وأرميني وأفرنجي إخوة وهم بنو لنطى ابن كسلوخيم بن يونان بن يافث سكن كلّ واحد منهم بقعة من الأرض فسميت به. وصقلب أيضا:
بالأندلس من أعمال شنترين وأرضها أرض زكيّة يقال إن المكّوك إذا زرع في أرضها ارتفع منه مائة قفيز وأكثر، وبصقليّة أيضا موضع يقال له صقلب ويقال له أيضا حارة الصقالبة، بها عيون جارية، تذكر في صقلية، وقال المسعودي: الصقالبة أجناس مختلفة ومساكنهم بالحربي إلى شلو في المغرب، وبينهم حروب، ولهم ملوك فمنهم من ينقاد إلى دين النصرانية اليعقوبية ومنهم من لا كتاب له ولا شريعة، وهم جاهلون، وأشجعهم جنس يقال له السّري يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات منهم ملك أو رئيس ويحرقون دوابّهم، ولهم أفعال مثل أفعال الهند، وفي بلاد الخزر صنف كثير منهم، فالأوّل من ملوك الصقالبة ملك الدير وله عمائر كثيرة وتجّار المسلمين يقصدون مملكته بأنواع التجارات، ثمّ يلي هذه المملكة من ملوك الصقالبة ملك الفرنج وله معدن ذهب ومدن وعمائر كثيرة وجيوش كثيرة وتجارات الروم، ثمّ يلي هذا الملك من الصقالبة ملك الترك، وهذا الملك من بلاد الصقالبة وهذا الجنس منهم أحسن الصقالبة صورا وأكثرهم عددا وأشدّهم بأسا، وكانوا من قبل ينقادون إلى ملك واحد ثمّ اختلفت كلمتهم وصار كلّ ملك برأسه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
150-معجم البلدان (صهى)
صُهىً:جمع صهوة: وهي عدّة قلل في جبل بين المدينة ووادي القرى يقال لكل واحدة منها صهوة وجمعها صها، أخبرني بذلك من رآها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
151-معجم البلدان (طرسوس)
طَرَسُوسُ:بفتح أوله وثانيه، وسينين مهملتين بينهما واو ساكنة، بوزن قربوس، كلمة عجمية رومية، ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر لأن فعلول ليس من أبنيتهم، قال صاحب الزيج: طول طرسوس ثمان وخمسون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة وربع، وهي في الإقليم الرابع، وقالوا: سميت بطرسوس بن الروم بن اليفز بن سام ابن نوح، عليه السلام، وقيل: إن مدينة طرسوس أحدثها سليمان كان خادما للرشيد في سنة نيف وتسعين ومائة، قاله أحمد بن محمد الهمذاني، وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم، قال أحمد بن الطيّب السّرخسي: رحلنا من المصيصة نريد العراق إلى أذنة ومن أذنة إلى طرسوس، وبينها وبين أذنة ستة فرسخ، وبين أذنة وطرسوس فندق بغا والفندق الجديد، وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب ويشقها نهر البردان وبها قبر المأمون عبد الله بن الرشيد جاءها غازيا فأدركته منيته فمات، فقال الشاعر:
«هل رأيت النجوم أغنت عن المأ *** مون في عزّ ملكه المأسوس؟»
«غادروه بعرصتي طرسوس *** مثل ما غادروا أباه بطوس»
وما زالت موطنا للصالحين والزهّاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة 354 فان نقفور ملك الروم استولى على الثغور وفتح المصيصة، كما نذكره في موضعه، ثم رحل عنها ونزل على طرسوس وكان بها من قبل سيف الدولة رجل يقال له ابن الزّيّات ورشيق النسيمي مولاه فسلّما إليه المدينة على الأمان والصلح على أن من خرج منها من المسلمين وهو يحمل من ماله مهما قدر عليه لا يعترض من عين وورق أو خرثيّ وما لم يطق حمله فهو لهم مع الدور والضياع، واشترط تخريب الجامع والمساجد، وأنه من أراد المقام في البلد على الذمّة وأداء الجزية فعل وإن تنصّر فله الحباء والكرامة وتقرّ عليه نعمته، قال: فتنصّر خلق فأقرّت نعمهم عليهم وأقام نفر يسير على الجزية وخرج أكثر الناس يقصدون بلاد الإسلام وتفرّقوا فيها، وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرّب المساجد وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أميّة إلى هذه الغاية، وحدث أبو القاسم التنوخي قال: أخبرني جماعة ممن جلا عن ذلك الثغر أن نقفور لما فتح طرسوس نصب في ظاهرها علمين ونادى مناديه: من أراد بلاد الملك الرحيم وأحبّ العدل والنّصفة والأمن على المال والأهل والنفس والولد وأمن السبل وصحة الأحكام والإحسان في المعاملة وحفظ الفروج وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم، ومن أراد الزنا واللواط والجور في الأحكام والأعمال وأخذ الضرائب وتملّك الضياع عليه وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد
الإسلام، فصار تحت علم الروم خلق من المسلمين ممن تنصّر وممن صبر على الجزية، ودخل الروم إلى طرسوس فأخذ كلّ واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها ثم يتوكل ببابها ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ فان رآه قد تجاوز منعه حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني فاحتوى على ما فيها، وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهنّ وقالت: أنا الآن حرّة لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه ومنهنّ من منعت الأب من ولده فنشأ نصرانيّا، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم فيودع ولده ويبكي ويصرخ وينصرف على أقبح صورة حتى بكى الروم رقّة لهم وطلبوا من يحملهم فلم يجدوا غير الروم فلم يكروهم إلا بثلث ما أخذوه على أكتافهم أجرة حتى سيروهم إلى أنطاكية، هذا وسيف الدولة حيّ يرزق بميّافارقين والملوك كلّ واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين وعطّلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان ونسأله الكفاية من عنده، ولم تزل طرسوس وتلك البلاد بيد الروم والأرمن إلى هذه الغاية، وقد نسب إليها جماعة يفوت حصرهم، وأما أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سالم الطرسوسي فانه بغداديّ أقام بها إلى أن مات سنة 273 فنسب إليها، وممن نسب إليها من الحفّاظ محمد بن عيسى ابن يزيد الطرسوسي التميمي ثم السعدي، رحّال من أهل المعرفة، سمع بدمشق سليمان بن عبد الرحمن وصفوان بن صالح وسمع بحمص ومكة، وسمع عيسى بن قالون المقري بالمدينة، وبالكوفة أبا نعيم، وبالبصرة سليمان بن حرب، وبميافارقين مسلما ومحمد ابن حميد الرازي، روى عنه أبو بكر بن خزيمة وأبو العباس الدّغولي وأبو عوانة الأسفراييني وهو غير متهم، قال الحافظ أبو عبد الله: وكان من المشهورين بالطلب في الرحلة والكثرة والفهم والثبت، ورد خراسان بعد 250 ونزل نيسابور وأقام بها وكتب عنه من كان في عصره ثم خرج إلى مرو فأقام بها مدة وأكثر أهل مرو عنه بعد الستين ثم دخل بلخ فتوفي بها سنة 276.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
152-معجم البلدان (طيبة)
طَيْبَةُ:بالفتح ثم السكون ثم الباء موحدة: وهو اسم لمدينة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقال لها طيبة وطابة من الطيب وهي الرائحة الحسنة لحسن رائحة تربتها فيما قيل، والطاب والطيب لغتان، وقيل: من الشيء الطيب وهو الطاهر الخالص لخلوصها من الشرك وتطهيرها منه، قال الخطّابي: لطهارة تربتها وهذا لا يختصّ بهناك لأن الأرض كلها مسجد وطهور، وقيل: لطيبها لساكنيها ولأمنهم ودعتهم فيها، وقيل: من طيب العيش بها من طاب الشيء إذا وافق، وقال صرمة الأنصاري:
«فلما أتانا أظهر الله دينه، *** وأصبح مسرورا بطيبة راضيا»
وقال الفضل بن العباس اللهبي:
«وعلى طيبة التي بارك الل *** هـ عليها بخاتم الأنبياء»
قرأت بخط أبي الفضل العباس بن علي الصولي بن برد الخيار عن خالد عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: صعد النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، المنبر وكان لا يصعده إلا يوم جمعة فأنكر الناس ذلك فكانوا بين قائم وجالس، فأومأ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، إليهم بيده أن اجلسوا ثم قال: إني لم أقم بمقامي هذا إلا لأمر ينغضكم ولكن تميما الداري أخبرني أن بني عمّ له كانوا في البحر فأخذتهم ريح عاصف فألجأتهم إلى جزيرة فإذا هم بشيء أسود أهدب كثير الشعر فقالوا: ما أنت؟ فقالت: أنا الجسّاسة، فقالوا:
أخبرينا! فقالت: ما أنا بمخبرتكم بشيء ولكن عليكم بهذا الدير فإن فيه رجلا هو بالأشواق إلى محادثتكم، فدخلوا فإذا هم بشيخ موثق شديد الوثاق شديد التشكي مظهر للحزن، فسألهم: من أي العرب أنتم؟
فقالوا: نحن قوم من العرب من أهل الشام، قال:
فما فعل الرجل الذي خرج فيكم؟ قلنا: بخير، قاتله قومه فظهر عليهم، قال: فما فعلت عين زغر؟
قالوا: يشربون منها ويسقون، قال: فما فعل نخل بين عمّان وبيسان؟ قالوا: يطعم جناه في كل حين، قال: فما فعلت بحيرة طبرية؟ قالوا: يتدفّق جانباها، فزفر ثلاث زفرات ثم قال: لو قد أفلتّ من وثاقي هذا لم أدع أرضا إلا وطئتها برجلي إلا طيبة فإنه ليس لي عليها سلطان، ثم قال النبي، صلّى الله عليه وسلّم: إلى هذه انتهى فرحي، هذه طيبة، والذي نفس محمد بيده ما فيها طريق واسع
ولا دقيق ولا سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر سيفه إلى يوم القيامة، وقال أبو عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
«يا من رأى البرق بالحجاز فما *** أقبس أيدي الولائد الضّرما»
«لاح سناه من نخل يثرب فال *** حرّة حتى أضا لنا إضما»
«أسقى به الله بطن طيبة فال *** رّوحاء فالأخشبين فالحرما»
«أرض بها تثبت العشيرة قد *** عشنا وكنّا من أهلها علما»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
153-معجم البلدان (عنيزة)
عُنَيزَةُ:بضم أوله، وفتح ثانيه، وبعد الياء زاي، يجوز أن يكون تصغير أشياء، منها العنزة: وهو رمح قصير قدر نصف الرمح أو أكثر شيئا وفيها زجّ كزجّ الرمح، والعنزة: وهو دويبة من السباع تكون بالبادية دقيقة الخطم تأخذ البعير من قبل دبره وقلّ ما ترى، ويزعمون أنه شيطان فلا يرى البعير فيه إلا مأكولا، والعنزة: من الظباء والشاء، زيدت الهاء فيه لتأنيث البقعة أو الركية أو البئر، فأما العنز فهو بغير هاء أو العنز من الأرض: وهو ما فيه حزونة من أكمة أو تلّ أو حجارة، والهاء فيه أيضا لتأنيث البقعة: وهو موضع بين البصرة ومكة، قال شيخ لقوم: هل رأيتم عنيزة؟ قالوا: نعم، قال: أين؟ قالوا: عند الظرب الذي قد سدّ الوادي، قال: ليس تلك عنيزة، عنيزة بينها وبين مطلع الشمس عند الأكمة السوداء، وقال ابن الأعرابي: عنيزة على ما أخبرني به الفزاري تنهية للأودية ينتهي ماؤها إليها وهي على ميل من القريتين ببطن الرّمة، وهي لبني عامر بن كريز، قال أبو عبيد السكوني: استخرج عنيزة محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهو أمير على البصرة، وقيل: بل بعث الحجاج رجلا يحفر المياه، كما ذكرناه في الشجي، بين البصرة ومكة، فقال له: احفر بين عنيزة والشجي حيث تراءت للملك الضليل، فقال:
«تراءت لنا بين النقا وعنيزة *** وبين الشجي مما أحال على الوادي»
والله ما تراءت له إلا على الماء، وقال امرؤ القيس:
«تراءت لنا يوما بسفح عنيزة *** وقد حان منها رحلة وقلوص»
وقال ابن الفقيه: عنيزة من أودية اليمامة قرب سواج، وقرى عنيزة بالبحرين، قال جرير:
«أمسى خليطك قد أجدّ فراقا *** هاج الحزين وهيّج الأشواقا»
«هل تبصران ظعائنا بعنيزة *** أم هل تقول لنا بهنّ لحاقا؟»
«إنّ الفؤاد مع الذين تحمّلوا *** لم ينظروا بعنيزة الإشراقا»
وقد ذكره مهلهل بن ربيعة أخو كليب في قوله:
«فدى لبني شقيقة يوم جاءوا *** كأسد الغاب لجّت في زئير»
«كأنّ رماحهم أشطان بئر *** بعيد بين جاليها جرور»
«غداة كأننا وبني أبينا *** بجنب عنيزة رحيا مدير»
وقال: أدخل بعض الأعراب عليها الألف واللام فقال:
«لعمري لضبّ بالعنيزة صائف *** تضحّى عرادا فهو ينفخ كالقرم»
«أحبّ إلينا أن يجاور أهلها *** من السمك الجرّيث والسلجم الوخم»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
154-معجم البلدان (عوارض)
عُوَارِضُ:بضم أوله، وبعد الألف راء مكسورة، وآخره ضاد: اسم علم مرتجل لجبل ببلاد طيّء، قال العمراني: أخبرني جار الله أن عليه قبر حاتم طيّء، وقيل: هو لبني أسد، وقال الأبيوردي:
قنا وعوارض جبلان لبني فزارة، وأنشد:
فلأبغينّكم قنا وعوارضا والصحيح أنه ببلاد طيّء، وقال نصر: عوارض جبل أسود في أعلى ديار طيّء وناحية دار فزارة، وقال البرج بن مسهر الطائي:
«إلى الله أشكو من خليل أودّه *** ثلاث خلال كلها لي غائض»
«فمنهن أن لا تجمع الدهر تلعة *** بيوتا لنا، يا تلع سيلك غامض»
«ومنهن أن لا أستطيع كلامه *** ولا ودّه حتى يزول عوارض»
«ومنهن أن لا يجمع الغزو بيننا *** وفي الغزو ما يلقى العدو المباغض»
ويروى لمجنون ليلى:
«ألا ليت شعري عن عوارضتي قنا *** لطول التنائي هل تغيّرتا بعدي»
«وهل جارتانا بالثقيل إلى الحمى *** على عهدنا أم لم تدوما على العهد»
«وعن علويّات الرياح، إذا جرت *** بريح الخزامى، هل تدبّ إلى نجد»
«وعن أقحوان الرمل ما هو فاعل *** إذا هو أسرى ليلة بثرى جعد»
«وهل ينفضنّ الدهر أفنان لمّتي *** على لاحق المتنين مندلق الوخد»
«وهل أسمعنّ الدهر أصوات هجمة *** تحدّر من نشز خصيب إلى وهد؟»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
155-معجم البلدان (الغريان)
الغَرِيّانِ:تثنية الغريّ، وهو المطليّ، الغراء، ممدود: وهو الغراء الذي يطلى به، والغريّ فعيل بمعنى مفعول، والغريّ: الحسن من كلّ شيء، يقال: رجل غريّ الوجه إذا كان حسنا مليحا، فيجوز أن يكون الغريّ مأخوذا من كل واحد من هذين، والغريّ: نصب كان يذبح عليه العتائر، والغريّان: طربالان وهما بناءان كالصّومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال ابن دريد: الطربال قطعة من جبل أو قطعة من حائط تستطيل في السماء وتميل، وفي الحديث: كان، عليه الصلاة والسلام، إذا مرّ بطربال مائل أسرع المشي، والجمع الطرابيل،
وقيل: الطربال القطعة العالية من الجدار والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام: صوامعها.
والغريّان أيضا: خيالان من أخيلة حمى فيد بينهما وبين فيد ستة عشر ميلا يطؤهما طريق الحاجّ، عن الحازمي، والخيال: ما نصب في أرض ليعلم أنها حمى فلا تقرب، وحمى فيد: معروف وله أخيلة، وفيهما يقول الشاعر فيما أحسب:
«وهل أرين بين الغريّين فالرّجا *** إلى مدفع الريّان سكنا تجاوره؟»
لأن الرجا والريّان قريتان من هذا الموضع، وقال ابن هرمة:
«أتمضي ولم تلمم على الطّلل القفر *** لسلمى ورسم بالغريّين كالسطر»
«عهدنا به البيض المعاريب للصّبا *** وفارط أحواض الشباب الذي يقري»
وقال السمهري العكلي:
«ونبّئت ليلى بالغريّين سلّمت *** عليّ، ودوني طخفة ورجامها»
«عديد الحصى والأثل من بطن بيشة *** وطرفائها ما دام فيها حمامها»
قال: فأما الغريّان بالكوفة فحدّث هشام بن محمد الكلبي قال: حدّثني شرقيّ بن القطامي قال: بعثني المنصور إلى بعض الملوك فكنت أحدثه بحديث العرب وأنسابها فلا أراه يرتاح لذلك ولا يعجبه، قال: فقال لي رجل من أصحابه يا أبا المثنى أي شيء الغريّ في كلام العرب؟ قلت: الغريّ الحسين، والعرب تقول:
هذا رجل غريّ، وإنما سمّيا الغريين لحسنهما في ذلك الزمان، وإنما بني الغريان اللذان في الكوفة على مثل غريّين بناهما صاحب مصر وجعل عليهما حرسا فكل من لم يصلّ لهما قتل إلا أنه يخيّره خصلتين ليس فيهما النجاة من القتل ولا الملك ويعطيه ما يتمنى في الحال ثم يقتله، فغبر بذلك دهرا، قال: فأقبل قصّار من أهل إفريقية ومعه حمار له وكذين فمرّ بهما فلم يصلّ فأخذه الحرس فقال: ما لي؟ فقالوا:
لم تصلّ للغريّين، فقال: لم أعلم، فذهبوا به إلى الملك فقالوا: هذا لم يصلّ للغريّين، فقال له: ما منعك أن تصلي لهما؟ قال: لم أعلم وأنا رجل غريب من أهل إفريقية أحببت أن أكون في جوارك لأغسل ثيابك وثياب خاصتك وأصيب من كنفك خيرا، ولو علمت لصليت لهما ألف ركعة، فقال له: تمنّ، فقال: وما أتمنّى؟ فقال: لا تتمنّ الملك ولا أن تنجّي نفسك من القتل وتمنّ ما شئت، قال: فأدبر القصّار وأقبل وخضع وتضرع وأقام عذره لغربته فأبى أن يقبل، فقال: إني أسألك عشرة آلاف درهم، فقال: عليّ بعشرة آلاف درهم، قال: وبريدا، فأتى البريد فسلّم إليه وقال: إذا أتيت إفريقية فسل عن منزل فلان القصّار فادفع هذه العشرة آلاف درهم إلى أهله، ثم قال له الملك: تمنّ الثانية، فقال: أضرب كلّ واحد منكم بهذا الكذين ثلاث ضربات واحدة شديدة وأخرى وسطى وأخرى دون ذلك، قال: فارتاب الملك ومكث طويلا ثم قال لجلسائه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن لا تقطع سنّة سنّها آباؤك، قالوا: فيمن تبدأ؟ قال: أبدأ بالملك ابن الملك الذي سنّ هذا، قال: فنزل عن سريره ورفع القصّار الكذين فضرب أصل قفاه فسقط على وجهه، فقال الملك: ليت شعري أيّ الضربات هذه! والله لئن كانت الهينة ثم جاءت الوسطى والشديدة لأموتن! فنظر إلى الحرس وقال: أولاد الزنا، تزعمون أنه لم يصلّ وأنا والله رأيته حيث صلى، خلوا سبيله
واهدموا الغريّين! قال: فضحك القصار حتى جعل يفحص برجله من كثرة الضحك، قلت أنا: فالذي يقع لي ويغلب على ظني أن المنذر لما صنع الغريين بظاهر الكوفة سنّ تلك السنّة ولم يشرط قضاء الحوائج الثلاث التي كان يشرطها ملك مصر، والله أعلم، وأن الغريّين بظاهر الكوفة ب
أقفر من أهله ملحوب فقال عبيد:
«أقفر من أهله عبيد، *** فاليوم لا يبدي ولا يعيد»
«عنّت له منيّة تكود، *** وحان منها له ورود»
فقال له المنذر: أسمعني يا عبيد قولك قبل أن أذبحك، فقال:
«والله إن متّ ما ضرّني، *** وإن عشت ما عشت في واحده»
«فأبلغ بنيّ وأعمامهم *** بأن المنايا هي الواردة»
«لها مدة فنفوس العباد *** إليها، وإن كرهت، قاصده»
«فلا تجزعوا لحمام دنا، *** فللموت ما تلد الوالده»
فقال المنذر: ويلك أنشدني! فقال:
«هي الخمر بالهزل تكنى الطّلا، *** كما الذئب يكنّى أبا جعدة»
فقال المنذر: يا عبيد لا بد من الموت وقد علمت أن النعمان ابني لو عرض لي يوم بؤسي لم أجد بدّا من أن أذبحه، فأما أن كانت لك وكنت لها فاختر إحدى ثلاث خلال: إن شئت فصدتك من الأكحل وإن شئت من الأبجل وإن شئت من الوريد، فقال عبيد:
أبيت اللعن! ثلاث خلال كساحيات واردها شرّ وارد وحاديها شر حاد ومعاديها شر معاد فلا خير فيها لمرتاد، إن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت لها مفاصلي وذهلت منها ذواهلي فشأنك وما تريد من مقاتلي، فاستدعى له المنذر الخمر فشرب فلما أخذت منه وطابت نفسه وقدمه المنذر أنشأ يقول:
«وخيّرني ذو البؤس، في يوم بؤسه، *** خلالا أرى في كلها الموت قد برق»
«كما خيّرت عاد من الدهر مرة، *** سحائب ما فيها لذي خيرة أنق»
«سحائب ريح لم توكّل ببلدة *** فتتركها إلا كما ليلة الطّلق»
ثم أمر به المنذر ففصد حتى نزف دمه فلما مات غرّى بدمه الغريّين، فلم يزل على ذلك حتى مرّ به في بعض أيام البؤس رجل من طيّء يقال له حنظلة فقرّب ليقتل فقال: أبيت اللعن! إني أتيتك زائرا ولأهلي من بحرك مائرا فلا تجعل ميرتهم ما تورده عليهم من قتلي، قال له المنذر: لا بد من قتلك فسل حاجتك تقض لك قبل موتك، فقال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي فأحكم فيهم بما أريد ثم أسير إليك فينفذ في أمرك، فقال له المنذر: ومن يكفلك أنك تعود؟
فنظر حنظلة في وجوه جلسائه فعرف شريك بن عمرو ابن شراحيل الشيباني فقال:
«يا شريك يا ابن عمرو *** هل من الموت محاله؟»
«يا شريك يا ابن عمرو، *** يا أخا من لا أخا له»
«يا أخا المنذر فكّ ال *** يوم رهنا قد أنى له»
«يا أخا كل مضاف *** وأخا من لا أخا له»
«إنّ شيبان قبيل *** أكرم الناس رجاله»
«وأبو الخيرات عمرو *** وشراحيل الحمالة»
«رقباك اليوم في المج *** د وفي حسن المقاله»
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن! يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد إلى أجله، فأطلقه المنذر، فلما كان من القابل قعد المنذر في مجلسه في يوم بؤسه ينتظر حنظلة فأبطأ عليهم فقدم شريك ليقتل فلم يشعر إلا وراكب قد طلع فإذا هو حنظلة وقد تحنط وتكفّن ومعه نادبته تندبه، فلما رأى المنذر ذلك عجب من وفائه وقال: ما حملك على قتل نفسك؟ فقال: أيها الملك إن لي دينا يمنعني من الغدر، قال: وما دينك؟
قال: النصرانية، فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معا وأبطل تلك السّنّة وكان سبب تنصره وتنصر أهل الحيرة فيما زعموا، وروى الشرقيّ بن القطامي قال:
الغريّ الحسن من كل شيء وإنما سميا الغريّين لحسنهما وكان المنذر قد بناهما على صورة غريّين كان بعض ملوك مصر بناهما، وقرأت على ظهر كتاب شرح سيبويه المبرّد بخط الأديب عثمان بن عمر الصقليّ النحوي الخزرجي ما صورته: وجدت بخط أبي بكر السّرّاج، رحمه الله، على ظهر جزء من أجزاء
كتاب سيبويه أخبرني أبو عبد الله اليزيدي قال حدثني ثعلب قال: مرّ معن بن زائدة بالغريين فرأى أحدهما وقد شعّث وهدم فأنشأ يقول:
«لو كان شيء له أن لا يبيد على *** طول الزمان لما باد الغريّان»
«ففرّق الدهر والأيام بينهما، *** وكلّ إلف إلى بين وهجران»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
156-معجم البلدان (القبلية)
القَبَلِيّةُ:بالتحريك، كأنه نسبة الناحية إلى قبل، بالتحريك، وقد تقدم اشتقاقه: وهو من نواحي الفرع بالمدينة، قال العمراني: أخبرني جار الله عن عليّ الشريف قال: القبلية سراة فيما بين المدينة وينبع ما سال منها إلى ينبع سمي بالغور وما سال منها إلى أودية المدينة سمي بالقبلية، وحدّها من الشام ما بين الحتّ، وهو جبل من جبال بني عرك من جهينة، وما بين شرف السّيّالة أرض يطأها الحاجّ، وفيها جبال وأودية قد مرّ ذكرها متفرقا، وقال الطبراني في المعجم الكبير: أنبأنا الحسن بن إسحاق أنبأنا هارون بن عبد الله أنبأنا محمد بن الحسن حدثني حميد بن صالح عن عمّار وبلال ابني يحيى بن بلال ابن الحارث عن أبيهما بلال بن الحارث المزني أن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أقطعه هذه القطيعة وكتب له فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث، أعطاه معادن القبلية غوريّها وجلسيّها غشيّة وذات النّصب وحيث صلح
الزرع من قدس إن كان صادقا، وكتب معاوية:
ويروى وحيث يصلح الزرع من قريس، وفي رواية محمد الصيرفي غشيّة، بالغين والشين معجمتين، وفي رواية فاطمة بالعين والسين مهملتين.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
157-معجم البلدان (قرقرى)
قَرْقَرَى:بتكرير القاف والراء، وآخره مقصور، وقد تقدم اشتقاقه: أرض باليمامة، إذا خرج الخارج من وشم اليمامة يريد مهبّ الجنوب وجعل العارض شمالا فإنه يعلو أرضا تسمّى قرقرى فيها قرى وزروع ونخيل كثيرة، ومن قراها: الهزيمة، فيها ناس من بني قريش وبني قيس بن ثعلبة، وقرما والجواء والأطواء وتوضح، وعلى قرقرى يمرّ قاصد اليمامة من البصرة يدخل مرأة قرية المرأيّ الشاعر ينسب إليها، وفي قرقرى أربعة حصون: حصن لكندة وحصن لتميم وحصنان لثقيف، قال ذلك كله أبو عبيد الله السّكوني، رحمه الله تعالى، فقد سرّني بما أوضحه مما لم يتعرض له غيره عليّ، وحدث ابن الأنباري أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار حدّثني محمد بن حفص بإسناده عن يزيد بن العلاء بن مرقش قال حدثني أخي موسى بن العلاء قال: كنّا مع يحيى بن طالب الحنفي أحد بني ذهل بن الدّؤل بن حنيفة كان مولى لقريش وكان شيخا ديّنا يقرّئ أهل اليمامة وكانت له ضيعة باليمامة يقال لها البرّة العليا، وكان يشتري غلّات السلطان بقرقرى، وكان عظيم التجارة، وكان سخيّا فأصاب الناس جدب فجلا أهل البادية فنزلوا قرقرى ففرّق يحيى بن طالب فيهم الغلّات وكان معروفا بالسخاء، فباع عامل السلطان أملاكه وعزّه الدّين فهرب إلى العراق وقد كان كتب ضيعة من ضياعه لقوم قرارا لهم بها لئلا يبيعها السلطان فيما يبيع فكابره القوم عليها فخرج من اليمامة هاربا من الدّين يريد خراسان، فلما وصل إلى بغداد بعث رسولا إلى اليمامة وكنا معه فلما رآه في الزّورق اغرورقت عيناه بالدموع وكان معدودا من الفصحاء فأنشأ يقول:
«أحقّا، عباد الله، أن لست ناظرا *** إلى قرقرى يوما وأعلامها الغبر»
«كأنّ فؤادي كلما مرّ راكب *** جناح غراب رام نهضا إلى وكر»
«أقول لموسى، والدموع كأنها *** جداول فاضت من جوانبها تجري: »
«ألا هل لشيخ وابن ستين حجّة، *** بكى طربا نحو اليمامة، من عذر؟»
«وزهّدني في كلّ خير صنعته *** إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر»
«إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة *** دهاك الهوى واهتاج قلبك للذكر»
«فوا حزني مما أجنّ من الأسى *** ومن مضمر الشوق الدخيل إلى حجري»
«تغرّبت عنها كارها وهجرتها، *** وكان فراقيها أمرّ من الصبر»
«فيا راكب الوجناء أبت مسلّما، *** ولا زلت من ريب الحوادث في ستر»
«إذا ما أتيت العرض فاهتف بأهله: *** سقيت على شحط النوى مسبل القطر»
«فإنك من واد إليّ مرجّب *** وإن كنت لا تزداد إلا على عقري»
المرجّب: المعظّم، ومنه قول الأنصاري: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب.
وبه سمّي رجب لتعظيمهم إياه، وحدث أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال أخبرني أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال: كان يحيى بن طالب الحنفي مولى لقريش باليمامة، وكان شيخا فصيحا ديّنا يقرّئ الناس، وكان عظيم التجارة، وذكر مثل ما تقدّم، فخرج إلى خراسان هاربا من الدّين، فلما وصل إلى قومس قال:
«أقول لأصحابي ونحن بقومس، *** ونحن على أثباج ساهمة جرد: »
«بعدنا، وبيت الله، عن أرض قرقرى، *** وعن قاع موحوش، وزدنا على البعد»
فلما وصل إلى خراسان قال:
«أيا أثلات القاع من بطن توضح *** حنيني، إلى أطلالكنّ، طويل»
«ويا أثلاث القاع قلبي موكّل *** بكنّ، وجدوى غيركنّ قليل»
«ويا أثلات القاع قد ملّ صحبتي *** مسيري، فهل في ظلّكنّ مقيل؟»
«ألا هل إلى شمّ الخزامى ونظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل»
«فأشرب من ماء الحجيلاء شربة *** يداوى بها، قبل الممات، عليل»
«أحدّث عنك النفس أن لست راجعا *** إليك، فحزني في الفؤاد دخيل»
«أريد انحدارا نحوها فيصدّني، *** إذا رمته، دين عليّ ثقيل»
قال أبو بكر بن الأنباري: وقد غنّي بهذه الأبيات عند الرشيد فسأل عن قائلها فأخبر فأمر برده وقضاء دينه، فسئل عنه فقيل إنه مات قبل ذلك بشهر، وقد قال:
«خليليّ عوجا، بارك الله فيكما، *** على البرّة العليا صدور الركائب»
«وقولا إذا ما نوّه القوم للقرى: *** ألا في سبيل الله يحيى بن طالب! »
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
158-معجم البلدان (قرقشونة)
قَرْقَشُونَةُ:قال ابن الفرضي: أخبرنا علي بن معاذ قال أخبرني سعيد بن فجلون عن يوسف بن يحيى المغامي أن حبّان بن أبي جبلة القرشي مولاهم غزا موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى أتى حصنا من حصونها يقال له قرقشونة فتوفّي بها، والله أعلم، وبين قرقشونة وقرطبة مسافة خمسة وعشرين يوما وفيها الكنيسة العظيمة عندهم المسمّاة بشنت مريّة فيها سواري فضة لم ير الراؤون مثلها ولا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط، وقيل: إن حبّان بن أبي جبلة توفي بإفريقية سنة 125 وكان بعثة عمر بن عبد العزيز في جماعة من الفقهاء يفقّهون أهلها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
159-معجم البلدان (القلت)
القَلْتُ:قال هشام بن محمد: أخبرني ابن عبد الرحمن القشيري عن امرأة شريك بن حباشة النميري قالت:
خرجنا مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أيام خرج إلى الشام فنزلنا موضعا يقال له القلت، قالت: فذهب زوجي شريك يستقي فوقعت دلوه في القلت فلم يقدر على أخذها لكثرة الناس فقيل له:
أخّر ذلك إلى الليل، فلما أمسى نزل إلى القلت ولم يرجع فأبطأ وأراد عمر الرحيل فأتيته وأخبرته بمكان زوجي فأقام عليه ثلاثا وارتحل في الرابع وإذا شريك قد أقبل فقال له الناس: أين كنت؟ فجاء إلى عمر، رضي الله عنه، وفي يده ورقة يواريها الكف وتشتمل على الرجل وتواريه فقال: يا أمير المؤمنين إني وجدت في القلت سربا وأتاني آت فأخرجني إلى أرض لا تشبهها أرضكم وبساتين لا تشبه بساتين أهل الدنيا فتناولت منه شيئا فقال لي: ليس هذا أوان ذلك، فأخذت هذه الورقة فإذا هي ورقة تين، فدعا عمر كعب الأحبار وقال: أتجد في كتبكم أن رجلا من أمتنا يدخل الجنة ثم يخرج؟ قال: نعم وإن كان في القوم أنبأتك به، فقال: هو في القوم، فتأملهم فقال: هذا هو، فجعل شعار بني نمير خضراء إلى هذا اليوم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
160-معجم البلدان (قهاب)
قِهَابُ:ناحية ذات قرى كثيرة من أعمال أصبهان ليس بها نهر جار ولا بها شجر إنما معيشتهم من الزرع على المطر، أخبرني بذلك الحافظ ابن النجار.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
161-معجم البلدان (قهوان)
قَهْوَانُ:بفتح القاف، وسكون الهاء، وآخره نون، قال أبو حنيفة في كتاب النبات: المقل الذي يتداوى به هو صمغ كالكندر أحمر طيب الرائحة، أخبرني بعض الأعراب أنه لا يعلمه نبت شجرة إلا بجبل من جبال عمان يدعى قهوان مطل على البحر وشجره مثل شجر اللبان، قال: وهو ذو شوك، قال: مثل التّنكس الذي عندكم والمقل صمغه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
162-معجم البلدان (كداء)
كَدَاء:بالفتح، والمدّ، قال أبو منصور: أكدى الرجل إذا بلغ الكدى وهو الصخر، وكدأ النبت يكدأ كدوّا إذا أصابه البرد فلبّده في الأرض أو عطش فأبطأ نباته، وإبل كادية الأوبار: قليلتها، وقد كديت تكدى كداء، وفي كداء ممدود وكديّ بالتصغير وكدى مقصور كما يذكره اختلاف ولا بدّ من ذكرها معا في موضع ليفرق بينها، قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي:
كداء، الممدودة، بأعلى مكة عند المحصّب دار النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، من ذي طوى إليها. وكدى، بضم الكاف وتنوين الدال: بأسفل مكة عند ذي طوى بقرب شعب الشافعيين ومنها دار النبيّ، صلى الله عليه وسلم، إلى المحصّب فكأنه ضرب دائرة في دخوله وخروجه، بات بذي طوى ثم نهض إلى أعلى مكة فدخل منها وفي خروجه خرج من أسفل مكة ثم رجع إلى المحصّب. وأما كديّ، مصغرا:
فإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن وليس من هذين الطريقين في شيء، أخبرني بذلك كله أبو العباس أحمد ابن عمر بن أنس العذري عن كل من لفي من مكة من أهل المعرفة بمواضعها من أهل العلم بالأحاديث الواردة في ذلك، هذا آخر كلام ابن حزم، وغيره يقول: الثنية السفلى هي كداء، ويدلّ عليه قول عبيد الله بن قيس الرقيات:
«أقفرت بعد عبد شمس كداء *** فكديّ فالركن فالبطحاء”
«فمنى فالجمار من عبد شمس *** مقفرات فبلدح فحراء»
«فالخيام التي بعسفان فالجح *** فة منهم فالقاع فالأبواء»
«موحشات إلى تعاهن فالسّق *** يا قفار من عبد شمس خلاء»
وقال الأحوص:
«رام قلبي السّلوّ عن أسماء *** وتعزّى وما به من عزاء»
«إنني والذي يحجّ قريش *** بيته سالكين نقب كداء»
«لم ألمّ بها وإن كنت منها *** صادرا كالذي وردت بداء»
كذا قال أبو بكر بن موسى ولا أرى فيه دليلا، وفيهما يقول أيضا:
أنت ابن معتلج البطاح كديّها وكدائها
وقال صاحب كتاب مشارق الأنوار: كداء وكديّ وكدى وكداء، ممدود غير مصروف بفتح أوله، بأعلى مكة، وكديّ: جبل قرب مكة، قال الخليل: وأما كدى، مقصور منوّن مضموم الأول، الذي بأسفل مكة والمشلّل هو لمن خرج إلى اليمن وليس من طريق النبيّ، صلى الله عليه وسلم، في شيء، قال ابن الموّاز: كداء التي دخل منها النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، هي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة وهي التي تهبط منها إلى الأبطح والمقبرة منها عن يسارك، وكدى التي خرج منها هي العقبة الوسطى التي بأسفل مكة، وفي حديث الهيثم بن خارجة: أن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، دخل من كدى التي بأعلى مكة، بضم الكاف مقصورة، وتابعه على ذلك وهيب وأسامة، وقال عبيد بن إسماعيل: دخل، عليه الصلاة والسلام، عام الفتح من أعلى مكة من كداء، ممدود مفتوح، وخرج هو من كدى، مضموم ومقصور، وكذا في حديث عبيد بن إسماعيل عند الجماعة، وهو الصواب إلّا أن الأصيلي ذكره عن أبي زيد بالعكس:
دخل النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، من كداء وخالد ابن الوليد من كدى، وفي حديث ابن عمر: دخل في الحجّ من كداء، ممدود مصروف، من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى، وفي حديث عائشة: أنه دخل من كداء من أعلى مكة، ممدود، وعند الأصيلي مهمل في هذا الموضع، قال:
كان عروة يدخل من كلتيهما من كداء وكديّ، وكذا قال القابسي غير أن الثاني عنده كدي، غير مشدد ولكن تحت الياء كسرتان أيضا، وعند أبي ذرّ القصر في الأول مع الضم وفي الثاني الفتح مع المدّ، وأكثر ما كان يدخل من كدى مضموم مقصور للأصيلي والهروي، ولغيره مشدد الياء، وذكر البخاري بعد عن عروة من حديث عبد الوهاب: أكثر ما كان يدخل من كدى، مضموم للأصيلي والحموي وأبي الهيثم ومفتوح مقصور للقابسي والمستملي، ومن حديث أبي موسى: دخل النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، من كدى، مقصور مضموم، وبعده أكثر ما كان يدخل من كدى، كذا مثل الأصيلي، وعند القابسي وأبي ذرّ كدى، بالفتح والقصر، وعنه أيضا هنا كديّ، بالضم والتشديد، وفي حديث محمود عكس ما تقدم: دخل من كداء وخرج من كدى لكافّتهم، وعند المستملي عكس ذلك، وهو أشهر، وفي شعر حسن في مسلم:
موعدها كداء، وفي حديث هاجر: مقبلين من
كداء، وفيه: فلما بلغوا كدى، وروى مسلم: دخل عامّ الفتح من كداء من أعلى مكة، بالمدّ للرّواة إلا السمرقندي فعنده كدى، بالضم والقصر، وفيه قال هشام: كان أبي أكثر ما يدخل من كدى، رويناه بالضم ورواه قوم بالمدّ والفتح، قال القالي:
كداء، ممدود غير مصروف، وهو معرفة بنفسها، وأما الذي في حديث عائشة في الحج: ثم لقينا عند كذا وكذا، فهو بذال معجمة، كناية عن موضع وليس باسم موضع بعينه، قلت: بهذا كما تراه يحجب عن القلب الصواب بكثرة اختلافه، والله المستعان، وقال أبو عبد الله الحميدي ومحمد بن أبي نصر: قال لنا الشيخ الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي وقرأته عليه غير مرة كداء الممدود هو بأعلى مكة عند المحصّب حلّق، عليه الصلاة والسلام، من ذي طوى إليها أي دار، وكدى، بضم الكاف وتنوين الدال، بأسفل مكة عند ذي طوى بقرب شعب الشافعيين وابن الزبير عند قعيقعان جبل بأسفل مكة حلّق، عليه الصلاة والسلام، منها إلى المحصّب فكأنه، عليه الصلاة والسلام، ضرب دائرة في دخوله وخروجه، بات، عليه الصلاة والسلام، بذي طوى ثم نهض إلى مكة فدخل منها وفي خروجه خرج على أسفل مكة ثم رجع إلى المحصّب، وأما كديّ، مصغر، فإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن وليس من هذين الطريقين في شيء، وقال أبو سعيد مولى فائد يرثي بني أمية فقال:
«بكيت، وماذا يردّ البكا؟ *** وقلّ البكاء لقتلى كدا»
«أصيبوا معا فتولّوا معا، *** كذلك كانوا معا في رخا»
«بكت لهم الأرض من بعدهم، *** وناحت عليهم نجوم السّما»
«وكانوا ضيائي، فلما انقضى *** زماني بقومي تولّى الضيا»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
163-معجم البلدان (كلواذى)
كَلْوَاذَى:مثل الذي قبله إلا أن آخره ألف تكتب ياء مقصورة: وهو طسّوج قرب مدينة السلام بغداد وناحية الجانب الشرقي من بغداد من جانبها وناحية الجانب الغربي من نهر بوق، وهي الآن خراب أثرها باق، بينها وبين بغداد فرسخ واحد للمنحدر، وقد ذكرها الشعراء ولهج كثيرا بذكرها الخلعاء، وقد أوردنا في طيزناباذ والفرك شعرين فيهما ذكر كلواذى لأبي نواس، وقال أيضا يهجو إسماعيل بن صبيح:
«أحين ودّعنا يحيى لرحلته *** وخلّف الفرك واستعلى لكلواذى»
«أتته فقحة إسماعيل مقسمة *** عليه أن لا يريم الدهر بغداذا»
«فحرفه ردّه لا قول فقحته *** أقم عليّ ولا هذا ولا هذا»
وقال مطيع بن إياس:
«حبّذا عيشنا الذي زال عنّا، *** حبّذا ذاك حين لا حبّذا ذا»
«زاد هذا الزمان شرّا وعسرا *** عندنا إذ أحلّنا بغداذا»
«بلدة تمطر التراب على النا *** س كما تمطر السماء الرّذاذا»
«خربت عاجلا، وأخرب ذو العر *** ش بأعمال أهلها كلواذى»
ينسب إليها جماعة من النّحاة، منهم: أبو الخطّاب محظوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلواذي ويقال الكلواذي الفقيه الحنبلي الكثير الفضل والعلم والأدب والكتابة وله شعر حسن جيد، سمع أبا محمد الجوهري
وأبا طالب العشاري وغيرهما، سمع منه جماعة من الأئمة، توفي سنة 515، ومولده في شوال سنة 432، وذكر أهل السير أنها سميت بكلواذى بن طهمورث الملك، وفي كتاب محمد بن الحسن الحاتمي الذي سماه جبهة الأدب يبتدئ فيه بالرد على المتنبي قال:
قلت له، يعني للمتنبي: أخبرني عن قولك:
«طلب الإمارة في الثغور، ونشوه *** ما بين كرخايا إلى كلواذى»
من أين لك هذه اللغة في كلواذى، ما أحسبك أخذتها إلا عن الملّاحين، قال: وكيف؟ قلت: لأنك أخطأت فيها خطأ تعثّرت فيه ضالّا عن وجه الصواب، قال: ولم؟ قلت: لأن الصواب كلواذ بكسر الكاف وإسكان اللام وإسقاط الياء، قال:
وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة وبها سميت المدينة، قال: وما الدليل على هذا؟ قلت: قول الراجز:
«كأن أصوات الغبيط الشادي *** زير مهاريق على كلواذ»
والكلواذ: تابوت توراة موسى، عليه السلام، وحكي في بعض الروايات أنه مدفون في هذا الموضع فمن أجله سميت كلواذ، قال: فأطرق المتنبي لا يجيب جوابا ثم قال: لم يسبق إليّ علم هذا والقول منك مقبول والفائدة غير مكفورة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
164-معجم البلدان (كوبيان)
كُوبَيان:وربما قيل لها كوكيان: من قرى كرمان، فيها وفي قرية أخرى يقال لها بهاباذ يعمل التوتيا الذي يحمل إلى أقطار الدنيا، أخبرني بذلك رجل من أهل كرمان.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
165-معجم البلدان (كوثى)
كُوثَى:بالضم ثم السكون، والثاء مثلثة، وألف مقصورة تكتب بالياء لأنها رابعة الاسم، قال نصر:
كوّث الزرع تكويثا إذا صار أربع ورقات وخمس ورقات وهو الكوث، وكوثى في ثلاثة مواضع:
بسواد العراق في أرض بابل وبمكة وهو منزل بني عبد الدار خاصّة ثم غلب على الجميع، ولذلك قال الشاعر:
«لعن الله منزلا بطن كوثى *** ورماه بالفقر والإمعار»
«لست كوثى العراق أعني ولكن *** كوثة الدار دار عبد الدار»
قال أبو المنذر: سمي نهر كوثى بالعراق بكوثى من بني أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السّلام، وهو الذي كراه فنسب إليه، وهو جد إبراهيم، عليه السّلام، أبو أمه بونا بنت كرنبا بن كوثى، وهو أول نهر أخرج بالعراق من الفرات ثم حفر سليمان نهر أكلف ثم كثرت الأنهار، قال أبو بكر أحمد بن أبي سهل الحلواني: كنا روينا عن الكلبي نونا، بنونين، وحفظي بونا، بالباء في أوله، وكوثى العراق كوثيان: أحدهما كوثى الطريق والآخر كوثى ربّى وبها مشهد إبراهيم الخليل، عليه السّلام، وبها مولده، وهما من أرض بابل، وبها طرح إبراهيم في النار، وهما ناحيتان، وسار سعد من القادسية في سنة عشر ففتح كوثى، وقال زهرة بن جؤيّة:
«لقينا بكوثى شهريار نقوده *** عشيّة كوثى والأسنّة جائره»
«وليس بها إلا النساء وفلّهم *** عشيّة رحنا والعناهيج حاضره»
«أتيناهم في عقر كوثى بجمعنا *** كأنّ لنا عينا على القوم ناظره»
وقال أبو منصور: حدثنا محمد بن إسحاق السعدي عن الرّمادي عن عبد الرزّاق عن معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين قال سمعت عبيدة السلماني يقول سمعت عليّا يقول: من كان سائلا عن نسبنا فإننا نبط من كوثى، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال:
سأل رجل عليّا أخبرني عن أصلكم معاشر قريش، فقال: نحن من كوثى، قال ابن الأعرابي:
واختلف الناس في قول عليّ، عليه السّلام، نحن من كوثى فقال قوم: أراد كوثى السواد التي ولد بها إبراهيم الخليل، وقال آخرون: أراد بقوله كوثى مكة، وذلك أن محلة بني عبد الدار يقال لها كوثى فأراد أننا مكّيون من أم القرى مكة، قال أبو منصور: والقول هو الأول لقول عليّ، عليه السّلام، فإننا نبط من كوثى، ولو أراد كوثى مكة لما قال نبط، وكوثى العراق هي سرّة السواد، وأراد، عليه السّلام، أن أبانا إبراهيم، عليه السّلام، كان من نبط كوثى وأن نسبنا ينتهي إليه، ونحو ذلك قال ابن عباس: نحن معاشر قريش حي من النبط من أهل كوثى والأصل آدم، والكرم: التقوى، والحسب:
الخلق، وإلى هذا انتهت نسبة الناس، وهذا من عليّ وابن عباس تبرّؤ من الفخر بالأنساب وردع عن الطعن فيها وتحقيق لقول الله عز وجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وقد نسب إليها كوثيّ وكوثانيّ، فمن الثاني أبو منصور بن حمّاد بن منصور الضرير الكوثاني، روى عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن هزار مرد الصريفيني، سمع منه الحافظ أبو القاسم الدمشقي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
166-معجم البلدان (كيران)
كِيرَانُ:مدينة بأذربيجان بين تبريز وبيلقان، أخبرني بها رجل من أهلها، في بلاد العرب موضع يقال له كيران، وقال شاعر:
«ولما رأيت أنني لست مانعا *** كران ولا كيران من رهط سالم»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
167-معجم البلدان (ماذرايا)
ماذَرَايا:مثل الذي قبله إلا أن الياء ههنا في موضع النون هناك، قال تاج الإسلام أبو سعد: هي قرية بالبصرة ينسب إليها الماذرائيون كتّاب الطّولونية بمصر أبو زينور وآله، قلت: وهذا فيه نظر، والصحيح أن ماذرايا قرية فوق واسط من أعمال فم الصلح مقابل نهر سابس والآن قد خرب أكثرها، أخبرني بذلك جماعة من أهل واسط، وقد ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء قال: استخلف أحمد ابن إسرائيل وهو يتولى ديوان الخراج للحسن بن عبد العزيز الماذرائي من طسوج النهروان الأسفل، وهذا مثل الذي ذكرنا، ومن وجوه المنسوبين إليها الحسين ابن أحمد بن رستم، ويقال ابن أحمد بن علي أبو أحمد، ويقال أبو علي ويعرف بابن زينور الماذرائي الكاتب من كتّاب الطولونية، وقد روى عنه أبو الحسن الدارقطني وكان قد أحضره المقتدر لمناظرة ابن الفرات فلم يصنع شيئا ثم خلع عليه وولّاه خراج مصر لأربع خلون من ذي القعدة سنة 306، وكان أهدى للمقتدر هدية فيها بغلة معها فلوّها وزرافة وغلام طويل اللسان يلحق لسانه طرف أنفه ثم قبض عليه وحمل إلى بغداد فصودر وأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف في رمضان سنة 311 ثم أخرج إلى دمشق مع مؤنس المظفر فمات في ذي الحجة سنة 314 وقيل 317.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
168-معجم البلدان (المروة)
المَرْوَةُ:واحدة المرو الذي قبله: جبل بمكة يعطف على الصّفا، قال عرّام: ومن جبال مكة المروة جبل مائل إلى الحمرة، أخبرني أبو الربيع سليمان بن عبد الله المكّي المحدّث أن منزله في رأس المروة وأنها أكمة لطيفة في وسط مكة تحيط بها وعليها دور أهل مكة ومنازلهم، قال: وهي في جانب مكة الذي يلي قعيقعان، وقد ثنّاه جرير وهو واحد في قوله:
«فلا يقربنّ المروتين ولا الصّفا *** ولا مسجد الله الحرام المطهّرا»
وذو المروة: قرية بوادي القرى، وقيل: بين خشب ووادي القرى، نسبوا إليها أبا غسان محمد بن عبد الله بن محمد المروي، سمع بالبصرة أبا خليفة الفضل بن الحباب، روى عنه أبو بكر محمد بن عبدوس النسوي، سمع منه بذي المروة، وقدم نصيب مكة فأتى المسجد الحرام ليلا فجاءت ثلاث نسوة فجلسن قريبا منه وجعلن يتحدّثن ويتذاكرن الشعر والشعراء
فقالت إحداهنّ: قاتل الله جميلا حيث قال:
«وبين الصّفا والمروتين ذكرتكم *** بمختلف من بين ساع وموجف»
«وعند طوافي قد ذكرتك ذكرة *** هي الموت بل كادت على الموت تضعف»
فقالت الأخرى: قاتل الله كثير عزّة حيث قال:
«طلعن علينا بين مروة فالصفا *** يمرن على البطحاء مور السحائب»
«فكدن، لعمر الله، يحدثن فتنة *** لمختشع من خشية الله تائب»
فقالت الأخرى: بل قاتل الله نصيبا ابن الزانية حيث قال:
«ألام على ليلى ولو أستطيعها، *** وحرمة ما بين البنيّة والسّتر، »
«لملت على ليلى بنفسي ميلة *** ولو كان في يوم التحالف والنفر»
فمال إليهن فأنشدهن فأعجبن به وقلن له: بحق هذا البيت من أنت؟ قال: أنا ابن المقذوفة بغير جرم نصيب، فرحّبن به واعتذرن إليه وحادثهنّ بقية ليلته.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
169-معجم البلدان (ملل)
مَلَلٌ:بالتحريك، ولامين، بلفظ الملل من الملال:
وهو اسم موضع في طريق مكة بين الحرمين، قال ابن السكيت في قول كثير:
«سقيا لعزّة خلّة، سقيا لها *** إذ نحن بالهضبات من أملال! »
قال: أراد ملل وهو منزل على طريق المدينة إلى مكة على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة. وملل: واد ينحدر من ورقان جبل مزينة حتى يصب في الفرش فرش سويقة وهو مبتدأ ملك بني الحسن بن علي بن أبي طالب وبني جعفر بن أبي طالب ثم ينحدر من الفرش حتى يصبّ في إضم، وإضم واد يسيل حتى يفرغ في البحر، فأعلى إضم القناة التي تمرّ دوين المدينة، قال ابن الكلبي: لما صدر تبّع عن المدينة
يريد مكة بعد قتال أهلها نزل ملل وقد أعيا وملّ فسمّاها ملل، وقيل لكثير: لم سمي ملل مللا؟
فقال: ملّ المقام، وقيل: فالروحاء؟ قال:
لانفراجها وروحها، قيل: فالسقيا؟ قال: لأنهم سقوا بها عذبا، قيل: فالأبواء؟ قال: تبوأوا بها المنزل، قيل: فالجحفة؟ قال: جحفهم بها السيل، قيل:
فالعرج؟ قال: يعرج بها الطريق، قيل: فقديد؟
ففكر ساعة ثم قال: ذهب به سيله قدّا، وقيل:
إنما سمي ملل لأن الماشي إليه من المدينة لا يبلغه إلا بعد جهد وملل، قال أبو حنيفة الدينوري: الملل مكان مستو ينبت العرفط والسّيال والسّمر يكون نحوا من ميل أو فرسخ، وإذا أنبت العرفط وحده فهو وهط كما يقال، وإذا أنبت الطلح وحده فهو غول وجمعه غيلان، وإذا أنبت النّصيّ والصّلّيان وكان نحوا من ميلين قيل لمعة، وبين ملل والمدينة ليلتان، وفي أخبار نصيب: كانت بملل امرأة ينزل بها الناس فنزل بها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة فقال نصيب:
«ألا حيّ قبل البين أمّ حبيب، *** وإن لم تكن منّا غدا بقريب»
«لئن لم يكن حبيّك حبّا صدقته *** فما أحد عندي إذا بحبيب»
«تهام أصابت قلبه ملليّة *** غريب الهوى، يا ويح كل غريب! »
وقرأت في كتاب النوادر الممتعة لابن جني: أخبرني أبو الفتوح علي بن الحسين الكاتب، يعني الأصبهاني، عن أبي دلف هاشم بن محمد الخزاعي رفعه إلى رجل من أهل العراق أنه نزل مللا فسأله عنه فخبر باسمه، فقال: قبح الله الذي يقول على ملل:
يا لهف نفسي على ملل
أي شيء كان يتشوّق من هذه وإنما هي حرّة سوداء! قال: فقالت له صبية تلفظ النّوى: بأبي أنت وأمي إنه كان والله له بها شجن ليس لك!
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
170-معجم البلدان (مليح)
مَلِيحٌ:بالفتح ثم الكسر، بلفظ ضد القبيح: ماء باليمامة لبني التيم، عن أبي حفصة. ومليح أيضا:
قرية من قرى هراة، منها أبو عمر عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم المليحي الهروي، حدث عن أبي منصور محمد بن محمد بن سمعان النيسابوري والخفّاف والمخلدي وأبي عمرو أحمد بن أبي الفراتي وأبي زكرياء يحيى بن إسماعيل الحيري وغيرهم، أخبرني عنه الإمام الحسين بن مسعود البغوي الفرّاء.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
171-معجم البلدان (موزر)
مُوَزَّرٌ:بالضم، وتشديد الزاي، وراء، كأنه مفعّل من الوزر: معدن الذهب بضرية من ديار كلاب، قال ابن مقبل:
أو تحلّ موزّرا وموزّر: كورة بالجزيرة منها نصيبين الروم، كذا أخبرني بعض من رآها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
172-معجم البلدان (ميورقة)
مَيُورْقَةُ:بالفتح ثم الضم، وسكون الواو والراء يلتقي فيه ساكنان، وقاف: جزيرة في شرقي الأندلس بالقرب منها جزيرة يقال لها منورقة، بالنون، كانت قاعدة ملك مجاهد العامري، وينسب إلى ميورقة جماعة، منهم: يوسف بن عبد العزيز بن علي بن عبد الرحمن أبو الحجاج اللخمي الميورقي الأندلسي الفقيه المالكي، رحل إلى بغداد وتفقّه بها مدّة وعلّق على الكياء وقدم دمشق سنة 505، قال ابن عساكر: وحدثنا بها عن أبي بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني وأبي الخير المبارك بن الحسين الغساني وأبي الغنائم أبيّ النّرسي وأبي الحسين ابن الطيوري وعاد إلى الإسكندرية ودرّس بها مدة وانتفع به جماعة، والحسن بن أحمد ابن عبد الله بن موسى بن علون أبو علي الغافقي الأندلسي الميورقي الفقيه المالكي يعرف بابن العنصري، ولد بميورقة سنة 449، سمع ببلده من أبي القاسم عبد الرحمن بن سعيد الفقيه، وسمع ببيت المقدس ومكة وبغداد ودمشق ورجع إلى بلده في ذي الحجة سنة 471، ومن ميورقة محمد بن سعدون بن مرجا بن سعد ابن مرجا أبو عامر القرشي العبدري الميورقي الأندلسي الحافظ، قال الحافظ أبو القاسم: كان فقيها على مذهب داود بن علي الظاهري وكان أحفظ شيء لقيته، ذكر لي أنه دخل دمشق في حياة أبي القاسم بن أبي العلاء وغيره ولم يسمع منهم، وسمع من أبي الحسن بن طاهر النحوي بدمشق ثم سكن بغداد وسمع بها أبا الفوارس الزّينبي وأبا الفضل بن خيرون وابن خاله أبا طاهر ويحيى بن أحمد البيني وأبا الحسين ابن الطيوري وجعفر ابن أحمد السّرّاج وغيرهم وكتب عنهم، قال: وسمعت أبا عامر ذات يوم يقول وقد جرى ذكر مالك بن أنس قال: دخل عليه هشام بن عمّار فضربه بالدّرّة، وقرأت عليه بعض كتاب الأموال لأبي عبيد فقال لي يوما وقد مرّ بعض أقوال أبي عبيد: ما كان إلا حمارا مغفلا لا يعرف الفقه، وحكى لي عنه أنه قال في إبراهيم النخعي: أعور سوء، فاجتمعنا يوما عند أبي القاسم ابن السمرقندي لقراءة الكامل لابن عدي فحكى ابن عدي حكاية عن السعدي فقال: يكذب ابن عدي إنما هو قول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، فقلت له:
السعدي هو الجوزجاني، ثم قلت له: إلى كم يحتمل منك سوء الأدب؟ تقول في إبراهيم النخعي كذا وفي مالك كذا وفي أبي عبيد كذا وفي ابن عدي كذا! فغضب وأخذته الرعدة، قال: وكان البرداني وابن الخاضبة يحاقّوني وآل الأمر إلى أن تقول لي هذا! فقال له ابن السمرقندي: هذا بذاك، وقلت له: إنما نحترمك ما احترمت الأئمة فإذا أطلقت القول فيهم فما نحترمك، فقال: والله لقد علمت من علم الحديث ما لم يعلمه غيري ممن تقدمني، وإني لأعلم من صحيح البخاري ومسلم ما لم يعلماه من صحيحيهما، فقلت له على وجه الاستهزاء: فعلمك إذا إلهام! فقال: إي والله إلهام! فتفرّقنا وهجرته ولم أتمم عليه كتاب الأموال، وكان
سيّء الاعتقاد يعتقد من أحاديث الصفات ظاهرها، بلغني أنه قال يوما في سوق باب الأزج يوم يكشف عن ساق فضرب على ساقه وقال: ساق كساقي هذه، وبلغني أنه قال: أهل البدع يحتجون بقوله: ليس كمثله شيء، أي في الألوهية، فأما في الصورة فهو مثلي ومثلك، وقد قال الله تعالى
اختلف الناس في ذلك فمنهم من تأولها ومنهم من أمسك عن تأوّلها ومنهم من اعتقد ظاهرها ومذهبي أحد هذه الثلاثة مذاهب، وكان يفتي على مذهب داود، وبلغني أنه سئل عن وجوب الغسل على من جامع ولم ينزل فقال: لا غسل عليه إلا أني فعلت ذلك بأمّ أبي بكر، يعني ابنه، وكان بشع الصورة أزرق اللباس يدّعي أكثر مما يحسن، مات يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 524 ودفن بباب الأزج بمقبرة الفيل وكنت إذ ذاك ببغداد ولم أشهده، آخر ما ذكره ابن عساكر، وعلي ابن أحمد بن عبد العزيز بن طير أبو الحسن الأنصاري الميورقي، قدم دمشق وسمع بها وحكى عن أبي محمد غانم بن الوليد المخزومي وأبي عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البرّ النّميري وأبي الحسن علي بن عبد الغني القيرواني وغيرهم، روى عنه عبد العزيز الكناني وهو من شيوخه وأبو بكر الخطيب وهبة الله ابن عبد الوارث الشيرازي وعمر بن عبد الكريم الدهستاني وأبو محمد بن الأكفاني وقال: إنه ثقة وكان عالما باللغة وسافر من دمشق في آخر سنة 463 إلى بغداد وأقام بها، ومات بها سنة 477، قال الحافظ:
حدثني أبو غالب الماوردي قال: قدم علينا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز الأنصاري البصرة في سنة 469 فسمع من أبي علي التّستري كتاب السنن وأقام عنده نحوا من سنتين وحضر يوما عند أبي القاسم إبراهيم بن محمد المناديلي وكان ذا معرفة بالنحو والقراءة وقرأ عليه جزءا من الحديث وجلس بين يديه وكان عليه ثياب خلقة فلما فرغ من قراءة الجزء أجلسه إلى جنبه، فلما مضى قلت له في إجلاسه إلى جنبه، فقال: قد قرأ الجزء من أوله إلى آخره وما لحن فيه وهذا يدل على فضل كثير، ثم قال: إن أبا الحسن خرج من عندنا إلى عمان ولقيته بمكة في سنة 73 أخبرني أنه ركب من عمان إلى بلاد الزنج وكان معه من العلوم أشياء فما نفق عندهم إلا النحو، وقال: لو أردت أن أكسب منهم ألوفا لأمكن ذلك وقد حصل لي منهم نحو من ألف دينار وتأسّفوا على خروجي من عندهم، ثم إنه عاد إلى البصرة على أن يقيم بها فلما وصل إلى باب البصرة وقع عن الجمل فمات من وقته، وذلك في سنة 474، كذا قال أولا مات ببغداد وههنا بالبصرة، ومن شعر الميورقي قوله:
«وسائلة لتعلم كيف حالي *** فقلت لها: بحال لا تسرّ»
«وقعت إلى زمان ليس فيه *** إذا فتّشت عن أهليه حرّ»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
173-معجم البلدان (نكيدا)
نَكِيدا:مدينة قديمة صغيرة، بينها وبين قيسارية ثلاثة أيام من جهة الشمال، قيل إن بقراط الحكيم كان بها، وبها مجمع قيل إنه اجتمع فيه الحكماء الذين يعرفون إلى اليوم مشهور عندهم، أخبرني بذلك من شاهدها، وبينها وبين هرقلة ثلاثة أيام.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
174-معجم البلدان (وبار)
وَبَارِ:مبني مثل قطام وحذام، يجوز أن يكون من الوبر وهو صوف الإبل والأرانب وما أشبهها، أو من التوبير وهو محو الأثر، والنسبة إليها أباريّ على غير قياس، عن السهيلي، وقال أهل السير: هي مسمّاة بوبار بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، انتقل إليها وقت تبلبلت الألسن فابتنى بها منزلا وأقام به وهي ما بين الشّحر إلى صنعاء أرض واسعة زهاء ثلاثمائة فرسخ في مثلها، وقال الليث: وبار أرض كانت من محالّ عاد بين رمال يبرين واليمن فلما هلكت عاد أورث الله ديارهم الجنّ فلم يبق بها أحد من الناس، وقال محمد بن إسحاق: وبار أرض يسكنها النسناس، وقيل: هي بين حضرموت والسبوب، وفي كتاب أحمد بن محمد الهمذاني: وفي اليمن أرض وبار وهي فيما بين نجران وحضرموت وما بين بلاد مهرة والشّحر، وكان وبار وصحار وجاسم بني إرم، فكانت وبار تنزل وبار وجاسم الحجاز، ووبار بلادهم المنسوبة إليهم وهي ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وكانت أرض وبار أكثر الأرضين خيرا وأخصبها ضياعا وأكثرها مياها وشجرا وثمرا فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم فأشروا وبطروا وطغوا وكانوا قوما جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حقّ نعم الله تعالى
فبدّل الله خلقهم وجعلهم نسناسا للرجل والمرأة منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فخرجوا على وجوههم يهيمون في تلك الغياض إلى شاطئ البحر يرعون كما ترعى البهائم وصار في أرضهم كل نملة كالكلب العظيم تستلب الواحدة منها الفارس عن فرسه فتمزقه
«ولقد ضللت أباك تطلب دارما *** كضلال ملتمس طريق وبار»
«لا تهتدي أبدا ولو بعثت به *** بسبيل واردة ولا آثار»
ويزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادا وثمود أسكن الجن في منازلهم وهي أرض وبار فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا ونخلا وخيرا وأعذبها عنبا وتمرا وموزا فإن دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثا الجن في وجهه التراب وإن أبى إلا الدخول خبّلوه وربما قتلوه، وعندهم الإبل الحوشيّة وهي فيما يزعم العرب التي ضربت فيها إبل الجنّ، وقال شاعر:
«كأني على حوشية أو نعامة *** لها نسب في الطير أو هي طائر»
وفي كتاب أخبار العرب أن رجلا من أهل اليمن رأى في إبله ذات يوم فحلا كأنه كوكب بياضا وحسنا فأقرّه فيها حتى ضربها فلما ألقحها ذهب ولم يره حتى كان في العام المقبل فإنه جاء وقد نتج الرجل إبله وتحركت أولاده فيها فلم يزل فيها حتى ألقحها ثم انصرف، وفعل ذلك ثلاث سنين، فلما كان في الثالثة وأراد الانصراف هدر فتبعه سائر ولده ومضى فتبعه الرجل حتى وصل إلى وبار وصار إلى عين عظيمة وصادف حولها إبلا حوشية وحميرا وبقرا وظباء وغير ذلك من الحيوانات التي لا تحصى كثرة وبعضه أنس ببعض ورأى نخلا كثيرا حاملا وغير حامل والتمر ملقى حول النخل قديما وحديثا بعضه على بعض ولم ير أحدا، فبينما هو واقف يفكر إذ أتاه رجل من الجن فقال له: ما وقوفك ههنا؟ فقصّ عليه قصة الإبل، فقال له: لو كنت فعلت ذلك على معرفة لقتلتك ولكن اذهب وإياك والمعاودة فإنّ هذا جمل من إبلنا عمد إلى أولاده فجاء بها، ثم أعطاه جملا وقال له: انج بنفسك وهذا الجمل لك، فيقال إن النجائب المهرية من نسل ذلك الجمل، ثم جاء الرجل وحدث بعض ملوك كندة بذلك فسار يطلب الموضع فأقام مدة فلم يقدر عليه وكانت العين عين وبار، قال أبو زيد الأنصاري: يقال تركته ببلد اصمت وتركته بملاحس البقر وتركته بمحارض الثعالب وتركته بهور ذابر وتركته بوحش إضم وتركته بعين وبار وتركته بمطارح البزاة، وهذه كلّها أماكن لا يدرى أين هي، وقول النابغة:
«فتحمّلوا رحلا كأن حمولهم *** دوم ببيشة أو نخيل وبار»
يدلّ على أنها بلاد مسكونة معروفة ذات نخيل، وكان لدعيميص الرّمل العبدي صرمة من الإبل، فبينما هو ذات ليلة إذا أتاه بعير أزهر كأنه قرطاس
فضرب في إبله فنتجت قلاصا زهرا كالنجوم فلم يذلل منها إلا ناقة واحدة فاقتعدها، فلما مضت عليه ثلاثة أحوال إذا هو ليلة بالفحل يهدر في إبله ثم انكفأ مرتدّا في الوجه الذي أقبل منه فلم يبق من نجله شيء إلا تبعه إلا النّويقة التي اقتعدها فأسف فقال: لأموتنّ أو ل
وبوبار النسناس يقال إنهم من ولد النسناس بن أميم ابن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف أرض اليمن يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الأرض بالكلاب وينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم، وعن محمد بن إسحاق أن النسناس خلق في اليمن لأحدهم يد واحدة ورجل واحدة وكذلك العين وسائر ما في الجسد وهو يقفز برجله قفزا شديدا ويعدو عدوا منكرا، ومن أحاديث أهل اليمن أن قوما خرجوا لاقتناص النسناس فرأوا ثلاثة منهم فأدركوا واحدا فأخذوه وذبحوه وتوارى اثنان في الشجر فلم يقفوا لهما على خبر، فقال الذي ذبحه: والله إن هذا لسمين أحمر الدم، فقال أحد المستترين في الشجر: إنه قد أكل حبّ الضّرو وهو البطم وسمن، فلما سمعوا صوته تبادروا إليه وأخذوه فقال الذي ذبح الأول:
والله ما أحسن الصمت هذا لو لم يتكلم ما عرفنا مكانه، فقال الثالث: فها أنا صامت لم أتكلم، فلما سمعوا صوته أخذوه وذبحوه وأكلوا لحومهم، وقال دغفل: أخبرني بعض العرب أنه كان في رفقة يسير في رمل عالج، قال: فأضللنا الطريق ووقفنا إلى غيضة عظيمة على شاطئ البحر فإذا نحن بشيخ طويل له نصف رأس وعين واحدة وكذلك جميع أعضائه، فلما نظر إلينا مرّ يركض كالفرس الجواد وهو يقول:
«فررت من جور الشّراة شدّا *** إذ لم أجد من الفرار بدّا»
«قد كنت دهرا في شبابي جلدا، *** فها أنا اليوم ضعيف جدّا»
وروى الحسام بن قدامة عن أبيه عن جدّه قال:
كان لي أخ فقلّ ما بيده وأنفض حتى لم يبق له شيء فكان لنا بنو عمّ بالشحر فخرج إليهم يلتمس برّهم فأحسنوا قراه وأكثروا برّه وقالوا له يوما: لو خرجت معنا إلى متصيّد لنا لتفرّجت، قال: ذاك إليكم، وخرج معهم فلما أصحروا ساروا إلى غيضة عظيمة فأوقفوه على موضع منها ودخلوها يطلبون الصيد، قال: فبينما أنا واقف إذ خرج من الغيضة شخص في صورة الإنسان له يد واحدة ورجل واحدة ونصف لحية وفرد عين وهو يقول: الغوث الغوث الطريق الطريق عافاك الله! ففزعت منه وولّيت هاربا ولم أدر أنه الصيد الذي يذكرونه، قال: فلما جازني سمعته يقول وهو يعدو:
«غدا القنيص فابتكر *** بأكلب وقت السّحر»
«لك النجا وقت الذكر *** ووزر ولا وزر»
«أين من الموت المفرّ؟ *** حذرت لو يغني الحذر»
«هيهات لن يخطي القدر، *** من القضا أين المفرّ؟»
فلما مضى إذا أنا بأصحابي قد جاءوا فقالوا: ما فعل الصيد الذي احتشناه إليك؟ فقلت لهم: أما الصيد فلم أره، ووصفت لهم صفة الذي مرّ بي، فضحكوا وقالوا: ذهبت بصيدنا! فقلت: يا سبحان الله! أتأكلون الناس؟ هذا إنسان ينطق ويقول الشعر! فقالوا: وهل أطعمناك منذ جئتنا إلا من لحمه قديدا وشواء؟ فقلت: ويحكم أيحلّ هذا؟ قالوا: نعم إن له كرشا وهو يجتر فلهذا يحل لنا، قلت: ولهذه الأخبار أشباه ونظائر في أخبارهم والله أعلم بحق ذلك من باطله.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
175-معجم البلدان (ود)
وَدٌّ:بالفتح، لغة في الوتد، ويجوز أن يكون منقولا عن الفعل الماضي ودّ يودّ، قيل: هو جبل في قول امرئ القيس:
«وتري الودّ إذا ما أشجذت، *** وتواريه إذا ما تعتكر»
وقيل: هو جبل قرب جفاف الثعلبية، وأما الصنم قال ابن جني: همزة أد عندنا بدل من واو ودّ لإيثارهم معنى الود المودة كما سموا محبّا محبوبا وحبابا
وحبيبا، والإدّ: الشيء المنكر لأنهم قالوا: عبد ود، وقالوا: وددت الرجل أودّه ودّا وودادا وودادة، فأكثر القراء وهم أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم ويعقوب الحضرمي فإنهم قرأوا ودّا بالفتح وتفرّد نافع بالضم: وهو صنم كان لقوم نوح، عليه السّل
«حيّاك ودّ وإنّا لا يحلّ له *** لهو النساء وإن الدين قد عزما»
قال أبو المنذر هشام بن محمد: كان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر أصنام قوم نوح وقوم إدريس، عليهما السلام، وانتقلت إلى عمرو بن لحيّ، كما نذكره هنا، قال: أخبرني أبي عن أول عبادة الأصنام أن آدم، عليه السّلام، لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه بأرض الهند ويقال للجبل نوذ وهو أخصب جبل في الأرض، يقال: أمرع من نوذ وأجدب من برهوت، وبرهوت: واد بحضرموت، قال: فكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة ويعظمونه ويرحّمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل إن لبني شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء، فنحت لهم صنما فكان أول من عمله، وكان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر قوما صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم فقال رجل من بني قابيل:
يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم فنصبها لهم فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوس بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر يعظمونهم أشدّ تعظيما من القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا: ما عظّم أوّلونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم وعظم أمرهم واشتدّ كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس، عليه السّلام، وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان نبيّا فنهاهم عن عبادتها ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، فكذّبوه، فرفعه الله مكانا عليّا ولم يزل أمرهم يشتدّ فيها، قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: حتى أدرك نوح بن لمك بن متوشلخ ابن أخنوخ فبعثه الله نبيّا وهو يومئذ ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة فدعاهم إلى الله تعالى في نبوّته مائة وعشرين سنة فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك ففرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة فعلا الطوفان وطبّق الأرض كلها وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل نوذ إلى الأرض وجعل الماء بشدة جريه وعبابه ينقلها من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدّة ثم نضب الماء وبقيت على شطّ جدّة:
فسفت الريح عليها التراب حتى وارتها، قال هشام:
إذا كان الصنم معمولا من خشب أو فضة أو ذهب على صورة إنسان فهو صنم وإن كان من حجارة فهو وثن، قال هشام: وكان عمرو بن لحيّ وهو ربيعة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد وهو أخو خزاعة وأمّه فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي كان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهما وتولى سدانتها وكان كاهنا وكان له مولى من الجنّ يكنى أبا ثمامة فقال: عجّل المسير
والظعن من تهامة بالسعد والسلامة، قال: خبّر ولا إقامة، قال: ائت ضفّ جدة تجد فيها أصناما معدّة فأوردها تهامة ولا تهب وادع العرب إلى عبادتها تجب، فأتى شطّ جدّة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحجّ فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن
فأشربه، قال: ثم رأيت خالد بن الوليد كسره جذاذا وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بعث خالدا من غزوة تبوك لهدمه فحال بينه وبين هدمه بنو عبد ودّ وبنو عامر الأجدار فقاتلهم حتّى قتلهم وهدمه وكسره وكان فيمن قتل يومئذ رجل من بني عبد ودّ يقال له قطن بن شريح، فأقبلت أمه فرأته مقتولا فأشارت تقول:
«ألا تلك المودّة لا تدوم، *** ولا يبقى على الدهر النعيم»
«ولا يبقى على الحدثان غفر *** له أمّ بشاهقة رؤوم»
ثم قالت:
«يا جامعا جامع الأحشاء والكبد، *** يا ليت أمك لم تولد ولم تلد»
ثم أكبّت عليه فشهقت شهقة فماتت، وقتل أيضا حسّان بن مصاد ابن عمّ الأكيدر صاحب دومة الجندل ثم هدمه خالد، رضي الله عنه، قال ابن الكلبي: فقلت لمالك بن حارثة: صف لي ودّا حتى كأني أنظر إليه، قال: تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد دثّر عليه، أي نقش عليه، حلّتان متّزر بحلّة ومرتد بأخرى عليه سيف قد تنكّب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة أي جعبة فيها نبل، فهذا حديث ودّ، وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: رفعت إلى النار فرأيت عمرو بن لحيّ رجلا أحمر أزرق قصيرا يجرّ قصبه في النار، قلت: من هذا؟ فقيل: عمرو بن لحيّ أوّل من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيّب السائبة وحمى الحامي وغيّر دين إبراهيم، عليه السّلام، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، فقال: أشبه بنيه به قطن بن عبد العزّى، فوثب قطن وقال: يا رسول الله أيضرني شبهه شيئا؟ قال، عليه الصلاة والسلام:
لا، أنت مسلم وهو كافر، هذا كله عن ابن الكلبي، وههنا انتقاد وذلك أنهم قالوا: إن أول من دعا العرب إلى عبادة الأوثان عمرو بن لحيّ، وقد ذكر فيما تقدّم أنّ ودّا سلمه إلى عوف بن عذرة بن زيد اللات وقد ذكرنا في اللات عنه أن زيد اللات سمي باللات التي كانوا يعبدونها، فهو أقدم من ودّ، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
176-معجم القواعد العربية (كاف الجر)
كاف الجرّ:(1) تختصّ بالظّاهر المطلق ولها أربعة معان:
الأوّل: التّشبيه، وهو الأصل نحو: «يوسف كالبدر».
الثاني: التّعليل، ولم يثبته الأكثرون، نحو: {وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} وقيد بعضهم جواز التعليل بأن تكون الكاف مكفوفة بما، كحكاية سيبويه «كما أنّه لا يعلم فتجاوز الله عنه».
الثالث: التّوكيد، وهي الزّائدة نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
الرابع: الاستعلاء وهو قليل ذكره الأخفش والكوفيون، كقول رؤبة، وقد سئل: كيف أصبحت؟ فقال: كخير، أي على خير، وقيل: هي للتشبيه على حذف مضاف، أي كصاحب خير وهذا قليل.
وقد تزاد «ما» بعد الكاف فيبقى عملها قليلا، وذلك كقول عمرو بن برّاقة الهمداني:
«وننصر مولانا ونعلم أنّه *** كما النّاس مجروم عليه وجارم »
والأكثر أن تكفّها «ما» عن العمل.
الخامس: الكاف التّعجّبيّة كما يقال: ما «رأيت كاليوم». وفي الحديث «ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبّأة».
(2) وقد تستعمل الكاف الجارّة اسما والصحيح أنّ اسميّتها مخصوصة بالضّرورة كما هو عند سيبويه والمحقّقين كقول العجّاج:
«بيض ثلاث كنعاج جمّ *** يضحكن عن كالبرد المنهمّ »
وأجازه كثيرون في الاختيار
. كاف الخطاب: هي حرف معنى لا محلّ له، ومعناه الخطاب.
وتلحق اسم الإشارة للبعيد، وتتصرّف تصرّف كاف الضّمير الاسميّة غالبا، فتفتح للمخاطب وتكسر للمخاطبة، وتتّصل بها علامة التّثنية والجمع فتقول: ذاك، وذاك، وذاكما، وذاكم، وذاكنّ. وتلحق أيضا: الضمير المنفصل المنصوب في قولهم: «إيّاك، إيّاك، إيّاكما، إيّاكم، إيّاكنّ».
وتلحق أيضا: بعض أسماء الأفعال نحو «حيهلك» و «رويدك» وتلحق: «أرأيت» بمعنى أخبرني نحو {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ}.
وتلحق الكاف الحرفية كلمة: «أنصرك أخاك» وكذلك «النّجاءك» ومعناه: انج نجاءك، ولو كانت ضميرا لما التقت مع أل في كلمة واحدة.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
177-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (المشكل)
المشكل:أشكل الأمر: التبس.
المشكل نوع من السجع، قال الكلاعي: «وسمّينا هذا النوع من السجع المشكل لأنّه يأتي متفق اللفظ مختلف المعنى فربما أشكل. وكان المجيد قد عني بهذا النوع وشغف بهذا الفن. فمن ذلك خطبة أخبرني الوزير الفقيه انه قال: الحمد لله مودع الأشياء بين الكاف والنون المسبحة له البحار الزاخرة والنون. الواحد الذي لا تجد له ضريبا والمنزل من خلال المزن ضريبا. الذي كشف الخطوب الكامنة وأبان وأوضح لأوليائه طريق الهداية وأبان».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
178-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 7)
إِرْثٌ -7144- ثَالِثًا: مَعْرِفَةُ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ.فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَاحِبَ فَرْضٍ، فَعَدَدُ سِهَامِهِ مِنَ التَّرِكَةِ هُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى فَرْضِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَبٌ وَأُمٌّ، فَإِنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ هُوَ ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا كَانَ عَاصِبًا وَبَقِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ.فَعَدَدُ سِهَامِهِ هُوَ الْبَاقِي مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ طَرْحِ مَجْمُوعِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأَبًا، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا الرُّبُعُ، فَيَكُونُ لَهَا سَهْمٌ، وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.
145- رَابِعًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.فَفِي زَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، يَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ سَهْمَانِ.
146- خَامِسًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ.
ثُمَّ إِذَا جَمَعْتَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ، وَقَارَنْتَ مَجْمُوعَ تِلْكَ السِّهَامِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أ- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَادِلَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ.
ب- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لِأَبٍ.
ج- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ سِهَامِ الْفُرُوضِ أَقَلَّ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ فِيهَا رَدٌّ.وَالْأَمْرَانِ: الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهُمَا الْعَوْلُ وَالرَّدُّ، بَيَانُهُمَا فِيمَا سَبَقَ.
الْمُلَقَّبَاتُ مِنْ مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ:
فِي الْفَرَائِضِ مَسَائِلُ اشْتُهِرَتْ بِأَلْقَابٍ خَاصَّةٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ.مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمِهَا، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:
147- أَوَّلًا: الْمُشَرَّكَةُ، أَوِ الْحِمَارِيَّةُ، أَوِ الْحَجَرِيَّةُ، أَوِ الْيَمِّيَّةُ:
وَصُورَتُهَا: امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَوْ أُخْتَيْنِ لِأُمٍّ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ، وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ.
فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ.وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ.
وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ: أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَالْأَشِقَّاءِ، فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فِي النَّصِيبِ.
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُرَيْحٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي رَأْيِهِ الْأَوَّلِ يَنْفِي التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ التَّشْرِيكِ.
148- وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ؛ لِمُشَارَكَةِ أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ.كَمَا تُسَمَّى، الْحِمَارِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ وَالْيَمِّيَّةُ أَيْضًا.لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عُمَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَفْتَى بِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ فِي الْمِيرَاثِ، فَقَالَ لَهُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا، وَفِي رِوَايَةٍ حَجَرًا مُلْقًى فِي الْيَمِّ.أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الْأَوَّلِ، وَأَفْتَى بِالتَّشْرِيكِ.وَقِيلَ لَهُ: لَقَدْ أَفْتَيْتَ سَابِقًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.فَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي.
قَالَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الرَّأْيَ بِالتَّشْرِيكِ: وَهُوَ «أَيِ الْقَوْلُ بِالتَّشْرِيكِ» الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ.فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ.وَقَدِ اسْتَوَوْا فِي الْإِدْلَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأُمِّ وَرَجَحَ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ وَأَب بِالْإِدْلَاءِ إِلَيْهِ بِالْأَبِ.فَإِنْ كَانُوا لَا يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ.وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْأَبِ فِي حَقِّهِمْ.وَإِنَّمَا يَبْقَى الْإِدْلَاءُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْقَائِلُونَ بِالتَّشْرِيكِ سَوَّوْا فِي الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ، وَلِأَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ أَوْلَادَ أُمٍّ.وَالْحُكْمُ فِيهِمُ الْمُسَاوَاةُ.وَذَلِكَ بَعْدَ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاصَفَةً.
149- وَاسْتَدَلُّوا لِلْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أَوَّلًا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِ الْأُمِّ ابْنَ عَمٍّ يُشَارِكُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَإِنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ، فَبِالْأَوْلَى الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ.
ثَانِيًا: أَنَّهَا فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدَ الْأُمِّ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ.فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الْأُمِّ وَرِثَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ.
ثَالِثًا: أَنَّ الْإِرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ.وَأَدْنَى أَحْوَالِ الْأَقْوَى مُشَارَكَتُهُ لِلْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْمِيرَاثِ سُقُوطُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَوَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ.
150- وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: أَوَّلًا: قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.
إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَوْلَادُ الْأُمِّ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ.فَتَشْرِيكُ الْأَشِقَّاءِ مَعَ أَوْلَادِ الْأُمِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الْإِخْوَةِ فِي الْآيَةِ كُلُّ الْإِخْوَةِ، مَا عَدَا إِخْوَةَ الْأُمِّ.وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حَظَّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.وَلَكِنِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيكِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لَهَا.
ثَانِيًا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَإِلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كُلُّ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَمُشَارَكَةُ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمِّ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ، وَكُلُّ الْإِخْوَةِ يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ.
فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يَفْضُلُهُمْ هَذَا الْفَضْلَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ لِلِاثْنَيْنِ إِسْقَاطُهُمْ.
الْغَرَّاوَانِ، أَوِ الْغَرِيمَتَانِ، أَوِ الْغَرِيبَتَانِ، أَوِ الْعُمَرِيَّتَانِ:
151- صُورَتُهَا امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، أَوْ رَجُلٌ تُوُفِّيَ عَنْ: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأُولَى عَلَى: أَنَّ لِلزَّوْجِ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ.وَفِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَلِلْأَبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ، بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَفَرْضِ الْأُمِّ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَأْخُذَانِ الْمَالَ أَثْلَاثًا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِغَيْرِ أُمٍّ.وَبِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ ضِعْفُ مَا لِلْأُنْثَى، فَلَوْ جَعَلَ لِلْأُمِّ ثُلُثَ كُلِّ التَّرِكَةِ مَعَ الزَّوْجِ، لَفَضَلَتْ عَلَى الْأَبِ، وَمَعَ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْأَبِ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُمِّ، وَلَا يَرِدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الِابْنِ تَسَاوَيَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: الْأَصْلُ كَذَا.فَذَلِكَ لَا يُنَافِي خُرُوجَ فَرْضٍ عَنْهُ لِدَلِيلٍ، كَمَا خَرَجَ عَنْهُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ فِي تَسَاوِي نَصِيبِ الذَّكَرِ بِنَصِيبِ الْأُنْثَى.
وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِلْأُمِّ فِي الصُّورَتَيْنِ الثُّلُثُ كَامِلًا.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وَبِقَوْلِهِ: - صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَالْأَبُ فِي الصُّورَةِ عَصَبَةٌ، فَلَهُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي- كَمَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ: وَالْحُجَّةُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلَا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ فِيهِمَا.
152- وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَدٌّ، لَكَانَ لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وَرَوَى ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صُورَةِ الزَّوْجِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ لِلْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَيْضًا، كَمَا مَعَ الْأَبِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْجَدَّ كَالْأَبِ.وَالْوَجْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ تَرْكُ ظَاهِرِ قوله تعالى: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فِي حَقِّ الْأَبِ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ.وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَدِّ فَأُبْقِيَ النَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} لِعَدَمِ تَسَاوِي الْأُمِّ وَالْجَدِّ فِي الْقُرْبِ.
153- وَتُسَمَّى الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْغَرَّاوَيْنِ؛ لِشُهْرَتِهَا كَالْكَوْكَبِ الْأَغَرِّ «الْمُضِيءِ»، وَبِالْغَرِيمَتَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْغَرِيمِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْأَبَوَانِ كَالْوَرَثَةِ يَأْخُذَانِ مَا فَضَلَ بَعْدَ فَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا بَيْنَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَبِالْعُمَرِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهِمَا لِلْأُمِّ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.وَهُنَاكَ مَسَائِلُ أُخْرَى مُسْتَثْنَاةٌ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا لَكِنْ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، مِمَّا دَعَا إِلَى إِفْرَادِهِمَا وَلِأَهَمِّيَّتِهِمَا.
الْخَرْقَاءُ:
154- صُورَتُهَا: أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لِأَنَّ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- تَخَرَّقَتْهَا.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا.وَقَالَ عَلِيٌّ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.
وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً، لِأَنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ.
وَتُسَمَّى مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ، وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ- رضي الله عنهما-، لِأَنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ قَوْلُ الصِّدِّيقِ كَانَتْ مُسَدَّسَةً.
الْمَرْوَانِيَّةُ:
155- صُورَتُهَا: سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ أَوْلَادُ الْأَبِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً؛ لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ؛ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ. الْحَمْزِيَّةُ:
156- صُورَتُهَا: ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ، وَجَدٌّ، وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَمِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: لِلْجَدَّةِ أُمُّ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَعُودُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ نَصِيبُهَا وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ.سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً؛ لِأَنَّ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ.
الدِّينَارِيَّةُ:
157- صُورَتُهَا: زَوْجَةٌ، وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ، وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الدِّينَارِيَّةَ، وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةَ، لِأَنَّ دَاوُد الطَّائِيَّ سُئِلَ عَنْهَا، فَقَسَّمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الْأُخْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَمَا أُعْطِيتُ مِنْهَا إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ فَقَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَقَالَ: هُوَ لَا يَظْلِمُ، هَلْ تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ مَعَكِ اثْنَيْ عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ.وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمُعَايَاةِ فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ.
الِامْتِحَانُ:
158- صُورَتُهَا: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ.أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ، وَلَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ يَكُنْ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ يَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتِّينَ، فَاضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.وَجْهُ الِامْتِحَانِ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ خَلَفَ أَصْنَافًا، عَدَدُ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَلَا تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إِلاَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
الْمَأْمُونِيَّةُ:
159- صُورَتُهَا: أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ.سُمِّيَتِ الْمَأْمُونِيَّةَ لِأَنَّ الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا، فَأَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ (أَيْ لِصِغَرِ سِنِّهِ) فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ، وَوَلاَّهُ الْقَضَاءَ.
وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا صَحِيحًا أَبَا أَبٍ، وَجَدَّةً صَحِيحَةً أُمَّ أَبٍ، فَالسُّدُسُ لِلْجَدَّةِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ.وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا، وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ.وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ أُنْثَى، فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ، وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِي أُمٍّ، فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالْإِجْمَاعِ.كَذَا فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
179-موسوعة الفقه الكويتية (استخارة)
اسْتِخَارَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِخَارَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَخِرِ اللَّهَ يَخِرْ لَكَ.وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا».
وَاصْطِلَاحًا: طَلَبُ الِاخْتِيَارِ.أَيْ طَلَبُ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَوْلَى، بِالصَّلَاةِ، أَوِ الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي الِاسْتِخَارَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطِّيَرَةُ:
2- الطِّيَرَةُ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ».
ب- الْفَأْلُ:
3- الْفَأْلُ مَا يُسْتَبْشَرُ بِهِ، كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ: يَا سَالِمُ، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ: يَا وَاجِدُ وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الْفَأْلَ»
ج- الرُّؤْيَا:
4- الرُّؤْيَا بِالضَّمِّ مَهْمُوزًا، وَقَدْ يُخَفَّفُ: مَا رَأَيْتَهُ فِي مَنَامِكَ.
د- الِاسْتِقْسَامُ:
5- الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ: هُوَ ضَرْبٌ بِالْقِدَاحِ لِيَخْرُجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْهَا يَأْتَمِرُ بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}.
هـ- الِاسْتِفْتَاحُ:
6- الِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ النَّصْرِ وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَنْصِرُ بِصَعَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ» وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَطْلِعُ الْغَيْبَ مِنَ الْمُصْحَفِ أَوِ الرَّمْلِ أَوِ الْقُرْعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِحُرْمَتِهِ.قَالَ الطُّرْطُوشِي وَأَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ مِنَ الْأَزْلَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَيَطْلُبَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ فِي الرُّؤْيَا.
صِفَتُهَا (حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ):
7- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ سُنَّةٌ، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُولُ»: إِلَخْ وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
8- حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ، هِيَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْحَوْلِ وَالطَّوْلِ، وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.لِلْجَمْعِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَيَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَرْعِ بَابِ الْمَلِكِ، وَلَا شَيْءَ أَنْجَعُ لِذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ قَالًا وَحَالًا.
سَبَبُهَا (مَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِخَارَةُ):
9- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ تَكُونُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَدْرِي الْعَبْدُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا، أَمَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ خَيْرَهُ أَوْ شَرَّهُ كَالْعِبَادَاتِ وَصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِخَارَةِ فِيهَا، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ بَيَانَ خُصُوصِ الْوَقْتِ كَالْحَجِّ مَثَلًا فِي هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِاحْتِمَالِ عَدُوٍّ أَوْ فِتْنَةٍ، وَالرُّفْقَةِ فِيهِ، أَيُرَافِقُ فُلَانًا أَمْ لَا؟
وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِخَارَةُ لَا مَحَلَّ لَهَا فِي الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ.وَالِاسْتِخَارَةُ فِي الْمَنْدُوبِ لَا تَكُونُ فِي أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَيْ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ أَمْرَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ؟
أَمَّا الْمُبَاحُ فَيُسْتَخَارُ فِي أَصْلِهِ.وَهَلْ يَسْتَخِيرُ فِي مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ؟ اخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.لِأَنَّ فِيهِ «إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ» إِلَخْ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَرَفَةَ الثَّانِيَ، وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا.
مَتَى يَبْدَأُ الِاسْتِخَارَةَ؟
10- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخِيرُ خَالِيَ الذِّهْنِ، غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا هَمَّ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ تَكُونُ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ، وَقَوِيَتْ فِيهِ عَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَحُبٌّ، فَيَخْشَى أَنْ يَخْفَى عَنْهُ الرَّشَادُ؛ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ الْعَزِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يَثْبُتُ فَلَا يَسْتَمِرُّ إِلاَّ عَلَى مَا يَقْصِدُ التَّصْمِيمَ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.وَإِلاَّ لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُلِّ خَاطِرٍ لَاسْتَخَارَ فِيمَا لَا يَعْبَأُ بِهِ، فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُهُ.وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا فَلْيَقُلْ»..
الِاسْتِشَارَةُ قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ:
11- قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَشِيرَ قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ مَنْ يَعْلَمُ مَنْ حَالِهِ النَّصِيحَةَ وَالشَّفَقَةَ وَالْخِبْرَةَ، وَيَثِقُ بِدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وَإِذَا اسْتَشَارَ وَظَهَرَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: حَتَّى عِنْدَ التَّعَارُضِ (أَيْ تَقَدُّمِ الِاسْتِشَارَةِ) لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قَوْلِ الْمُسْتَشَارِ أَقْوَى مِنْهَا إِلَى النَّفْسِ لِغَلَبَةِ حُظُوظِهَا وَفَسَادِ خَوَاطِرِهَا.وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةً صَادِقَةً إِرَادَتُهَا مُتَخَلِّيَةً عَنْ حُظُوظِهَا، قَدَّمَ الِاسْتِخَارَةَ
كَيْفِيَّةُ الِاسْتِخَارَةِ:
12- وَرَدَ فِي الِاسْتِخَارَةِ حَالَاتٌ ثَلَاثٌ:
الْأُولَى: وَهِيَ الْأَوْفَقُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، تَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ بِنِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ بَعْدَهَا.
الثَّانِيَةُ: قَالَ بِهَا الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ إِذَا تَعَذَّرَتِ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَعًا.
الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا غَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ عَقِبَ أَيِّ صَلَاةٍ كَانَتْ مَعَ نِيَّتِهَا، وَهُوَ أَوْلَى، أَوْ بِغَيْرِ نِيَّتِهَا كَمَا فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ قُدَامَةَ إِلاَّ الْحَالَةَ الْأُولَى، وَهِيَ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ.
وَإِذَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ أَوِ النَّافِلَةَ، نَاوِيًا بِهَا الِاسْتِخَارَةَ، حَصَلَ لَهُ بِهَا فَضْلُ سُنَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ؛ لِيَحْصُلَ الثَّوَابُ قِيَاسًا عَلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَعَضَّدَ هَذَا الرَّأْيَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ وَنَفَوْا حُصُولَ الثَّوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقْتُ الِاسْتِخَارَةِ:
13- أَجَازَ الْقَائِلُونَ بِحُصُولِ الِاسْتِخَارَةِ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فَالْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ تَمْنَعُهَا فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ.نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَاحَةً عَلَى الْمَنْعِ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَبَاحُوهَا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، قِيَاسًا عَلَى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلِعُمُومِ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ.
فَهُمْ يَمْنَعُونَ صَلَاةَ النَّفْلِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ، وَمِنْهَا:
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ- رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ».
وَعَنْ «عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ.قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ»
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ:
14- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَيْنِ.وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَجَازُوا أَكْثَرَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَاعْتَبَرُوا التَّقْيِيدَ بِالرَّكْعَتَيْنِ لِبَيَانِ أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ.
الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ:
15- فِيمَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.وَذَكَر النَّوَوِيُّ تَعْلِيلًا لِذَلِكَ فَقَالَ: نَاسَبَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا فِي صَلَاةٍ يُرَادُ مِنْهَا إِخْلَاصُ الرَّغْبَةِ وَصِدْقُ التَّفْوِيضِ وَإِظْهَارُ الْعَجْزِ، وَأَجَازُوا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِمَا مَا وَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الْخِيَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
ب- وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}
ج- أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَقُولُوا بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ.
دُعَاءُ الِاسْتِخَارَةِ:
16- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيُقَلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ.وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ.قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ».
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ وَخَتْمُهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ:
17- يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ مُرَاعِيًا جَمِيعَ آدَابِ الدُّعَاءِ.
مَوْطِنُ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ:
18- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ الدُّعَاءُ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا جَاءَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَزَادَ الشَّوْبَرِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فِي السُّجُودِ، أَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ.
مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ:
19- يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ أَلاَّ يَتَعَجَّلَ الْإِجَابَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ.يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي».كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الرِّضَا بِمَا يَخْتَارُهُ اللَّهُ لَهُ.
تَكْرَارُ الِاسْتِخَارَةِ:
20- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ الْمُسْتَخِيرُ الِاسْتِخَارَةَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ.قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ».
وَيُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَكْرَارَ الِاسْتِخَارَةِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ لِلْمُسْتَخِيرِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَدْعُو إِلَى التَّكْرَارِ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ السَّابِعَةِ اسْتَخَارَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ رَأْيًا فِي تَكْرَارِ الِاسْتِخَارَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي تَحْتَ أَيْدِينَا رَغْمَ كَثْرَتِهَا.
النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِخَارَةِ:
21- الِاسْتِخَارَةُ لِلْغَيْرِ قَالَ بِجَوَازِهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ».
وَجَعَلَهُ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ.فَقَالَ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَخِيرُ لِغَيْرِهِ؟ لَمْ أَقِفْ فِي ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يَفْعَلُهُ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ.
أَثَرُ الِاسْتِخَارَةِ:
أ- عَلَامَاتُ الْقَبُولِ:
22- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ فِي الِاسْتِخَارَةِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي (فِقْرَةِ 20): ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي سَبَقَ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ «أَيْ فَيَمْضِي إِلَى مَا انْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ وَشَرْحُ الصَّدْرِ: عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ الْإِنْسَانِ وَحُبِّهِ لِلشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ هَوًى لِلنَّفْسِ، أَوْ مَيْلٍ مَصْحُوبٍ بِغَرَضٍ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْعَدَوِيُّ.قَالَ الزَّمْلَكَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ شَرْحُ الصَّدْرِ.فَإِذَا اسْتَخَارَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَفْعَلْ مَا بَدَا لَهُ، سَوَاءٌ انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُهُ أَمْ لَا، فَإِنَّ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ.
ب- عَلَامَاتُ عَدَمِ الْقَبُولِ:
23- وَأَمَّا عَلَامَاتُ عَدَمِ الْقَبُولِ فَهُوَ: أَنْ يُصْرَفَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّيْءِ، لِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَامَاتُ الصَّرْفِ: أَلاَّ يَبْقَى قَلْبُهُ بَعْدَ صَرْفِ الْأَمْرِ عَنْهُ مُعَلَّقًا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: «فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
180-موسوعة الفقه الكويتية (إسلام 1)
إِسْلَامٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْلَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِذْعَانُ وَالِانْقِيَادُ، وَالدُّخُولُ فِي السِّلْمِ، أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.وَالْإِسْلَامُ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْإِسْلَافُ، أَيْ عَقْدُ السَّلَمِ يُقَالُ: أَسْلَمْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي عِشْرِينَ صَاعًا مَثَلًا، أَيِ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ مُؤَجَّلَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ.
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ تَبَعًا لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.
فَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا: الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهُ.وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.
وَمَعْنَاهُ إِذَا وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ هُوَ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِيمَانُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مَعَ الِانْقِيَادِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِيمَانُ:
2- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ مُنْفَرِدًا وَمُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ أَيْضًا.فَالْإِيمَانُ مُنْفَرِدًا: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-.وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِهِ.أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ يَقْتَصِرُ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ وَنَصُّهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.قَالَ: صَدَقْتَ.قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ».الْحَدِيثَ.
إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ:
3- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَلِ السَّابِقَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الْآيَةَ، وَآيَاتٍ أُخْرَى.
وَيَرَى آخَرُونَ: أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ، وَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا.
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ «الْإِسْلَامِ» هُوَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى- وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ- قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}.فَالضَّمِيرُ (هُوَ) يَرْجِعُ لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، كَمَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، ثُمَّ دَعَا لِأُمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ مُسْلِمِينَ.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أُمَّةً بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا.
4- وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ فَالْإِسْلَامُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا، فَإِنَّهُ إِسْلَامُ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ كُلُّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
أَثَرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِي التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ:
5- الْأَصْلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ صَحِيحَةٌ إِلاَّ مَا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، كَأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقَرَافِيُّ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ».وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِرَاقُ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِ الَّتِي تَزَوَّجَهُنَّ أَوَّلًا، أَوْ مَنْ شَاءَ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ.وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ فِرَاقِ أَيِّ الْأُخْتَيْنِ شَاءَ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ مَعًا، قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
إِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ،
تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا فُرْقَةَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَيَأْبَى.
وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي:
6- وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إِسْلَامِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ، بَلْ إِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتْ عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ إِسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ زَوْجَةِ الْكِتَابِيِّ، بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ.وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي.تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ.وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وطَاوُسٍ.
الثَّالِثُ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ حِيَضٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً، فَتَمَّتِ الْحِيَضُ هُنَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ مِنَ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ:
7- قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ، وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ، وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ، وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا.وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا، لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ، فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَلَا الزَّكَوَاتِ، وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَضَابِطُ الْفَرْقِ: أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، Bوَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَلاَّ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ، تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهَا، كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ.وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
الْآثَارُ اللاَّحِقَةُ لِدُخُولِ الْإِسْلَامِ:
8- إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَصْبَحَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
فَتَلْزَمُهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ.إِلَخْ.وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، كَإِبَاحَةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ كَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ
الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا:
9- الْكَافِرُ فِي حَالِ كُفْرِهِ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِيَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيَسْتَوْفِي الْمَسْأَلَةَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ؛ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» فَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ لِلنَّفْسِ مُبَاشَرَةً، وَلِلْمَالِ تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْهُ بِالْكُفْرِ.وَيَحْصُلُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُهُمْ إِنْ مَاتُوا، وَيَرِثُونَهُ كَذَلِكَ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» Bوَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.كَمَا أَنَّهُ يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، وَيَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ الْمُشْرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَتَبْطُلُ- فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ- مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَعْدَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، أُصُولًا وَفُرُوعًا، بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» وَتَحِلُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَغُسْلُهُ وَكَفَنُهُ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ أَحْكَامٍ تَعَرَّضَتْ لَهَا كُتُبُ الْفِقْهِ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ.
10- إِذَا بَاعَ ذِمِّيٌّ لآِخَرَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ أَسْلَمُوا لأَحْرَزُوا بِإِسْلَامِهِمْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}.كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَهْجُرَ بَلَدَ الْكُفْرِ وَبَلَدَ الْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَقَدْ وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ يُجْبَرُ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِجْرَة).
مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْإِسْلَامُ:
11- مِمَّا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ لِصِحَّتِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
(1) الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
(2) وِلَايَةُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(3) الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(4) شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَسَاوَى الشُّرَكَاءُ فِي الْمَالِ وَالدَّيْنِ وَالتَّصَرُّفِ.وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.
(5) الْوَصِيَّةُ بِمُصْحَفٍ أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا.
(6) النَّذْرُ، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُ النَّاذِرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ Bقُرْبَةً.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَوْفِ بِنَذْرِكَ».
(7) الْقَضَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(8) الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهَا، مِنَ الْوِلَايَةِ وَإِمَارَةِ الْجُيُوشِ، وَالْوَزَارَةِ وَالشُّرْطَةِ، وَالدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ، وَالْحِسْبَةِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(9) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَالِ ضَرُورَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَرُورَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَوْ قِيلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عُدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَكُونُ بَدَلًا مُطْلَقًا.
ب- الدِّينُ، أَوِ الْمِلَّةُ:
12- مِنْ مَعَانِي الدِّينِ لُغَةً: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ وَالْحِسَابُ وَالطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
التَّوْحِيدُ: كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
الْحِسَابُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
الْحُكْمُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}.
الْمِلَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} يَعْنِي الْمِلَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ.
وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ الدِّينُ عَلَى الشَّرْعِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ.وَقَدْ يُخَصُّ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
13- وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي سَلَكَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ Bبِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا نَكَادُ نَلْمِسُ فَرْقًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الدِّينِ، مَا عَدَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
مَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ عَنِ الْإِسْلَامِ:
14- كُلُّ مَا يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ.وَكَذَا كُلُّ مَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ مِنْ نِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ، أَوْ فِعْلِ كُفْرٍ، سَوَاءٌ اسْتِهْزَاءً أَمِ اعْتِقَادًا أَمْ عِنَادًا.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، أَوْ تَرَكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا بِالْفِعْلَيْنِ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهِ، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يُمَانِعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ فَلَا يَنْفَعُ التَّأْوِيلُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (رِدَّة). مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا:
15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا ثَلَاثَةً يُحْكَمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا وَهِيَ: النَّصُّ- وَالتَّبَعِيَّةُ- وَالدَّلَالَةُ.
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ صَرِيحًا.وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ التَّابِعُ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا يَتَّبِعُ ابْنُ الْكَافِرِ الصَّغِيرِ أَبَاهُ إِذَا أَسْلَمَ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى.
وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّلَالَةِ فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
أَوَّلًا: الْإِسْلَامُ النَّصُّ:
وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، وَالْبُرْءُ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
16- يَكْفِي كُلَّ الْكِفَايَةِ التَّصْرِيحُ بِالشَّهَادَةِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ، مُدَعَّمًا بِالتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِيِّ وَالِاعْتِقَادِ الْقَلْبِيِّ الْجَازِمِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَعَالَى، وَالتَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ عُنْوَانٌ فِي قُوَّتِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكَامِلَةِ أَصْرَحُ مِنَ النُّطْقِ بِصِيغَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
فَالْكَافِرُ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَأَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَادِرِ كَالْأَخْرَسِ، وَمِنْ غَيْرِ Bالْمُتَمَكِّنِ كَالْخَائِفِ وَالشَّرِقِ وَمَنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَكُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ النُّطْقَ، فَنُصَدِّقُ عُذْرَهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا لُزُومَ لِأَنْ تَكُونَ صِيغَتُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ أَصَالَةً، أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِوَالِدَيْهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ طِوَالَ عُمُرِهِ.وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ.
17- وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ كَافٍ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ.إِذَنْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا لِتُقَامَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نُوبِيَّةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَوْتُهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
18- فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلاَّ إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُولَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لِلْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَبْرَأَ.أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ Bوَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ مُسْلِمًا، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا، وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ، فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ.وَفِيهِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا الْيَهُودِيَّةُ وَغَيْرُهَا.
وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: دَخَلْتُ دِينَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَخَلْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ دَلِيلُ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ فَهُوَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ.
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ:
19- جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ مُجْمَلَةً بِالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَخُصُّ هَذِهِ الْأَرْكَانَ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَأَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ الْمَشْهُورُ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ:
20- هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ تَصْدِيقًا وَاعْتِقَادًا وَنُطْقًا.
وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ.وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَاتُ كُلِّ الرُّسُلِ تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهِ Bالْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَتْ آخِرَ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الدُّنْيَا دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»..وَالْإِيمَانُ أَيْضًا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ إِيمَانٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ رِسَالَتُهُ، وَإِيمَانٌ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَتَصْدِيقٌ بِرِسَالَاتِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ الَّذِي يَسْبِقُ كُلَّ الْأَرْكَانِ تَتَحَقَّقُ بِهِ بَاقِي الْأَرْكَانِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: إِقَامُ الصَّلَاةِ.
21- الصَّلَاةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ إِلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلَاةَ، أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.
أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، فَقِيلَ: فَاسِقٌ يُقْتَلُ حَدًّا إِنْ تَمَادَى عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ كُفْرًا.وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.
أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا «سُئِلَ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.ر: (صَلَاةٌ).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ.
22- الزَّكَاةُ لُغَةً: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ.يُقَالُ: زَكَا الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، إِمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَالِ، أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الْإِنْسَانِ بِالْفَضَائِلِ وَالصَّلَاحِ.
وَشَرْعًا: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَالِ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَتُنَمِّيهِ.وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ، لِإِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا، بِأَنْ يُقَاتَلَ وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا.وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ Bوَثَمَانِينَ آيَةً.وَفُرِضَتْ فِي مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلًا، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حُدِّدَتِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، وَمِقْدَارُ النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر: (زَكَاة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
181-موسوعة الفقه الكويتية (تسنيم)
تَسْنِيمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّسْنِيمُ فِي اللُّغَةِ: رَفْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ سَنَّمَ الْإِنَاءَ: إِذَا مَلأَهُ حَتَّى صَارَ الْحَبُّ فَوْقَهُ كَالسَّنَامِ، وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ تَسَنَّمَهُ.وَسَنَامُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ: أَعْلَى ظَهْرِهَا، وَالْجَمْعُ أَسْنِمَةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «نِسَاءٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ»
وقوله تعالى {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} قَالُوا: هُوَ مَاءٌ فِي الْجَنَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي فَوْقَ الْغُرَفِ وَالْقُصُورِ.
وَالتَّسْنِيمُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْقَبْرِ عَنِ الْأَرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا.
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: التَّسْنِيمُ أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَى الْقَبْرِ مُرْتَفِعًا، وَيَجْعَلَ جَانِبَاهُ مَمْسُوحَيْنِ مُسْنَدَيْنِ، مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ.وَيُقَابِلُهُ تَسْطِيحُ الْقَبْرِ، وَهُوَ: أَنْ يُجْعَلَ مُنْبَسِطًا مُتَسَاوِيَ الْأَجْزَاءِ، لَا ارْتِفَاعَ فِيهِ وَلَا انْخِفَاضَ كَسَطْحِ الْبَيْتِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ التُّرَابِ فَوْقَ الْقَبْرِ قَدْرَ شِبْرٍ وَلَا بَأْسَ بِزِيَادَتِهِ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلًا عَلَى مَا عَلَيْهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ.فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَفَعَ قَبْرَهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ».وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَنَّمُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَطَّحُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: يُنْدَبُ تَسْنِيمُهُ كَسَنَامِ الْبَعِيرِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ «رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُسَنَّمًا».
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ.وَمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ عَلَيْهَا فَلْقُ مَدَرٍ بِيضٍ» وَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ جِبْرِيلَ- عليه السلام- صَلَّى بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا».
وَكَرِهُوا تَسْطِيحَ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِشِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَكَانَ مَكْرُوهًا لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ.وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَسْطِيحُهُ (أَيْ تَرْبِيعُهُ) وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ «إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا تُوُفِّيَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْرَهُ مُسَطَّحًا».
وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ» لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَسْوِيَتَهُ بِالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَسْطِيحَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ.
هَذَا إِذَا دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
3- أَمَّا إِنْ دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ دُفِنَ فِي بَلَدِ الْكُفَّارِ أَوْ دَارِ حَرْبٍ، وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْأَوْلَى تَسْوِيَةُ قَبْرِهِ بِالْأَرْضِ، وَإِخْفَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْبَشَ فَيُمَثَّلَ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ عَنْهُمْ.وَأَلْحَقَ بِهِ الْأَذْرَعِيُّ: الْأَمْكِنَةَ الَّتِي يُخَافُ نَبْشُهَا لِسَرِقَةِ كَفَنِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَانْظُرْ بَاقِيَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَبْرِ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
182-موسوعة الفقه الكويتية (تسوية)
تَسْوِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّسْوِيَةُ لُغَةً: الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، وَالْجَوْرُ أَوِ الظُّلْمُ ضِدُّ الْعَدْلِ، وَاسْتَوَى الْقَوْمُ فِي الْمَالِ مَثَلًا: إِذَا لَمْ يَفْضُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ فِي الْمَالِ.
وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ وَمِثْلُهُ- مِنَ الْأَضْدَادِ- وَتَسَاوَتِ الْأُمُورُ: تَمَاثَلَتْ، وَاسْتَوَى الشَّيْئَانِ وَتَسَاوَيَا: تَمَاثَلَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَسْمُ:
2- وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَمَ الشَّيْءَ يَقْسِمُهُ قَسْمًا: جَزَّأَهُ، وَالْقَسْمُ: نَصِيبُ الْإِنْسَانِ مِنَ الشَّيْءِ وَيُقَالُ: قَسَمْتُ الشَّيْءَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَأَعْطَيْتُ كُلَّ شَرِيكٍ قَسْمَهُ.
وَمِنْهُ التَّقْسِيمُ
وَالْقِسْمَةُ قَدْ تَكُونُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ تَكُونُ بِالتَّفَاضُلِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ:
3- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالتَّرَاصُّ فِي الصُّفُوفِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا فُرْجَةٌ، لِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
وَبَيَانُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الصُّفُوفِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).
تَسْوِيَةُ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ:
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْمَلَ الرُّكُوعِ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي، بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، بِأَنْ يَمُدَّهُمَا حَتَّى يَصِيرَا كَالصَّحِيفَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ إِلَى الْحِقْوِ، وَلَا يَثْنِيَ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى لَا يَفُوتَ اسْتِوَاءُ الظَّهْرِ بِهِ.لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ حَنَى غَيْرَ مُقَنِّعٍ رَأْسَهُ وَلَا مُصَوِّبِهِ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ».
وَفِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: «فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ».
قَالَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ- رحمه الله-: السُّنَّةُ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَرَأْسَهُ
التَّسْوِيَةُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
5- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ فِي الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَإِلَى جَوَازِ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ- إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُوَزِّعُ- وَلَا عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ، وَلَا آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
«قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذٍ- رضي الله عنه-: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَفِيهِ الْأَمْرُ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ.ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ، وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عِلَاقَةَ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ.حَيْثُ قَسَمَ فِيهِمُ الذُّهَيْبَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- مِنَ الْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ.وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ».لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَكْثَرُ حَاجَةً، فَالَّذِي يَلِيهِ.
فَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ، فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ: عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ النَّخَعِيُّ- رحمه الله- إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ إِلَى وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ.وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْأَصْنَافَ السَّبْعَةَ غَيْرَ الْعَامِلِ إِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، بِأَنْ سَهُلَ عَادَةً ضَبْطُهُمْ وَمَعْرِفَةُ عَدَدِهِمْ.وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمُ الزَّكَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ.
6- وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ سَوَاءٌ قَسَّمَ الْإِمَامُ أَوِ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً.
«وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مِنَ الزَّكَاةِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ».
7- كَمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، إِذَا كَانَتْ حَاجَاتُهُمْ مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ فَتَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ.أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَهَا.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّفَاوُتُ، لَكِنْ يُسَنُّ لَهُ التَّسْوِيَةُ إِنْ تَسَاوَتْ حَاجَاتُهُمْ، فَإِنْ تَفَاوَتَتِ اسْتُحِبَّ التَّفَاوُتُ بِقَدْرِهَا.
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، لِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقَسْمِ الْأُنْسَ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِمَّنْ لَا يَطَأُ.فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ جَعَلَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟».
وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَمَنْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ، وَالشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ، وَالْقَدِيمَةِ، وَالْحَدِيثَةِ.
لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الْآيَةَ.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذُنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلَا أَمْلِكُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ».
وَيُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ وَهُوَ النِّكَاحُ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَسْمِ.
وَتَفْصِيلُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَفِي بَدْءِ الْقَسْمِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَرُوسُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (الْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي التَّقَاضِي:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ، وَاللَّحْظِ، وَاللَّفْظِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالْإِقْبَالِ، وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْقِيَامِ لَهُمَا، وَرَدِّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ لَهُمَا؛ لِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ مِنْهَا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ»
وَكَتَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- أَنْ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ يُوهِمُ الْخَصْمَ الْآخَرَ مَيْلَ الْقَاضِي إِلَى خَصْمِهِ، فَيُضْعِفُهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ، وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُخَالَفَةً لِلْمُسَاوَاةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَيَشْمَلُ هَذَا الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالْأَبَ وَالِابْنَ، وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، إِذَا حَضَرَ الْقَاضِي خُصُومٌ وَازْدَحَمُوا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلسَّابِقِ، فَإِنْ جَهِلَ الْأَسْبَقَ مِنْهُمْ، أَوْ جَاءُوا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ؛ إِذْ لَا مُرَجِّحَ إِلاَّ بِهَا.فَإِنْ حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلًا، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِينَ قَدَّمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ؛ وَلِئَلاَّ يَتَضَرَّرُوا بِالتَّخَلُّفِ.وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ يُقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ طَلَبًا لِسَتْرِهِنَّ مَا لَمْ يَكْثُرْ عَدَدُهُنَّ أَيْضًا.
10- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَسْوِيَةِ الْمُسْلِمِ مَعَ خَصْمِهِ الْكَافِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا؛ لِأَنَّ تَفْضِيلَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَسْرٌ لِقَلْبِهِ، وَتَرْكٌ لِلْعَدْلِ الْوَاجِبِ التَّطْبِيقِ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ رَفْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى خَصْمِهِ الْكَافِرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَوَجَدَ دِرْعَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ، فَعَرَفَهَا فَقَالَ: دِرْعِي سَقَطَتْ وَقْتَ كَذَا فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي وَفِي يَدَيَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ.فَارْتَفَعَا إِلَى شُرَيْحٍ- رضي الله عنه-، فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْحٌ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَلَسَ مَعَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ خَصْمِيَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ» اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحٌ.
وَلِحَدِيثِ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى»
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ
11- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَايَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
لِأَنَّ الصِّدِّيقَ- رضي الله عنه- فَضَّلَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ فِي هِبَةٍ، وَفَضَّلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- ابْنَهُ عَاصِمًا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَطِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ.
وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما-: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ- رحمه الله-: إِلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ.فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إِتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً.فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ- رضي الله عنها-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: كُلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَأَرْجِعْهُ».وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ.إِنَّ لِبَنِيكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي».
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أَحَدًا لآَثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ».
12- وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْأَوْلَادِ.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْأَوْلَادِ: الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ بِدُونِ تَفْضِيلٍ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ: أَيْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَسَمَ لَهُمْ فِي الْإِرْثِ هَكَذَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ الْعَدْلُ الْمَطْلُوبُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا. وَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِهِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوِ الْمَرِيضِ، أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ فَلَا بَأْسَ.
التَّسْوِيَةُ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ عَلَى قَدْرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مَثَلًا: لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلآِخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِثَالِثٍ سُدُسُهَا، فَبَاعَ الْأَوَّلُ- وَهُوَ صَاحِبُ النِّصْفِ- حِصَّتَهُ أَخَذَ الثَّانِي سَهْمَيْنِ، وَالثَّالِثُ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَقْتَسِمُونَ الشِّقْصَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ، وَعَلَى هَذَا يُقْسَمُ النِّصْفُ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ، وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهَا، فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي اقْتِسَامِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ.
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَافِقَ الْعَامَّةَ- مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ، وَأَفْنِيَةِ الْأَمْلَاكِ، وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ، وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ، وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعُيُونِ الَّتِي أَنْبَعَ اللَّهُ مَاءَهَا، وَالْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَتْ بِدُونِ عَمَلِ النَّاسِ كَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِهَا وَالْكَلأَِ- اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُمْ فِيهَا سَوَاسِيَةٌ، فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُرُورِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْجُلُوسِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالشُّرْبِ وَالسِّقَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ.
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ اقْتِطَاعُهَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ.
وَيَكُونُ الْحَقُّ فِيهَا لِلسَّابِقِ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا».
وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِضْرَارِ، فَإِذَا تَضَرَّرَ بِهِ النَّاسُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِأَيِّ حَالٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
تَسْوِيَةُ الْقَبْرِ:
15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْقَبْرِ مِقْدَارَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِقَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُخْشَ نَبْشُهُ مِنْ كَافِرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ فَيُزَارَ، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُحْتَرَمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ قَبْرَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ».وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهم- قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: يَا أُمَّهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ».وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ- رحمه الله- أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ، صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ- رحمه الله-، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا، وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا، وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ وَتَسْوِيَتَهُ بِالْأَرْضِ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا صَحَّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ «أَنَّ عَمَّتَهُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَشَفَتْ لَهُ عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ فَإِذَا هِيَ مُسَطَّحَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ».
16- وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا زَادَ عَنْ مِقْدَارِ الشِّبْرِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ كَخَوْفِ نَبْشِ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ نَحْوِ كَافِرٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه- «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ».
وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا بِدَلِيلِ «قَوْلِ الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ: لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
183-موسوعة الفقه الكويتية (تشهير)
تَشْهِيرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّشْهِيرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَهَّرَهُ، بِمَعْنَى: أَعْلَنَهُ وَأَذَاعَهُ، وَشَهَّرَ بِهِ: أَذَاعَ عَنْهُ السُّوءَ، وَشَهَّرَهُ تَشْهِيرًا فَاشْتَهَرَ.وَالشُّهْرَةُ: وُضُوحُ الْأَمْرِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّعْزِيرُ:
2- التَّعْزِيرُ: التَّأْدِيبُ وَالْإِهَانَةُ دُونَ الْحَدِّ.وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّشْهِيرِ، إِذْ يَكُونُ بِالتَّشْهِيرِ وَبِغَيْرِهِ.فَالتَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ.
ب- السَّتْرُ:
3- السَّتْرُ: الْمَنْعُ وَالتَّغْطِيَةُ.وَهُوَ ضِدُّ التَّشْهِيرِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
3- يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْهِيرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُشَهَّرِ بِهِ.فَالتَّشْهِيرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، عَلَى جِهَةِ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْغِيبَةِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ.وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعَازِيرِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلًا: تَشْهِيرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ:
الْأَصْلُ أَنَّ تَشْهِيرَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِذِكْرِ عُيُوبِهِمْ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ حَرَامٌ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا.وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُشَهَّرُ بِهِ.
4- فَيَكُونُ حَرَامًا فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:
أ- إِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ بَرِيئًا مِمَّا يُشَاعُ عَنْهُ وَيُقَالُ فِيهِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلِمَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ، يَرَى أَنْ يَشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ.ثُمَّ تَلَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} ».
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَة- رضي الله عنها- حِينَ رَمَاهَا أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَهِيَ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، يَحْكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} » وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» أَيْ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْوُ بِالشِّعْرِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ يَتَضَمَّنُ هَجْوَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحَ فِي، أَعْرَاضِهِمْ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ.
ب- إِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ يَتَّصِفُ بِمَا يُقَالُ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ.
فَالتَّشْهِيرُ بِهِ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْغِيبَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}.وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ.قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْعَالِمِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ.أَوْ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: فَعَلَ كَذَا بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهُ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ.فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ.وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.وَلَا تَفْضَحْهُ.
ج- وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَشْهِيرُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ؛ إِذْ الْمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ.فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا.وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ» وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».
5- وَيَكُونُ التَّشْهِيرُ جَائِزًا لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:
أ- بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ مَنْ يَتَجَاهَرُ بِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا غِيبَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ لَا غِيبَةَ لَهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ- كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ- كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ
فَإِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ- فَلَا يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ إِذَا سَمِعَهُ، بَلْ قَدْ يُسَرُّ بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّصُوصِ تَفْتَخِرُ بِالسَّرِقَةِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّسَوُّرِ عَلَى الدُّورِ الْعِظَامِ وَالْحُصُونِ الْكِبَارِ، فَذِكْرُ مِثْلِ هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَا يَحْرُمُ.
وَفِي الْإِكْمَالِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ» قَالَ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ.وَقَالَ الْخَلاَّلُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ».
6- ب- إِذَا كَانَ التَّشْهِيرُ عَلَى سَبِيلِ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْذِيرِهِمْ، وَذَلِكَ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ، وَالتَّشْهِيرِ بِالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إِقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ يُدْعَوْنَ إِلَيْهَا، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَمَلَةِ الْعِلْمِ الْمُقَلِّدِينَ، هَؤُلَاءِ يَجِبُ تَجْرِيحُهُمْ وَكَشْفُ أَحْوَالِهِمُ السَّيِّئَةِ لِمَنْ عَرَفَهَا مِمَّنْ يُقَلَّدُ فِي ذَلِكَ وَيُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ، لِئَلاَّ يَغْتَرَّ بِهِمْ وَيُقَلَّدَ فِي دِينِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَلَيْسَ السَّتْرُ هُنَا بِمُرَغَّبٍ فِيهِ وَلَا مُبَاحٍ.عَلَى هَذَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشَهِّرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا.
وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ فَلَا يَقَعُوا فِيهَا، وَيَنْفِرَ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقَ، وَلَا يَفْتَرِيَ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً، فَلَا يُقَالُ فِي الْمُبْتَدِعِ: إِنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا أَنَّهُ يَزْنِي، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ وَضْعُ الْكُتُبِ فِي جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَالْأَخْبَارِ بِذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ لِذَلِكَ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقُلُهُ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَبْطِ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِأَجْلِ عَدَاوَةٍ أَوْ تَفَكُّهٍ بِالْأَعْرَاضِ وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ عِنْدَ الرُّوَاةِ.
وَيَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ قَالَ الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ: لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لَا تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْفَتْوَى فَهَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ.نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ.
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِغِيبَةٍ إِنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ.وَمِثْلُهُ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي.
وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ لِلْحَدِيثِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَاجِبٌ لِلْحَاجَةِ.
وَمِنْهَا: إِذَا اسْتَشَارَكَ إِنْسَانٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ أَوْ مُشَارَكَتِهِ أَوْ إِيدَاعِهِ أَوِ الْإِيدَاعِ عِنْدَهُ أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ مَا تَعْلَمُهُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيُشَهَّرُ أَمْرُهُ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ.
ثَانِيًا: التَّشْهِيرُ مِنْ الْحَاكِمِ:
تَشْهِيرُ الْحَاكِمِ لِبَعْضِ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعْزِيرِ.
أ- بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ:
7- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْغَائِبِينَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَانِيَةً وَغَيْرَ سِرٍّ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: وَمِنْ أَمْرِ النَّاسِ عِنْدَنَا الشَّهْرُ لِأَهْلِ الْفِسْقِ رِجَالًا وَنِسَاءً، وَالْإِعْلَامُ بِجَلْدِهِمْ فِي الْحُدُودِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَكَشْفُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ الْمَجْلُودِ فِي الْخَمْرِ وَالْفِرْيَةِ: أَتَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَبِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فَاسِقًا مُدْمِنًا فَأَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ، وَنُعْلِنُ أَمْرَهُمْ وَيُفْضَحُونَ.
وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُنْدَبُ أَنْ يُعَلَّقَ الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ فِي عُنُقِ الْمَحْدُودِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رَدْعًا لِلنَّاسِ، وَقَدْ رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَارِقٍ قُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ» وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-.
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ حَدِيثَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي.فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ».
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ- كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ- أَنَّ الْحُكَّامَ أَخَذُوا بِالتَّجْرِيسِ بِالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
كَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إِذَا صُلِبَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَشْتَهِرَ الْحَالُ وَيَتِمَّ النَّكَالُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ.
ب- بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ:
8- التَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، أَيْ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ إِلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّشْهِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَسَبَ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاصِي، وَاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّعْزِيرُ بِالتَّشْهِيرِ جَائِزٌ إِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجُمْلَةِ.
يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْأَمِيرِ إِذَا رَأَى مِنَ الصَّلَاحِ فِي رَدْعِ السَّفَلَةِ: أَنْ يُشَهِّرَهُمْ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ.
وَيَقُولُ: يَجُوزُ فِي نَكَالِ التَّعْزِيرِ أَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُشَهَّرَ فِي النَّاسِ، وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يَتُبْ.
وَفِي التَّبْصِرَةِ لِابْنِ فَرْحُونَ: إِنْ رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ بِإِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَلَ.
وَيَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ أَيْضًا: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ، وَعُزِلَ وَيُشَهَّرُ وَيُفْضَحُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْقَوَّادَةُ- الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ- أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِيهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ، وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِتُجْتَنَبَ.
غَيْرَ أَنَّهُ يُلَاحَظُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ دَائِمًا يَذْكُرُونَ التَّشْهِيرَ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ مِمَّا يُوحِي بِأَنَّ التَّشْهِيرَ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِشَاهِدِ الزُّورِ، وَذَلِكَ لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فِي الْمَشْهُورِ: يُطَافُ بِهِ وَيُشَهَّرُ، وَلَا يُضْرَبُ اسْتِنَادًا إِلَى مَا فَعَلَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ ضَرْبَهُ وَحَبْسَهُ.
وَيَذْكُرُ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ.فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ».
ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وَشَهَّرَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَبِهِ يَقُولُ شُرَيْحٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِذَا عُزِّرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُشَهِّرَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَشَاهِدِ زُورٍ لِيُجْتَنَبَ.
وَجَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ الرَّجُلَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَد يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ فَإِنَّهُ إِكْرَامٌ، وَكَشْفِ الرَّأْسِ بِالْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِمِصْرِ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: وَالتَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ «عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْهَجْرِ»، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ.
«وَعَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ».
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِ التَّعْزِيرِ وَقَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا، فَيَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الْأَصَحِّ، فَلَهُ أَنْ يُشَهِّرَ فِي النَّاسِ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ.وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا، وَهُوَ رَبْطُهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَا لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُرْسَلُ، وَلَا يُمْنَعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالصَّلَاةِ.
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبُحْتُرِيُّ- وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ- إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ، قَدْ أَخَذَ مَعَهُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمُسْكِرِ، أُمِرَ بِهِ فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ بَابِهِ، كَيْمَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَيُشَهَّرُ بِهِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
184-موسوعة الفقه الكويتية (جعالة 1)
جِعَالَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْجُعْلُ بِالضَّمِّ الْأَجْرُ، يُقَالُ: جَعَلْتُ لَهُ جُعْلًا، وَالْجِعَالَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْضُهُمْ يَحْكِي التَّثْلِيثَ اسْمٌ لِمَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ.
وَالْجَعِيلَةُ مِثَالُ كَرِيمَةٍ، لُغَةٌ فِي الْجُعْلِ.
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَجْرًا مَعْلُومًا، وَلَا يَنْقُدُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ فِي زَمَنٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ، مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْجَاعِلِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكْمَلَ الْعَمَلَ كَانَ لَهُ الْجُعْلُ، وَإِنْ لَمْ يُتِمُّهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْجَاعِلِ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِهِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا الْتِزَامُ عِوَضٍ مَعْلُومٍ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ، أَوْ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا تَسْمِيَةُ مَالٍ مَعْلُومٍ لِمَنْ يَعْمَلُ لِلْجَاعِلِ عَمَلًا مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا أَوْ لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ مُدَّةً وَلَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْإِجَارَةُ:
2- الْإِجَارَةُ: لُغَةً مَصْدَرُ آجَرَ وَهِيَ الْكِرَاءُ وَاصْطِلَاحًا تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِعَالَةَ قَدْ تَكُونُ عَلَى مَجْهُولٍ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.
حُكْمُ الْجِعَالَةِ، وَدَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا:
3- عَقْدُ الْجِعَالَةِ مُبَاحٌ شَرْعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّهَا جَائِزَةٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، اتِّفَاقًا، وَالْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِهَا بَلْ عَدَمُ صِحَّتِهَا لِلْغَرَرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ عَقْدُهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْجَوَازِ لِلْأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْقُولِ.فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وَكَانَ حِمْلُ الْبَعِيرِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْوَسْقُ وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قُصَّ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَمَنْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَعَلَهُ اسْتِئْنَاسًا.
وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ رُقْيَةِ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ «أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَتَوْا حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يُقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فَقَالُوا: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: لَمْ تُقْرُونَا، فَلَا نَفْعَلُ إِلاَّ أَنْ تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ شَاءٍ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ فَبَرِئَ الرَّجُلُ فَأَتَوْهُمْ بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلُوا الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَضَحِكَ وَقَالَ: مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ».وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».وَمِنَ السُّنَّةِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ».
وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهَا لِرَدِّ مَالٍ ضَائِعٍ، أَوْ عَمَلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْجَاعِلُ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ لِجَهَالَتِهِ، فَجَازَتْ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْمُضَارَبَةِ (ر: مُضَارَبَةٌ).
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: بِعَدَمِ جَوَازِهَا فِي غَيْرِ جُعْلِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَدَلِيلُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ مَا فِي الْجِعَالَةِ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْخَطَرِ (أَيِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) كَمَا أَنَّ الْجِعَالَةَ الَّتِي لَمْ تُوَجَّهْ إِلَى مُعَيَّنٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَنْ يَقْبَلُ الْعَقْدَ فَانْتَفَى الْعَقْدُ.
وَالْجِعَالَةُ تَخْتَلِفُ عَنِ الْإِجَارَةِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُجِيزَةِ لَهَا- فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَهِيَ كَمَا يَلِي:
الْأَوَّلُ: صِحَّةُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ وَتَعْيِينُهُ كَرَدِّ مَالٍ ضَائِعٍ.
الثَّانِي: صِحَّةُ الْجِعَالَةِ مَعَ عَامِلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
الثَّالِثُ: كَوْنُ الْعَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ.
الرَّابِعُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجِعَالَةِ تَلَفُّظُ الْعَامِلِ بِالْقَبُولِ.
الْخَامِسُ: جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِي الْجِعَالَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
السَّادِسُ: يُشْتَرَطُ فِي الْجِعَالَةِ عَدَمُ التَّأْقِيتِ لِمُدَّةِ الْعَمَلِ.
السَّابِعُ: الْجِعَالَةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ.
الثَّامِنُ: سُقُوطُ كُلِّ الْعِوَضِ بِفَسْخِ الْعَامِلِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ.
وَزَادَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجِعَالَةَ تَتَمَيَّزُ أَيْضًا عَنِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهَا غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ مَحَلِّ الْعَمَلِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجِعَالَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.
أَرْكَانُ الْجِعَالَةِ:
أَرْكَانُ الْجِعَالَةِ أَرْبَعَةٌ: (الْأَوَّلُ) الصِّيغَةُ (الثَّانِي) الْمُتَعَاقِدَانِ، (الثَّالِثُ) الْعَمَلُ، (الرَّابِعُ) الْجُعْلُ.
صِيغَةُ الْجِعَالَةِ:
4- الصِّيغَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْجِعَالَةِ هِيَ كُلُّ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْعَمَلِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، مَقْصُودِ وَمُلْتَزَمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِذْنُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ عَلِمَ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْجَاعِلُ: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي أَوْ ضَالَّةَ فُلَانٍ فَلَهُ كَذَا، أَمْ كَانَ الْإِذْنُ خَاصًّا بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَلَكَ كَذَا؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَدْرِ الْمَبْذُولِ عِوَضًا كَالْإِجَارَةِ، وَالْأَخْرَسُ تَكْفِي إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ لِذَلِكَ.وَأَمَّا النَّاطِقُ إِذَا كَتَبَ ذَلِكَ وَنَوَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ قَبُولُ الْعَامِلِ لَفْظًا وَإِنْ عَيَّنَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ بَلْ يَكْفِي الْعَمَلُ مِنْهُ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْعَامِلِ وَقْتَ إِيجَابِ الْجَاعِلِ وَإِعْلَانِهِ.
وَلَا تُشْتَرَطُ أَيْضًا الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ قَالَ الْجَاعِلُ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَلَكَ دِينَارٌ، فَقَالَ الْعَامِلُ: أَرُدُّهَا بِنِصْفِ دِينَارٍ، فَالرَّاجِحُ الْقَطْعُ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِلدِّينَارِ، لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجِعَالَةِ، قَالَ هَذَا الْجُوَيْنِيُّ، وَذَكَرَ الْقَمُولِيُّ نَحْوَهُ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا صُدُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ وَالِالْتِزَامِ مِنَ الْمَالِكِ أَوِ الْجَاعِلِ.
الْأُولَى: رَدُّ الْعَبْدِ الْآبِقِ إِنْ كَانَ الرَّادُّ لَهُ غَيْرَ الْإِمَامِ.
الثَّانِيَةُ: تَخْلِيصُ الشَّخْصِ مَتَاعَ غَيْرِهِ مِنْ مَكَانٍ يَظُنُّ هَلَاكَهُ، أَوْ تَلَفَهُ عَلَى مَالِكِهِ فِي تَرْكِهِ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ إِيقَاعُ الْعَقْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَتَى بِالضَّالَّةِ أَوِ الْآبِقِ مَنِ اعْتَادَ طَلَبَ الضَّوَالِّ وَالْإِبَاقِ وَرَدَّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا بِعِوَضٍ فَيَسْتَحِقُّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْ صَاحِبِهَا الْتِزَامٌ.
رَدُّ الْعَامِلِ الْمُعَيَّنِ لِلْجِعَالَةِ:
5- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَامِلَ الْمُعَيَّنَ لَوْ رَفَضَ قَبُولَ عَقْدِ الْجِعَالَةِ وَرَدَّهُ مِنْ أَصْلِهِ فَقَالَ: لَا أَرُدُّ الضَّالَّةَ مَثَلًا أَوْ رَدَدْتُ الْجِعَالَةَ، أَوْ لَا أَقْبَلُهَا، ثُمَّ عَمِلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا تَبْطُلُ بِرَفْضِ الْعَامِلِ وَرَدِّهِ لَهَا.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْجُوَيْنِيِّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْقَمُولِيِّ السَّابِقِ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَهُمَا هَذَا عَلَى مَا لَوْ قَبِلَ الْعَامِلُ الْجِعَالَةَ وَرَفَضَ الْعِوَضَ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ: أَرُدُّ الضَّالَّةَ بِلَا شَيْءٍ.
وَلَمْ يُعْثَرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
عَقْدُ الْجِعَالَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ هَلْ هُوَ لَازِمٌ
6- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْجِعَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ شُرُوعِ الْعَامِلِ فِي الْعَمَلِ فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَيُّ أَثَرٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الْجَاعِلِ تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ لِلْجُعْلِ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ فَلِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَجْهُولٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَّصِفُ عَقْدُهُ بِاللُّزُومِ.
وَيُقَابِلُ هَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ- وَلَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ كَالْإِجَارَةِ، وَقِيلَ عِنْدَهُمْ أَيْضًا: إِنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ لِلْجَاعِلِ فَقَطْ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِهِ أَوْ إِعْلَانِهِ دُونَ الْعَامِلِ، وَأَمَّا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِلِ فِي الْعَمَلِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ تَمَامِهِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامِلِ، أَمَّا الْجَاعِلُ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الرَّاجِحِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنْ تَعَاقُدِهِ هَذَا حَتَّى لَا يَبْطُلَ عَلَى الْعَامِلِ عَمَلُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الشُّرُوعُ قَلِيلًا لَا قِيمَةَ لَهُ.
الْمُتَعَاقِدَانِ:
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزِمِ بِالْجُعْلِ:
7- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزِمِ بِالْجُعْلِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَجْعَلُهُ عِوَضًا، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالْتِزَامِ صَبِيٍّ، أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ مُكْرَهٍ.وَبِمِثْلِ هَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ شَرَائِطُ لُزُومِ الْعَقْدِ لِمُلْتَزِمِ الْجُعْلِ، وَأَمَّا أَصْلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ مُمَيِّزًا فَقَطْ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ:
8- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ الْمُعَيَّنِ أَهْلِيَّتُهُ لِلْعَمَلِ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْ عَاجِزٍ عَنِ الْعَمَلِ، كَصَغِيرٍ، وَضَعِيفٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَعْدُومَةٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِإِعْلَانِ الْجَاعِلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْعَمَلِ أَصْلًا، وَيَكْفِي أَنْ يَأْذَنَ أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يَعْمَلُ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ بِنَوْعَيْهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بُلُوغٌ وَلَا عَقْلٌ، وَلَا رُشْدٌ وَلَا حُرِّيَّةٌ، وَلَا إِذْنُ وَلِيٍّ أَوْ سَيِّدٍ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَعَبْدٍ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُلُّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الْجَاعِلِ كَانَ شَرْطًا فِي الْعَامِلِ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النِّيَابَةُ فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
9- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ- الْمُلْتَزِمُ بِالْجُعْلِ- وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَجِبُ الْجُعْلُ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ التَّعَاقُدُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ قَدْرَ أُجْرَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ أَقَلَّ، أَمَّا إِذَا زَادَ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا، وَتَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ مُعَيَّنًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى الرَّاجِحِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، وَعَلِمَ الْجَاعِلُ بِذَلِكَ وَقْتَ التَّعَاقُدِ، أَمَّا إِنْ طَرَأَ لَهُ طَارِئٌ يُعْجِزُهُ عَنِ الْعَمَلِ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَلِ.
وَأَمَّا الْعَامِلُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مِمَّنْ سَمِعَ الْإِعْلَانَ الْعَامَّ بِالْجِعَالَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ فِي الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ الْمُلْتَزِمُ بِالْجُعْلِ- فُضُولِيًّا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَجِبُ الْجُعْلُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ.
مَحَلُّ الْعَقْدِ وَشَرَائِطُهُ:
أَنْوَاعُهُ:
10- الْأَعْمَالُ الْمُتَعَاقَدُ عَلَيْهَا فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ- مِنْ حَيْثُ الْمُرَادُ مِنْهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُرَادُ بِالتَّعَاقُدِ عَلَيْهِ اسْتِحْدَاثُ نَتِيجَةٍ جَدِيدَةٍ، كَتَعْلِيمِ عِلْمٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْ إِخْبَارٍ فِيهِ غَرَضٌ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ خِيَاطَةٍ، أَوْ دَلَالَةٍ، أَوْ رُقْيَةِ مَرِيضٍ بِدُعَاءٍ جَائِزٍ أَوْ تَمْرِيضِهِ أَوْ مُدَاوَاتِهِ حَتَّى الشِّفَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مَا يُرَادُ بِالتَّعَاقُدِ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَإِعَادَتُهُ لِنَاشِدِهِ، كَرَدِّ مَالٍ ضَائِعٍ أَوْ ضَالَّةٍ، أَوْ آبِقٍ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ مَا يَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ جِعَالَةً وَمَا لَا يَصِحُّ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ:
11- أ- يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مَجْهُولٍ يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَوَصْفُهُ بِحَيْثُ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، كَرَدِّ ضَالَّةٍ مَثَلًا، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إِذَا احْتُمِلَتْ فِي الْمُضَارَبَةِ تَوَصُّلًا إِلَى الرِّبْحِ الزَّائِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَاحْتِمَالُهَا فِي الْجِعَالَةِ تَوَصُّلًا إِلَى أَصْلِ الْمَالِ اضْطِرَارًا أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَبْطِهِ وَوَصْفِهِ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِاحْتِمَالِ جَهَالَتِهِ، فَفِي بِنَاءِ حَائِطٍ مَثَلًا يَذْكُرُ مَوْضِعَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ وَارْتِفَاعَهُ وَمَا يُبْنَى بِهِ.
12- ب- وَكَذَلِكَ يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ- كَقَوْلِ الْجَاعِلِ: «مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي مِنْ مَوْضِعِ كَذَا» أَوْ خِيَاطَةٍ مَوْصُوفَةٍ- عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهَا إِذَا جَازَتْ.مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ فَمَعَ مَعْلُومِيَّتِهِ أَوْلَى.وَبِمِثْلِ هَذَا كُلِّهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ: يَرَوْنَ عَدَمَ صِحَّةِ الْجِعَالَةِ مُطْلَقًا عَلَى مُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ حَتَّى الشِّفَاءِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْعَمَلُ الْمُجَاعَلُ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ:
13- أ- فَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْجِعَالَةُ وَالْإِجَارَةُ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى بَيْعِ سِلَعٍ قَلِيلَةٍ وَشِرَاءِ السِّلَعِ الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ، وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ، وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ تَعَاقَدَا عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْأَذْرُعِ كَانَ إِجَارَةً، وَإِنْ تَعَاقَدَا عَلَى ظُهُورِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ كَانَ جِعَالَةً.
14- ب- وَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْجِعَالَةُ دُونَ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، أَوِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ مَجْهُولًا، فَتُشْتَرَطُ الْجَهَالَةُ بِالْعَمَلِ هُنَا تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَعْلُومِيَّتَهُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا تُوجِبُ الْغَرَرَ فِيهِ، كَأَنْ لَا يَجِدَ الْبَعِيرَ الشَّارِدَ مَثَلًا فِي الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مِنْهُ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ مَجَّانًا وَتَضِيعُ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ.
15- ج- وَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ دُونَ الْجِعَالَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا، كَأَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى عَمَلٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْجَاعِلِ كَحَفْرِ بِئْرٍ مَثَلًا، وَكَذَا التَّعَاقُدُ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ خِدْمَةِ شَهْرٍ، أَوْ بَيْعِ سِلَعٍ كَثِيرَةٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى لِلْجَاعِلِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إِنْ لَمْ يُتِمَّ الْعَامِلُ الْعَمَلَ.
16- أَمَّا مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ، وَالْمُعَلِّمِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ مَثَلًا، وَكِرَاءُ السُّفُنِ، فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّهَا تَصِحُّ إِجَارَةً وَتَصِحُّ جِعَالَةً، وَزَادَ عَلَيْهَا ابْنُ شَاسٍ الْمُغَارَسَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنَّ هَذِهِ الْفُرُوعَ كُلَّهَا مِنَ الْإِجَارَةِ فَقَطْ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَنَصَّ سَحْنُونٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ الْجِعَالَةُ.
الْمَشَقَّةُ فِي الْعَمَلِ:
17- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِيهِ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ مُؤْنَةٌ، كَرَدِّ آبِقٍ، أَوْ ضَالَّةٍ، أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مَنْ بِيَدِهِ الشَّيْءُ، أَوْ إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَعَبٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَخْبِرِ غَرَضٌ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَقَيَّدَ الْأَذْرَعِيُّ هَذَا: بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ حَادِثَةً بَعْدَ عَقْدِ الْجِعَالَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا لِأَنَّهَا مَحْضُ تَبَرُّعٍ حِينَئِذٍ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْجِعَالَةِ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَجُوزُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي كُلِّ مَا لَا يَكُونُ لِلْجَاعِلِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إِلاَّ بِتَمَامِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ يَسِيرًا أَمْ غَيْرَ يَسِيرٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
كَوْنُ الْعَمَلِ مُبَاحًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامِلِ:
18- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامِلِ أَدَاؤُهُ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مُبَاحٍ كَغِنَاءٍ، وَرَقْصٍ، وَعَمَلِ خَمْرٍ، وَنَحْوِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَيْضًا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ الْمَطْلُوبُ أَدَاؤُهُ بِالْعَقْدِ وَاجِبًا عَلَى الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ، نَحْوُ: رَدُّ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ وَالْمَسْرُوقَةَ لِصَاحِبِهَا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ إِعْلَانَهُ الْجُعْلَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَابَلَ بِعِوَضٍ.
وَلَا يَشْمَلُ هَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، كَتَخْلِيصٍ مِنْ نَحْوِ: حَبْسٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَدَفْعِ ظَالِمٍ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ تُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ هَذَا مَا لَوْ رَدَّ الشَّيْءَ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ أَمَانَةً نَحْوُ: أَنْ يَرُدَّ شَخْصٌ دَابَّةً دَخَلَتْ دَارِهِ لِصَاحِبِهَا بَعْدَ أَنَّ جَاعَلَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَاحِبِهَا، أَمَّا رَدُّهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَبِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَبِهِ أَيْضًا قَالَ الْحَنَابِلَةُ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَسَمُوا الْعَمَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِلِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ سِوَاهُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَهَذَا لَا تَصِحُّ الْجِعَالَةُ عَلَيْهِ.
(الثَّانِي) مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ مِنْ حَجٍّ، وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ، وَقُرْآنٍ، وَقَضَاءٍ وَإِفْتَاءٍ، فَهَذَا تَصِحُّ الْجِعَالَةُ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: مَا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ رَدَّ آبِقٍ، فَإِنَّ الرَّادَّ لَهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ سِوَى الْإِمَامِ كَمَا سَيَأْتِي.
تَأْقِيتُ الْعَمَلِ:
19- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْجِعَالَةِ عَدَمُ تَأْقِيتِ الْعَمَلِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، فَلَوْ قَالَ الْجَاعِلُ مَثَلًا: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي إِلَى نِهَايَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَهُ دِينَارٌ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ فَقَدْ لَا يَجِدُ الْعَامِلُ الضَّالَّةَ خِلَالَ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَيَضِيعُ سَعْيُهُ وَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ، وَسَوَاءٌ أَضَافَ إِلَى كَلَامِهِ هَذَا مِنْ مَحَلِّ كَذَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُهُ فِيهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ تَأْقِيتِ الْعَمَلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْعَامِلُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ مَتَى شَاءَ، وَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْعِوَضِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ، لِأَنَّ الْعَامِلَ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يُتِمَّ الْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ التَّرْكُ مَتَى شَاءَ لِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ- فَحِينَئِذٍ يَكُونُ غَرَرُهُ قَوِيًّا.
أَمَّا إِنْ شَرَطَ الْعَامِلُ ذَلِكَ، أَوِ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعَمَلِ فِي الْعَقْدِ حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْعَامِلَ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ ابْتِدَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فَغَرَرُهُ حِينَئِذٍ خَفِيفٌ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعَمَلِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ إِذَا جَعَلَ لِلْعَامِلِ الْجُعْلَ بِتَمَامِ الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ أَتَمَّ الْعَمَلُ أَمْ لَا، إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ قَدْ خَرَجَ حِينَئِذٍ مِنَ الْجِعَالَةِ إِلَى الْإِجَارَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهَا مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ إِذَا جَازَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَجْهُولَةٌ فَمَعَ تَقْدِيرِهَا، وَمَعْلُومِيَّتُهَا أَوْلَى.
تَضَمُّنُ الْعَمَلِ نَفْعًا لِلْجَاعِلِ:
20- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَاعِلِ فِي الْعَمَلِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ غَرَضٌ وَمَنْفَعَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِ بِتَحَقُّقِهِ، فَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَلَهُ دِينَارٌ، صَحَّ الْعَقْدُ بِالشَّرَائِطِ السَّابِقَةِ.
وَلَوْ جَاعَلَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنْ يَصْعَدَ هَذَا الْجَبَلَ، وَيَنْزِلَ مِنْهُ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْجَاعِلِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِإِتْيَانِ حَاجَةٍ مِنْهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ.
كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْجَاعِلِ إِلاَّ بِتَمَامِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي الْجِعَالَةِ لِلْجَاعِلِ، فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ: مَنْ رَكِبَ دَابَّتِي مَثَلًا فَلَهُ كَذَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ لِلْعَامِلِ الْأَمْرَانِ النَّفْعُ وَالْعِوَضُ.وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَادِيَ غَيْرُ رَبِّ الضَّالَّةِ: مَنْ رَدَّ ضَالَّةَ فُلَانٍ فَلَهُ كَذَا فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِنْ رُدَّتْ يَكُونُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُنَادِي لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا.
الْجُعْلُ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
مَعْلُومِيَّتُهُ:
21- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْجِعَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مَالًا مَعْلُومًا جِنْسًا وَقَدْرًا؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعِوَضِ تُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْجِعَالَةِ، إِذْ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَرْغَبُ فِي الْعَمَلِ مَعَ جَهْلِهِ بِالْجُعْلِ، هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِجَهَالَتِهِ فِي الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ وَالْعَامِلِ حَيْثُ تُغْتَفَرُ جَهَالَتُهُمَا لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.
وَمَعْلُومِيَّةُ الْجُعْلِ تَحْصُلُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ وَصْفِهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا، وَبِوَصْفِهِ إِنْ كَانَ دَيْنًا.إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْجُعْلُ عَيْنًا مُعَيَّنَةً- ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً مَضْرُوبًا عَلَيْهَا- فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُعْلًا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، فَلِلْجَاعِلِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَيَغْرَمُ مِثْلَهَا إِذَا أَتَمَّ الْعَامِلُ الْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مِثْلِيًّا، أَوْ مَوْزُونًا لَا يُخْشَى تَغَيُّرُهُ خِلَالَ فَتْرَةِ الْعَمَلِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ، أَوْ ثَوْبًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالْجُعْلُ، فَإِنْ كَانَ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جُعْلًا، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْفَسَادُ.
مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَعْلُومِيَّةُ:
22- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَثْنَى مِنِ اشْتِرَاطِ الْمَعْلُومِيَّةِ فِي الْجُعْلِ حَالَتَانِ:
الْأُولَى: مَا لَوْ جَعَلَ الْإِمَامُ أَوْ قَائِدُ الْجَيْشِ لِمَنْ يَدُلُّ عَلَى فَتْحِ قَلْعَةٍ لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ جُعْلًا مِنْهَا كَفَرَسٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ لِلْحَاجَةِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقْتَ الْحَرْبِ.
الثَّانِيَةُ: مَا لَوْ قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: حُجَّ عَنِّي بِنَفَقَتِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ النَّفَقَةِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ جِعَالَةٌ فَاسِدَةٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَجُوزَ الْجِعَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْجُعْلِ إِذَا كَانَتِ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْجَاعِلُ: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا، أَوْ قَالَ الْقَائِدُ لِلْجَيْشِ فِي الْغَزْوِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ، أَوْ جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ مَثَلًا، وَكَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْأَعْدَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا كَفَرَسٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِلُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اسْتَثْنَوْا حَالَاتٍ أُخْرَى:
الْأُولَى: أَنْ يُجَاعِلَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُ أُصُولًا حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا مُعَيَّنًا فَتَكُونُ هِيَ (أَيِ الزِّيَادَةُ) وَالْأَصْلُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجَاعِلَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الدَّيْنِ بِجُزْءٍ (أَيْ مَعْلُومٍ كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ مِمَّا يُحَصِّلُهُ)، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجَاعِلَهُ عَلَى حَصَادِ الزَّرْعِ، أَوْ جَذِّ النَّخْلِ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ يُسَمِّيهِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُجَاعَلَةِ فِيهِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا.
اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْجُعْلِ حَلَالًا، وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ:
23- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْجُعْلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، مَمْلُوكًا لِلْجَاعِلِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ نَجِسًا، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْجَاعِلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ.
تَعْجِيلُ الْجُعْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ:
24- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجِعَالَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِ الْجُعْلِ، فَلَوْ شَرَطَ تَعْجِيلَهُ قَبْلَ الْعَمَلِ فَسَدَ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ الْجَاعِلُ لِلْعَامِلِ بِلَا شَرْطٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَمْلِكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ أَحَصَلَ نَقْدٌ وَتَسْلِيمٌ لِلْجُعْلِ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا، وَذَلِكَ لِدَوَرَانِ الْجُعْلِ بَيْنَ الْمُعَاوَضَةِ- إِنْ وَجَدَ الْعَامِلُ الضَّالَّةَ مَثَلًا وَأَوْصَلَهَا إِلَى الْجَاعِلِ- وَبَيْنَ الْقَرْضِ إِنْ لَمْ يُوصِلْهَا لَهُ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهَا أَصْلًا، أَوْ وَجَدَهَا وَأَفْلَتَتْ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ، وَالدَّوَرَانُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا احْتِمَالًا، وَأَمَّا النَّقْدُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْجُعْلِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيَجُوزُ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، إِذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ.
آثَارُ عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
لُزُومُ عَقْدِ الْجِعَالَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ:
25- اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجِعَالَةِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْجِعَالَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ يُصْبِحُ لَازِمًا لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَى رُجُوعِ الْجَاعِلِ عَنِ الْعَقْدِ، أَوْ تَرْكِ الْعَامِلِ الْعَمَلَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْجُعْلَ قَدْ لَزِمَ وَاسْتَقَرَّ عَلَى الْجَاعِلِ.
صِفَةُ يَدِ الْعَامِلِ عَلَى مَالِ الْجَاعِلِ:
26- اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجِعَالَةِ عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَامِلِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْجَاعِلِ إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ- إِذَا كَانَتِ الْجِعَالَةُ عَلَى رَدِّهِ- يَدَ أَمَانَةٍ لَا ضَمَانٍ، فَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَخَلاَّهُ رَغْمًا عَنْهُ، أَوْ بِلَا تَقْصِيرٍ وَتَفْرِيطٍ، كَأَنْ تَرَكَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَتَلِفَ أَوْ هَرَبَ لَمْ يَضْمَنْهُ.أَمَّا إِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَخَلاَّهُ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حِفْظِهِ، كَأَنْ تَرَكَهُ فِي مَكَانٍ يَضِيعُ فِيهِ غَالِبًا أَوْ يَتْلَفُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَيُعْتَبَرُ مِنَ التَّفْرِيطِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْعَامِلُ الْمَالَ فِي عَمَلٍ خَاصٍّ بِهِ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ مَثَلًا، فَإِنْ رَكِبَهَا ضَمِنَهَا إِنْ هَلَكَتْ.
النَّفَقَةُ عَلَى الْمَالِ وَهُوَ فِي يَدِ الْعَامِلِ:
27- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَامِلِ خِلَالَ فَتْرَةِ وُجُودِ الْمَالِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْجُعْلَ كُلَّهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ مُعْتَادًا طَلَبَ الضَّوَالِّ وَرَدَّهَا لِأَصْحَابِهَا بِعِوَضٍ، سَوَاءٌ أَوَجَبَ لَهُ جُعْلَ الْمِثْلِ أَمِ الْجُعْلَ الْمُسَمَّى، وَلَكِنْ يُمْكِنُهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَنَفَقَتُهُ تَسْتَغْرِقُ الْجُعْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى قَاضِي هَذَا الْبَلَدِ لِيَبِيعَ الْمَالَ وَيَحْكُمَ لَهُ بِجُعْلِهِ، أَمَّا إِنْ جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الْجُعْلِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، أَوْ جُعِلَ مِثْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْعَامِلُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ طَلَبُ الضَّوَالِّ وَالْإِبَاقِ، وَلَمْ يَحْدُثِ الْتِزَامٌ بِالْجُعْلِ مِنَ الْمَالِكِ، أَوْ كَانَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ هَذَا الْعَامِلُ، فَإِنَّهُ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فَقَطْ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا شَيْءَ لَهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا جُعْلٍ.
28- وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يَرْجِعُ بِهَا الْعَامِلُ عَلَى الْمَالِكِ عِنْدَ اللَّقَانِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا أَنْفَقَهُ الْعَامِلُ عَلَى الضَّالَّةِ أَوِ الْآبِقِ مَثَلًا مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ احْتَاجَ لَهُ فِي خِلَالِ فَتْرَةِ رَدِّهِ.أَمَّا مَا أَنْفَقَهُ الْعَامِلُ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ مَثَلًا فِي خِلَالِ فَتْرَةِ تَحْصِيلِهِ، وَرَدِّهِ فَهَذِهِ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ.
وَخَالَفَهُ الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: إِنَّ النَّفَقَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا، هِيَ مَا أَنْفَقَهُ الْعَامِلُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الضَّالَّةِ مَثَلًا مِنْ أُجْرَةِ مَرْكَبٍ أَوْ دَابَّةٍ اضْطُرَّ لَهَا، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ إِلاَّ تَحْصِيلَهَا وَرَدَّهَا لِمَالِكِهَا.
وَأَمَّا مَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا فَعَلَى الْمَالِكِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، يَرْجِعُ بِهِ الْعَامِلُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْعَامِلِ الْجُعْلُ الْمُسَمَّى أَمْ جُعْلُ الْمِثْلِ أَمْ نَفَقَةُ التَّحْصِيلِ وَالْبَحْثِ، وَأَمَّا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُنْفِقَهُ الْعَامِلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَضَرِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ.وَمَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ هُوَ الرَّاجِحُ.
29- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَالُ يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ لِصِيَانَتِهِ وَبَقَائِهِ وَرَدِّهِ فَنَفَقَتُهُ- مِنْ حِينِ وَضْعِ يَدِ الْعَامِلِ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ- عَلَى مَالِكِهِ لَا عَلَى الْعَامِلِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ بِدُونِ إِذْنِ الْمَالِكِ، أَوِ الْقَاضِي، أَوْ بِدُونِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا، بِأَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَا يُوجَدُ فِيهِ قَاضٍ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْإِشْهَادِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِإِنْفَاقِهِ هَذَا، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ وَلَوْ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ تَحَقَّقَ مِنَ الْعَامِلِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِكِ وَيُقْضَى لَهُ بِهَا.
وَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْعَامِلِ رَدُّ الضَّالَّةِ أَوِ الْآبِقِ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ.
وَبِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِكِ أَيْضًا قَالَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ إِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ يَأْخُذَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الْإِنْقَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ جُعْلًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَالُ بِيَدِ الْعَامِلِ وَسَلَّمَهُ لِلْمَالِكِ أَمْ لَا، حَتَّى لَوْ هَرَبَتِ الضَّالَّةُ مَثَلًا مِنْهُ، أَوْ مَاتَتْ فِي الطَّرِيقِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا قَبْلَ هَرَبِهَا أَوْ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَحَثًّا عَلَى صِيَانَةِ الضَّالَّةِ لِمَالِكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَنْفَقَ الْعَامِلُ عَلَى الضَّالَّةِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَنْوِ الْعَامِلُ التَّبَرُّعَ بِالنَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانَ نَاوِيًا التَّبَرُّعَ بِهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ اسْتِخْدَامُ الضَّالَّةِ أَوِ الْآبِقِ بِنَفَقَتِهِ كَالْمَرْهُونِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
185-موسوعة الفقه الكويتية (رغائب)
رَغَائِبُالتَّعْرِيفُ:
1- الرَّغَائِبُ جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ لُغَةً الْعَطَاءُ الْكَثِيرُ، أَوْ مَا حُضَّ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ.
وَالرَّغِيبَةُ اصْطِلَاحًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ هِيَ: مَا رَغَّبَ فِيهِ الشَّارِعُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فِي جَمَاعَةٍ.وَقَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: صَارَتِ الرَّغِيبَةُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الرَّغِيبَةُ هِيَ مَا دَاوَمَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى فِعْلِهِ بِصِفَةِ النَّوَافِلِ، أَوْ رَغَّبَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، قَالَ الْحَطَّابُ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَعْلَى الْمَنْدُوبَاتِ يُسَمَّى سُنَّةً وَسَمَّى ابْنُ رُشْدٍ النَّوْعَ الثَّانِيَ رَغَائِبَ، وَسَمَّاهُ الْمَازِرِيُّ فَضَائِلَ، وَسَمَّوُا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ نَوَافِلَ.
وَالرَّغَائِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: صَلَاةٌ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ تُفْعَلُ أَوَّلَ رَجَبٍ أَوْ فِي مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، أَوْ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الرَّكَعَاتِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَاتَانِ الصَّلَاتَانِ بِدْعَتَانِ مَذْمُومَتَانِ مُنْكَرَتَانِ قَبِيحَتَانِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِذِكْرِهِمَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ وَالْإِحْيَاءِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى شَرْعِيَّتِهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ» فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِصَلَاةٍ لَا تُخَالِفُ الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: قَدْ حَكَمَ الْأَئِمَّةُ عَلَيْهَا بِالْوَضْعِ قَالَ فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ: حَدِيثُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مَوْضُوعٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَحَدِيثُ أَنَسٍ مَوْضُوعٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْحَاقَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ يُقَلِّبُ الْأَخْبَارَ وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ الْقَاضِي أَكْذَبُ النَّاسِ ذَكَرَهُ فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَذِبٌ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى بِدْعِيَّتِهِمَا وَكَرَاهِيَتِهِمَا عِدَّةَ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ، فَلَوْ كَانَتَا مَشْرُوعَتَيْنِ لَمَا فَاتَتَا السَّلَفَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ، قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ أَخْبَرَنِي الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَطُّ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ فِي رَجَبٍ وَلَا صَلَاةُ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَحَدَثَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ نَابُلُسَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْحَيِّ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ فَقَامَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ فَمَا خَتَمَ إِلاَّ وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْتَشَرَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.أ.ه.
(ر: بِدْعَة ف 23) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (صَلَاةُ الرَّغَائِبِ).
الرَّغِيبَةُ بِمَعْنَى سُنَّةِ الْفَجْرِ:
3- الرَّغِيبَةُ تَدُلُّ عَلَى سُنَّةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي اصْطِلَاحِ الْمَالِكِيَّةِ، وَرُتْبَتُهَا عِنْدَهُمْ أَعْلَى مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَدُونَ السُّنَنِ، وَالْمَنْدُوبَاتُ عِنْدَهُمْ كَالنَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي تُصَلَّى مَعَ الْفَرَائِضِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَالسُّنَنُ عِنْدَهُمْ نَحْوُ الْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ.
وَعِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَضَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ مِنْ أَقْوَى السُّنَنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُمَا مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ: (صَلَاةُ الْفَجْرِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
186-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 4)
ضَمَانٌ -4الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: «الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ».
74- الْأَمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِلُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:
بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ.وَأَنْ لَا يَكُونَ الْآمِرُ ذَا وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.
فَلَوْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: «جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ».
75- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، لِأَنَّهَا لَا تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ، وَلَا يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: «الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ».
76- يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْلِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلْآخَرِينَ، لَا يُضْمَنُ الضَّرَرُ.فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا.وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:
1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَيَضْمَنُ- مَثَلًا- رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ.
2- أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلَافُ الْآخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا.
فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لِأَجْلِهَا جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ.
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»
77- الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ.كَسُكْنَى الدَّارِ، وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.
وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ خَسَارَةِ هَلَاكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ».
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ».
78- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: 1- نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.
2- وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.
3- وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهَا تَوْثِيقٌ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: «لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ».
79- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».
فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَالِ الْآخَرِينَ بِالْبَاطِلِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.
أَحْكَامُ الضَّمَانِ:
أَحْكَامُ الضَّمَانِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ.
1- ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ).
2- ضَمَانُ الْعُقُودِ.
3- ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ، كَالْإِتْلَافَاتِ، وَالْغُصُوبِ.
وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْلَ عَلَى ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ.
ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ)
80- ضَمَانُ الدِّمَاءِ أَوِ الْأَنْفُسِ هُوَ: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَشْمَلُ الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا يَشْمَلُ التَّعْزِيرُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ.
وَيُقَسَّمُ الضَّمَانُ- بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ- إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
1- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
2- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ.
3- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهِيَ: الْإِجْهَاضُ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
يَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا:
الْقَتْلُ الْعَمْدُ:
81- الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، فَضَمَانُهُ بِالْقِصَاصِ.
(ر: مُصْطَلَح: قَتْل، قِصَاص).
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَآخَرُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا.
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، أَوْ تَعَذَّرَ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ أَوْ بِمَا صُولِحَ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَح: دِيَات).
وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ حِينَئِذٍ التَّعْزِيرَ، كَمَا يُوجِبُونَ فِي الْقَتْلِ غِيلَةً- الْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَادِعَةِ وَالْحِيلَةِ- قَتْلَ الْقَاتِلِ تَعْزِيرًا، إِنْ عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
كَمَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ وَوَصِيَّتِهِ.
الْقَتْلُ الشَّبِيهُ بِالْعَمْدِ:
82- هُوَ: الْقَتْلُ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَبِالْمُثْقَلَاتِ كَذَلِكَ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْحَدِيدِ وَالْمَعْدِنِ- وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ هَذَا مِنَ الْعَمْدِ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا».
الْقَتْلُ الْخَطَأُ:
83- وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا بِالنَّصِّ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَهَذَا لِعُمُومِ النَّصِّ.
وَالضَّمَانُ كَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ الشَّبِيهِ بِالْخَطَأِ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَمَثَّلُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلُهُ، أَوِ انْقِلَابِ الْأُمِّ عَلَى رَضِيعِهَا فَيَمُوتُ بِذَلِكَ.
الْقَتْلُ بِسَبَبٍ:
84- قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَتَمَثَّلُ بِمَا لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ فَقَطْ، عِنْدَهُمْ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا حِرْمَانَ، لِانْعِدَامِ الْقَتْلِ فِيهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا الدِّيَةَ صَوْنًا لِلدِّمَاءِ عَنِ الْهَدَرِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يُلْحِقُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، دِيَةً، وَكَفَّارَةً، وَحِرْمَانًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.
(وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَح: قَتْل وَدِيَات وَجِنَايَة).
ثَانِيًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
وَتَتَحَقَّقُ فِي الْأَطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الشِّجَاجِ.
85- أ- أَمَّا الْأَطْرَافُ:
فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}.
وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالْأَرْشِ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَالِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).
86- ب- وَأَمَّا الْجِرَاحُ
فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً، أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ الْمَوْتِ.
وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:
فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ».
وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الْأَدْوِيَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ).
87- ج- وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا: فَفِيهِ الْأَرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ.وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ».فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَلُ بِهِ.
لِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ).
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
88- وَهِيَ الْإِجْهَاضُ، فَإِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بِشُرُوطِهِ، فَضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ اتِّفَاقًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ».
وَتَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي مَالِ الْعَاقِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الْجَانِي.
وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْدَبُ، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْجَنِينَ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الرَّقَبَةُ، انْتَقَلَتِ الْعُقُوبَةُ إِلَى بَدَلِهَا مَالًا، وَهُوَ: نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَعُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ.
(ر: جَنِين، غُرَّة).
ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
89- تَتَمَثَّلُ الْأَفْعَالُ الضَّارَّةُ بِالْأَمْوَالِ فِي الْإِتْلَافَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْغُصُوبِ، وَنَحْوِهَا.
وَلِضَمَانِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، أَحْكَامٌ عَامَّةٌ، وَأَحْكَامٌ خَاصَّةٌ: أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
90- تَقُومُ فِكْرَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الضَّمَانِ- خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَنْفُسِ- عَلَى مَبْدَأِ جَبْرِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ الْحَائِقِ بِالْآخَرِينَ، أَمَّا فِي تِلْكَ فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَبْدَأِ زَجْرِ الْجُنَاةِ، وَرَدْعِ غَيْرِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالضَّمَانِ عَنْ جَبْرِ الضَّرَرِ وَإِزَالَتِهِ، هُوَ التَّعْبِيرُ الشَّائِعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّعْوِيضِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ، حَتَّى أَفْرَدَهُ الْبَغْدَادِيُّ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابِهِ: (مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ).
وَمِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الضَّمَانِ قَاعِدَةُ: «الضَّرَرُ يُزَالُ».وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى الْأَمْوَالِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّعْوِيضِ الَّذِي يُجْبَرُ فِيهِ الضَّرَرُ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّمَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّهُ: رَدُّ مِثْلِ الْهَالِكِ أَوْ قِيمَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ.
وَكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ يَسْتَهْدِفُ إِزَالَةَ الضَّرَرِ، وَإِصْلَاحَ الْخَلَلِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمَضْرُورِ، وَإِعَادَةَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الضَّرَرِ.
طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ:
91- الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِيَّاتِ، هِيَ: مُرَاعَاةُ الْمِثْلِيَّةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الضَّرَرِ، وَبَيْنَ الْعِوَضِ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: «ضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ» يُشِيرُ إِلَى قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.
وَالْمِثْلُ وَإِنْ كَانَ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَرُدَّ الشَّيْءَ الْمَالِيَّ الْمُعْتَدَى فِيهِ نَفْسَهُ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، مَا دَامَ قَائِمًا مَوْجُودًا، لَمْ يَدْخُلْهُ عَيْبٌ يُنْقِصُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».
بَلْ هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْغَصْبِ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ صُوَرِ الضَّرَرِ وَأَهَمُّهَا.
فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، لِهَلَاكِهِ أَوِ اسْتِهْلَاكِهِ أَوْ فَقْدِهِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ رَدُّ مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا.
وَالْمِثْلِيُّ هُوَ: مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ نَظِيرٌ، بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَالْقِيمِيُّ هُوَ: مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ هُوَ مَا تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ، كَالْكُتُبِ الْمَخْطُوطَةِ، وَالثِّيَابِ الْمُفَصَّلَةِ الْمَخِيطَةِ لِأَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَالْمِثْلُ أَعْدَلُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ، فِي الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ الْمَالِيِّ.
وَقْتُ تَقْدِيرِ التَّضْمِينِ:
92- تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فِي الْمَغْصُوبِ- عَلَى التَّخْصِيصِ- إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَفُقِدَ مِنَ السُّوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُهُمْ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ مِنَ السُّوقِ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْغَصْبُ، كَمَا أَنَّ الْقِيمِيَّ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ، بَلْ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِالْقَضَاءِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَضَاءِ.
أَمَّا الْقِيمِيُّ إِذَا تَلِفَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقَارًا، أَمْ غَيْرَهُ، لَا يَوْمَ حُصُولِ الْمُفَوِّتِ، وَلَا يَوْمَ الرَّدِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِسَمَاوِيٍّ أَمْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ- فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ- كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ، فِي بَلَدِهِ وَحَوَالَيْهِ تُعْتَبَرُ أَقْصَى قِيمَةٍ، مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى تَعَذُّرِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى التَّلَفِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى الْمُطَالَبَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ مَفْقُودًا عِنْدَ التَّلَفِ، فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، لَا إِلَى وَقْتِ الْفَقْدِ.وَأَمَّا الْمُتَقَوِّمُ فَيُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ.
وَأَمَّا الْإِتْلَافُ بِلَا غَصْبٍ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَالْمَفَازَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، يَوْمَ تَلَفِهِ فِي بَلَدِ غَصْبِهِ مِنْ نَقْدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَمَنُ الضَّمَانِ وَمَوْضِعُ الضَّمَانِ وَمُنْصَرَفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (كَالدِّينَارِ) كَمَا يَقُولُ الْبُهُوتِيُّ إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ التَّالِفِ، مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ.
فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِمَعْنًى فِي التَّالِفِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ- وَنَحْوِهَا- مِمَّا يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ وَيَنْقُصُ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ رَدُّ أَكْثَرِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ لِمَالِكِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، إِلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ.
تَقَادُمُ الْحَقِّ فِي التَّضْمِينِ:
93- التَّقَادُمُ- أَوْ مُرُورُ الزَّمَانِ- هُوَ: مُضِيُّ زَمَنٍ طَوِيلٍ، عَلَى حَقٍّ أَوْ عَيْنٍ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، لِغَيْرِهِ دُونَ مُطَالَبَةٍ بِهِمَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.
وَالشَّرِيعَةُ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- اعْتَبَرَتِ التَّقَادُمَ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فِي الْمِلْكِ وَفِي الْحَقِّ، مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ مَكْسَبًا لِمِلْكِيَّةٍ أَوْ قَاطِعًا لِحَقٍّ.
فَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْأَشْبَاهِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ.
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَالُ: إِذَا لَمْ يَرْفَعْ الشَّخْصُ الْمَضْرُورُ دَعْوَى، يُطَالِبُ فِيهَا بِالضَّمَانِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، مِمَّنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، سَقَطَ حَقُّهُ، قَضَاءً فَقَطْ لَا دِيَانَةً، فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى مِنْ جَدِيدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْرُورُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاكِمًا جَائِرًا، أَوْ كَانَ ثَابِتَ الْإِعْسَارِ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَيْسَر بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حَقُّهُ فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى قَائِمًا، مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، الَّذِي يَنْفِي شُبْهَةَ التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْعَادِلُ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ سَمِعَهَا بِنَفْسِهِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ- حِفْظًا لِحَقِّ الْمَضْرُورِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ بِحَقِّ الْمَضْرُورِ فِي الضَّمَانِ، وَالتَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَلَاشَى بِذَلِكَ مُضِيُّ الزَّمَنِ وَيَسْقُطُ لِظُهُورِ الْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
ثَانِيًا: الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
94- قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الضَّمَانِ، هِيَ رَدُّ الْعَيْنِ أَصْلًا، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ الضَّمَانُ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيمِيَّاتِ.
وَنَذْكُرُ- هُنَا- التَّضْمِينَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنَ الْأَصْلِ، إِذْ يُحْكَمُ فِيهَا بِالتَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ أَحْيَانًا، وَبِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمِثْلِ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، وَهِيَ: قَطْعُ الشَّجَرِ، وَهَدْمُ الْمَبَانِي، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا، وَقَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا كَمَا يَلِي: أ- قَطْعُ الشَّجَرِ:
95- لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ لآِخَرَ، شَجَرَ حَدِيقَتِهِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ: أَنْ تُقَوَّمُ الْحَدِيقَةُ مَعَ الشَّجَرِ الْقَائِمِ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِهِ فَالْفَضْلُ هُوَ قِيمَتُهُ، فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعَ لَهُ الْأَشْجَارَ الْمَقْطُوعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيُضَمِّنَهُ نُقْصَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَشْجَارِ مَقْطُوعَةً وَغَيْرَ مَقْطُوعَةٍ سَوَاءً، بَرِئَ.
وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً مِنْ ضَيْعَةٍ، وَلَمْ يَتْلَفْ بِهِ شَيْءٌ، قِيلَ: تَجِبُ قِيمَةُ الشَّجَرَةِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقِيلَ تَجِبُ قِيمَتُهَا نَابِتَةً وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً، قُوِّمَتْ مَغْرُوسَةً وَقُوِّمَتْ مَقْطُوعَةً، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ أَتْلَفَ ثِمَارَهَا، أَوْ نَفَضَهَا لَمَّا نَوَّرَتْ، حَتَّى تَنَاثَرَ نَوْرُهَا، قُوِّمَتِ الشَّجَرَةُ مَعَ ذَلِكَ، وَقُوِّمَتْ بِدُونِهَا فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الزَّرْعُ.
ب- هَدْمُ الْمَبَانِي:
96- إِذَا هَدَمَ إِنْسَانٌ بِنَاءً أَوْ جِدَارًا لِغَيْرِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءُ مِثْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ لِحَدِيثِ: أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى.فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا.فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ.فَأَتَوْهُ كَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي.قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، إِلاَّ مِنْ طِينٍ».
وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْحَائِطَ وَالْبِنَاءَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ، فَتُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَدْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، تُقَوَّمُ دَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا، وَتُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا مُتَّخَذًا مِنْ رَهْصٍ (طِينٍ) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نُقْصَانَهَا (أَيْ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً) وَلَا يُؤْمَرُ بِعِمَارَتِهَا، إِلاَّ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي كَرَاهَةِ الْخَانِيَّةِ.
لَكِنَّ الْمَذْهَبَ، مَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِهِ لِلنُّقَايَةِ: وَإِذَا هَدَمَ الرَّجُلُ حَائِطَ جَارِهِ فَلِلْجَارِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَالنَّقْضُ لِلضَّامِنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْقِيَامِ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا كَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
وَطَرِيقُ تَقْوِيمِ النُّقْصَانِ: أَنْ تُقَوَّمَ الدَّارُ مَعَ حِيطَانِهَا، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ هَذَا الْحَائِطِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَالضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَدْمُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْعِ سَرَيَانِ الْحَرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، ضَمِنَ الْهَادِمُ قِيمَتَهَا مُعَرَّضَةً لِلْحَرِيقِ.
ج- الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا:
97- إِذَا غَرَسَ شَخْصٌ شَجَرًا، أَوْ أَقَامَ بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ غَصَبَهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ الشَّجَرِ، وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَتَفْرِيغِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ مَا أَنْشَأَ فِيهَا، وَإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ»، قَالَ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عَمٌّ» أَيْ طَوِيلَةٌ.
وَلِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، دَفْعًا لِلظُّلْمِ، وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ كَانَ، وَتَسْوِيَتُهَا، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُمَا قَهْرًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ الْمَالِكِ لَوْ طَلَبَ الْإِبْقَاءَ بِالْأَجْرِ، أَوِ التَّمَلُّكَ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُمَا جَبْرًا عَلَى الْغَاصِبِ، بِلَا أَرْشٍ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمَا عَلَيْهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ خَيَّرُوا الْمَالِكَ بَيْنَ قَلْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمَا، عَلَى أَنْ يُعْطَى الْمَالِكُ الْغَاصِبُ، قِيمَةَ أَنْقَاضِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، مَقْلُوعًا، بَعْدَ طَرْحِ أُجْرَةِ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا قَلْعَ الزَّرْعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ، أَيْ لَمْ يَمْضِ وَقْتٌ مَا تُرَادُ الْأَرْضُ لَهُ فَلَهُ عِنْدَئِذٍ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا مَطْرُوحًا مِنْهُ أُجْرَةُ الْقَلْعِ.فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ، وَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ إِلَى انْتِهَائِهِ.
وَنَصَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَنَفِيَّةُ.
(ر: غَرْس- غَصْب).
د- قَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ:
98- الْحَيَوَانُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُطَبَّقَ فِي إِتْلَافِهِ- كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا- الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمْعِ تَضْمِينُ رُبُعِ قِيمَتِهِ، بِقَلْعِ عَيْنِهِ:
فَفِي الْحَدِيثِ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبُعَ ثَمَنِهَا»
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ- رضي الله عنهما- وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: إِنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الْآدَمِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبُعُ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إِجْمَاعٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَهَذَا مِمَّا جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ- يَعْدِلُونَ عَنِ الْقِيَاسِ، بِالنَّظَرِ إِلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ فَقَطْ.
فَعَمِلُوا بِالْحَدِيثِ، وَتَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ، لَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يُقْصَدُ لِلَّحْمِ، كَمَا يُقْصَدُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالزِّينَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي عَيْنِ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ.
أَمَّا غَيْرُهُ، كَشَاةِ الْقَصَّابِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ فَقَطْ، فَيُعْتَبَرُ مَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ.
وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقِيَاسَ، فَضَمَّنُوا مَا يَتْلَفُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ، بِفَقْدِ عَيْنِهِ وَغَيْرِهَا، بَالِغًا مَا بَلَغَ النَّقْصُ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَ مِنْ أَجْزَائِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَجِبُ فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ إِلاَّ أَرْشُ النَّقْصِ.
وَعَلَّلَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ، بِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ، كَالثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ.
ضَمَانُ الشَّخْصِ الضَّرَرَ النَّاشِئَ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهِ:
99- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّخْصَ مَسْئُولٌ عَنْ ضَمَانِ الضَّرَرِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ لَا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ضَمَانَ أَفْعَالِ الْقُصَّرِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ، وَضَمَانَ أَفْعَالِ تَابِعِيهِ: كَالْخَدَمِ وَالْعُمَّالِ وَكَالْمُوَظِّفِينَ، وَضَمَانَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيَوَانُ، وَضَمَانَ الضَّرَرِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ، وَضَمَانَ التَّلَفِ الْحَادِثِ بِالْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِ الْأَشْخَاصِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ:
100- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الضَّمَانِ، فِي الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، الصَّادِرَةِ مِنَ الصِّغَارِ الْقُصَّرِ، الَّذِينَ هُمْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَالتَّلَامِيذِ حِينَمَا يَكُونُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ، تَحْتَ رَقَابَةِ النَّاظِرِ وَالْمُعَلِّمِ، أَوْ فِي رِعَايَةِ أَيِّ رَقِيبٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَمِثْلُهُمْ الْمَجَانِينُ وَالْمَعَاتِيهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، هُوَ ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِهِ كُلِّهَا، دُونَ تَحَمُّلِ غَيْرِهِ عَنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ تَبَعَاتِهَا، مَهْمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ.
فَقَدْ طَرَدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةَ تَضْمِينِ الصِّغَارِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمُ الضَّمَانَ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَالْأَوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُسْتَثْنَاةٍ، مِنْهَا:
أ- إِذَا كَانَ إِتْلَافُ الصِّغَارِ لِلْمَالِ، نَاشِئًا مِنْ تَقْصِيرِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ، فِي حِفْظِهِمْ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَوَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ عَثَرَ بِهِ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ.
ب- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ إِغْرَاءِ الْآبَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ الصِّغَارِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ الْأَبُ ابْنَهُ بِإِتْلَافِ مَالٍ أَوْ إِيقَادِ نَارٍ، فَأَوْقَدَهَا، وَتَعَدَّتْ النَّارُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، يَضْمَنُ الْأَبُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ صَحَّ، فَانْتَقَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ.
فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ صَبِيًّا بِإِتْلَافِ مَالِ آخَرَ، ضَمِنَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى آمِرِهِ.
ج- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً بِلَا إِذْنِ وَلِيِّهِ فَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ، وَمَا اقْتَرَضَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلَا إِذْنٍ، لِلتَّسْلِيطِ مِنْ مَالِكِهَا.
ثَانِيًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ لِأَفْعَالِ التَّابِعِينَ لَهُ:
101- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا فِي الْخَادِمِ فِي الْمَنْزِلِ، وَالطَّاهِي فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمُسْتَخْدَمِ فِي الْمَحَلِّ، وَالْعَامِلِ فِي الْمَصْنَعِ، وَالْمُوَظَّفِ فِي الْحُكُومَةِ، وَفِي سَائِقِ السَّيَّارَةِ لِمَالِكِهَا كُلٌّ فِي دَائِرَةِ عَمَلِهِ.
وَالْعَلَاقَةُ هُنَا عَقَدِيَّةٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّقَابَةِ عَلَى عَدِيمِي التَّمْيِيزِ: هِيَ: دِينِيَّةٌ أَوْ أَدَبِيَّةٌ.
وَالْفُقَهَاءُ بَحَثُوا هَذَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، فِي أَحْكَامِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَفِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ عَمَلًا مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ.
وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَتُهُ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، صَحَّ، وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَإِنَّمَا الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَخْدُومِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِجَارَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
187-موسوعة الفقه الكويتية (قبض 3)
قَبْضٌ -3الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي صِحَّتِهَا:
(أَوَّلًا) الصَّرْفُ:
39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ التَّقَابُضُ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
وَبِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ أَيِ الرِّبَا.
لِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُتَصَارِفَيْنِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَأَرَادَا الِافْتِرَاقَ، لَزِمَهُمَا دِيَانَةً أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَيْ لَا يَأْثَمَا بِتَأْخِيرِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا تَلْزَمُهُمَا شُرُوطُهُ.
لَكِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ- هُوَ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِصِحَّةِ الصَّرْفِ- مَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ غَلَبَةً، أَيْ بِمَا يُغْلَبَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، كَنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنَ الصَّرَّافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ بِحَيْلُولَةِ سَيْلٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَدُوٍّ قَبْلَ التَّقَابُضِ وَقَالُوا بِعَدَمِ بُطْلَانِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
(ثَانِيًا) بَيْعُ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا:
40- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا الْحُلُولُ وَانْتِفَاءُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا إذَا بِيعَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَكَانَ الْمَالَانِ الرِّبَوِيَّانِ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالْآخَرُ مُثَمَّنًا، كَبَيْعِ الْمَوْزُونَاتِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ هَذَا عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ وَانْتِفَاءِ النَّسِيئَةِ، اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّسِيئَةِ ثَبَتَ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا، وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ مُتَلَازِمَانِ، إذْ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّارِعُ انْتِفَاءَ الْأَجَلِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَيَكُونُ تَأْجِيلُ التَّقَابُضِ فِي بَعْضِهَا جَائِزًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «يَدًا بِيَدٍ وَهَاءَ وَهَاءَ» فِي شَأْنِ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ السِّتَّةِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِيهَا جَمِيعًا.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ إلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ- كَبَيْعِ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حِنْطَةٍ- فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ التَّعْيِينُ دُونَ التَّقَابُضِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَتَمَكَّنُ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّعَيُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَدَلِ فِي الصَّرْفِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إذِ الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، حَيْثُ إنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا بِمِثْلِهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا.
(ثَالِثًا) السَّلَمُ:
41- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ أَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ»، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ.
(ر: سَلَمٌ ف 16- 19).
(رَابِعًا) إجَارَةُ الذِّمَّةِ:
42- قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْإِجَارَةَ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا إلَى قِسْمَيْنِ: إجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.
أ- فَالْإِجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ: يَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ سَيَّارَةً مُعَيَّنَةً، أَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِجَارَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الْأُجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ لُزُومِهِ أَوِ انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا- إذِ الْإِجَارَةُ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مَعْلُومٍ- وَبَيْعُ الْعَيْنِ يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ.
ب- أَمَّا الْإِجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ: فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْلِ بِأَنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِنَاءَ جِدَارٍ صِفَتُهُ كَذَا، فَقَبِلَ الْمُؤَجَّرُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ فِيهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الْأَوَّلُ): لِلْحَنَفِيَّةِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَلَا يُمْلَكُ، فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِهِ، بَلْ بِتَعْجِيلِهِ أَوْ شَرْطِهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمُنَجَّزَةِ أَوِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْأَجْرِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يُمْلَكُ الْأَجْرُ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلْمُبْدَلِ، وَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا حَالًا لَا يَلْزَمُ بَدَلُهَا حَالًا، إلاَّ إذَا شَرَطَهُ وَلَوْ حُكْمًا، بِأَنْ عَجَّلَهُ لِأَنَّهُ صَارَ مُلْتَزِمًا لَهُ بِنَفْسِهِ وَأَبْطَلَ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ.
(وَالثَّانِي): لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ، لِاسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ تَعْمِيرَ الذِّمَّتَيْنِ وَبَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلاَّ إذَا شَرَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطِ أَنْ تَحْمِلَهُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ تَأْخِيرُ الْأُجْرَةِ، لِانْتِفَاءِ بَيْعِ الْمُؤَخَّرِ بِالْمُؤَخَّرِ، حَيْثُ إنَّ قَبْضَ أَوَائِلِ الْمَنْفَعَةِ كَقَبْضِ أَوَاخِرِهَا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي حُكْمِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ تَأْخِيرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَقْدِهَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ.
(وَالثَّالِثُ): لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ قَبْضُ الْمُؤَجِّرِ الْأُجْرَةَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، كَمَا اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّ إجَارَةَ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَكَانَتْ كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ.
(وَالرَّابِعُ): لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إذَا جَرَتْ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» أَوْ «سَلَفٍ»- كَأَسْلَمْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي مَنْفَعَةِ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَكَانِ كَذَا، أَوْ فِي مَنْفَعَةِ آدَمِيٍّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا لِبِنَاءِ حَائِطٍ صِفَتُهُ كَذَا مَثَلًا- وَقَبِلَ الْمُؤَجِّرُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَئِذٍ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهَا بِذَلِكَ تَكُونُ سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَضْ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ لآَلَ الْأَمْرُ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَجْرِ إجَارَةُ الذِّمَّةِ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» وَلَا «سَلَفٍ»، فَلَا يُشْتَرَطُ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ سَلَمًا، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا شَرْطُهُ. (خَامِسًا) الْمُضَارَبَةُ:
43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ، لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْعَمَلُ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلاَّ بَعْدَ خُرُوجِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِلَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بِيَدِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِلُ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْضُ الْعَامِلِ لِرَأْسِ الْمَالِ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِيَدِ رَبِّهِ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْعَمَلُ. سَادِسًا) الْمُزَارَعَةُ:
44- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ إلَى الْعَامِلِ مُخْلَاةً، أَيْ أَنْ تُوجَدَ التَّخْلِيَةُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، حَتَّى لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا مَعًا، فَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ).
(سَابِعًا) الْمُسَاقَاةُ:
45- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ تَسْلِيمُ الْأَشْجَارِ إلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ شُرِطَ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتُهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُولِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاةٌ)
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا:
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
(أَوَّلًا) الْهِبَةُ:
46- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِلُزُومِ الْهِبَةِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ، وَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ الرُّجُوعُ فِيهَا، فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَزِمَتْ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لِسَائِرِ الْأُصُولِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِقْبَاضِ أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
وَاسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «قَالَ لأُِمِّ سَلَمَةَ: إنِّي أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ» وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي..وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الصَّدَقَةِ الْإِمْضَاءَ، وَالْإِمْضَاءُ هُوَ الْإِقْبَاضُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ إلاَّ إذَا كَانَتْ لأُِصُولِ الْوَاهِبِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ لِأَخِيهِ أَوْ لأُِخْتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِمَا أَوْ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ فِي غَيْرِ الْحَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِرِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لِلْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْهِبَةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لَكِنَّهَا لَا تَتِمُّ وَلَا تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى إقْبَاضِهَا مَا دَامَ الْعَاقِدَانِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِيرَاثًا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا تَبْطُلُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاهِبِ بِهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لِمُوَرِّثِهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ.
(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:
47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْوَقْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ- إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، بَلْ يَلْزَمُ وَيَتِمُّ بِدُونِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّلَ ثَمَرَةَ أَرْضِهِ وَيَحْبِسَ أَصْلَهَا» وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِحَبْسِ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقْبِضَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لأَمَرَهُ بِهِ وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنهم- أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ- رضي الله عنها-، وَوَلِيَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ وَبِقِيَاسِ الْوَقْفِ عَلَى الْعِتْقِ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارَهُ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَهَا، وَلَا يَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَابِضَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوَقْفِ، فَيَكُونُ قَبْضُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
(وَالثَّانِي) لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ إلاَّ بِقَبْضِهِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيهَا فَمَا فَوْقَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَصَدُّقٌ بِالْمَنَافِعِ، وَالْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ لَا تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ لِلُزُومِهِ.
(وَالثَّالِثُ) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنَ النَّاسِ.
(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:
48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْقَرْضِ أَوْ لُزُومِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُقْتَرِضُ، بَلْ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ.
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.
وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ.
(رَابِعًا) الرَّهْنُ:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حَيْثُ إنَّ الْمَصْدَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ شَرْطًا فِيهِ، إذِ الْمَشْرُوعُ بِصِفَةٍ لَا يُوجَدُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ إذْ لَا يَسْتَوْجِبُ الرَّاهِنُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِمْضَاءِ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ، وَالْإِمْضَاءُ يَكُونُ بِالْقَبْضِ.
وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ الرِّهَانَ بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا، وَلَوْ لَزِمَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَا يَتِمُّ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِقْبَاضِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: أَمَّا لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ، فَلِأَنَّ قوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إلْزَامُ الرَّاهِنِ بِالْإِقْبَاضِ، فَلِأَنَّ قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} دَلِيلٌ عَلَى إلْزَامِ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ لِلْمُرْتَهِنِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الرَّهْنِ وَلَا شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَلَا لُزُومِهِ بَلْ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: لَا يَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالْأُخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ.
اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ:
50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَلَوِ اسْتَرْجَعَهُ الرَّاهِنُ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ صَحَّ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطِ اسْتِدَامَتُهُ كَالْهِبَةِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِهِ
مَتَى شَاءَ وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ).
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ كِرَاءٍ بَطَلَ الرَّهْنُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمَرْهُونِ فِي الِابْتِدَاءِ هُوَ أَنْ تَحْصُلَ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ، فَكَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطًا فِيهِ.
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَاخَى الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَإِبَاقِ الْعَبْدِ وَضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلُزُومُ الْعَقْدِ بَاقٍ، لِأَنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُمْ فِي يَدِهِ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ بَقَاءُ اللُّزُومِ مَنُوطًا بِدَوَامِ الْقَبْضِ.
آثَارُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ:
51- أَهَمُّ آثَارِ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ هُوَ انْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ إلَى الْقَابِضِ، وَتَسَلُّطُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَوُجُوبُ بَذْلِ عِوَضِهِ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
الْأَثَرُ الْأَوَّلُ: انْتِقَالُ الضَّمَانِ إلَى الْقَابِضِ:
52- الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَى الْقَابِضِ: هُوَ تَحَمُّلُهُ لِتَبَعَةِ الْهَلَاكِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ التَّعْيِيبِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي أَحَدِ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَهِيَ هُنَا: الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ فِيمَا يَخُصُّ الصَّدَاقَ.
أَوَّلًا- ضَمَانُ الْمَبِيعِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ:
53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَلْ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، بِحَيْثُ لَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، أَمْ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إلْزَامَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلَا يَتَهَيَّأُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِالتَّسْلِيمِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِ لَهُ ضَرُورَةً.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ، بِحَيْثُ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلَاتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ فِي حَالَةِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلًا، فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْدَهُ، وَالْهَلَاكُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ ف 31 وَمَا بَعْدَهَا).
(ثَانِيًا) ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ:
أ- الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الْأَعْيَانِ:
54- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَكَذَا مَنَافِعُهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا تَكُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ ضَمَانَ الْعَيْنِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَبَضَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا، كَمَا إذَا قَبَضَ النَّخْلَةَ الَّتِي اشْتَرَى ثَمَرَتَهَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
ب- الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الْأَعْمَالِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَجِيرَ فِي الْإِجَارَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعَمَلِ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ
ضَمَانُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ:
55- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَا يَضْمَنُ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُؤَجِّرِ، بَلْ يَكُونُ مَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لَا يَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ إلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إلَى مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ.
ضَمَانُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ:
56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ضَامِنًا لِمَا يَكُونُ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا تَلِفَ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، بِحَيْثُ إذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا أَمْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قَاصِدًا أَمْ مُخْطِئًا.
أَمَّا مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَلَا يَضْمَنُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٌ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَذَهَبَا إلَى تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا، إلاَّ إذَا وَقَعَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهَا يَدُ أَمَانَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا فَسَدَ النَّاسُ وَظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْأُجَرَاءِ ضَمِنَ الصُّنَّاعُ وَكُلُّ مَنْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَضْمِينَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ الْمُشْتَرَكِينَ حَيْثُ تَقُومُ بِهِ التُّهْمَةُ.
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَهُوَ أَنَّ يَدَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ يَدُ أَمَانَةٍ.
وَالرَّابِعُ: قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْيَدِ، ضَمِنَ هَلَاكَهَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ النَّاسِ وَخِيَانَةِ الْأُجَرَاءِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنِ الْأَجِيرُ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ، لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إلَيْهِ حَقِيقَةً. وَالتَّفْصِيلُ فِي (إجَارَةٌ ف 103 وَمَا بَعْدَهَا، ف 133، ف 134) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 60- 61).
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْعَارِيَّةُ:
57- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مَالِكِهَا مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ هَلَكَتْ كَانَ هَلَاكُهَا مِنْ مَالِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ، فَفِي انْتِقَالِ ضَمَانِهَا إلَيْهِ بِالْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 12) وَمُصْطَلَحِ (إعَارَةٌ ف 15).
رَابِعًا: ضَمَانُ الْمَرْهُونِ:
58- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرْهُونَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَفِي انْتِقَالِ ضَمَانِهِ إلَيْهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف 8، 18) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 62 وَمَا بَعْدَهَا).
خَامِسًا: ضَمَانُ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ:
59- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ قَبْضِ الزَّوْجَةِ لِمَهْرِهَا بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَاقِلًا لِضَمَانِهِ مِنَ الزَّوْجِ إلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ كَالْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالْمَاشِيَةِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِذَاتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ مِنَ الزَّوْجِ وَبَعْدَهُ، فَلَوْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، كَانَ هَلَاكُهُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْقَبْضِ أَيُّ أَثَرٍ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ، وَقَدْ مَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَيْهَا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 147) وَمُصْطَلَحِ (مَهْرٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
188-موسوعة الفقه الكويتية (كتاب 2)
كِتَابٌ -2النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يُشْبِهُهَا:
20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلْسِيِّ: نُهِينَا عَنِ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَيْنَا الْكُفَّارُ أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَضِبَ، وَظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «لَمَّا رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ غَضِبَ وَقَالَ: أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً».
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ نَصَّ الْحَدِيثِ قَالَ «نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتْبَعَنِي».
وَقَدْ أَهْدَى رَجُلٌ إِلَى السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- هَدِيَّةً فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِي هَدِيَّتِهِ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ الْأُوَلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ الزَّرْكَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اغْتَرَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَرَأَى جَوَازَ مُطَالَعَةِ التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيفَ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَالِاشْتِغَالُ بِنَظَرِهَا وَكِتَابَتِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ.إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً لِلْحَدِيثِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَيَصِيرُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّاسِخِ فَيَجُوزُ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ نَقْلُ الْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَإِلْزَامُهُمُ الْيَهُودَ بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِمَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلَوْلَا اعْتِقَادُهُمْ جَوَازَ النَّظَرِ فِيهِ لَمَا فَعَلُوهُ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ، وَغَضَبُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ يَغْضَبُ مِنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْ فِعْلِ مَا هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى إِذَا صَدَرَ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَغَضَبِهِ مِنْ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ يَغْضَبُ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي فَهْمِ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ مِثْلَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ لُقَطَةِ الْإِبِلِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا فِي الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا رِوَايَتُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ إِفْسَادِ الْعَقَائِدِ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: تَحْرُمُ قِرَاءَةُ كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالْمَغَازِي الْمَوْضُوعَةِ كَفُتُوحِ الشَّامِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِهِمُ الْمَنْسُوبَةِ لِلْوَاقِدِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا: ذَكَرَ الْإِمَامُ الشَّعْرَاوِيُّ فِي الْمُغْنِي مَا نَصُّهُ: وَيُحَذَّرُ مِنْ مُطَالَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ لِلْغَزَالِيِّ، وَمِنْ كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَمِنْ تَفْسِيرِ مَكِّيٍّ، وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ مَيْسَرَةَ الْحَنْبَلِيِّ، وَمِنْ كَلَامِ مُنْذَرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ، وَمِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ أَبِي حَيَّانَ، أَوْ كُتُبِ إِخْوَانِ الصَّفَا، أَوْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّامِ، أَوْ كِتَابِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِابْنِ قَسِيٍّ، أَوْ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ أَوْ كَلَامِ الْمُفِيدِ بْنِ رَشِيدِيٍّ، أَوْ كُتُبِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ، أَوْ تَائِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ وَفَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
بَيْعُ الْكُتُبِ:
21- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كُتُبِ الْأَدَبِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ غَيْرُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كُتُبِ الْعِلْمِ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ كُتُبِ الْفِقْهِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَدْ أَجَازَ غَيْرُ الْإِمَامِ مَالِكٍ بَيْعَ كُتُبِ الْفِقْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: بِيعَتْ كُتُبُ ابْنِ وَهْبٍ بِثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَصْحَابُنَا مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَكَانَ أَبِي وَصِيَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، بَلْ يَجِبُ إِتْلَافُهَا لِتَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَشِرَاءَهَا لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ يَأْخُذُونَ أُجُورَ أَيْدِيهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمَكْحُولٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بِبَيْعِ الْمَصَاحِفِ بَأْسًا، وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا فَقَالَا: لَا نَرَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُتَّجَرًا، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ.وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرَخَّصَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَعِكْرِمَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْجِلْدِ وَالْوَرَقِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَلَوْ فِي دَيْنٍ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا نَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ، وَفِي بَيْعِهِ ابْتِذَالٌ لَهُ وَتَرْكٌ لِتَعْظِيمِهِ.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ أَجَازُوا شِرَاءَ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ لَهُ كَشِرَاءِ الْأَسِيرِ، كَمَا أَجَازُوا شِرَاءَ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِإِتْلَافِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ وَتَعُودُ وَرَقًا مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْمُعَالَجَةِ.
22- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْكَافِرِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مُنِعَ بَيْعُ مُصْحَفٍ وَجُزْئِهِ وَكُتُبِ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ، وَعِلْمٍ شَرْعِيٍّ لِكَافِرٍ، وَيَشْمَلُ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ نَحْوَ النَّحْوِ مِنْ آلَاتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: يُمْنَعُ بَيْعُ كُتُبِ الْعِلْمِ لَهُمْ مُطْلَقًا وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ الَّذِي يَشْتَرِي مَا ذُكِرَ يُعَظِّمُهُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَمَلُّكِهِ لَهُ إِهَانَةٌ، وَيُمْنَعُ أَيْضًا، بَيْعُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مُبَدَّلَةٌ، فَفِيهِ إِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ.
وَيُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى إِخْرَاجِ مَا بِيعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ بِسَلَمٍ وَلَا بِهِبَةٍ وَلَا وَصِيَّةٍ، وَلَا كُتُبَ حَدِيثٍ وَلَا آثَارَ سَلَفٍ وَلَا كُتُبَ فِقْهٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِهَانَةِ لَهَا، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْمُرَادُ بِآثَارِ السَّلَفِ حِكَايَاتُ الصَّالِحِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، قَالَ السُّبْكِيُّ:
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: كُتُبُ عِلْمٍ وَإِنْ خَلَتْ عَنِ الْآثَارِ تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعْلِيلُهُ يُفِيدُ جَوَازَ تَمَلُّكِهِ كُتُبَ عُلُومٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ.
وَيَنْبَغِي مَنْعُهُ مِنْ تَمَلُّكِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالشَّرْعِ كَكُتُبِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، أَيْ بَلِ الظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُصْحَفًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً كَسَائِرِ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ.
رَهْنُ الْكُتُبِ:
23- رَهْنُ كُتُبِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ: يَصِحُّ الرَّهْنُ قَوْلًا وَاحِدًا وَيُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ رَهْنُ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ جَعْلِهَا بِيَدِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ لِأَمْنِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ.
24- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ، فَأَجَازَ رَهْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ.
إِحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيْعِهِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ رَهْنُهُ وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ: إِذَا رَهَنَ مُصْحَفًا لَا يَقْرَأُ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ رَهْنِهِ.
رَهْنُ الْكُتُبِ الْمَوْقُوفَةِ:
25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُعَارَ الْكِتَابُ الْمَوْقُوفُ إِلاَّ بِرَهْنٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ لَهَا: عَارِيَّةٌ أَيْضًا، بَلِ الْآخِذُ لَهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ اسْتَحَقَّ الِانْتِفَاعَ وَيَدُهُ عَلَيْهَا يَدُ أَمَانَةٍ فَشَرْطُ أَخْذِ الرَّهْنِ عَلَيْهَا فَاسِدٌ، وَإِنْ أَعْطَى يَكُونُ رَهْنًا فَاسِدًا وَيَكُونُ فِي يَدِ خَازِنِ الْكُتُبِ أَمَانَةً، هَذَا إِنْ أُرِيدَ الرَّهْنُ الشَّرْعِيُّ، وَإِنْ أُرِيدَ مَدْلُولُهُ لُغَةً، وَأَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً فَيَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُ الْوَاقِفِ فَالْأَقْرَبُ الْحَمْلُ عَلَى اللُّغَوِيِّ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَقُولُ الْوَاقِفُ: لَا تُخْرِجْ إِلاَّ بِتَذْكِرَةٍ فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَجْوِيزَ الْوَاقِفِ الِانْتِفَاعَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهَا تَبْقَى رَهْنًا، بَلْ لَهُ أَخْذُهَا فَيُطَالِبُهُ الْخَازِنُ بِرَدِّ الْكِتَابِ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الرَّهْنِ وَلَا بَيْعُهُ، وَلَا بَدَلُ الْكِتَابِ الْمَوْقُوفِ بِتَلَفِهِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ.
إِعَارَةُ الْكُتُبِ وَاسْتِعَارَتُهَا:
26- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ إِعَارَةِ الْكُتُبِ وَاسْتِعَارَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ إِعَارَةِ الْمُصْحَفِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَذَلِكَ لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ وَهُوَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوُجُوبُ مُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُعِيرُهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمَالِكِ فَلَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ إِعَارَةُ الْمُصْحَفِ لِمُحْتَاجٍ لِقِرَاءَةٍ فِيهِ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ.
وَفِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: إِنْ طَلَبَ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ لِيَقْرَأَ فِيهِ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ بِوُجُوبِ إِعَارَةِ كُتُبِ الْحَدِيثِ إِذَا كَتَبَ صَاحِبُهَا اسْمَ مَنْ سَمِعَهُ لِيَكْتُبَ نُسْخَةَ السَّمَاعِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَجِبُ عَيْنًا، بَلْ هِيَ أَوِ النَّقْلُ إِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثِقَةً.
وَخَرَّجَ أَبُو عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وُجُوبَ إِعَارَةِ الْكُتُبِ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَنْبَغِي لِمَنْ مَلَكَ كِتَابًا أَنْ لَا يَبْخَلَ بِإِعَارَتِهِ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ.
إِصْلَاحُ الْخَطَأِ فِي الْكِتَابِ الْمُسْتَعَارِ:
27- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اسْتَعَارَ كِتَابًا فَوَجَدَ بِهِ خَطَأً أَصْلَحَهُ إِنْ عَلِمَ رِضَا صَاحِبِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يَكْرَهُ إِصْلَاحَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصْلِحَهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَصْلَحَهُ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلاَّ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ إِصْلَاحَهُ وَاجِبٌ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اسْتَعَارَ كِتَابًا لِيَقْرَأَ فِيهِ فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً لَا يُصْلِحُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا فَيَجِبُ كَمَا قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ، وَتَقْيِيدُهُ بِالْإِصْلَاحِ يُعْلِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ قِيمَتِهِ لِرَدَاءَةِ خَطٍّ وَنَحْوِهِ امْتَنَعَ؛ لِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَالِيَّتِهِ لَا إِصْلَاحٌ.
قَالَ الْجَمَلُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَهُ لِمَنْ يُصْلِحُهُ حَيْثُ كَانَ خَطُّهُ مُنَاسِبًا لِلْمُصْحَفِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِجَابَةُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ فِي سُؤَالِهِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْمَوْقُوفُ فَيُصْلَحُ جَزْمًا، خُصُوصًا مَا كَانَ خَطَأً مَحْضًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ دُونَ مَا ظَنِّهِ، وَمَتَى تَرَدَّدَ فِي عَيْنِ لَفْظٍ أَوْ فِي الْحُكْمِ لَا يُصْلِحُ شَيْئًا وَمَا اعْتِيدَ مِنْ كِتَابَةِ (لَعَلَّهُ كَذَا) إِنَّمَا يَجُوزُ فِي مِلْكِ الْكَاتِبِ.
وَلَا يَكْتُبُ حَوَاشِيَ بِهَامِشِ الْكِتَابِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا نَظَرَ لِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِفِعْلِهِ.
إِجَارَةُ الْكُتُبِ:
28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْكُتُبِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ كُتُبَ فِقْهٍ أَمْ أَدَبٍ أَمْ شِعْرٍ أَمْ غِنَاءٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ:؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إِنْ كَانَتْ طَاعَةً كَالْقُرْآنِ، أَوْ كَانَتْ مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ، فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهَا لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ، فَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ قَبْلَ الْإِجَارَةِ فَلَا تَجُوزُ، وَلَوِ انْعَقَدَتْ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَمْلِ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ، وَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ لَا تَنْعَقِدُ وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ إِجَارَةُ الْكُتُبِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كِتَابِ حَدِيثٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ شِعْرٍ مُبَاحٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ صَرْفٍ أَوْ نَحْوِهِ لِنَظَرٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ نَقْلٍ أَوْ بِهِ خَطٌّ حَسَنٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ وَيَتَمَثَّلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ لِذَلِكَ فَجَازَتْ إِجَارَتُهُ.
29- وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجَارَةَ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الْإِعَارَةُ مِنْ أَجْلِهِ فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ.
وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ طَاعَةٌ وَالْإِجَارَةُ عَلَى الطَّاعَةِ لَا تَجُوزُ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: عِلَّةُ ذَلِكَ إِجْلَالُ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ عَنِ الْمُعَاوَضَةِ بِهِ وَابْتِذَالِهِ بِالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ.
بَيْعُ كُتُبِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ يُبَاعُ مَالُهُ وَلَوْ كُتُبًا، وَلَوِ احْتَاجَ لَهَا، وَلَوْ فِقْهًا؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعِلْمِ أَنْ يُحْفَظَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْكُتُبَ لَا تُبَاعُ أَصْلًا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ هُوَ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَآلَةِ ذَلِكَ، أَمَّا غَيْرُهَا فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ بَيْعِهَا.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ مَتَاعِ الْمُفْلِسِ قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُوقِهِ: الْبَزِّ فِي الْبَزَّازِينَ، وَالْكُتُبِ فِي سُوقِهَا.
وَذَهَبَ الْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُتْرَكُ لِلْعَالِمِ كُتُبُهُ، فَلَا تُبَاعُ لِسَدَادِ الدَّيْنِ.
وَقَالُوا: يُشْتَرَى لِلْمُفْلِسِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يُبَاعُ الْمُصْحَفُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ تَسْهُلُ مُرَاجَعَةُ حَفَظَتِهِ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لَا حَافِظَ فِيهِ تُرِكَ لَهُ.
النَّظَرُ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ:
31- الْأَصْلُ فِي النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ حَدِيثُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ».
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سِرٌّ وَأَمَانَةٌ يَكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ كِتَابٍ.
وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ سَقَطَتْ مِنْهُ وَرَقَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ فَوَائِدُ فَأَخَذْتُهَا، تَرَى أَنْ أَنْسَخَهَا وَأَسْمَعَهَا؟ قَالَ: لَا، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ يُخَصُّ مِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى دَفْعِ مَفْسَدَةٍ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ.
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَسْأَلَةِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ: النَّظَرُ فِي الْكِتَابِ الْمَرْهُونِ، هَلْ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ النَّظَرُ فِيهِ أَمْ لَا؟.
نَقَلَ الطَّحْطَاوِيُّ عَنِ الْوَلْوَالِجِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ مُصْحَفًا وَأَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنْ قَرَأَ فِيهِ صَارَ عَارِيَّةً وَبَطَلَ الرَّهْنُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَهْلِكْ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ صَارَ رَهْنًا، وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْمُصْحَفَ أَيَجُوزُ أَنْ يُرْتَهَنَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَا يُقْرَأُ فِيهِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ شَرْطٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ، فَتَوَسَّعَ لَهُ رَبُّ الْمُصْحَفِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ.
وَفِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ رَهَنَ مُصْحَفًا هَلْ يَقْرَأُ فِيهِ؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُنْتَفَعَ مِنَ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ رَهْنٌ: لَا يَقْرَأُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ رَهَنَ عِنْدَهُ الْمُصْحَفَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ قَرَأَ فِيهِ.
إِتْلَافُ الْكُتُبِ:
32- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكُتُبَ الْمُحَرَّمَةَ يَجُوزُ إِتْلَافُهَا، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُتُبُ الْعِلْمِ الْمُحَرَّمِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَجُوزُ إِحْرَاقُهَا وَإِتْلَافُهَا إِذَا كَانَا مُحَرَّفَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يَجِبُ إِتْلَافُ كُتُبِ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْفَلْسَفَةِ لِتَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ شِرَاءُ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِإِتْلَافِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ، وَتَعُودُ وَرَقًا مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْمُعَالَجَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْكُتُبُ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا يُمْحَى عَنْهَا اسْمُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَيُحْرَقُ الْبَاقِي، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُلْقَى فِي مَاءٍ جَارٍ كَمَا هِيَ، أَوْ تُدْفَنَ وَهُوَ أَحْسَنُ كَمَا فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا جَمِيعُ الْكُتُبِ إِذَا بَلِيَتْ وَخَرَجَتْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الذَّخِيرَةِ: الْمُصْحَفُ إِذَا صَارَ خَلَقًا وَتَعَذَّرَتِ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ لَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَلَا يُكْرَهُ دَفْنُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَفَّ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ وَيُلْحَدَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَقَّ وَدُفِنَ يَحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ، إِلاَّ إِذَا جُعِلَ فَوْقَهُ سَقْفٌ، وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ، أَوْ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُ مُحْدِثٍ وَلَا غُبَارٌ وَلَا قَذَرٌ، تَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقْفُ الْكُتُبِ:
33- يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْخَيْلِ تُحْبَسُ لِلْغَزْوِ عَلَيْهَا، وَالسِّلَاحِ لِلْقِتَالِ بِهِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْفِ الْمَنْقُولِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْكُتُبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (؛ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ وَقْفَ الْمَنْقُولِ) وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا- أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ نَصْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يُجِيزُهُ، وَنَصْرُ بْنُ يَحْيَى يُجِيزُهُ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُجِيزُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي الْعِنَايَةِ عَنْ فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْفِ الْكُتُبِ، وَجَوَّزَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً مُبَدَّلَةً، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَالَ: «أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟».
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيُلْحَقُ فِي ذَلِكَ كُتُبُ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا.
سَرِقَةُ الْكُتُبِ:
34- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ كُتُبًا نَافِعَةً، كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا.
وَأَضَافَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ شَخْصٌ الْمُصْحَفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْقِرَاءَةِ لَمْ يُقْطَعْ إِذَا كَانَ قَارِئًا؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ غَيْرَ قَارِئٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَلَّمَ مِنْهُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ يَقْرَأُ فِيهِ لِاسْتِمَاعِ الْحَاضِرِينَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالتَّعَلُّمَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 28- 31)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
189-موسوعة الفقه الكويتية (كسب)
كَسْبٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْكَسْبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ كَسَبَ، يُقَالُ: كَسَبَ مَالًا أَيْ رَبِحَهُ وَاكْتَسَبَ كَذَلِكَ، وَكَسَبَ لِأَهْلِهِ وَاكْتَسَبَ: طَلَبَ الْمَعِيشَةَ، وَكَسَبَ الْإِثْمَ وَاكْتَسَبَهُ: تَحَمَّلَهُ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الْفِعْلُ الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- الْحِرْفَةُ:
2- الْحِرْفَةُ- بِالْكَسْرِ- فِي اللُّغَةِ: الطُّعْمَةُ، وَالصِّنَاعَةُ يُرْتَزَقُ مِنْهَا، وَكُلُّ مَا اشْتَغَلَ الْإِنْسَانُ وَرَضِيَ بِهِ يُسَمَّى صَنْعَةً وَحِرْفَةً؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّفُ إِلَيْهَا.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَالَ الرَّمْلِيُّ: الْحِرْفَةُ مَا يُتَحَرَّفُ بِهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِرْفَةِ وَالْكَسْبِ هِيَ أَنَّ الْكَسْبَ أَعَمُّ مِنَ الْحِرْفَةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَكُونُ حِرْفَةً وَقَدْ لَا يَكُونُ.
ب- الرِّبْحُ:
3- الرِّبْحُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكْسَبُ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: رَبِحَ فِي تِجَارَتِهِ: إِذَا أَفْضَلَ فِيهَا.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْكَسْبِ أَنَّ الرِّبْحَ ثَمَرَةُ الْكَسْبِ.
ج- الْغِنَى:
4- الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ فِي اللُّغَةِ: الْيَسَارُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْوَاعٌ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْكَسْبِ أَنَّ الْكَسْبَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الْغِنَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْكَسْبُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»، فَإِنْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَسِعَهُ، وَإِنِ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ».
وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ كَسْبُ مَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْكِفَايَةِ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا أَوْ يَصِلَ بِهِ قَرِيبًا.
وَيُبَاحُ كَسْبُ الْحَلَالِ لِزِيَادَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ إِذَنْ.
وَأَمَّا الْكَسْبُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ- وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ- فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاظُمِ الْمُفْضِي إِلَى هَلَاكِ صَاحِبِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى.
آدَابُ الْكَسْبِ:
6- قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ طَيِّبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: أَنْ لَا يُؤَخِّرَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ الْكَسْبِ، وَلَا يُدْخِلَ النَّقْصَ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِأَجْلِ الْكَسْبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِكَسْبِهِ اسْتِعْفَافًا لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ، وَلَا يَقْصِدَ بِهِ الْجَمْعَ وَالْكَثْرَةَ.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْكَسْبِ جِدًّا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَرَى رِزْقَهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَيَرَى الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَسْبُ سَبَبًا.
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكْتَسِبٍ تَحْصِيلُ عِلْمِ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ الْمَكَاسِبُ عَنْهَا، وَهِيَ الْبَيْعُ وَالرِّبَا وَالسَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ، وَمَهْمَا حَصَلَ عِلْمُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَقَفَ الْمُكْتَسِبُ عَلَى مُفْسِدَاتِ الْمُعَامَلَةِ فَيَتَّقِيهَا.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَبَيْنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَ تَحْصِيلِ مَا لَا بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْهُ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّكَاثُرُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَسُّلُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ وَالتَّعَفُّفِ عَنْ وُجُوهِ النَّاسِ، هُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِاكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَإِنَّ مَا اكْتَسَبَهُ الزَّارِعُ تَصِلُ مَنْفَعَتُهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَادَةً، وَالَّذِي يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ إِنَّمَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ يُحَصِّلُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَالثَّوَابَ لِجِسْمِهِ، وَمَا كَانَ أَعَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، وَلِهَذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَلَ مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْإِمَارَةُ وَالسَّلْطَنَةُ بِالْعَدْلِ أَفْضَلَ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ كَمَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ((«الْعِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ» وَقَوْلِهِ- عليه السلام-: «الْجِهَادُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ»، يَعْنِي طَلَبَ الْحَلَالِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لَا يَتَمَكَّنُ إِلاَّ مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ- عليهم السلام- مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْعِبَادَةِ فِي عُمُرِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ- عليهم السلام-، وَكَذَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ يَحْتَاجُونَ إِلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ لَا بِالْكَسْبِ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْعِبَادِ دُونَ الْمُكْتَسِبِينَ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ، وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ، وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَجْزِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ، وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلَامَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى، لِيَصِلَ إِلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.
التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَسْبِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ التَّوَكُّلِ:
9- جَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ.
وَتَقْصِيرُ الْإِنْسَانِ عَنْ طَلَبِ كِفَايَتِهِ- كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ- قَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَيَكُونُ تَارَةً كَسَلًا، وَتَارَةً تَوَكُّلًا، وَتَارَةً زُهْدًا وَتَقَنُّعًا.
فَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِكَسَلٍ فَقَدْ حُرِمَ ثَرْوَةَ النَّشَاطِ وَمَرَحَ الِاغْتِبَاطِ، فَلَنْ يُعْدَمَ أَنْ يَكُونَ كَلًّا قَصِيًّا أَوْ ضَائِعًا شَقِيًّا.
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِتَوَكُّلٍ فَذَلِكَ عَجْزٌ قَدْ أَعْذَرَ بِهِ نَفْسَهُ، وَتَرْكُ حَزْمٍ قَدْ غَيَّرَ اسْمَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَكُّلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحِيَلِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ فَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُرَافِقُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رُفَقَاءَ، فَجَاءَتْ رُفْقَةٌ يُهْرَفُونَ بِرَجُلٍ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ فُلَانٍ، إِنْ نَزَلْنَا فَصَلَاةٌ وَإِنْ رَكِبْنَا فَقِرَاءَةٌ، وَلَا يُفْطِرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ كَانَ يَرْحَلُ لَهُ، وَمَنْ كَانَ يَعْمَلُ لَهُ؟ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ فَقَالُوا: نَحْنُ، فَقَالَ: كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ».
وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْكَسْبَ يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ يَكُونُ حَرَامًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَنْفِي التَّوَكُّلَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».
وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.
أَنْوَاعُ الْكَسْبِ:
10- إِنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ لِلْمَادَّةِ لَازِمَةٌ لَا يَعْرَى مِنْهَا بَشَرٌ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ نَفْسِهِ لَمْ تَدُمْ لَهُ حَيَاةٌ، وَلَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ دُنْيَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ لَحِقَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي نَفْسِهِ وَالِاخْتِلَالِ فِي دُنْيَاهُ بِقَدْرِ مَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَادَّةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ يَكْمُلُ بِكَمَالِهِ، وَيَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمَوَادُّ مَطْلُوبَةً لِحَاجَةِ الْكَافَّةِ إِلَيْهَا، أَعْوَزَتْ بِغَيْرِ طَلَبٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ جَعَلَ سَدَّ حَاجَةِ النَّاسِ وَتَوَصُّلَهُمْ إِلَى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: بِمَادَّةٍ وَكَسْبٍ.
فَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ حَادِثَةٌ عَنِ اقْتِنَاءِ أُصُولٍ نَامِيَةٍ بِذَوَاتِهَا.
وَأَمَّا الْكَسْبُ فَيَكُونُ بِالْأَفْعَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَادَّةِ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقَلُّبٌ فِي تِجَارَةٍ،
وَالثَّانِي: تَصَرُّفٌ فِي صِنَاعَةٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا فَرْعٌ لِوَجْهَيِ الْمَادَّةِ، فَصَارَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ الْمَأْلُوفَةِ وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: نَمَاءُ زِرَاعَةٍ، وَنِتَاجُ حَيَوَانٍ، وَرِبْحُ تِجَارَةٍ، وَكَسْبُ صِنَاعَةٍ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلِفَةِ:
11- قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْمَكَاسِبُ أَرْبَعَةٌ: الْإِجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حُصُولِ الْكَسْبِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ: فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُ مِنَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا، فَبِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ يَحْصُلُ مَا يُقِيمُ بِهِ الْمَرْءُ صُلْبَهُ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ، وَبِالتِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْمُو الْمَالُ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا يَكُونُ نَفْعُهُ أَعَمُّ يَكُونُ أَفْضَلَ؛ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الزِّرَاعَةِ أَظْهَرُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ الزُّرَّاعُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَدَقَةٌ لَهُ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التِّجَارَةُ أَفْضَلُ مِنَ الزِّرَاعَةِ.
وَتَأْتِي الصِّنَاعَةُ بَعْدَ الْجِهَادِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أُصُولُ الْمَكَاسِبِ: الزِّرَاعَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالصَّنْعَةُ، وَأَيُّهَا أَطْيَبُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ: أَشْبَهُهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التِّجَارَةَ أَطْيَبُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَطْيَبُ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ- عليه السلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ الزِّرَاعَةِ وَالصَّنْعَةِ؛ لِكَوْنِهِمَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، لَكِنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُهُمَا لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا لِلْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
سُؤَالُ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ:
12- الْأَصْلُ أَنَّ سُؤَالَ الْمَالِ، وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَسْئُولِ مِنْهُمَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ:
أَحَدُهَا: إِظْهَارُ الشَّكْوَى.
وَالثَّانِي: إِذْلَالُ نَفْسِهِ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِيذَاءُ الْمَسْئُولِ غَالِبًا.
وَإِنَّمَا يُبَاحُ السُّؤَالُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الْمُهِمَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الضَّرُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَاجُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ خُمُوشٌ فِي وَجْهِهِ».
وَوَرَدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: «أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي السُّؤَالِ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» يَعْنِي لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ لِلْقَوِيِّ الْقَادِرِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَأَلَ فَأُعْطِيَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» فَلَوْ كَانَ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ لَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لَهُمَا ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَقِيرٌ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَفِي الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَرَامٌ، وَالثَّانِي يَحِلُّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ، وَلَا يُؤْذِيَ الْمَسْئُولَ، وَإِلاَّ حَرُمَ اتِّفَاقًا.
وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَطُوفَ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَسْأَلَ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ كَانَ آثِمًا عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ يُوصِلُهُ إِلَى مَا يُقَوِّمُ بِهِ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْكَسْبِ، وَلَا ذُلَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى- عليه السلام- وَصَاحِبِهِ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ: السُّؤَالُ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ.
وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ طَلَبِ الْقُوتِ، فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ؛ صَوْنًا لَهُ عَنِ الْهَلَاكِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» وَإِنْ أَطْعَمَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ.
نَفَقَةُ الْقَرِيبِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ:
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ لِلْفَقِيرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَبَوَيْنِ وَقَالُوا: تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهُمَا إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَإِنْ قَدَرَا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَدَرَ الْقَرِيبُ الْفَقِيرُ عَلَى الْكَسْبِ فَأَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: تَجِبُ لِأَصْلٍ دُونَ فَرْعٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ).
إِجْبَارُ الْمُفَلِسِ عَلَى التَّكَسُّبِ:
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُفَلِسِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكْتَسِبَ أَوْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِوَفَاءِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أَمَرَ بِإِنْظَارِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاكْتِسَابِهِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ».
وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَالِ فَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَيْهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَمَا لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزْوِيجِ لِتَأْخُذَ الْمَهْرَ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ عَصَى بِهِ- كَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ عَمْدًا- وَجَبَ عَلَيْهِ الِاكْتِسَابُ، وَأُمِرَ بِهِ، وَلَوْ بِإِيجَارِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الرَّدِّ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَوَّارٍ الْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «بَاعَ سُرَّقًا فِي دَيْنِهِ، وَكَانَ سُرَّقٌ رَجُلًا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَاءَهُ مَالًا، فَدَايَنَهُ النَّاسُ، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَالٌ، فَسَمَّاهُ سُرَّقًا، وَبَاعَهُ بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ»، وَالْحُرُّ لَا يُبَاعُ، ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِ الْغِنَى بِهَا، فَكَذَلِكَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ إِجْبَارُهُ عَلَيْهَا كَبَيْعِ مَالِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ إِلاَّ مَنْ فِي كَسْبِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَمُونُهُ. وَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى التَّكَسُّبِ إِذَا كَانَ صَانِعًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ التَّكَسُّبَ فِي عَقْدِ الدَّيْنِ.
تَكْلِيفُ الصَّغِيرِ بِالتَّكَسُّبِ:
15- نَدَبَ الْإِسْلَامُ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ بِالْكَسْبِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: لَا تُكَلِّفُوا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا، وَلَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ، وَعُفُّوا إِذَا أَعَفَّكُمُ اللَّهُ، وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضِمْنَ تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-: الصَّغِيرُ إِذَا كُلِّفَ الْكَسْبَ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْخَرَاجِ وَهُوَ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنَ الْخَرَاجِ بِأَنْ يَسْرِقَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ وَاضِحُ الْمَعْنَى، مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَالْقَوْلُ فِي شَرْحِهِ تَكَلُّفٌ.
التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ:
16- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِعَمَلِ الصِّنَاعَاتِ مِثْلَ الْخِيَاطَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَلَّ، مِثْلُ رَقْعِ ثَوْبِهِ أَوْ خَصْفِ نَعْلِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنِ النَّوَوِيِّ: فَأَمَّا مَنْ يَنْسَخُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوِ اتَّفَقَ قُعُودُهُ فِيهِ فَخَاطَ ثَوْبًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَقْعَدًا لِلْخِيَاطَةِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ: يُكْرَهُ عَمَلُ الصَّنَائِعِ مِنْهُ أَيِ الْمُدَاوَمَةُ، أَمَّا مَنْ دَخَلَ لِصَلَاةٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فَخَاطَ ثَوْبَهُ لَمْ يُكْرَهْ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ لِأَجْلِ حِفْظِ الْمَسْجِدِ لَا لِلتَّكَسُّبِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْخَيَّاطُ إِذَا كَانَ يَخِيطُ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ، إِلاَّ إِذَا جَلَسَ لِدَفْعِ الصِّبْيَانِ وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَكَسُّبٌ بِصَنْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِذَلِكَ غَيْرَ كِتَابَةٍ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَوْعٌ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ عَمَلِ الصِّنَاعَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةِ آحَادِ النَّاسِ مِمَّا يُتَكَسَّبُ بِهِ، فَلَا يُتَّخَذُ الْمَسْجِدُ مَتْجَرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمَا يَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِثْلَ الْمُثَاقَفَةِ (وَهِيَ الْمُلَاعَبَةُ لِإِظْهَارِ الْمَهَارَةِ وَالْحِذْقِ) وَإِصْلَاحِ آلَاتِ الْجِهَادِ مِمَّا لَا مِهْنَةَ فِي عَمَلِهِ لِلْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَتَهُ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ».
وَفِي جَامِعِ الذَّخِيرَةِ: جَوَّزَ مَالِكٌ أَنْ يُسَاوِمَ رَجُلًا ثَوْبًا عَلَيْهِ أَوْ سِلْعَةً تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهَا، وَقَالَ الْجُزُولِيُّ: وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الشِّرَاءُ، وَاخْتُلِفَ إِذَا رَأَى سِلْعَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ: مِنْ غَيْرِ سِمْسَارٍ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالسِّمْسَارِ فِيهِ فَمَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكُلِّ عَقْدٍ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، بَلْ يَكُونُ مَا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ بِدُونِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْمَسْجِدِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَلَا يَصِحَّانِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنَ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُكْرَهُ بَلْ يُبَاحُ وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ تَرْخِيصَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ.
الْكَسْبُ الْخَبِيثُ وَمَصِيرُهُ:
17- طَلَبُ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَقَالَ فِي ذَمِّ الْحَرَامِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلاَّ كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ».
وَالْحَرَامُ كُلُّهُ خَبِيثٌ، لَكِنَّ بَعْضَهُ أَخْبَثُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي دَرَجَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، بَلِ الْمَغْصُوبُ أَغْلَظُ؛ إِذْ فِيهِ إِيذَاءُ الْغَيْرِ وَتَرْكُ طَرِيقِ الشَّرْعِ فِي الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إِلاَّ تَرْكُ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ ظُلْمًا مِنْ فَقِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَتِيمٍ أَخْبَثُ وَأَغْلَظُ مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوِيٍّ أَوْ غَنِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ.
وَالْكَسْبُ الْخَبِيثُ هُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ لَا عَلَى وَجْهِ إِذْنِ الشَّرْعِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ وَمَا لَا تَطِيبُ نَفْسُ مَالِكِهِ، أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا، وَإِلاَّ إِلَى الْفُقَرَاءِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَرَامٌ، وَأَرَادَ التَّوْبَةَ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَجَبَ دَفْعُهُ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَالِكٍ لَا يَعْرِفُهُ، وَيَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالْقَنَاطِرِ وَالرُّبُطِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَصَالِحِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ فُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْقَاضِي إِنْ كَانَ عَفِيفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفِيفًا لَمْ يَجُزَ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ صَارَ الْمُسْلِمُ ضَامِنًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحَكِّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ دَيِّنًا عَالِمًا، فَإِنَّ التَّحَكُّمَ أَوْلَى مِنَ الِانْفِرَادِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّرْفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْفَقِيرِ لَا يَكُونُ حَرَامًا عَلَى الْفَقِيرِ، بَلْ يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، لِأَنَّ عِيَالَهُ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَالْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِيهِمْ، بَلْ هُمْ أَوْلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا فَقِيرٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ الْمَذْكُورَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْفَرْعِ ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ، وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْلَافُ هَذَا الْمَالِ وَرَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنْ وَرِثَ مَالًا وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ مُوَرِّثُهُ: أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ حَرَامٍ؟ وَلَمْ تَكُنْ عَلَامَةٌ فَهُوَ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ، كَأَنْ كَانَ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوِ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ، فَالْأَوْلَى لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا الْمَالَ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَرْبَابَهُ تَصَدَّقُوا بِهِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: إِنْ عَلِمَ الْمَالَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ (لِلْوَارِثِ) أَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ حُكْمًا، وَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ الْخُصَمَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَرِثَ مَالًا، وَعَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ، أَخْرَجَ الْقَدْرَ الْحَرَامَ بِالِاجْتِهَادِ.
وَيَمْنَعُ وَالِي الْحِسْبَةِ النَّاسَ مِنَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَمْنَعُ مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (حِسْبَةٌ ف 34).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
190-موسوعة الفقه الكويتية (ليلة القدر)
لَيْلَةُ الْقَدْرِالتَّعْرِيفُ:
1- لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَتَرَكَّبُ مِنْ لَفْظَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: لَيْلَةٌ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُقَابِلُهَا النَّهَارُ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَثَانِيهِمَا: الْقَدْرُ، وَمِنْ مَعَانِي الْقَدْرِ فِي اللُّغَةِ: الشَّرَفُ وَالْوَقَارُ، وَمَنْ مَعَانِيهِ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّضْيِيقُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ اللَّيْلَةُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَيْلَةٌ ذَاتُ قَدْرٍ وَشَرَفٍ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَلِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِمَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يُحْيِيهَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْقَدْرِ هُنَا التَّضْيِيقُ كَمِثْلِ قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ فِيهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ- بِفَتْحِ الدَّالِ- وَهُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ: أَيْ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ وَالْقَضَاءِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِمَا تَكْتُبُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ الْوَارِدَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَيْسَتْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ وَمُصِيبَةٍ، وَرِزْقٍ وَبَرَكَةٍ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ
فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
2- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفَضْلُ اللَّيَالِي، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وَأَنَّهَا اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَالَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَيْضًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ تَهْبِطُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ وَمِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَيَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالرَّحْمَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِكُلِّ أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ
.وَفِي فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.أَيْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَلَامَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لَا شَرَّ فِيهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ،
قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلاَّ السِّلَامَةَ وَفِي سَائِرِ اللَّيَالِيِ يَقْضِي بِالْبَلَايَا وَالسَّلَامَةِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ لَيْلَةٌ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا وَلَا أَذًى.
إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاوَرَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»،، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»،، وَالْقَصْدُ مِنْهُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَيَكُونُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»،، قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ انْفِكَاكُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَبَعَاتِ الذُّنُوبِ وَطَهَارَتُهُ مِنْ دَنَسِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ بِالطَّهَارَةِ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَهَّلُ لِلِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِالْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، » وَبِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ».
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَانَتْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- وَفِيهِ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي كُلِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ.قُلْتُ: أَفَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا رَفَعُوا رُفِعَتْ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
بَقَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
5- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَقَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ الْمُسْلِمَ عَلَى طَلَبِهَا وَالِاجْتِهَادِ فِي إِدْرَاكِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»،، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ أَصْلًا وَرَأْسًا،
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ عَنِ الرَّوَافِضِ وَالْفَاكَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَأَنَّهُ خَطَأٌ، وَالَّذِي حَكَاهُ السُّرُوجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ الشِّيعَةِ.وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُحَنَّسَ قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ، قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: ذَكَرَ الْحَجَّاجُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَهَا فَأَرَادَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَنْ يَحْصِبَهُ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ.
مَحَلُّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ دَائِرَةٌ مَعَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
وَأَخْبَرْنَا كَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} الْآيَةَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ لَيَالِي السَّنَةِ الْأُخْرَى.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِي سَبَقَ نَقْلُهَا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَدُورُ فِيهَا، قَدْ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ تَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مِنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا، وَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ هَذَا إِلَى ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَلاَّ يَتَّكِلَ النَّاسُ.
7- وَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الشَّهْرِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ آكَدُ، وَلَيَالِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ آكَدُ، لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَفِيمَا يَلِي أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلِّهَا:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ لَدَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْتِمَاسِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَتُؤَكِّدُ أَنَّهَا فِي الْأَوْتَارِ وَمُنْحَصِرَةٌ فِيهَا.
وَالْأَشْهَرُ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ.
وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ بِأَنَّ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَصًّا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ دَائِرَةٌ مَعَ رَمَضَانَ، بِمَعْنَى أَنَّهَا تُوجَدُ كُلَّمَا وُجِدَ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ، لَكِنَّهَا عِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ لَا تَتَعَيَّنُ.
وَقَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، وَنَسَبَهُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ إِلَى الصَّاحِبَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا وَلَا تَزَالُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مُحْتَمِلَةٌ لَهَا، لَكِنْ لَيَالِي الْوِتْرِ أَرْجَاهَا، وَأَرْجَى الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَرَجَاهَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَهُمَا أَرْجَى لَيَالِيهَا عِنْدَهُ، وَبَعْدَهُمَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ- رضي الله عنهم-: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ الصَّحَابِيِّ لِقَوْلِ أَنِسٍ- رضي الله عنه-: لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، نَقَلَهَا عَنْهُمَا ابْنُ حَجَرٍ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- بِحُجَّةِ أَنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ وَنَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وَهُوَ مَا يَتَوَافَقُ تَمَامًا مَعَ قوله تعالى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ- رضي الله عنه- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما- وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ تَنْتَقِلُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إِلَى لَيْلَةٍ وَفِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي تَحْدِيدِهَا فِي لَيَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامَّةً وَمَنِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إِلاَّ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي «رَأَى أَبُو سَعِيدٍ- رضي الله عنه- النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»،، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ بِأَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْبَادِيَةِ لِيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَفِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ- رضي الله عنه- عَلَامَتَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقَدْ تُرَى عَلَامَتُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيَالِي، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي قُلَابَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إِلاَّ بِانْتِقَالِهَا،
وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُتَنَقِّلَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهَا، وَيَجِدُّوا فِي الْعِبَادَةِ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِهَا كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ لِيَجْتَهِدُوا فِي جَمِيعِهَا، وَأَخْفَى الْأَجَلَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجِدَّ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ حَذَرًا مِنْهُمَا.
مَا يُشْتَرَطُ لِنَيْلِ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
8- نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِنَيْلِ فَضْلِهَا أَوْ عَدِمِ اشْتِرَاطِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنَالُ فَضْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلاَّ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَامَ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَنَلْ فَضْلَهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ: إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِنَيْلِ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعِلْمُ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ التَّعَبُّدُ فِي كُلِّ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى يَحُوزَ الْفَضِيلَةَ عَلَى الْيَقِينِ.
وَرَجَّحَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبَيْنِ الرَّأْيَ الثَّانِي وَقَالُوا: وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ حَالَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ فِي الْفَضْلِ إِذَا قَامَ بِوَظَائِفِهَا.
عَلَامَاتُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
9- قَالَ الْعُلَمَاءُ:
لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَامَاتٌ يَرَاهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَأَخْبَارَ الصَّالِحِينَ وَرِوَايَاتِهِمْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهَا فَمِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ وَأَنَّ مِنْ أَمَارَتِهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ».
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا».
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- (أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ إِلاَّ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
كِتْمَانُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا.
وَالْحِكْمَةُ فِي كِتْمَانِهَا كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ الْحَاوِي أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كِتْمَانُهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ، فَلَا يَأْمَنُ السَّلْبَ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنْ لَا يَأْمَنَ الرِّيَاءَ، وَمَنْ جِهَةِ الْأَدَبِ فَلَا
(
يَتَشَاغَلُ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعُ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ
وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ ( ( ( (لِابْنِهِ يُوسُفَ- عليه السلام- {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
191-موسوعة الفقه الكويتية (مجاهرة)
مُجَاهَرَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْمُجَاهَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْإِظْهَارُ، يُقَالُ: جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا أَظْهَرَهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَالَ عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالْإِجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْإِظْهَارِ، يُقَالُ: جَهَرَ وَأَجْهَرَ بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ: إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْإِظْهَارُ:
2- مِنْ مَعَانِي الْإِظْهَارِ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ وَالْإِبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، يُقَالُ: أَظْهَرَ الشَّيْءَ: بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ فُلَانًا عَلَى السِّرِّ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ وَالْإِظْهَارِ: أَنَّ الْمُجَاهَرَةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِظْهَارِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- الْمُجَاهَرَةُ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّبَجُّحِ وَالِافْتِخَارِ بِهَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعَةً، كَمَنْ قَوِيَ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَيَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاهَرَةِ:
الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي
4- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا، بَلْ يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ وَيَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا شَيْخَهُ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْجُو بِإِخْبَارِهِ أَنْ يُعْلِمَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا، أَوْ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، أَوْ يُعَرِّفُهُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهَا، أَوْ يَدْعُو لَهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ بِدَلِيلِ خَبَرِ مَنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
5- وَجَعَلَ ابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ إِفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُبَاحِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوِقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ.
(ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 6).
الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ
6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَقَالُوا: مَنْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ يَكُونُ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ تَقِيٍّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي إِمَامَةِ الْفَاسِقِ بِالْجَوَارِحِ فَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الْمَشْهُورُ إِعَادَةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ أَبَدًا، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَتَرْكِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلَاةِ كَالزِّنَا وَغَصْبِ الْمَالِ أَجْزَأَتْهُ، لَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ شَارِبِ الْخَمْرِ أَعَادَ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ حِينَئِذٍ وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ هَلْ يَكُونُ إِمَامًا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ فَلَا.وَالْمَسْتُورُ الْمُعْتَرِفُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْكَامِلِ أَوْلَى، وَخَلْفَهُ لَا بَأْسَ بِهَا.
وَسُئِلَ عَمَّنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْكَذِبُ الْعَظِيمُ، أَوْ قَتَّاتٌ كَذَلِكَ، هَلْ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ؟ فَأَجَابَ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْمَشْهُورِ بِالْكَذِبِ وَالْقَتَّاتِ وَالْمُعْلِنِ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَمَّا مَنْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ فَلَا يَتْبَعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ وَلَيْسَ الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ كَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخَانِ أَنَّ الْبُطْلَانَ مُخْتَصٌّ بِظَاهِرِ الْفِسْقِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَقَالَ فِي الْوَجِيزِ: لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ الْمَشْهُورِ فِسْقُهُ.
عِيَادَةُ الْمُجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ
7- تُسَنُّ عِيَادَةُ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ».
وَلَا تُسَنُّ عِيَادَةُ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ إِذَا مَرِضَ لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ يُعَادُ.
الصَّلَاةُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي
8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الرَّدْعِ، قَالَ: وَيُصَلِّي عَلَيْهِمُ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِالْمَعَاصِي وَمَنْ قُتِلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ وَلَا أَهْلُ الْفَضْلِ.
وَقَالَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوا الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ مَيِّتًا إِذَا كَانَ
فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ، فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
(ر: جَنَائِزُ ف 40).
السَّتْرُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ السَّتْرُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى أَوْ فَسَادٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ وَالْمُتَهَتِّكُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَلْ يُظْهَرُ حَالُهُ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ وَاجِبَهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً، لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْأَذَى وَالْفَسَادِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ سَتْرِ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ (ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 10 وَسَتْرٌ ف 2).
غِيبَةُ الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
10- الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجَازُوا غِيبَةَ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ.
قَالَ الْخَلاَّلُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ) عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ». هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي
11- يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِنِ ارْتَدَعَ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا صِلَةٌ إِذَا كَانَ مُعْلِنًا مُكَاشِفًا.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ» إِذَا كَانَ الْهَجْرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنِ ارْتَكَبَ الْمَهْجُورُ بِدْعَةً أَوْ تَجَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، وَالْوَعِيدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ
12- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا: لَا يُجِيبُ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِفِسْقِهِ، وَكَذَا دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ حَلَالٌ.
إِنْكَارُ مَا يُجَاهِرُ بِهِ مِنْ مَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ
13- قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: إِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إِظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرَاقَتِهَا عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا الْكَافِرِ.
فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ إِرَاقَتِهِ وَمِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى إِظْهَارِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إِرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْهَى عَنِ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ وَلَا يُرِيقُهُ إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِئَلاَّ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِنْ حُوكِمَ فِيهِ.
وَمِنْ قَبِيلِ إِنْكَارِ مَا يُجَاهَرُ بِهِ مِنْ مُبَاحَاتٍ مَا نَقَلَهُ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ.
قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ، مِثْلُ الزَّمْرِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَكْسِرَهَا إِنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي كَسَرَهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِسْرَارِ بِهَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَّمَ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّاعَاتِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا
14- جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: الطَّاعَاتُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا شُرِعَ مَجْهُورًا بِهِ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجِهَادِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْأَمْوَاتِ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ إِخْلَاصِهِ فَيَأْتِيَ بِهِ مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَ، فَيَحْصُلَ عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعَلَى أَجْرِ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ.
الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلَانِهِ كَإِسْرَارِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِسْرَارِ أَذْكَارِهَا، فَهَذَا إِسْرَارُهُ خَيْرٌ مِنْ إِعْلَانِهِ.
الثَّالِثُ: مَا يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِبْدَاءِ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَنْ أَمِنَ مِنَ الرِّيَاءِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِخْفَاؤُهَا أَفْضَلُ إِذْ لَا يَأْمَنُ مِنَ الرِّيَاءِ عِنْدَ الْإِظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ الْإِبْدَاءُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ مَصْلَحَةِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَفَعَ الْأَغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي نَفْعِ الْفُقَرَاءِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
192-موسوعة الفقه الكويتية (معاياة)
مُعَايَاةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُعَايَاةُ مَصْدَرُ عَايَا، يُقَالُ عَايَا فُلَانٌ: أَتَى بِكَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ لَا يُهْتَدَى لَهُ، وَعَايَا صَاحِبَهُ: أَلْقَى عَلَيْهِ كَلَامًا لَا يُهْتَدَى لِوَجْهِهِ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمُعَايَاةَ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَبَذْلِ الْجَهْدِ بُغْيَةَ الْوُصُولِ إِلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ فِيهَا وَأَحْيَانًا يُطْلِقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلْغَازًا فَيَقُولُونَ: يُلْغِزُ بِكَذَا ثُمَّ يَذْكُرُونَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُعَايَى بِهَا أَوْ يُلْغَزُ.وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ الْمَسْأَلَةَ الْأَكْدَرِيَّةَ فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَايَى بِهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا الدُّسُوقِيُّ بِالْإِلْغَازِ.
وَأَغْلَبُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ نُجَيْمٍ عَقَدَ بَابًا سَمَّاهُ فَنُّ الْأَلْغَازِ جَمَعَ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي أَغْلَبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ.
بَعْضُ أَمْثِلَةِ الْمُعَايَاةِ:
2- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً عِدَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمِنْ ذَلِكَ:
فِي الصَّلَاةِ:
أَيُّ صَلَاةٍ أَفْسَدَتْ خَمْسًا وَأَيُّ صَلَاةٍ صَحَّحَتْ خَمْسًا؟
وَجَوَابُهَا: رَجُلٌ تَرَكَ صَلَاةً وَصَلَّى بَعْدَهَا خَمْسًا ذَاكِرًا لِلْفَائِتَةِ، فَإِنْ قَضَى الْفَائِتَةَ فَسَدَتِ الْخَمْسُ، وَإِنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ قَضَائِهَا صَحَّتِ الْخَمْسُ.
فِي الصَّوْمِ:
أَيُّ رَجُلٍ أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟
الْجَوَابُ: مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ.
فِي الزَّكَاةِ:
أَيُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاتُهُ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَهْلِكْ؟
الْجَوَابُ: الْمَوْهُوبُ إِذَا رَجَعَ لِلْوَاهِبِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ أَيْضًا.
فِي النِّكَاحِ:
أَيُّ امْرَأَةٍ أَخَذَتْ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَزْوَاجٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟
وَالْجَوَابُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ طُلِقَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَطُلِقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَمَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْأَلْغَازِ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْأَيْمَانِ وَالْحُدُودِ وَالسِّيَرِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ.
3- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُمْ:
قُلْ لِلْفَقِيهِ إِمَامِ الْعَصْرِ قَدْ مُزِجَتْ
ثَلَاثَةٌ بِإِنَاءٍ وَاحِدٍ نَسَبُوا
لَهَا الطَّهَارَةَ حَيْثُ الْبَعْضُ قُدِّمَ أَوْ
إِنْ قُدِّمَ الْبَعْضُ فَالتَّنْجِيسُ مَا السَّبَبُ؟
وَالْمَقْصُودُ بِالثَّلَاثَةِ: الْمَاءُ، السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ- أَوْ أَيَّ مَادَّةٍ أُخْرَى- النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ.
وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ قَبْلَ إِضَافَةِ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ أُضِيفَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَجِسًا إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَهُنَا قُدِّمَتِ النَّجَاسَةُ فَحَلَّتْ فِي الْمَاءِ قَبْلَ إِضَافَةِ الْمَادَّةِ الْأُخْرَى فَالْمَاءُ طَاهِرٌ.
أَمَّا إِذَا أُضِيفَتْ مَادَّةُ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَهُنَا قُدِّمَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ عَلَى النَّجَاسَةِ الَّتِي حَلَّتْ.
وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ: أَخْبَرَنِي عَنْ إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَحَصَلَ لَهُمْ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَحْصُلُ لِلْإِمَامِ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَلَوْ صَلَّى شَخْصٌ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ يَحْصُلُ لِلْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَعَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى لِلْحُصُولِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ.
4- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُمْ:
لَنَا شَخْصٌ عَادَ لِسُنَّةٍ لَزِمَهُ فَرْضٌ وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ وَمَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُصَلِّي سَاهِيًا وَقَصُرَ الْفَصْلُ عُرْفًا فَلَهُ السُّجُودُ بَعْدَ قَصْدِ الْعَوْدِ إِلَى الصَّلَاةِ وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ فَلَوْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ حِينَئِذٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ قَبْلَ السُّجُودِ وَلِذَلِكَ يُلْغَزُ فَيُقَالُ: عَادَ لِسُنَّةٍ فَلَزِمَهُ فَرْضٌ.
5- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي الطَّهَارَةِ قَالُوا:
مِمَّا يُعَايَى بِهِ: يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَى جِسْمِ الْإِنْسَانِ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ دَمَ الشَّهِيدِ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَلَا يُزَالُ.
مِنْ مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ:
6- أ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنَّ لِي امْرَأَةً غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ هِيَ وَلَمْ أَرِثْ أَنَا، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا
وَجَوَابُهَا: هَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا لِأُمِّهَا، فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ السُّدُسُ إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَلَا يَبْقَى لِزَوْجِهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ.
ب- امْرَأَةٌ جَاءَتْ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَتْ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنِّي حُبْلَى فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَرِثَ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ.
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَعَمًّا وَامْرَأَةً حُبْلَى مِنْ أَخِيهِ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا تَرِثُ.
وَلَوْ قَالَتْ إِنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَا يَرِثُ وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَحَمْلٍ مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ الْأَبِ جَارِيَةً فَهِيَ أُخْتُهَا لِأَبِيهَا فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِأَوْلَادِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلَا شَيْءَ لِلْغُلَامِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ.
ج- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَايَى بِهَا فِي الْمِيرَاثِ الْمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةُ، فَيُقَالُ: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَالَ مَيِّتٍ فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ وَأَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي وَأَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَأَخَذَ الرَّابِعُ الْبَاقِيَ.
وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَهِيَ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ.
د- الْمَسْأَلَةُ الدِّينَارِيَّةُ فَيُعَايَى بِهَا فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ دِينَارًا وَاحِدًا، وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتًا وَاحِدَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةُ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ سُدُسُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةُ دِينَارٍ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
193-الأضداد لابن الأنباري (خجل)
91 - وخَجِل حرف من الأَضْداد؛ قال ابن السِّكِّيت: قال أَبو عَمْرو: يقال: خَجِل الرَّجُل إِذا مَرِح، وخَجِل إِذا كَسِل. وأَنشد ابن السِّكِّيت:«إِذا دَعا الصَّارِخُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ *** مَرًّا أَمَرْت كُلَّ مَنْشُورٍ خَجِلْ»
المنشور: المشهور الأَمر.
وأَخبرنا أَبو عليّ العَنَزِيّ، قال: حدَّثنا عليّ بن الصّباح، قال: أَخبرنا أَبو المنذر هشام بن محمد، قال: أَخبرني رجل من النَّخَع، قال: أَخبرنا ليث بن أَبي سُلَيْم، عن
منصور بن المعتمر، قال: أَقبلتْ سائلةٌ، فسأَلت عائشة، رحمها الله، ورسول الله صَلّى اللهُ عليه وسَلّم في المتوضَّأ، فقالت عائشة لخادمها: أَعطيها وأَقلِّي، فخرج رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عليه وسَلّم، فقال: يا عائشة لا تُقَتِّري فيقتّر الله عليك، إِنَّكنَّ لتكفُرْنَ العشير، وتَغْلِبْنَ ذا الرَّأْي على رأْيه، إِذا شبعتُنَّ خجِلْتُنَّ، وإِذا جُعْتُنَّ دقِعْتُنَّ.
قال أَبو بَكْر: قال بعض أَهل اللُّغة: خجلتُنَّ، معناه مَرِحْتُنَّ، ودقِعتنّ معناه خضعتنّ؛ يقال: قد دَقع الرَّجُل دَقْعًا، إِذا خضع ولصِق بالتُّراب وبالدَّقْعاء من شدَّة الخضوع. وقالَ أَبو عُبيد: قال أَبو عَمْرو: الدَّقَع: الخضوع في طلب الحاجة والحرْص عليها، والخَجَل: التَّواني في طلب الرزق.
وقالَ ابن السِّكِّيت: قال ابن الأَعْرَابِيّ عن أَبي تمام الأَسَدِيّ: الخَجَل: سوء احتمال الغِنى، والدَّقَع: سوء احتمال الفقر. وقالَ الكُمَيْتُ يمدح قومًا:
«ولَمْ يَدْقَعُوا عِند ما نابَهُمْ *** لِوَقْعِ الحرُوبِ ولَم يَخْجَلُوا»
أَرادَ: ولم يخضعوا ولم يَكْسَلوا ويفشلوا، ويقال: واد خَجِل، إِذا كان كَثير النَّبات؛ لا يكاد أَصحابه يبرحون منه لكمال خصْبه، ويقال: نبات مُخْجِل إِذا كان
كثيرًا، قال أَبو النَّجم: في رَوْضِ ذَفْرَاءَ ورُغْلٍ مُخْجِلِ
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
194-الأضداد لابن الأنباري (الأسود)
233 - ومنها أَيْضًا الأَسود. يقال: أَسْوَد للأَسود، ويقال: دِرْهَم أَسود، إِذا كان أَبيضَ خالص الفِضَّة جيّدها.أَخبرني عمر بن محمد، قالَ: حدَّثنا محمد بن إسحاق، قالَ خبَّرنا أَبو سعيد الأَشجّ، قالَ: خبَّرنا ابن إِدريس، قالَ: سُئِل الأَعمش عن حديث، فأَبى أَن يحدِّث به، فلم يزل أَصحابُ الحديث يُداوِرُونَه، حتَّى استخرجوه منه، فضرب لهم مَثَلًا، فقال: جاءَ قَفَّاف بدراهمَ إِلى صَيْرَفِيّ يُريه إِيَّاها، فقفَّ منها الصَّيرفيّ سبعين درهمًا، فلمَّا وزنها عرف النقصان، فقال:
«عَجِبْتُ عَجيبةَ من ذِئْبِ سُوءٍ *** أَصابَ فَريسةً من لَيْثِ غَابِ»
«وَقَفَّ بكَفِّه سَبْعِينَ منها *** تنقَّاها من السُّودِ الصِّلاَبِ»
«فإِنْ أُخْدَعْ فقد يُخْدَعْ ويُؤخذ *** عَتِيق الطَّيرِ مِنْ جَوِّ السَّحابِ»
وقالَ بعضهم: ليس الأَسود من الأَضْداد؛ لأَنَّ الدِّرهم؛ إِذا وصف بالسَّواد فإِنَّما يذهب به إِلى أَنَّه قديم الفضَّة جيّدها، وأَنَّه قد تغيَّر لونه، واسودَّ بعضَ الاسوداد، لمرور الأَيَّام واللَّيالي.
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
195-الأضداد لابن الأنباري (يسألونك عن ذي القرنين)
237 - وممَّا يفسّر من كتاب الله عزّ وجلّ تفاسير متضادة قوله تعالى: ويَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ، فقال خالد بن مَعْدان: سَمع عمر رحمه الله رجلًا يقول لِرَجلٍ: يا ذا القرنين، فقال: أَما ترضوْن أَن تسمّوا بأَسماء الأَنبياء، حتَّى صرتم تسمَّوْن بأَسماء الملائكة! وقال عبد الله بن عمر: ذو القرنين نبيّ.وحدَّثنا محمد بن يونس، قال: حدثَّنا الفضل بن دكين، قال: حدَّثنا العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد، قال: مَلَك الأَرضَ: شرقَها وغربَها أَربعة: مؤمنان وكافران، فأَمَّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأَمَّا الكافران فالَّذي حاجّ إِبراهيم في ربّه - يعني نمروذ، وبخت نَصَّر. وقال أَبو الطفيل عامر بن واثلة: شهدتُ عليّ بن أَبي طالب رضوان الله عليه قام إِليه رجل، فقال: يا أَمير المؤمنين، أَخبرني عن ذي القرنين، أَنبيًّا كان أَم مَلِكًا؟ فقال: ليس بنبيّ ولا مَلِك، ولكنَّه عبد صالح أَحبَّ الله فأَحبَّه، وناصح الله فناصحه، بعثه الله عزّ وجلّ إِلى قومه فضربوه على
قرنه الأَيمن فمات، ثمَّ أَحياه الله فدعاهم، فضربوه على قرنه الأَيسر فمات، وفيكم مثله. وقال الحسن: إِنَّما سمِّيَ ذو القرنين ذا القرنين؛ لأنَّه كان في رأْسه ضفيرتان من شَعَر يطأُ فيهما، قال لَبيد بن ربيعة:
«والصَّعْب ذو القرنين أَصبح ثاويًا *** بالحِنْوِ في جَدَثٍ أُمَيْمَ مُقِيم»
أَراد بذي القرنين النُّعمان بن المنذر، لأَنَّه كانت في رأْسه ضفيرتا شعر.
وقال ابن شهاب الزّهريّ: سُمِّي ذا القرنين؛ لأَنَّه بلغ قَرْنَ الشَّمس من مشرقها، وقرنها من مغربها.
وقال وهب بن منبّه: سُمِّيَ ذا القرنين، لأَنَّه ملك فارس والروم.
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
196-الأضداد لابن الأنباري (العاديات ضبحا)
265 - وممَّا يفسّر من كتاب الله عزّ وجلّ تفسيرين متضادَّين قوله: والعَادِيَاتِ ضَبْحًا، يقول بعضهم: العاديات الخيل، والضَّبْح: صوت أَنفاس الخيل إِذا عَدَوْن؛ يُقال: قد ضَبَح الفرس، وقد ضَبَح الثعلب، وكذلك ما أَشبههما. ويُقال: العاديات: الإِبل، وضَبْحًا، معناه ضَبْعًا، فأُبدلت الحاءُ من العين، كما تقول العرب: بُعْثِر ما في القبور، وبُحْثِر ما في القبور؛ فمن قال: العاديات: الخيل، قال: هي المُوريات قَدْحًا؛ لأَنَّها تُورى النَّار بسنابكها؛ إِذا وقعتْ على الحجارة، وهي المغيرات صبحا.ومن قال: العاديات: الإِبل، قال: الموريات قدحًا، الرِّجال؛ يُتبيَّن من رأْيهم ومكرهم ما يُشبه النَّارَ الَّتي تورى في القَدْح. والمغيرات صبحا: الإِبل، يُذْهَب إِلى أَنَّها تعدو في بعض أَوقات الحجّ وكذلك تُغير، على أَنَّ الإِسراع بها يشبه الإِسراع في حلال الإِغارة.
حدَّثني أَبي، قال: حدَّثنا الحسن بن عرفة، قال: حدَّثنا يونس المؤدب، قال: حدَّثنا حماد، عن سماك، عن عكرمة، قال: الموريات قدحا الأَلسنة. وكان عليّ بن أَبي طالب رضوان الله عليه يقول: العاديات: الإِبل. وكان ابن عباس رحمه الله يقول: العاديات: الخيل.
أَخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدَّثنا أَبو همام، قال: حدَّثنا ابن وهب، قال: أَخبرني أَبو صخر، عن أَبي معاوية البجليّ، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، أَنَّه
حدَّثه، قال: بينما أَنا جالس في الحِجْر، جاءَني رجل، فسأَلني عن العاديات ضَبْحا، فقلت: هي الخيلُ حين تُغِيرُ في سبيل الله، ثمَّ يَأْوون باللَّيل، فيصنَعون طعامهم، ويُورُون نارهم. فانفتل عنِّي وذهب إِلى عليّ بن أَبي طالب رضي الله عنه، وهو تحت سِقاية زمزم، فسأَله عن العاديات ضَبْحا، فقال له: أَسأَلت عنها أَحدًا قبلي؟ قال: نعم، سأَلت ابن عباس فقال: هي الخيل حين تُغير في سبيل الله. فقال: اذهب فادْعُه لي، فلمَّا وقفتُ على رأْسه، قال: إِنْ كانت أَوَّل غزوة في الإِسلام لَبَدْرًا، وما كان معنا إِلاَّ فَرَسان: فرس للزبير وفرس للمقداد. فكيف تكون العاديات الخيل! إِنَّما العاديات ضَبْحا، مِنْ عَرفة إِلى المزدلفة، ومن المزدلفة إِلى مِنًى، فإِذا كان الغد فالمُغيرات صُبْحا إِلى مِنًى؛ فذلك جمع، فأَمَّا قوله: فَأَثَرْنَ به نَقْعًا فهو نَقْع الأَرض حين تطؤُه بأَخفافها. قال ابن عباس: فنزعتُ عن قولي، ورجعتُ إِلى قول عليّ عليه السَّلام.
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
197-الأضداد لابن الأنباري (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما)
293 - ومنه أَيْضًا: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فاسْتَقِيمَا، قال: الخطاب لموسى عليه السَّلام وحده لأَنَّه هو الَّذي دَعَا فخُوطب بالتثنية، كما قال تعالى: أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، وإِنَّما يخاطب مالكًا وحده.ومن هذا قول العرب للواحد: قوما واقعدا، وقول الحجَّاج: يا حرسيّ اضربَا عنقه. ويُقال: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكما، خطاب لموسى وهارون عليهما السَّلام، لأَنَّ موسى
دعا وقال هارون: آمين، فكان كالدَّاعي، لأنَّ تفسير آمين كذلك يكون، واللَّهمَّ استجب.
أَخبرني أَبو علي المقرئ، قال: حدَّثنا الحسن بن الصباح، قال: حدَّثنا الخفاف، قال: قال إِسماعيل: كان الحسن إِذا سئل عن تفسير آمين، قال: اللهمَّ استجب، وفيها لغتان: أَمين، وآمين؛ وقد استقصينا الكلام فيها في كتاب غريب الحديث.
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
198-الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (4 بلال بن رباح)
4 - بلال بن رباح (*).وأُمُّه حَمامة، أعتقه أبو بكر الصديق، وقال له: "إنْ كنت إنَّما اشْتَرَيْتَني لله فَدَعْنِي وَعَمَل الله، وإنْ كنتَ إنَّما اشْتَرَيْتَني لنفسك، فأمْسِكْني لِنَفْسِك".
وكان يَخْدُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وُيؤَذِّن له حَضَرًا وسفَرًا، ولم يُؤَذِّن بعده لأحد وخرج في الغزو والجهاد إلى الشام حتى مات بها بطاعون عمواس.
وكان حَسَن الصوت، من أفصح الخلق، وما روي: أنه كان يبدل "الشين" "سينًا" لا أصْل لهُ.
وشهد المشاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر معه، وكان مِمَّنْ أُوذِيَ في ابتداء الإسلام إيذاءً شديدًا، بحيث توضعُ الصخرة على بطْنِه في شِدَّة الحَرِّ ويقال
لَهُ: لا نرفعها عنك حتى تكفر بمحمدٍ، وهو مع ذلك يقول: "أحدٌ أحد". وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخْبِرْني بأرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَه في الإسلام، فإنَي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْك بيْن يدي في الجَنَّة. فقال: لَمْ أعْمل عَمَلًا أرْجَى عِنْدي من أَنِّي لم أتطهر في ساعة من ليل، ولا نهار إلَّا صَلَّيت ما كتَب الله لي".
ودفن بدمشق، وأما تعيين قَبْرِه في موضع فَمَحَلُّ احتمال. وكان عُمَر يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سَيدَنا، يعني بلالًا رضي الله عنهم".
الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي-جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بـ «ابن المبرد»-توفي: 909هـ/1503م
199-الغريبين في القرآن والحديث (حشش)
(حشش)وفي حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما: (فدخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحشحشنا) أي: تحركنا. حدثنا أبو بكر الرازي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه قال أخبرني من سمع عليًا يقول: (أردت أن أخطب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته ثم ذكرت أنه لا شيء لي، فذكرت عائدته وفضله، فخطبتها إليه فقال هل عندك شيء تعطيها إياه، فقلت: لا، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتكها يوم كذا وكذا، قلت: هي عندي، قال: فأت بها قال: فجئت بها فأعطيته إياها، فزوجنيها، فلما أدخلها علي، قال: لا تحدثا شيئًا حتى أتيكما فجاءنا وعلينا كساء أو قطيفة فلما رأيناه تحشحشنا، فقال مكانكما، فدعا بإناء فيه ماء فدعا فيه ثم رشه علينا فقلت: يا رسول الله هي أحب إليك أم أنا؟ فقال: هي أحب إلي منك وأنت أعز علي منها).
يقال: سمعت له حشحشة، وخشخشة أي: حركة.
وفي حديث عمر: (أنه قيل له هذه امرأة كانت حاملًا من زوجها الأول فلما مات حش ولدها في بطنها) قال أبو عبيد: حش أي: يبس، يحش وأحشت المرأة فهي محش إذا صار ولدها كذلك، وفيه قيل لليد إذا شلت قد حشت، وقال ابن شميل: الحش الولد الهالك في بطن أمه.
وفي حديث عائشة تصف أباها فقالت: (فأطفأ ما حشت يهود) أي يعني: ما أوقدت من نيران الفتنة والحرب - يقال: حششت النار وأحششتها وألهبتها واحد.
وفي الحديث: أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لابي بصير: (ويل أمه محش حرب لة كان معه [155 ب] رجال (يقال: حشر الحرب إذا أسعرها وهاجها كما تحش النار.
وفي الحديث: (إن رجلًا كان في غنيمة يحش عليها (قيل: إنما هو يهض - بالهاء - أي: يضرب أغصان الشجرة حتى ينحات ورقها. قال الله تعالى: {وأهش بها على غنمي}.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
200-الغريبين في القرآن والحديث (شمت)
(شمت)قوله تعالى: {فلا تشمت بي الأعداء} الشماتة: فرح الأعداء ببلية تنزل بمن يعاديهم، يقال: شمت به يشمت.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام (ولا تطع في عدوًا شامتًا) أي لا تفعل بي ما يحب.
أخبرنا ابن عمار عن أبي عمر قال: أخبرني الباري قال: سألت المبرد عن الشماتة، فقال: هي تقلب قلب الحاسد في حالاته الحزن والفرح، وهي مأخوذة من الشوامت، وهي قوائم الفرس لأنها تتقلب نشاطًا وكلًا وعدوًا ووقوفًا.
وفي الحديث (فشمت أحدهما ولم يشمت الأخر) قال أبو عبيد: [130 أ] شمت العاطس وسمته- بالسين والشين- إذا دعي له بالخير والشين على اللغتين، قال أبو بكر: يقال شمت فلانًا وسمت عليه إذا دعوت له وكل داع بالخير مشمت ومسمت، وقال أحمد بن يحيي الأصل فيها السين من ألمت، وهو القصد والهدى.
ومنه الحديث في ترويج فاطمة- رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - دعي لهما وشمت عليهما ثم خرج)
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
201-الغريبين في القرآن والحديث (عصو)
(عصو)في الحديث: (لا ترفع عصاك عن أهلك) كأنه أراد الأدب، ولم يرد
العصا التي يضرب بها، أخبرني الثقة عن أبي عمر عن ثعلب، قال: إنما معناه لا تدع تأديبهم واجمعهم على طاعة الله تعالى، يقال: شق العصا إذا فارق الجماعة، قال أبو عبيد: وأصل العصا الاجتماع والائتلاف، ومنه قيل للخوارج: (شقوا عصا المسلمين) أي فرقوا جماعتهم، وقول
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
202-الغريبين في القرآن والحديث (فقر)
(فقر)قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} قال ابن عرفة: أخبرني أحمد بن
يحيى عن محمد بن سلام قال: قلت ليونس: أفرق لي بين المسكين والفقير فقال: الفقير الذي يجد القوت والمسكين: الذي لا شيء له، وقال ابن عرفة: الفقير عند العرب: المحتاج، قال تعالى: {أنتم الفقراء إلى الله} أي: المحتاجون إليه، وأما المسكين فالذي قد أذله الفقر فإذ
وقال الشافعي- رحمه الله-: الفقراء: الزمنى الذين لا حرفة لهم وأهل الحرف الذين لا تقع حرفتهم من حاجتهم موقعا والمساكين: السؤال ممن له حرفة تقع موعا ولا يغنيه وعياله.
قوله تعالى: {تظن أن يفعل بها فاقرة} أي: داهية من العذاب يقال: فقره إذا أصاب فقار ظهره كما يقال: رأسه وبطنه، قال الأصمعي: الفقر: أن تحز أنف البعير حتى يخلص الحز إلى العظم ثم يلوى عليه جرير يذلل بذلك الصعب من الإبل ومنه قيل: قد عملت به الفاقرة.
في حديث الشعبي: (فقرات ابن آدم ثلاث يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا).
قال أبو الهيثم: هي الأمور العظام كما قيل في عثمان- رضي الله عنه-: (استحلوا منه الفقر الثلاث: حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام وحرمة الخلافة) وروى القتيبي لعائشة رضي الله عنها- قالت في عثمان: (المركوب منه الفقر الأربع).
قال القتيبي: الفقر: خزرات الظهر الواحدة: فقرة، ضربت فقر الظهر مثلا لما ارتكب منه؛ لأنها موضع الركوب وأرادت أنه ركب منه أربع حرم فانتهكوها وهي حرمته وصهره وحرمة البلد وحرمة الخلافة وحرمة الشهر الحرام.
وقال الأزهري: هي الفقر بضم الفاء.
وقال أبو زياد: يفقر الصعب ثلاث فقر في خطمه.
وفي حديث سعد (فأشار إلى فقر في أنفه) أي: شق وحز كان في أنفه.
وفي حديث عبد الله بن أنيس (ثم جمعنا المفاتيح فطرحناها في فقير من النخل) وكذلك في حديث حويصة ومحيصة (فوجدا عبد الله مطروحا في فقير من فقر خبير) أي: بئر من آبارها، وفقير النخلة: حفرة تحفر للفسيلة إذا جولت، والفقير: فم القناة.
ومنه حديث عمر رضي الله عنه وذكر امرأ القيس فقال: (افتقر عن معان عور أصح بصر) أي: فتح عن معان غامضة، يقال: ركية عور أي: مندفنة.
قال أبو العباس: سمي سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا الفقار؛ لأنه كانت فيه حفر صغار حسان.
قال أبو عبيد: والمفقر من السيوف: ما فيه حزوز مطمئنة. ويقال للحفرة فقرة وللبئر العتيقة فقير.
قال الوليد بن عبد الملك: (أفقر بعد مسلمة الصيد لمن رمى) يقول: أمكن الرمى من أراد رمي الإسلام بعده وكان مسلمة صاحب مغاز وسداد ثغر فلما مات وهت الثغور، يقال أفقرك الصيد فارمه أي: أمكنك.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
203-الغريبين في القرآن والحديث (قبع)
(قبع)في الحديث: (كانت قبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة) حدثناه أبو بكر الرازي حدثنا محمد بن أيوب قال: أخبرني سهل بن بكار عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس قال: (كان قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة) قال الليث: هي التي تكون على رأس القائم وربما اتخذت قبيعة من فضة على رأس السكين، وقال شمر: هو ما تحت الشاربين مما يكون فوق الغمد فيجيء مع قائم السيف.
وفي حديث ابن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لفلان: (قاتله الله ضبح ضبحة الثعلب وقبع قبعة القنفذ) قوله قبع: أي أدخل رأسه واستخفى كما يفعل القنفذ.
وفي بعض الحديث: (إن مكيالكم لقباع) أراد إنه لذو قعر يقال: قبعت الجوالق ثنيت أطرافه إلى داخل وخارج.
ومن رباعيه: (قبعثر)
في حديث المفقود: (فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فحملني على خافية من خوافيه) قال أبو العباس: القبعثري: الجمل الضخم وهو الهمرجل والشمرول.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
204-الغريبين في القرآن والحديث (محل)
(محل)قوله تعالى: {وهو شديد المحال} قال أبو بكر: قال أبو العباس: المحال: مأخوذ من قول العرب: محل فلان بفلان أي سعى به إلى السلطان وعرضه لما يهلكه، قال غيره: ومنه يقال: تمحلت الدراهم إذا سعيت في طلبها، وروى ابن اليزيدي عن أي زيد: (وهو شديد المحال) أي النقمة، وقال الأزهري: {شديد المحال} أي القوة والشدة المحل الشدة، الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا، أي قاويته أينا أشد، وقال أبو عبيدة: المحال: العقوبة والمكروه، وقال اللحياني عن الكسائي: محلني أي قوني، وقال ابن عرفه: المحال: الجدال: يقال: ما حل عن أمره أي جادل، ومنه قول ذي الرمة:
«ولبس من أقوام وكل *** أعد له الشغازب والمحالا»
ومنه حديث أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلي عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسوله أخبرني عن إلهك هذا أهو من فضة أم ذهب أم نحاس فاستعظم ذلك فرجع إليه فأعلمه فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة وعاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل} وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}).
قال القتيبي أي شديد الكيد: وأصله من الحيلة جعل ميمه كميم المكان، وأصله من الكون ثم يقال تمكنت، قال الأزهري غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميسم مكسورة فهي أصلية مثل مهاد وملاك، ومراس وغير ذلك من الحروف ومفعل إذا كان باب الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل مزود ومحول ومحور وغيرها من
الحروف، وقال غيره: قرأ الأعرج: {هو شديد المحال} بفتح الميم جاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول.
وفي حديث الساعة: (أن إبراهيم عليه السلام يقول: أنا الذي كذبت ثلاث كذبات، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من كذبة إلا وهو يماحل بها في الإسلام) أي يماكر يقال: محل به إذا وشى به وسعى به.
ومنه الحديث: (ألقرآن شافع مشفع وماحل مصدق) أي: ساع مصدق، وقيل: خصم مجادل مصدق.
وفي الحديث: (عهدهم لا ينقض عن شية ماحل) معناه لا ينتقض من أجل وشاية واش.
وفي حديث علي رضي الله عنه: (إن من ورائكم أمورا متماحلة) أي فتنا طويلة المدة والمتماحل من الرجال: الطويل.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
205-الغريبين في القرآن والحديث (نشش)
(نشش)في الحديث (لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من ثنتي عشرة أوقية ونش)
قال مجاهد: الأوقية أربعون والنش عشرون.
وقال ابن الأعرابي: النش: النصف من كل شيء ونش الرغيف نصفه.
وفي حديث عمر رضي الله عنه (كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة).
قال أبو عبيد: هو ينس الناس بالسين أي ينوس أي يتناولهم بالدرة، والنس السوق الشديد، وقال شمر صح الشين عنه شعبة وهو صحيح، قال ابن الأعرابي: النش السوق الرفيق يقال نشنش الرجل الرجل إذا دفعه وحركه.
قال: ونشنش ونش بمعنى نسنس أي ساق وطرد.
وحديث عمر رضي الله عنه: (قال لابن عباس: نشنشة أعرفها من أخزم): يعني حجرا من جبل، والتعبير في الحديث.
حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن مالك الرازي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى بن شيخ بن عميرة الأسدي، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عاصم بن كليب قال أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: (كان عمر إذا صلى صلاة جلس الناس فمن كانت له حاجة كلمه وإبن لم يكن لأحد حاجة قام فدخل فصلى صلوات لا يجلس للناس فيهن).
قال ابن عباس حضرت الباب فقلت يايرفأ أبأمير المؤمنين شكاه فقال ما بأمير المؤمنين شكوي فجلست فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه: فجلس فخرج يرفأ فقال: قم يا عثمان بن عفان قم يا ابن عباس فدخلنا على عمر فإذا
بين يديه صبر من مال على كل صبرة منها كتف. فقال عمر: إني نظرت في أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة فخذا هذا المال فاقتسماه فما كان من فضل فردا فأما عثمان فحثا وأما أنا فجثوث على ركبتي فقلت: وإن كان نقصانًا رددت علينا فقال عمر: نشنشة أعرفها من أخش
وفي حديث عطاء (في الفأرة تموت في السمن الذائب أو الدهن فقال ينش وتدهن به إن لم تقذره) قال ابن الأعرابي: النش الخلط وزعفران منشوش.
وفي كلام الشافعي: رحمه الله في صفة الأدهان مثل البان المنشوش بالطيب أي مخلوط.
وفي الحديث (فإذا نش فلا تشرب) أي: إذا غلى، والخمر نشيشًا إذا أخذت تغلي.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
206-الغريبين في القرآن والحديث (هرد)
(هرد)في خبر عيسى عليه السلام: (أنه ينزل في ثوبين مهرودتين) أي في شقتين أو حلتين وقال شمر عن أبي عدنان أخبرني العالم من أعراب باهلة أن الثوب يصبغ بالورس ثم بالزعفران فيجئ لونه مثل لون زهرة الحودانة فذلك الثوب المهرود.
وقال القتيبي: هو عندي خطأ من النقلة وأراه مهروتين أي: صفرواين، يقال: هريت العمامة إذا لبستها صفراء وكأن فعلت منه هروت.
وقال أبو بكر: روى هذا الحرف مهروذتي بالذال ومهرودتين بالدال كل قد روي.
وقال ابن قتيبة: إن كان الحديث روي مهروذتين وهو ما حكى من الثوب والهرد والهرت وهو الشق.
وكان المعنى بين شقتين، قال: والشقة: نصف الملاءة.
قال أبو بكر: وكل ما قاله: إن صوابه مهروتين: فيه خطأ لأن العرب لا تقول: هروت الثوب ولكنهم يقولون: هريت فلو بني على هذا لقيل مهراة في دائم على ما لم يسم فاعله.
وبعد فإن العرب لا تقول: هريت إلا في العمامة خاصة، فليس له أن يقيس الشقة على العمامة لأن اللغة رواية وقوله: (بين مهرودتين) أي: بين شقتين أخذتا من الشق خطأ، لأن العرب لا تسمي الشق للإصلاح هرد بل يسمونه الإفراق، والإفساد هردًا وقال ابن السكيت: يقال: هرد ا
وروي في حديث آخر أنه عليه السلام وصف عيسى فقال: رجل مربوع إلى البياض والحمرة يمشي بين ممصرتين والدال والذال أختان تبدل إحداهما من الأخرى، يقال: رجل مدل ومذل إذا كان قليل الجسم خفي الشخص وكذلك الدال والذال في قوله مهرودتين وقال بعضهم:
ومنه أخذ الثوب المهرود الذي يصبغ بالعروق والعروق يقال لها الهرد.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
207-الغريبين في القرآن والحديث (وأل)
(وأل)قوله تعالى: {موئلا} أي: ضحى مفعل من مال يئل إذا لجأ فهو مائل سمى الرجل مائلا.
وفي الحديث: (فوألنا إلى حواء) أي: لجأنا إليه.
وفي حديث علي رضي الله عنه (أن درعا كانت صدرا بلا مؤخر فقيل له: هلا احترزت من ظهرك؟ فقال: إذا أمكنت من ظهري فلا وألت) أي: لا نجوت.
وفي حديثه: (أنه قال لفلان: أنت من بني فلان؟ قال: نعم، قال: فأنت من وألة إذا قم فلا تقربني) أخبرني الثقة عن أبي عمر عن ثعلب قال ابن الأعرابي: هذه قبيلة خسيسة سميت بالوألة، وهي البقرة الوحشية.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
208-المغرب في ترتيب المعرب (رأي-ورأت المرأة ترية)
(رأي) [صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ] اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ لِوَقْتِ رُؤْيَتِهِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ (وَرَأَتْ الْمَرْأَةُ تَرِيَّةً) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفهَا بِغَيْرِ هَمْزَة وَتَرْئِيَةٌ مِثْلُ تَرْعِيَةٍ وَتَرْئِيَةٌ بِوَزْنِ تَرْعِيَةٍ وَهِيَ لَوْنٌ خَفِيٌّ يَسِيرٌ أَقُلُّ مِنْ صُفْرَةٍ وَكُدْرَةٍ وَقِيلَ هِيَ مِنْ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا عَلَى لَوْنِهَا (وَالتُّرْبِيَّةُ) عَلَى النِّسْبَةِ إلَى التُّرْبِ بِمَعْنَى التُّرَابِ وَقَوْلُهُ [أَمَا تَرَيْ يَا عَائِشَةُ] الصَّوَابُ أَمَا تَرَيْنَ و حَتَّى تَرَيْنَ فِي (ق ص) [وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ] أَيْ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِكَيْ يَرَاهُ النَّاسُ شَهَّرَ اللَّهُ رِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَايَا بِالْيَاءِ خَطَأٌ (وَالرَّأْيُ) مَا ارْتَآهُ الْإِنْسَانُ وَاعْتَقَدَهُ (وَمِنْهُ) رَبِيعَةُ الرَّأْيِ بِالْإِضَافَةِ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ هِلَالُ الرَّأْيِ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْوَقْفِ وَالرَّازِيُّ تَحْرِيفٌ هَكَذَا صَحَّ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنَاقِبِ الصَّيْمَرِيِّ وَهَكَذَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي مُشْتَبَهِ النِّسْبَةِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ شَيْخُنَا إلَى الْمُتَشَابِهِ كَذَلِكَ (وَمَا أُرَاهُ) يَفْعَلُ كَذَا أَيْ مَا أَظُنُّهُ (وَمِنْهُ) الْبِرَّ تَرَوْنَ بِهِنَّ وَذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً أَيْ أَظَنُّ أَنَّ مَا فِيهَا بَطْنِهَا أُنْثَى و أَرَأَيْتَ زَيْدًا وارأتيك زَيْدًا بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي وَعَلَى هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ قُلْتُ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ بِالنَّصْبِ (وَمِنْهُ) فَمَهْ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَفِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ أَخْبَرَنِي أَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَاقُ وَيُبْطِلُهُ عَجْزُهُ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
209-المغرب في ترتيب المعرب (زمل-زمله)
(زمل) (زَمَّلَهُ) فِي ثِيَابِهِ لِيَعْرَقَ أَيْ لَفَّهُ (وَتَزَمَّلَ) هُوَ وَازَّمَّلَ تَلَفَّفَ فِيهَا (وَفِي الْحَدِيثِ) زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَفِي الْفَائِقِ فِي دِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَالْمَعْنَى لُفُّوهُمْ مُتَلَطِّخِينَ بِدِمَائِهِمْ وَزَمَلَ الشَّيْءَ حَمَلَهُ (وَمِنْهُ) الزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ وَطَعَامَهُ (وَمِنْهَا) قَوْلُهُمْ تَكَارَى شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ هَذَا هُوَ الْمُثْبَتُ فِي الْأُصُولِ ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا الْعِدْلُ الَّذِي فِيهِ زَادُ الْحَاجِّ مِنْ كَعْكٍ وَتَمْرٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَهُمْ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ وَعَلَى ذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ - اكْتَرَى بَعِيرَ مَحْمِلٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِ زَامِلَةً يَضْمَنُ لِأَنَّ الزَّامِلَةَ أَضَرُّ مِنْ الْمَحْمِلِ وَنَظِيرُهَا الرَّاوِيَةُ وَعَكْسُهَا مَسْأَلَةُ الْمَحْمِلِ (وَالزَّمِيلُ) الرَّدِيفُ الَّذِي يُزَامِلُكَ أَيْ يُعَادِلُكَ فِي الْمَحْمِل (وَمِنْهُ) الْحَدِيثُ [وَلَا يُفَارِقُ رَجُلٌ زَمِيلَهُ] أَيْ رَفِيقَهُ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
210-المغرب في ترتيب المعرب (سهم-السهم)
(سهـم) (السَّهْمُ) النَّصِيبُ وَالْجَمْعُ أَسْهُمٌ وَسِهَامٌ وَسُهْمَانٌ وَإِنَّمَا أُضِيفَ (عُبَيْدُ السِّهَامِ) إلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ الْوَاقِدِيَّ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ حَسَنَةَ لِمَ سُمِّيَ عُبَيْدُ السِّهَامِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ كَانَ قَدْ اشْتَرَى مِنْ سِهَامِ خَيْبَر ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَسُمِّيَ بِذَلِكَ (وَفِي) كِتَابِ الطِّلْبَةِ [أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْهِمَ قَالَ لَهُمْ هَاتُوا أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَأُتِيَ بِعُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ صِبْيَانِ الْأَنْصَارِ فَدَفَعَ إلَيْهِ السِّهَامَ] فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ ضَبُعِ بْنِ عَامِرٍ شَهِدَ أُحُدًا (وَالسَّهْمُ) أَيْضًا قِدْحُ الْقِمَارِ وَالْقِدْحُ الَّذِي يُقْتَرَعُ بِهِ (وَمِنْهُ) سَاهَمَهُ قَارَعَهُ وَالْأَصْلُ سَهْمُ الرَّمْيِ (وَبِتَصْغِيرِهِ) مَعَ زِيَادَةِ الْهَاءِ سُمِّيَتْ سُهَيْمَةُ امْرَأَةُ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَحَدِيثُهَا فِي الْمُعْرِبِ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
211-المغرب في ترتيب المعرب (عزب-رجل عزب)
(عزب) (رَجُلٌ عَزَبٌ) بِالتَّحْرِيكِ لَا زَوْجَ لَهُ وَلَا يُقَالُ أَعْزَبُ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ شَابٌّ (أَعْزَبُ) وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الْأَيِّمُ مِنْ النِّسَاءِ مِثْلُ (الْأَعْزَبِ) مِنْ الرِّجَالِ وَيُقَالُ امْرَأَةٌ عَزَبٌ أَيْضًا أَنْشَدَ الْجَرْمِيُّ يَا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبِ عَلَى ابْنَةِ الْحُمَارِسِ الشَّيْخِ الْأَزَبِّ وَلَك أَنْ تَقُولَ امْرَأَةٌ عَزَبَةٌ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
212-المغرب في ترتيب المعرب (أفعال القلوب)
(أَفْعَالُ الْقُلُوبِ) وَهِيَ حَسِبْت، وَخِلْت، وَظَنَنْت، وَأَرَى بِمَعْنَى أَظُنُّ، وَعَلِمْت، وَرَأَيْت، وَوَجَدْت، وَزَعَمْت إذَا كُنَّ بِمَعْنَى مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِصِفَةٍ تَنْصِبُ الِاسْمَ، وَالْخَبَرَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ تَقُولُ: حَسِبْت زَيْدًا مُنْطَلِقًا، وَعَلِمْت عَمْرًا فَاضِلًا، وَأَرَى زَيْدًا مُنْطَلِقًا، وَعَلِمْت عَمْرًا فَاضِلًا، وَأَرَى زَيْدًا قَائِمًا، وَمِنْهُ الْبِرَّ تَرَوْنَ بِهِنَّ، وَيُقَالُ: أَرَأَيْت زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَأَرَيْتُك زَيْدًا بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي، (وَعَلَيْهِ) قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَفْعَلُ، (وَفِي الْحَدِيثِ) [أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ] . (وَهِيَ أَنْوَاعٌ) : عَامِلٌ، وَغَيْرُ عَامِلٍ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَنْظُورٌ (فِيهِ فَالْأَوَّلُ) : ضَرْبَانِ: عَامِلٌ فِي الِاسْمِ، وَعَامِلٌ فِي الْفِعْلِ، (وَالْعَامِلُ فِي الِاسْمِ) صِنْفَانِ: عَامِلٌ فِي الْمُفْرَدِ، وَالْعَامِلُ فِي الِاسْمِ صِنْفَانِ: عَامِلٌ فِي الْمُفْرَدِ، وَعَامِلٌ فِي الْجُمْلَةِ (فَالْأَوَّلُ) : مَا تَجُرُّ الِاسْمَ، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ: (مِنْ) : لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ نَحْوَ خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ، وَلِلتَّبْعِيضِ نَحْوُ أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلِلْبَيَانِ نَحْوُ عَشَرَةٍ مِنْ الرِّجَالِ، وَزَائِدَةٌ نَحْوُ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ. (وَإِلَى) : لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ نَحْوُ، وَصَلْت إلَى الْكُوفَةِ، وَتَفْسِيرُهَا بِمَعْنَى مَعَ مَرْوِيٌّ عَنْ الْمُبَرِّدِ، (وَمِنْهُ) قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} (وَفِي) : لِلظَّرْفِيَّةِ نَحْوُ الْمَالُ فِي الْكِيسِ وَأَمَّا نَظَرْت فِي الْكِتَابِ فَمَجَازٌ (وَالْبَاءُ: لِلْإِلْصَاقِ، وَالِالْتِبَاسِ) نَحْوُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَبِهِ دَاءٌ (وَاللَّامُ) : لِلِاخْتِصَاصِ نَحْوَ الْمَالُ لِزَيْدٍ، وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَهُوَ ابْنٌ لَهُ، وَأَخٌ لَهُ، وَأَصْلُهَا الْفَتْحُ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ مَعَ الْمُظْهَرِ فَرْقًا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ لَامِ الِابْتِدَاءِ (وَرُبَّ) : لِلتَّقْلِيلِ، وَمُخْتَصٌّ بِالنَّكِرَةِ نَحْوُ رُبَّ رَجُلٍ لَقَيْتُهُ، وَيُضْمَرُ بَعْدَ الْوَاوِ نَحْوُ وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ (وَوَاوِ) الْقَسَمِ (وَتَائِهِ) : نَحْوُ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَتَاللَّهِ، وَهِيَ - أَعْنِي الْوَاوَ - بَدَلٌ مِنْ الْبَاءِ، وَلِذَا لَا تَدْخُلُ إلَّا عَلَى الْمُظْهَرَاتِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مَعَهَا الْفِعْلُ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (وَحَتَّى) : بِمَعْنَى إلَى نَحْوَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا، وَنِمْت الْبَارِحَةَ حَتَّى الصَّبَاحِ (وَعَلَى) : لِلِاسْتِعْلَاءِ نَحْوَ زَيْدٌ عَلَى السَّطْحِ عَلَيْهِ ثَوْبٌ (وَعَنْ) : لِلْبُعْدِ وَالْمُجَاوَزَةِ نَحْوُ بِعْت عَنْ الْغَائِبِ كَذَا، وَرَمَيْت عَنْ الْقَوْسِ وَالْكَافُ: لِلتَّشْبِيهِ نَحْوَ جَاءَنِي الَّذِي كَزَيْدٍ، (وَمِنْهَا مُذْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ (كَمْذَا) فِي الْمَكَانِ نَحْوَ مَا رَأَيْته مُذْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمُنْذُ الْجُمُعَةِ، وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تَكُونُ أَسْمَاءً أَيْضًا، (وَحَاشَا، وَخَلَا، وَعَدَا) بِمَعْنَى إلَّا نَحْوَ أَسَاءَ الْقَوْمُ حَاشَا زَيْدٍ، وَجَاءُوا خَلَا زَيْدٍ، وَعَدَا زَيْدٍ، وَيَجُوزُ خَلَا زَيْدًا، وَعَدَا زَيْدًا بِالنَّصْبِ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِمَا مَا الْمَصْدَرِيَّةُ فَالنَّصْبُ لَا غَيْرَ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ مَا خَلَا زَيْدًا، وَمَا عَدَا زَيْدًا. (وَالصِّنْفُ الثَّانِي) : (إنَّ وَأَنَّ) لِلتَّوْكِيدِ، (وَكَأَنَّ) لِلتَّشْبِيهِ، (وَلَكِنَّ) لِلِاسْتِدْرَاكِ، (وَلَيْتَ) لِلتَّمَنِّي، (وَلَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي تَنْصِبُ هَذِهِ السِّتَّةُ الِاسْمَ، وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، وَبَلَغَنِي أَنَّ زَيْدًا ذَاهِبٌ، وَكَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ، وَمَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنَّ عُمْرًا جَاءَنِي، وَجَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنَّ عَمْرًا لَمْ يَجِئْ، وَلَيْتَ عَمْرًا حَاضِرٌ، وَلَعَلَّ بَكْرًا خَارِجٌ، (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ أَنَّ وَإِنَّ هُوَ أَنَّ الْمَكْسُورَةَ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا جُمْلَةٌ وَالْمَفْتُوحَةَ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا مُفْرَدٌ، وَلِذَا يُحْتَاجُ إلَى فِعْلٍ أَوْ اسْمٍ قَبْلَهَا حَتَّى كَانَ كَلَامًا تَقُولُ: عَلِمْت أَنَّ زَيْدًا فَاضِلٌ حَقٌّ أَنَّ زَيْدًا ذَاهِبٌ، (وَلَا يَجُوزُ) تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا جَازَ فِي كَانَ إلَّا إذَا وَقَعَ ظَرْفًا نَحْوَ إنَّ فِي الدَّارِ زَيْدًا، وَإِنَّ أَمَامَك رَاكِبًا، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً}، وَ {إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ} (وَ) {إنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا}، (وَيُبْطِلُ) عَمَلَهَا الْكَفُّ، وَالتَّخْفِيفُ، وَحِينَئِذٍ كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَالْأَفْعَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ}، وَ {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}، وَإِنْ زَيْدٌ الذَّاهِبُ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ كَرِيمًا، وَالْفِعْلُ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَالْخَبَرِ، وَاللَّامُ لَازِمَةٌ لِخَبَرِهَا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْفَارِقَةَ لِأَنَّهَا تَفْرُقُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ " أَنْ " النَّافِيَةِ (وَمِنْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ) لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ يُنْصَبُ الْمَنْفِيُّ إذَا كَانَ مُضَافًا، وَمُضَارِعًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَالْخَبَرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مَرْفُوعٌ تَقُولُ: لَا غُلَامَ رَجُلٍ كَائِنٌ عِنْدَنَا، وَلَا خَبَرًا مِنْ زَيْدٍ جَالِسٌ عِنْدَنَا، وَلَا رَجُلَ أَفْضَلُ مِنْك، وَمِنْهُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ. (وَأَمَّا الْعَامِلُ فِي الْفِعْلِ) فَصِنْفَانِ: (أَوَّلُهُمَا: مَا تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ) مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّرْعِ كَأَنَّهُمَا رَضَعَا ضَرْعًا وَاحِدًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ: (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ، (وَلَنْ) لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، (وَإِذَنْ) جَوَابٌ وَجَزَاءٌ تَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ تَقُومَ، وَلَنْ يَخْرُجَ، (وَإِذَنْ) أُكْرِمَك، (وَأَنْ) مِنْ بَيْنِهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي، وَتُضْمَرُ بَعْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ، وَهِيَ (حَتَّى) نَحْوُ مَرَّتْ حَتَّى أَدْخَلَنَا، (وَلَامُ كَيْ) جِئْتُك لِتُكْرِمَنِي، (وَلَامُ الْجَحْدِ) نَحْوُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ}، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ}، (وَأَوْ) بِمَعْنَى إلَى أَوْ إلَّا نَحْوَ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي، (وَوَاوِ الْجَمْعِ) نَحْوُ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ، وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ أَيْ: لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَتُسَمَّى وَاوَ الصَّرْفِ لِأَنَّهَا تَصْرِفُ الثَّانِيَ عَنْ إعْرَابِ الْأَوَّلِ، (وَالْفَاءُ) فِي جَوَابِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، (وَهِيَ: الْأَمْرُ) : زُرْنِي فَأُكْرِمَك (وَالنَّهْيُ) : لَا تَدْنُ مِنْ الْأَسَدِ فَيَأْكُلَك، وَفِي التَّنْزِيلِ {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ} (وَالنَّفْيُ) : {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (وَالِاسْتِفْهَامُ) : {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا} (وَالتَّمَنِّي) : {يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} (وَالْعَرْضُ) : أَلَا تَنْزِلُ فَتُصِيبَ خَيْرًا وَعَلَامَةُ صِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إنْ فَعَلْت فَعَلْت.
(وَالصِّنْفُ الثَّانِي) : (حُرُوفٌ تَجْزِمُ الْمُضَارِعَ)، وَهِيَ (لَمْ، وَلَمَّا) لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَفِي لَمَّا تَوَقُّعٌ، (وَلَامُ الْأَمْرِ، وَلَا فِي النَّهْيِ، وَإِنْ فِي الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ) تَقُولُ: لَمْ يَخْرُجْ، وَلَمَّا يَرْكَبْ، وَلْيَضْرِبْ زَيْدٌ، وَلَا تَفْعَلْ، وَإِنْ تُكْرِمْنِي أَشْكُرْك، وَتُضْمَرُ أَنْ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ فِي جَوَابِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُجَابُ بِالْفَاءِ إلَّا النَّفْيَ مُطْلَقًا، وَالنَّهْيَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَقُولُ زُرْنِي أُكْرِمْك، وَأَيْنَ بَيْتُك أَزُرْك، وَلَّيْت لِي مَالًا أُنْفِقْهُ، وَلَا تَنْزِلْ تُصِبْ خَيْرًا، وَلَا يَجُوزُ مَا تَأْتِينَا تُحَدِّثْنَا، وَلَا تَدْنُ مِنْ الْأَسَدِ يَأْكُلْك لِأَنَّ النَّفْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَجَازَ لَا تَفْعَلْ يَكُنْ خَيْرًا لَك.
وَهِيَ أَصْنَافٌ (مِنْهَا) حُرُوفُ الْعَطْفِ تِسْعَةٌ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، وَفِي ثُمَّ تَرَاخٍ دُونَ الْفَاءِ، وَفِي حَتَّى مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، وَخَرَجَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، وَقَامَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ، (وَاوٌ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، وَأَزَيْدٌ عِنْدَك أَوْ عَمْرٌو، وَجَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، وَكُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ، (وَأَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ مُتَّصِلَةٌ نَحْوُ أَزَيْدٌ عِنْدَك أَمْ عَمْرٌو بِمَعْنَى أَيُّهُمَا عِنْدَك، وَمُنْقَطِعٌ نَحْوُ أَزَيْدٌ عِنْدَك أَمْ عِنْدَك عَمْرٌو، وَإِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاةٌ بِمَعْنَى بَلْ أَهِيَ شَاةٌ، (وَلَا) لَنَفْيِ مَا، وَجَبَ لِلْأَوَّلِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا (عَمْرٌو)، وَبَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَالْإِثْبَاتِ لِلثَّانِيَّ نَحْوَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، (وَلَكِنْ) لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْي نَحْو مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو هِيَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَقِيضَةُ لَا، وَفِي عَطْفِ الْجُمَلِ نَظِيرَةُ بَلْ فِي مَجِيئِهَا بَعْدَ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ.
(وَمِنْهَا حُرُوفُ التَّصْدِيقِ)، وَهِيَ (نَعَمْ، وَبَلَى، وَأَجَلْ، وَإِي) فَنَعَمْ تَصْدِيقٌ لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ أَوْ مَنْفِيٍّ خَبَرًا كَانَ أَوْ اسْتِفْهَامَا كَمَا إذَا قِيلَ لَك: قَامَ زَيْدٌ فَقُلْت: نَعَمْ كَانَ الْمَعْنَى قَامَ أَوْ قِيلَ: لَمْ يَقُمْ فَقُلْت: نَعَمْ فَالْمَعْنَى لَمْ يَقُمْ كَذَا إذَا قِيلَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقُمْ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ نَعَمْ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَبَلَى إيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ كَمَا إذَا قِيلَ: لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقُمْ فَقُلْت: بَلَى كَانَ الْمَعْنَى قَدْ قَامَ وَأَجَلْ يَخْتَصُّ بِالْخَبَرِ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا إي: لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَعَ الْقَسَمِ.
(وَمِنْهَا حَرْفُ الصِّلَةِ) أَيْ: الزِّيَادَةِ إنْ فِي مَا إنْ رَأَيْت، وَأَنْ فِي (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ)، وَمَا فِي (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ)، وَلَا فِي (لِئَلَّا يَعْلَمَ) .
(وَمِنْهَا حُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ) (الْهَمْزَةُ، وَهَلْ) نَحْوَ أَقَامَ زَيْدٌ، وَهَلْ خَرَجَ عَمْرٌو ؟ (وَمِنْهَا الْمُفْرَدَاتُ)
(أَمَّا) لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ، وَفِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَا وَجَبَ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا نَحْوَ أَمَّا زَيْدٌ فَذَاهِبٌ وَأَمَّا عَمْرٌو فَمُقِيمٌ، (وَإِمَّا) بِالْكَسْرِ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ نَحْوَ جَاءَنِي إمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو، وَخُذَا إمَّا هَذَا، وَإِمَّا ذَاكَ، (وَإِنْ النَّافِيَةُ) نَحْوَ إنْ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ}، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} {إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ}، وَفِي أَحَادِيثِ السِّيَرِ: " وَاَللَّهِ إنْ رَأَيْت مِثْلَهُ قَطُّ، وَفِيهَا إنْ شَعَرْنَا إلَّا بِالْكِتَابِ، (وَقَدْ) لِلتَّقْرِيبِ فِي الْمَاضِي نَحْوَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَلِلتَّقْلِيلِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يَصْدُقُ، (وَكَلَّا) لِلرَّدْعِ، وَالتَّنْبِيهِ نَحْوَ: {كَلًّا سَيَعْلَمُونَ} (لَوْ) لِامْتِنَاعِ الثَّانِي لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ نَحْوَ لَوْ أَكْرَمْتنِي لَأَكْرَمْتُك أَوْ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي لِوُجُودِ الْأَوَّلِ نَحْوَ لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
213-تاج العروس (رشأ)
[رشأ]: رَشَأَ كَمَنَعَ رَشْأً. جامَعَ ورَشَأَتِ الظبْيَةُ: ولَدَتْ، والرَّشَأُ، مُحرَّكةً: الظَّبْيُ إِذا قَويَ وتحَرَّك ومَشَى مع أُمِّه، الجمع: أَرْشَاءٌ، والرَّشَأُ أَيضًا: شَجَرَةٌ تَسْمُو فَوقَ القَامَةِ ورَقُها كوَرق الخِرْوَعِ ولا ثَمرَةَ لها، ولا يأْكُلها شيءٌ. رواه الدينوريُّ، وهو أَيضًا عُشْبةٌ كالقَرْنُوَةِ أَي يُشْبِهها، يأْتي في قِرن، قال أَبو حنيفة: أَخبرني أَعرابيٌّ من رَبِيعة قال: الرَّشَأُ مثلُ الجُمَّة ولها قُضبانٌ كثيرةُ العُقَدِ، وهي مُرَّةٌ جِدًّا شديدةُ الخُضرةِ لَزِجَةٌ تَنْبُت بالقِيعانِ مُنسطِحة على الأَرض وورقتها لطيفة مُحَدَّدة، والناسُ يطْبُخونها، وهي من خيْرِ بَقْلةٍ تَنْبُت بِنَجْدٍ، واحدتها رَشَأَةٌ، وقيل: الرَّشَأَةُ خَضْرَاءُ غَبراءُ تَسْلَنْطِحُ، ولها زَهرةٌ بيضاءُ، قال ابن سيده: وإِنما اسْتَدْلَلْتُ على أَن لام الرَّشإِ همزة بالرَّشَإِ الذي هو شَجَرٌ أَيضًا، وإِلا فقد يجوز أَن يكون ياءً أَوْ وَاوًا، ومن سَجعات الأَساس: عندي جاريةٌ مِن النَّشَأ أَشبَهُ شَيءٍ بالرَّشَإ؛ أَي الظبي.تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
214-تاج العروس (ضهأ)
[ضهأ]: ضُهَاءٌ كغُرَابٍ موضع وقيل بلد في أَرضِ هُذَيل دُفِنَ به ابنٌ لِسَاعِدَةَ بنِ جُؤَيَّةَ الهُذَلِيّ، ذكره الحافظ بن حجرٍ في القسم الثالث من المُخضْرَمين فَقِيلَ له أَي للولد ذُو ضُهَاءٍ وفيه يقول:لَعَمْرُك مَا إِنْ ذُو ضُهَاءٍ بِهَيِّنٍ *** عَلَيَّ وَمَا أَعْطَيْتُه سَيْبَ نَائِل
أَي لم أَتوجَّعْ عليه كما هو أَهْلُه، ولم أَفْعَلْ ما يَجِبُ له عَلَيَّ.
والضَّهْيَأُ كَعَسْجَدٍ فَعْلَل وقيل فَعْيَل، وهو مفقودٌ لا وُجُودَ له في كلام العرب، وضَهْيَد، مَصْنُوعٌ، ومَرْيَم أَعجميٌّ، وقيل: ليس في الكلام فَعْيَل إِلا هذا، وهو اسم شَجَرَة كالسَّيَالِ ذات شَوْكٍ ضَعِيف، ومَنْبِتُهَا الأَودِيَة والجِبالُ، قاله أَبو زيدٍ، وقال الدِّينَورِيّ: أَخبرني بعضُ أَعرابِ الأَزْدِ أَن الضَّهْيَأَ شجرةٌ من الغَضَا عظيمة، لها بَرَمَةٌ وعُلَّفٌ، وهي كثيرةُ الشَّوْكِ وعُلَّفُها أَحمرُ شديدُ الحُمْرَةِ، وورقها مثلُ وَرَق السَّمُرِ والمَرْأَةُ التي لا تَحِيضُ ذكره الجوهريُّ في المعتلّ، قال: وقلَّ فيه الهمز والتي لا لَبَن لَها ولا نَبَتَ لها ثَدْيٌ، كالضَّهْيَأَةِ نقل شيخنا عن شرح السيرافي على كتاب سيبويه: ضَهْيَا بالقصر والمدّ: المرأَة التي لم يَنْبُتْ ثَدْيُها، والتي لم تَحِضْ، والأَرضُ التي لم تُنْبِت، اسمٌ وصِفة، انتهى. قلت: لأَنها ضَاهَأَت الرجال وهي أَي الضهْيَأَةُ: الفَلَاةُ التي لا مَاءَ بها أَو التي لا تُنْبِت، وكأَنَّها لِعَدَمِ مائها.
والضَّهْيَأَتَانِ: شِعْبَانِ يَجِيئَانِ من السَّرَاةِ قُبالَة عُشَرَ وهو شِعْبٌ لهُذَيل.
وضَهْيَأَ أَمْرَه كَرَهْيَأَ: مَرَّضَه بالتشديد ولَمْ يُحْكِمْه من الإِحكام وهو الإِتقان، وفي العباب: ولم يَصْرِمْه؛ أَي لم بَقْطَعْه.
والمُضَاهَأَةُ بالهمزة هو المُضَاهَاةُ والمُشَاكَلَةُ وبمعنى الرِّفْق يقال: ضَاهأَ الرجلَ، إِذا رَفَقَ به. رواه أَبو عُبَيْدٍ، وقال صاحبُ العَيْنِ: ضَاهَأْتُ الرجُلَ وضاهَيْتُه أَي شَابَهْته، يُهمز ولا يُهمز، وقُرِئَ بهما قولُه عزّ وجلّ: {يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبما تقدم سقط قول ملَّا عَلِيّ في الناموس عند قول المُؤلّف: «الرِّفْق»: الظاهرُ: المُوَافَقَةُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
215-تاج العروس (أوب)
[أَوب]: الأَوْبُ والإِيَابُ كَكِتَابٍ، ويُشَدَّدُ وبِه قُرِئَ في التنزيل {إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ} بالتَّشْدِيدِ، قَالَهُ الزَّجَّاج، وهو فِيعَالٌ، مِنْ أَيَّبَ فَيْعَلَ مِنْ آبَ يَؤُوبُ، والأَصل إِيوابًا، فأُدْغِمَتِ اليَاءُ في الوَاوِ وانْقَلَبَتِ الواوُ إِلى اليَاءِ، لأَنَّها سُبِقْت بسُكُونٍ، وقال الفرّاءُ: هو بتخفيف الياء، والتشديدُ فيه خَطَأٌ، وقال الأَزهَرِيّ: لَا أَدْرِي مَنْ قَرَأَ إِيَّابَهُمْ بالتَّشْدِيدِ، والقُرَّاءُ علَى «إِيابَهُمْ» بالتَّخْفِيف، قُلْتُ التَّشْدِيدُ نَقَلَه الزَّجَّاج عن أَبِي جعْفرٍ، وقال الفراءُ: التَّشْدِيدُ فيه خَطَلٌ، نقله الصاغانيُّ.والأَوْبَةُ والأَيْبَةُ، على المُعَاقَبَةِ، والإِيبَةُ بالكسر، عن اللحيانيّ. والتَّأْوِيبُ والتَّأْبِيب والتَّأَوُّبُ والإِئتيابُ من الافْتَعَال كما يأْتي: الرُّجُوعُ، وآبَ إِلى الشَّيْءِ رَجَعَ، وَأَوَّبَ وتَأَوَّبَ وأَيَّبَ كُلُّه: رَجَع، وآبَ الغَائِبُ يَؤُوبُ مَآبًا: رَجَعَ، ويقال: لِيَهْنِكَ أَوْبَةُ الغَائِب، أَيْ إِيَابُه، وفي الحَدِيثِ «آيِبُونَ تَائِبُون» هو جَمْعُ سَلَامَة لِآيبٍ، وفي التنزيل {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} أَيْ حُسْنَ المَرْجِع الذي يَصيرُ إِليه في الآخِرَةِ، قال شَمِرٌ: كلُّ شيءٍ رَجَع إِلى مَكَانِه فقد آبَ يَؤُوب فهو آيِبٌ، وقَالَ تعَالَى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أَيْ رَجِّعِي التَّسْبيحَ مَعَه وقرِئَ «أُوبِي» أَي عُودِي مَعَهُ في التَّسْبِيح كُلَّمَا عَادَ فيه.
والأَوْبُ السحَابُ، نقله الصاغانيُّ و: الرَّيحُ نقله الصاغانيّ أَيضًا و: السُّرْعَةُ. وفي الأَسَاس: يقال للمُسْرِع في سَيْرِه: الأَوْب أَوْبُ نَعَامةٍ.
والأَوْبُ: رَجْعُ القَوَائِمِ، يقال: مَا أَحْسَنَ أَوْبَ ذِرَاعَيْ هذه النَّاقَةِ، وهو رَجْعُهَا قَوَائِمَهَا فِي السَّيْرِ، وَمَا أَحْسَنَ أَوْبَ يَدَيْهَا، ومنه نَاقَةٌ أَوُوبٌ، على فَعُول، والأَوْبُ: تَرْجِيعُ الأَيَادِي والقَوَائِمِ، قال كعبُ بنُ زُهَيْر:
كَأَنَّ أَوْبَ ذرَاعَيْهَا وَقَد عَرِقَتْ *** وقَدْ تَلَفَّعَ بالقُورِ العَسَاقِيلُ
أَوْبُ يَدَيْ فَاقد شَمْطَاءِ مُعْولَةٍ *** نَاحَتْ وجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
والأَوْبُ: القَصْدُ والعَادَة والاسْتِقَامَةُ ومَا زَالَ ذلكَ أَوْيَهُ، أَيْ عَادَتَه وهِجِّيراهُ والأَوْبُ: جَمَاعَةٌ النَّحْلُ وهو اسْمُ جَمْعٍ، كَأَنَّ الوَاحِدَ آيِبٌ قال الهُذَلِيُّ:
رَبَّاءُ شَمَّاءُ لَا يَدْنُو لِقُلَّتِهَا *** إِلَّا السَّحَابُ وإِلَّا الأَوْبُ والسَّبَلُ
وقال أَبُو حَنِيفَةَ: سُمِّيَتْ أَوْبًا لإِيَابِهَا إِلى المَبَاءَة، قال: وهي لا تَزَالُ في مَسَارِحِهَا ذَاهِبَةً ورَاجِعَةً، حتى، إِذا جَنَحَ الليلُ آبَتْ كُلُّهَا حتى لا يَتَخَلَّفَ منها شيءٌ.
والأَوْبُ: الطَّرِيقُ والجِهةُ والنَّاحِيَةُ، وجاءُوا مِنْ كُلِّ أَوْب أَيْ مِنْ كُلِّ طَرِيق وَوَجْه ونَاحِيَةٍ، وقيل، أَيْ مِنْ كُلّ مَآب ومَسْتَقَرٍّ، وفي حديث أَنَس «فآبَ إِلَيْهِ نَاسٌ» أَي جَاءُوا إِليه من كُلِّ ناحِيَة. والأَوْبُ: الطَّرِيقَةُ، وكُنْت عَلَى صَوْبِ فلانٍ وَأَوْبِه أَيْ عَلَى طَرِيقَتِه، كَذَا في الأَسَاسِ. ومَا أَدْرِي في أَيِّ أَوْب؛ أَي طَرِيقٍ أَو جِهَةٍ أَو نَاحِيَةٍ أَو طَرِيقة، وقال ذو الرُّمّة يَصِفُ صَائِدًا رَمَى الوَحْشَ:
طَوَى شَخْصَه حَتَّى إِذَا مَا تَوَدَّقَتْ *** عَلَى هِيلَةٍ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ تُهَالُهَا
عَلَى هِيلَةٍ أَيْ فَزَعٍ من كُلِّ أَوْبٍ أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْه، ورَمَى أَوْبًا أَوْ أَوْبَيْنِ، أَيْ وَجْهًا أَوْ وَجْهَيْنِ، وَرَمَيْنَا أَوْبًا أَوْ أَوْبَيْنِ، أَيْ رَشْقًا أَوْ رَشْقَيْنِ، وسيأْتي في نَدَبَ.
والأَوْبُ: وُرُودُ المَاءِ لَيْلًا أُبْتُ الماءَ وتَأَوَّبْتُهُ، إِذَا وَرَدْتَهُ لَيْلًا، والآيِبَةُ: أَنْ تَرِدَ الإِبِلُ المَاءَ كُلَّ لَيْلَةٍ، أَنشد ابنُ الأَعْرَابيّ:
لَا تَردِنَّ المَاءَ إِلَّا آيِبَهْ *** أَخشَى علَيك معْشَرًا قَرَاضِبَهْ
سُودَ الوُجُوهِ يَأْكُلُونَ الآهِبَهْ
وقِيلَ: الأَوْبُ جَمْعُ آيِب يقال: رَجُلٌ آيِبٌ مِنْ قَوْمٍ أَوْب، ويقال: إِنه اسمٌ للجَمْع، كالأُوَّاب والأُيَّابِ بالضَّمِّ والتَّشْدِيدِ فيهِما.
ورَجُلٌ أَوَّابٌ: كَثِيرُ الرُّجُوع إِلى اللهِ تعالى مِنْ ذَنْبِهِ. والأَوَّابُ: التَّائِبُ. في لسان العرب: قال أَبُو بَكْرٍ: في قولهم رَجُلٌ أَوَّابٌ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ، تَقَدَّمَ مِنْهَا اثْنَانِ، والثَّالِثُ المُسَبِّحُ قاله سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ، والرَّابعُ المُطِيعُ، قالَه قَتَادَةُ، والخَامِسُ: الذي يَذْكُر ذَنْبَه فِي الخَلاءِ فَيَسْتَغْفِرُ الله مِنْهَ، والسَّادِسُ الحَفِيظُ، قَالَهُمَا عُبيْدُ بنُ عُميْرٍ، والسابع الذي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوب ثم يُذْنِبُ ثم يَتُوبُ، قُلْتُ: ويُرِيدُ بالمُسبِّح: صلَاةَ الضُّحَى عنْدَ ارْتفَاعِ النَّهَارِ وشِدَّة الحرِّ، ومنه صَلاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ.
وآبَهُ اللهُ: أَبْعَدَهُ، دُعَاءٌ عليه، وذلك إِذا أَمرْتَه بِخُطَّه فَعصَاكَ ثُمَّ وقَعَ فِيمَا يَكْرَهُ فأَتَاكَ فأَخْبَرَكَ بذلكَ، فعنْدَ ذلك تَقُولُ لَهُ: آبَكَ الله، وأَنشد:
فَآبَكَ هَلَّا واللَّيَالِي بِغِرَّةٍ *** تُلِمُّ وفِي الأَيَّام عَنْكَ غُفُولُ
ويُقَالُ لِمَنْ تَنْصَحُهُ وَلَا يَقْبَلُ ثم يَقَعُ فيما حَذَّرْتَه مِنْهُ: آبَكَ، وكذلك آبَ لَكَ، مِثْل ويَلَكَ.
وائْتَابَ مِثْلُ آبَ، فَعَلَ وافْتَعلَ بمعْنًى قال الشِاعر:
ومَنْ يَتَّقْ فإِنَّ الله مَعْهُ *** وَرِزْقُ اللهِ مُؤْتَابٌ وغَادي
وقَال سَاعِدَةُ بنُ العَجْلَانِ:
أَلَا يا لَهْفَ أَفْلَتَنِي خُصَيْبُ *** فَقَلْبِي منْ تَذَكُّرِه بَليدُ
فَلَوْ أَنِّي عَرَفْتُكَ حِينَ أَرْمِي *** لآبَكَ مُرْهَفٌ مِنْهَا حَدِيدُ
يَجُوزُ أَنْ يكونَ آبَكَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ أَي جَاءَكَ مُرْهَفٌ، ويجوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ آبَ إِلَيْكَ، فَحَذَفَ وَأَوْصَلَ.
وَآبتِ الشَّمْسُ تَؤُوبُ إِيَابًا وأُيُوبًا، الأَخِيرَةُ عن سيبويهِ، أَيْ غَابَتْ في مَآبِهَا أَيْ في مَغِيبِهَا كَأَنَّها رَجَعَتْ إِلى مَبْدَئِهَا، قال تُبَّعٌ:
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَآبهَا *** فِي عَيْنِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمَدِ
وقال آخر:
يُبَادِرُ الجَوْنَةَ أَنْ تَؤُوبَا
وفي الحَدِيثِ: «شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الوُسْطَى حَتّى آبَتِ الشَّمْسُ، مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُمْ نَارًا» أَي غَرَبَتْ، مِنَ الأَوْبِ: الرُّجُوع، لأَنَّهَا تَرْجِعُ بالغُرُوبِ إِلى المَوْضِع الذي طَلَعَتْ منه. وفي لسان العرب: ولو استُعْمل ذلك في طُلُوعها لكان وَجْهًا، لكنه لم يُسْتَعْمَل.
وتَأَوَّبَه وَتَأَيَّبَهُ، على المُعَاقَبَةِ: أَتاهُ لَيْلًا، والمَصْدَرُ المِيميّ القِيَاسِيُّ المُتَأَوَّبُ والمُتَأَيَّبُ كِلَاهُما على صيغَة المَفْعُولِ.
وفُلانٌ سَريعُ الأَوْبَةِ، وقَوْمٌ يُحَوِّلُونَ الوَاوَ يَاءً فيقُولُون سَرِيعُ الأَيْبَةِ، وأُبْتُ إِلى بَنِي فلان وتَأَوَّبْتُهُم إِذا أَتَيْتَهُم لَيْلَا، كذا في الصحاح، وتَأَوَّبْتُ، إِذا جِئْتُ أَوَّلَ اللَّيْل فأَنَا مَتَأَوِّبٌ ومُتَأَيِّبٌ. وائْتَبَبْتُ المَاءَ: من بَابِ الافْتِعَالِ مثل أُبْتُه وتَأَوَّبْتُه: وَرَدْتُه لَيْلًا قال الهُذَلِيّ:
أَقَبَّ رَبَاع بِنُزْهِ الفَلَا *** قريةِ لَا يَرِد المَاءَ إِلَّا ائْتِيَابَا
وَمَنْ رَوَاهُ «انْتِيَابَا» فَقَدْ صحَّفَهُ.
وأَوِبَ كفَرِحَ: غضِب، وأَوْأَبْته مثالُ أَفْعَلْتُه، نقله الصَّاغانيّ.
والتَّأْوِيبُ في السَّيْرِ نَهَارًا نَظِيرُ الإِسَآد لَيْلا، أَو هُوَ السَّيْرُ جَميعَ النَّهَارِ والنُّزُولُ باللَّيْلِ، قَالَ سَلامةُ بنُ جَنْدَل:
يَوْمَان يوْمُ مقامَات وأَنْدِيَة *** وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ
قَالَ ابنُ المُكَرَّم: التَّأْوِيبُ عنْدَ العرَبِ سَيْرُ النَّهَارِ كُلِّه إِلى اللَّيْلِ، يُقَالُ: أَوَّبَ القَوْمُ تَأْوِيبًا، أَيْ سَارُوا بالنَّهارِ. وأَسْأَدُوا، إِذَا سَارُوا باللَّيْل، أَوْ هُوَ تَبَارِي الرِّكَابِ فِي السَّيْرِ قال شيخُنَا: غَيْرُ مُعْرُوفٍ في الدَّوَاوِينِ والمعروفُ الأَوّلُ، قُلت: هو في لسان العرب والأَساس والتَّكْمِلَة كالمُآوَبَةِ مُفَاعَلَةٌ، رَاجِعٌ للْمَعْنَى الأَخِيرِ، كَما هو عادَتُه قال:
وإِنْ تُؤَاوبْهُ تَجِدْهُ مِئوَبا
ورِيحٌ مُؤَوِّبَةٌ: تَهُبُّ النَّهارَ كُلَّهُ. والذي قالَهُ ابنُ بَرِّيّ: مُؤَوِّبةٌ في قَوْل الشاعر:
قَدْ حَالَ بَيْنَ دَرِيسَيْهِ مُؤَوِّبَةٌ *** مسْعٌ لَهَا بِعضَاهِ الأَرْضِ تَهْزِيزُ
وهو رِيحٌ تَأْتِي عنْد اللَّيْل.
والآيبةُ بالمدِّ: شَرْبَةُ القَائلَة، نَقَلَه الصاغَانِيّ.
وآبَةُ قَرَأْتُ في معجم البلدَان قَالَ أَبُو سعْدٍ: قال الحَافِظُ أَبُو بَكْر أَحْمَدُ بنُ مُوسَى بنِ مِرْدُوَيْهِ: هيَ مِنْ قُرَى أَصْبَهَانَ، قَالَ: وقَال غَيْرُه: إِنها: بلد ويُقَالُ: قَرْيَةٌ مِنْ ساوةَ منْهَا جرِيرُ بنُ عَبْدِ الحمِيدِ الآبِيُّ، سَكن الرَّيّ، قَالَ: قُلْتُ أَنَا: أَمَّا آبَةُ بُلَيْدَةٌ تُقَابِلُ ساوَةَ، تُعْرَفُ بَيْنَ العَامَّة بِآوَةَ فَلَا شَكَّ فِيهَا، وأَهْلُهَا شِيعَة، وأَهْلُ سَاوَةَ سُنَّةٌ، ولَا تَزَالُ الحُرُوبُ بَيْنَهُمَا قَائمَةً عَلَى المَذْهَبِ، قال أَبُو طاهِر السِّلَفيّ: أَنْشَدَنِي القاضِي أَبُو نَصْرِ بنُ العَلَاءِ الميمَنْدِيّ بِأَهْر مِنْ مُدُن أَذْرَبيجَانَ لنَفْسِه:
وَقَائلَه أَتُبْغِضُ أَهْلَ آبَهْ *** وهُمْ أَعْلَامُ نَظْمٍ والكتَابَهْ
فَقُلْتُ: إِلَيْك عنِّي إِنَّ مثْلِي *** يُعَادِي كُلَّ مَنْ عَادَى الصَّحَابَهْ
وإِلَيْهَا فيما أَحْسَبُ يُنْسَبُ الوَزِيرُ أَبُو سَعْد منْصُورُ بنُ الحسيْنِ الآبِيُّ، صَحِبَ الصَّاحِبَ بنَ عبَّاد، ثُمّ وزَرَ لمَجْد الدَّوْلَةِ رُسْتمَ بنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بن [رُكن الدولة بن] بُوَيْهِ، وكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا مُصنِّفًا، وهُوَ مُؤَلِّفُ: تارِيخ الرَّيِّ، وأَخُوه أَبُو منْصُور مُحمَّدٌ كَانَ مِنْ عُظَمَاءِ الكُتَّابِ، وَزَرَ لمِلكِ طَبَرِسْتَانَ، انتهى، ورأَيتُ في بعضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ جَرِيرَ بنَ عَبْدِ الحَمِيدِ المُتَقَدِّمَ ذِكْرُه نسْبَتُهُ إِلى قَرْيَةٍ بِأَصْبَهَان، كما تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وهو القَاضي أَبُو عَبْدِ الله الرَّازِيُّ الضَّبِّيُّ، نَسَبَهُ الدَّارَقُطْنِي.
وآبَةَ: بلد بإِفْرِيقِيَّةَ نقله الصاغانيّ، ومَا رَأَيْتُه في «المُعْجم»، وإِنما قال فيه، وآبَةُ أَيْضًا: قَرْيَةٌ منْ قُرَى البَهْنَسَا مِنْ صَعِيدِ مِصْرَ: أَخْبَرَنِي بذلك القَاضِي المُفَضَّلُ قَاضِي الجُيُوشِ بمصْرَ قُلْتُ وكَذا رأَيْتُهَا في كِتَاب القَوَانِينِ لابنِ الجَيْعَانِ وذَكَر أَنَّها مُشْتَمِلَةٌ على 1434 فَدَّانًا وعبْرَتُهَا 9600 دِينَار وتُذْكَرُ مَعَ بَسْقَنُونَ، وهُمَا الآنَ وَقْفٌ عَلَى الحَرَميْنِ الشَّرِيفَيْن، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ تَصَحَّفَ ذلكَ علَى الصَّاغانيّ وتَبِعَه المُصَنِّفُ، فإِنَّمَا هي أُبّه بضَمٍّ فَشَدِّ مُوَحَّدَة، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا في أَ ب ب.
وَمآبُ: بلد وفي لسان العرب: مَوْضِعٌ بالبَلْقَاءِ مِن أَرْضِ الشَّأْمِ، قال عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ:
فَلَا وأَبِي مَآبَ لَنَأْتيَنْهَا *** وإِنْ كَانَتْ بِهَا عَرَبُ ورُومُ
وفي المراصد: هي مدينَةٌ في طَرَفِ الشَّأْمِ مِنْ أَرْضِ البَلْقَاء.
والمُؤَوَّبُ هو المُدَوَّرُ والمُقَوَّرُ، بالقَافِ، كذا في النسخ، وفي بعضها بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ، المُلَمْلَمُ، وَأَوَّبَ الأَديم: قَوَّرَهُ، عَنْ ثَعْلَبٍ ومِنْهُ المَثَلُ: أَنَا حُجَيْرُهَا بتَقْدِيم الحَاءِ المُهْمَلَةِ عَلَى الجِيمِ تَصْغِيرُ حِجْر، وهُوَ الغَارُ المُؤَوَّبُ، المُقَوَّرُ، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ، عن ابن الأَعرابيّ.
وآبُ شَهْرٌ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ مِنَ الشُّهُورِ الرُّوميَّةِ، وقد جاءَ ذِكرُهُ في أَشْعَارِ العَرَبِ كثيرًا.
والمَآبُ في قَوْله تَعَالَى: {طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ حُسْنُ المَرْجع وحُسْنُ المُنْقَلَبِ والمُسْتَقرّ.
وقولُهُم بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ مَآوِبَ أَي ثَلَاثُ رَحَلَات بالنَّهَارِ نقلَهُ الصاغانيّ.
والأَوْبَاتُ هِيَ مِنَ الدَّابَّةِ القَوَائِمُ واحِدَتُهَا: أَوْبَةٌ.
ومَآبَةُ البِئرِ: مِثْلُ مَبَاءَتهَا حَيْثُ يَجْتَمعُ إِليه المَاءُ فيها.
وقِيلَ: لَا يَكُونُ الإِيَابُ إِلَّا الرُّجُوعَ إِلى أَهْلِهِ لَيْلًا.
وفي التهذيب: يُقَالُ للرَّجُل يَرْجعُ باللَّيْلِ إِلَى أَهْلِهِ: قَدْ تَأَوَّبَهُمْ، وائْتَابَهمْ فَهُوَ مُؤْتَابٌ ومُتَأَوِّبٌ.
ومُخَيِّسٌ كمُحَدِّث بنُ ظَبْيَانَ الأَوَّابِيُّ، تَابِعيٌّ رَوَى عن عبدِ الله بنِ عَمْرِو بنِ العاص وغَيْرِه نِسْبَةٌ إِلى بَنِي أَوَّاب: قَبِيلَةٍ مِنْ تُجِيبَ، ذَكَره ابنُ يُونُسَ.
* واسْتَدْرَكَ شيخُنَا عَلَى المُصَنِّفِ:
أَيُّوبُ، قيلَ هو فَيْعُول مِنَ الأَوْب كقَيُّوم، وقِيلَ: هو فَعُّول كسَفُّود، قال البَيْضَاوِيُّ: كَانَ أَيُّوبُ رُوميًّا مِنْ أَوْلَادِ عيص بنِ إِسْحَاقَ عليه الصلاةُ والسلامُ، وأَوَّلُ منْ سُمِّيَ بهذَا الاسْمِ منَ العربِ جدُّ عَدِيِّ بنِ زَيْدِ بنِ حِمَّانَ بنِ زَيْدِ بنِ أَيَّوب، من بَنِي امرئ القَيْس بن زَيْدِ مَنَاةَ بن تَمِيم، قَالَهُ أَبُو الفَرَج الأَصْبَهَانِيُّ في الأَغاني. اه.
قُلْتُ: وأَيُّوبُ الذي ذَكَره: بَطْنٌ بالكُوفَةِ، وهو ابنُ مَجْرُوفِ بنِ عامرِ بنِ العصَبَةِ بنِ امْرِئِ القَيْسِ بنِ زيْدِ مَنَاةَ، فَوَلَدُ أَيُّوبَ إِبْرَاهيمُ وسَلْمٌ وثَعْلَبَةُ وزَيْد، منهم عَدِيُّ بنُ زَيْدِ بنِ حِمَّانَ بنُ زَيْدِ بنِ أَيُّوبَ بنِ مَجْرُوفٍ الشَّاعِرُ ومنهم مُقَاتِلُ بنُ حَسَّانَ بنِ ثَعْلَبةَ بنِ أَوْسِ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ أَيُّوبَ الذي نُسِبَ إِليهِ قَصْرُ مُقَاتِل، وقال ابنُ الكَلْبِيِّ: لَا أَعْرِفُ في الجاهِليَّة مِنَ العَرَبِ أَيُّوب وإِبْراهيمَ غَيْرَ هذَيْنِ، وإِنَّمَا سُمِّيَا بهذَيْنِ الاسْمَيْنِ للنَّصْرَانِيَّةِ، كَذَا قال البلَاذُرِيُّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
216-تاج العروس (رحب)
[رحب]: الرُّحْبُ، بالضَّمِّ: موضع لِهُذَيْلٍ وضَبَطَه الصاغانيّ بالفَتْحِ من غيرِ لامٍ.ورُحَابُ كغُرَابٍ: موضع بحَوْرَانَ نقلَه الصاغانيّ أَيضًا.
وَرَحُبَ الشيءُ كَكَرُمَ وسَمِعَ الأَخِيرُ حكاه الصاغانيّ رُحْبًا بالضَّمِّ ورَحَابَةً ورَحَبًا مُحَرَّكَةً، نقله الصاغانيّ فَهُوَ رَحْبٌ ورَحِيبٌ ورُحَابٌ بالضَّمِّ: اتَّسَعَ، كَأَرْحَبَ، وأَرْحَبَهُ: وَسَّعَهُ قال الحَجَّاجُ حِينَ قَتَلَ ابْنَ القِرِّيَّةِ، أَرْحِبْ يَا غُلَامُ جُرْحَهُ.
ويقالُ لِلْخَيْلِ: أَرْحِبْ وأَرْحِبِي، وهُمَا زَجْرَان لِلْفَرَسِ؛ أَي تَوَسَّعِي وتَبَاعَدِي وتَنَحَّيْ قَال الكُمَيْتُ بنُ مَعْرُوفٍ:
نُعَلِّمُهَا هَبِي وهَلًا وأَرْحِبْ *** وَفِي أَبْيَاتِنَا وَلَنَا افتُلِينَا
وامْرَأَةٌ رُحَابٌ وقِدْرٌ رُحَابٌ بالضَّمِّ أَي وَاسِعَةٌ وقالُوا: رَحُبَتْ عَلَيْكَ، وطُلَّتْ؛ أَي رَحُبَتْ عليكَ البِلَادُ، وقال أَبُو إِسحاقَ: أَيِ اتَّسَعَتْ وأَصَابَهَا الطَّلُّ، وفي حديثِ ابن زِمْل «عَلَى طَرِيقٍ رَحْبٍ» أَيْ وَاسِعٍ. وَرَجُلٌ رَحْبُ الصَّدْرِ، ورُحْبُ الصَّدْرِ، وَرَحِيبُ الجَوْفِ: وَاسِعُهُمَا، ومن المجاز: فلَانٌ رَحِيبُ الصَّدْرِ أَي وَاسِعُهُ، ورَحْبُ الذِّرَاعِ أَي واسِعُ القُوَّةِ عندَ الشَّدَائِدِ، ورَحْبُ الذِّرَاعِ والبَاعِ ورحِيبُهُمَا أَي سَخِيٌّ.
وَرَحُبَتِ الدَّارُ وأَرْحَبَتْ بمعنًى، أَيِ اتَّسَعَتْ.
والرَّحْبُ بالفَتْحِ والرَّحِيبُ: الشَّيْءُ الوَاسِعُ، تقولُ منه: بَلَدٌ رَحْبٌ وأَرْضٌ رَحْبَةٌ. ومن المجاز قولُهم: هذا أَمْرٌ إِنْ تَرَحَّبَتْ مَوَارِدُهُ فَقَدْ تَضَايَقَتْ مَصَادِرُهُ.
وقولهم في تَحِيَّةِ الوَارِدِ: أَهْلًا ومَرْحَبًا وسَهْلًا قال العَسْكَرِيُّ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ مَرْحَبًا: سَيْفُ بنُ ذِي يَزَنَ أَيْ صَادَفْتَ وفي الصَّحَاحِ: أَتَيْتَ سَعَةً وأَتَيْتَ أَهْلًا، فَاسْتأْنِسْ وَلَا تَسْتَوْحِشْ وقال شَمِرٌ: سَمِعْتُ ابنَ الأَعرابيّ يقول: مَرْحَبَكَ اللهُ ومَسْهَلَكَ، ومَرْحَبًا بِكَ اللهُ ومَسْهَلًا بِكَ اللهُ، وتقولُ العرب: لَا مَرْحَبًا بِكَ؛ أَي لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ بِلَادُكَ، قال: وهي من المَصَادِرِ التي تَقَعُ في الدُّعَاءِ للرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ، نحو: سَقْيًا وَرَعْيًا، وجَدْعًا وَعَقْرًا، يُرِيدُونَ سَقَاكَ الله وَرَعَاكَ الله، وقال الفرّاءُ: معناهُ رَحَّبَ اللهُ بِكَ مَرْحَبًا، كأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ التَّرْحِيبِ، وقال الليثُ مَعْنَى قَوْلِ العَرَبِ مَرْحَبًا: انْزِلْ فِي الرَّحْبِ والسَّعَةِ وأَقِمْ فَلَكَ عِنْدَنَا ذلكَ، وسُئلَ الخَلِيلُ عن نَصْبِ مَرْحَبًا فقَالَ: فيه كَمِينُ الفِعْلِ، أُرِيدَ: بِهِ انْزِلْ أَوْ أَقِمْ فَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فلمَّا عُرِفَ مَعْنَاهُ المُرَادُ به أُمِيتَ الفِعْلُ، قال الأَزهريّ: وقال غيرُه في قولِهِم: مَرْحَبًا: أَتَيْتَ أَوْ لَقِيتَ رُحْبًا وَسَعَةً لا ضِيقًا، وكذلك إِذا قالَ: سَهْلًا أَرَادَ نَزَلْتَ بَلَدًا سَهْلًا لا حَزْنًا غَلِيظًا.
ورَحَّبَ به تَرْحِيبًا: دَعَاهُ إِلى الرَّحْبِ والسَّعَةِ، ورَحَّبَ به: قال له مَرْحَبًا، وفي الحديثِ «قالَ لِخُزَيْمَةَ بنِ حُكَيمٍ مَرْحَبًا» أَي لَقِيتَ رَحْبًا وسَعَةً، وقيلَ مَعْنَاهُ رَحَّبَ الله بِكَ مَرْحَبًا، فَجَعَلَ المَرْحَبَ مَوْضِعَ التَّرْحِيبِ.
ورَحَبَةُ المَكَانِ كالمَسْجِدِ والدَّارِ بالتَّحْرِيكِ وتُسَكَّنُ: سَاحَتُهُ ومُتَّسَعُهُ وكان عليٌّ رضي الله عنه يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ في رَحَبَةِ مَسْجِدِ الكُوفَةِ، وهي صَحْنُهُ، وعن الأَزْهَرِيّ: قالَ الفرّاءُ: يقالُ للصَّحْرَاءِ بَيْنَ أَفْنِيَةِ القَوْمِ والمَسْجِدِ رَحَبَةٌ وَرَحْبَةٌ، وسُمِّيَتِ الرَّحَبَةُ رَحَبَةً لِسَعَتِهَا بِمَا رَحُبَتْ؛ أَي بما اتَّسَعَتْ، يقالُ: مَنْزِلٌ رَحِيبٌ ورَحْبٌ، وذَهَبَ أَيضًا إِلى أَنَّه يقالُ: بَلَدٌ رَحْبٌ وبِلَادٌ رَحْبَةٌ، كما يقال: بَلَدٌ سَهْلٌ وبِلَادٌ سَهْلَةٌ، وقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُبُ، ورَحُبَ يَرْحُبُ رُحْبًا ورَحَابَةً، ورَحِبَتْ رَحَبًا، قال الأَزهريّ: وأَرْحَبَتْ لُغَةٌ بذلك المَعْنَى، وقولُ اللهِ عَزَّ وجَلّ {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} أَي عَلَى رُحْبِهَا وسَعَتِهَا، وأَرْضٌ رَحِيبَة: وَاسِعَةٌ.
والرَّحْبَةُ، بالوَجْهَيْنِ، مِنَ الوَادِي: مَسِيلُ مَائِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ فيهِ، جَمْعهُ رِحَابٌ، وهي مَوَاضِعُ مُتَوَاطِئَةٌ يَسْتَنْقِعُ المَاءُ فِيهَا، وهي أَسْرَعُ الأَرْضِ نَبَاتًا، تَكُونُ عندَ مُنْتَهَى الوَادِي وفي وسَطِه، وقد تكونُ في المَكَانِ المُشْرِفِ يَسْتَنْقِع فيها المَاءُ وما حوْلَها مُشْرِفٌ عليها، ولا تَكُونُ الرِّحَابُ في الرَّمْلِ، وتكونُ في بُطُونِ الأَرْضِ وفي ظَواهِرِها.
والرَّحَبَةُ مِنَ الثُّمَامِ كغُرابٍ: مُجْتَمَعُهُ وَمَنْبَتُه.
والرَّحَبَةُ بالتَّحْرِيكِ: مَوْضِعُ العِنَب، بمَنْزِلةِ الجَرِينِ للتَّمْرِ، وقالَ أَبو حنيفة: الرَّحَبَةُ والرَّحْبَة، والتَّثْقِيلُ أَكْثَرُ: الأَرْضُ الوَاسِعَةُ المِنْبَاتُ المِحْلَالُ، الجمع: رِحَابٌ ورَحَبٌ ورَحَبَاتٌ، مُحَرَّكَتَيْنِ، ويُسَكَّنَانِ قال سيبويه: رَحَبَةٌ ورِحَابٌ كرَقَبَةٍ ورِقَابٍ، وعن ابن الأَعرابيّ: الرَّحَبَةُ: مَا اتَّسَعَ مِنَ الأَرْضِ، وجَمْعُهَا: رُحَبٌ مِثْلُ قَرْيَةٍ وقُرًى، قال الأَزهريّ: وهَذَا يَجِيءُ شَاذًّا، في باب النَّاقِصِ فأَمَّا السَّالمُ فَمَا سَمِعْتُ فَعْلَةً جُمِعَتْ عَلَى فُعَلٍ، قال: وابْنُ الأَعْرَابِيِّ ثِقَةٌ لا يَقُولُ إِلَّا ما قَدْ سَمِعَهُ. كذا في لسان العرب.
ويُحْكَى عن نَصْرِ بنِ سَيَّارٍ رَحُبَكُمُ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ أَيِ ابن الكِرْمَانِيّ كَكَرُمَ أَي وَسِعَكُمْ فَعَدَّى فَعُلَ، وهو شَاذٌّ لِأنَّ فَعُلَ لَيْسَتْ مُتَعَدِّيَةً عند النَّحويينَ إِلَّا أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الفَارِسيَّ حَكَى عن هُذَيْلٍ القَبِيلَةِ المَعْهُودَةِ تَعْدِيَتَهَا أَي إِذا كانتْ قابلةً للتَّعَدي بمعناها كقوله:
وَلَمْ تَبْصُرِ العَيْنُ فِيهَا كِلَابَا
وقال أَئِمَّةُ الصَّرْفِ: لَمْ يَأْتِ فَعُلَ بضَم العَيْنِ مُتَعَدِّيًا إِلَّا كَلِمَةٌ واحِدَةٌ رَوَاهَا الخَلِيلُ وهي قولُهم: رَحُبَتْكَ الدَّارُ، وحَمَلَه السَّعْدُ في شَرْحِ العِزِّى على الحَذْفِ والإِيصالِ، أَيْ رَحُبَتْ بِكُمُ الدَّارُ، وقال شيخُنَا: نَقَلَ الجَلَالُ السَّيُوطِيُّ عن الفارِسيّ: رَحُبَ اللهُ جَوْفَهُ أَيْ وَسَّعَهُ، وفي الصِّحَاحِ: لَم يَجِيء في الصَّحِيحِ فَعُلَ بضَمِّ العَيْنِ مُتَعَدِّيًا غَيْرَ هَذَا، وأَمَّا المُعْتَلُّ فقدِ اخْتَلَفُوا فيه قال الكسائيّ: أَصْلُ قُلْتُهُ قَوُلْتُهُ، وقال سيبويه: لَا يَجُوزُ ذلكَ لأَنَّه يَتَعَدَّى، وليْسَ كذلك: طُلْتُه، أَلَا تَرَى أَنك تقولُ: طَوِيلٌ، وعنِ الأَزهريّ: قال الليث: هذه كلمةٌ شاذَّةٌ على فَعُلَ مُجَاوِزٍ: وفَعُلَ لا يَكُونُ مجاوزًا أَبدًا قال الأَزهريّ: وَرَحُبَتْكَ لَا يَجُوزُ عند النحويينَ، ونَصْرٌ ليس بحُجَّةٍ.
والرُّحْبَى كَحُبْلَى: أَعْرَضُ ضِلَعٍ في الصَّدْرِ، وإنَّمَا يكونُ النّاحِزُ في الرُّحْبَيَيْنِ.
والرُّحْبَى: سِمَةٌ تَسِمُ بها العَرَبُ في جَنْبِ البَعِيرِ، والرُّحْبَيَانِ الضِّلَعَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الإِبْطَيْنِ في أَعْلَى الأَضْلَاعِ، أَو الرُّحْبَى: مَرْجِعُ المِرْفَقَيْنِ وهُمَا رُحْبَيَانِ، والرُّحَيْبَاءُ منَ الفَرَسِ أَعْلَى الكَشْحَيْنِ، وهُمَا رُحَيْبَاوَانِ، عن ابن دريد، أَوْ هي أَي الرُّحْبَى مَنْبِضُ القَلْبِ مِنَ الدَّوابِّ والإِنْسَانِ؛ أَي مكانُ نَبْضِ قَلْبِهِ وخَفَقَانِهِ، قاله الأَزْهريّ: وقيلَ: الرُّحْبَى ما بَيْنَ مَغْرِزِ العُنُقِ إِلى مُنْقَطَعِ الشَّرَاسِيفِ، وقيل: هي ما بينَ ضِلَعَيْ أَصْلِ العُنُقِ إِلى مَرْجِعِ الكَتِفِ.
والرُّحْبَةُ بالضَّمِّ: مَاءَةٌ بِأَجَإِ أَحَدِ جَبَلَيْ طَيِّءٍ وبِئْرٌ في ذي ذَرَوَانَ من أَرْضِ مَكَّةَ زِيدَتْ شَرَفًا بِوَادِي جَبَلِ شَمَنْصِيرٍ، يَأْتِي بَيَانُه.
والرُّحْبَةُ: قرية حِذَاءَ القَادِسِيَّةِ، وَوَادٍ قُرْبَ صَنْعَاء اليمن و: ناحِيَةٌ بَيْنَ المَدِينَةِ والشِّأْمِ قُرْبَ وَادِي القُرَى و: موضع بِنَاحِيَةِ اللَّجَاةِ.
وبِالفَتْحِ: رَحْبَةُ مَالِكِ بنِ طَوْقٍ مَدِينَةٌ أَحْدَثَهَا مَالِكٌ عَلَى شاطِئِ الفُرَاتِ، ورَحْبَةُ: قرية بِدِمَشْقَ، ورَحْبَةُ: مَحَلَّةٌ بها أيضًا، ورَحْبَةُ: مَحَلَّةٌ بالكُوفَةِ تُعْرَفُ برَحْبَةِ خُنَيْسٍ ورَحْبَةُ موضع ببغدادَ تُعْرَفُ بِرَحْبَةِ يَعْقُوبَ منسوبةٌ إلى يعقوبَ بنِ داوودَ وَزِيرِ المَهْدِيِّ، ورَحْبَةُ: وادٍ يَسِيلُ في الثَّلَبُوتِ وقد تَقَدَّم في «ثلب» أَنَّه وادٍ أَو أَرضٌ، ورَحْبَةُ: موضع بالبادِيَةِ، ورَحْبَةُ: قرية باليَمَامَةِ تُعْرَفُ بِرَحْبَةِ الهَدَّار، وصَحَرَاءُ بها أَيضًا فيها مياهٌ وقُرًى، والنِّسْبَةُ إليها في الكُلِّ رَحَبِيٌّ، مُحَرَّكَةً.
وبَنُو رَحْبَةَ بنِ زُرْعَةَ بنِ الأَصْغَرِ بنِ سَبَإِ: بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ إِليه نُسِبَ حَرِيزُ بنُ عُثْمَانَ المعدودُ في الطَّبَقَةِ الخَامِسَةِ من طَبَقَاتِ الحُفَّاظِ، قاله شيخُنَا.
ورُحَابَةُ كقُمَامَةٍ: موضع وفي لسان العرب: أُطُمٌ بالمَدِينَةِ معروفٌ.
والرِّحابُ كَكِتَابِ: اسْمُ، ناحِيَةٍ بِأَذْرَبِيجَانَ ودَرَبَنْدَ، وَأَكْثَرُ أَرْمِينِيَةَ يَشْمَلُهَا هذا الاسمُ، نقله الصَّاغَانيّ.
بَنُو رَحَبٍ مُحَرَّكَةً: بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ من قَبَائِلِ اليَمَنِ.
وأَرْحَبُ: قَبِيلَةٌ مِنْهُم أَي هَمْدَانَ، قال الكُميت:
يَقُولُونَ لَمْ يُورَثْ ولَوْ لَا تُرَاثُهُ *** لقَد شَرِكَتْ فِيهِ بَكِيلٌ وأَرْحَبُ
وقرأْتُ في كتاب الأَنْسَابِ للبَلَاذُرِيّ ما نَصُّه: أَخْبَرَنيِ مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ الأَعْرابيُّ الرَّاوِيَةُ عَن هِشَامِ بنِ مُحَمَّدٍ الكَلْبِيِّ قال: من قَبَائِلِ حَضْرَمَوْتَ: مَرْحَبٌ وجُعْشُمٌ، وهم الجَعَاشِمَةُ، وَوَائِلٌ وأَنْسَى قال بعضُهم:
وَجَدِّي الأَنْسَوِيُّ أَخُو المَعَالِي *** وخَالِي المَرْحَبِيُّ أَبُو لَهِيعَهْ
ويَزِيدُ بنُ قَيْسٍ، وعَمْرُو بنُ سَلَمَةَ، ومَالِكُ بنُ كَعْبٍ الأَرْحَبِيُّونَ مِنْ عُمَّالِ سَيِّدِنا عليٍّ رضي الله عنه أَوْ فَحْلٌ كذا قاله الأَزهريّ، وقال: رُبَّمَا تُنْسَبُ إِليه النَّجَائِبُ لِأَنَّهَا من نَسْلِهِ، وقال الليثُ: أَرْحَبُ: حَيٌّ أَو مَكَانٌ وفي المعجم: أَنَّهُ مِخْلَافٌ باليَمَنِ يُسَمَّى بقَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ منْ هَمْدَانَ، واسْمُ أَرْحَبَ: مُرَّةُ بن ذُعَامِ بنِ مالكِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ صَعْبِ بنِ دُومَانَ بنِ بَكِيلِ بنِ جُشَمَ بنِ خَيْرَانَ بنِ نَوْفِ بنِ هَمْدَانَ ومِنْهُ النَّجَائبُ الأَرْحَبِيَّاتُ وفي «كِفَايَةِ المُتَحَفِّظ»: الأَرْحَبِيَّةُ: إِبِلٌ كَرِيمَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلى بَنِي أَرْحَبَ مِنْ بَنِي هَمْدَانَ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهريُّ، ونَقَلَهُ الشريفُ الغَرْنَاطِيُّ في شرح مَقْصُورَةِ حازِمٍ، وفي المعجم: أَرْحَبُ: بَلَدٌ على ساحِلِ البَحْرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ظَفَارِ نحوُ عَشَرَةِ فَرَاسخَ.
والرَّحِيبُ كأَمِيرٍ: الأَكُولُ ورَجُلٌ رَحِيبُ الجَوْفِ: أَكُولٌ، نقله السَّيُوطِيّ.
ورَحَائِبُ التُّخُومِ، ويوجدُ في بعض النسخ: النُّجُومِ، وهو غَلَطٌ أَي سَعَةُ أَقْطَارِ الأَرْضِ. وسموا رَحْبًا. ومُرَحَّبًا كَمُعَظَّم ومَرْحَبًا ك مَقْعَدٍ، وقال الجوهريّ: أَبُو مَرْحَبٍ: كُنْيَةُ الظِّلِّ، وبه فُسِّرَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الجَعْدِيِّ:
وَبَعْضُ الأَخْلَاءِ عِنْدَ البَلا *** ءِ والرُّزْءِ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبِ
وكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ *** خَلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وهو أَيضًا كُنْيَةُ عُرْقُوبٍ صاحِبِ المَوَاعِيدِ الكَاذِبَةِ.
ومَرْحَبٌ كَمَقْعَدٍ: فَرَسُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدٍ الحَنَفِيِّ ومَرْحَبٌ: صَنَمٌ كَانَ بِحَضَرْمَوْت اليَمَن وذُو مَرْحَبٍ: رَبِيعَةُ بنُ مَعْدِ * يكَرِبَ، كَانَ سَادنَهُ أَيْ حَافِظَه.
ومِرْحَبٌ اليَهُودِيَّ كَمِنبَرٍ: الذي قَتَلَه سَيِّدُنَا عَلِيُّ رضي الله عنه يَوْمَ خَيْبَرْ.
وَرُحَيِّبٌ مُصَغَّرًا: مَوْضِعٌ في قَوْلِ كُثَيّر:
وذَكَرْتُ عَزَّةَ إِذْ تُصَاقِبُ دَارُها *** بِرُحَيِّبٍ فأُرَيْنةٍ فنُخَالِ
كذا في المعجم.
ورُحْبَى، كحُبْلَى: مَوْضِعٌ آخَرُ، وهذه عن الصاغانيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
217-تاج العروس (ريب)
[ريب]: الرَّيْبُ: صَرْفُ الدَّهْرِ وحَادِثُه، ورَيْبُ المَنونِ: حَوَادِثُ الدَّهْرِ، وهو مَجَازٌ، كما في الأَساس.والرَّيْبُ: الحَاجَة قال كعبُ بن مالكٍ الأَنْصَارِيُّ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كلَّ رَيْبٍ *** وخَيْبَرَ ثمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
وفي الحديث «أَنَّ اليَهُودَ مَرُّوا برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ بعضهُم: سَلوهُ، وقالَ بعضهُم: مَا رَابُكمْ إِلَيْهِ» أَيْ مَا أَرَبُكمْ وحَاجَتكمْ إِلى سُؤَالِهِ، وفي حديث ابنِ مسعودٍ: «مَا رَابُكَ إِلى قَطْعِهَا» قال ابن الأَثِير: قال الخَطَّابِيُّ: هَكَذَا يَرْوُونَه يَعْنِي بِضَمِّ البَاءِ، وإِنَّمَا وَجْهُهُ مَا أَرَبُكَ، أَيْ مَا حَاجَتُكَ، قال أَبُو مُوسَى: يَحْتَمل أَنْ يَكونَ الصَّوابُ: مَا رَابَكَ، أَيْ مَا أَقْلَقَكَ وأَلْجَأَكَ إِلَيْهِ، قال: وهكذا يَرْوِيه بعضهم.
والرَّيْبُ: الظِّنَّةُ والشَّكُّ والتُّهَمَة، كالرِّيبَةِ بِالكَسْرِ، والرَّيْبُ: مَا رَابَكَ مِنْ أَمْرٍ، وَقَدْ رَابَنِي الأَمْرُ وَأَرَابَنِي، في لسان العرب: اعْلَمْ أَنَّ أَرَابَ قَدْ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا وغَيْرَ مُتَعَدٍّ، فَمَنْ عَدَّاهُ جَعَلَهُ بِمَعْنَى رَابَ، وعَلَيْهِ قَوْلُ خالدٍ الآتِي ذِكْرُه:
كَأَنَّنِي أَرَبْتُه بِرَيْبِ
وعَلَيْهِ قَوْل أَبِي الطَّيِّبِ:
أَيَدْرِي مَا أَرَابَكَ مَنْ يُرِيبُ
ويُرْوَى قَوْل خَالِدٍ:
كَأَنَّنِي قِدْ رِبْتهُ بِرَيْبِ
فيكون عَلَى هَذَا رَابَنِي وأَرَابَنِي بمَعْنًى واحِدٍ، وأَمَّا أَرَابَ الذي لا يَتَعَدَّى فمعناه: أَتَى برِيبَةٍ، كما تقول: أَلَامَ: [إذا] أَتَى بِمَا يُلَام عليه، وعلى هذا يَتَوَجَّهُ البَيْتُ المنْسُوبُ إِلى المُتَلَمِّسِ أَوْ إِلى بَشِّارِ بنِ بُرْدٍ:
أَخوكَ الَّذِي إِنْ رِبْتَهُ قَالَ: إِنَّمَا *** أَرَبْتَ وإِنْ لَايَنْتَهُ لَانَ جَانِبُهْ
والرِّوَايَةُ الصَّحِيحَة في هذا البَيْتِ بضَمِّ التاءِ أَي أَنَا صاحِبُ الرِّيبَةِ حتى تُتَوَهَّمَ فيه الرِّيبة، ومَنْ رَوَاهُ أَرَبْتَ بفتح التاءِ زَعمَ أَنَّ رِبْتَهُ بمَعْنَى أَوْجَبْتَ له الرِّيبَةَ، فَأَمَّا أَرَبْتُ بالضَّمِّ فمعناهُ أَوْهَمْته الرِّيبَةَ، ولم تَكنْ وَاجِبَةً مَقْطوعًا بها، وأَرَبْتُهُ: جَعَلْتُ فيه رِيبَةً، ورِبْتهُ: أَوْصَلْتُها أَيِ الرِّيبَةَ إِليْهِ وقِيلَ: رَابَنِي: عَلِمْتُ مِنهُ الرِّيبَة، وأَرابنِي: ظَنَنْتُ ذلكَ بهِ، وجَعَلَ فِيَّ الرِّيبَةُ الأَخِيرُ حَكَاه سيبويه أَوْ أَرَابَنِي: أَوْهَمَنِي الرِّيبَةَ نقله الصاغانيّ، أَو رَابَنِي أَمْرُهُ يَرِيبُنِي رَيْبًا ورِيبَةً، بالكَسْرِ قال اللِّحْيَانيّ: هَذَا كَلَامُ العَرَبِ إِذَا كَنَوْا أَيْ أَوْصَلوا الفِعْلَ بِالكِنَايَةِ، وهوَ الضَّمِيرُ عندَ الكوفيّينَ أَلْحَقوا، الفِعْلَ الأَلِفَ أَيْ صَيَّرُوهُ رُبَاعِيًّا وإِذَا لَمْ يَكْنُوا لَمْ يُوصِلوا الضَّمِيرَ، قالوا: رَابَ أَلْقَوْهَا، أَوْ يَجُوز فِيمَا يُوقَع أَنْ تُدْخِلَ الأَلفَ فتقول أَرابَنِي الأَمْرُ، قاله اللحيانيّ، قال خَالِدُ بن زُهَرٍ الهُذَلِيُّ:
يَا قَوْمِ! مَا لِي وأَبَا ذؤَيْبِ *** كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُهُ مِنْ غَيْبِ
يَشَمُّ عِطْفِي ويَبُزُّ ثَوْبِي *** كَأَنَّنِي أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ
وفي التهذيب أَنه لغةٌ رَدِيئَةٌ.
وأَرَابَ الأَمْرُ: صَارَ ذَا رَيْبِ ورِيبَةٍ، فهو مُرِيبٌ، حَكَاه سيبويه، وفي لسان العرب عن الأَصمعيّ: أَخْبَرَنِي عِيسَى بن عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ هُذَيْلًا تقول: أَرَابَنِي أَمْرُه، وأَرَابَ الأَمْرُ: صَارَ ذَا رَيْبِ، وفي التنزيل العزيز {إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أَيْ ذِي رَيْبٍ، قال ابن الأَثِير: وقد تَكَرَّرَ ذِكْرُ الرَّيْبِ وهو بمَعْنَى الشَّكِّ مَعَ التُّهَمَةِ تقول: رَابَنِي الشَّيْءُ وأَرَابَنِي بمَعْنَى شَكَّكَنِي وأَوْهَمَنِي الرِّيبَةَ بِه فإِذا اسْتَيْقَنْتَه قلْتَ: رَابَنِي، بغَيْرِ أَلِفٍ، وفي الحديث «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلى ما لَا يُرِيبُكَ» يُرْوَى بفَتْحِ اليَاءِ وضَمِّهَا، أَيْ دَعْ مَا يُشَكُّ فيهِ إِلى مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ. وفي حديث أَبِي بَكْرٍ في وَصِيَتِهِ لِعُمَر رضي الله عنهما: «علَيْكَ بالرَّائِبِ مِنَ الأُمُورِ وَإِيَّاكَ والرَّائِبَ مِنْهَا» المَعْنَى عَلَيْكَ بالذي لَا شُبْهَةَ فِيهِ كالرَّائِبِ مِن الأَلْبَانِ، وهو الصّافِي، وَإِيَّاكَ والرَّائِبَ مِنْهَا: أَي الأَمْرَ الذي فيه شُبْهَةٌ وكَدَرٌ، فالأَوَّل مِنْ رَابَ اللَّبنْ يَرُوبُ فهو رَائِبٌ، والثَّانِي مِنْ رَابَ يَرِيبُ إِذَا وَقَعَ في الشَّكِّ، ورَابَنِي فلانٌ يَرِيبُنِي: رَأَيْتَ مِنْه ما يَرِيبُكَ وتَكْرَهُهُ واسْتَرَابَ بِهِ إِذَا رَأَى مِنْه مَا يَرِيبُه، قَالَتْهُ هُذَيْلٌ، وفي حديث فاطمةَ رضي الله عنها: «يُرِيبُنِي مَا يُرِيبُهَا» أَي يَسُوءُني ما يَسُوءُهَا ويُزْعِجُنِي مَا يُزْعِجُهَا، وفي حديثِ الظَّبْيِ الحَاقِفِ: «لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ» أَيْ لَا يَتَعَرَّض لَهُ ويُزْعِجُهُ وأَمْرٌ رَيَّابٌ، كَشَدَّادٍ: مُفْزِعٌ.
وارْتَابَ فيهِ: شَكَّ.
ورَابَنِي الأَمْرُ رَيْبًا، أَيْ نَابَنِي وأَصَابَنِي، ورَابَنِي أَمْرُه يَرِيبُنِي؛ أَي أَدْخَلَ عَلَيَّ شَرًّا وَخَوْفًا.
وارْتَابَ بِهِ: اتَّهَمَهُ.
وفي التهذيب: أَرَابَ الرَّجُلُ يُرِيبُ إِذَا جَاءَ بِتُهَمَةٍ، وارْتَبْت فلانًا: اتَّهَمْتُه، كذا في التهذيب والرَّيْبُ شَكٌّ مَعَ التُّهَمَةِ، و: موضع قال ابْنُ أَحْمَرَ:
فَسَارَ بِهِ حَتَّى أَتَى بَيْتَ أُمِّهِ *** مُقِيمًا بِأَعْلَى الرَّيْبِ عِنْدَ الأَفَاكِلِ
وقَدْ حَرَّكَهُ أُنَيْفُ بن حكيم النَّبْهَانِيّ في أُرْجُوزَتِه:
هَلْ تَعْرِف الدَّارَ بِصَحْرَاءِ رَيَبْ *** إِذْ أَنْتَ غَيْدَاقُ الصِّبَاجَمُّ الطَّرَبْ
وَبيْتُ رَيْبٍ: حِصْنٌ باليَمَنِ ويُعَدُّ مِنْ تَوَابِعِ قَلْعَةِ مَسْوَرِ المُنْتَابِ، وهي قِلَاعٌ كَثِيرَةٌ يَأْتِي ذِكْرُ بعضِها في مَحَلِّهَا.
وأَرْيَابُ: قَرْيَةٌ باليَمَنِ مِنْ مَخَالِيفِ قَيْظَانَ مِنْ أَعْمَالِ ذِي جِبْلَةَ، قال الأَعشى:
وَبِالقَصْرِ مِنْ أَرْيَابَ لَوْ بِتَّ لَيْلَةً *** لَجَاءَكَ مَثْلوجٌ مِنَ المَاءِ جَامِدُ
كذا في المعجم.
ورَابٌ: مَوْضِع جاءَ في الشِّعْرِ.
والرَّيْبُ بن شَرِيقٍ: صَاحِبُ هَدَّاجٍ: فَرَسٍ لَهُ. ذَكَرَه المُصَنِّف في «هدج».
ومالِكُ بنُ الرَّيْبِ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ.
ورَيْبُ بن رَبِيعَةَ بنِ عَوْفِ بنِ هِلَال الفَزَارِيّ، قَيَّدَه الحافظُ.
ويقال الزاء كما سيأْتي فيقيد بالمعجمة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
218-تاج العروس (شصب)
[شصب]: الشِّصْبُ بالكَسْر: الشِّدَّةُ والجَدْب الجمع: أَشْصَابٌ كالشَّصِيبَة وكَسَّر كُرَاعٌ الشَّصِيبَة الشِّدَّة على أَشْصَابٍ في أَدْنَى العَدَدِ، قال: ولِلْكَثِير شَصَائِب. قال ابنُ سِيدَه: وهذا منه خَطَأٌ واخْتِلَاطٌ. وشَصِبَ الأَمْرُ، بالكسر: اشْتَدَّ.وعن ابن هانئ: إنه لَشَصِبٌ نَصِبٌ وَصِبٌ إِذا أُكِّدَ النَّصِب.
والشِّصْبُ: النَّصِيبُ والحَظُّ كالشَّصِيب كالشِّقْص والشَّقِيص.
والشَّصْبُ بالفتح: السَّمْطُ والسَّلْخُ. يقال: شَصَبَ الشَّاةَ: سَلَخَهَا. وقال أَبُو العَبَّاسِ: المَشْصُوبَةُ: الشَّاةُ المَسْمُوطَة.
والشَّصْبُ: اليُبْسُ، ويُحَرّك ذكرهما الصَّاغانِيّ.
والشَّصَّابُ: القَصَّابُ، وهو الجَزَّار.
والشُّصُبُ كعُنُق: الشَّاةُ المَسْلُوخَةُ.
وعيْشٌ شاصِبٌ: شَاقٌّ. وقَدْ شَصِبَ عَيْشُه شَصَبًا وشَصْبًا، وشَصَبَ كنَصَرَ يَشْصُبُ شُصُوبًا فَهُوَ شَصِبٌ كفَرِح وشَاصِبٌ. وأَشْصَبَه اللهُ وأَشْصَبَ اللهُ عَيْشَه. قال جَرِيرٌ:
كِرَامٌ يَأْمَنُ الجِيرَانُ فِيهِم *** إِذَا شَصَبَتْ بِهِم إِحْدَى اللِّيَالِي
وشَصَبَت النَّاقَةُ بالفَتْح علَى الفَحْل: كَثُر ضِرابُهَا ولم تَلْقَحْ لَهُ.
والشَّصِيبُ كأَمير: الغريب.
والشَّصِيبَةُ بهاء: قَعْرُ البئر. قال الفرّاءُ: يقال بئرٌ بعيدةُ الشَّصِيبَة إِذا اشْتَدَ عَمَلُهَا وبَعُد قَعْرها.
وعن الليث: الشَّيْصَبانُ بفتح الأول والثالث: ذَكَرُ النمل أَو جُحْرُه.
والشَّيْصَبَان: قَبِيلَةٌ من الجِنّ.
في لسان العرب ما نصه، قال حَسَّانُ بْنُ ثَابِت [و] كَانَت السِّعْلَاة لَقِيَتْه في بَعْضِ أَزِقَّةِ المَدِينَة فصَرَعَتْه وقَعَدَت عَلَى صَدْرِه، وقالَت لَهُ: أَنْتَ الذي يُؤَمِّل قومُك أَن تَكُونَ شَاعِرهم؟ فقال: نعم، قالت: والله لا يُنْجِيكَ مِنِّي إلا أَنْ تَقُولَ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ على رَوِيٍّ وَاحِد، فقال حَسّان:
إِذَا ما تَرَعْرَعَ فِينَا الغُلَام *** فَمَا إِنْ يقالُ لَهُ: مَنْ هُوَه
فقالت له: ثَنِّه. فقال:
إِذا لم يَسُد قَبْلَ شَدِّ الإِزَارِ *** فذَلِكَ فِينَا الذي لاهُوَهُ
فَقَالَتْ: ثَلِّثْه. فقال:
ولي صَاحِبٌ من بَني الشَّيْصَبَانِ *** فَطَوْرًا أَقُولُ وَطَوْرًا هُوَه
هذا قولُ ابْن الكَلْبِيّ. وحكى الأثْرَمُ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُلَمَاءُ الأَنْصَار أَنّ حَسَّانَ بن ثَابِت بعد ما ضُرَّ بَصَرُه مَرَّ بابن الزِّبَعْرَى وعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْل بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَرَام، ومعه وَلَدُه يَقُودُه، فصَاحَ به ابْنُ الزِّبَعْرَى بَعْد ما وَلِّى: يَا أَبَا الوَلِيد، مَنْ هذا الغُلَام؟ فقال حَسّان بن ثَابِت الأَبيات، انْتَهَى. والشَّيْصَبَانُ، اسْمُ الشَّيْطَان وكذا البلْأَز والجَلْأَز والقَازُّ والخَيْتَعُور كُلُّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَان.
وحَكى الفَرَّاءُ عن الدُّبَيْريِّينَ: أَنَّه هُوَ الشَّيْطَان الرَّجيمُ.
والشَّصَائِبُ: عِيدَانُ الرَّحْلِ، ولم يُسْمَع لها بِوَاحِدٍ. قال أَبو زُبيد:
وَذَا شَصَائِبَ في أَحْنَائِهِ شَمَمٌ *** رِخْوَ المِلاطِ رَبِيطًا فَوْقَ صُرْصُورِ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
219-تاج العروس (عرب)
والعَرَبِيَّة هي هَذِه اللُّغَةُ الشرِيفَةُ رَفَعَ اللهُ شأْنَهَا. قال قَتَادَة: كَانتْ قريشٌ تَجْتَبِي أَي تَخْتَار أَفضلَ لُغَات العَرَب، حَتَّى صار أَفضلُ لُغَاتِهَا لُغَتَهَا، فنزَلَ القرآن بِهَا، واختُلِف في سَبَب تَسْمِيَة العَرَب، فقِيل لإِعْرَاب لِسَانِهِم أَي إِيضاحِه وَبَيَانِه؛ لأَنَّه أَشرَفُ الأَلْسُن وأَوضَحُهَا وأَعربُهَا عَن المُرَاد بوُجُوهِ من الاختِصار والإِيجَاز والإِطناب والمُسَاوَاة وغَيْرِ ذَلِكَ. وقد مَالَ إِلَيْه جَمَاعَةٌ ورجَّحُوه من وُجُوه، وقيل: لأَنّ أَولَاد إِسماعيل صلى الله عليه وسلم نَشَأوا بعَرَبَة، وهو من تِهامَة، فنُسِبوا إِلى بَلَدِهم. ورُوِي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «خمسةُ أَنْبِيَاء من العَرَب هُمْ مُحَمَّدٌ وإِسْمَاعِيلُ وشُعَيْبٌ وصَالِحٌ وهُودٌ» صلوَات الله عليهم. وهذا يَدُلّ على أَنّ لسانَ العَرَب قَدِيم، وهؤُلاء الأَنْبِيَاءُ كُلُّهم كانُوا يَسُكُنُون بلَادَ عَرَبَة، فكان شُعَيْبٌ وقومُه بأَرْضِ مَدْيَن، وكان صَالِح وقومُه بأَرْضِ ثَمُودَ، ينزِلون بناحِيَة الحِجْر، وكانَ هُودٌ وقومُه عادٌ يَنْزِلُون الأَحْقَافَ مِنَ رِمَال اليَمَن، وكَانَ إِسمَاعِيلُ بْنُ إِبراهِيمَ والنَّبِيّ المُصْطَفَى صَلَّى الله عليهما من سُكَّان الحَرَم. وكُلّ من سَكَن بلادَ العَرَب وجَزِيرَتَهَا ونَطَق بلِسَان أَهْلِهَا فهم عَرَبٌ، يَمَنُهم وَمَعَدُّهم.قال الأَزْهَرِيّ: وَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ بِعَرَبَة فتَنَّخَتْ بِهَا، وانْتَشَرَ سَائِرُ العَرَب في جَزِيرَتها فنُسِبَتِ العَرَبُ كُلُّهم إِلَيْهَا، لأَنَّ أَبَاهم إِسْمَاعِيل، صلى الله عليه وسلم، بها نَشَأَ ورَبَلَ أَولَادُه فِيهَا فَكَثروا، فَلَمَّا لم تَحْتَمِلْهم البِلَاد انْتَشَرُوا، فأَقَامت قُرَيْشٌ بِهَا. ورُوِيَ عن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه قَال: قُرَيْشٌ هم أَوْسَطُ العَرَب في العَرَب دارًا وأَحْسَنُه جِوَارًا، وأَعْرَبُه أَلْسِنَةً.
وقد تَعَقَّب شَيْخُنَا هَاهُنَا المُؤَلِّفَ بأُمُورٍ: الأَوَّلُ المَعْرُوفُ في أَسْمَاءِ الأَرَضينَ أَنّها تُنْقَل من أَسْمَاءِ سَاكِنيهَا أَو بَانِيها أَو مِن صِفَة فِيهَا أَو غَيْرِ ذلك. وأَما تَسْمِيَةُ النَّاسِ بالأَرْضِ ونَقْلُ اسْمِهَا إِلَى مَنْ سَكَنَهَا أَو نَزَلَهَا دون نِسْبَة فَغَيْرُ معروفٍ وإِنْ وَقَع في بَعْضِ الأَفْرَاد كَمَذْحِج، عَلَى رأْي.
والثَّانِي أَنَّ قولَهم سُمِّيَت العَرَبُ باسْمِها لنُزُولِهِم بِهَا صَرِيحٌ بأَنَّها كانَتْ مُسمَّاةً بذلك قَبْل وُجُودِ العَرب وَحُلُولِهم الحِجَازَ وما وَالاه مِن جَزِيرَة العَرَب، والمعروفُ في أَراضِي العَرَبِ أَنَّهم هُمُ الَّذِين سَمَّوْهَا ولَقَّبُوا بُلدانَها ومِيَاهَا وقُرَاهَا وأَمْصَارَهَا وبَادِيَتَهَا وحَاضِرَتَها بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْباب، كَمَا هُوَ الأَكْثَر، وقد يَرْتَجِلُون الأَسْمَاءَ ولا يَنْظُرُون لِسَبَب.
والثَّالِثُ أَنَّ ما ذُكِر يَقْتَضِي أَنَّ العَرَب إِنَّما سُمِّيَت بِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهَا فِي هَذِه القَرْيَة والمَعْرُوفُ تَسْمِيَتُهُم بِذلِك في الكُتُب السَّالِفَة، كالتَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وغَيْرِهِما، فكَيْفَ يُقَالُ إِنهُم إِنَّمَا سُمُّوا بَعْدَ نُزُولهم هَذِه القَرْيَة.
والرَّابِعُ أَنَّهُم ذُكِرُوا مَع بَقَايَا أَنْوَاع الخَلْق، كالفُرْسِ والرُّومِ والتُّرْك وغَيْرِهِم، ولم يَقُل فيهم أَحَدٌ إِنهم سُمُّوا بأَرْضٍ أَو غَيْرِهَا، بَلْ سُمُّوا ارتِجَالًا، لا لِصَفَةٍ أَو هَيْئة أَو غَيْرِ ذلِك، فالعَرَب كذلك.
والخَامِسُ أَنَّ المعروفَ في المَنْقُولِ أَنْ يَبْقَى على نَقْلِه على التَّسْمِيَة، وإِذا غُيِّر إِنَّمَا يُغَيَّر تَغْيِيرًا جُزْئِيًّا للتَّمْيِيزِ بَيْنَ المَنْقُول والمَنْقُولِ عَنْه فِي الجُمْلَة، والمَنْقُولُ هنا أَوْسَعُ دائِرَةً مِن المنقول عَنْه من جِهَاتٍ ظَاهِرَة، ككَوْنِ أَصْلِ المَنْقُول عَنْه سَرَبَةً بالهَاءِ، ولا يُقَال ذلِكَ في المَنْقُولِ، وكَكَوْنِهِم تَصَرَّفُوا فيه بلُغَات لا تُعْرَف ولا تُسْمَع في المَنْقُولِ، عنه، فقَالُوا عَرَبٌ، مُحَرَّكَة، وعُرْب، بالضَّم، وعُرُبٌ، بضَمَّتَيْن، وأَعْرَابٌ وأَعْرَابِيٌّ، وغَيْرُ ذلك.
والسَّادِسُ أَنَّ العَرَب أَنْوَاعٌ وأَجْنَاسٌ وشُعُوبٌ وقَبَائِلُ مُتَفَرّقُونَ في الأَرْضِ، لَا يَكَادُ يَأْتِي عليهم الحَصْرُ، ولا يُتَصَوَّر سُكْنَاهم كُلِّهم في هَذِه القَرْيَة أَو حُلُولُهم فِيهَا، فكَانَ الأَوْلَى أَن يُقْتَصَرَ بالتَّسْمِية على مَنْ سَكَنَها دُونَ غَيْرِه.
ثم أَجَابَ بِمَا حَاصِلُه: أَنَّ إِطْلَاقَ العَرَب عَلَى الجِيلِ المَعْرُوف لا إِشْكَالَ أَنَّه قَدِيم كغيره من أَسْمَاءِ بَاقِي أَجْنَاسِ الناس وأَنْوَاعهم، وَهُو اسْمٌ شَامِل لِجَمِيع القَبَائِل والشُّعُوبِ، ثم إِنَّهم لَمَّا تَفَرَّقُوا في الأَرَضِين وتَنَوَّعت لَهُم أَلقابٌ وأَسماءٌ خَاصّة باخْتِلاف ما عرضت من الآباءِ والأُمهات والحالات التي اخْتَصَّت بِهَا كقُرَيْشٍ مَثَلًا وثَقيفٍ ورَبِيعَةَ ومُضَر وكِنَانة ونِزَار وخُزَاعة وقُضَاعَة وفَزَارة ولِحْيَان وشَيْبَان وهَمْدان وغَسَّان وغَطَفَان وسَلْمَان وتَمِيم وكَلْب ونُمير وإِيَاد وَوَداعَة وبَجِيلَة وأَسْلَم ويَسْلَم وهُذَيْل ومُزَيْنَة وجُهَيْنة وعَامِلَة وبَاهِلَة وخَثْعَم وطَيِّئ والأَزْد وتَغْلِب وقَيْس ومَذْحِج وأَسد وعَنْبس وعَنْس وَعَنَزَة ونَهْد وبَكْر وذُؤَيْب وذُبْيَان وكِنْدَة ولَحمْ وجُذَام وضَبَّة وضِنَّة وسَدُوس والسَّكُون وَتَيْم وأَحْمَسَ وغَيْرِ ذلك، فأَوْجَب ذلِك تمييز كُلِّ قَبِيلَة باسْمِهَا الخَاصّ، وتُنُوسِيَ الاسْمُ الّذِي هو العَرَب، ولم يَبْقَ له تَدَاوُلٌ بينهم ولا تَعَارُفٌ، واستَغْنَت كُلُّ قَبِيلَة باسْمِهَا الخَاصّ، مع تَفَرُّق في القَبَائل وَتَبَاعُد الشُّعُوب في الأَرْضِينَ. ثم لَمَّا نَزَلَت العَرَبُ بِهذِه القَرْيَة، في قَوْل، أَو قُرَيْشٌ بالخُصُوص، في قَوْل المُصَنّف، رَاجَعُوا الاسْمَ القَدِيم وتَذَاكَروه وتَسَمَّوْا بِه، رُجُوعًا للأَصْل، فمَنْ عَلَّل التَّسْمِيَة بما نَقَلَه البَكْرِيُّ وَغَيْرُه نَظَر إِلَى الوَضْع الأَوّل المُوَافِق للنَّظَرِ من أَسْماءِ أَجْنَاسِ النَّاسِ. ومَنْ عَلَّل بِمَا ذَكَرَه المُصَنِّف وغيرُه مِنْ نُزُول عَربَة نَظَرَ إِلى ما أَشَرْنَا إِليه.
ويَدُلُّ على أَنّه رُجُوعٌ للأَصْل وتَذَكُّرٌ بَعْدَ النِّسْيَان أَنَّهُم جَرَّدُوهُ من الهَاءِ المَوْجُودَةِ في اسم القَرْيَة وذَكّرُوه على أَصْلِه المَوْضُوعِ القَدِيم. هَذَا نَصُّ جَوَابه. وقد عَرَضَه على شَيْخَيْهِ سَيِّدِنا الإِمام مُحَمَّدِ بْنِ الشَّاذِلِيِّ وَسَيِّدِنَا الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ المسنَّاوِيّ تَغَمَّدَهُما الله تعالى بغُفْرَانِه فارْتضَيَاه وسَلَّما له بالقَبُول وأَجْرَياه مُجْرَى الرَّأْي المَقْبُول وأَيَّدَه الثَّانِي بقَوْله: إِنَّه ينظُر إِلى ما اسْتَنْبَطُوه في الجَوَاب عن بَعْضِ الأَدلَّة التي تَتَعَارض أَحْيَانًا فتَتَخَرَّج على النّسبِيَّات والحَقِيقِيَّات.
وذكر شيخُنَا بعد ذلك أَوَّلِيَّةَ بناءِ المَسْجِدِ الحَرَام والمَسْجِدِ الأَقْصَى لإِبْرَاهِيمَ وسليمان عَلَيْهِمَا السَّلَامَ مَع أَنَّ الأَوَّلَ مِنْ بناءِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مع المَلَائِكَةِ. والثَّاني من بِناءِ آدَم عَلَيْه السَّلَامُ، فَقَالُوا اتُنُوسِي بِنَاءُ هؤُلاءِ بمُرُور الأَزْمَان، وتَقَادُم العَهْد فَصَار مَنْسُوبًا لسَيِّدِنا إِبْرَاهِيم وَسَيِّدِنا سُلَيْمَان، فَهُوَ الأَوْلَى بهذَا الاعْتِبَار، إِلَى آخِرِ ما ذكر.
قلت: وقد يُقَالُ إِنَّ رَبِيعَةَ ومُضَرَ وكِنَانَة ونِزَارًا وخُزَاعَة وقَيْسًا وضَبَّة وغَيْرَهم مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلام مِمّن ذكر آنِفا. ولم يَذْكُر من العَرب المستَعْربة وهم سكان هذه الجزيرة ومجاور وسَاحَات مَكَّةَ وأَوْدِيَتِها، وقد تَوَارَثُوها من العَرَب العَارِبة المُتَقَدِّم ذِكْرُهم وإِن تَشَتَّت منهم في غَيْرِها فَقَلِيل من كَثِير، كيف تُنُوسِي بَيْنَهم هَذا الاسْم ثم تُذُوكِرُوا به فِيمَا بَعْد، وهَذا لا يَكُون إِلا إِذَا فُرِض وقُدِّر أَنه لم يَبْق بِتِهامَةَ من أَولادِ إِسْمَاعِيل أَحَدٌ وهَذَا لَا قَائِل به. وقوله: ثم لَمَّا نَزَلَت العربُ، ليتَ شِعْري أَيّ العَرَب يَعْنِي؟ أَمِن العَرَب العَارِبَة فإِنهم انْقَرَضُوا بِهَا ولم يُفَارِقُوها أَو من المُسْتَعْرِبَة وَهُم أَولادُ إِسْمَايَلِ، واخْتَصَّ مِنْهم قُرَيش فَصَار القَوْلَانِ قَوْلًا وَاحِدا..
ثم الجَوَاب عما أَورده. أَمَّا عن الأَوَّل فَلِمَ لا يَكُون هَذَا من جُمْلَة الأَفْرَاد التي ذكرها كمَذْحِج وغَيْرِه، ومنْهَا نَاعِط وشَبَام قَبِيلَتَان من حِمْيَر؛ سُمِّيتَا باسْمِ جَبَلَيْن نَزَلَاهُمَا، وكَذَلك بنو شُكْر بالضَّم سُمُّوا باسْمِ المَوْضِع، وفي مُعْجَمِ البَكْرِيّ: سُمي جُدَّة بن جرم بْنِ رَيّان بْنِ حُلْوان بْنِ الحَافِ بْنِ قُضَاعَة بالموضع المعروف من مكة لولادته بِهَا، وهذا قد نَقَلَه شيخُنَا في شَرْحِ الكِتَاب في الجمع: بلد د كما سيأْتي.
وفي معجم ياقوت: مَلَكَانُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ؛ سُمِّي باسْم الوَادِي وهو مَلِك من أَوْدِيَة مَكَّة لوِلَادَتِهِ فيه.
وقرأْت في إِتحافِ البَشَر للنَّاشِريّ ما نَصُّه: فَرَسَانُ مُحَرَّكَة: جَبَلٌ بالشَّام سُمِّيَ به عِمْرَانْ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِب، لاجتيازه فيه، وبه يُعْرَف ولدُه. ورأَيْت في تاريخ ابن خِلِّكَان مَا نَصّه: كاتم والتُّكرور: جِنْسَانِ من الأُمم سُمِّيا باسْم أَرْضِهِما، ومثلُه كَثِير يعرفه المُمَارِس في هَذا الفن.
وعند التأَمل فيما ذكرنا يَنْحَلُّ الإيرادُ الثَّانِي أَيضًا.
وأَما عن الثَّالِث فنقول: ما المَرادُ بالعَرَب الذينَ تَذْكرُهم؟ أَهُمُ القَبَائِلُ الموجودةُ بالكثرة التي تَفَرَّعت قريبًا، أَم هُمْ أَولادُ إِرَم بْنِ سَام البطونُ المُتَقَدِّمَة بعد الطُّوفَان؟ فإِن كان الأَوّل فإِنهم ما نَزَلُوا عَرَبَة ولا سَكَنُوهَا، وإِن كَان الثَّانِي فلا رَيْبَ أَنَّ التوراة والإِنْجِيلَ وغَيْرهما من الكُتُب مَا نَزَلَت إِلَّا بَعْدَهم بكَثِير، وكَان مَعَدُّ بْنُ عَدْنَان في زَمَن سَيِّدِنا مُوسَى عليهالسلام، كما يَعْرِفُه مَنْ مارس عِلْمَ التَّوَارِيخ والأَنْسَاب. وأَمَّا ما وَرَد في حَدِيثِ المَوْلد من إِطْلَاق لَفْظِ العَرَب قَبْلَ خَلْق السموات والأَرْض فهو إِخْبَار غَيْبِيٌّ بما سَيَكُون، فهو كَغَيْرِه مِن المُغَيَّبَات.
وأَمَّا عن الرَّابع فإِنه إِذا كَان بعضُ الأَسْماءِ مُرْتَجَلَةً وبَعْضُهَا مَنْقولَةً لَا يُقَالُ فيها: لمَ لم تَكُن مُرْتَجَلات كُلُّها أَو مَنْقُولَاتٍ كُلّهَا حَتَّى يلزم ما ذكر لاختلافِ الأَسْبَاب والأَزمنة.
وأَما عَن الخَامِس فنقول: أَلَيسَ التعريبُ في الكلام هو النَّقْلَ من لِسَان إِلى لِسَان. فالمُعرَّب والمعرَّب مِنْه هو المَنْقُول والمَنْقُولُ مِنْه. وهذا لَفْظ العرَبُون في هذه المادة سيأْتي عن قريب وهو عَجَمِيّ. كيف تَصَرَّفُوا فيه مِن ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ أَعْرَبَ وعَرَّب وعَرْبَن واشتَقُّوا منها أَلفَاظا أُخَر غير ذلك، كما سيأْتِي، فيُجْعَل هذَا مِنْ ذَاك. وهذَا لَفْظُ العَجَم تصرفوا فِيهِ كما تَصَرَّفوا في لفظ العَرَب.
وأَما عَنِ السَّادِس فأَنْ يُقَالُ: إِن كان المُرَادُ بعَرَبَة الَّتي نُسِبَت العرَب إِليهَا هِي جَزِيرة العرَب، عَلَى ما في المَرَاصِد وغيره، وبِالعَرَب هم أُصُولُ القَبَائِل، فلا إِشكالَ، إِذْ هم لم يَخْرُجُوا مِنَ الجَزِيرَةِ، والذي خَرَجَ من عَمَائِرهم إِنَّمَا خرَج في العَهْد القَرِيب وهم قَليل، وغَالِبُهم في مواطنهم فيها، وأَمَّا الشُّعوبُ والقَبَائِلُ التي تفرَّعَتْ فِيمَا بَعْد فهم خَارِجون عَن البَحْثِ، وكذلك إِن كان المرادُ بها مَكّة وسَاحَاتِهَا، فإِنّ طسمَ وجَدِيسَ وعِمْلِيقَ وجُرْهُمَ سَكَنُوا الحَرَم وَهُم العَرَبُ العَارِبَة، ومنهم تَعَلَّم سيدُنا إِسماعِيل عليهالسلام اللسانَ العَرَبِيَّ. وعادٌ وثمودُ وأُميم وعَبيل وَوَبار، وهم العرب العاربة، نزلوا الأَحقَافَ وَمَا جَاورَها وهي تِهَامَةُ على قَوْل من فَسَّر عربَة بِتهَامَة، فَهؤلاء أُصُولُ قَبَائِل العرَبِ العَارِبَةِ التي أَخذَت المُسْتَعُرِبَةُ مِنْهم اللِّسَانَ قَد نَزَلُوا ساحَاتِ الحَرَم، ومنهم تَفَرَّعَت القَبَائلُ فيما بعد وتَشَتَّتَتْ، فبقي هذا اللفظُ عَلَمًا عليهم لسُكْنى آبَائِهم وجُدُودهِم فيها وإِن لم يَسْكُنُوا هم، وقد أَسلفْنَا كلامَ الأَزْهَرِيّ وغَيْرِه وهو يُؤَيِّد ما ذكرنَاه، ثم إِن قول المصنف: أَقامت قريش إِلى آخره. وفي التهذيب وغيره: أَقامت بَنُو إِسماعيل، وعلى القَوْلين تَخْصِيصُهما دُون القَبَائل إِنما هو لشرفِهِما ورِياسَتِهِما على سَائِر العرب فصارَ الغَيْرُ كالتَّبَع لهما، فلا يقال: كان الظاهر أَن تُسَمَّى بها قريش فقط، ويدُلّ لمَا قُلنا أَيضًا ما قَدَّمْنا أَنَّه يُقَال رَجُل عَرَبيّ إِذا كان نسبُه في العَرَب ثابِتًا وإِن لم يَكُن فَصيحًا، ومَنْ نَزَلَ بلاد الرِّيف واستوطَن المُدُن والقُرَى العَربِيَّة وغيرَهمَا مِمَّا يَنْتَمِي إِلى العَرَب فَهُم عَرَب وإِن لم يكُونُوا فُصَحَاءَ، وكَذَا ما قَدَّمنا أَنّ كلَّ مَنْ سكن بلاد العَرَب وجَزِيرَتَهَا ونَطَق بِلِسَانِ أَهلِها فَهُم عَرب، يَمَنُهم وَمَعَدُّهُم.
وعرَبَةُ التي نُسِبَت إِليها العربُ اختُلفَ فيها، فقال إِسحاقُ بنُ الفَرَج: هِيَ بَاحَةُ العَرَبِ أَي ساحتهم وبَاحَةُ دَارِ أَبِي الفَصَاحَة سيدنا إِسْمَاعِيل عَلَيْه السَّلَام والمرادُ بذلك مَكَّة وسَاحَاتُهَا. وقَال بعضهم: هِيَ تِهَامة وقد تَقدَّمت الإِشَارَة إِليه. وفي مراصِد الاطّلاعِ: إنّها اسمُ جَزِيرَة العَرَب واضطُرَّ الشَّاعِرُ إِلَى تَسْكِين رَائِها أَي من عَرَبَة فَقَالَ مُشِيرًا إِلى أَنَّ عربَة هي مَكَّةُ وسَاحاتُها:
وَعَرْبَةُ أَرْضٌ ما يُحِلُّ حَرَامَها *** مِنَ النَّاسِ إِلَّا اللَّوْذَعِيُّ الحُلَاحِلُ
يَعْنِي الشاعِرُ باللَّوذعيِّ الحُلَاحِل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فإِنَّه أُحِلّت له مكةُ ساعة من نهار ثم هِيَ حَرَامٌ إِلى يوم القيامة.
والعَرَبَاتُ مُحَرَّكة: بِلادُ العرب، كما في المراصد، ووجدت له شاهدًا في لسان العرب:
ورُجَّتْ باحَةُ العَرَبَات رَجًّا *** تَرَقْرَقُ في مَنَاكِبِها الدِّمَاءُ
ويَدُلُّ له قولُ الأَزْهَرِيّ ما نَصُّه والأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُم سُمُّوا عربًا باسْمِ بَلَدِهِم العَرَبَات، وقد أَغفَلَه المصنف.
والعَرَبَاتُ أَيضًا: طَرِيقٌ في جَبَل بِطَرِيقِ مِصْرَ نَقَلَه الصّاغانيّ.
والعَرَبَات: سُفُنٌ رواكِدُ كَانَتْ في دجْلَةَ النَّهْرِ المعْرُوف، وَاحِدتها عَرَبَة.
وقولهم: مَابِهَا أَي بالدَّارِ عَرِيبٌ ومُعْرِبٌ أَي أَحَدٌ، الذكَرُ والأُنثى فيه سواءٌ، ولا يُقَال في غَيْرِه النَّفْيِ.
والعُرْبَانُ كعُثْمان والعُرْبُونُ بضَمِّهِما والعَرَبُونُ، مُحَرَّكَةً وقَد تُبْدَلُ عَيْنُهُنَّ هَمْزَةً على الأَصْل المَنْقُول منه، نَقَلَه الفِهْرِيّ في شَرْح الفَصِيح عن أَبِي عُبَيْد في الغَرِيب ونقله أَيضًا عن ابْنِ خَالَوَيْهِ، وقد تُحذَف الهَمْزةُ فيُقَال فيه الرَّبُون كأَنَّه من رَبَن، حَكاهُ ابْنُ خَالَوَيْه وأَوْرَده المُصَنِّف هناك، فهِي سَبْعُ لُغَات، ونقل شيخُنَا عن أَبِي حَيَّان لُغَةً ثَامِنَة وهي العَرْبُون، بفتح فسكون فضم. قلت: وهي لُغَةٌ عَامِّيَّة، وقد صرح أَبو جَعْفَر اللَّبْلِيّ بمَنْعِهَا في شَرْح الفَصِيح مما نَقَله عن خَطّ ابنِ هشَام، وصَرّح الكَمَالُ الدِّمِيرِيّ في شَرْح المِنْهَاج بأَنَّه لفظٌ مُعَرَّب ليسَ بعربيّ، ونَقلَه عن الأَصمَعِيّ القَاضي عِياضٌ والفَيُّومِيُّ وغيرهُمَا، وأَورَدَه الخَفَاجيُّ في شِفَاءَ الغَلِيل فيمَا في لغة العَرَب من الدَّخِيل، وحَكَى ابنُ عُدَيْس لُغَةً تَاسِعَةً قال: نقلتُ من خَطّ ابن السّيد، قال: أَهلُ الحِجَاز يقولون: أُخِذَ مِنّي عُرُبَّان بضمَّتَيْنِ وتَشْدِيد الموحَّدة، نقَله بعضُ شُرَّاح الفَصِيح، قاله شيخُنَا، ونَقَل أَيضًا عن بعض شُرُوح الفَصيح أَنه مشْتَقٌّ من التَّعْرِيب الذي هُوَ البَيَان؛ لأَنَّه بَيَان للبَيْع.
والأَرَبُونُ مشتَقٌّ من الأُرْبَةِ وهو العُقْدَة؛ لأَنَّه به يَكُون انْعِقَادُ البَيْع، وسَيَأْتِي. وهو ما عُقِدَ بِهِ المُبَايَعَةُ، وفي بَعْضِ البيعة مِنَ الثَّمَنِ، أَعجميّ عُرِّب. وفي الحديث «أَنَّه نَهَى عَنْ بَيْعِ العُرْبَانِ» وهو أَن يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ ويَدْفَع إِلى صَاحِبها شيئًا على أَنَّه إِن أَمْضَى البَيْعَ حُسِب من الثَّمَن، وإن لم يُمْضِ البَيْعَ كان لِصَاحِبِ السِّلْعَة، ولم يَرْتَجِعْه المُشْتَرِي. يقال: أَعْرَبَ في كَذَا وَعَرَّبَ وعَرْبَنَ وهو عُرْبَانٌ وعُرْبُون.
وفي المصباح: وهو القَلِيلُ من الثَّمَن أَو الأُجْرَة يُقَدِّمُه الرجلُ إِلى الصانع أَو التاجرِ ليَرتَبِطَ العقْدُ بينَهما حتى يَتَوَافَيا بعد ذَلِك، ومِثْلُه في شُرُوح الفَصِيح فكَمَا أَنَّه يكونُ في البيع يكون في الإِجَارَة، وكَأَنَّه لمَّا كان الغَالِبُ إِطلاقَه في البيع اقتَصَروا عليه فيه، قاله شيخُنَا.
وفي لسان العرب: سُمِّيَ بذلكَ لأَنَّ فيه إِعْرَابًا لعَقْد البيع؛ أَي إِصلاحًا وإِزَالة فَسَادٍ؛ لئلا يَمْلِكَه غيرُه باشتِرائِه، وهو بَيْعٌ باطلٌ عند الفُقَهَاء، لِمَا فِيهِ من الشَّرْط والغَرَر، وأَجازه أَحْمَدُ. ورُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ إِجَازَتُه. قال ابنُ الأَثير: وحَدِيثُ النَّهْي مُنْقَطِع وفي حَدِيثِ عُمَر «أَنَّ عَامِلَه [بمكة] اشتَرَى دَارًا للسِّجْنِ بأَرْبَعَةِ آلَاف، وأَعْرَبُوا فِيهَا أَربَعمِائة» أَي أَسْلَفُوا، هذه عِبَارَة لِسَانِ العَرَب بعَيْنِها، فلا اعْتِدَادَ بما قَالَه شيخُنَا ونَسَبَ ابْن مَنْظُور إِلى القُصُور.
وعَرَبَانُ مُحَرَّكَةً: بلد بالخَابُورِ. وكَسَحَابة: عَرَابَةُ بْنُ أَوْسِ بن قَيظِيّ بْنِ عَمْرو بْنِ زَيْد بن جُشَم بنِ حَارِثة من بَنِي مَالِكِ بْنِ الأَوْس ثم مِن بَنِي حَارِثَة منهم. قال ابنُ حِبّان: له صُحْبَة. وقال ابنُ إِسْحاق: استَصْغَرَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم والبراءَ بْنَ عَازِب وغيرَ وَاحِد فَردَّهم يومَ أُحُد، أَخرجه البُخَارِيّ في تَارِيخه من طَرِيق ابْنِ إِسحاق. حدَّثني الزُّهْرِيّ عن عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ بِذَلِك، كذا في الإِصَابة كَرِيمٌ معروف أَي معروف قاله ابنُ سَعْد. وفيه يقولُ الشَّمَّاخُ بنُ ضِرارٍ المُرِّيُّ، كذَا في الإِصَابَة والكَامِلِ للمُبرِّد، والَّذِي في الصَّحَاح أَنَّه للحُطَيْئة:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَت لمَجْدٍ *** تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليَمِينِ
ويَعْرُبُ كيَنْصُر بْنُ قَحْطَانَ: أَبُو قَبَائِلِ اليَمَنِ كُلَّهَا. قِيلَ: هو أَوَّلُ مَنْ تكلَّم بالعَرَبِيَّة وَبَنُوه العَرَبُ العَارِبَة، قيل: وبهِ سُمِّي العربُ عَرَبًا، ونقل شيخُنَا عن ابْنِ دُرَيْد في الجَمْهَرَةِ سُمِّيَ يَعْرُبَ بْنَ قَحْطَان؛ لأَنَّه أَوَّلُ من انْعَدَل لِسَانُه عن السرْيَانِيَّةِ إِلَى العَرَبِيَّة. وقال مُحَمَّدُ بْن سَلَّام الجُمَحِيّ في الطَّبَقَات: قال يُونُس بْنُ حَبِيب: أَوَّل مَنْ تَكَلَّم بالعَرَبِيَّة إِسمَاعِيلُ عليهِ السَّلام.
ثُمَّ قَال مُحَمَّدْ بْنُ سَلَّام: أَخبَرنِي مِسْمَعُ بْنُ عَبْدِ المَلِك أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيّ يقول: أَوَّلُ من تَكَلَّم بالعربية ونَسِي لِسَان أَبِيه إِسماعِيلُ عليهالسلام، وأَخرَجَ الحاكِم في المُسْتَدْرَك وصَحَّحه والبَيْهَقِيُّ في شعب الإِيمان من طَرِيق سُفَيَان الثَّوْرِيّ عن جَعْفَر بْنِ مُحَمَّد عن أَبِيه عن جَابِر «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَا {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثم قَالَ: أُلْهِمَ إِسمَاعِيلُ هَذَا اللِّسَان العَرَبِيّ إِلْهَامًا.
وقال الشِّيرَازيُّ في الأَلْقَاب: أَولُ من فُتقَ لِسَانُه بالعَرَبِيَّة المُبِينَة إِسْمَاعِيلُ عليه السَّلَام وهُوَ ابنُ أَربَعَ عَشْرَةَ سَنَة.
قال شَيْخُنَا: ولهم كَلَامٌ طَوِيل، الأَشهَرُ منه القَوْلَانِ المَذْكُورَان. ووُفِّق بينَهُما بأَنَّ يَعْرُبَ أَوّلُ مَنْ نَطَق بمَنْطق العَرَبِيَّة، وإِسْمَاعيل هو أَوّلُ مَنْ نَطق بالعَرَبِيَّة الخَالصَة الحِجَازِيَّة التي أُنْزِلَ عَلَيْهَا القُرآنُ، انتهى.
وبَشِيرُ بْنُ جَابِرِ بْنِ عُرَاب بن عَوْفٍ كغُرَاب: صَحَابِيٌّ شَهِدَ فتح مصر. وعُرَابِيُّ بْنُ مُعَاوِيَة بن عُرَابِيٍّ بالضَّمِّ الحَضْرَمِيُّ: من أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ كُنْيَتُه أَبو زَمْعَة وقيل: أَبو رَبِيعَة، رَوَى عن سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَاد الحَضْرَمِيِّ وعَبْدِ الله ابن هُبَيْرَةَ اليَمَانِيِّ، وذَكَرَه البُخَارِيُّ في تَارِيخِه بالغَيْنِ المُعْجَمة، وهو تَصْحِيف نَبَّه عليه الدَّارَقُطْنِيّ. وقال: هو معرُوفٌ في مصر بعَيْنٍ مُهْمَلَة: وعَرَابِيٌّ بالفَتْح لَقب محمد بْنِ الحُسَيْن بْنِ المُبَارَكِ المُحدِّث، روى عن يُونُسَ بْنِ مُحَمَّد المُؤَدِّب: وعَريبٌ كغَرِيب: اسم رَجُلٌ وفَرَس. أَما الرَّجُلُ فعَرِيبُ بن حُمَيْد، عن عَمَّار، وعنه السَّبيعي، وعَرِيبُ بْنُ سَعْد، عن عُمَر، وعَرِيبُ بْنُ كُلَيْبٍ الحَضْرَمِيُّ، ونَمر بن عَرِيبُ وآخرُون. وأَما الفَرسُ فهِي لثَعْلَبَة بْنِ أُمِّ خَزْنَةَ العَبْدِيّ، كما نَقَله الصَّاغَانيّ.
والعَرَابُ كَسَحَاب: حَمْلُ الخَزَم بالخَاءِ المعجَمَة والزاي مُحرَّكة: اسم لشَجرٍ يُفْتَلُ منْ لِحَائه الحبَالُ الواحِدَة عَرَابَة، تأْكُلُه القُرُودُ، ورُبَّمَا أَكلَه الناسُ في المَجَاعَة.
ويُقَالُ: أَلْقَى فلانٌ عَرَبُونَه، مُحَرَّكة، لعدَم مَجِيء فَعْلُول، وقد تقدَّمَت الإِشَارَة إِلَيْهِ، أي ذَا بَطْنِه أَي أَحْدَثَ.
واسْتَعْرَبَتِ البَقَرَةُ: اشتَهَت الفَحْل. وعَرَّبَها الثَّوْرُ: شَهَّاهَا. وفي الحديث: لَا تَنْقُشُوا في خَوَاتِيمِكم عَرَبِيًّا وفي بعض الرواياتِ: العَرَبِيَّة أَي لا تَنْقُشُوا فيها مَحَمَّدٌ رسوُل الله لأَنَّه كان نقْشَ خاتِمه صلى الله عليه وسلم كَأَنَّه قَالَ: نَبِيًّا عَرَبِيًّا، يَعْنِي نفسَه صلى الله عليه وسلم. ومنهحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه «لا تَنْقُشُوا في خَوَاتِيمِكم العَرَبِيَّةَ» وكان ابنُ عُمرَ يكرَهُ أَن يُنْقَشَ في الخَاتَمِ القرآن.
وتَعَرَّبَ: أَقَامَ بالبَادِيَة ومنه قَولُ الشّاعِرِ:
تَعَرَّبَ آبائِي فَهلَّا وقَاهُمُ *** من الموْتِ رَمْلًا عَالِجٍ وزَرُودِ
يقول: أَقَامَ آبَائِي في البَادِيَة ولم يَحْضُرُوا القُرَى.
وقَال الأَزْهَرِيّ: تعرَّب مِثل استَعْرَب. وتعرَّبَ: رجَعَ إِلى البادِيَة بعدَ مَا كَانَ مُقِيمًا بالحَضَر فلَحِق بالأَعْرَاب. وقَال غيره: تعرَّب أَي تشَبَّه بالعَرَب. وتعرَّب بعد هِجْرته؛ أَي صارَ أَعْرَابِيًّا. وفي الحَدِيث «ثلاثٌ من الكَبَائِر. مِنْها التَّعَرُّبُ بعدَ الهِجْرَة». وهو أَن يَعُود إِلى البَادِيَة ويُقِيمَ مع الأَعْرَابِ بعد أَنْ كَانَ مُهَاجِرًا. وكَان مَنْ رَجَع بعد الهِجْرَة إِلى مَوْضِعِه من غَيْرِ عُذْر يَعُدُّونه كالمُرتَدّ. ومنهحَدِيثُ ابنِ الأَكوَعِ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَج إِلَى الرَّبَذَة وأَقَامَ بِهَا، ثم إِنَّه دَخَل على الحَجَّاج يَوْمًا فقال له: يا ابْنَ الأَكْوَع ارتدَدْتَ على عَقِبَيك وتعرَّبْتَ.
ويُرْوَى بالزَّاي وسيُذْكَر في مَوْضِعه.
وعَرُوبَاءُ أَي كَجَلُولَاءَ، وقد وُجدَ كذلك في بَعْضِ النُّسَخ: اسْمُ السَّماءِ السَّابِعَة قالَه ابْنُ الأَثِير والّذِي في الأَعْلَام للسُّهَيْلِيّ أَنَّه عِرْبِيَاءُ كما أَن جِرْبِيَاءَ اسمٌ للأَرْضِ السَّابِعَة، وأَوردَهُ ابنُ التِّلِمْسَانيّ نقلًا عنه، قاله شَيْخُنا.
* ومما يُسْتَدْرَك عَلَيْه: عَرُبَ الرَّجُلُ يَعْرُبُ عُرْبًا وعُرُوبًا عن ثَعْلَب وعُرْبَةً وعَرَابَةً وعُرُوبِيَّة كفَصُحَ: أَفْصَحَ بَعْد لُكْنَة في لِسَانِه. ورجُلُ عَرِيبٌ: مُعْرِبٌ. وَعَرَّبَتْهُ العَرَب، وأَعْرَبَتْهُ إِذَا تَفوَّه بِه العَرَب على مِنْهَاجِها وقد ذكرناه. وعَرُبَ لِسَانُه بالضَّمِّ عُرُوبَةً أَي صَارَ عَرَبِيًّا. وتَعَرَّبَ واسْتَعْرَبَ: أَفْصَحَ.
والتَّعْرِيبُ مِثْلُ الإِعْرَابِ، مِن الفُحْشِ في الكَلَامِ.
وفي حَدِيثِ بَعْضِهِم: «ما أُوتِيَ أَحَدٌ من مُعَارَبَةِ النِّساءِ ما أُوتِيتُه أَنَا» كَأَنَّه أَرَادَ أَسبابَ الجِمَاع ومُقَدّماته.
وأَعْربَ سَقْيُ القَوْم إِذَا كَان مَرَّةً غِبًّا ومَرّةً خِمْسًا ثم قَامَ على وَجْهٍ وَاحِد.
والعَرَبْرَبُ: السُّمَّاقُ قد ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ هنا.
وعُرَيْبٌ مُصغَّرا: حَيٌّ مِنَ اليَمَن.
وفي الأَسَاس: تعرَّبَتْ لِزَوْجِها: تغَزَّلَت وتَحبَّبتْ.
وابْنُ العَرَبِيّ بالأَلِف واللَّام هو القَاضي أَبُو بَكْرٍ المَالِكِيُّ عَالِمُ الأَنْدَلُس صاحب بُغْيَةِ الأَحْوَذِيِّ وغَيْرِه. وابنُ عَرَبِيٍّ بلا لَامٍ محركة هو العَارِفُ المُحَقِّق مُحْيى الدِّين مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد الله الحاتمِيُّ الطَّائِيُّ نَزِيلُ دِمَشْق والمدفونُ بِهَا. وُلِدَ ليلَة الاثْنَيْن أَو الجُمُعة 27 رمضان سنة 560 بمَرْسِيَةَ وتُوُفّيَ ليلةَ الجُمُعَة 27 ربيع الآخر سنة 638 بِدِمَشْق، فمُدَّة حَيَاته سَبْعٌ وسَبْعُون سنة وستة أَشْهُر وخَمْسٌ وعشْرُون يومًا.
ويقال: إِنَّ المَوْلِدَ والوَفَاةَ كلَاهُمَا في 27 رمضان وقد وَهِم المُصَنِّف في إِيرَاده هكذا. والصَّوَابُ أَنَّ القَاضِيَ أَبَا بَكْر هو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد الله. والحَاتميّ هو مُحَمَّدُ بنُ عَليّ كَمَا حَقَّقَه الحَافظُ فِي التَّبْصِيرِ، وهذا الفَرْقُ الذِي ذَكَره هو الذي سَمِعْنِاه مِنْ أَفْوَاهِ الثِّقَات، غيرَ أَنِّي رأيتُ في جُزْء من أَجْزَاءِ الحَدِيثِ على هَامشه طباق فيه سَمَاعٌ لابن عَرَبِيٍّ بخَطِّه وقد ذكر فيه آخر السّماع، وكتبه مُحمَّدُ بنُ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ العَرَبِيِّ، الطَّائِيُّ، هكذا بالأَلف واللَّام وكذا في نُسَخِ من فُتُوحَاتِه، على ما نَقَلَه شيخُنا ثم قَال: وهذا اصْطَلَح عليه النَّاسُ وتَدَاوَلُوه.
قلتُ: وفي التَّبْصِيرِ كلَاهُما ابْنُ عَرَبِيٍّ من غَيْرِ اللّام.
ومُنْيَة أَبِي عَرَبِيّ قريَة بالشَرْقيّة. وحَوض الْعَرَب: أُخْرَى بالدَّقَهْلِية. وبِرَك العَرب: أُخرَى بالغَربية. وبَنُو العَرَب بالمنوفِيّة كذَا في القَوَانِين.
وصالحُ بنُ أَبِي عَرِيب، كأَمِير: محدِّث. ويَحْيَى بنُ حَبِيب بنِ عَرَبِيّ: شَيْخُ مسلم. وعثمانُ بنُ محمد بنِ نَصْر بْنِ العِرْب، بالكسر، مُحدِّث، وأُخْته حَبِيبَة حَدَّثت عن أَبِي مُوسَى المَدينيّ، وأَبُو العَرَبِ القَيْرَوَانِيّ المُؤَرِّخ، بالتَّحْرِيك، واسمُه مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بنِ تَمِيم، نَقَلَه الصَّاغَانِيُّ. وأَبو القَاسم عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْن بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُرَيْبَةَ كجُهَيْنَة الرَّبَعيّ شَيْخُ السِّلَفِيِّ مات سنة 502 وأَبُوه حَدَّث أَيضًا ومات سنة 475 وقال محمّدُ بْنِ بشْر: حدَّثَنا أَبَانٌ البَجَلِيُّ عن أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ وكَانَ عَرَبَانِيًّا، بالفتح، عن عكْرِمَة، فذَكَرَ حَدِيثًا. قال الرُّشَاطِيّ: إِنَّه عارِفٌ بِلِسَان العَرَب، وقَاله بالأَلِف والنُّون ليُفرِّقَ بينَه وَبَيْن العَرَبِيّ النَّسَب، كذَا قَالَه الحَافِظ.
قلْتُ: وفي التَّوشِيحِ: رجلٌ عَربَانٌ؛ أَي فَصِيحُ اللِّسَان.
وخَلَفُ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَف يُعرَف بابْنِ العُرَيْبِي، بالضَّمِّ، ذكره ابن الجَزرِيّ في طبقات القُرَّاء. والأَعْرَابِيُّ: فرسُ عَبَّادِ بْنِ زِيَاد ابْن أَبِيهِ، وكَان مُقْتَضَبًا لا يُعْرف لَه أَبٌ، وكَانَ مِنْ خُيُول أَهْل العَالِيَة، نقله الصَّاغَانِيّ. قلت: وذكره ابنُ الكَلْبِيِّ في أَنْسَابِ الخَيْلِ، قال: وكَان من سَوابِق خَيْل أَهْلِ الشَّام كالقَطِرَانِيِّ له أَيضًا، وقد يُذْكَر في «ق ط ر».
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
220-تاج العروس (كلب)
[كلب]: الكَلْبُ: كُلُّ سَبُعٍ عَقُورٍ، كان في الصَّحَاح، والمُحْكَم، ولسان العرب. وفي شُمُولِه للطَّيْر نَظَرٌ. قاله الشِّهابُ الخَفَاجِيُّ في أَوّل المائدة. وقد غَلَبَ الكَلْبُ عَلَى هذا النَّوْعِ النَّابحِ قال شيخُنا: بل صار حقيقةً لُغَوِيّة فيه، لا تَحْتَمِلُ غَيرَه، ولذلك قال الجوهريّ، وغيرُه: هو معروفٌ، ولم يحتاجُوا لتعريفه، لشُهْرته. ورُبَّمَا وُصفَ به، يُقَالُ: رَجُلٌ كَلْبٌ، وامْرَأَةٌ كلْبَةٌ.ج: أَكْلُبٌ، وجمعُ الجمعِ أَكَالِبُ، والكثيرُ: كِلَابٌ، وقالوا في جمع كِلاب: كَلَاباتٌ؛ قال:
أَحَبُّ كَلْبٍ في كِلاباتِ النَّاسْ *** إِلَيَّ نَبْحًا كَلْبُ أُمِّ العَبّاسْ
وفي الصَّحِاح: الأَكَالِيبُ جمعُ أَكْلُب. وقال سِيبَوَيْه: وقالُوا: ثلاثَةُ كِلابٍ، على قولهم ثلاثةٌ من الكلاب. قال: وقد يجوزُ أَن يكونُوا أَرادُوا ثلاثةَ أَكْلُبِ، فاستغنوا بِبِناءِ أَكثرِ العَدَد عن أَقلِّه.
وقد غَلَبَ أَيضًا على الأَسَد، هكذا في نُسختنا، مخفوضًا، معطوفًا على النّابح، وعليه علامةُ الصِّحَّة.
وفي الحديث: «أَمَا تَخَافُ أَنْ يَأْكُلَكَ كَلْبُ اللهِ؟ فجاءَ الأَسَدُ لَيْلًا، فاقْتَلَعَ هامَتَهُ من بينِ أَصحابِه.
والكَلْبُ: أَوَّلُ زِيَادَةِ الماءِ في الوادِي، كذا في النهاية.
والكَلْبُ: حَدِيدَةُ الرَّحَى في رَأْسِ والكَلْبُ: خَشَبَةٌ يُعَمَدُ بها الحائطُ، نقله الصّاغانيّ.
والكَلْبُ سَمَكٌ على هَيْئَتِهِ ونَجْمٌ*.
والكَلْبُ: القدُّ، بالكسر، ومنه رَجُلٌ مُكَلَّبٌ، أَي: مشدودٌ بالقِدّ. وسيأْتي بيانُ ذلك.
والكَلْبُ: طَرَفُ الأَكَمَةِ. والكَلْبُ: المِسْمَارُ في قائِمِ السَّيْفِ الّذِي فيه الذُّؤَابَةُ، لِتُعلِّقَهُ بها. وفي لسان العرب: الكَلْبُ: مِسْمَارُ مَقْبِضِ السَّيْفِ، ومعه أَخَرُ، يقال له: العجوزُ.
والكَلْبُ: سَيْرٌ أَحْمَرُ يُجْعَلُ بَيْنَ طَرَفَيِ الأَديمِ إِذا خُرِزَ، واسْتَشْهَدَ عليهِ الجَوْهَريُّ بقوِل دُكَيْنِ بْنِ رَجَاءٍ الفُقَيْمِيِّ يَصِفُ فَرَسًا:
كأَنَّ غرَّ مَتْنِهِ إِذْ نَجْنُبُهْ *** سَيْرُ صَنَاعٍ في خَرِيزٍ تَكْلُبُهْ
وغَرُّ مَتْنِهِ: ما يُثْنَى من جِلْدِه. وعن ابْنِ دُرَيْدٍ: الكَلْبُ: أَنْ يَقْصُرَ السَّيْرُ على الخارِزَةِ، فتُدْخِلَ في الثَّقْبِ سَيْرًا مَثْنِيًّا، ثم تَرُدَّ رَأْسَ السَّيْرِ النَّاقِصِ فيه، ثُمَّ تُخْرِجَهُ. وأَنشد رَجَزَ دُكَيْنٍ أَيضًا.
والكَلْبُ: عَ بَيْنَ قَومِسَ والرَّيِّ، مَنْزِلٌ لِحاجِّ خُرَاسانَ.
وأُطُمَّ نَحْوَ اليَمامَةِ، يقال له: رَأْسُ الكَلْب وقيلَ: هو جَبَلٌ باليَمَامَةِ، هكذا ذكره ابْنُ سِيدَهْ، واستشهد بقول الأَعشى:
إِذْ يَرْفَعُ الآلُ رَأْسَ الكَلْبِ فارْتَفَعَا
والكَلْبُ مِنَ الفَرَسِ: الخَطُّ الَّذي في وَسَطِ ظَهْرِهِ منه، تقول: اسْتَوَى على كَلْبِ فَرَسِهِ.
والكَلْبُ: حَدِيدَةٌ عَقْفَاءُ، تكونُ في طَرَفِ الرَّحْلِ، يُعَلَّق فيها الزّادُ والأَدَاوَى، قال الشّاعرُ يَصِفُ سِقاءً:
وأَشْعَثَ مَنْجَوبٍ شَسِيفٍ رَمَتْ به *** عَلى الماءِ إِحْدَى اليَعْمَلاتِ العَرَامِسِ
فأَصْبَحَ فَوْقَ الماءِ رَيّانَ بَعْدَمَا *** أَطَالَ به الكَلْبُ السُّرَى وَهْوَ ناعِسُ
كالكَلَّابِ، بالفتح والتّشديد.
وقيل: الكَلْبُ: ذُؤابَةُ السَّيْفِ بنَفْسِها.
وكُلُّ ما وُثِّقَ. وفي بعض النُّسَخ: أُوثِقَ به شَيْءٌ، فهو كَلْبٌ، لأَنَّه يَعْقِلُه كمَا يَعْقِلُ الكَلْبُ مَنْ عَلِقَهُ. والكَلَب، بالتَّحْريكِ: العَطَشُ من قولهم: كَلِبَ الرَّجُلُ كَلَبًا، فهو كَلِبٌ، إِذا أَصَابَهُ داءُ الكِلَاب، فماتَ عَطَشًا، لأَنّ صاحِبَ الكَلَب يَعْطَشُ فإِذا رأَى الماءَ، فَزِعَ منه.
والكَلَبُ: القِيادَةُ، بالكَسْر، كالمَكْلَبَةِ، بالفتح، قال الأَصْمَعِيّ: ومِنْهُ اشتقاقُ الكَلْتَبانِ بتقديم المُثَنَّاة الفوقية على الموَحَّدَة لِلْقَوّادِ وهو الّذِي تقُولُه العامّة: القَلْطَبَانُ، أَو: القَرْطَبَانُ، والتّاءُ على هذا زائدةٌ، حكاهما ابْنُ الأَعْرَابِيّ يَرفَعُهُمَا إِليه، ولم يذكر سِيبَوَيْهِ في الأَمْثلة فَعْتَلان قال ابْنُ سِيدَهْ: وأَمْثَلُ ما يُصْرَفُ إِليه ذلك أَن يكونَ الكَلَبُ ثُلاثِيًّا، والكَلْتَبَانُ رُبَاعِيًّا، كَزرِمَ وازْرَأَمَّ، وضَفَدَ واضْفَأَدَّ، كذا في لسان العرب.
والكَلَبُ: وقُوع الحَبْلِ بَيْنَ القَعْوِ والبَكَرَةِ وهو المَرْسُ والحَضْبُ.
ومن المَجَاز: الكَلَبُ؛ الحِرْصُ كَلِبَ على الشَّيْءِ كَلَبًا: إِذا اشتَدَّ حِرْصُه على طَلَبِ شيءٍ. وقال الحَسَنُ «إِنَّ الدُّنْيا لَمَّا فُتِحَتْ على أَهلِها، كَلِبُوا عليها ـ واللهِ ـ أَسْوَأَ الكَلَبِ وعَدَا بعضُهم على بعضِ بالسَّيْف». وقال في بعض كلامه: «وأَنْتَ تَجَشَّأُ من الشِّبَعِ بَشَمًا، وجارُك قد دَمِيَ فُوهُ من الجُوعِ كَلَبًا» أَي: حِرْصًا على شَيْءٍ يُصِيبُهُ.
ومن المَجَاز: تَكَالَبَ النّاسُ على الأَمْرِ: حَرَصُوا عليه، حتى كَأَنَّهم كِلَابٌ.
ومن المَجَاز: الكَلَبُ: الشِّدَّةُ في حديثِ علىٍّ، رضي الله عنه، كتب إِلى ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، حين أَخَذَ مالَ البَصْرَةِ: «فلَمَّا رأَيتَ الزَّمَانَ على ابْنِ عَمِّك قَدْ كَلِبَ، والعَدُوَّ قد حَرِبَ» كَلِبَ: أَي اشْتَدَّ، يقال: كَلِبَ الدَّهْرُ على أَهله: إِذا أَلَحَّ عليهم، واشْتَدَّ. وفي الأَساس في المَجَاز: سائلٌ كَلِبٌ: شَدِيدُ الإِلْحَاحِ. وما ذكر شيخُنا من قوله: ظاهرُهُ الإِطلاقُ، إِلى آخره، فإِنّه سيأْتي في الكُلْبَة، وقد اشْتَبَه عليه، فلا يُعَوَّلُ عليه.
والكَلَبُ: الأَكْلُ الكَثِيرُ بلا شِبَعِ، نقله الصّاغَانيُّ.
ومن المَجَاز: الكَلَبُ: أَنْفُ الشِّتَاءِ وحِدَّته، يقالُ: نحنُ في كَلَبِ الشِّتاءِ، وكُلْبَتِه.
والكَلَبُ: صِيَاحُ مَنْ عَضَّهُ الكَلْبُ الكَلِبُ.
كَلِبَ الكَلْبُ كَلَبًا فهو كَلِبٌ، واسْتَكْلَب: ضَرِيَ وتَعَوَّدَ أَكْلَ النّاسِ. وقيل: الكَلَبُ: جُنُونُ الكِلابِ المُعْتَرِي مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الإِنْسَانِ، فيأْخُذُهُ لِذلك سُعارٌ وداءٌ شِبْه الجُنُون. وقيل: الكَلَبُ: شِبْهُ جُنُونِها، أَي: الكلابِ، المُعْتَرِي للإِنْسَانِ مِنْ عَضِّها. وفي الحديث: «يَخْرُجُ في أُمَّتي أَقوامٌ تَتجَارَى بهِمُ الأَهْوَاءُ ما يتجَارَى الكَلَبُ بصاحِبِه» هو، بالتحْرِيك: داءٌ يَعْرِضُ للإِنسان من عَضَّ الكَلْبِ الكَلِبِ، فيُصِيبُهُ شِبْهُ الجُنُونِ، فلا يَعَضُّ أَحَدًا إِلَّا كَلِبَ، ويَعْرِضُ له أَعراضٌ رَديئةٌ، ويَمتنعُ من شُرْبِ الماءِ حتّى يموتَ عَطَشًا. وأَجمعت العربُ أَنَّ دواءَهُ قَطْرَةٌ من دَم مَلِك يُخْلَطُ بماءٍ فَيُسْقَاهُ ومنه يُقَالُ: كَلِبَ الرَّجُلُ، كَفَرِحَ: إِذا أَصابَهُ ذلِكَ أَي: عَضَّهُ الكَلْبُ الكَلِبُ. ورجلٌ كَلِبٌ، من رِجَال كَلِبِين، وكَلِيبٌ، من قَومٍ كَلْبَى.
وقولُ الكُمَيْتِ:
أَحْلامُكُمْ لِسَقامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ *** كما دِمَاؤُكُمُ يُشْفَى بِهَا الكَلَبُ
قال اللِّحْيَانيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ الكَلِبَ يَعَضُّ إِنسانًا، فيأْتُونَ رجلًا شريفًا، فَيَقْطُرُ لهم من دم إِصْبَعِهِ، فَيَسْقُونَ الكَلِبَ فيبْرَأُ.
وفي الصَّحِاح: الكَلَبُ شبيهٌ بالجُنون، ولم يَخُصّ الكِلَابَ.
وعن اللَّيْثِ: الكَلْبُ الكَلِبُ: الّذِي يَكْلَبُ في [أَكْلِ] لُحُوم النَّاس فيأْخُذُه شِبْهُ جُنُونٍ، فإِذا عَقَرَ إِنْسانًا كَلِبَ المَعقورُ وأَصابَه داءُ الكَلَبِ، يَعْوِي عُوَاءَ الكَلْب، ويُمَزِّق ثِيابَهُ عن نَفْسِه، ويَعْقِرُ مَنْ أَصابَ، ثم يَصيرُ أَمرُه إِلى أَنْ يأْخُذَهُ العُطاشُ، فيموتَ من شِدَّةِ العَطَشِ، ولا يَشْرَبُ.
وقال المُفضَّلُ: أَصْلُ هذا أَنَّ داءً يقعُ على الزَّرْعِ، فلا يَنْحَلُّ، حتّى تَطْلُعَ عليه الشّمْسُ، فيَذُوبَ، فإِن أَكَلَ منه المالُ، قبل [ذلك] مات، قال: ومنه ما رُوِيَ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّه: نَهَى عن سَوْمِ اللَّيْلِ» أَي: عن رَعْيِهِ، ورُبَّما نَدَّ بَعيرٌ، فأَكَلَ من ذلك الزَّرْعَ قبلَ طُلُوعِ الشَّمْس، فإِذا أَكله ماتَ، فيأْتِي كَلْبٌ فيأْكُلُ من لحْمِه فَيَكْلَبُ، فإِنْ عضَّ إِنسانًا، كَلِبَ المعضوضُ، فإِذا سمع نُباحَ كَلْب، أَجابَه.
وفي مجمع الأَمْثَال والمُسْتَقْصَى. «دِماءُ المُلُوكِ أَشْفَى من الكَلَبِ». ويُرْوَى: دِمَاءُ المُلُوكِ شِفَاءُ الكَلَبِ. ثم ذَكَرَ ما قدّمْنَاهُ عن اللِّحْيَانيّ.
قال شيخُنَا: ودفع بعضُ أَصحاب المعاني هذا، فقال: معنى المَثَلِ: أَنّ دَمَ الكَريمِ هو الثّأْرُ المُنِيمُ، كما قال القائلُ:
كَلِبٌ مِنْ حسِّ ما قَدْ مَسَّنِي *** وأَفَانِين فُؤادٍ مُخْتَبَلْ
وكما قيل:
كَلِبٌ بِضَرْبِ جَمَاجِمٍ ورِقَابِ
قال: فإِذا كَلِبَ من الغَيْظ والغَضَب فأَدْرَكَ ثأْرَه، فذلك هو الشِّفاءُ من الكَلَب، لا أَنَّ هُنَاكَ دِمَاءً تُشْرَبُ في الحقيقة، ا ه.
وكَلِبَ عَلَيْهِ كَلَبًا: غَضِبَ فَأَشْبَهَ الرَّجُلَ الكَلِبَ.
وكَلِبَ: سَفِهَ، فأَشْبَهَ الكَلِبَ.
وقال أَبو حنيفَةَ: قال أَبو الدُّقَيْشِ؛ كَلِبَ الشَّجَرُ، فهو كَلِبٌ: إِذا لَمْ يَجِدْ رِيَّهُ، فخَشُنَ وَرَقُهُ من غيرِ أَن تَذْهَبَ نُدُوَّتُهُ، فَعلِقَ ثَوْبُ مَنْ مَرَّ بِهِ، وآذَى كما يَفعَلُ الكَلْبُ.
وكَلِبَ الدَّهْرُ على أَهلِه؛ وكذا العَدُوُّ، والشِّتاءُ: أَي اشْتَدَّ.
ويقالُ: أَكْلَبُوا: إِذا كَلِبَتْ إِبلُهُمْ، أَي: أَصابَها مثلُ الجُنُونِ الّذِي يَحْدُثُ عن الكَلَبِ، قال النَّابغَةُ الجَعْدِيُّ:
وقَوْمٍ يَهينُونَ أَعْرَاضَهُم *** كَوَيْتُهُمُ كَيَّةَ المُكْلِبِ
والكُلْبَةُ، بالضَّمّ مثلُ الجُلْبَة: الشِّدَّةُ من الزَّمَان، ومن كلّ شَيْءٍ.
والكُلْبَةُ من العيش: الضِّيقُ. وقال الكِسائيُّ: أَصابَتْهُمْ كُلْبَةٌ من الزَّمان في شِدَّة حالِهم وعيشهم، وهُلْبَةٌ من الزَّمَان، قال ويقال: هُلْبَةٌ [وجُلْبَة] من الحَرِّ والقُرّ، كما سيأَتي.
وقال أَبو حنيفةَ: الكُلْبَةُ: كُلُّ شدّةٍ من قِبَلِ القَحْطِ، والسُّلْطَانِ، وغيرِه.
وعامٌ كَلبٌ: أَي جَدْبٌ.
وكلّه من الكَلَبِ.
والكُلْبَةُ: حَانُوتُ الخَمّارِ، عن أَبي حنيفةَ وقد استعملها الفُرْسُ في لسانهم.
وفي حديث ذِي الثُّدَيَّةِ: «يَبْدُو في رأْسِ ثَدْيِهِ شُعَيْرَاتٌ كأَنَّها كُلْبَةُ كَلْبِ» يعني: مخالِبَهُ. قال ابْنُ الأَثِيرِ: هكذا قال الهَرَوِيّ، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهَا كُلْبَةُ كَلْبٍ، أَو كُلْبَةُ سِنَّورٍ، وهي الشَّعَرُ النّابِتُ في جانِبَيْ خَطْمِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ، قال: ومن فَسَّرَهَا بالمَخَالِب، نظرًا إِلى مجيءِ الكَلالِيبِ في مَخَالِب البازِي، فقد أَبْعَدَ.
وكُلْبَةُ: موضع بديار بَكْرِ بْنِ وائلٍ. والكُلْبَةُ: شدَّةُ البَرْد. وفي المحكم: شِدَّةُ الشِّتَاءِ وجَهْدُهُ منه، أَنشد يَعْقُوبُ:
أَنْجَمَتْ قِرَّةُ الشِّتَاءِ وكانَتْ *** قد أَقامَتْ بِكُلْبَة وقطَارِ
وكذلك: الكَلَبُ، بالتَّحريك.
وبقِيَت علينا كُلْبَةٌ من الشّتاءِ، وَكَلَبَةٌ: أَي بقيّةُ شِدّةٍ.
والكُلْبَةُ: السَّيْرُ، أَو الطَّاقَةُ، أَو الخُصْلَةُ من الِّليفِ يُخْرَزُ بِها.
وكَلَبَتِ الخارِزَةُ السَّيْرَ تَكْلُبُهُ كَلْبًا، قَصُرَ عنها السَّيْرُ، فثَنَتْ سَيْرًا تُدْخِلُ فيه رَأْسَ القَصيرِ حَتَّى يَخْرُجَ منه. قال دُكَيْنُ بْنُ رَجَاءٍ الفُقَيْمِيُّ يَصِفُ فَرَسًا:
كَأَنَّ غَرَّ مَتْنِه إِذْ نَجَنبُهْ *** سَيْرُ صَنَاعٍ في خَرِيزٍ تَكْلُبُهُ
وقد تَقَدَّم هذا الإِنْشَاد.
وعبارة لسان العرب: الكُلْبَةُ: السَّيْرُ وَرَاءَ الطَّاقَةِ من اللِّيفِ، يُسْتَعْمَلُ كما يُسْتَعملُ الإِشْفَى الَّذِي في رَأْسه جُحْرٌ يُدْخَلُ السَّيْرُ أَو الخَيْطُ في الكُلبَة وهي مَثْنِيَّةٌ، فَيَدْخُلُ في مَوضعِ الخَرْزِ، ويُدْخِلُ الخارزُ يَدَهُ في الإِداوَة، ثُمَّ يَمُدُّ السَّيْرَ أَو الخيْطَ في الكُلْبَة.
والخارِزُ يقالُ له: مُكْتَلِبٌ. وقال ابْنُ الأَعْرَابِيّ: الكَلْبُ: خَرْزُ السَّيْر بيْنَ سَيْرَيْنِ، كَلَبْتُهُ أَكْلُبُهُ، كَلْبًا.
واكْتَلَبَ الرَّجُلُ: اسْتعمَلَ هذه الكُلْبَة، هذه وَحْدَها عن اللِّحْيَانِيّ. والقولُ الأَوّل كذلك قولُ ابنِ الأَعرابيّ.
والكَلْبَةُ، بالفَتْح من الشِّرْسِ، وهو صِغَارُ [شَجَرِ] الشَّوْكِ، وهي تُشْبِهُ الشُّكَاعَى وهي من الذُّكُور، وقيل: هي شجَرَةٌ شاكَةٌ من العِضاهِ، ولها جِرَاء كالكَلِبَةِ، بكسر الّلامِ.
وكُلَّ ذلك تَشبيهٌ بالكَلْبِ.
وقد كَلِبَت الشَّجَرَةُ: إِذا انْجَرَدَ وَرَقُهَا، واقْشَعَرَّت، فعَلِقَتِ الثِّيَابَ، وآذَتْ مَن مَرَّ بها، كَمَا يَفْعَلُ الكَلْبُ.
ومن المَجَاز: أَرْضٌ كَلِبَةٌ: إِذا لم يَجِدْ نَبَاتُهَا رِيًّا، فَيَيْبَسُ. وأَرْضٌ كَلِبَةُ الشَّجَرِ: إِذا لم يُصِبْهَا الرَّبيعُ. وعن أَبي خَيْرَةَ: أَرْضٌ كَلِبَةٌ، أَي: غليظةٌ، قُفّ لا يكون فيها شَجَرٌ، ولا كَلٌأ، ولا تكونُ جَبَلًا. وقال أَبو الدُّقَيْشِ: أَرْضٌ كَلِبَةُ الشَّجَرِ؛ أَي خَشِنَةٌ يابِسةٌ، لم يُصِبْها الرَّبِيعُ بَعْدُ، ولم تَلِنْ.
والكَلِبَة من الشَّجَر أَيضًا: الشَّوْكَةُ العارِيَةُ من الأَغْصَانِ اليابِسَة المُقْشَعرَّةُ الفاردةُ، وذلك لِتَعَلُّقِها بمن يَمُرُّ بها كما تَفْعَل الكلابُ.
والكَلِبَة: موضع بعُمَانَ على السّاحِلِ، وقَيَّدَه الصّاغانِيُّ بفتح فسكون، وهو الصَّواب.
والكَلْبَتَانِ، بتقديم المُوَحَّدة على المُثَنَّاة: ما يَأْخُذُ به الحَدّادُ الحديد المُحْمَى، يقال: حَديدةٌ ذاتُ كَلْبَتَيْنِ وحَديدتانِ ذَواتا كَلْبَتَيْنِ، وحدائدُ ذَواتُ كَلْبَتَيْن.
وفي حديث الرُّؤْيا: «وإِذا آخَرُ قَائمٌ بكَلُّوبِ حديدِ».
الكَلُّوبُ كالتَّنُّورِ: المِهْمَازُ، وهو الحديدةُ الَّتي على خُفِّ الرّائضِ، كالكُلَّاب، بالضَّمّ والتّشديد، وهو المِنْشالُ. كذا في سِفْرِ السّعادة، وسيأْتي للمُصَنِّف أَنّهُ حديدةٌ يَنْشالُ بها اللَّحْمُ، ثمّ قال السَّخَاوِيُّ في السَّفْر: وقالوا للمِهْمَازِ أَيضًا: كَلُّوبٌ، ففرَّق بينَهما وقَالَهُمَا في معناهُ، انتهى. قال جَنْدَلُ بنُ الرّاعِي يهجو ابْنَ الرِّقَاعِ، وقيلَ: هو لأَبِيهِ الرّاعي:
جُنَادِفٌ لاحِقٌ بالرَّأْسِ مَنْكِبُهُ *** كأَنَّهُ كَوْدَنٌ يُوشَى بِكُلَّابِ
والكُلَّابُ، والكَلُّوب: السَّفُّودُ؛ لأَنَّهُ يَعْلَقُ الشِّواءَ ويَتَخَلَّلُه، وهذا عن اللِّحْيَانِيّ. وقال غيرُهُ: حديدةٌ مَعطوفةٌ كالخُطّاف، ومثلُه قولُ الفَرّاءِ في المصادر. وفي كتاب العين: الكُلّابُ والكَلُّوبُ: خَشَبَةٌ في رأْسِهَا عُقَّافَةٌ، زاد في التَّهْذِيب: منها، أَو من حَديدٍ.
وكَلَبَهُ بالكُلّاب ضَرَبَهُ بِهِ، قال الكُمَيْتُ:
وَوَلَّى بأَجْرِيَّا وِلَافٍ كَأَنَّه *** على الشَّرَفِ الأَقْصَى يُسَاطُ ويُكْلَبُ
قال: ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: يُضَمُّ أَوّلُ الكَلُّوب. ولم يجِئ في شيْءٍ من كلام العرب. قال أَبو جعفر اللَّبْلِيُّ: حكى ابْنُ طَلْحَةَ في شَرْحِه: الكُلُّوب: بالضَّمّ، ولم أَرَهُ لغيره. وفي الرَّوْضِ: الكَلُّوبُ، كسَفُّود: حَديدةٌ، مُعْوَجَّةُ الرَّأْسِ، ذاتُ شُعَبٍ، يُعَلَّق بها اللَّحْمُ، والجمع كَلالِيبُ.
والمُكَلِّبُ، كمُحَدّثٍ: مُعَلِّمُ الكلابِ الصَّيْدَ، مُضَرٍّ لها عليه. وقد يكونُ التّكليبُ واقعًا على الفَهْدِ وسِباعِ الطَّيْرِ.
وفي التَّنْزِيلِ: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} فَقَد دَخَلَ في هذا: الفَهْدُ، والبَازِي، والصَّقْرُ، والشّاهِينُ، وجميعُ أَنْوَاعِ الجَوارِحِ.
والكَلَّابُ: [صاحبُ الكلاب و]: المكَلِّبُ الَّذِي يُعَلَّمُ الكِلَابَ أَخْذَ الصَّيْدِ.
وفي حَديث الصَّيْدِ «إِنَّ لي كِلَابًا مُكَلَّبَةً، فَأَفْتِنِي في صَيْدِها».
المُكَلَّبَةُ: المُسَلَّطَةُ على الصَّيْد، المعَوَّدةُ بالاصطِياد، الّتي قد ضَرِيَتْ به، والمُكَلِّب، بالكسر: صاحِبُها [و] الّذي يَصطادُ بها. كذا في لسان العرب.
والمُكَلَّبُ، بالفَتْحِ المُقَيَّدُ يقال: رجل مُكَلَّبٌ: مشدودٌ بالقِدِّ، وأَسيرٌ مِكَلَّبٌ، قال طُفَيْلٌ الغَنَوِيّ:
فبَاءَ بِقَتْلانا من القَوْمِ مِثْلُهُمْ *** وما لا يُعَدُّ من أَسِيرٍ مُكَلَّبِ
وقيل: هو مقلوبٌ عن مُكَبَّل.
ومن المَجَاز: يُقَال: كَلِبَ عليه القدُّ إِذا أُسِرَ به، فَيبِسَ وعَضَّهُ.
وأَسِيرٌ مِكَلَّب، ومِكَبَّلٌ: أَي مُقَيَّدٌ.
والكَلِيبُ والكالِبُ: جَماعةُ الكِلابِ. فالكَلِيبُ: جَمْع كَلْب، كالعَبِيدِ والمَعِيرِ، وهو جمعٌ عزيزٌ أَي: قليلٌ. قال يَصِفُ مَفَازَةً:
كَأَنَّ تَجاوُبَ أَصْدائِها *** مُكَاءُ المُكَلِّبِ يَدْعُو الكَلِيبَا
قال شيخُنا: وقد اختلفوا فيه، هل هو جمْعٌ أَو اسْمُ جمْع؟ وصَحَّحُوا أَنّه إِذا ذُكِّرَ، كان اسْمَ جَمْعٍ كالحَجِيج؛ وإِذا أُنِّثَ، كانَ جمْعًا، كالعَبِيد والكَلِيب. وفي لسان العرب: الكالِبُ: كالجامل، والباقر.
وَرَجَلٌ كالِبٌ، وكَلّابٌ: صاحبُ كِلاب، مثلُ تامِر ولابنِ؛ قال رَكّاضٌ الدُّبَيْرِيُّ:
سَدا بَيَدَيْه ثُمّ أَجَّ بِسَيْرِهِ *** كَأَجِّ الظَّلِيمِ من قَنيصٍ وكالِبِ
وقيل: كَلّابٌ: سائسُ كِلاب.
ونقل شيخُنا عن الرَّوْض: الكُلَّابُ، بالضَّمّ والتَّشْدِيد: جمع كالِب، وهو صاحبُ الكِلاب الّذِي يَصِيدُ بها.
قال ابْنُ مَنْظُورٍ: وقولُ تأَبَّطَ شَرًّا:
إِذا الحَرْبُ أَوْلَتْكَ الكَلِيبَ فَوَلِّهَا *** كَلِيبَكَ واعْلَمْ أَنَّهَا سَوْفَ تَنْجَلِي
قيل في تفسيره قولان: أَحدُهما أَنّه أَرادَ بالكَلِيبِ المُكَالِبَ، وسيأْتِي معناه قريبًا؛ والقولُ الآخرُ أَنَّ الكَلِيبَ مصدَرُ: كَلِبَتِ الحَرْبُ، والأَوّلُ أَقوَى.
ومن المَجَاز: فلانٌ عَنِيفُ المُطَالَبَةِ، شَنِيعُ المُكَالَبَةِ.
المُكَالَبَةُ: المُشَارَّةُ، والمُضَايَقَةُ. وكذلك التّكالُبُ، وهو التَّوَاثُبُ، يقال: هم يَتكالَبونَ على كذا، أَي. يَتَواثبونَ عليه. وكَالَبَ الرَّجُلَ مُكَالَبَةً، وكِلابًا: ضَايقَه كمُضَايَقَةِ الكِلابِ بعضِها بعضًا عندَ المُهارشةِ.
والكَلِيبُ، في قولِ تأَبَّطَ شَرًّا، بمعنى المُكالب.
وَكَلْبٌ، وبنو كَلْبِ، وبنو أَكْلُبٍ، وبنو كَلْبَةَ، وبنو كِلابٍ: قبائلُ من العرب.
قال الحافظ ابْنُ حَجَرٍ في الإِصابة: حيثُ أُطْلِقَ الكَلْبيُّ فهو من بني كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ. قال شيخُنَا: هو أَخو نَمِرٍ وَتَنُوخُ، كما في مَعارف ابْنِ قُتَيْبَةَ. وقال العَيْنِيُّ: في طَيِّئٍ كَلْبُ بن وَبْرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بنِ الْحافِ بْنِ قُضَاعَةَ.
وأَمَّا تَغْلِبُ بْنُ وائِلٍ، فَعدْنانِيٌّ، وهذا قَحْطَانِيُّ.
وأَمَّا كِلابٌ، ففي قُرَيْش هو ابْنُ مُرَّةَ، وفي هَوَازِنَ ابْنُ رَبِيعَةَ [بن عامِر] بْنِ صَعْصَعَةَ، وفيه المَثَلُ:
«ثَوْرُ كِلاب في الرِّهَانِ أَقْعَدُ».
وهو في أَمثالِ حَمْزَةَ.
وبَنُو كَلْبَةَ: نُسِبُوا إِلى أُمّهم.
وَكَفُّ الكَلْبِ: عُشْبَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، تَنْبُتُ بالقِيعَانِ ببلاد نَجْدِ، يقال لها ذلك إِذا يَبِسَت، تُشَبَّهُ بكَفِّ الكَلْبِ الحَيَوانِيّ، وما دامت خَضْرَاءَ، فهي الكَفْنَةُ.
وأُمُّ كَلْبٍ: شُجَيْرَةٌ شاكَةٌ، تَنْبُتُ في غَلْظِ الأَرْضِ وجَلَدِها، صفراءُ الوَرَقِ، حَسْناءُ، فإِذا حُرِّكَت، سَطَعَتْ بأَنْتَنِ رائحة وأَخبَثِها، سُمِّيتْ بذلك لَمَكَانِ الشَّوْكِ، أَو لأَنَّهَا تُنْتِنُ كالكَلْب إِذا أَصابَه المَطَرُ، قال أَبو حنيفَةَ: أَخبرَني أَعرابيٌّ، قال: رُبَّمَا تَخَلَّلَتْهَا الغنمُ، فحاكَّتْها، فأَنْتَنَت، حَتَّى يَتَجَنَّبَها الحَلّابُ، فتُباعَدَ عن البيوتِ، وقال: وليست بمَرْعىً.
والكَلَبَاتُ، محرَّكَةً: هَضَبَاتٌ م؛ أَي معروفةٌ، باليَمَامَة، وهي دُونَ المَجَازِ، على طريق اليمَنِ إِليها من ناحيتها.
والكُلَابُ، كَغُراب: موضع قاله أَبو عُبَيْد. أَوماءٌ معروف لبني تَمِيم، بينَ الكُوفَةِ، والبَصْرةِ على سبْعِ لَيال من اليَمَامَةِ أَو نَحْوِها. لَهُ يومٌ كانَت عندَهُ وقعةٌ للعرب، قال السَّفّاحُ بْنُ خَالِدٍ التَّغْلَبِيُّ:
إِنّ الكُلابَ ماؤُنا، فخَلُّوهْ *** وساجِرًا، والله، لَنْ تَحُلُّوهْ
وساجِرٌ: اسْمُ ماءِ يجتمع من السَّيْل.
وكان أَوّلَ مَنْ وَرَدَ الكُلَابَ من بني تَمِيمٍ سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وكان من بني تَغْلِبَ. وقالوا: الْكُلَابُ الأَوّلُ، والكُلَابُ الثّاني، وهُمَا يومانِ مشهورانِ للعرب. ومنه حديثُ عَرْفَجَةَ: أَنَّ أَنْفَهُ أُصِيبَ يَوْمَ الكُلَابِ، فاتَّخَذَ أَنْفًا من فضَّة». قال أَبو عُبَيْد: كلَّابٌ الأَوّلُ وكُلَابٌ الثّاني: يَوْمَانِ كانا بينَ مُلُوك كنْدَةَ وبني تَمِيم. وبينَ الدَّهْنَاءِ واليَمَامة موضعٌ يُقالُ له الكُلابُ أَيضًا، كذا قالوه، والصَّحيح أَنّه هو الأَول.
والكَلَابُ كَسَحَابِ* ذَهَابُ: العَقْلِ، من الكَلَبِ مُحَرّكةً.
وقد كُلِبَ الرَّجُلُ كعُنِيَ إِذا أَصابَهُ ذلك، وقد تقدّمَ معنى الكَلَبِ.
ولِسانُ الكَلْبِ: سَيْفُ تُبَّعٍ اليَمانِيّ أَبِي كَرِبٍ كان في طُولِ ثَلاثَةِ أَذْرُع، كأَنَّهُ البَقْلُ خُضْرَةً، مُشَطَّبٌ، عَريض، نقله الصّاغانيُّ.
ولسانُ الكَلْب: اسْمُ سُيوف أُخَرَ**، منها: سيفٌ كان لأَوْسِ بْنِ حارِثَةَ بْنِ لأُمٍ الطّائِيّ، وفيه يقولُ:
فإِنَّ لِسَانَ الكَلْبِ مانِعُ حَوْزَتِي *** إِذا حَشَدَتْ مَعْنٌ وأَفْنَاءُ بُحْتُرِ
وأَيضًا سيفُ عَمْرِو بْنِ زَيْد الكَلْبِيّ، وسَيْفُ زَمْعَةَ بن الأَسودِ بْنِ المُطَّلِبِ، ثم صار إِلى ابْنِهِ عبدِ الله، وبه قَتَلَ هُدْبَةَ بْنَ الخَشْرَمِ.
وذُو الكَلْبِ: عمْرُو بن العَجْلانِ الهُذَليُّ، سُمِّيَ به لأَنّه كان له كَلْبٌ لا يُفَارِقُه، وهو من شُعَراءِ هُذَيْلٍ مشهورٌ.
ونَهْرُ الكَلْبِ: بَيْنَ بَيْرُوتَ وصَيْدَاءَ من سواحلِ الشَّام.
وكَلْبُ الجَرَبَّةِ، بتشديد المُوَحَّدَة: موضع، هكذا نقلَهُ الصّاغانيُّ.
وكَلَّابٌ والعُقَيْلِيُّ، كَكَتَّان، وكذا كَلّابُ بْنُ حَمْزَةَ، وكُنْيَتُهُ أَبو الهَيْذَامِ بالذّال المعجمة: شاعِرانِ نقلهما الصّاغانيّ والحافظُ.
وفَاتَهُ كَلَّابُ بْنُ الخُواريّ التَّنُوخِيُّ المَعَرِّيُّ الّذِي عَلَّقَ فيه السِّلَفِيُّ.
والكَالِبُ، والكَلَّابُ: صاحبُ الكِلابِ المُعَدَّةِ للصَّيْد، وقيل: سائسُ كِلَابٍ، وقد تقدّم.
ودَيْرُ الكَلْبِ: بناحِيَةِ المَوْصِلِ بالقربِ من باعَذْراءَ، كذا قَيَّدَهُ الصّاغانيّ بالفتح، وصوابُهُ بالتْحريك.
وجُبُّ الكَلْبِ: تقدّم ذِكْرُهُ في الجمع: ب ب.
وعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعيدِ بْنِ كُلّابٍ، كرُمَّانٍ التَّمِيميُّ البِصْرِيُّ: مُتَكَلِّمٌ، وهو رأْسُ الطّائفة الكُلّابِيّة من أهل السُّنَّة. كانت بينَهُ وبينَ المُعْتَزِلَة مناظراتٌ في زمن المأْمونِ، ووَفاتُهُ بعدَ الأَرْبَعينَ ومِائَتَيْنِ. ويقال له ابْنُ كُلّابٍ، وهو لقبٌ، لشدّة مُجَادَلَتِه في مجلسِ المناظرةِ. وهكذا كما يُقال: فُلانٌ ابْنُ بَجْدَتِهَا، لا أَنّ كُلَّابًا جَدٌّ له كما ظُنَّ، ومن الغريبِ قولُ والد الفَخْرِ الرّازيّ في آخِر كتابه: غايةِ المَرام في علم الكلام: إِنّه أَخو يَحْيَى بن سَعِيد القَطّانِ المُحَدِّث. وفيه نَظَرٌ.
وقَوْلُهم: الكِلابُ هي روايةُ الجُمهورِ، وعليها اقتصر أَبو عُبَيْدٍ في أَمثاله، وثعلبٌ في الفَصيح، وغيرُ واحدٍ، أَو الكِرابُ عَلَى البَقَرِ بالرّاءِ بدل اللّام، وبالوَجْهَيْنِ رواه أَبو عُبيْدٍ البَكْرِيّ، في كتابه فصْل المقال، ناقلًا الوجهَ الأَخيرَ عن الخليل وابْنِ دُرَيْدٍ، وأَثبتهما المَيْدَانيّ في مجمع الأَمثال على أَنهما مَثَلَانِ، كُلُّ واحدٍ منهما على حِدَةٍ في معناه.
تَرْفَعُهَا على الابتداءِ وتَنْصِبُها بفعل محذوف أَي: أَرْسِلْها عَلَى بَقَرِ الوَحْشِ. ومَعْنَاهُ، على ما قَدَّرَهُ سَيْبَوَيْه: خَلِّ امْرَأً وصِناعَتَهُ. قال ابْنُ فارسٍ في المُجْمَل: يُرادُ بهذا الكلام صيدُ البَقَر بالكِلاب، قال: ويُقَالُ: تأْويلُهُ مثلُ ما قاله سِيبَوَيْهِ. وقال أَبو عُبَيْدٍ في أَمثاله: من قِلَّة المُبالاة قولهم: الكِلاب على البقَر، يُضْرَبُ مثلًا في قلَّة عِنايةِ الرجلِ واهتمامِه بشأْن صاحبه. قال: وهذا المَثلُ مُبْتَذَلٌ في العامَّة، غير أَنّهم لا يَعرِفُون أَصلَه. ونقل شيخُنا عن شروح الفصيح: يجوزُ الرَّفْعُ والنَّصب في الرِّوايتَيْنِ، فالرَّفْعُ على الابتداءِ، وما بَعْدَه خبرٌ. وأَما النَّصْب، فعلى إِضمارِ فعْلٍ، كأَنّه قال: دَعِ الكِلابَ على البَقَر. وكذلك من روى «الكِرابَ» إِنْ شِئتَ نَصَبْتَ فقلتَ: أَي دَعِ الحَرْثَ على البَقَر، وإِنْ شئتَ رَفَعْتَ على الابتداءِ والخَبَر.
وأُمّ كَلْبَةَ: الحُمَّى، لشدَّةِ ملازمتِها للإِنسان، أُضِيفَت إِلى أُنْثَى الكِلاب.
وكَلَبَ الرجُلُ يَكلِبُ، من باب ضَرَب، كذا هو مضبوط عندَنا، ومثله الصّاغانيُّ، وفي بعضِ النُّسَخ: من بابِ فَرِحَ. واسْتَكْلَبَ: إِذا كان في قَفْرٍ، ف نَبَحَ، لِتَسْمَعَهُ الكلابُ، فَتَنْبَحَ، فيُستدَلَّ بها عليه أَنَّه قريبٌ من ماءٍ أَو حِلَّة، قال:
ونَبْحُ الكِلابِ لِمُسْتَكْلِبِ
وكَلِبَ الكَلْبُ، من باب فَرِحَ، وكذا اسْتَكْلَبَ: ضَرِيَ، وتَعَوَّدَ أَكْلَ النّاسِ، فأَخَذَهُ لِذلك سُعارٌ، وقد تَقَدّم. ومن المَجَاز: كَلالِيبُ البَازِي: مَخَالِبُهُ، جمعُ كَلُّوب، ويقال: أَنْشَبَ فيه كَلالِيبَه، أَي: مَخَالِبَهُ.
ومِنَ الشَّجَرِ: شَوْكُهُ. كلُّ ذلك على التَّشبيه بمَخَالِبِ الكِلاب والسِّباع. وقولُ شيخنا: ولهم في الّذِي بعدَهُ نَظَرٌ، منظورٌ فيه.
وكالَبَتِ الإِبِلُ: رَعَتْهُ، أَي: كَلالِيبَ الشَّجَرِ. وقد تكونُ المُكَالَبَةُ ارْتِعاءَ الحَشِ اليابِس، وهو منه؛ قال الشّاعرُ:
إِذا لَمْ يَكُنْ إِلّا القَتَادُ تَنَزَّعَتْ *** مَنَاجِلُهَا أَصْلَ القَتَادِ المُكَالَبِ
* وممّا يُسْتَدْرَكُ على المؤلّف: الكَلْبُ من النُّجُومِ بحِذاءِ الدَّلْوِ من أَسْفَلَ، وعلى طريقته نَجْمٌ أَحمرُ يقالُ له الرّاعِي.
وكِلابُ الشِّتَاءِ: نُجُومٌ، أَوّلَهُ، وهي الذِّراعُ، والنَّثْرَةُ، والطَّرْفُ والجَبْهَةُ. وكُلُّ هذه إِنَّما سُمِّيَتْ بذلك على التّشبيه بالكِلاب.
ولِسَانُ الكَلْبِ: نَبْتٌ، عن ابْنِ دُرَيْدٍ.
والكُلَاب، كغُراب: وادٍ بِثَهْلَان، مُشْرِفٌ، به نَخْلٌ ومِياهٌ لبني العَرْجاءِ من بني نُمَيْرٍ. وثَهْلانُ: جبلٌ لبَاهِلَةَ، وهو غير الّذي ذكرَه المصنِّفُ.
ودَهْرٌ كَلِبٌ: أَي مُلِحٌّ على أَهْلِه بما يَسُوؤُهم، مُشتَقٌّ من الكَلْبِ الكَلِبِ؛ قال الشاعرُ:
ما لِي أَرَى النَّاسَ لا أَبَا لَهُمُ *** قد أَكَلُوا لحْمَ نابِحٍ كَلِبِ
ومن المجاز أَيضًا: دَفَعْتُ عنك كَلَبَ فُلان، أَي: شَرَّهُ وأَذاهُ. وعبارة الأَساس: كَفَّ عنه كِلابَهُ: تَرَكَ شَتْمَهُ وأَذاهُ، انتهى.
وكُلَّابُ السَّيْفِ، بالضَّمّ: كَلْبه.
والكَلْب: فَرَسُ عامرِ بْنِ الطُّفيْلِ من وَلَدِ داحِسٍ، وكان يُسمَّى الوَرْدَ والمَزْفُوقَ.
والكَلْبُ بْنُ الأَخْرَس: فَرسٌ خَيْبَرِيِّ بْنِ الحُصَيْنِ الكَلْبِيّ.
وأَهْلُ المَدِينَةِ يُسَمُّونَ الجَرِيءَ مُكَالِبًا، لمُكَالَبَتِهِ للمُوَكَّلِ بهم.
وفلانٌ بِوَادِي الكَلْبِ: إِذا كانَ لا يُؤْبهُ به، ولا مأْوى يُؤْوِيهِ كالكَلْبِ تَراهُ مُصْحِرًا أَبدًا، وكلٌّ من المَجَاز.
وكِلَابٌ: اسْمٌ سُمِّي بذلك، ثمّ غَلَبَ على الحَيِّ والقبيلةِ قالَ:
وإِنّ كِلابًا هذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ *** وأَنْتَ بَرِيءٌ من قَبَائِلها العَشْرِ
قال ابْنُ سِيدَه: أَيْ أَنّ بطونَ كِلابٍ عشرُ أَبْطُنٍ، قال سيبويه: كِلابٌ اسمٌ للواحِد، والنَّسَبُ إِليه كِلابيٌّ. يعني أَنّه لو لم يكن كِلابٌ اسمًا للواحد، وكان جمْعًا، لقيل في الإِضافة إِليه كَلْبِيٌّ.
وقولهم: «أَعَزُّ من كُلَيْبِ وائل» هو كُلَيْبُ بْنُ رَبِيعَةَ من بَنِي تَغْلِبَ بْنِ وائِلٍ.
وأَما كُلَيْبٌ، رَهْطُ جَرِيرٍ الشاعرِ، فهو كُلَيْبُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ.
وكالِبُ بن يوقنا: من أَنبياءِ بني إِسْرَائِيلَ في زَمَنِ سيِّدنا موسَى، عليهماالسلام، كما في الكَشّاف في أَثناءِ القَصَص، والعناية، في المائدة، نقله شيخُنا.
وفي أَنساب الإِمام أَبي القاسم الوزير المَغْرِبِيِّ: كُلَيْبٌ في خُزَاعَةَ: كُلَيْبُ بْنُ حُبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ، وكلْبٌ في بَجِيلَة: ابنُ عَمْرو بْنِ لُؤَيِّ بْنِ دُهْنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَحْمَسَ.
وأَرْضٌ مَكْلَبةٌ، بالفتح: كثيرةُ الكِلاب، نقله الصّاغانيّ.
وإِسْتُ الكَلْبِ: ماءٌ نَجْدِيٌّ عند عُنَيْزَةَ من مياهِ رَبيعَةَ، ثُمَّ صارَتْ لكِلابٍ.
ووادي الكَلَب، محرَّكَةً: يَفرُغ في بُطْنَانِ حَبِيبٍ بالشّام.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
221-تاج العروس (كوب)
[كوب]: الكُوبُ، بالضَّمّ: كُوزٌ لا عُرْوَةَ لَهُ، قال عَديُّ بنُ زَيْدٍ:مُتَّكِئًا تُصْفَقُ أَبْوابُهُ *** يَسْعَى عَلَيْه العَبْدُ بالكُوبِ
أَو المستديرُ الرّأْسِ الّذِي لا خُرْطُومَ لَهُ. وفي بعض الأُمّهات: لا أُذُنَ له، وهو قول الفَرّاءِ؛ الجمع: أَكْوَابٌ، وفي التَّنْزِيل العزيز: {وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ}، وفيه: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ}، وأَنشدَ:
يَصُبُّ أَكْوابًا على أَكْوَابِ *** تَدَفَّقَتْ من مائِها الجَوَابِي
وعن ابن الأَعْرَابِيّ: كاب، يَكُوبُ، إِذا شَرِبَ بِهِ، أَي: بالكُوب، كاكْتَابَ، وكذلك كازَ، يكُوزُ، واكتازَ.
والكَوَبُ، محرَّكَةً؛ دِقَّةُ العُنُقِ، وعِظَمُ الرَّأْسِ عنه أَيضًا.
والكَوْبَةُ: الحَسْرَةُ على مافاتَ. ظاهره أَنّهُ بالفَتْح، وقَيَّدَهُ الصّاغانيُّ بالضَّمّ مُجَوِّدًا.
وفي الحديث «إِنّ الله حَرَّمَ الخَمْرَ والكُوبَةَ» قال أَبو عُبَيْد: أَمّا الكُوبَة بالضَّمّ، فإِنَّ محمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ أَخبرني أَنّ الكُوبَةَ النَّرْدُ في كلام أَهل اليَمَن. ومثله قال ابْنُ الأَثِيرِ أَو الشِّطْرَنْجُ بكسر الشين المُعْجَمة، سيأْتي بيانُه في الجِيم.
وفي بعض النُّسَخ بزيادة الهاءِ في آخِرِه.
وفي الصَّحاح: الكُوبَةُ: الطَّبْلُ الصَّغِيرُ المُخَصَّرُ.
وقِيلَ: الكُوبَةُ الفِهْرُ. بالكَسْر: الحَجَرُ الصَّغِيرُ قَدْرُ مِلءِ الكَفِّ.
وقيل: هو البَرْبَطَ، ومنهحديثُ عليّ، رضي الله عنه «أُمِرْنَا بِكَسْرِ الكُوبَةِ، والكِنّارَةِ والشِّيَاعِ».
والتَّكْوِيبُ: دَقُّ الشَّيْءِ بالفِهْر، نَقَله الصّاغانيُّ.
وكابَةُ: موضع ببِلادِ بني تَمِيمٍ، أَو ماءٌ من وراءِ نِباجِ بني عامِرٍ.
وكُوبانُ، بالضَّمِّ: قرية، وفي نسخة: موضعٌ بِمَرْوَ، معرَّبٌ عن جُوبان.
وكوبَانَانُ، بالضم: قرية بأَصْفهانَ.
وكُوبَنَانُ بالضَّمّ أَيضًا: د، معروف أَي: بلَدٌ معروفٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
222-تاج العروس (ألت)
[ألت]: أَلَتَه مالَه، وحَقَّهُ، يَأْلِتُه، أَلْتًا، من حَدِّ ضَرَب: نَقَصَهُ، وفي التَّنزِيل: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال الفَرّاءُ: الأَلْت: النقص. كآلَتَهُ إيلاتًا، مثل أَكرَمَ إكرامًا، وَأَلأَتَهُ إِلْآتًا رباعيّا، مثلُه، غير أنّه مهموز العين، وهكذا ضُبِط في نسختنا، وصوّب عليه، وضبطه شيخُنا من باب المُفَاعَلَة، ومصدرُه إلاتٌ، بغير ياءٍ، كقِتال، واستشهد من شواهدِ المُطوَّل نظيرَه في قوله:لهمْ إِلْفٌ وليْسَ لكُمْ إِلافُ
قُلت: ويشْهَدُ له أَيضًا ما في لسان العرب: أَلَتَه يَأْلِتُه أَلْتًا، وأَلاتَهُ أي: فهو مصدرُ أَلاتَهُ، يُليتُهُ. وأَلَتَهُ عن وجْهِه: حَبَسَهُ وَصَرَفَهُ، كلَاتَهُ يَلِيتُهُ، وهما لُغَتَانِ، حكاهما اليَزِيديُّ عن أَبي عَمْرُو بْنِ العَلاءِ. ولاتَهُ أَيضًا: نَقَصَهُ؛ قال الفَرّاءُ: وفي الآيةِ لُغَةٌ أُخْرَى: وما لِتْنَاهُم، بالكسر؛ وأَنشد في الأَلْتِ:
أَبْلِغْ بَني ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً *** جهْدَ الرِّسَالَةِ لا أَلْتًا ولا كَذِبَا
يقول: لا نقصانَ ولا زيادةَ. وفي لسان العرب: وفي حديث عبدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، يومَ الشُّورَى: «ولا تَغْمِدُوا سُيُوفَكُمْ عن أَعدائكم، فَتُولِتُوا أَعْمَالَكم» قال القُتَيْبِيُّ: أَي تَنْقُصُوها، يُرِيدُ أَنّه كانت لَهُم أَعمالٌ في الجِهاد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا هم تَرَكُوها، وأَغْمَدُوا سُيُوفَهم، واخْتَلَفوا، نَقَصُوا أَعمالَهُم. يقال: لَاتَ يَلِيت، وأَلَتَ يَألِت، وبِهما نَزَلَ القرآنُ، قال: ولم أَسمَعْ أَوْلَتَ يُولِتُ، إلّا في هذا الحديث قال: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} يجوز أَن يكون من: أَلَتَ، ومن: أَلاتَ، قال: ويكون أَلاتَهُ يُليِته: إذا صَرَفَهُ عن الشّيْءِ. قال شيخنا: وقد استعملوه لازمًا، قالوا: أَلت الشَّيْءُ، كضَرَبَ: إذا نَقَصَ، كما في المِصْباحِ وغيرِه، وزاد بعضهم لغَةً أُخْرى، وهي أنّه يُقَال: أَلِت، كفَرِحَ، ويدُلُّ له قِراءَة ابْنِ كَثِيرٍ: وما أَلِتْنَاهُمْ، في الطور، بكسر اللام، حكاه ابْن جِنِّي، وأَغْفَلَه المصنِّفُ وغيرُه. قلت: ولعلَّها هي اللُّغَة التي نقلها القُتَيْبِيُّ، ونقلَ عنه ابْنُ مُكَرَّمٍ، وإنَّما تَصَحَّف على شيخنا، فلْيُراجَعْ في محلّه. والأَلْتُ: الحَلِفُ، ورُويَ عن الأَصمعيّ أَنَّه قال: أَلَتَه يَمِينًا، يَأْلِته، أَلْتًا: إذا حَلَّفَهُ، وفي الصّحاحِ: أَحْلَفَهُ. وقال غيرُهُ: ألَتهُ باليَمِين، أَلْتًا: شدَّدَ عليه، ورُويَ عن عُمَرَ، رضي الله عنه: «أنَّ رَجُلًا قال له: اتَّقِ الله، يا أَمِيرَ المؤْمِنِين، فسَمِعَهَا رجلٌ، فقال: أَتألِت على أميرِ المؤمنين؟ فقال عمَرُ: دَعْه»، الحديث. قال ابْن الأَعْرَابيّ: معنَى قولِهِ: أَتَأْلِته؟ أَتَحُطُّه بذلك؟ أَتَضَع منه؟ أَتُنَقِّصُهُ؟ قال أَبو منصور: وفيه وجهٌ آخرَ، وهو أَشْبَه بما أراد الرجلُ، فذكَرَ قولَ الأَصمَعِيَّ السابقَ، ثم قال: كأنه لما قال: اتَّقِ الله، فقد نَشَدَهُ باللهِ. تقول العرب: أَلَتُّكَ باللهِ لَمَا فَعَلْتَ كذا، معناه: نَشدْتُكَ باللهِ والأَلْتُ: القَسَمُ، يقال: إذا لم يُعْطِكَ حَقَّكَ، فَقَيِّدْهُ بالأَلْتِ.
أو أَلَتَهُ: طَلَبَ منه حَلِفًا، أَو شَهَادَةً، يَقومُ له بها. وعن أبي عَمْرٍو: الأُلْتَة، بالضَّم: العَطِيَّة القَلِيلَة. واليَمين الغَمُوسُ.
وأُلْتِي، بالضَّمِّ وكَسْرِ التاءِ المثناة، بهذا ضبَط ياقوت، وأُلْتَى كحُبْلَى، والمشهور الأوّلُ: قَلْعَةٌ في بِلاد الرُّوم، وهي بلد حَصينةٌ في بلاد الكُرْجِ قُرْبَ تَفْلِيسَ، كما أخبرني مَنْ دخَلَها. والأَلْتُ، بفتح فسكون: البُهْتَان، عن كُراع.
وَأَلِّيتُ، بالفتح وشدّ اللّام مع كسرها: موضع، قال كُثَيِّر عَزَّةَ:
بروضة أَلَّيتَ قَصْرَا خَنَاثَا
وَمَا له نظِيرٌ سِوَى: كَوْكَبٌ دُرِّيءٌ وقد سبق بيانه. وفي المحْكَمِ: هذا البناءُ عزيزٌ، أو معدوم، إلّا ما حَكاه أَبو زَيْد من قَوْلِهِم: عليه سَكَّينَةٌ قلتُ: وسيأتي له رابع في برت.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
223-تاج العروس (نبت)
[نبت]: النَّبْتُ: النَّبَاتُ، قال اللَّيْث: كلُّ ما أَنْبَتَ اللهُ في الأَرْضِ فهو نَبْتٌ، والنَّبَاتُ فِعْلُه، ويَجْري مَجْرى اسمِه، يقال: أَنْبَتَ اللهُ النَّبَاتَ إِنْباتًا، ونحو ذلك.قال الفَرّاءُ: إِنَّ النَّبَاتَ اسمٌ يَقُومُ مَقامَ المَصْدَرِ، قال الله تعالى: {وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا} وفي المُحْكَم: نَبَتَ الشَّيْءُ يَنْبُتُ نَبْتًا ونَبَاتًا، وتَنَبَّتَ.
وقد اخْتَارَ بعضُهم أَنْبَتَ بمعنى نَبَتَ، وأَنْكَرَه الأَصمعيُّ، وأَجازَه أَبو عُبَيْدَةَ واحتجّ بقولِ زُهيرٍ:
[قطينًا لهم] حتى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
أَي نَبَتَ، وفي ـ التنزيل العزيز: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قَرَأَ ابنُ كَثِير وأَبو عَمْرو [و] الحَضْرَمِيّ: تُنْبِتُ، بالضّم في التاءِ وكسر الباءِ، وقرأَ نافِعٌ وعاصمٌ وحَمْزةُ والكِسائِيّ وابنُ عامرٍ: تَنْبُتُ، بفتح التاءِ، وقال الفرّاءُ: هما لُغَتانِ.
نَبَتَتِ الأَرْضُ وأَنْبَتَتْ، قال ابنُ سِيدَه: أَمّا تُنْبِتُ فذَهَب كَثيرٌ من النّاس إِلى أَن معناه تُنْبِتُ الدُّهْنَ؛ أَي شَجَرَ الدُّهْنِ أَو حَبَّ الدُّهْنِ، وأَن الباءَ فيه زائدةٌ، وكذلك قولُ عنترة:
شَرِبَتْ بمَاءِ الدُّحْرُضَيْنِ فأَصْبَحَتْ *** زَوْرَاءَ تَنْفِرُ عن حِياضِ الدَّيْلَمِ
قالوا: أَرادَ شَرِبَتْ ماءَ الدُّحْرُضَيْنِ قال: وهذا عند حُذَّاقِ أَصحابِنا على غيرِ وجهِ الزّيادةِ، وإِنما تأْويلُه والله أَعلم: تُنْبِتُ ما تُنْبِتُه، والدُّهْنُ فيهَا، كما تقولُ: خرَجَ زيْدٌ بثِيابِه؛ أَي وثِيابُه علَيْه، وركِبَ الأَميرُ بِسَيْفِه؛ أَي وسَيْفُه مَعَه.
والمَنْبِتُ، كمَجْلِسٍ: مَوْضِعُه أَي النّباتِ، وهو شاذٌّ، وَجْهُ الشُّذوذِ لأَنّ المَفْعلَ من الثّلاثيّ إِذا كان غير مكسورِ المُضارع لا يكون إِلا بالفَتْح مَصْدَرًا، أَو زَمانًا، أَو مَكانًا والقياسُ مَنْبَتٌ كمَقْعَدٍ وقد قيل، ومثلُه أَحْرُفٌ معدودةٌ جاءَت بالكَسْرِ، مِنْها: المَسْجِدُ، والمَطْلِعُ، والمَشْرِقُ، والمَغْرِبُ، والمَسْكِنُ، والمَنْسِكُ.
ونَبَتَ البَقْلُ، كأَنْبَتَ، بمعنًى.
وأَنْشَد لزُهَيْرِ بنِ أَبي سُلْمَى:
إِذا السَّنَةُ الشَّهْباءُ بالنَّاسِ أَجْحَفَتْ *** ونالَ كِرامَ النّاسِ في الحَجْرَةِ الأَكْلُ
رَأَيْتَ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهمْ *** قَطِينًا لَهُمْ حتَّى إِذا أَنْبَتَ البَقْلُ
أَي نَبَتَ، يعني بالشَّهْباءِ البَيْضَاءَ من الجَدْبِ، لأَنّها تَبْيَضُّ بالثَّلْج، أَو عَدَم النَّبات، والحَجْرَةُ: السَّنَةُ الشَّدِيدةُ التي تَحْجُرُ النَّاسَ في بُيوتِهم، فيَنْحَرُوا كرائِمَ إِبِلِهِمْ ليَأْكُلُوها، والقَطِينُ: الحَشَمُ وسُكَّانُ الدَّارِ، وأَجْحَفَتْ: أَضَرَّتْ بهم، وأَهْلَكَتْ أَمْوالَهم، قال: نَبَتَ وأَنْبَتَ مثلُ قولِهِم: مَطَرَتِ السَّماءُ وأَمْطَرَتْ، وكُلُّهم يَقُول: أَنْبَتَ الله البَقْلَ والصَّبِيَّ إِنْبَاتًا، قال عزّ وجلّ: {وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا} وهو مجازٌ، قال الزَّجَّاجُ: معنَى {أَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا}، أَي جَعَل نَشْوَها نَشْوها نَشْوًا حَسَنًا، وجاءَ «نَبَاتًا» على لفظ نَبَتَ، على معنَى نَبَتَتْ نَباتًا حَسَنًا، وفي التنزيل العزيز: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا} جاءَ المصدَرُ فيه على غَيْرِ وَزْنِ الفِعْل، وله نَظَائِرُ.
ومن المَجازِ: نَبَتَ ثَدْيُ الجَارِيَةِ نُبُوتًا: نَهَدَ وارْتَفَعَ.
وقالوا: أَنْبَتَهُ اللهُ، فَتَعَدّى، فهو مَنْبُوتٌ، على غير قياس، كما نَبّه عليه الجوهريّ.
وأَنْبَتَ الغُلامُ: رَاهَقَ ونَبَتَتْ عانَتُه واسْتَبانَ شَعرُها، وفي حديث بَنِي قُرَيْظَةَ: «فَكُلُّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُم قُتِلَ» أَرادَ نَبَاتَ شَعَر العَانَةِ، فجَعَله علامةً للبُلُوغِ، وليس ذلك حَدًّا عندَ أَكْثَرِ أَهلِ العِلْمِ إِلّا في أَهلِ الشِّرْكِ، لأَنّه لا يُوقَفُ على بُلُوغِهِم من جِهةِ السِّنِّ، ولا يُمْكِنٌ الرُجوعُ إِلى أَقوالهم للتُّهَمَةِ في دَفْعِ القَتْلِ وأَداءِ الجِزْيَةِ، وقالَ أَحْمَدُ: الإِنْباتُ حَدُّ مُعْتَبَرٌ تُقَام به الحُدودُ علَى من أَنْبَتَ من المسلمين، ويحكى مثلُه عن مالِك.
ومن المَجازِ: التَّنْبِيتُ: التَّرْبِيَةُ، وَنَبَّتُّ الصَّبِيَّ تَنْبِيتًا: رَبَّيْتُه، يقال: نَبِّتْ أَجَلَكَ بَيْنَ عَيْنَيكَ.
ونَبَّتَ الجارِيةَ: غَذَّاها وأَحْسَنَ القيامَ عليها، رَجَاءَ فَضْلِ رِبْحِها.
والتَّنْبِيتُ: الغَرْسُ يقال: نَبَّتَ الناسُ الشَّجَرَ، إِذا غَرَسُوه.
ونَبَّتُوا الحَبَّ: حَرَثُوه، كذا في الأَساس.
وفي المُحْكَم: نَبَّتَ الزَّرْعَ والشَّجَرَ تَنْبِيتًا، إِذا غَرَسَه وزَرَعَه، ونَبَّتُّ الشَّجَرَ تَنْبِيتًا، غَرَسْتُه.
والتَّنْبِيتُ أَيضًا اسْمٌ لمَا يَنْبُتُ على الأَرْضِ من النَّباتِ مِنْ دِقِّ الشَّجَرِ، بكسر الدال؛ أَي صِغارِه وكِبارِه.
قال رُؤْبة:
مَرْت يُناصي خَرْقَها مُرُوتُ *** بَيْدَاءَ لم يَنْبُتْ بها تَنْبِيتُ
ويُكْسَرُ أَوَّلهُ قال شيخُنا: وذِكْر أَوّلِه مسْتَدْرَك، ونُقِل عن أَبِي حَيّانَ أَنّ كَسْرَه إِتْباعٌ، لا على جِهَةِ الأَصالَة.
وقال ابنُ القَطّاع: التَّنْبِيتُ: فَسيلُ النَّخْلِ.
وفي اللسان: التَّنْبيتُ: قِطَعُ السَّنامِ.
والتَّنْبِيتُ: ما شُذِّبَ على النَّخْلَةِ من شَوْكِها وسَعَفها للتَّخْفِيف عنها، عَزَاها أَبو حَنِيفَةَ إِلى عِيسَى بن عُمَرَ.
والنَّابِتُ من كُلّ شَيْءٍ: الطَّرِيُّ حين يَنْبُت صَغِيرًا.
ونَابِتُ بنُ يَزِيدَ سَمِعَ الأَوْزاعِي.
وأَبُو عَمْرٍو أَحمدُ بنُ نابِتٍ الأَنْدَلُسِيّ، عن عُبَيْد الله بن يَحْيى اللَّيْثِيّ.
وعليُّ بنُ نابِتٍ الوَاعِظُ الطَّالَقانِيّ، سَمعَ شُهْدَةَ، وهو من شُيُوخ الفَخْرِ ابنِ البُخَارِيّ، مُحَدِّثُون.
وعن اللّحيانِيّ: رَجُلٌ خَبِيتٌ نَبِيتٌ أَي خَسِيسٌ حَقِيرٌ وفي بعض النسخ: فقيرٌ ـ بالفاءِ بدلَ الحاءِ ـ وكذلك شَيْءٌ خَبِيتٌ نَبِيتٌ.
ومن المجاز يُقال: نَبَتَتْ لَهُم نَابِتَةٌ، إِذا نَشَأَ لَهُمْ نَشْءٌ صِغَارٌ لَحِقُوا الكِبارَ وصارُوا زيادَةً في العَدَدِ.
وما أَحْسَنَ نابِتَةَ بني فُلانٍ؛ أَي ما نَبَتَتْ عليهِ أَمْوالُهم وأَوْلادُهم.
وإِنّ بَنِي فُلانٍ لنَابِتَةُ شَرٍّ، وفي حديث الأَحْنَفِ «أَنّ معاوِيَةَ قال لِمَنْ بِبابِهِ: لا تَتَكَلَّموا بحوائِجِكمْ، فقال: لو لا عَزْمَةُ أَميرِ المُؤمِنينَ لأَخْبَرْتُه أَنّ دَافَّةً دَفَّتْ، وأَنّ نابِتَةً لَحِقَتْ».
ومن المَجازِ: هذا قَوْلُ النَّابِتَةِ.
والنَّوابِتُ هُم الأَغْمَارُ من الأَحْداثِ.
وفي الأَساس: النَّوابِتُ طائِفَةٌ من الحَشْوِيَّة أَي أَنهم أَحْدَثُوا بِدَعًا غَرِيبةً في الإِسلام، قال شيْخُنا: وللجاحِظِ فيهم رِسالةٌ قَرَنَهُم فيها بالرَّافِضَةِ.
واليَنْبُوتُ شَجَرُ الخَشْخَاشِ وقيل: هي شجرَةٌ شَاكّة، لها أَغْصانٌ وَوَرقٌ، وثمرَتُها جِرْوٌ؛ أَي مُدَوَّر، ويُدْعَى بِعُمَانَ: الغَافَ، واحدتُها يَنْبُوتَةٌ، قال أَبو حَنيفةَ: اليَنْبُوتُ ضَرْبانِ: أَحَدُهما هذا الشَّوْكُ القِصَارُ، وسيأْتي.
وشَجَرٌ آخرُ عِظَامٌ أَو شَجَرٌ الخَرُّوبِ وهو الضَّرْبُ الأَوّل في قولِ أَبي حَنِيفَةَ الذي عَبّر عنه بالشَّوْكِ القِصار، له ثَمَرةٌ كأَنَّهَا تُفَّاحَة، فيها حَبٌّ أَحمَرُ وهي عَقُولٌ للبَطْنِ يُتَدَاوَى بها، قال: وهي التي ذَكَرَهَا النّابِغَةُ فقال:
يَمُدُّه كُلُّ واد مُتْرَعٍ لَجِبٍ. *** فيه حُطَامٌ مِنَ اليَنْبُوتِ والخَضَدِ
وقال ابنُ سِيده: أَخْبَرنِي بعضُ أَعرابِ رَبِيعَةَ قال: تكون اليَنْبُوتَةُ مثلَ شجرةِ التُّفّاحِ العظيمةِ، وورقُها أَصغَرُ من وَرَق التُّفَّاحِ، ولها ثَمَرَةٌ أَصغَرُ من الزُّعْرُورِ، شديدةُ السَّوَادِ شديدةُ الحَلَاوَةِ، ولها عَجَمٌ يُوضَعُ في المَوَازِينِ.
والنَّبَائتُ: أَغْصَانُ، هكذا في نسختنا، وصوابه أَعْضَادُ الفُلْجَانِ كما في لسان العرب وغيره، الواحِدُ نَبِيتَةٌ.
والنَّبِيتُ: أَبو حَيٍّ وفي الصّحاح: حَيٌّ باليَمَنِ اسمُه عَمْرُو بنُ مالِكِ بنِ الأَوْسِ بن حَارِثَةَ بنِ ثَعْلَبَة بنِ عَمْرِو بنِ عامِرٍ، وهو من أَجْدَادِ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، وغيرِه من الصَّحابَة.
قلت: وفاتَه إِبراهيمُ بنُ هِبَةِ اللهِ بن محمّدِ بن إِبراهِيمَ البَغْدَادِيّ، عُرِف بابنِ النَّبِيتِ، عن أَبي الفضْل الأُرْمَوِيّ، وكان من العُدولِ بِمصر، مات سنة 605.
ونابِتٌ: موضع بالبَصْرَةِ، منه إِسحاقُ بنُ إِبراهِيمَ بنِ أَحمدَ بن يَعِيشَ الهَمْدَانِيّ النَّابِتِيّ، عن محمودِ بنِ غَيلان وَطبَقتِه، وعنه أَبو أَحْمَدَ الغَسّانِيّ، هكذا في نسختنا، وهو الصحيح، وفي بعضِها: منه عليّ بن عبد العزيزِ النَّابِتِيّ، وهو خطأٌ، لأَنّه سيأْتي في ـ ن ى ت.
وذاتُ النَّابِتِ مَوْضعٌ مِنْ عَرَفاتٍ نقله الصّاغانيّ.
ونُبَاتَى كسُكارَى: موضع بالبَصْرَةِ.
قال ساعِدَةُ بنُ جُؤَيَّةَ:
فالسِّدْرُ مُخْتلِجٌ فغُودِرَ طافيًا. *** ما بَيْن عَينَ إِلى نُبَاتَى الأَثْأَبُ
ويُرْوَى. نَبَاةَ، كحَصَاة، عن أَبي الحسن الأَخفش، وسيأْتي في المُعْتَلّ، ويروى أَيضًا: نَبَاتَ، كَسَحَابٍ، كلّ ذلك عن السُّكَّرِيّ.
وسَمَّوْا نَبَاتًا، كَسَحَابٍ، ونَبَاتَةَ بالفتح، منهم: نَبَاتَةُ بنُ حَنْظَلَةَ، من بني بَكْرِ بنِ كِلابٍ، كان فارِسَ أَهلِ الشّام، ووَلِيَ جُرْجَانَ والرَّيَّ لمَرْوَانَ.
ونُبَاتَةَ بالضَّم.
ونُبَيْتٌ، كزُبَيْرٍ.
ونُبَيْتَةَ، مثل جُهَيْنَة.
ونَبْتًا، ونَابِتًا منهم: النَّبْتُ بنُ مَالِكِ بنِ زيدِ بن كَهْلانَ بنِ سَبَإِ، أَبو حَيٍّ باليَمَن.
ونابِتُ بنُ اسماعيلَ، عليهِ السّلام، وَلِيَ بعد أَبِيه، أُمّه السيّدةُ بنْتُ مضَاضِ بنِ عَمْرٍو الجُرْهُمِيّ، قاله ابنُ قُتَيْبَةَ في المَعَارف.
ونُبَيْتَةُ، كجُهَيْنَةَ، بنتُ الضَّحَّاكِ، كذا قَيَّدهُ ابنُ ماكُولا صحابيّةٌ، أَوْرَدَها في المُعْجَمِ ابنُ فَهْد أَو هي بالثَّاءِ المثَلَّثَة وقد تَقَدَّم.
ومُحَمَّدُ بنُ سَعِيد بن نَبَات النَّبَاتِيّ، نِسْبَةٌ إِلى جَدِّه وهو شيخٌ لأَبي محمدِ بنِ حَزْمٍ وقد رَوَى عن أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ مُفَرِّجٍ وغيرِه.
وأَبُو العَبّاسِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُفَرِّج الأَنْدَلُسِيّ النَّبَاتِيُّ، لمَعْرِفَتِه بالنَّبَاتَاتِ والحَشَائِشِ، مُحَدِّثانِ، سمع الأَخِيرُ عن ابنِ زُرقون، ورَحَل فلَقِيَهُ بنُ نُقْطَةَ، وكان مجموعَ الفَضَائِل، ويُعرَف أَيضًا بابنِ الرُّومِيّة، وكان غايَةً في معرفةِ النَّباتِ.
ونُبَاتَةُ، بالضَّمِّ، إِليه ينْتَسِبُ الحُسَيْنُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ النُّباتِيّ الشَّاعِر، لأَنّه تِلْمِيذُ أَبي نَصْرٍ، وفي نسخة: لأَنّه تَلْمَذَ أَبَا نَصْرٍ، عبد العَزِيزِ بن عُمَرَ بنِ نُبَاتَةً الشّاعر، وكانت وَفَاةُ أَبي نَصْرٍ سنة 405، وله ثَمان وسَبْعُون سنة.
واخْتُلِف في نُبَاتَةَ جَدِّ الخَطِيبِ أَبي يَحْيى عبدِ الرَّحِيمِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ محمَّدِ بنِ إِسْماعِيلَ الفَارِقِيّ الجُذامِيّ، خطيب الخطَباءِ، الذي رأَى النَّبيَّ صلى الله عليهوسلم في مَنامِه، وتَفَلَ في فَمِه، والضمُّ أَكثَرُ وأَثبَتُ، ومن ولدِه: القَاضِي الأَجَلُّ تاجُ الدين أَبو سالمٍ طاهرُ، ابنُ القَاضِي عَلَمِ الدِّين عليّ، بنِ القاضِي أَبِي القاسِمِ يَحْيى بنِ طاهرِ بنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ.
وعَبْدَانُ بنُ نُبَيْتٍ المَروَزِيّ، كزُبَيْرٍ، مُحدِّثٌ، عن عبدِ الله بن المُبارَك، وعنه حاجِبُ بنُ أَحْمَدَ الطَّوَاشِيّ.
* وفاتَه: نُبَيْتٌ مولى سُوَيْدِ بنِ غَفْلَةَ، شيخٌ لمُحَمَّدِ بنِ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّف، قال الدَّارَ قُطْنيّ: ضَبطْنَاه عن أَبي سعيد الإِصْطَخْرِيّ، بالنون، وذكره البُخاريّ في تاريخه في المُثَلَّثَةِ.
وأَحْمَدُ بنُ عُمرَ بنِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بن نُبَيْت القَاضي، أَبْو الحَسَن الشِّيرازِيّ، ذكره القَصَّارُ في طبقاتِ أَهلِ شِيرازَ، وقال: له رِواياتٌ عن أَبي بَكْرِ بنِ سَعْدانَ وغيرِه.
قال شيخنا: وأَمّا الجَمَالُ مُحَمَّدُ بنُ نَبَاتَةَ المِصْرِيُّ الشّاعر، فإِنه بالفَتْح، كما جَزمَ به أَئمّةٌ من شيوخنا، لأَنّه كان يُوَرِّي في شعرِه بالقَطْرِ النَّبَاتِيّ، وهو بالفتح، لأَنَّه نِسْبَةٌ للنَّباتِ، وهو نَوْعٌ من السُّكَّرِ العَجيبِ يُعْمَلُ مِنْه قِطَعٌ كالبَلُّورِ، شَدِيدُ البَياض والصَّقالَةِ، والظاهِرُ أَنه فارِسِيّ حادِثٌ، وكان الأَوْلَى بالمُصَنِّفِ أَن يُنَبِّهَ عليهِ، ولكنه أَغْفَلَه.
قلت: وقال الحَافِظ: وشاعرُ الوَقْتِ الجَمَالُ أَبو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ نَبَاتَةَ النَّباتِيُّ بالفَتْح، نُسِبَ إِلى جَدِّهِ، وهو من ذُرِّيَّةِ الخَطيب عبْدِ الرَّحِيمِ. قلت: ورُوى عن عبد العَزِيزِ بنِ عبدِ المُنْعِمِ الحَرَّانِيِّ، وغيره، فانظُرْه مع قولِ المُصَنِّفِ في جَدِّهِ: إِنَّ الضَّمّ فيه أَثْبتُ وأَكثَرُ، وكذا مع قولِ شَيْخِنا: لأَنّه كان يُوَرِّي في شِعْرِه، إِلى آخره.
ثم قال شَيْخُنا: وأَنشدني شيخُنا الإِمامُ ابنُ الشَّاذِلِيّ أَعَزّ اللهُ ذاتَه:
حَلَا نَباتُ الشَّعْرِ يا عَاذِلي *** لمّا غَدَا في خَدِّهِ الأَحْمَرِ
فشَاقَنِي ذاكَ العِذَارُ الّذِي *** نَبَاتُه أَحْلَى مِن السُّكَّرِ
* ومما يُستدرك عليه من المحكم: نَبَتَ الشَّيْءُ يَنْبُتُ نَبْتًا ونَبَاتًا وتَنَبَّتَ. قال:
مَنْ كَانَ أَشْرَكَ في تَفَرُّقِ فَالِج *** فَلَبُونُه جَرِبَتْ مَعًا وأَغَدَّتِ
إِلّا كَناشِرَةَ الّذي ضَيَّعْتُمُ *** كالغُصْنِ في غُلَوائِهِ المُتَنَبِّتِ
وقيل: المُتَنَبِّتُ هنا: المُتأَصِّلُ.
والنِّبْتَةُ بالكَسْرِ شَكْلُ النَّباتِ، وحَالتُه التي نَبَتَ عَلَيْها.
والنَّبْتَةُ: الواحِدَةُ من النَّبات، حكاه أَبُو حَنِيفَة، فقال: العُقَيْفاءُ نَبْتَةٌ ورَقُها مِثلُ وَرَقِ السَّذَابِ، وقال في موضع آخر: إِنما قَدَّمْنَاها لِئَلّا يُحْتاجَ إِلى تَكْرِيرِ ذلك عند ذِكْر كُلِّ نَبْتٍ، أَرادَ: عِنْدَ كُلِّ نوعٍ من النَّبْتِ.
والنُّوَيْبِتَةُ، تصغِيرُ نَابِتَةٍ، وقد جاءَ ذِكرُها في حديثِ أَبي ثَعْلَبَةَ.
ويُقَال: إِنّه لَحَسَنُ النِّبْتَةِ؛ أَي الحَالَةِ التي يَنْبُتُ عليْهَا.
وإِنَّهُ لَفِي مَنْبِتِ صِدْقٍ؛ أَي في أَصْلِ صِدْقٍ، وكذا في أَكْرَمِ المَنَابِتِ. وهو مجاز.
ومَنْ ثَبَتَ نَبَتَ.
وتَقُولُ: أَلَمْ يَنْبُتْ حِلْمُ فُلانٍ؟: كذا في الأَساس.
ونَبَاتُ بنُ عَمْرٍو الفَارِسيّ كسَحَاب، حَدَّثَ بِمصرَ، سَمِع منه ابنُ مَسْرُور ونَبَاتُ، جاريةُ الحَسَنِ بنِ وَهْبٍ، له معهَا أَخْبَارٌ.
ومُنْيَةُ نَابِتٍ قَرْيَةٌ بمصرَ، وقد نُسِب إِليها جماعَةٌ من أَهلِ القَرْنِ التَّاسِعِ ممّن أَخذَ عن الحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ.
وأَبو مُحَمَّدٍ عبدُ الله بنُ أَحْمَدَ المَالَقِيّ، عُرِف بابنِ البَيْطَارِ، وبالنَّبَاتِيّ، وهو مُؤَلّف المُفْردَاتِ في النّباتَات وغيرِهَا، ماتَ سنة 646.
وفي حديثِ عليٍّ رضي الله عَنْه « [أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليهوسلم] قالَ لِقَوْمٍ منَ العَرَبِ: أَنتُم أَهْلُ بَيْتٍ أَو نَبْتٍ؟ فقالُوا: نحنُ أَهْلُ بيتٍ وأَهْلُ نَبْتٍ»؛ أَي نحنُ في الشَّرفِ نِهايَةٌ، وفي النَّبْتِ نِهايَةٌ؛ أَي يَنْبُتُ المَالُ على أَيْدِينَا. فأَسْلَمُوا.
والنَّبْتيتُ: قريةٌ بمِصْر، منها أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بن محمَّدٍ الضَّريرُ، من شُيُوخِ شيخِ الإِسْلامِ زَكَرِيّا.
ومن المُتَأَخِّرينَ أَبُو محمد عبدُ المُنْعِمِ النَّبْتِيتِيُّ، إِمَامُ المَشْهَدِ الحُسَيْنِيّ، ومُدَرِّسُه، سَمع منهُ بعضُ شيوخِ مشَايِخنا، مات سنة 1084.
والنَّبُّوتُ كتَنُّورٍ: الفَرْعُ النّابِتُ من الشَّجَرِ، ويُطْلَقُ عَلَى العَصَا المُسْتَوِيَة، لُغَةٌ مِصْرِيّة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
224-تاج العروس (ثلث)
[ثلث]: الثُّلُثُ، بضمّ فسكون وبِضَمَّتَيْنِ ويُقَال: بضَمَّة ففَتْحَة ـ كأَمثاله ـ: لُغَةً أَو تَخْفِيفًا، وهو كَثِير في كلامهم، وإِنْ أَغْفَلَه المُصَنِّفُ تَبَعًا للجوهريّ، كذا قاله شيْخُنَا: سَهْمٌ أَي حَظُّ ونَصِيبٌ من ثَلاثَةِ أَنْصِباءَ كالثَّلِيثِ يَطَّرِدُ ذلك عِنْد بعضِهم في هذِه الكُسُورِ، وجَمْعُهَا، أَثْلَاثٌ.ونَصُّ الجوهَرِيّ: فإِذا فتَحْتَ الثَّاءَ زِدْت ياءً، فقلت: ثلِيثٌ، مثل: ثَمِينٍ وسَبِيعٍ وسَدِيسٍ وخَمِيسٍ ونَصِيفٍ، وأَنْكَرَ أَبو زَيْدٍ منها خَمِيسًا وثَلِيثًا.
قلت: وقَرَأْتُ في مُعْجَمِ الدِّمْياطِيِّ ما نَصُّه: قال ابنُ الأَنْبَارِيّ: قال اللُّغَوِيُّون: في الرُّبعِ ثلاثُ لُغاتٍ: يقال: هو الرُّبْعُ والرُّبُعُ والرَّبِيعُ، وكذلك العُشْرُ والعُشُرُ والعَشِيرُ، يَطَّرِدُ في سائِرِ العَدَدِ، ولم يُسْمَع الثَّلِيثُ، فمن تَكَلَّمَ به أَخْطَأَ، فالمصنّف جَرَى على رَأْيِ الأَكْثَرِ، وقالوا: نَصِيفٌ بمعنى النِّصْف، لكِن المعروف في النِّصْفِ الكَسْرُ، بخلافِ غيرِه من الأَجزاءِ، فإِنّهَا على ما قُلْنَا.
وعن الأَصمعيّ: الثَّلِيثُ: بمعنى الثُّلُثِ، ولم يَعْرِفُه أَبو زيد، وأَنشدَ شَمِرٌ:
تُوِفي الثَّلِيثَ إِذا ما كانَ في رَجَبٍ *** والحَيُّ في خَاثِرٍ منها وإِيقاعِ
والثِّلْث بالكَسْرِ من قَوْلِهِم: سَقَى نَخْلَهُ الثِّلْثَ ـ بالكسر ـ أَي بَعْدَ الثُّنْيَا.
وثِلْثُ النّاقَةِ أَيضًا: وَلَدُهَا الثَّالِثُ، وطَرَدَه ثعلب في وَلَدِ كلِّ أُنْثَى، وقد أَثْلَثَت، فهي مُثْلِثٌ، ولا يُقَال: نَاقَةٌ ثِلْثٌ.
وفي قولِ الجَوْهَرِيّ: ولا تُسْتَعْمَلُ أَي الثِّلْث بالكَسْرِ إِلّا في الأَوَّلِ ـ يعني في قولهم: هو يَسْقِي نَخْلَه الثِّلْثَ ـ نَظَرٌ كأَنَّه نَقَضَ كلامَه بِمَا حَكَاه ثِلْثِ النَّاقَةِ: وَلدِها الثالث، وهذا غَيُرُ وارِد عَلَيْه؛ لأَنَّ مُرادَ الجَوْهَرِيّ أَنّ الثِّلْثَ في الأَظْماءِ غيرُ وارِدٍ، ونَصُّ عبارَتِه: والثِّلْثُ بالكَسْرِ من قَوْلِهِمْ: هو يَسْقِي نَخْلَه الثِّلْثَ، ولا يُسْتَعْمَلُ الثِّلْثُ إِلا في هذا المَوْضِع، وليس في الوِرْدِ ثِلْثٌ؛ لأَنَّ أَقْصَرَ الوِرْدِ الرِّفْهُ: وهو أَنْ تَشْرَبَ الإِبِلُ كلَّ يومٍ، ثم الغِبُّ: وهو أَنْ تَرِدَ يومًا وتَدَعَ يومًا، فإِذا ارتَفَعَ من الغِبِّ فالظِّمْءُ الرَّبْعُ، ثُمّ الخِمْسُ، وكذلك إِلى العِشْرِ، قاله الأَصْمَعِيّ. انتهى.
فعُرِف من هَذَا أَنَّ مُرَادَه أَنّ الأَظْماءَ ليسَ فِيهَا ثِلْثٌ، وهو صحيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْه، ووجودُ ثِلْثِ النَّخْلِ، أَو ثِلْثِ النَّاقَةِ ـ لِوَلدِهَا الثَّالِث ـ لا يُثْبِتُ هَذا، ولا يَحُومُ حَوْلَهُ، كما هُو ظاهِرٌ، فقوله: فيه نَظرٌ، فيه نَظَرٌ. كما حَقَّقه شيخُنا.
وجَاءُوا ثُلاثَ ثُلاثَ ومَثْلَث مَثْلَث؛ أَي ثَلَاثَةً ثَلاثَةً.
وقال الزَّجّاج: في قولهِ تَعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} معناه: اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلاثًا، إِلّا أَنَّهُ لمْ يَنْصَرِفْ؛ لِجِهَتَيْنِ: وذلك أَنَّهُ اجتمَعَ عِلَّتانِ: إِحداهما أَنه مَعْدُولٌ عن اثْنَيْن اثْنَيْن وثَلاثٍ ثلاثٍ، والثانية أَنّه عُدِلَ عن تَأْنِيثٍ.
وفي الصّحاحِ: ثُلاثُ ومَثْلَثُ غيرُ مَصْرُوفٍ للعَدْلِ والصِّفَة، والمُصَنِّف أَشار إِلى عِلَّة واحدةٍ، وهي العَدْل، وأَغْفَلَ عن الوَصْفِيّة فقال: مَعْدُولٌ من ثَلاثَةٍ ثلاثَةٍ إِلى ثُلاثَ وَمَثْلَثَ، وهو صِفَةً؛ لأَنَّك تقُول: مَرَرْتُ بقومٍ مَثْنَى وثُلَاثَ، وهذا قول سيبويه.
وقال غيرُه: إِنّمَا لَمْ يُصْرَفْ لِتَكَرُّرِ العَدْلِ فيه: في اللَّفْظِ، والمعنَى لأَنَّهُ عُدِلَ عن لفظِ اثْنَيْنِ إِلى لفظِ مَثْنَى وثُنَاءَ، وعن معنى اثْنَيْنِ إِلى معنَى اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ [لأَنك] إِذَا قُلْتَ: جاءَتِ الخيلُ مَثْنَى، فالمَعْنَى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ؛ أَي جَاءُوا مُزْدَوِجِين، وكذلك جميعُ معدولِ العَدَدِ، فإِنْ صَغَّرْتَه صَرَفْتَه، فقلتَ: أُحَيِّدٌ وثُنَيٌّ وثُلَيِّثٌ ورُبَيِّعٌ؛ لأَنَّه مثل حُمَيِّر، فخرج إِلى مِثَالِ ما يَنْصَرِف، وليس كذلك أَحْمَدُ وأَحْسَنُ؛ لأَنَّه لا يَخْرُجُ بالتَّصْغِير عن وزْنِ الفِعْل؛ لأَنَّهم قد قالوا ـ في التَّعَجّب ـ: ما أُمَيْلِحَ زَيْدًا، وما أُحَيْسِنَهُ.
وفي الحديث: «لكن اشْرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ وَسَمُّوا اللهَ تَعالَى» يقال: فعلت الشيءَ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ، غيرَ مصروفاتٍ، إِذا فَعْلَتَه مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وثَلاثًا ثَلاثًا، وأَربَعًا أَرْبَعًا.
وثَلَثْتُ القَوْمَ أَثْلُثُهُم ثَلْثًا، كنَصَرَ: أَخَذْتُ ثُلُثَ أَمْوَالِهِم، وكذلك جميع الكُسور إِلى العُشْر.
وثَلَثْتُ، كَضَرَبَ أَثْلِثُ ثَلْثًا: كُنْتُ ثَالِثَهُم، أَو كَمَّلْتُهم ثَلاثَةً، أَو ثَلاثِينَ، بِنَفْسي.
قال شيخُنا: «أَو» هُنَا بمعنى الواو، أَو للتَّفْصِيل والتَّخْيِير، ولا يَصحّ كونُهَا لتَنْويعِ الخِلاف. انتهى.
قال ابن منظور: وكذلك إِلى العَشَرَة، إِلّا أَنّك تَفْتَح: أَرْبَعُهُم وأَسْبَعُهُم وأَتْسَعُهُم فيها جميعًا؛ لِمَكَانِ العَيْنِ.
وتقولُ: كانوا تِسْعَةً وعِشرِينَ فَثَلَثْتُهم؛ أَي صِرْتُ بهم تَمَامَ ثَلَاثِين وكانوا تِسْعَةً وثَلاثِين فَرَبَعْتُهم، مثل لفظ الثّلاثةِ والأَرْبَعَة، كذلك إِلى المائةِ، وأَنشدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ قولَ الشاعر في ثَلَثَهُم إِذا صارَ ثالِثَهُم، قال ابنُ بَرِّيّ: هو لعَبْدِ الله بنِ الزَّبِيرِ الأَسَدِيّ يهجو طَيّئًا:
فإِنْ تَثْلِثُوا نَرْبَعْ وإِنْ يَكُ خَامِسٌ *** يَكنْ سَادِسٌ حتّى يُبِيرَكُمُ القَتْلُ
أَرادَ بقَوْله: تَثْلِثُوا؛ أَي تَقْتُلوا ثالِثًا. وبعدَه.
وإِنْ تَسْبَعُوا نَثْمِن وإِن يَكُ تَاسِعٌ *** يَكُنْ عاشِرٌ حتّى يَكُونَ لنا الفَضْلُ
يقول: إِن صِرْتُم ثلاثَةً صِرْنا أَرْبَعَةً، وإِن صِرْتم أَربعةً صِرْنا خمسةً، فلا نَبْرَحُ نَزيدُ عليكم أَبدًا.
ويقالُ: «رَماهُ اللهُ بثَالثَة الأَثَافِي»، وهي الدّاهِيَةُ العَظِيمَةُ، والأَمْرُ العَظِيم، وأَصلُهَا أَنّ الرّجُلَ إِذَا وَجَدَ أُثْفِيَّتَيْنِ لِقِدْرِهِ، ولم يَجدِ الثَّالِثَةَ جَعلَ رُكْنَ الجَبَل ثَالِثَةَ الأُثْفِيَّتَيْنِ.
وثالِثَةُ الأَثافِي: الحَيْدُ النَّادِرُ من الجَبَلِ يُجْمَعُ إِليهِ صَخْرَتَانِ، فَيُنْصَبُ عَلَيْها القِدْرُ.
وأَثْلَثُوا: صارُوا ثَلاثَةً، عن ثعلب، وكانُوا ثَلاثَةً فأَرْبَعُوا، كذلك إِلى العَشَرة.
وفي اللسان: وأَثْلَثُوا: صارُوا ثَلاثِين، كلُّ ذلك عن لفظ الثّلاثة، وكذلك جميعُ العُقُودِ إِلى المِائَة، تصريفُ فِعْلِهَا كتَصْرِيفِ الآحادِ.
والثَّلُوثُ من النُّوق: ناقَةٌ تَمْلأُ ثَلاثَةَ أَوَانٍ، وفي اللسان: ثَلاثةَ أَقْدَاحٍ إِذا حُلِبَتْ، ولا يَكُون أَكْثَرَ من ذلك، عن ابنِ الأَعْرَابِيّ؛ يَعْنِي لا يكونُ المَلءُ أَكثَرَ من ثَلاثَةٍ.
وهي أَيضًا: ناقَةٌ تَيْبَسُ ثَلاثَةٌ من أَخْلافِها وذلك أَن تُكْوَى بِنارٍ حتّى يَنْقَطِع، ويكُونَ وَسْمًا لها، هذه عن ابن الأَعْرَابِيّ.
أَو هي التي صُرِمَ خِلْفٌ من أَخْلافها، أَو بمعنى الواو، وليست لتَنْوِيع الخِلاف، فإِنّها مع ما قبلها عبارةٌ واحدةٌ، تُحْلَبُ من ثلاثَةِ أَخْلافٍ، وعبارة اللسان: ويقال ـ للنّاقَةِ التي صُرِمَ خِلْفٌ من أَخْلافِها، وتُحْلَبُ من ثَلاثَةِ أَخْلافٍ: تَلُوثَ أَيضًا، وقال أَبُو المُثَلَّمِ الهُذَلِيّ:
أَلّا قُولَا لِعَبْدِ الجَهْل إِنّ ال *** صَّحِيحَةَ لا تُحَالِبُها الثَّلُوثُ
وقال ابن الأَعْرَابِيّ: الصَّحِيحَةُ: التي لها أَرْبَعَةُ أَخْلافٍ، والثَّلُوثُ: التي لها ثلاثَةُ أَخْلافٍ.
وقالَ ابنُ السِّكِّيت: نَاقَةٌ ثَلُوثٌ إِذا أَصابَ أَحَدَ أَخْلافِها شيءٌ فَيَبِسَ وأَنشدَ قولَ الهُذَليّ أَيضًا.
وكذلك أَيضًا ثَلَّثَ بِنَاقَتِه، إِذا صَرَّ منها ثَلاثَةَ أَخْلاف، فإِن صَرَّ خِلْفَيْنِ قيل: شَطَّرَ بِها، فإِن صَرَّ خِلْفًا واحِدًا قيل: خَلَّفَ بها، فإِن صَرَّ أَخْلافَهَا [كُلَّها] جُمَعَ قيل: أَجْمَعَ بِنَاقَتِه وَأَكْمَشَ.
وفي التهذيب: النَّاقَةُ إِذَا يَبِسَ ثَلَاثَةُ أَخْلافٍ منْهَا، فهي ثَلُوثٌ. ونَاقَةٌ مُثَلَّثَةٌ: لها ثلاثَةُ أَخْلافٍ، قال الشاعر:
فتَقْنَعُ بالقَلِيلِ تَرَاهُ غُنْمًا *** ويَكْفِيك المُثَلَّثَةُ الرَّغُوثُ
والمَثْلُوثَةُ: مَزَادَةٌ من ثَلاثَةِ آدِمَةٍ، وفي الصّحاح: من ثَلَاثَةِ جُلُودٍ.
والمَثْلُوثُ: ما أُخِذَ ثُلُثُه، وكلُّ مَثْلُوثٍ مَنْهُوكٌ.
وقِيل: المَثْلُوثُ: ما أَخِذَ ثُلُثُه، والمَنْهُوكُ: ما أُخِذَ ثُلُثاهُ، وهو رَأْيُ العَرُوضِيِّينَ في الرَّجَزِ والمُنْسَرِح.
والمَثْلُوثُ من الشِّعْرِ: الذي ذَهَبَ جُزآنِ من سِتَّةِ أَجزائِه.
والمَثْلُوثُ: حَبْلٌ ذُو ثَلاثِ قُوًى، وكذلك في جميع ما بَيْنَ الثّلاثَةِ إِلى العَشَرَة، إِلّا الثَّمَانِيةَ والعشرةَ.
وعن الليث: المَثْلُوثُ من الحبال: ما فُتِلَ على ثَلاثِ قُوًى، وكذلك ما يُنْسَج أَو يُضْفَرُ.
والمُثَلَّثُ؛ كمُعَظَّمٍ: شَرابٌ طُبخَ حتّى ذَهَبَ ثُلُثاه، وقد جاءَ ذِكْرُه في الحديث.
وأَرْضٌ مُثَلَّثَةٌ: لها ثَلاثةُ أَطرافٍ، فمِنْهَا المُثَلَّثُ الحادُّ، ومنها المُثَلَّثُ القائِم.
وشَيْءٌ مُثَلَّثٌ: ذو ثَلَاثَةِ أَرْكَان قاله الجَوْهَرِيّ.
وقال غيرُه: شَيْءٌ مُثَلَّثٌ: مَوْضُوعٌ على ثَلاثِ طاقَاتٍ، وكذلك في جميع العَدَدِ ما بين الثّلاثَةِ إِلى العَشَرة.
وقالَ اللَّيْثُ: المُثَلَّث: ما كان من الأَشْيَاءِ على ثَلاثَةِ أَثْنَاءٍ.
وَيثْلِثُ، كيَضْرِبُ أَو يَمْنَع، وتَثْلِيثُ، وثَلاثٌ، كسَحَاب، وثُلَاثَانُ بالضَّمّ: مواضعُ، الأَخيرُ قيلَ ماءٌ لبَنِي أَسَدٍ. قال امرُؤُ القَيْس:
قَعَدْتُ له وصُحْبَتِي بَيْنَ ضَارِجٍ *** وبينَ تِلاعِ يَثْلِثَ فالعَرِيضِ
وقال الأَعشى:
كَخَذُولٍ تَرْعَى النَّواصِفَ من تَثْ *** لِيثَ قَفْرًا خَلَا لَهَا الأَسْلاقُ
وفي شرحِ شيخِنَا، قال الأَعْشَى:
وجَاشَتِ النَّفْسُ لمَّا جَاءَ جَمْعُهُمُ *** ورَاكِبٌ جَاءَ من تَثْلِيثَ مُعْتَمِرُ
وقال آخر:
أَلَا حَبَّذا وادِي ثُلَاثَانَ إِنَّنِي *** وَجَدْتُ به طَعْمَ الحَيَاةِ يَطِيبُ
والثَّلِثَانُ، كالظَّرِبَانِ، نقل شيخنا عن ابن جِنِّي في المحتسب، أَنَّ هذا من الأَلْفَاظِ التي جاءَت على فَعِلانَ بفتح الفاءِ وكَسْرِ العَيْنِ وهي: ثَلِثَانُ، وبَدِلانُ، وشَقِرَانُ، وقَطِرَانُ، لا خَامِسَ لها، ويُحَرَّكُ: شَجَرةُ عِنَب الثَّعْلبِ، قال أَبو حنيفَةَ: أَخبرنِي بذلك بعضُ الأَعْرَاب، قال: وهو الرَّبْرَقُ أَيضًا، وهو ثُعَالَةُ، وقولُه: ويُحَرَّك، الصَّواب ويُفْتَح، كما ضَبَطَه الصّاغانيّ.
ومن المجاز: الْتَقَتْ عُرَى ذي ثَلاثِها.
ذُو ثُلاثٍ. بالضَّمِّ هو وَضِينُ البَعِيرِ. قال الطِّرِمّاح:
وقد ضُمِّرَتْ حَتَّى بَدا ذُو ثُلاثِها *** إِلى أَبْهَرَىْ دَرْمَاءَ شَعْبِ السَّنَاسِنِ
ويُقَال: ذو ثُلاثِها: بَطْنُها، والجِلْدَتَانِ العُلْيَا، والجِلْدَةُ التي تُقْشَر بَعْدَ السَّلْخِ.
وفي الأَسَاس: وروي
... «حَتَّى ارْتَقَى ذُو ثَلاثِها
أَي وَلَدُها، والثَّلاثُ: السَّابِياءُ، والرَّحِم، والسَّلَى؛ أَي صَعِدَ إِلى الظَّهْرِ.
ومن المجاز أَيضًا: يَوْمُ الثَّلاثَاءِ وهو بالمَدِّ، ويُضَمُّ كان حَقُّه الثّالث، ولكنه صِيغَ له هذا البِناءُ؛ ليَتَفَرَّدَ به، كما فُعِل ذلك بالدَّبَرَانِ، وحُكِيَ عن ثعلب: مَضَت الثَّلاثَاءُ بما فِيها، فَأَنَّثَ، وكان أَبُو الجَرَّاحِ يقول: مَضَت الثَّلاثَاءُ بما فِيهِنَّ، يُخْرِجُهَا مُخْرَج العَدَدِ، والجَمْع: ثَلاثَاوَاتٌ وأَثَالِثُ. حَكَى الأَخِيرَةَ المُطَرِّزِيُّ عن ثعلب.
وحكى ثعلبٌ عن ابن الأَعرابيّ: لَا تَكُنْ ثَلَاثَاوِيًّا؛ أَي مِمّن يَصُوم الثَّلاثَاءَ وَحْدَه.
وفي التَّهْذِيب: والثَّلاثَاءُ لمّا جُعِل اسْمًا جُعِلَت الهَاءُ التي كانت في العَدد مَدَّةً، فَرْقًا بين الحَالَيْنِ، وكذلك الأَرْبِعَاءُ من الأَرْبعَة، فهذه الأَسمَاءُ جُعِلت بالمَدّ تَوْكِيدًا لِلاسمِ، كما قَالُوا: حَسَنَةٌ وحَسْنَاءُ، وقَصَبَةٌ وقَصْبَاءُ، حيثُ أَلْزَمُوا النَّعْتَ إِلزامَ الاسمِ، وكذلك الشَّجْراءُ والطَّرْفَاءُ، والواحِدُ من كلّ ذلك بوزْن فَعَلَة.
وَثَلَّثَ البُسْرُ تَثْلِيثًا: أَرْطَبَ ثُلُثُه وهو مُثَلِّثٌ.
وقال ابنُ سيدَه: ثَلَّثَ الفَرَسُ: جاءَ بَعْدَ المُصَلِّي، ثُمَّ رَبَّع، ثمّ خَمَّسَ.
وقال عَلِيٌّ ـ رضي الله عنه ـ «سَبَقَ رسولُ الله ـ صلى الله عليهوسلم ـ وثَنَّى أَبُو بكرٍ، وثَلَّثَ عُمَرُ، وخَبَطَتْنَا فِتْنَةٌ، فما شَاءَ الله».
قال أَبو عُبَيْد: ولم أَسمَعْ في سَوَابِقِ الخيْلِ ـ مِمّن يُوثَق بِعِلمِه ـ اسْمًا لشيْءٍ منها إِلّا الثّانيَ، والعَاشِرَ، فإِنّ الثَّانيَ اسمُه المُصَلِّي، والعَاشرَ: السُّكَيْتُ، وما سِوَى ذَيْنِك إِنما يقال: الثّالِثُ والرَّابع، وكذلك إِلى التّاسع.
وقال ابنُ الأَنْبَارِيّ: أَسماءُ السُّبَّقِ من الخَيْلِ: المُجَلِّي، والمُصَلِّي، والمُسَلِّي، والتَّالِي، والحَظِيُّ، والمُؤَمِّلُ، والمُرْتَاحُ، والعَاطِفُ، واللَّطِيمُ، والسُّكَيْتُ. قالَ أَبو مَنْصُور: ولم أَحْفَظْهَا عن ثِقَةٍ، وقد ذكرها ابنُ الأَنْبَارِيّ، ولم يَنْسُبْهَا إِلى أَحَدٍ، فلا أَدْرِي أَحفِظَهَا لِثِقَةٍ أَمْ لا.
وفي حَدِيثِ كَعْب أَنّه قالَ لعُمر: أَنْبِئني ما المُثَلِّثُ؟ حين قال له: «شَرُّ النَّاسِ المُثَلِّثُ»؛ أَي كمُحَدّثٍ ويُخَفَّفُ قال شَمرٌ: هكذا رواه لنا البَكْرَاوِيّ عن عَوَانَةَ بالتَّخْفِيفِ وإِعْرَابُه بالتَّشْديد مُثَلِّثٌ عن تَثْلِيثِ الشَّيْء ـ فقال عُمر: المُثَلِّث لا أَبَا لك، هو السَّاعِي بأَخيه عندَ وفي نسخة إِلى السُّلْطَان، لأَنّه يُهْلِكُ ثلاثَةً: نَفْسَه وأَخاه والسُّلْطَانَ وفي نُسخَةٍ: وإِمَامَهُ؛ أَي بالسَّعْيِ فيه إِليه. والرّواية: هو الرَّجُلُ يَحْمَلُ بأَخِيه إِلى إِمَامِه، فيبْدَأُ بنَفْسه فيُعْنِتُهَا، ثمّ بأَخِيهِ ثم بإِمامِه، فذَلِك المُثَلِّثُ، وهو شَرُّ النَّاسِ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الثَّلاثَةُ من العَدَدِ: في عَدَدِ المذَكَّرِ معروفٌ، والمُؤَنَّثُ ثَلاثٌ.
وعن ابن السِّكِّيت: يقال: هو ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، مضافٌ، إِلى العَشَرَة، ولا يُنَوَّن، فإِن اخْتَلَفا: فإِن شِئتَ نَوَّنْتَ، وإِن شِئتَ أَضَفْتَ، قلت: هو رابعُ ثَلاثَةٍ، ورَابِعٌ ثَلاثَةً، كما تقول: ضارِبُ زَيْدٍ، وضَارِبٌ زَيْدًا؛ لأَن معناه الوُقُوع؛ أَي كَمَّلَهُم بنَفْسِه أَرْبَعَةً.
وإِذَا اتَّفقَا، فالإِضافَةُ لا غَيْرُ، لأَنه في مذهَبِ الأَسماءِ، لأَنك لم تُرِدْ معنَى الفِعْلِ، وإِنّمَا أَردْتَ هو أَحدُ الثَّلاثَةِ، وبعضُ الثلاثَة، وهذا ما لا يكونُ إِلا مُضَافًا.
وقد أَطَالَ الجوهَريّ في الصّحاح، وتَبِعَهُ ابنُ منظور، وغيرُه، ولابنِ بَرِّيّ عنا في حواشيه كلامٌ حَسَن.
قال ابن سيده: وأَمّا قولُ الشّاعر:
يَفْدِيكِ يا زُرْعَ أَبِي وخَالِي *** قَدْ مَرَّ يومَانِ وهذَا الثَّالِي
وأَنتِ بالهِجْرَانِ لا تُبَالِي
فإِنّه أَرادَ الثَّالِثَ، فأَبْدلَ الياءَ من الثَّاءِ.
وفي الحديث: «دِيَةُ شِبْهِ العَمْدِ أَثْلاثًا» أَي ثَلاثٌ وثَلاثُونَ حِقَّةً، وثلاثٌ وثلاثُونَ جَذَعَةً، وأَربعٌ وثلاثُون ثَنِيَّةً.
والثُّلَاثَةُ بالضَّمّ: الثَّلاثَةُ عن ابنِ الأَعْرَابِيّ. وأَنشد:
فمَا حَلَبَتْ إِلَّا الثُّلاثَةَ والثُّنَى *** ولا قُيِّلَتْ إِلا قَرِيبًا مَقَالُهَا
هكذا أَنشدَه بضم الثّاءِ من الثَّلاثَة.
والثَّلاثُون مِنَ العَدَدِ ليْسَ على تَضْعِيفِ الثَّلاثَةِ، ولكن على تَضْعِيفِ العَشَرَة، قالَهُ سيبويهِ.
والتَّثْلِيثُ: أَنْ تَسْقِيَ الزَّرْعَ سَقْيَةً أُخْرَى بعد الثُّنْيَا.
والثُّلاثِيّ: منسوبٌ إِلى الثَّلاثَة، على غيرِ قياسٍ.
وفي التَّهْذِيب: الثُّلاثِيُّ: يُنْسَب إِلى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، أَو كانَ طُولُه ثلَاثَةَ أَذْرُع: ثَوْبٌ ثُلاثِيّ ورُبَاعِيّ، وكذلك الغلامُ، يقال: غُلامٌ خُمَاسِيّ، ولا يُقَال: سُدَاسِيّ؛ لأَنَّه إِذا تَمَّت له خَمْسٌ صار رَجُلًا.
والحُرُوف الثُّلاثِيَّة: التي اجْتَمَع فيها ثَلاثَةُ أَحْرُفٍ.
والمِثْلاثُ: من الثُّلُثِ، كالمِرْباعِ من الرُّبُع.
وأَثْلَثَ الكَرْمُ: فَضَل ثُلُثُه وأُكِل ثُلُثاه.
وإِناءٌ ثَلْثَانُ: بَلَغَ الكَيْلُ ثُلُثَه، وكذلك هو في الشَّرَابِ وغيرِه.
وعن الفرَّاءِ: كِساءٌ مَثْلُوثٌ: مَنْسُوجٌ من صُوفٍ ووَبَرٍ وشَعَرٍ، وأَنشد:
مَدْرَعَةٌ كِسَاؤُهَا مَثْلُوثٌ
وفي الأَساس: أَرْضٌ مَثْلُوثَةٌ: كُرِبَتْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ، ومَثْنِيَّة: كُرِبَتْ مَرّتَيْنِ. و [قد] ثَنَيْتُهَا وثَلَثْتُها. وفُلان يَثْنِي ولا يَثْلِثُ؛ أَي يَعُدّ من الخُلفاءِ اثْنَيْن، وهما الشَّيْخَانِ، ويُبْطِلُ غيرَهُما. وفلانٌ يَثْلِثُ ولا يَرْبَعُ؛ أَي يَعُدُّ منهم ثَلاثَةً، ويُبْطِلُ الرّابِعَ.
وشَيْخٌ لا يَثْنِي ولا يَثْلِثُ؛ أَي لا يَقْدِرُ في المَرّةِ الثّانِيَةِ ولا الثَّالِثَةِ أَنْ يَنْهَضَ.
ومن المجاز: عليه ذُو ثَلاثٍ؛ أَي كِسَاءٌ عُمِلَ من صُوفِ ثَلاثٍ من الغَنَمِ.
وتَثْنِيَةُ الثَّلاثاءِ ثَلاثَاءَان، عن الفَرّاءِ، ذهبَ إِلى تَذْكِير الاسم.
وثُلَّيْث ـ مُصَغَّرًا مُشَدَّدًا ـ مَوضِعٌ على طريقِ طَيِّئ إِلى الشّامِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
225-تاج العروس (جث جثث جثجث)
[جثث]: الجَثُّ: القَطْعُ مطلقًا، أَو انْتِزَاعُ الشَّجَرِ من أَصْلِه، والاجْتِثاثُ أَوْحَى منه، يقال: جَثَثْتُهُ واجْتَثَثْتُه فانْجَثَّ.وفي المحكم: جَثَّهُ يَجُثُّه جَثًّا، واجْتَثَّه فانْجَثَّ واجْتَثَّ، وشَجَرَةٌ مُجْتَثَّةٌ: ليس لها أَصْلٌ [في الأَرض]. وفي التَّنْزِيل العَزِيز ـ في الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ ـ {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ} فُسِّرَتْ بالمُنْتَزَعَةِ المُقْتَلَعَةِ، قال الزَّجّاج: أَي اسْتُؤْصِلَتْ من فوقِ الأَرْضِ، ومعنَى اجْتُثَّ الشيءُ، في اللُّغَة: أُخِذَت جُثَّتُه بكَمَالها، وجَثَّهُ: قَلَعَهُ، واجْتَثَّه: اقْتَلَعَهُ.
وفي حديث أَبي هُرَيْرَة «قالَ رَجُلٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ما نُرَى هذِه الكَمْأَةَ إِلَّا الشَّجَرَةَ التي {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ}، فَقَالَ: بَلْ هِيَ من المَنِّ».
والجُثُّ بالضَّمّ: ما أَشْرَفَ من الأَرْضِ فصارَ له شَخْصٌ، وقيل هو ما ارْتَفَعَ من الأَرْضِ حتّى يكونَ كَأَكَمَةٍ صغيرَةٍ، قال:
وأَوْفَى على جُثٍّ ولِلّيْلِ طُرَّةٌ *** على الأُفْقِ لم يَهْتِكْ جَوَانِبَها الفَجْرُ
والجَثّ، مُقْتَضَى قاعدَتِه أَن يَكُون هو وما بعده بالضَّمّ، كما هو ظاهِرٌ، والذي يفهم من الصّحَاح، وغيره من الأُمَّهات أَنه بالفَتْح كما بَعدَه، فلْينظر: خَرِشاءُ العَسَلِ وهو ما كانَ عليها من فِرَاخِها أَو أَجْنِحَتِها، كذا في المحكم واللسان وغيرهما، والخِرْشاءُ بكسر الخاءِ المعجمة ومَدِّ الشّين، هكذا في نسختنا، وهو الصواب، وقَرَّر بعض المُحَشِّين في ضَبْطِه كلامًا لا مُعَوَّلَ عليه، وإِنكارُ شيخِنا هذه اللَّفْظَةَ وجَعلُها من الغَرَائِبِ الحُوشِيَّةِ غَريبٌ مع وجودها في اللسان والمُحْكَمِ وهو نَقَلَ عبارَةَ اللّسان بعَينها، وأَسقطَ هذه اللّفظَة منها، ثم نقل عن ابن الأَعْرَابِيّ: أَنّ الجَثَّ ما ماتَ من النَّحْل في العَسَلِ كمَيْتِ الجَرادِ، وقال: هو ظاهِر، ولو عَبَّرَ به المصنف ـ كما قال: مَيِّتُ الجَرَادِ ـ لكان أَخْضَرَ وأَظْهرَ، ولعَمري هذا منه عجيبٌ، فإِن المصنّف ذَكرَ ذلك بعَيْنِه، فإِنه قالَ والجَثُّ: مَيِّتُ الجَرَادِ، عن ابن الأَعْرَابيّ.
وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ أَيضًا: جَثَّ المُشْتَارُ، إِذا أَخَذَ العَسَلَ بِجَثِّه ومَحَارِينِه، وهو ما ماتَ من النَّحلِ في العَسَلِ، وقال ساعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ الهُذَلِيّ، يذكر المُشْتَارَ تَدَلّى بحِبَالِه للعَسَل:
فَمَا بَرِحَ الأَسْبَابُ حَتَّى وَضَعْنَه *** لدى الثَّوْلِ يَنْفِي جَثَّهَا ويَؤُومُها
يَصِفُ مُشْتَارَ عَسَلٍ رَبَطَه أَصحابُه بالأَسْبابِ، وهي الحِبَالُ، ودَلّوْه من أَعلَى الجَبَلِ إِلى مَوضعِ خَلايَا النَّحْلِ، وقوله: يَؤُومُها؛ أَي يُدَخِّنُ عَلَيْهَا بالأَيامِ، والأَيامُ: الدُّخانُ، والثَّوْلُ: جَمَاعَةُ النَّحْلِ.
والجُثُّ: غِلافُ الثَّمَرَةِ كالجُفّ، والثّاءُ بدلٌ عن الفاءِ، وهذا بالضَّمّ دون غيره.
وفي الصحاح: الجَثُّ الشَّمَعُ، أَو هو كُلُّ قَذًى خَالَطَ العَسَلَ من أَجْنِحَةِ النَّحْلِ وأَبْدانِها.
والمِجَثَّةُ والمِجْثَاثُ، بالكسر فيهما: ما جُثَّ به الجَثِيثُ، كذا في المحكم، وفي الصحاح: حَدِيدَةٌ يُقْلَع بها الفَسِيلُ.
وقال أَبو حَنِيفَةَ: الجَثيث: هو ما غُرِسَ من فِرَاخِ النَّخْلِ ولم يُغْرَس من النَّوَى.
وعن ابن سيده: الجَثِيثُ: ما يَسْقُطُ من العِنَبِ في أُصولِ الكَرْمِ.
وقال الأَصمعيّ: صِغَارُ النَّخْلِ أَوّل ما يُقْلَعُ منها شيءٌ من أُمِّهِ فهو الجَثِيثُ، والوَدِيُّ والهِرَاءُ والفَسِيلُ.
وعن أَبي عمرو: الجَثِيثَةُ: النَّخْلَةُ التي كانت نَوَاةً فحُفِرَ لها، وحُمِلَتْ بِجُرْثُومَتِهَا، وقد جُثَّتْ جَثًّا.
وعن أَبي الخَطّاب: الجَثِيثَةُ: ما تَسَاقَطَ من أُصُولِ النَّخْلِ.
وفي الصّحاح: والجَثِيثُ من النَّخْلِ: الفَسِيلُ، والجَثِيثَةُ: الفَسِيلَة، ولا تزال جَثِيثَةً حتى تُطْعِمَ، ثم هي نَخْلَةٌ.
وعن ابن سيده: الجَثِيثُ: أَوّلُ ما يُقْلَعُ من الفَسِيلِ من أُمِّهِ، واحدتُها جَثيثَةٌ، قال:
أَقْسَمْتُ لا يَذْهَبُ عَنِّي بَعْلُها *** أَو يَسْتَوِي جَثِيثُها وجَعْلُهَا
البَعْلُ من النَّخْل: ما اكْتَفَى بِمَاءِ السَّماءِ، والجَعْلُ: ما نَالَتْه اليَدُ من النَّخْلِ.
وجُثَّةُ الإِنْسانِ بالضّمّ: شَخْصُه مُتَّكِئًا أَو مُضْطَجِعًا، وقيل: لا يقال له جُثَّة إِلّا أَنْ يَكُونَ قاعِدًا أَو نَائِمًا، فأَمّا القائِمُ فلا يُقال جُثَّتُه، إِنما يقال قِمَّتُه.
وقيل: لا يُقَال: جُثّة، إِلا أَنْ يكونَ على سَرْجٍ أَو رَحْلٍ مُعْتَمًّا، حكاه ابن دُرَيْد عن أَبي الخطّابِ الأَخْفَشِ، قال: وهذا شيءٌ لم يُسْمَعْ من غيرِه.
وجمعها: جُثَثٌ وأَجْثَاثٌ، الأَخِيرة على طَرْحِ الزائِد، كأَنَّهُ جَمْعُ جُثٍّ، أَنشد ابن الأَعْرَابِيّ:
فأَصْبَحَتْ مُلْقِيَةَ الأَجْثاثِ
قال: وقد يَجُوز أَنْ يكونَ أَجْثَاثٌ جمعَ جُثَثٍ الذي هو جَمْعُ جُثَّة، فيكون على هذا جَمْعَ جَمْعٍ.
وفي حديث أَنس: «اللهُمَّ جافِ الأَرْضَ عن جُثَّته» أَي جَسَدِه.
والجِثُّ بالكَسْرِ: البَلَاءُ، نقله الصاغانيّ.
وعن الكسائيّ: جُئِثَ الرَّجُلُ جَأْثًا وجُثَّ جَثًّا، فهو مَجْئوث، ومَجْثُوثٌ، إِذا فَزِعَ وخَاف، وفي حديثِ بدْءِ الوَحْيِ: «فرَفَعْتُ رَأْسِي فإِذَا المَلَكُ الذي جاءَنِي بِحِرَاءَ، فجُثِثْتُ منه» أَي فَزِعْتُ منه وخِفْتُ، وقيل: معناه قُلِعْتُ من مَكانِي، من قوله تعالى {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} وقال الحَرْبِيُّ: أَراد جُئِثْتُ، فجعل مكانَ الهَمْزَةِ ثاءً، وقد تَقَدَّم.
وجَثَّ: ضَرَبَ بالعَصا.
وجَثَّت النَّحْلُ تَجُثُّ بالضمّ: رَفَعَتْ دَوِيَّها، أَو سَمِعْتَ لها دَوِيًّا وفي نسخة: «النَّخلُ: رَفَعَتْ وَدِيَّها» وهو خَطَأٌ.
وتَجَثْجَثَ الشَّعْرُ: كَثُرَ.
وتَجَثْجَثَ الطَّائِرُ: انْتَفَضَ ورَدَّ رَقَبَتَه إِلى جُؤْجُئهِ.
ومَرّ رجلٌ على أَعرابِيّ، فقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فقالَ الأَعْرابِيّ: الجَثْجَاثُ عليك. هو نَبَاتٌ سُهْلِيٌّ رَبِيعِيّ، إِذا أَحَسَّ بالصَّيْفِ وَلَّى وجَفَّ.
قال أَبو حنيفةَ: الجَثْجَاثُ من أَحرارِ الشَّجَرِ، وهو أَخضرُ يَنْبُتُ بالقَيْظِ، له زَهْرَةٌ صَفْرَاءُ، كأَنّها زَهرَةُ عَرْفَجَةٍ، طيِّبةُ الرّيح، تأْكله الإِبلُ إِذا لم تجدْ غيرَه: قال الشاعر:
فما رَوْضَةٌ بالحَزْنِ طَيِّبَةُ الثَّرَى *** يَمُجُّ النَّدَى جَثْجَاثُهَا وعَرَارُهَا
بأَطْيَبَ من فِيهَا إِذا جِئتُ طارِقًا *** وقد أُوْقِدَتْ بالمِجْمَرِ اللَّدْنِ نَارُهَا
واحِدَتُهُ جَثْجَاثَةٌ، قال أَبُو حَنِيفَة: أَخبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ من رَبِيعَةَ أَنّ الجَثْجَاثَةَ ضَخْمَة يَسْتَدْفِيءُ بها الإِنسانُ إِذا عَظُمَتْ، مَنَابِتُهَا القِيعَانُ، ولها زَهْرَةٌ صَفراءُ تأْكلُها الإِبلُ إِذا لم تَجدْ غَيْرَهَا.
وقال أَبو نَصر: الجَثْجَاثُ كالقَيْصُومِ، لطِيبِ رِيحِه، ومَنابِتُه في الرِّياضِ.
والجَثْجَاثُ من الشَّعَرِ: الكَثِيرُ، كالجُثَاجِثِ، بالضمّ.
وجَثْجَثَ البَرْقُ: سَلْسَلَ وأَوْمَضَ.
وبَحْرُ المُجْتَثِّ: رابع عَشر البُحُورِ الشِّعْرِيّة، كأَنّه اجْتُثَّ من الخَفيفِ؛ أَي قُطِع، وَزْنُه مُسْتَفْعِ لُنْ هكذا في النسخ، مَفْرُوق الوَتِد، على الصّواب، فاعِلَاتُنْ فاعِلَاتُنْ مَرّتَيْن.
قال أَبُو إِسحاق: سُمّي مُجْتَثًّا؛ لأَنّكّ اجْتَثَثْتَ أَصْلَ الجُزْءِ الثّالث وهو: مَفْ، فَوَقَعَ ابْتداءُ البَيْتِ من، عُولاتُ مُسْ. قال الصاغانيّ: وإِنما استُعْمِل مَجْزُوءًا، وبيته:
البَطْنُ مِنْهَا خَمِيصٌ *** والوَجْهُ مِثْلُ الهِلالِ
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
جَثْجَثَ البَعِيرُ: أَكَلَ الجَثْجَاثَ.
وبَعِيرٌ جُثَاجِثٌ؛ أَي ضَخْمٌ.
ونَبْتٌ جُثَاجثٌ؛ أَي مُلْتَفٌّ.
والجَثَّاثَة: ماءٌ لِغَنِيّ.
والجَثُّ: الدَّوِيُّ.
والجُثَّى بضمّ فتشديد: من جِبالِ أَجَإِ، مُشْرِفٌ على رَمْلِ طَيِّئ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
226-تاج العروس (عثلث)
[عثلث]: عِثْلِيثٌ، بالكسر، أَهمله الجماعة وقال الصّاغَانيّ: هو حِصْنٌ بسَواحِلِ بحرِ الشّام، من فُتوح السّلطان صلاحِ الدّين يُوسفَ بنِ أَيّوبَ، رحمه الله تعالى، ويُعْرَفُ بالحِصْنِ الأَحْمَرِ، وقد أَخبَرَنِي من رآه أَنَّ أَهْلَه لُصُوصٌ شياطِينُ، والمشهور فتح العَيْنِ.تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
227-تاج العروس (غيث)
[غيث]: الغَيْثُ: المَطَرُ وهو أَيضًا مصدرُ غَاثَ يَغِيثُ، كباعَ.أَو الَّذِي يَكُونُ عَرْضُه أَي مِسَاحَة عَرْضِه بَرِيدًا؛ أَي شَهْرًا.
وقيل: هو المَطَرُ الخَاصُّ بالخَيْرِ، الكَثِيرُ، النَّافِعُ؛ لأَنه يُغَاثُ به النّاسُ وهذا من شرحِ الشِّفاءِ.
ومن المجاز: الغَيْثُ: الّكَلَأُ يَنْبُتُ بماءِ السَّمَاءِ، قاله اللَّيْثُ، وكذا السّحابُ، وقيل: المَطَرُ، ثم سُمِّيَ ما يَنْبُتُ به غَيْثًا، أَنشد ثعلب:
وما زِلْتُ مثلَ الغَيْثِ يُرْكَبُ مَرَّةً *** فيُعْلَى ويُولَى مَرَّةً فيُثِيبُ
يقول: أَنا كشَجَرٍ يُؤْكَل، ثم يُصِيبُه الغَيْثُ فيَرْجِع؛ أَي يذهبُ مالي ثم يَعُود.
وغَاثَ اللهُ البِلاد يَغِيثُ غَيْثًا، إِذا أَنْزَل [بها الغَيْثَ] ومنهالحَدِيثُ «فادْعُ الله يَغِيثُنا» بفتح الياءِ.
وغَاثَ الغَيْثُ الأَرْضَ: أَصابَها، ويُقَال: غَاثَهُمُ اللهُ، وأَصابَهُم غَيْثٌ.
ومن المجاز: غَاثَ النَّوْرُ، بالفتح، يَغِيثُ؛ أَي أَضَاءَ.
وجمع الغَيْثِ أَغْيَاثٌ، وغُيُوثٌ، قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيّ:
لَهَا لَجَبٌ حَوْلَ الحِيَاضِ كأَنَّهُ *** تَجاوُبُ أَغْياثٍ لَهُنَّ هَزِيمُ
وغِيثَتِ الأَرْضُ كبيعت تُغاثُ بضم أَوّله، غَيْثًا، فهي مَغِيثَةٌ كان أَصلها مَغْيوثة، فأُعِلَّ إِعلالَ مَبِيعَة وجاءَ غيرَ معلولٍ على الأصل، قالوا: أَرضٌ مَغْيُوثَة؛ أَي أَصابَهَا الغَيْثُ، وغِيثَ القَوْمُ: أَصابَهُمُ الغَيْثُ.
قال الأَصمعيّ: أَخْبَرَنِي أَبو عَمرِو بنُ العلاءِ، قال: سَمِعْتُ ذَا الرُّمَّةِ يقول: قاتل الله أَمَةَ بنِي فلانٍ ما أَفصَحَها! قلت لها: كيف كان المَطَرُ عِنْدَكُم؟ فقالت: غِثْنا ما شِئْنا؛ أَي سُقِينا الغَيْثَ ما شِئْنا، والأَصل غُيِثْنَا كرُمِينا، فحُذِفت الياءُ، وكُسِرت الغين.
ومن المجاز: فَرَسٌ ذُو غَيِّثٍ، كصَيِّبٍ، إِذا كان يَزْدَادُ جَرْيًا بعدَ جَرْيٍ، وهُم كثيرًا ما يُشَبِّهُون الخَيْلَ بالسّابِحِ والبَحْرِ والسَّيْلِ والسَّحابِ ونحوِهَا في جَرَيانِه وإِسْرَاعِهِ.
وبِئرٌ ذاتُ غَيِّثٍ، أَيضًا أَي ذاتُ مَادَّةٍ، قال رؤبةُ:
أَنا ابنُ أَنْضَادٍ إِليها أَرْزِي *** نَغْرِفُ مِن ذِي غَيِّثٍ ونُؤْزِي
والغَيِّثُ: عَيْلَمُ الماءِ.
ومُغِيثَةُ بفتح المِيمِ وتُضَمُّ: رَكِيَّةٌ بالقادِسِيَّة مما يَلِيها، وهي عَذْبَةُ الماءِ، وهي إِحدى مناهِلِ الطَّرِيقِ.
ومُغِيثَهُ أَيضًا: قرية بِبَيْهَقَ، هنا ذكرها الصاغانيّ، وكان الأَوْلَى في تركيب غ وث.
قلت: وإِليها نُسِبَ أَبو المَكَارِم إِبراهِيمُ بنُ عَلِيِّ بن أَحْمَل المُغِيثِيّ، سَمِع زاهِرًا الشّحّاميّ. وأَخوه إِسماعِيلُ عن وَجِيهِ، بقي إِلى سنة 606.
ومَن ضَمَّه ذَكَرَهُ في غ وث قال الصاغانيّ: صَوَّبَ إِيرادَ مُغِيثَة ـ في اسمي الرَّكِيَّتَيْنِ ـ في هذا التَّرْكِيبِ قولُ بعضِهِم فيهما بفتح الميم، وإِلا فموضِعُ ذِكرِهما تركيب غ وث، انتهى.
ومُغِيثُ مَاوَانَ، بالضَّمِّ: رَكِيَّةٌ أُخرَى بين مَعْدِنِ النَّقْرَة والرَّبَذَةِ، وماؤُها مِلْحٌ، وأَنشد أَبو عمرٍو:
شَرِبْنَ مِنْ مَاوَانَ ماءً مُرَّا *** ومِن مُغِيثٍ مِثْلَه أَو شَرَّا
ومُغِيثٌ: زَوْجُ بَرِيرَةَ، صحابِيٌّ، رضي الله عنهما، وقيل: اسمه مِقْسَمٌ، كمِنْبَر، وقيل مُعَتِّبٌ، كمُحَدِّثٍ. له ذِكْرٌ في قِصَّةِ فِرَاقِهَا منه.
والتَّغَيُّثُ: السِّمَنُ، نقله الصاغَانِيّ.
وغَيْثُ بنُ مُرَيْطَةَ بنِ مَخْزُومٍ من بني عَبْسٍ بنِ بَغِيضِ بنِ رَيْثِ بنِ غَطَفَانَ: بَطْنٌ.
وغَيْثُ بنُ عامِرٍ من تَمِيمٍ، واسمه حَبِيبٌ، بَطْنٌ.
وَغَيِّثٌ، كَكَيِّسٍ، ابنُ عَمْروِ بنِ الغَوْثِ بنِ طَيِّئٍ، بَطْنٌ.
وفي حديثِ زَكَاةِ العَسَلِ: «إِنّما هو ذُبابُ غَيْثٍ» قال ابنُ الأَثِيرِ: يعني النَّحْلَ، وإِضافتُه إِلى الغَيْثِ لأَنه يَطْلُبُ النَّباتَ والأَزهارَ، وهما من تَوَابعِ الغَيْثِ.
وغَيْثٌ مُغِيثٌ: عامٌّ.
وغَيَّثَ الأَعْمَى: طلَبَ الشيْءَ، عن كُراع وهو بالعين أَيضًا، وهو الصّحيح.
قال ابنُ سِيدَه: وأُرَى العين المُهْمَلَةَ تَصْحِيفًا.
وأَبو الفرج غَيْثُ بنُ عليّ بنِ عبدِ السّلامِ بنِ محمدِ بن جَعْفَرٍ الأَرْمَنَازِيّ الكاتب خَطيب صُور، قدمَ دِمشقَ، ومات سنة 509.
والغَيْثِيُّون: جماعَةٌ باليَمَنِ يَنْتَسِبُونَ إِلى أَبي الغَيْثِ بن جَميلٍ، أَحدِ أَوليائها المَشْهُورِين، نفعنا الله بهم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
228-تاج العروس (كرث)
[كرث]: الكُرَّاثُ كَرُمّانِ، وكَتَّانٍ الأَخيرة عن كُراعٍ: بَقْلٌ معروفٌ خَبِيثُ الرّائِحَةِ كَرِيهُ العَرقِ، ويقال فيه أَيضًا: الكَرَاثُ، بالتَّخفِيف والفتح، قاله أَبو عليٍّ القالِي.وكَسَحابٍ: شجَرٌ كِبارٌ جَبَلِيّة، كذا عن أَبي حنيفةَ، وقد رَأَيْتُهَا بجِبالِ الطّائِفِ وقال أَبو حنيفةَ: أَخبرني أَعرابِيّ من أَزْدِ السَّرَاة قال: الكَرَاث شَجرةٌ جَبَليَّة لها وَرَقٌ دِقاقٌ طِوالٌ، وخِطْرَةٌ ناعِمَةٌ إِذا فُدِغَتْ هُرِيقَتْ لَبَنًا، والنّاس يَسْتَمُشُونَ بلَبَنِها، وقال أَبو ذَرَّةَ الهُذَلِي:
إِنّ حَبِيبَ بْنَ اليَمَانِ قد نَشِبْ *** في حَصِدٍ من الكَرَاثِ والكَنِبْ
قال السُّكَّريّ: الكَرَاثُ: نَباتٌ أَو شَجَرٌ.
وكَرَاثٌ: جَبَلٌ، وبه فُسِّر قولُ ساعدةَ بْنِ جُؤَيَّةَ:
وما ضَرَبٌ بيضاءُ يَسْقِيَ دَبُوبَها *** دُفَاقٌ فعَرْوَانُ الكَرَاثِ فَضِيمُها
وكَرَثَهُ الأَمرُ والغَمُّ يَكْرثُه بالكسر، وَيَكْرُثُه، بالضّمّ كَرْثًا: ساءَه واشْتَدَّ عليه وبلَغَ منه المَشَقَّةَ، كأَكْرَثَه.
قال الأَصْمَعِيّ: لا يقال: كَرَثَه، وإِنما يُقَال: أَكْرَثَه، على أَنّ رؤبةَ قد قاله:
وقَدْ تُجَلَّى الكُرَبُ الكوارِثُ
كذا في الصّحاح، وفي حَدِيث عليٍّ وغَمْرَةٍ كارِثةٍ» أَي شديدةٍ شاقَّةٍ، من كَرَثَة الغَمُّ؛ أَي بَلَغَ [منه] المَشَقّةَ.
وإِنّه لَكَرِيثُ الأَمْرِ، إِذا كَعَّ ونَكَصَ، وأَمرٌ كَرِيثٌ: كارِثٌ.
وكلُّ ما أَثْقَلَكَ فقد كَرَثَكَ.
وعن الّليث يقال: ما أَكْرَثَنِي هذا الأَمْرُ؛ أَي ما بَلَغَ مِنّي مشَقَّةً.
والفعل المُجاوِز: كَرَثْتُه وقد اكْتَرَثَ هو اكْتِراثًا، وهذا فعْلٌ لازِمٌ.
وقال الأَصْمَعيّ: يقال: كَرَثَنِي الأَمْرُ، وقَرَثَنِي إِذا غَمَّه وأَثقلَه.
وانْكَرَثَ الحَبْلُ: انْقَطَعَ.
واكْتَرَثَ له: حَزِنَ.
ويقال: ما أَكْتَرِثُ له؛ أَي ما أُبالِي بِه، هكذا في سائِرِ النّسخ ومثلُه في نسخةِ الصّحاح، وجعلَ على قوله «به» إِشارةً إِلى أَنه هكذا بخطّ المُصَنّف، ووجد في بعضِ نسخِ الصّحاح «له» بدل بهِ، وفي أُخرى «ما أُبالِيه»، وإِذا كانَ ذَلك فإِنّ قول شيخِنا في الصّحاح: ما أَكْتَرِثُ بِهِ، غيرُ مُتَّجِهٍ، اشتَبَه عليه الّلفْظُ باللّفْظِ.
وفي النّهاية: الأصلُ فيه أَلَّا يُسْتَعْمَلَ إِلّا في النّفْي، وشَذَّ استعمالُه في الإِثباتِ كما في بعضِ الأَحادِيثِ.
وقال بعضُ اللُّغَوِيِّين: اكْتَرَثَ، كالْتَفَتَ، وَزْنًا ومَعْنًى: وفي العِنَايَة: الاكْتِراثُ: الاعْتِناءُ.
والكَرِيثَاءُ، والكَرَاثَاءُ، والقَرِيثَاءُ، والقَرَاثَاءُ: بُسْرٌ طَيِّبٌ، وقد تقدَّمَ الخلافُ فيه.
ويقال: أَمْرٌ كَرِيثٌ؛ أَي كَارِثٌ شَدِيدٌ.
وفي الأَسَاس: كَرَثَه الأَمُرُ: حَرَّكَه، وأَرَاكَ لا تَكْتَرِثُ له: لا تَتَحَرّكُ له ولا تَعْبَأُ بِه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
229-تاج العروس (كوث)
[كوث]: الكَوْثُ: القَفْشُ ـ بالقَاف والفَاءِ والشّين المعجمة ـ الذي يُلْبَسُ في الرِّجْلِ.قال أَبو منصور: وكأَنَّ المقطوعَ الذي يُلْبَسُ الرِّجْلَ يُسَمَّي كَوْثًا تشبيهًا بكَوْثِ الزَّرْعِ، ويقال له القَفْشُ، وكأَنَّه مُعَرّب، كذا في اللّسان، وهو نوعٌ من الخِفَافِ الصِّغارِ.
وكَوَّثَ الزَّرْعُ تَكْويثًا، قال النَّضْرُ: تَكْوِيثُ الزَّرْعِ: أَنْ يَصِيرَ أَرْبَعَ وَرَقَاتٍ وخَمْسًا، وهو الكَوْثُ.
وكُوثَى، بالضَّمّ، ثلاث مَواضِعَ: قرية، وقيل: بلدة بالعراقِ ببابِلَ، وتُسَمَّى كُوثَى الطَّرِيقِ.
وكُوثَى رَبًّا: من ناحية بابِلَ، بأَرْضِ العِرَاقِ أَيضًا، وبها وُلِدَ سيِّدُنا الخَلِيلُ عليهالسلام وطُرِحَ في النّار.
ومَحَلَّةٌ بمَكَّةَ لبَنِي عبدِ الدّارِ بن قُصَيّ، كذا في المُشْتَرَك لياقوت.
وفي الرَّوض: الأُنُف: أَن كُوثَى من أَسماءِ مَكّةَ. قلت: ونسبه ابنُ منظورٍ لكُرَاع.
قال السُّهَيْليّ: وأَمّا التي يَخْرُجُ منها الدَّجَّال فهي كُوثَى رَبًّا، ومنها كانت أُمّ إِبراهيمَ عليهالسلام، وأَبوها هو الذي احْتَفَرَ نَهرَ كُوثَى، قاله الطَّبريّ.
وفي اللسان: قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: سمعتُ عُبَيْدَةَ قالَ: سَمعْتُ عليًّا رضي الله عنه يقُول: «مَن كانَ سائِلًا عن نِسْبَتِنا فإِنَّا نَبَطٌ من كُوثَى».
ورَوى ابنُ الأَعرابيّ: أَنه سأَلَ رجلٌ عليًّا: أَخْبِرْنِي يا أَميرَ المُؤْمِنِينَ عن أَصْلِكُمْ معاشِرَ قُريشٍ، فقال: نَحْنُ قَومٌ من كُوثَى. واختلفَ النّاسُ في قوله: نحْن قَومٌ من كُوثَى، فقال طائِفَةٌ: أَرادَ كُوثَى العِرَاقِ، وهي سُرَّةُ السَّوادِ التي وُلِدَ إِبراهِيمُ عليهالسلام، وقال آخرُون: أَراد بقوله كُوثَى: مَكَّةَ، وذلك لأَنَّ مَحَلَّةَ [بني] عبدِ الدّارِ يقالُ لها: كُوثَى، فأَرادَ عَلِيٌّ: أَنّا مَكِّيُّونَ أُمِّيُونَ من أُمِّ القُرَى وأَنشَدَ لِحَسَّان:
لَعَنَ الله مَنْزِلًا بَطْنَ كُوثَى *** وَرَمَاهُ بالفَقْرِ والإِمْعَارِ
لَيْسَ كُوثَى العِراقِ أَعْنِي ولكِنْ *** شَرَّةَ الدّارِ دَار عَبْدِ الدَّارِ
قال أَبو منصور: والقَوْل هو الأَوّل، لقوله صلى الله عليه وسلم «فإِنّا نَبَطٌ من كُوثَى» ولو أَراد كُوثَى مَكَّةَ، لما قال نَبَطٌ، وكُوثَى العِرَاقِ هِي سُرَّةُ السَّوادِ من مَحَالِّ النَّبَطِ، وإِنما أَراد عليٌّ أَنّ أَبانا إِبراهيمَ كان من نَبَطِ كُوثَى [وأَن نَسَبنا انْتَهى إِليهِ] ونحو ذلك، قال ابنُ عبّاس: «نَحْنُ مَعَاشِرَ قُرَيْش حَيٌّ من النَّبَطِ من أَهْلِ كُوثَى» والنَّبَطُ من أَهلِ العِراق، وهذا من عَلِيٍّ وابنِ عَبّاس رضي الله عنهم تَبَرُّؤٌ من الفَخْر بالأَنسابِ، ورَدْعٌ عن الطَّعْنِ في الأَنسابِ، وتَحقيقٌ لقوله عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ} كذا في اللّسانِ.
والكَوْثَةُ بالفتح، وفي أُخرى: والكويثة: الخِصْبُ عن أَبي عَمرٍو.
وكَوَّثَ الرجلُ بغائِطِه تَكْوِيثًا: أَخْرَجَهُ كَرُءُوسِ الأَرانِبِ، على التَّشْبِيه.
والكَاثُ، مُخَفَّفَةً: بمعنى الكَاثِّ المُشَدَّدَة، وقد سبقَ معناه.
والكُوثِيُّ: القَصِيرُ، كالكُوتِيّ، من التهذيب.
وكُوثِيُّ بنُ الرَّعْلاءِ: شاعرٌ، وقد ذكر في ك وت.
وكَاثُ: قَلْعَةٌ بخُوَارَزْمَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
230-تاج العروس (هلبث)
[هلبث]: * وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ أَيضًا: الهِلْبَوْثُ، كبِرْذَوْنٍ، وهو الأَحْمَق، ويقال: الفَدْمُ.والْهِلْبَاثُ بالكَسْر: ضَرْبٌ من التَّمْرِ، عن أَبي حنيفَةَ، قالَ: أَخْبَرَنِي شيخٌ من أَهل البصرة فقال: لا يُحْمَل شيءٌ من تَمْرِ البَصْرَة إِلى السّلطان إِلّا الهِلْبَاثُ، كذا في اللسان.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
231-تاج العروس (سحج)
[سحج]: سَحَجَه الحائطُ كمنَعَهُ يَسْحَجُه سَحْجًا: خَدَشَه. وسَحَجَ جِلْدَه: إِذا قَشَرَه فانْسَحَجَ: انْقَشَر.والسَّحْجُ: أَن يُصِيبَ الشيءُ الشيءَ فيَسْحَجَه؛ أَي يَقْشِرَ منه شيئًا قليلًا، كما يُصيبُ الحافِرَ قَبْلَ الوَجَى سَحْجٌ. وانْسَحَجَ جِلْدُه من شيْءٍ مَرَّ به: إِذا تَقَشَّرَ الجِلدُ الأَعلَى. ويقال: أَصابه شيْءٌ فسَحَجَ وَجْهَه، وبه سَحْجٌ.
وسَحَجَ الشيءَ بالشيْءِ سَحْجًا، فهو مَسْحُوجٌ وسَحِيجُ: حَاكَّه فقَشَره. قال أَبو ذُؤَيب:
فَجَاءَ بِهَا بَعْدَ الكَلَالِ كَأَنَّه *** مِنَ الأَيْنِ مِخْرَاشٌ أَقَذُّ سَحِيجُ
وسَحَّجَه تَسحيجًا فَتَسَحَّجَ، شُدِّد للكَثرة.
وحِمَارٌ مُسَحَّج كمُعَظَّم، هكذا في سائر الأُمهات اللغوية، وفي نسختنا: مُسْتَحَجٌ، على مُفْتَعَل، والأَوّل هو الصوابُ: مُعَضَّض مُكَدَّح، هو من سَحْجِ الجِلْدِ، قال أَبو حاتم: قرأْتُ على الأَصْمَعيّ في جِيميّة العَجّاج:
جَأْبًا تَرَى بِلِيتِه مُسَحَّجا
فقال: «تَلِيلَه». فقلْت: بلِيتِه. فقال: هذَا لا يكون.
قلت: أَخبرني به مَن سَمِعه من فَلْقِ فِي رُؤْبَةَ، أَعنى أَبا زَيد الأَنصاريّ. قال: هذا لا يكون، فقلت: جعله مصدرًا، أَراد تَسحيجًا، فقال: هذا لا يكون. قلت: فقد قال جَريرٌ:
أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي *** فَلَا عِيًّا بِهِنَّ ولا اجْتِلابَا
أَي تَسْرِيحِي، فكأَنَّه أَراد أَن يَدفعه فقلت له: فقد قال الله تعالى: {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فأَمْسَك.
قال الأَزهريّ: كأَنه أَراد: تَرَى بِلِيتِه تَسْحيجًا، فجعلَ مُسَحَّجًا مَصدرًا.
وبَعِيرٌ سَحّاجٌ: يَسْحَج الأَرضَ بخُفِّه؛ أَي يَقْشِرُهَا فلا يَلْبَثُ أَن يَحْفَى. وناقةٌ مِسْحاجٌ، كذلك.
والسَّحْج ـ كالمَنْع ـ تَسْريحٌ لَيِّنٌ على فَرْوَةِ الرَّأْسِ.
يقال: سَحَجَ شَعرَه بالمُشْطِ سَحْجًا: إِذا سَرَّحه تسريحًا لَيِّنًا.
والسَّحْجُ: الإِسْرَاعُ. يقال: مَرَّ يَسْحَجُ: أَي يُسرِعُ. قال مُزَاحمٌ:
على أَثَرِ الجُعْفيّ دَهْرٌ وقد أَتى *** له منْذ وَلَّى يَسْحَجُ السَّيْرَ أَرْبَعُ
وهو أَيضًا جَرْيٌ دُونَ الشَّديدِ للدَّوابّ. ومنه يقال: حِمارٌ مِسْحَجٌ مِسْحَاجٌ ـ بكسرهما ـ: عَضّاضٌ، من سَحَجَه، وسحَّجَه: إِذا عَضَّه فَأَثَّر فيه، وقد غَلبَ على حُمُرِ الوَحْشِ.
وعليه المَسَاحِجُ: وهي آثارُ تَكادُمِ الحُمُرِ عليها.
والتَّسْحيج: الكَدْمُ. قال النّابغة:
رَبَاعِيَةٌ أَضَرَّ بها رَبَاعٍ *** بذَاتِ الجِزْعِ مِسْحَاجٌ شَنُونُ
وَسَيْحُوجٌ على فَيْعُول: موضع، واسمُ رجلٍ.
ومِسْحجٌ كمِنْبَر: المِبْراةُ يُبْرَى بها الخَشَبْ. يقال: سَحَجَ العُودَ بالمِبْرَد يَسْحَجُه سَحجًا: قَشَرَه. وسَحَجَت الرِّيحُ، كذلك، ورِياحٌ سَواحجُ.
والسَّحَجُ: داءٌ في البَطْن قاشرٌ، منه.
وسَحَجَ الأَيْمَانَ يَسْحَجُها: تابَعَ بَيْنَها.
والمِسْحَاجُ والسَّحُوج: المرأَةُ الحَلُوفُ التي تَسْحَج الأَيْمانَ؛ أَي تُتابِعُها. ورجل سَحّاجٌ. وكذلك الحَلِف: أَنشد ابن الأَعرابيّ:
لا تَنْكِحِنَّ نَحِضًا بَجْبَاجَا *** فَدْمًا إِذا صِيحَ به أَفَاجَا
وإِنْ رَأَيْتِ قُمُصًا وسَاجَا *** ولِمَّة وحَلِفًا سَحّاجَا
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
232-تاج العروس (طنج)
[طنج]: الطُّنُوجُ: الصُّنوفُ والفُنونُ ـ.وحكَى ابن جِنِّي قال: أَخبرَنا أَبو صالحٍ السَّلِيلُ بن أَحمدَ بنِ عيسى بن الشيخ قال: حدّثنا أَبو عبد الله محمد بن العباس اليَزيديّ قال: حدّثنا أَبو عبد الله محمد بن العباس اليَزيديّ قال: حدّثنا الخليل بن أَسدٍ النُّوشَجَانيّ قال: حدّثنا محمد بن يزيد بن ربّان قال: أَخبرني رجلٌ عن حَمّادٍ الرَّاوِيَةِ قال: أَمرَ النُّعْمَانُ فنُسِخت له أَشعارُ العَربِ في الطُّنُوجِ، يعني الكَرارِيس فكُتِبتْ له، ثم دَفَنَهَا في قَصْره الأَبيضِ، فلمّا كان المُختارُ بن [أَبي] عُبَيْد قيلَ له: إِن تَحتَ القَصْرِ كَنْزًا. فاحْتَفَرَه فأَخْرَجَ تلك الأَشعارَ. فمِن ثَمَّ أَهلُ الكوفةِ أَعلَمُ بالأَشعار من أَهلِ البَصرَةِـ لا واحدَ لهَا.وفي التهذيب نقلًا عنِ النوادر: تَنَوَّعَ في الكلام وتَطنَّجَ وتَفَنَّنَ، إِذا أَخَذَ في فُنونٍ شَتَّى. قلت: هذا هو الصّوَاب وأَما ذكْرُ المصنّف إِيّاهَا في «طبج» فوَهَمٌ، وقد أَشرنا له آنفًا.
وطَنْجَةُ: د، بشاطِئِ بَحْرِ المَغْرِب قريبةٌ من تطاون، وهي قاعِدَةٌ كبيرةٌ جامعةٌ، بين الأَمصارِ المُعْتَبَرَة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
233-تاج العروس (أزد)
[أزد]: أَزْدُ بنُ الغَوْثِ بن نَبْت بن مالِكِ بن كَهْلَانَ بنِ سَبَإِ وهو أَسْد. بالسِّين أَفصحُ، وبالزّاي أَكثُر. قال الوَزير في كتاب الإِلحاق بالاشتقاق إِنّه اشتقاقٌ بعيدٌ لا يَصِحُّ عند أَهْل النظَرِ قال: والصّحيح ما أَخبرَني به أَبو أُسامةَ عن رِجاله قال: عَسْد والأَسد والأَزد، هذه الثّلاثُ الكلماتُ معنَاهَا كلِّهَا القُبُل. قال: والأَزْد أَيضًا يكون بمعنَى العَزْد، وهو النِّكاح، نقله شيخنا، أَبو حَيٍّ باليَمَن، ومن أَولادِه الأَنصارُ كلُّهم. قال الشيخ عبد القادر بن عمر البغداديّ الحنفيّ: اسمه دِرْءٌ، بكسر فسكون وآخره همزة، والأَزْد لَقبُه. وصرّحَ أَبو القاسم الوزير أَنّه دِرَاءٌ ككِتَاب، وصحَّحَه الأَمير وغيرُه. وفي الاستيعاب: الأَزْدُ جُرثومةٌ من جراثيمِ قَحْطَانَ، وافتَرَقَتْ فيما ذكَرَ أَبو عُبيدةَ وغيرُه من علماءِ النَّسب على نَحْوِ سبْعٍ وعشرين قَبيلةً. ويقال أَزْدُ شَنُوءَة وأَزْدُ عُمَان وأَزْدُ السَّرَاةِ. وفي مُختَصَر الجمْهرة: أَنّ شَنوءَة اسمُه الحارث، وقيل عبد الله. وعُمَان كغُرَاب: بَلدٌ على شاطئ البَحْرِ بينَ البَصرةِ وعَدَن. والسَّرَاة: أَعظمُ جِبالِ العرب. ويقال لبعضٍ آخرَ: أَزْدُ غَسّانَ، وهو اسمُ [ماءٍ] فمن شَرِبَ منه منهم سُمِّيَ أَزْدَغَسَّانَ، وهم أَربَعُ قبائلَ، ومن لم يَشرب منه لم يُقَلْ له ذلك. وإِليه يُشير قولُ حسّان بن ثابت:إِمّا سأَلْتِ فإِنّا مَعشَرٌ نُجُبٌ *** الأَزْدُ نِسْبتُنا والماءُ غَسَّانُ
وقال النّجَاشيّ، واسمه قيسُ بن عَمْرِو، وكان عاهدَ أَزْدَ شَنَوءَةَ وأَزْدَ عُمَانَ أَن لا يَحُولا عليه فثَبتَتْ أَزدُشَنُوءَةَ على عَهْدِه دونَ أَزدِ عُمَانَ، فقال:
وكنْتُ كذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحيحةٍ *** ورِجْلٍ بها رَيْبٌ من الحَدَثان
فأَمَّا الّتي صَحَّتْ فأَزدُ شَنُوءةٍ *** وأَمَا الَتي شَلَّتْ فأَزْدُ عُمَانِ
وأَزْدُ بن الفَتْح الكَشِّيُّ، محدِّث، روَى عنه محمَّد بن صالح النّسَفِيّ.
* ومما بقي عليه:
أَزْدُ بنُ عِمْرانَ بن عَمْرِو بن عامرٍ، ذكرَه أَهلُ الأَنساب.
وأَزِدٌ، ككَتِف، مجرّدًا عن الأَلف واللام في لغة الأَكثر، ابنُ عبد الله بن قادِم بن زَيد بن عَرِيب بنُ جُشَم بنِ حاشِد بن خَيْرانَ بن نَوْف بن هَمْدَانَ، كذا جَزمَ به ابن المرهبيّ في كتابه في أَخبار هَمْدَان وأَشعَارها، وذكَره ابن الكلبيّ وضَبَطَه محرّكة، ومنهم من أَلحقَه الأَلفَ والّلامَ.
وآزاد، بمعنى التّمر الجَيِّد فارسيٌّ معرَّب، قال أَبو عليّ الفارسيّ: إِن شِئْتَ جعلْته كخاتَام، أَو على أَفعَال، بصيغةِ الجمْع، كما في المصباح.
والأَزْد: النِّكاحُ، كالعَزْدِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
234-تاج العروس (هرد)
[هرد]: هَرَدَه؛ أَي الثوبَ يَهْرِدُه، من حدّ ضَرَب، هَرْدًا: مَزَّقَه، كهَرَتَه. وهَرَدَ القَصَّارُ الثَّوْبَ وهَرَتَه: خَرَّقَه وضَرَبَه، فهو هَرِيدٌ وهَرِيتٌ، قاله أَبو زيد. وهَرَدَ اللَّحْمَ يَهْرِدُه هَرْدًا: أَنْضَجه إِنضاجًا شديدًا، قاله الأَصمعيُّ. وقال ابنُ سيده: أَنْعَمَ إِنضاجَه، أَو هَرَدَه: طَبَخَه حتى تَهَرَّأَ وتَهَرَّدَ، كهَرَّدَه تَهْرِيدًا فهو مُهَرَّد، شُدِّد للمبالغة، وقال أَبو زيد: فإِن أَدخلْت اللَّحْمَ النَّارَ وأَنْضَجْتَه فهو مُهَرَّدٌ، وقد هَرَّدْته فهَرِدَ هو كَعلِمَ، قال: والمُهَرَّأُ مثْلُه.وهَرَدَ الشَّيْءَ: قَدَرَ عليه قال ابنُ مَيَّادَة:
وَبَرَزَ السَّيِّدُ والمَسُودُ *** واخْتَلَط الهارِدُ والمَهْرُودُ
والهَرْدُ: الاختلاطُ، ك الهَرْج، وتَركْتُهم يَهْرِدُون؛ أَي يَمُوجُون كيَهْرِجُون.
والهَرْد: الطَّعْنُ في العِرْضِ، هَرَدَ عِرْضَه وهَرَتَه يَهْرِدُه هَرْدًا.
والهَرْدُ: الشَّقُّ للإِفْسَادِ والإِخراقِ لا للإِصلاح، كما سيأْتي.
والهِرْد، بِالكَسْرِ: النَّعَامة الأُنثَى.
والهِرْدُ: الرَّجُلُ الساقِطُ الضعيف.
والهُرْد بالضَّمِّ: الكُرْكُم الأَصفرُ.
والهُرْدُ أَيضًا: طِينٌ أَحمرُ يُصْبَغ به.
والهُرْدُ أَيضًا: عُروقٌ صُفْرٌ يُصبَغُ بها، كذا في النُّسخ، على أَن الضمير راجعٌ إِلى العروق، والصحيح أَن العروق اسمٌ لِصِبْعٍ أَصفر، كما هو في نَصّ الصاغاني، فحينئذ الصوابُ في العِبَارَةِ «يُصْبَغُ به» كما هو نصُّ التكملة، قال الهُرْدُ: بالضمّ العُرُوق، والعُرُوق: صِبْغٌ أَصفَرُ يُصْبَغ به، فتأَمل.
والهُرْدِيُّ: الثوب المَصْبوغُ به أَي بالهُرْدِ.
والهُرْدِيَّةُ: الحُرْدِيَّةُ وهي قَصبَاتٌ تُضَمُّ مَلْوِيَّة بِطَاقاتِ الكَرْم تُحْمَل عليها قُضْبَانُه. قال الأَزهريُّ: والذي حفظناه عن أَئمّتنا الحِرْدَي بالحاءِ، ولم يَقُلْه بالهاءِ غيرُ الليثِ.
والهَرْدَ والهَرْدَةُ، بالفتح: موضع ببلادَ أَبي بَكْرِ بن كِلابٍ، نَقله ياقوت عن أَبي زِياد، وفي التكملة: هَرْدٌ: موضع ببلاد أَبي بكْر.
والهِرْدَى، بالكسر، ويُمَدُّ: نَبْتٌ وقال أَبو حنيفة: الهِرْدَى، مَقصورٌ: عُشْبَة لم يَبْلُغني لها صِفَة، قال: ولا أَدري أَمُذَكَّرةٌ أَم مُؤَنَّثَة، واقتصر الأَصمعِيُّ أَيضًا على القَصْرِ، وقال: نَبْتٌ، ولا أَدري أَيُذَكَّر أَم يُؤَنَّث، كذا في كتاب المقصور لأَبي عَلِيٍّ القالي وكذلك قاله ابنُ الأَنباريّ، وجعلها مُؤَنَّثَة.
والهَيْرُدَانُ، بفتح فسكون فضمّ، اللِّصُّ، قال الأَزهريُّ: وليس بثبت.
والهَيْرُدَانُ أَيضًا: نَبْتٌ، كالهِرْدَى، وقيل هو الهِرْدَانُ بالكسر. وهَيْرُدَانٌ اسم رَجُل.
وهُرْدَانُ، بالضمّ: موضع، وهُرْدَانُ اسم رَجُل.
وهَرَدْت الشيْءَ أُهَرِيدُه: أَرَدْتُه أُرِيده، كَهَرَاقَه يُهَرِيقُه.
والتَّهْرِيد: لُبْسُ المَهرُودِ، ولم يذْكر معنَى المَهرود، وهو الثَّوْبُ الأَصْفَرُ المَصْبُوغ بالهُرْدِ، كالمُهَرَّد، وفي الحديث «يَنْزِل عِيسى ابنُ مَريمَ عليهالسلام في ثَوْبَيْنِ مَهْرُودَيْنِ» وفي التهذيب: «يَنزِل عيسى [إِلى الأرض] وعليه ثَوْبانِ مَهْرُودَانِ». قال الفَرَّاءُ: الهَرْدُ: الشَّقُّ. وفي رواية أُخرى «في مَهْرُودَتَيْنِ» أَي في شُقَّتَيْنِ أَو حُلَّتَيْنِ، قال الأَزهريّ: قرأْتُ بخطِّ شَمِرٍ لأَبي عَدنانَ: أَخْبَرني العالِم من أَعرابِ باهِلَةَ أَن الثَّوبَ المَهْرُودَ: الذي يُصْبَغُ بالوَرْسِ، ثم بالزَّعْفَرَانِ. فيجئُ لَوْنُه مثلَ لوْنِ زَهْرَةِ الحَوْذَانَةِ، فذلك الثوبُ المَهْرُودُ. ويُروَى «في مُمَصَّرَتَيْنِ» وهي المَصْبُوغَة بالصُّفْرَةِ مِن زَعْفَرَانٍ أَو غيرِه، وقال القُتَيْبِيّ: هو عندي خَطَاٌ من النَّقَلَةِ، وأُرَاه مَهْوُوَّتَيْن؛ أَي صَفراوَين، يقال: هَرَّيْتُ العِمَامَةَ، إِذَا لَبِسْتَهَا صَفْرَاءَ، وفَعَلْتُ منه: هَرَوْتُ، قال: فإِن كان محفوظًا بالدال فهو من الهَرْدِ: الشَّقِّ، وخُطِّئَ ابنُ قُتَيْبَة في استدراكِه واشتِقاقه، قال ابنُ الأَنباريّ: القَول عندنا في الحَدِيث: «بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ» يُرْوَى بالدَّال وبالذّال؛ أَي بين مُمَصَّرَتَيْنِ، على ما جاءَ في الحديث، قال: ولمْ نَسمعه إِلّا فيه، والمُمَصَّرَةُ من الثِّياب: التي فيها صُفْرَةٌ خَفِيفة، قال أَبو بكر: لا تقول العَرَبُ هَرَوْتُ الثوبَ، ولكنهم يَقولون هَرَّبْتُ، فلو بُنِيَ على هذِا لقِيل مُهَرَّاةٌ. وبعدُ فإِن العَرَب لا تقول هَرَّيْتُ إِلا في العِمَامة خاصَّةً، فليس له أَن يَقِيس الشُّقَّة على العِمَامَة، لأَن اللُّغَة، رِوَايَةٌ، وقولُه: بين مَهْرُودَتَيْن أَي بَيْنَ شُقَّتَيْنِ، أُخِذَتَا من الهَرْدِ، وهو الشَّقُّ خَطَأً، لأَن العرب لا تُسَمِّي الشَّقَّ للإِصلاح هَرْدًا، بل يُسَمُّونَ الإِخراقَ والإِفسادَ هَرْدًا، فالصواب ما قدّمناه.
وهو أَهْرَدُ الشِّدْقِ، لُغَةٌ في أَهْرَته، وقد تقدَّم في مَحلَّه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
235-تاج العروس (بقر)
[بقر]: البَقَرَةُ مِن الأَهْلِيِّ والوَحْشِيِّ يكونُ للمذكَّر والمؤنَّث، وَيَقَعُ على الذَّكَر والأُنثى، كذا في المُحكَم، وإِنّما دَخَلَتْه الهاءُ على أَنه واحِدٌ من جنْسٍ، معروف أَي معروفٌ.الجمع: بَقَرٌ بحذف الهاءِ وَبَقَراتٌ، وبُقُرٌ، بضمَّتَين، وبُقّارٌ، كرُمّان، وأُبْقُورٌ وِزان أُفْعُول، وبَواقِرُ، وهذا الأَخيرُ نقلَه الأَزهريُّ عن الأَصمعيّ، قال: وأَنشدَنِي ابنُ أَبي طَرفةَ:
وَسَكَّتُّهُمْ بالقَوْلِ حتَّى كأَنَّهُمْ *** بَوَاقِرُ جُلْحٌ أَسْكَنَتْهَا المَرَاتِعُ
وأَمّا باقِرٌ وَبَقِيرٌ وبِيقُورٌ وباقُورٌ وباقُورَةٌ فأَسمَاءٌ للجَمْع، وهذا نصُّ عبارَةِ المُحْكَم، وقال: وجمعُ البَقَرِ أَبْقُرٌ، كزَمَنٍ وأَزْمُنٍ، وأَنْشَدَ لمَعْقِلِ بن خُوَيْلِدٍ الهُذَلِيِّ:
كأَنَّ عَرُوضَيْه مَحَجَّةُ أَبْقُرٍ *** لَهُنَّ إِذا ما رُحْنَ فيها مَذَاعِقُ
وأَنشدَ في بَيْقُورٍ:
سَلَعٌ مَّا ومثلُه عُشَرٌ مَّا *** عائِلٌ مَّا وعالَتِ البَيْقُورَا
وأَنشدَ الجوهريُّ للوَرلِ الطائيِّ:
لا دَرَّ دَرُّ رِجَالٍ خابَ سَعْيُهُمُ *** يَسْتَمْطِرُونَ لَدَي الأَزْمَاتِ بالعُشَرِ
أَجاعِلٌ أَنتَ بَيْقُورًا مُسَلَّعَةً *** ذَرِيعَةً لك بَيْنَ الله والمَطَرِ
وإِنَّمَا قال ذلك؛ لأَن العربَ كانت في الجاهليَّةِ إِذا اسْتَسْقَوا جَعَلُوا السَّلَعَةَ والعُشَرَ في أَذْنابِ البَقَرِ، وأَشْعَلُوا فيه، فتَضِجُّ البَقَرُ مِن ذلك، ويُمْطَرُون، وأَهلُ اليمنِ يُسَمُّون البَقَرَةَ باقُورَةً. وكَتَبَ النبيُّ صَلى الله عليه وسلّم في كتاب الصَّدَقةِ لِأَهْلِ اليمنِ: «في ثلاثينَ باقُورَةً بَقَرَةٌ».
وقال اللَّيث: الباقِرُ: جماعةُ البَقَرِ مع رُعَاتِهَا، والجامِلُ: جماعةُ الجِمَال مع راعِيها، وفي جَمْهَرة ابنِ دُرَيد: وباقِرٌ وبَقِيرٌ جمعُ البَقَرِ.
والبَقّارُ كشَدّادٍ: صاحِبُه؛ أَي البَقَرِ.
والبَقّارُ: وادٍ قال لَبِيد:
فباتَ السَّيْلُ يَرْكَبُ جانِبَيْه *** مِن البَقّارِ كالعَمِدِ الثَّقَالِ
و: موضع، بَرْملِ عالِجٍ، كثيرُ الجِنِّ قيل: هو بنَجْدٍ، وقيل: بناحية اليَمامةِ.
والبَقّارُ: لُعْبَة لهم، وهو تُرَابٌ يُجمَعُ في الأَيدِي، فيُجْعَلُ قُمَزًا قُمَزًا، كأَنَّهَا صَوامِعُ، يُلْعَبُ به، جَعَلُوه اسْمًا كالقِذَافِ، وهو البُقَّيْرَي، وأَنشدَ:
نِيطَ بِحَقْوَيْهَا خَمِيسٌ أَقْمَرُ *** جَهْمٌ كبَقّارِ الوَلِيدِ أَشْعَرُ
والبَقّارُ: الحَدّادُ، والحَفّارُ.
وقُنّةُ البَقّارِ: وادٍ آخَرُ لبَنِي أَسَدٍ.
وعَصًا بَقّارِيّة: شَدِيدة، وفي التَّكْملة: لِبَعْضِ العِصِيِّ.
وَبقِرَ الكَلْبُ، كفَرِحَ: رأَى البَقَرَ؛ أَي بَقَرَ الوَحْشِ، فَتَحَيَّرَ وذَهَبَ عَقلُه فَرَحًا بهنّ.
وبَقِرَ الرَّجلُ بَقْرًا، بفتحٍ فسكونٍ، وبَقَرًا، محرَّكَةً: حَسَرَ فلا يَكَادُ يُبْصِرُ، وأَعْيَا، قال الأَزهريُّ: وقد أَنْكَرَ أَبو الهَيْثَمِ فيما أَخبَرَنِي عنه المُنْذِرِيُّ «بَقْرًا»، بسكونِ القافِ، وقال: القياس «بَقَرًا»، على «فَعَلًا»؛ لأَنه لازمٌ عَيْرُ واقِعٍ.
وبَقَرَه، كمَنَعَه، يَبْقُره: شَقَّه، وفَتَحَه، ووَسَّعَه، وفي حديث حُذَيْفَةَ: «فما بالُ هؤلاءِ الذين يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا»؛ أَي يَفْتَحُونَها ويُوَسِّعُونها، ومنهحديثُ الإِفك: «فبَقَرْتُ لها الحَدِيثَ»؛ أَي فَتَحْتُه وكَشَفْتُه.
وبَقَرَ الهُدْهُدُ الأَرضَ: نَظَرَ مَوْضِعَ الماءِ فرَآه.
في التَّهْذِيب: رَوَى الأَعْمَشُ عن المِنْهَالِ بن عَمرو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ في حديث هُدْهُدِ سليمانَ، قال: «بَيْنَا سُلَيْمَانُ في فَلاةٍ احتاجَ إِلى الماءِ، فدَعَا الهُدْهُدَ، فبَقَرَ الْأَرْضَ، فأَصاب الماءَ، فدَعَا الشَّيَاطِينَ فسَلَخُوا مواضِعَ الماءِ، فرأَى الماءَ تحت الأَرضِ، فأَعْلَمَ سليمانَ حتى أَمَرَ بحَفْرِه».
وبَقَرَ في بَنِي فُلانٍ، إِذا عَرَفَ أَمْرَهم، وفي التَّكْمِلَة: إِذا عَلِمَ أَمْرَهُم وفَتَّشَهُمْ. والبَقِيرُ: المَشْقُوقُ، كالمَقْبُورِ. وناقة بَقِيرٌ: شُقَّ بَطنُها عن وَلَدِهَا.
وقال ابن الأَعرابيِّ في حديث له: فجاءَت المرأَةُ فإِذا البيتُ مَبْقُورٌ؛ أَي مُنتَثِرٌ عَيْبَتُه وعِكْمُه الذي فيه طَعامُه، وكلُّ ما فيه.
والبَقِيرُ: بُرْدٌ يُشَقُّ فيُلْبَسُ بلا كُمَّيْنِ ولا جَيْبٍ، كالبَقِيرَة، وقِيل: هو الإِتْبُ، وقال الأَصمعيُّ: البَقِيرَةُ أَن يُؤْخَذَ بُرْدٌ فيُشَقَّ ثم تُلْقِيَه المرأَةُ في عُنُقِهَا من غيرِ كُمَّيْنِ ولا جَيْبٍ، والإِتْبُ: قَمِيصُ لا كُمَّيْنِ له تَلبَسُه النِّسَاءُ، وقال الأَعْشَى:
كَتَمَيُّلِ النَّشْوَانِ يَرْ *** فُلُ في البَقِيرِ وفي الإِزارِ
وقد تقدَّم.
والبَقِيرُ: المُهْرُ يُولَدُ في ماسِكَةٍ أَو سَلًى؛ لأَنَّه يُشَقُّ عليه.
والباقِرُ، لَقَبُ الإِمامِ أَبي عبدِ اللهِ وأَبي جعفر محمّد بن الإِمامِ عليٍّ زَيْنِ العابِدِينَ ابنِ الحُسَيْنِ بنِ عليٍّ رضيَ الله تعالى عنهم، وُلِدَ بالمدينة سنةَ 57 من الهجرة، وأُمُّه فاطمةُ بنتُ الحَسَنِ بنِ عليٍّ، فهو أَوَّلُ هاشميٍّ، وُلِدَ مِن هاشِمِيَّيْنِ، عَلَوِيٌّ مِن عَلَوِيَّيْنِ، عاش سَبْعًا وخمسينَ سنةً، وتُوُفِّيَ بالمدينة سنة 114، ودُفِنَ بالبَقِيعِ عند أَبِيه وعَمِّه، وأَعْقبَ مِن سبعة: جعفرٍ الصّادِقِ، وإِبراهيمَ، وعُبَيدِ الله، وعليٍّ، وزَينبَ، وأُمِّ سَلَمَةَ، وعبدِ الله؛ وإِنما لُقِّبَ به لِتَبَحُّرِه في العِلْم، وتَوسُّعِه، وفي اللِّسَان: لأَنه بَقَرَ العِلْمَ، وعَرَفَ أَصله، واستنبطَ فَرْعَه.
قلْت: وقد وَرَدَ في بعض الآثارِ عن جابرِ بنِ عبد اللهِ الأَنصارِيِّ: أَنّ النبيَّ صَلى الله عليه وسلّم قال له: «يُوشِك أَن تَبْقَى حتى تَلْقَى وَلدًا لي من الحُسين يِقال له: محمّد، يَبقُر العِلْمَ بقْرًا، فإِذا لقيته فأَقرِئْه منيِّ السلامَ.» خَرَّجَه أَئِمَّة النَّسَبِ.
والباقِرُ: عِرْقٌ في المَآقِي، نَقلَه الصَّاغانيُّ؛ لأَنه يَشُقُّها.
والباقِرُ: الأَسَدُ؛ لأَنّه إِذا اصطادَ الفَرِيسةَ بَقَرَ بَطْنَها.
وتَبَيْقَرَ: تَوَسَّعَ، كتَبَقَّرَ، ورُوِيَ عن النبيِّ صَلى الله عليه وسلّم: أَنّه «نَهَى عن التَّبَقُّرِ في الأَهْل والمالِ، قال أَبو عُبَيْد: قال الأَصمعيّ: يُرِيدُ الكَثْرَةَ والسَّعَة، قال: وأَصلُ التَّبَقُّرِ التَّوَسُّعُ والتَّفَتُّحُ، ومنه قيل: بَقَرْتُ بَطْنَه، إِنَّمَا هو شَقَقْتُه وَفَتَحْتُه، ومنهحديثُ أُمِّ سُلَيْمٍ: «إِنْ دَنَا منِّي أَحدٌ من المُشْرِكين بَقَرْتُ بَطنَه». وَبَيْقَرَ الرجلُ: هَلَكَ. وبَيْقَرَ: فَسَدَ، وفي بعض النُّسَخ: أَفْسَدَ، وكلتاهما صَحِيحتان، وعلى الأُولى فَسَّرُوا قولَه:
يا مَنْ رَأَى النُّعْمَانَ كان حِيَرَا *** فَسُلَّ مِنْ ذلك يَوْمَ بَيْقَرَا
أَي يومَ فَسَادٍ، قال ابن سِيدَه: هذا قولُ ابنِ الأَعرابيِّ جَعَلَه اسمًا، قال: ولا أَدرِي لتَرْكِ صَرْفِه وَجْهًا إِلّا أَن يُضَمِّنَه الضَّمِيرَ، ويَجْعَلَه حِكايَةً، ويُرْوَى: «يَومًا بَيْقَرَا»؛ أَي يومًا هَلَكَ أَو فَسَدَ فيه مُلْكُه، وعلى النُّسْخَة الثانِيةِ فَسَّرَ ابنُ الأَعرابيِّ قولَه:
وقد كان زَيْدٌ والقُعُودُ بأَرْضِه *** كرَاعِي أُناسٍ أَرْسَلُوه فَبَيْقَرَا
وقوله: «كرَاعِي أُناسٍ»؛ أَي ضَيَّعَ غَنَمَه للذِّئْب.
وبَيْقَرَ: مَشَى كالمُتَكَبِّرِ، هكذا في النُّسَخ، وفي اللِّسَان وغيرِه من الأُمَّهات: مَشَى مِشْيَةَ المُنَكِّسِ، ولعلَّ ما في نُسَخ القاموس تَصْحِيف عن هذا، فلْيُنْظَرْ.
وبَيْقَرَ الرجلُ: أَعْيَا وحَسَرَ، وقال ابن الأَعرابيِّ: بَيْقَرَ؛ إِذا تَحَيَّرَ، يقال: بَقِرَ الكَلْبُ وَبَيْقَرَ، إِذا رَأَى البَقَرَ فَتَحَيَّرَ، كما يقال: غَزِلَ، إِذا رَأَى الغَزالَ فَلَهَا.
وبَيْقَرَ، إِذا شَكَّ في الشَّيْءِ. وبَيْقَرَ، إِذا مَاتَ. وأَصلُ البَيْقَرَةِ الفَسَادُ.
وبَيْقَرَ الدّارَ، إِذا نَزَلَهَا واتَّخَذها مَنْزِلًا، عن أَبي عُبَيْدَةَ.
وبَيْقَرَ: نَزَلَ إِلى الحَضَر وأَقامَ هنالك، وتَرَكَ قَومَه بالبادِيَةِ، وخَصَّ بعضُهم به العِراقَ، كما سيأْتي.
وبَيْقَرَ: خَرَجَ إِلى حيثُ لا يُدْرَى.
وبَيْقَرَ: أَسْرَعَ مُطَأْطِئًا رَأْسَه، وهذا يُؤَيِّدُ ما في الأُصُول: مَشَى مِشْيَةَ المُنَكِّسِ، كما تقدَّم، قال المُثَقِّبُ العَبْدِيُّ، ويُروَى لعَدِيِّ بنِ وَدَاعٍ:
فبَاتَ يَجْتَابُ شُقَارَى كمَا *** بَيْقَرَ مَنْ يَمْشِي إِلى الجَلْسَدِ
وبَيْقَرَ: حَرَصَ بِجَمْعِ ـ وفي بعض الأُصول: «على جَمْعِ» ـ المالِ ومَنَعَه.
وبَيْقَرَ الفَرَسُ إِذا خَامَ بِيَدَهِ كما يَصْفِنُ بِرِجْلِه، نُقِلَ ذلك عن الأَصمعيّ، والخَوْمُ هو الصُّفُون، كما سيأْتي.
وبَيْقَرَ: خَرَجَ من الشّام إِلى العِراقِ، قال امرُؤُ القَيْس:
أَلَا هلْ أَتَاها والحَوَادِثُ جَمَّةٌ *** بأَنَّ امْرَأَ القَيْسِ بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا
وبَيْقَرَ: هَاجَرَ من أَرضٍ إِلى أَرضٍ، ويقال: خَرَجَ من بلدٍ إِلى بلدٍ، فهو مُبَيْقِرٌ، وهو مّما أَلْحَقُوه بالمُصَغَّرَاتِ، وليس بمُصَغَّر، في أَلفاظ سَبَقَ ذِكرُهَا في ب ط ر. وقال السُّهَيْلِيُّ في الرَّوض: المُهَيْنِمُ والمُبَيْطِرُ والمُبَيْقِرُ لو صَغَّرْتَ واحدًا من هذه الأَسَماءِ لَحَذَفْتَ الياءَ الزائدةَ، كما تَحْذِفُ الأَلِفَ من مَفَاعِلَ، ويَلحَقُ ياءُ التَّصْغِيرِ في مَوْضِعِها، فيعودُ اللَّفْظُ إِلى ما كان، فيقال في تَصْغِير: مُهَيْنِمٍ ومُبَيْطِرٍ: مُهنم ومُبطر، وله في هذا المَقَام بحثٌ نَفِيسٌ فراجِعْه.
والبُقَّيْرَى، كسُمَّيْهَى: لُعْبَة الصِّبْيَانِ، وهي كَوْمَةٌ مِن تُرَابٍ وحَولَهَا خُطُوطٌ، ذَكَرَه ابن دُرَيْدٍ.
وبَقَّرَ الصَّبِيُّ تَبْقِيرًا: لَعِبَهَا يأْتُون إِلى مَوضعٍ قد خُبِّئَ لهم فيه شييْءٌ، فيَضْرِبُون بأَيْدِيهم بلا حَفْرٍ، يَطْلُبُونه، والذي في الجَمْهَرة لابنِ دُرَيْدٍ: بَيْقَرَ الصَّبِيُّ بَيْقَرَةً: لَعِبَ البُقَّيْرَى، فهو مُبَيْقِرٌ. فانْظُرْه وتَأَمَّلْ.
والبَيْقَرَانُ: نَبْتٌ، عن أَبي مالِكٍ، قال ابن دُرَيْدٍ: ولا أَدْرِي ما صحَّتُه.
والبُقّارَى بالضَّمِّ والشَّدِّ وفتح الرّاءِ: الكَذِبُ، والدّاهِيَةُ، كالبُقَرِ، كصُرَدٍ، يقال: جاءَ بالشُّقّارَى والبُقَّارَى، وجاءَ بالشُّقَرِ والبُقَرِ؛ أَي الكَذِبِ، نقلَه ابن دُرَيْدٍ في الجَمْهَرة عن أَبي مالِكٍ، وقال: الصُّقّارَى: والبُقَّارَى والصُّقَر والبُقَر، وأَوردَه المَيْدَانِيُّ أَيضًا في مَجْمَع الأَمثال.
والبَيْقَرُ، كحَيْدَرٍ: الحائِكُ.
والأُبَيْقِرُ، كأَنّه تصغيرُ أَبْقَرَ: هو الرجلُ الذي لا خَيرَ فيه ولا شَرَّ، كما في التَّكْمِلَة.
والمَبْقَرَةُ، بالفتح: الطَّرِيقُ: لسَعَتِهَا، أَو لِكَوْنِهَا مَشْقُوقَةً مفتوحة.
وعَيْنُ البَقَرِ بعَكّا مِن سواحِلِ الشّامِ.
وعُيُونُ البَقَرِ: ضَرْبٌ مِن العِنَبِ أَسودُ، كبيرٌ مُدَحْرَجٌ غيرُ صادِقِ الحَلَاوَةِ، وهو مجازٌ.
وعُيُونُ البَقَرِ بِفَلَسْطِينَ يُطلَقُ على ضَرْبٍ من الإِجّاص، على التَّشْبِيه.
والبَقَرَةُ، محرَّكةً: طائرٌ يكونُ أَبْرَقَ أَو أَطْحَلَ أَو أَبيضَ.
الجمع: بَقَرٌ، بفتْحٍ فسكونٍ.
وَبَقَرٌ، محرَّكةً: موضع قُرْبَ خَفّانَ بالقُرْب من الكُوفة.
وقُرُونُ بَقَرٍ: موضعٌ في دِيار بني عامر بنِ صَعْصَعَةَ ابنِ كِلابٍ، المُجَاوِرَة لِبَلْحَارِثِ بنِ كَعْبٍ، بها وَقْعَةٌ.
ودِعْصَتَا بَقَرٍ: دِعْصَتَانِ في شِقِّ الدَّهْنَا بالحِجاز بأَرْضِ بني تَمِيم.
وذُو بَقَرٍ: وادٍ بين أَخْيِلَةِ الحِمَى، حِمَى الرَّبَذَةِ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الأَخْيِلَةِ عند ذِكْرِ الرَّبَذَةِ.
ويقال: فِتْنَةٌ باقِرَةٌ كَدَاءِ البَطْنِ، وفي حديث أَبي موسى: سمعتُ رسولَ الله صَلى الله عليه وسلّم يقول: «سَيَأْتِي على النّاس فِتْنَةٌ باقِرَةٌ تَدَعُ الحَلِيمَ حَيْرَانَ»؛ أَي واسِعَةٌ عظيمةٌ، وقيل: صادِعَةٌ للأُلْفَةِ شاقَّةٌ للعَصَا، مُفْسِدَةٌ للدِّين، ومُفَرِّقَةٌ بين الناس، وشَبَّهها بوَجَع البَطْنِ؛ لأَنه لا يُدْرَى ما هاجَه، وكيف يُداوَى ويُتَأَتَّى له.
وبَقِيرَةُ، كسَفِينَةٍ: حِصْنٌ بالأَنْدَلْسِ من أَعمالِ رَيَّةَ.
و: بلد آخَرُ شَرْقِيَّهَا أَي بالأَندلسِ، منه: أَبو عبدِ اللهِ محمّدُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ حَكِيمِ بنِ البَقَرِيّ، حدَّث عنه الفَقِيهُ أَبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ القُرْطُبِيُّ.
والبُقَيْرَةُ، كجُهَيْنَةَ: فَرَسُ عَمْرِو بنِ صَخْرِ بنِ أَشْنَعَ، نقلَه الصَّاغانيّ.
وبُقَيْرٌ، كزُبَيْرٍ، ابنُ عبدِ الله بنِ شِهَاب بنِ مالكٍ، مُحَدِّثٌ عن جَدِّه في يوم اليَمَامَةِ، نَقَلَه الحافظُ.
ومِن أَمثالِهم: «جَاءَ فلانٌ بالصُّقَرِ والبُقَرِ، والصُّقّارَى والبُقَّارَى»، وقد تقدَّم ضَبْطُها؛ أَي بالكَذِبِ، وبالدّاهِيَةِ، كما صَرَّح به المَيْدَانِيُّ وغيرُه من أَهل الأَمثَال.
ورَوَى عَمْروٌ عن أَبيه: البَيْقَرَةُ: كَثْرَةُ المالِ والمَتَاعِ* وممّا يُستدرَكُ عليه:
ناقَةٌ بَقِيرٌ: شُقَّ بَطْنُها عن وَلَدِها.
وقد تَبَقَّرَ وابْتَقَرَ وانْبَقَرَ، قال العَجّاج:
تُنْتَجُ يومَ تُلْقِحُ انْبِقَارَا
وقال أَبو عَدْنَانَ عن ابنِ نُبَاتَةَ: المُبَقِّرُ: الذي يَخُطُّ في الأَرض دارَةً قَدْرَ حافِرِ الفَرَسِ، وتُدْعَى تلك الدّارةُ:
البَقَرَةَ، قال طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ يصف خَيْلًا، وقال الصَّاغانيّ:
يصفُ كَتِيبَةً:
أَبَنَّتْ فمَا تَنْفَكُّ حَوْلَ مُتَالِعٍ *** لهَا مِثْلُ آثارِ المُبَقِّرِ مَلْعَبُ
وقال الأَصمعيُّ: بَقَّرَ القَومُ ما حَولَهم؛ أَي حَفَرُوا واتَّخَذُوا الرَّكايَا.
ورجلٌ باقِرَةٌ: فَتَّشَ عن العُلَوم.
والبَقَرَةُ: قِدْرٌ واسِعَةٌ كبيرةٌ، نقَله ابنُ الأَثِير عن الحافظِ أَبي موسى.
ومن المَجاز: البَقَرُ: العِيَالُ، يقال: جاءَ فلانٌ يَجُرُّ بقَرَةً؛ أَي عِيَالًا، وعليه بَقَرَةٌ من عِيَالٍ ومالٍ؛ أَي جماعَةٌ. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: والمُرَادُ الكثرةُ والاجتماعُ كقولهم: له قِنطارٌ من ذَهَبٍ، وهو مِلْءُ مَسْكِ البَقَرَةِ؛ لمَّا استُكْثِرَ ما يَسَعُ جِلْدُهَا، فَضَرَبُوه مَثَلًا في الكَثْرَة.
وَبَيْقَرَ الرَّجلُ في مالِه، إذا أَسْرَعَ فيه وأَفْسَدَه.
وعن أَبي عُبَيْدَةَ: بَيْقَر الرجلُ في العَدْوِ، إِذا اعْتَمَدَ فيه.
وبَيْقُورٌ: موضعٌ.
ونَزْلَةُ أَبِي بَقَر: قريةٌ بالبَهْنساوِيّة.
وبُوقِير، بالضمّ: جزيرةٌ قربَ رَشِيد.
وبُقَيْرٌ، كهُذَيْلٍ، ابنُ سَعِيدِ بنِ سَعْدٍ: بَطْنٌ مِن خَوْلانَ، والنِّسبةُ إِليه بُقَريٌّ، كهُذَلِيٍّ، منهم أَخْنَسُ بنُ عبدِ الله الخَوْلانِيُّ، شَهِدَ فَتْحَ مِصرَ، هكذا ضَبَطَه عبد الغَنيِّ ابنُ سعيدٍ، وقال: حَدَّثَنِي بذلك أَبو الفَتْحِ عن أَبي سَعِيدٍ.
والبَاقِرَةُ: مِن قُرَى اليَمَامَةِ، وهما باقِرَتَانِ، كذا في المُعْجَم.
وبَقِيرَةُ، كسَفِينَة: امرأَةُ القَعْقَاعِ بنِ أَبِي حَدْرَد، لها صُحْبَةٌ، حَدِيثُها في مُسْنَدِ أَحمدَ.
وبقيرُ بنُ عَمْروٍ الخُزاعِيُّ، له صُحْبَةٌ.
والباقُورُ: لَقَبٌ.
ومن أَمثالهم: «الظِّباءَ على البَقَر»، و«الكِرَابَ على البَقر» وقد تَقَدَّم.
ومحمّدُ بنُ أَبي بكرِ بنِ أَحمدَ بنِ محمّد البَقَريُّ ـ مُحَرَّكةً ـ روَى عن أَبيه، وعنه أَبو جَعْفَرٍ المَنَادِيلِيُّ. ومحمّدُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ حَكيمٍ القُرْطُبِيُّ البَقَرِيُّ، سَمَعَ محمّدَ بن معاويةَ بنِ أَحمرَ.
ودارُ البَقَرِ: قَرْيَتَانِ بمصر: القِبْلَيّةُ والبَحْرِيَّةِ، كلتاهما في الغَرْبِيَّة.
وبَنُو بَقَرٍ: قبيلةٌ مِن جُذَام، إِليهم نُسِبَتْ تلك القريةُ.
وكَوم البَقَرِ بالكُفُور الشّاسعة. والبَقّار، كشَدّادٍ، بالشَّرْقيَّة.
والبَقَّارةُ تُذكَرُ مع فَرَمَا من مُدن الجِفار، خرابٌ الآن.
والبَقَرَةُ، محرَّكَةً: ماءَةٌ بالحَوْأَبِ، عن يَمِينِه، لبنِي كَعْبِ بنِ عَبْدٍ من بني كِلابٍ، وعندها الهَرْوَةُ، وبها مَعْدِنُ ذَهَبٍ.
وَبَقَرَانُ، محرَّكةً، وقيل بكسر القاف، وَادٍ، أَو جَبلٌ في مِخْلَافِ بَنِي نَجِيدٍ من اليمن، تُجْلَبُ منه الفُصُوصُ البَقَرانِيَّةُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
236-تاج العروس (ثور)
[ثور]: الثَّوْر: الهَيَجانُ. ثار الشَّيءُ: هاجَ، ويقال للغَضْبان أَهْيجَ ما يكونُ: قد ثارَ ثائِرُه وفارَ فائِرُه، إِذا هاج غَضَبُه.والثَّوْر: الوَثْبُ، وقد ثارَ إِليه، إِذا وَثَبَ. وثارَ به النّاسُ؛ أَي وَثَبُوا عليه.
والثَّوْرُ: السُّطُوعُ. وثارَ الغُبَارُ: سَطَعَ وظَهَرَ، وكذا الدُّخَانُ، وغيرُهما، وهو مَجازٌ. والثَّوْرُ: نُهُوضُ القَطَا مِن مَجَاثِمه.
وثارَ الجَرادُ ثَوْرًا، وانْثَارَ: ظَهَرَ.
والثَّوْرُ: ظُهُورُ الدَّمِ، يقال: ثارَ به الدَّمُ ثَوْرًا، كالثُّؤُورِ، بالضّم، والثَّوَرانِ، محرَّكةً، والتَّثَوُّرِ، في الكُلّ، قال أَبو كَبيرٍ الهُذَليُّ:
يَأْوِي إِلى عُظْمِ الغَرِيفِ ونَبْلُهُ *** كسَوَامِ دَبْرِ الخَشْرَمِ المُتَثَوِّرِ
وأَثَارَه هو، وأَثَرَه، على القَلْب، وهَثَرَه، على البَدَل، وثَوَّرَه، واسْتَثارَه غيرُه، كما يُستَثارُ الأَسَدُ والصَّيْدُ؛ أَي هَيَّجَه.
والثَّوْرُ: القِطْعةُ العَظيمةُ من الأَقِط. الجمع: أَثْوَارٌ وثِوَرَةٌ، بكسرٍ ففتْحٍ على القياس.
وفي الحديث: «تَوَضَّؤُوا ممّا غَيَّرَت النّارُ ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ». قال أَبو منصور: وقد نُسخَ حُكمُهُ.
ورُوِيَ عن عَمْرو بن مَعْدِي كَرِبَ أَنّه قال: أَتَيْتُ بني فلانٍ فأَتَوْني بثَوْرٍ وقَوْسٍ وكَعْبٍ؛ فالثَّوْر: القِطعةُ العَظيمةُ من الأَقِط، والقَوس: البَقيَّةُ من التَّمْر تَبْقَى في أَسفَلِ الجُلَّة، والكَعْب: الكُتْلَةُ من السَّمْن الجَامِس. والأَقِطُ هو لَبَنٌ جامِدٌ مُسْتَحْجِرٌ.
والثَّوْرُ: الذَّكَرُ من البَقَر قال الأَعشى:
لَكَالثَّوْر والجِنِّيُّ يَضْرِبُ ظَهْرَه *** وما ذَنْبُه أَنْ عافَت الماءَ مَشْرَبَا
أَراد بالجِنِّي اسمَ راعٍ. والثَّوْرُ ذَكَرُ البَقَرِ يُقَدَّم للشُّرْب، ليَتْبَعَه إِناثُ البَقَرِ، قاله أَبو منصور، وأَنشد:
كما الثَّوْر يَضْرِبُه الرّاعِيَانِ *** وما ذَنْبُه أَنْ تَعافَ البَقَرُ
وأَنشدَ لأَنَسِ بن مُدْركٍ الخَثْعَميِّ:
إِنِّي وقَتْلِي سُلَيْكًا ثمَّ أَعْقِلَه *** كالثَّوْر يُضْرَبُ لمّا عافَت البَقَرُ
قيل: عَنَى الثَّوْرَ الذي هو ذَكَرُ البَقَر؛ لأَن البَقَرَ يَتْبَعُه، فإِذا عافَ الماءَ عافَتْه، فيُضْرَب ليَرِدَ فتَرِدَ معه.
الجمع: أَثْوَارٌ وثِيَارٌ، بالكسر، وثِيَارَةٌ وثِوَرَةٌ وثِيَرَةٌ، بالواو والياءِ، وبكسر ففتحٍ فيهما، وثِيرَةٌ، بكسرٍ فسكونٍ، وثِيرَانٌ، كجِيرَةٍ وجِيرَان، على أن أَبا عليٍّ قال في ثِيَرَةٍ: إِنّه محذوفٌ من ثِيَارَةٍ، فتَركوا الإِعلالَ في العَيْن أَمارةً لما نَوَوْه من الأَلف، كما جَعَلوا تَصحيحَ نَحْوِ احْتَوَرُوا واعْتَوَنُوا دليلًا على أَنه في معنَى ما لا بُدَّ من صحَّته، وهو تَجَاوَرُوا وتَعاوَنُوا. وقال بعضُهم: هو شاذٌّ، وكأَنهم فرَّقوا بالقَلْب بين جَمْعِ ثَوْرٍ من الحيوان، وبين جَمْعِ ثَوْرٍ من الأَقِط؛ لأَنَّهُم يقولُون في ثَوْر الأَقط: ثِوَرَةٌ فقط. والأُنثَى:
ثَوْرَةٌ، قال الأَخطل:
وفَرْوَةَ ثَفْرَ الثَّوْرَةِ المُتَضاجِمِ
وأَرْضٌ مَثْوَرَةٌ: كَثيرَتُه؛ أَي الثَّوْر، عن ثعلب.
والثَّوْرُ: السَّيِّدُ، وبه كُنِّيَ عَمْرُو بن مَعْدِي كَرِبَ: أَبا ثَوْرٍ. وقول عليٍّ رضي الله عنه: إِنّمَا أُكِلْتُ يَومَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأَبيضُ»؛ عَنَى به عثمانَ رضي الله عنه؛ لأَنه كان سَيِّدًا، وجعلَه أَبيضَ؛ لأَنه كان أَشْيَبَ.
والثَّوْرُ: ما عَلَا الماءَ مِن الطُّحْلُب والعَرْمَض والغَلْفَق ونحوه. وقد ثارَ ثَوْرًا وثَوَرَانًا، وثَوَّرْتُه، وأَثَرْتُه، كذا في المُحْكَم، وبه فُسِّر قَولُ أَنَس بن مُدْرِك الخَثْعَميِّ السابق، في قَوْلٍ؛ قال: لأَنّ البَقّارَ إِذا أَوْرَدَ القِطْعَة من البَقَر، فعافَت الماءَ وصَدَّها عنه الطُّحْلُبُ، ضَرَبَه ليَفْحَصَ عن الماءِ فَتشْربه، ويقال للطُّحْلُب: ثَوْرُ الماءِ حَكَاه أَبو زَيْد في كتاب المَطَر.
والثَّوْرُ: البَيَاضُ الذي في أَصْلِ الظُّفُرِ، ظُفر الإِنسانِ. والثَّوْرُ: كلُّ ما عَلَا الماءَ من القُمَاش. ويقال: ثَوَّرْتُ كُدُورَةَ الماءِ فثَارَ.
والثَّوْرُ: المَجْنُون، وفي بعض النُّسَخ: الجُنُون، وهو الصَّواب؛ كأَنّه لهيَجانه.
ومن المَجَاز: الثَّوْرُ: حُمْرَةُ الشَّفَق النّائرَةُ فيه. وفي الحديث: «صلاةُ العِشَاءِ الآخِرَةِ إِذا سَقَطَ ثَوْرُ الشَّفَقِ». وهو انتشارُ الشَّفَق، وثَوَرانُه: حُمْرَتُه ومُعْظَمُه. ويقال: قد ثَارَ يَثُور ثَوْرًا وثَوَرانًا، إِذا انتشرَ في الأُفُق وارتفعَ، فإِذا غاب حَلَّتْ صلاةُ العِشَاءِ الآخِرَة. وقال في المَغْرب: ما لم يَسقُط ثَوْرُ الشَّفَقِ.
والثَّوْرُ: الأَحْمَقُ، يُقَال للرَّجُل البَليدِ الفَهْمِ: ما هو إِلّا ثَوْرٌ.
ومن المَجاز: الثَّوْرُ: بُرْجٌ في السَّمَاء، من البُرُوج الاثْنَيْ عَشَرَ، على التَّشْبيه.
ومن المَجاز: الثَّوْرُ: فَرَسُ العاصِ بنِ سَعيدٍ القُرَشيِّ، على التَّشْبيه.
وثَوْرٌ: أَبو قَبيلةٍ من مُضَرَ، وهو ثَورُ بنُ عبد مَنَاةَ بنِ أُدِّ بن طابخَةَ بن الياسِ بن مُضَرَ، منهم: الإِمام المحدِّثُ الزّاهدُ أَبو عبد الله سُفيَانُ بنُ سَعِيد بن مَسْرُوق بن حَبيب بن رافع ابن عبد الله بن موهبةَ [بن أَبَيّ بن عبد الله] بن مُنْقِذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبةَ بن عامر بنِ مِلْكان بن ثَور، رَوَى عن عَمْرِو بن مُرّةَ، وسَلَمَةَ بن كُهَيْل، وعنه بنُ جُرَيج، وشُعبةُ، وحمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، وفُضَيلُ بنُ عِياضٍ.
تُوُفِّيَ سنةَ 161 وهو ابنُ أَربع وستين سنةً.
وثَوْرٌ: وادٍ ببلاد مُزَيْنَةَ، نقلَه الصَّاغانيُّ.
وثَوْرٌ: جَبَلٌ بمكّةَ شَرَّفَها الله تعالَى، وفيه الغارُ الذي بات فيه سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَى الله عليه وسلّم لما هَاجَرَ، وهو المذكورُ في التَّنْزيل: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ} ويُقَال له ثَوْرُ أَطْحَلَ، واسمُ الجَبَل أَطحَلُ، نَزَلَه ثَوْرُ بنُ عبدِ مَناةَ فنُسبَ إِليه؛ وقال جماعةٌ: سُمِّيَ أَطْحَلَ لأَنّ أَطْحَلَ بنَ عبدِ مَنَاةَ كان يَسكنُه: وثورٌ أَيضًا: جَبَلٌ صغيرٌ إِلى الحُمْرة بتَدْوير، بالمدينة المُشَرَّفة، خَلْفَ أُحُدٍ من جِهة الشَّمَال. قاله السيُوطيُّ في كتاب الحَجّ من التَّوْشيح، قال شيخُنَا: ومالَ إِلى القول به، وتَرْجيحه بأَزْيَدَ من ذلك في حاشيَته على التِّرْمذيّ.
ومنه الحديثُ الصَّحيحُ: «المدينةُ حَرَمٌ ما بينِ عَيْرِ إِلى ثَوْرٍ»؛ وهما جَبَلان. وأَما قولُ أَبي عُبَيْد القَاسم بن سَلَام، بالتخفيف وغيره من الأَكابر الأَعلام: إِنّ هذا تَصْحيفٌ، والصَّوابُ «مِن عَيْر إِلى أُحُد»؛ لأَن ثَوْرًا إِنّما هو بمكةَ ـ وقال ابنُ الأَثِير: أَمّا عَيْرٌ فجبلٌ معروفٌ بالمدينة، وأَما ثَوْرٌ فالمعروفُ أَنه بمكِّةَ، وفيه الغارُ، وفي رواية قليلةٍ: «ما بين عَيْر وأُحُدٍ»، وأُحُدٌ بالمدينة، قال: فيكون ثَوْرٌ غَلَطًا من الرّاوي، وإِن كان هو الأَشهرَ في الرِّواية والأَكثرَ. وقيل: إن عَيْرًا جبلٌ بمكةَ، ويكون المرادُ أَنه حَرَّمَ من المدينة قَدْرَ ما بين عَيْر وثَوْرٍ من مكّةَ، أَو حَرَّمَ المدينةَ تحريمًا مثلَ تحريم ما بين عَيْرٍ وثَوْرٍ بمكةَ، على حذف المُضَاف، ووصْف المصدر المحذوف ـ فغيرُ جَيِّدٍ، هو جوابُ وأَمّا إِلخ، ثم شَرَعَ المصنِّف في بيان عِلَّة رَدِّه، وكَوْنه غيرَ جَيِّدٍ، فقال: لِمَا أَخْبَرَني الإِمامُ المحدِّثُ الشُّجَاعُ أَبو حَفْصٍ عُمَرُ البَعْلِيُّ الشيخُ الزّاهدُ، عن الإِمام المحدِّث الحافظ أَبي محمّدٍ عبد السلام بن محمّد بن مَزْرُوع البَصْريِّ الحَنْبَليِّ، ما نَصُّه: أَن حِذاءَ أُحُدٍ جانِحًا إِلى ورائِه مِن جهة الشَّمَال جَبَلًا صغيرًا مُدَوَّرًا إِلى حُمْرة، يقال له: ثَوْرٌ، وقد تَكَرَّرَ سُؤالي عنه طوائفَ مختلفةً من العَرَب، العارفين بتلك الأَرض المُجاورين بالسُّكْنَى، فكلٌّ أَخبرَني أَنَّ اسمَه ثَوْرٌ لا غير، ووجدتُ بخطِّ العَلّامة شمس الدِّين محمّد بن أَبي الفتح بن أَبي الفَضْل بن بَرَكَات الحَنْبَليِّ حاشيَةً على كتاب «مَعَالم السُّنَن» للخَطّابيّ ما صُورَتُه: ثَوْرٌ جَبَلٌ صغيرٌ خَلْفَ أُحُد، لكنه نُسِيَ فلم يَعرِفه إِلّا آحادُ الأَعراب؛ بدليل ما حَدَّثَني الشيخُ الإِمامُ العالمُ عَفِيفُ الدِّين عبدُ السلام بن محمّد بن مَزْرُوع البَصْريُّ، وكان مُجَاورًا بمدينة الرَّسُول صَلَى الله عليه وسلّم فوقَ الأَربعينَ سنةً، قال: كنتُ إِذا ركبتُ مع العَرَب أَسأَلُهم عمّا أَمُرّ به من الأَمِكنَة، فمررتُ راكبًا مع قَوم من بني هَيْثَمِ فسأَلتُهُم عن جَبَلٍ خَلْفَ أُحُد: ما يُقَال لهذا الجَبَل؟ فقالوا: يُقَال له: ثَوْرٌ، فقلتُ: من أَين لكُم هذا؟ فقالوا: من عَهْد آبائنا وأَجدادنَا، فنزلتُ وصَلَّيْتُ عنده ركعَتَيْن، شُكْرًا لله تعالَى. ثم ذَكَر العلَّةَ الثانيةَ فقال: ولمَا كَتَبَ إِليَّ الإِمامُ المحدِّث الشيخُ عَفيفُ الدِّين أَبو محمّد عبدُ الله المَطَرِيُّ المَدَنيُّ، نَقْلًا عن والده الحافظ الثِّقَة أَبي عبد الله محمّد المَطَرِيِّ الخَزْرَجيِّ، قال: إِنّ خَلْفَ أُحُدٍ عن شِمَاليِّه جَبَلًا صغِيرًا مُدَوَّرًا إِلى الحُمْرة، يُسَمَّى ثَوْرًا، يعرفُه أَهلُ المدينة، خَلَفًا عن سَلَف، قال مُلّا عليٌّ في النّامُوس: لو صَحَّ نَقْلُ الخَلَف عن السَّلَف لَمَا وَقَعَ الخُلْفُ بين الخَلَف. قلتُ: والجوابُ عن هذا يُعرَف بأَدْنَى تَأَمُّل في الكلام السابق.
وثَوْرُ الشِّبَاك، ككِتاب: وبُرْقَةُ الثَّوْر، بالضمّ: مَوْضعان، قال أَبو زياد: بُرْقَةُ الثَّوْر: جانبُ الصَّمّان.
وثَوْرَى، وقد يُمَدُّ: نَهرٌ بدمشقَ في شَماليِّ بَرَدَى، هُوَ وبَاناسُ يَفْتَرقَان من بَردَى، يَمُرّان بالبَوادي، ثم بالغُوطَة، قال العمَادُ الأَصفَهَانِيُّ يذكُر الأَنهارَ من قصيدة:
يَزيدُ اشْتيَاقي ويَنْمُو كَمَا *** يَزِيدُ يَزيدُ وثَوْرَى يَثُورْ
وأَبو الثَّوْرَيْن محمّدُ بنُ عبد الرَّحمن الجُمَحيُّ، وقيل: المكّيّ التّابعيُّ، يَرْوِي عن ابن عُمَرَ، وعنه عَمْرُو بنُ دينار، ومَن قال: عَمْرُو بنُ دينار عن أَبي السّوّار فقد وَهِمَ.
ويُقَال: ثَوْرَةٌ من مال، كثَرْوَة من مالٍ، وقال ابن مُقْبل:
وثَوْرَةٌ من رِجالٍ لو رأَيتَهُمُ *** لقُلتَ إِحْدَى حِرَاجِ الحَرِّ من أُقُرِ
ويُرْوَى: وثَرْوَةٌ؛ أَي عَدَد كثير، وهي مرفوعَةٌ معطوفةٌ على ما قبلها، وهو قوله: «فينَا خَنَاذيذُ»، وليست الواوُ واوَ «رُبَّ»، نَبَّه عليه الصَّاغَانِيُّ. وفي التهذيب: ثَوْرَةٌ مِن رجال، وثَوْرَةٌ من مال؛ للكَثير. ويقال: ثَرْوَةٌ من رجال، وثرْوَةٌ من مال، بهذا المعنى. وقال ابنُ الأَعرابيِّ: ثورَةٌ من رجال، وثَرْوَةٌ؛ يعْني: عَدَدٌ كثيرٌ، وثَرْوَةٌ من مالٍ لا غير.
والثَّوّارَةُ: الخَوْرَانُ، عن الصَّاغانيّ.
وفي الحديث: «فرأَيتُ الماءُ يَثُور [مِن] بين أَصَابعه» أَي يَنْبُع بقوَّة وشدَّة.
والثَّائرُ من المَجَاز: ثارَ ثائرُه وفارَ فائرُه؛ يُقَال ذلك إِذا هاجَ الغَضَبُ.
وثَوْرُ الغَضَب: حِدَّتُه.
والثائرُ أَيضًا: الغَضْبانُ.
والثِّيرُ، بالكسر: غِطَاءُ العَيْن، نقلَه الصَّاغَانيُّ.
وفي الحديث: «أَنه كَتَبَ لأَهل جُرَشَ بالحِمَى الذي حَماه لهم للفَرَس، والرّاحلَة، والمُثِيرَة» وهو بالكَسْر، وأَراد بالمُثيرَة: البَقَرَة تُثيرُ الأَرضَ.
ويقال: هذه ثِيَرَةٌ مُثيرَةٌ؛ أَي تُثِيرُ الأَرضَ، وقال الله تعالَى في صفة بَقَرَةِ بني إِسرائيلَ: {تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ}.
وأَثارَ الأَرضَ: قَلَبَها على الحَبِّ بعد ما فُتِحَتْ مَرَّةً، وحُكِيَ: أَثْوَرَهَا؛ على التَّصْحِيح، وقالَ الله عَزَّ وجَلّ: {وَأَثارُوا الْأَرْضَ} أَي حَرَثُوها وزَرَعُوها، واستَخرجُوا [منها] بَرَكاتِهَا، وأَنْزالَ زَرْعِهَا.
وثاوَرَه مُثاوَرَةً وثِوَارًا، بالكسر، عن اللِّحْيانيّ: وَاثَبَه وساوَرَه.
وثَوَّرَ الأَمْرَ تَثْوِيرًا: بَحَثَه.
وثَوَّرَ القُرآنَ: بَحَثَ عن معانِيه وعن علْمه. وفي حديثٍ آخَرَ: «مَن أَرادَ العِلْمَ فلْيُثَوِّر القُرآنَ»، قال شَمرٌ: تَثْوِيرُ القرْآن: قِراءَتُه، ومُفَاتَشَةُ العُلَمَاءِ به في تفسيرِه ومعانيه.
وقيل: ليُنَقِّرْ عنه ويُفَكِّرْ في معانيه وتفسيرِه، وقراءَته.
وثُوَيرُ بنُ أَبي فاختَةَ سعيدُ بنُ عِلاقَةَ أَخُو بُرْدٍ، وأَبوهما مَوْلَى أُمِّ هانئٍ بنت أَبي طالب، عِدَادُه في أَهل الكوفة: تابعيٌّ. الصّوابُ أَنه من أَتباع التّابعين؛ لأنه يَرْوِي مع أَخيه عن أَبيهما عن عليِّ بن أَبي طالب، كذا في كتاب الثِّقَات لابن حِبّانَ.
والثُّوَيْرُ: ماءٌ بالجزيرة من مَنَازل تَغْلبَ بن وائلٍ، وله يَومٌ معروفٌ، قُتِلَ فيه المُطَرَّحُ وجماعةٌ من النَّجْديَّة، وفِيه يقولُ حَمّاد بنُ سَلَمَةَ الشاعر:
إِنْ تَقْتُلُونا بالقَطِيف فإِنَّنا *** قَتَلْنَاكُمُ يَومَ الثُّوَيْر وصَحْصَحَا
كذا في أَنْسَابِ البلاذُريّ.
والثُّوَيْرُ: أَبْرَقٌ لجعفر ابن كلابٍ، قُرْبَ سُوَاجَ، من جبال ضَرِيَّةَ.
* وممّا يُستدرَكَ عليه:
يقال: انْتَظرْ حتى تَسْكُنَ هذه الثَّورةُ، وهي الهَيْجُ.
وقال الأَصمعيُّ: رأَيتُ فلانًا ثائرَ الرَّأْس، إِذا رأَيتَه قد اشْعَانَّ شَعْرُه؛ أَي انتشرَ وتَفرَّقَ. وفي الحديث: «جاءَه رجلٌ من أَهل نَجْدٍ ثائرَ الرَّأْس، يسأَلُه عن الإِيمان»؛ أَي مُنْتَشرَ شَعر الرأْس قائمَه، فحذَفَ المُضاف. وفي آخَرَ: «يَقُومُ إِلى أَخيه ثائرًا فَريصَتُه»؛ أَي: مُنْتَفخَ الفَريصَة قائمهَا غَضَبًا، وهو مَجازٌ وأَراد بالفَريصَة هنا عَصَبَ الرَّقَبة وعُرُوقها؛ لأنها هي التي تثُور عند الغَضَب.
ومِن المَجَاز: ثارتْ نَفْسُه: جَشَأَتْ، قال أَبو منصور: جَشَأَتْ؛ أَي ارتفعتْ، وجاشتْ أَي فارَتْ.
ويقال: مَرَرتُ بأَرَانبَ فأَثَرْتُهَا.
ويُقَال: كيف الدَّبَى؟ فيقال: ثائرٌ وناقرٌ، فالثّائرُ ساعةَ ما يَخرج من التُّرَاب، والناقرُ حينَ يَنقُر من الأَرض؛ أَي يَثِبُ.
وَثَوَّرَ البَرْكَ واستثارَهَا؛ أَي أَزْعَجَهَا وأَنْهَضَهَا. وفي الحديث: «بل هي حُمَّى تَثُورُ أَو تَفُور».
والثَّوْرُ: ثَورَانُ الحَصْبَة: وثارت الحَصْبَةُ بفلانٍ ثَوْرًا وثُؤُورًا وثُوَارًا وثَوَرَانًا: انتَشرتْ.
وحَكَى اللِّحْيَانيّ: ثارَ الرجلُ ثَوَرَانًا: ظَهَرَتْ فيه الحَصْبَةُ، وهو مَجازٌ.
ومنه أَيضًا: ثار بالمَحْمُوم الثَّوْرُ، وهو ما يَخْرجُ بفِيه من البَثْر.
ومن المَجَاز أَيضًا: ثَوَّرَ عليهم الشَّرَّ، إِذا هَيَّجَه وأَظهرَه، وثارَتْ بينهم فِتْنَةٌ وشَرٌّ، وثار الدَّمُ في وَجهه.
وفي حديث عبد الله: «أَثِيرُوا القُرآنَ فإِنه فيه خَبَرُ الأَوَّلينَ والآخرين». وفي رواية: «عِلْم الأَولين والآخرين». وقال أَبو عَدْنَان: قال [لي] مُحَارِب صاحِبُ الخَلِيل: لا تَقطَعْنا فإِنك إِذا جئتَ أَثَرْتَ العَرَبيَّةَ، وهو مَجازٌ.
وأَثَرْتُ البَعِيرَ أُثِيرُه إِثارَةً، فثارَ يَثُورُ، وتَثَوَّرَ تَثَوُّرًا، إِذا كان باركًا فبَعَثَه فانْبَعَثَ، وأَثارَ التُّرَابَ بقَوائِمِه إِثارَةً: بَحَثَه، قال:
يُثِيرُ ويُذْرِي تُرْبَهَا ويُهيلُه *** إِثَارَةَ نَبّاتِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
وثَوْرٌ: قَبيلَةٌ مِن هَمْدَانَ، وهو ثَوْرُ بنُ مالك بن مُعاويَةَ ابن دُودانَ بن بَكِيلِ بنِ جُشَم.
وأَبو خالد ثَوْرُ بنُ يَزِيدَ الكَلَاعيُّ: مِن أَتباع التّابعِين، قَدِمَ العراقَ، وكَتَبَ عنه الثَّوْرِيُّ.
وأَبو ثَوْرٍ صاحبُ الإِمَامِ الشّافِعِيِّ، والنِّسبةُ إِليه الثَّوْرِيُّ، منهم: أَبو القاسم الجُنَيد الزّاهِدُ الثَّوْرِيُّ، كان يُفْتي على مَذهبه.
وإِلى مذْهب سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَبو عبد الله الحُسَينُ بنُ محمّدٍ الدِّينَوَرِيُّ الثَّوْرِيُّ. والحافظُ أَبو محمّدٍ عبدُ الرَّحمن بنُ محمّد الدُّونِيُّ الثَّوْرِيُّ، راوِي النَّسائِيِّ عن الكَسَّار. وثُوَيْرَةُ، مصغَّرًا: جَدُّ الحَجّاجِ بن عِلاطٍ السُّلميّ، وهو والدُ نَصْرِ بنِ الحَجّاج.
وفلانٌ في ثُوَارِ شَرٍّ، كغُرَابٍ، وهو الكَثِيرُ.
والثّائِرُ: لَقَبُ جماعةٍ من العَلَوِيِّين.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
237-تاج العروس (جزر)
[جزر]: الجَزْرُ: ضِدُّ المَدِّ، هو رُجُوعُ الماءِ إِلى خَلْف. وقال اللَّيْثُ: هو انقطاعُ المدِّ، يقال: مَدَّ البَحْرُ والنَّهْرُ، في كَثْرَة الماءِ، وفي الانقطاع. وفعْلُه كضَرَبَ، قال ابن سيدَه: جَزَرَ البَحْرُ والنَّهْرُ يَجْزُرُ جَزْرًا وانْجَزَر.والجَزْرُ: القَطْعُ. جَزَر الشيْءَ يَجْزُرُهُ جَزْرًا: قَطَعَه.
والجَزْرُ: نُضُوبُ الماءِ وذَهابُه ونَقْصُه، وقد يُضَمُّ آتِيهما. والذي في المصْباح: جَزرَ الماءُ جَزْرًا، من بابَيْ ضرَبَ وقتل: انْحسَرَ، وهو رُجوعُه إِلى خلْف، ومنه: الجزيرَة؛ [سُمّيت بذلك] لانحسار الماءِ عنها. قال شيخنا: ولو جاءَ بالضميرِ مُفْردًا دالًّا على الجَمْع لكان أَوْلَى وأَصْوَبَ.
والجَزْرُ: البَحْرُ نفسُه.
والجَزْرُ: شَوْرُ العَسَلِ من خَلِيَّتِه واستخراجُه منها.
وتوَعَّد الحَجّاج بنُ يوسُف أَنسَ بن مالك فقال: «لأَجْزُرنَّك جزْرَ الضَّرَبِ»؛ أَي لأَسْتأْصِلنَّك، والعَسَل يُسَمَّى ضَرَبًا إِذا غلُظَ، يقال: اسْتضْرَبَ: سهُل اشْتِيَارُه على العاسِلِ؛ لأَنّه إِذا رَقَّ سالَ.
والجزْرُ: موضع بالبَادِيَة، جاءَ ذِكْرُه في شِعْر، نقله الصَّاغانيُّ.
والجَزْرُ: ناحِيَةٌ بحَلَب مشتملةٌ على القُرى، كان بها حمْدانُ بن عبدِ الرَّحِيم الطَّبيب، ثم انتقلَ منها إِلى الأَثارِبِ، وفيها يقول في أَبياتٍ:
يا حبَّذا الجَزْرُ كم نَعِمْت به *** بينَ جِنَانٍ ذَواتِ أَفْنانِ
بين جِنَانٍ قُطُوفُها ذُلُلٌ *** والظِّلُّ وافٍ وطَلْعُهَا دانِ
كذا في تاريخ حلبَ لابنِ العدِيم.
والجَزَرُ بالتَّحْرِيك: أَرضٌ يَنْجَزِر عنها المَدُّ كالجَزُيرة.
وقال كرَاع: الجَزِيرَة: القِطْعَة من الأَرض.
والجَزَرُ: أَرُومَةٌ تُؤْكل، معروفةٌ معرَّبة، وقال ابن دُرَيْد: لا أَحسبُها عربيَّةً، وقال أَبو حنيفة: أَصله فارسيٌّ، وتُكسَر الجِيم، ونقل اللغتيْن الفرّاءُ. وأَجْوَدُه الأَحْمَرُ الحُلْوُ الشِّتْوِيُّ، حارٌّ في آخِرِ الدَّرَجَةِ الثانِية، رطْبٌ في الأُولَى، وهو مُدِرٌّ للبَوْلِ، ويُسَهِّل ويُلطِّف، باهِيُّ يُقوِّي شهْوَة الجماعِ، مُحَدِّرٌ للطَّمْث أَي دَمِ الحَيْضِ، ووَضْع ورَقِه مدْقوقًا على القُرُوحِ المُتأَكِّلةِ نافِعٌ، ولكنه عَسِرُ الهضْمِ، مُنفخٌ، يُوَلِّدُ دَمًا رَدِيئًا، ويُصْلَح بالخلِّ والخَرْدلِ، وتفصيله في كتُب الطِّبّ.
والجَزَرُ: الشّاءُ السَّمِينةُ، واحدةُ الكلِّ بهاءٍ. وفي حديث خوّات: «أَبْشرْ بجَزَرَةٍ سمِينةٍ»؛ أَي صالحة لأَن تُجْزرَ؛ أَي تُذْبَح للأَكل. وفي المُحكم: والجَزَرُ: ما يُذْبَح من الشّاءِ ذَكَرًا كان أَو أُنْثَى، واحِدتهَا جَزَرَةٌ. وخَصَّ بعضهم به الشّاةَ التي يَقوم إِليها أَهلُها فيذْبَحُونها.
وقال ابنُ السِّكِّيت: أَجْزَرْته شاةً، إِذا دَفَعْت إِليه شاةً فَذَبَحَها، نَعْجَةً، أَو كَبْشًا، أَو عَنْزًا، وهي الجَزَرَة، إِذا كانَت سَمِينَةً.
وجَزَرَةُ، محرَّكةً: لَقَبُ أَبي عليٍّ صالح بنِ محمّدِ بن عَمْرٍو البَغْدادِيِّ الحافظِ.
والجزُورُ كَصُبور: البعير، أَو خاصٌّ بالناقة المجزورة، والصحيح أَنه يَقَع على الذَّكَر والأُنْثَى، كما حَقَّقَه الأَئِمَّة، وهو يُؤنَّث، لأَن اللفظَة سمَاعيَّةٌ، وقال: الجَزورُ إِذا أُفْرِدَ أُنِّثَ؛ لأَن أَكثرَ مَا يَنْحَرُون النُّوق. وفي حاشية الشِّهاب:
الجَزورُ: رَأْسٌ من الإِبل ناقةً أَو جَمَلًا: سمِّيَتْ بذلك لأَنها لمَا يُجْزَرُ؛ أَي وهي مُؤَنَّثٌ سَماعيٌّ، وإِن عَمَّتْ؛ فيها شِبْهُ تَغْلِيبٍ، فافْهَمْ.
الجمع: جَزَائِرُ وجُزُرٌ، بضَمَّتَيْن وجُزُرُاتٌ جمع الجمعِ، كطُرُق وطُرُقاتٍ.
والجَزُورُ: ما يُذْبَح من الشّاءِ، واحدتها جَزْرة، بفتح فسكون.
وأَجْزَرَه: أَعطاه شاةً يَذْبَحُها. وفي الحديث: «أَنّه بَعَثَ بَعْثًا فمَرُّوا بأَعْرَابيٍّ له غَنَمٌ فقالوا: أَجْزَرْنا» أَي أَعْطِنا شاةً تصْلُحُ للذَّبْح.
وقال بعضُهم: لا يُقال: أَجْزَرَه جَزُورًا؛ إِنما يُقال: أَجْزَرَة جَزَرةً.
وأَجْزَرَ البَعِيرُ حان له أَن يُجْزَرَ؛ أَي يُذْبَح ومِن المَجَاز: أَجْزَرَ الشَّيْخُ: حانَ له أَن يَمُوت؛ وذلك إِذا أَسَنَّ ودَنَا فَنَاؤُه، كما يُجْزِرُ النَّخْلُ. وكان فتْيَانٌ يقولون لشَيْخ: أَجْزَرْت يا شيْخُ؛ أَي حان لك أَن تَمُوتَ، فيقول: أَيْ بَنِيَّ، وتُحْتَضَرُون؛ أَي تمُوتُونَ شَبابًا، ويُرْوَى: أَجْزَزْتَ مِن أَجزَّ البُسْرُ؛ أَي حانَ له أَن يُجَزَّ.
والجَزّارُ، كشَدّادٍ، والجِزِّيرُ، كسِكِّيت: من يَنْحَرُه؛ أَي الجَزُورَ، وكذلك الجازِرُ، كما في الأَساس.
وهي أَي الحِرْفَةُ الجِزَارَةُ، بالكسر، على القِياس.
والمَجْزَرُ، كمقْعَدٍ: مَوْضِعُه؛ أَي الجَزْرِ، ومثلُه في المِصباح، وصَرَّح الجوهريُّ بأَنّه بالكسر؛ أَي كمَجْلِس، وهو الذي جَزَمَ به الشيخُ ابنُ مالكٍ في مصنّفاته، وقال: إِنه على غير قِياس؛ لأَن مُضارِعَه مضمومٌ، ككَتَب، فالقِيَاسُ في «المفعل» منه الفتحُ مطلقًا، وورُودُه في المَكَان مكسورًا على غيرِ قِياس.
والجُزَارَةُ من البَعِير، بالضمّ: اليَدانِ والرِّجْلانِ والعُنُقُ؛ لأَنها لا تَدخُل في أَنْصِباءِ المَيْسِر وإِنما هي عُمَالَةُ الجَزّارِ وأُجْرَتُه. قال ابن سِيدَه: وإِذا قالُوا في الفَرَس: ضَخْمُ الجُزَارَةِ؛ فإِنما يُرِيدُون غِلَظَ يَدَيْه ورِجْلَيْه، وكَثْرَةَ عَصَبِهما، ولا يُرِيدُون رأْسَه؛ لأَن عِظَمَ الرَأْسِ في الخَيْل هُجْنَةٌ، قال الأَعْشَى:
ولا نُقاتِلُ بالعِصِيِّ *** ولا نُرَامِي بالحِجارَهْ
إِلّا عُلالَةَ أَو بُدَا *** هَةَ قَارِحٍ نَهْدِ الجُزَارَهْ
والجَزِيرَةُ: أَرضٌ يَنْجَزِرُ عنها المَدُّ. وقال الأَزهريّ:
الجَزِيرَةُ: أَرضٌ في البَحْر يَنْفَرِجُ منها ماءُ البَحْرِ فَتَبْدُو، وكذلك الأَرضُ التي لا يَعْلُوهَا السَّيْلُ، ويُحْدِقُ بها، فهي جَزِيرَةٌ. وفي الصّحاح: الجَزِيرَةٌ: واحِدَةُ جَزائِرِ البَحْرِ؛ سُمِّيَتْ بذلك لانقطاعِها عن مُعْظَم الأَرْضِ. والجَزِيرَةُ: أَرضٌ بالبَصْرَةِ ذاتُ نَخِيلٍ، بينها وبين الأُبُلَّةِ، خُصَّتْ بهذا الاسمِ.
وجَزِيرَةُ قُورَ، بضمّ القاف: مَوضعٌ بعَيْنِه، وهو ما بين دِجْلَةَ والفُرَاتِ، وبها مُدُنٌ كِبارٌ، ولها تاريخٌ أَلَّفَه الإِمامُ أَبو عَرُوبَة الحَرّانِيُّ، كما نَصَّ عليه ياقوتٌ في المُشْتَرَك.
والنِّسْبَةُ جَزَرِيٌّ كالرَّبَعِيُّ إِلى رَبِيعةَ، وقال أَبو عُبَيْد: وإِذا أُطْلِقَتِ الجَزِيرَةُ ولم تُضَفْ إِلى العَرَبِ فإِنما يُرادُ بها هذه.
والجَزِيرَةُ الخَضْراءُ: د، بالأَنْدَلُسِ في مُقَابَلتها إِلى ناحية الغَرْب، ولا يُحِيطُ به ماءٌ، وانما خُصَّ بهذا الاسم.
والنِّسْبَةُ جَزِيرِيٌّ؛ لِرَفْعِ الالتباسِ.
والجَزِيرَةُ الخَضْراءُ: جَزِيرةٌ عظيمةٌ بأَرْضِ الزَّنْجِ، فيها سُلْطَانَانِ لا يَدِينُ أَحدُهما للآخَر. ذَكَرَه الشَّرِيفُ الإِدْرِيسِيُّ في عجائِب البُلْدان.
وأَهْلُ الأَنْدَلُسِ إِذا أَطْلَقُوا الجَزِيرَةَ أَرادُوا بها بلادَ مُجَاهِدِ بنِ عبدِ الله شَرْقِيَّ الأَنْدَلُسِ. قال شيخنا: ولعلَّه اصطلاحٌ قديمٌ لا يُعْرَفُ في هذه الأَزمان.
وجَزِيرَةُ الذَّهَب: موضعانِ بأَرض مِصْرَ، أَحَدُهما بحِذاءِ قَصْرِ الشَّمْع، والثاني حِذَاءَ فُوَّة بالمَزاحمتين.
وجَزيرَةُ شُكَرَ، كأُخَرَ: د، بالأَنْدَلُس، قال شيخُنا: المعروف أَنها جَزيرَةُ شُقَرَ ـ بالقاف ـ وإِنما يقولُها بالكاف مَن به لَثْغَةٌ. قلْت: وهي بين شَاطِبَةَ وتَنَسَةَ.
وجزيرَةُ ابنِ عُمَر: د، شَماليَّ المَوْصل يُحِيطُ به دِجْلَةُ مثلَ الهِلال، وهي كُورَةٌ تُتاخِمُ كُوَرَ الشام وحُدُودَها. وفي المُحْكَم: والجَزيرَةُ بجَنْب الشّام وأُمُّ مَدَائنها المَوْصل.
قلتُ: ومنها أَبو الفَضْل محمّدُ بنُ محمّد بن عطان المَوْصَلِيُّ الجَزَريُّ، ومن المُتَأَخِّرين: الحافِظُ المقرِيٌ شمسُ الدين محمّدُ بن محمّدِ بن الجَزَريِّ، توفِّي سنة 835.
وجَزيرةُ شَرِيكٍ: كُورَةٌ بالمَغْرب مُشْتَمِلَةٌ على مُدُن وقُرًى عامرةٍ.
وجَزيرَةُ بَني نَصْرٍ: كُورَةٌ بمصرَ، وهي مَقَرُّ عُرْبَان بَليّ ومَن طانَبَهم اليومَ، وهي واسعةٌ فيها عِدَّةُ قُرًى.
وجَزِيرَةُ قويسنا: بين مِصْرَ والإِسكندَريَّة، ومشتملةٌ على عدَّة قرًى، وهي بالوَجْه البَحريّ.
والجَزيرَةُ: موضع باليَمَامَة.
والجَزيرَةُ: محَلَّةٌ بالفُسْطَاط، إِذا زادَ النِّيلُ أَحاطَ بها واسْتَقَلَّتْ بنفسِها.
وذَكَرَ ياقُوتٌ في المُشْتَرك أَنّ الجَزيرَة اسمٌ لخمسةَ عشرَ مَوضعًا.
وفي التَّهْذِيب: جَزيرَةُ العَرَب محالُّها؛ سُمِّيَتْ جزيرةً لأَن البَحْرَيْن؛ بحْرَ فارسَ وبَحْرَ السُّودان أَحاطَا بناحِيَتَيْها، وأَحاطَ بالجانب الشَّماليِّ دجْلَةُ والفُرَاتُ، وهي أَرضُ العرب ومَعْدِنُها، انتهى. واختلفوا في حُدُودِها اختلافًا كثيرًا كادت الأَقوالُ تضطرب ويُصادِمُ بعضُها بعضًا، وقد ذَكَرَ أَكثَرَها صاحبُ المَراصِد والمُصْباح، فقيل: جَزيرَةُ العَرَب ما أَحاطَ به بَحْرُ الهنْد وبحْرُ الشَّأْمِ ثم دِجْلَةُ والفُراتُ، فالفُراتُ ودِجْلَة من جهَة مَشْرِقها، وبحرُ الهند من جَنُوبها إِلى عَدنَ، ودَخَلَ فيه بحرُ البصرة وعَبّادان، وساحلُ مكّةَ إِلى أَيْلَةَ إِلى القُلْزُم، وبحرُ الشَّأْم على جِهة الشَّمال، ودَخَلَ فيه بحرُ الرُّوم وسَواحِلُ الأُرْدُنِّ، حتى يُخَالِطَ بالناحِيةَ التي أَقْبلَ منها الفُرات. أَو جَزِيرةُ العَرَب ما بينَ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلى أَطرافِ الشّام طُولًا، وقيل: إِلى أَقْصَى اليمن في الطُّول، ومن ساحِل جُدَّةَ وما وَلَاهَا من شاطئ البَحْر، كأَيْلَةَ والقُلْزُمِ، إِلى أَطرافِ رِيفِ العِراق عَرْضًا، وهذا قولُ الأَصمعيّ. وقال أَبو عُبيدة: هي ما بَيْنَ حَفَر أَبي موسى إِلى أَقْصَى تِهَامَةَ في الطُّول، وأَما العَرْضُ فيما بين رَمْل يَبْرينَ إِلى مُنْقَطَع السَّمَاوَة، قال: وكلُّ هذه المَوَاضع إِنما سُمِّيَتْ بذلك؛ لأَن بحر فارسَ وبحرَ الحَبَش ودجْلةَ والفُراتَ قد أَحاطَت بها. ونَقَلَ البَكْريُّ أَن جَزيرَةَ العرب مكّةُ والمدينةُ واليمنُ واليَمامَةُ. ورُويَ عن ابن عَبّاس أَنه قال: جَزيرَةُ العرَب: تِهَامَةُ ونَجْدٌ والحِجَازُ والعروض واليمن. وفيها أَقوالٌ غير ذلك، وما أَوْرَدْناه هو الخُلاصة.
والجزائِرُ الخالِدَاتُ ـ ويقال لها: جَزَائِرُ السَّعَادَة، وجزائرُ السُّعَداءِ؛ سُمِّيَتْ بذلك لأَنه كان مُعْتَقَدُهم أَنّ النفوسَ السعيدةَ هي التي تَسْكُنُ أَبدانُها في تلك الجَزائِر؛ فلذلك كانت الحُكَماءُ يَسْكُنُون فيها، ويَتَدَارَسُون الحِكْمَةَ هناك، ويكونُ مَبْلَغُهم دائمًا فيها ثَمَانِين، كلّمَا نَقَصَ منهم بعضٌ زِيدَ، واللهُ أَعلمُ. وأَمّا وَجْهُ تَسْمِيَتِها بالخالداتِ فلأَنّ الجَنّةَ عندهم عبارةٌ عن الْتِذاذِ النَّفْسِ الإِنسانيَّةِ باللَّذّات، الحاصلَةِ لها بعد هذه النَّشْأَةِ الدُّنْيَويَّة، بواسِطَة تَحْصيلِها للكَمالاتِ الحِكمِيَّةِ في هذه النَّشأَة، وعدم بقاءِ شيْءٍ منها في القُوَّة، وخُلودُ الجَنَّة عبارةٌ عن دَوامِ هذا الالْتِذاذِ للنَّفْس، كما أَن الخُلُودَ في النار عندهم كنايةٌ عن دوام الحَسْرة على فَواتِ تلك الكمَالات، فعلى هذا يكونُ معنَى جَزائر الخالدات هو الجَزائِرُ الخالدةُ نَفْسُ سُكّانِها في جَنَّة اللَّذّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ المُكْتسَبَة في الدُّنيا. كذا حَقَّقه مولانا قاسم بيزلي ـ: سِتُّ جَزائِرَ، قال شيخُنا: والصَّوابُ أَنها سَبْعٌ كما جَزم به جماعةٌ مِمَّن أَرَّخها، وهي واغِلَةٌ في البَحْر المُحِيط المُسَمَّى بأُوْقيانُوسَ مِن جهَةِ المَغْرب، غربيَّ مدينةِ سَلَا، على سَمْتِ أَرض الحَبَشَة، تَلُوحُ للنَّاظِر في اليوم الصّاحِي الجوِّ من الأَبْخِرَة الغَلِيظَة، وفيها سبعةُ أَصنامٍ على مِثَال الآدميِّين، تُشِيرُ: لا عُبُورَ ولا مَسْلَكَ وراءَهَا، ومنها يَبْتَدِئُ المُنَجِّمُون بأَخْذِ أَطوالِ البلادِ، على قَول بطليموس وغيره من اليونانيِّين، ويُسَمُّون تلك الجزائر: بقَنارْيَا؛ وذلك لأَن في زمانهم كان مَبْدَأُ العِمارَة من الغَرْب إِلى الشَّرْق من المَحَلّ المَزْبُور، والإِبرةُ في هذه الجزائر كانت مُتَوجِّهةً إِلى نُقْطَة الشَّمال من غيرِ انحرافٍ، وعند بعضِ المُتَأَخِّرين وَرئيسِ إِسبانيا ابتداءُ الطُّولِ مِن جَزِيرة فَلَمَنْك، وقالوا: الإِبرةُ في هذه الجَزِيرَةِ متوجِّهةٌ إِلى نُقْطَة الشَّمال من غير مَيْلٍ إِلى جانبٍ، وعند البعضِ: ابتداءُ الطُّولِ من السّاحِلِ الغربيِّ. وبين الساحلِ الغربيِّ والجزائرِ الخالداتِ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، على الأَصَحِّ. تَنْبُتُ فيها كلُّ فاكهةٍ شَرْقِيَّةٍ وغَرْبِيَّةٍ وكلُّ رَيْحَانٍ ووَرْدٍ، وكلُّ حَبٍّ من غير أَن يُغْرَسَ أَو يُزْرعَ، كذا ذكرَه المؤرِّخُون، وفيها ما تُحِيلُه العُقُولُ، أَعْرَضْنا عن ذِكْرِهَا.
وجزائِرُ بَنِي مَرْغَنَايْ: د، بالمَغْرِب وهو البَلَدُ المشهورُ بإِفْريقِيَّة على ضِفّة البَحْرَيْن: بحرِ إِفْرِيقِيَّة وبحرِ المَغْرِب، بينها وبين بِجايَةَ أَربعةُ أَيام، وشُهرتُها كافِيَةٌ، ومَرْغَنَاي: بفتح فسكون وتحريك الغين والنون، كذا هو مضبوطٌ في النُّسخ، والصَّوابُ بالزّاي وتشدِيدِ النُّونِ، كما أَخْبَرنِي بذلك ثِقَةٌ من أَهْلِه.
والجِزَارُ، بالكسر: صِرَامُ النَّخْلِ. وجَزَرَه يَجْزُرُهُ ويَجْزِرُه ـ من حدِّ كَتَب وضَرَبَ ـ جَزْرًا وجِزَارًا، بالكسر والفتح، الأَخِيرُ عن اللِّحْيَانيّ؛ صَرَمَه.
وأَجْزَرَ النَّحْلُ: حانَ جِزَارُه، كأَصْرَمَ: حانَ صِرَامُه.
وجَزَرَ النَّخْلَ يَجْزِرُها ـ بالكسر ـ جَزْرًا: صَرَمَهَا. وقيل: أَفْسدَها عند التَّلْقِيح.
وقال اليزِيدِيُّ: أَجْزَرَ القَومُ، مِن الجِزَار، وهو وَقتُ صِرَامِ النَّخْلِ، مثل الجِزَازِ، يقال: جَزُّوا نَخْلَهُم، إِذا صرمُوه.
وقال الأَحمر: جَزَرَ النَّخْلَ يَجْزِرُه، إِذا صَرمه، وحَزَرَه يَحْزِرُه، إِذا خرَصَه.
وتَجازرَا: تَشاتمَا؛ فكأَنما جَزَرَا بينهما ظَرِبًا؛ أَي قطعاها فاشتدَّ نَتْنُها، يقال ذلك للمُتشاتِمَيْن المُتبَالِغيْن. واجْتزَرُوا في القِتال، وتجَزَّرُوا إِذا اقْتتلُوا، ويقال: ترَكُوهم جَزَرًا ـ بالتحريك ـ إِذا قَتلُوهم، وتَرَكَهم جَزَرًا للسِّباع والطَّيْر؛ أَي قِطَعًا.
وجَزَرُ السِّبَاعِ: اللَّحْمُ الذي تأْكُلُه، قال:
إِنْ يَفْعَلَا فلقد تَرَكْتُ أَباهما *** جَزَرَ السِّباعِ وكلِّ نَسْرٍ قَشْعَمِ
وعن اللَّيث: الجَزِيرُ، بلغة أَهلِ السَّوَادِ: مَن يَخْتَارُهُ أَهلُ القَريةِ لِمَا يَنُوبُهم في نَفَقَات مَن يَنْزِلُ بهم مِن قِبَلِ السُّلْطَانِ، وأَنْشَدَ:
إِذا ما رَأَوْنَا قَلَّسُوا من مَهَابَةٍ *** ويَسْعَى علينا بالطَّعامِ جَزِيرُهَا
وجُزْرَةُ، بالضمّ: موضع باليَمَامَة، نقلَه الصَّاغانيُّ.
وجُزْرَةُ: وادٍ بين الكُوفَةِ وفَيْدَ، وهو ماءٌ لبَنِي كَعْبِ بنِ العَنْبَرِ بنِ عَمْرِو بنِ تَمِيم.
* وممّا يُسْتَدرَك عليه:
جَزِيرَةُ العَرَبِ: المَدِينَةُ، على ساكِنها أَفضلُ الصّلاةِ والسّلامِ، وبه فَسَّر مالكُ بنُ أَنَسٍ الحديثَ: «الشيطانُ يَئِسَ أَن يُعْبَدَ في جَزِيرَة العَرَبِ». والجَزِيرَةُ: القِطْعَةُ مِن الأَرض، عن كُراع.
وأَمّا الجَزائِرُ التي بأَرْض مِصْرَ فهي كثيرةٌ، فممّا ذَكَرَهَا المؤرِّخون: جَزِيرَةُ ابنِ حَمْدانَ، وجزيرةُ ابنِ غَوْث، وجزيرةُ الغرقا، وجزيرةُ حَكَم، وجزيرةُ مَهْدِيَّة، وجزيرةُ مَحَلَّةِ دِمْنَا، وجزيرةُ مَسْعُود، وجزيرةُ الحجر، وجزيرةُ البنداريّة، وجزيرَةُ بَغِيضَة، وجزائِرُ بِشْر، وجزيرةُ مالك، وجزيرةُ محمّد، وجزيرةُ حَقِيل، وجزيرةُ الفِيل، وجزيرةُ مِفْتَاح، وجزيرةُ طناش، وجزيرة سَنَد، وجَزيرة العصْفور، وجزيرة القِطِّ، وجزيرة الشُّوبَك، وجزيرة البُوص، وجزيرة ابنِ حَمّاد، وجزيرة طَوْق، وجزائر أَبي هدري، وجزيرة بَنِيَ بَقَر، وجزائر ابن الرفعة، وجزيرة شَنْدَوِيل، وغير هؤلاءِ.
واجْتَزَرَ الجَزُورَ: نَحَرَه وجَلّدَه.
واجْتَزرَ القَومَ جَزورًا، إِذا جَزَرَ لهم.
والجَزَرُ: كلُّ شيْءٍ مُباحِ الذَّبْحِ، والوَاحِدُ جَزَرَةٌ.
وفي حديث موسى عليهالسلام والسَّحَرَةِ: «حتى صارتْ حِبالُهم للثُّعبانِ جَزَرًا»؛ وقد تُكسَر الجِيمُ.
ومن غريب ما يُرْوَى في حديث الزكَاة: «لا تَأْخُذُوا مِن جَزَراتِ أَموالِ النّاسِ»؛ أَي ما يكونُ أُعِدَّ للأَكْل، والمشهورُ بالحاءِ المهملَة.
وفي حديثَ عُمَرَ: «اتَّقُوا هذه المَجَازِرَ، فإِنّ لها ضَرَاوَةً كضَرَاوَةِ الخَمْرِ»؛ أَراد موضعَ الجَزّارِين التي تُنْحَرُ فيها الإِبلُ، وتُذْبَحُ البَقَرُ والشّاءُ يُبَاعُ لُحْمَانُها؛ لأَجل النَّجَاسَةِ التي فيها، وفي الصّحاح: المرادُ بالمَجَازِر هنا مُجْتَمعُ القومِ؛ لأَن الجَزُورَ إِنما تُنْحَرُ عند جَمْع الناس، وقال ابن الأَثير: نَهَى عن أَماكن الذَّبْحِ؛ لأن مشاهدةَ ذَبْحِ الحَيواناتِ مّما يُقَسِّي القلبَ ويُذْهِبُ الرَّحْمَةَ منه.
والجَزُور: لَقَبُ أُمِّ فاطِمةَ بنتِ أَسَدِ بنِ هاشِمٍ، والدةِ عليٍّ رضي الله عنه؛ لِعظَمِهَا، واسمُها قَتْلَةُ بنتُ عامِرِ بنِ مالكِ بنِ المُصْطَلِقِ الخُزَاعِيَّةُ.
وجُزَار، كغُرابٍ: جَبَلٌ شامِيٌّ، بينه وبين الفُرات ليلةٌ.
وأَبو جَزَرةَ: قَيْسُ بنُ سالم، تابعِيٌّ مصريٌّ.
وأَبو الفَضْلِ محمّدُ بنُ محمّدِ بنِ عليٍّ الضَّرِيرُ الجَوْزرانِيُّ ـ بالفتح ـ محدِّثٌ.
وأَبو منصور عبد الله بنُ الوَليدِ المحدِّثُ، لَقَبُه جُزَيْرَةُ، بالتصغير.
وحَبِيبُ بنُ أَبي جَزِيرَةَ ـ كسَفِينَة ـ حَدَّثَ عنه مُسْلمُ بنُ إِبراهِيمَ.
وعبدُ الله بنُ الجَزُورِ ـ كصَبُور ـ سَمِعَ قَتادَةَ.
ومحمّدُ بنُ إِدْرِيسَ الجازِرِيُّ ومحمَّد بنُ الحُسَيْنِ الجَازِرِيُّ، حَدَّثَا.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
238-تاج العروس (خبر)
[خبر]: الخَبَرُ، مُحرَّكَةً: النَّبَأُ، هكذا في المُحْكَم. وفي التَّهْذِيب: الخَبَر: ما أَتَاكَ مِن نَبَإِ عَمَّن تَسْتَخْبِرُ. قال شَيْخُنَا: ظاهِرُه بل صَرِيحُه أَنَّهُما مُتَرادِفَان، وقد سَبق الفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وأَنَّ النَّبَأَ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ بكَوْنِه عن أَمْر عَظيم كما قَيَّد به الرَّاغِب وغيرُه من أَئِمَّة الاشْتِقَاقِ والنَّظَرِ في أُصولِ العَرَبِيَّة. ثم إِنَّ أَعلامَ اللُّغَةِ والاصْطِلاح قَالوا: الخَبَر عُرْفًا ولُغَة: ما يُنْقَل عن الغَيْر، وزادَ فيه أَهْلُ ما يُنْقَل عن الغَيْر، وزادَ فيه أَهْلُ العَرَبِيَّة: واحْتَمَلَ الصِّدْقَ والكَذِبَ لِذَاتِه.والمُحَدِّثُون استَعْمَلُوه بمَعْنَى الحَدِيث. أَو الحَدِيثُ: ما عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، والخَبَر: ما عَنْ غَيْرِه.
وقال جَماعَة من أَهْلِ الاصْطِلاح: الخَبَر أَعَمُّ، والأَثَرُ هو الذي يُعَبَّرُ به عن غَيْر الحَدِيث كما لِفُقَهاءِ خُراسَانَ. وقد مَرَّ إِيماءٌ إِليه في «أَثر» وبَسْطه في عُلُوم اصْطِلاح الحَدِيث. الجمع: أَخْبارٌ. وجج؛ أَي جَمْع الجَمْع أَخابِيرُ.
ويقال: رَجُلٌ خَابِرٌ وخَبِيرٌ: عالِمٌ بالخَبَر. والخَبِيرُ: المُخْبِر.
[وخَبِرٌ] * قال أَبُو حَنِيفَة في وَصْف شَجَر: أَخْبَرَني بذلِك الخَبِرُ. فجاءَ به ككَتِف. قال ابنُ سِيده: وهذا لا يَكَادُ يُعْرَف إِلّا أَنْ يُكونَ على النَّسَب. ويُقَالُ: رَجُلٌ خُبْرٌ، مثل جُحْر؛ أَي عَالِمٌ بِهِ؛ أَي بالخَبَر، على المُبَالَغَة، كزيد عَدْل.
وأَخْبَره خُبُورَه، بالضّمّ؛ أَي أَنْبَأَه ما عِنْدَه. والخُبْرُ والخُبْرَة، بكَسْرِهِما ويُضَمَّان، والمَخْبَرةُ، بفَتْح المُوَحَّدة، والمَخْبُرَة بضَمِّها: العِلْمُ بالشَّيْءِ، تقول: لي به خُبْرٌ وخُبْرة، كالاخْتِبار والتَّخَبُّرِ. وقد اخْتَبَرَه وتَخَبَّرَه. يقال: مِنْ أَيْنَ خَبَرْتَ هذا الأَمرَ؟ أَي من أَيْن عَلِمْت. ويقال: «صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبْرُ». وقال بَعضُهم: الخُبْر، بالضَّمّ: العِلْمُ بالباطِن الخَفِيِّ، لاحْتِياج العِلْم به للاخْتبار. والخِبْرَةُ: العِلْم بالظَّاهر والباطنِ، وقيلَ: بالخَفَايَا البَاطِنَةِ ويَلْزَمُها مَعْرِفَةُ الأُمورِ الظَّاهِرة. وقد خَبُرَ الرَّجُلُ، ككَرُمَ، خُبُورًا، فهو خَبيرٌ.
والخَبْرُ، بفَتْح فَسُكُون: المَزَادَةُ العَظِيمَة، كالخَبْرَاءِ، مَمْدُودًا، الأَخِير عن كُرَاع.
ومِنَ المَجَازِ: الخَبْرُ: النَّاقَةُ الغَزِيرَةُ اللَّبنِ، شُبِّهت بالمَزَادة العَظِيمة في غُزْرِها، وقد خَبَرَتْ خُبُورًا عن اللِّحْيَانِيّ، ويُكْسرُ، فِيهِمَا، وأَنْكَر أَبو الهَيْثم الكَسْرَ في المَزادَة، وقال غيرُه: الفَتْحُ أَجْودُ.
ج؛ أَي جمْعهما، خُبُورٌ.
والخَبْرُ: قرية: بِشِيرازَ، بها قَبْرُ سَعِيدٍ أَخِي الحَسَن البَصْرِيّ. مِنْهَا أَبُو عَبْدِ الله الفَضْلُ بنُ حَمَّادٍ الخَبْرِيّ الحافظ صاحِبُ المُسْنَد، وكان يُعَدُّ من الأَبدَال، ثِقَةٌ ثَبتٌ، يَرْوِي عن سَعِيد بن أَبي مَرْيَمَ وسَعِيدِ بنِ عُفَير، وعَنْه أَبُو بَكْر بْنُ عَبدانَ الشِّيرازِيّ، وأَبو بَكْر عبد الله بن أَبي داوود السِّجِسْتَانيّ، وتُوفِّيَ سنة 264، والخَبْرُ: قرية باليَمَن، نَقَلَه الصَّاغانِيُّ.
والخَبْرُ: الزَّرْعُ.
والخَبْرُ: مَنْقَعُ الماءِ في الجَبَل، وهو ما خَبِرَ المسِيلُ في الرُّءُوس، فتَخُوضُ فيه.
والخَبْرُ: السِّدْرُ والأَرَاكُ وما حَوْلَهُمَا من العُشْب. قال الشاعر:
فجادَتْكَ أَنواءُ الرَّبِيعِ وهَلَّلَتْ *** عليكَ رِيَاضٌ من سَلَامٍ ومِن خَبْرِ
كالخَبِر، ككَتِفٍ، عن اللَّيث واحِدَتُهما خَبْرة وخَبِرَةٌ.
والخَبْرَاءُ: القاعُ تُنْبِتُه؛ أَي السِّدْرَ، كالخَبِرَة، بفَتْح فكَسْر، وجمْعُه خَبِرٌ. وقال اللّيث: الخَبْراءُ شَجْراءُ في بَطْنِ رَوْضَةٍ يَبْقَى فِيها المَاءُ إِلى القَيْظ، وفيها يَنْبُت الخَبْرُ وهو شَجَر السِّدْرِ والأَراكِ وحَوالَيْهَا عُشْبٌ كَثِيرٌ، وتُسَمَّى الخَبِرةَ، الجمع: الخَبَارى، بفتح الرّاءِ، والخَبَارِي، بكَسْرِهَا مثل الصَّحَارَى والصَّحَارِي. والخَبْراواتُ والخبَارُ، بالكَسْرِ.
وفي التَّهْذِيب في «نَقْع»: النَّقَائع: خَبَارَى في بِلادِ تَميم.
والخَبْرَاءُ: منْقَعُ المَاءِ. وخَصَّ بَعْضُهم به مَنْقَعَ المَاءِ في أُصُولِهِ؛ أَي السِّدرِ. وفي التَّهْذِيب الخَبْرَاءُ: قَاعٌ مُسْتَدِيرٌ يَجْتَمِع فيه المَاءُ.
والخَبَارُ كسَحَاب: مَالانَ مِنَ الأَرْضِ واسْتَرْخَى وكانَت فِيهَا جِحَرَةٌ، زاد ابْنُ الأَعْرَابِيّ: وتَحَفَّر. وقال غيره: هو ما تَهوَّرَ وساخَتْ فيه القَوَائِمُ. وفي الحَدِيث «فدَفَعْنَا في خَبَارٍ من الأَرض»؛ أَي سَهْلَةٍ لَيِّنة. وقال بَعضُهم: الخَبَارُ: أَرضٌ رِخْوَة تَتعْتَع فيها الدَّوابُّ، وأَنشد:
تَتَعْتع في الخَبَارِ إِذَا عَلَاه *** وتَعْثُرُ في الطَّرِيق المُسْتَقِيمِ
والخَبَارُ: الجرَاثِيمُ، جَمْعُ جُرْثُومٍ؛ وَهُوَ التُّرابُ المُجْتَمِع بأُصولِ الشَّجرِ. والخَبَارُ: حِجَرَةُ الجُرْذانِ، واحدَتُه خَبَارَةٌ. و«مَنْ تَجَنَّبَ الخَبَارَ أَمِنَ العِثَارَ» مَثَلٌ ذَكَرَه المَيْدَانِيّ في مَجْمَعِه والزَّمَخْشَريّ في المُسْتَقْصَى والأَساس.
وخَبِرَتِ الأَرْضُ خَبَرًا، كفَرِح كَثُر خَبَارُهَا. وخَبِر المَوْضِعُ، كفَرِحَ، فَهُو خَبِرٌ: كَثُرَ به الخَبْرُ، وهو السِّدْر.
وأَرضٌ خَبِرَةٌ، وهذا قَدْ أَغفلَهَ المُصنِّفُ.
وفَيْفَاءُ أَو فَيْفُ الخَبَارِ: موضع بِنَواحِي عَقِيقِ المَدِينَةِ، كانَ عَلَيْه طَرِيقُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَ يُرِيدُ قُرَيشًا قبل وَقْعَة بَدْرٍ، ثم انْتَهَى منه إِلى يَلْيَلَ.
والمُخَابَرَةُ: المُزَارَعَةُ*، عَمَّ بها اللِّحْيَانيّ. وقال غَيْره: على النِّصْفِ ونَحْوِه؛ أَي الثُّلُث. وقال ابنُ الأَثير:
المُخَابَرةُ: المُزارَعَة على نَصِيبٍ مُعَيَّن، كالثُّلُث والرُّبع وغَيْرِهما.
وقال غَيرُه: هو المُزارَعَة ببَعْض ما يَخْرُج من الأَرض، كالخِبْرِ، بالكَسْر. وفي الحَدِيث: «كُنَّا نُخَابِرُ ولا نَرى بِذلك بَأْسًا حتّى أَخْبَرَ رافِعٌ أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا» قيل: هو من خَبِرَتِ الأَرْضُ خَبَرًا: كَثُر خَبَارُهَا. وقيل: أَصْلُ المُخَابَرة من خَيْبَر، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّها في أَيْدِي أَهْلِهَا على النِّصف من مَحْصُولِها، فقيل: خَابَرَهُم؛ أَي عامَلَهُم في خَيْبر.
والمُخَابَرَة أَيْضًا المُؤَاكَرَةُ: والخَبِيرُ: الأَكَّارُ، قال:
تَجُزُّ رُءُوس الأَوْسِ من كُلِّ جانِبٍ *** كجَزِّ عَقَاقِيلِ الكُرُومِ خَبِيرُها
رفع خَبِيرُهَا على تَكْرِيرِ الفِعْل. أَراد جَزَّه خَبِيرُها؛ أَي أَكَّارُها.
والخَبِيرُ: العالِمُ بالله تَعَالَى، بمَعْرِفَة أَسمائِه وصِفَاتِه، والمُتَمكِّن من الإِخْبار بما عَلِمَه والذي يَخْبُرُ الشَّيْءَ بعِلْمه.
والخَبِير: الوَبَرُ يَطْلُع على الإِبِل، واستعاره أَبو النّجم لحمِير وَحْشٍ فقال:
حَتَّى إِذا ما طَارَ من خَبِيرِهَا
ومن المَجَاز في حَدِيثِ طَهْفَة: «نَسْتَخْلِبُ الخَبِيرَ»؛ أَي نَقْطَع النَّبَات والعُشْب ونأْكلُه. شُبِّه بخَبِير الإِبِل وهو وَبَرُهَا، لأَنَّه يَنْبُت كما يَنْبُت الوَبَر؛ واستِخْلابُه: احتِشاشُه بالمِخْلَبِ وهو المِنْجلُ.
والخَبِيرُ: الزَّبَدُ، وقيل: زَبَدُ أَفْوَاهِ الإِبِلِ. وأَنْشَدَ الهُذَلِيّ:
تَغَذَّمْنَ في جَانِبَيْه الخَبِي *** ر لَمَّا وهَي مُزْنهُ واستُبِيحَا
تَغَدَّمْنَ يَعْنِي الفُحُول؛ أَي مَضَغْن الزَّبَدَ وعَمَيْنَه.
والخَبِيرُ: نُسَالَةُ الشَّعرِ. قال المُتَنَخِّلُ الهُذَلِيّ:
فآبُوا بالرِّماح وهُنَّ عُوجٌ *** بِهِنّ خَبَائِرُ الشَّعَرِ السِّقَاطِ
وخَبِير: جَدُّ والدِ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرانَ بنِ مُوسَى بنِ خَبِير الغَوَيْدِينِيّ المُحَدِّثِ النَّسَفِيّ، عن مُحَمّد بنِ عَبْدِ الرحمن الشّاميّ وغَيْرِه.
والخَبِيرَةُ، بالهاءِ، اسمُ الطَّائِفَة مِنْه؛ أَي من نُسَالَةِ الشعر.
والخَبِيرَةُ: الشَّاةُ تُشْتَرَى بَيْن جماعةٍ بأَثْمانِ مُخْتَلفة، فتُذْبَحُ ثم يقْتَسِمُونها، فيُسْهِمُون، كُلُّ واحد على قَدْر ما نَقَد، كالخُبْرة، بالضَّمِّ، وتَخَبَّروا خُبْرةً فَعَلُوا ذلِك أَي اشتَرُوا شاةَ فذَبَحُوها واقْتَسَمُوها. وشاةٌ خَبِيرَةٌ: مُقْتَسَمَةٌ. قال ابنُ سِيدَه: أُرَاهُ على طَرْحِ الزَّائد.
والخُبْرة: الصُّوفُ الجَيِّد من أَوَّل الجَزِّ، نقله الصّاغانِيّ.
والمَخْبَرَةُ، بفتح المُوَحّدة: المَخْرأَةُ، موضع الخِراءَة، نقلَه الصَّاغانِيّ.
والمَخْبَرةُ: نَقِيضُ المَرْآةِ، وضَبَطه ابنُ سِيدَه بضَمِّ المُوَحَّدَة. وفي الأَساس: ومن المَجاز: تُخْبِرُ عن مَجْهُولِه مَرْآتُه.
والخُبْرَة، بالضَّمِّ: الثَّرِيدَةُ الضَّخْمَةُ الدَّسِمة.
والخُبْرَة: النَّصِيبُ تَأْخذُه من لَحْمٍ أَو سَمَكٍ، وأَنْشَد:
باتَ الرَّبِيعِيُّ والخامِيزُ خُبْرَتُه *** وطَاحَ طَيْ مِن بَنِي عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ
والخُبْرَة: ما تَشْتَرِيه لأَهْلِك، وخَصَّه بعضُهم باللَّحْم، كالخُبْرِ بغير هَاءٍ، يقال للرّجال ما اخْتَبَرْتَ لأَهْلك؟
والخُبْرَة: الطَّعامُ من اللَّحْم وغَيْرِه. وقيل: هو اللَّحْمُ يَشْتَرِيه لأَهْلِه، والخُبْرة: مَا قُدِّمَ مِنْ شَيْءٍ، وحَكَى اللِّحْيَانيّ أَنَّه سمِع العرب تقول: اجْتَمعوا على خُبْرَته، يَعْنُون ذلك، وقيل: الخُبْرَة: طَعَامٌ يَحْمِلُه المُسَافِرُ في سُفْرَتِه يَتَزوَّدُ به، والخُبْرَة: قَصْعَةٌ فِيهَا خُبْزٌ ولَحْمٌ بينَ أَرْبَعَةٍ أَو خَمْسَةٍ.
والخَابُورُ: نَبْتٌ أَو شَجَر له زَهْرٌ زَاهِي المَنْظَرِ أَصفرُ جَيِّدُ الرائِحَةِ، تُزيَّنُ به الحَدائِقُ، قال شيخُنا: ما إِخَالُه يُوجَد بالمَشْرِق. قال:
أَيَا شجَر الخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا *** كأَنَّكَ لم تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
والخَابُورُ: نَهرٌ بَيْنَ رَأْسِ عَيْنٍ والفُراتِ مَشْهُور.
والخَابُورُ: نَهْرٌ آخَرُ شَرقِيَّ دِجْلَةِ المَوْصِلِ، بينه وبين الرَّقَّة، عليه قُرًى كَثِيرةٌ وبُلَيْدَاتٌ. ومنها عَرَابَان منها أَبُو الرّيّان سريح بن رَيّان بن سريح الخَابُورِيّ، كَتَبَ عنه السَّمْعَانيّ.
والخَابُورُ: وَادٍ بالجَزِيرة وقيل بسِنْجَار، منه هِشام القَرْقسائيّ الخَابُورِيّ القَصّار، عن مَالِك، وعنه عُبَيْد بن عَمرٍو الرَّقِّيّ. وقال الجوهريّ: مَوْضِع بناحية الشَّام؛ وقيل بَنواحِي ديِاربَكْرٍ، كما قاله السّيد والسّعد في شَرْحَيِ الْمِفْتَاح والمُطَوَّل، كما نَقَله شيخُنَا. ومُرادُه في شَرْحِ بَيْت التَّلْخِيص والمِفْتَاح:
أَيَا شَجَرَ الخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا
المُتَقَدّم ذِكْرُه.
وخَابُورَاءُ: موضع. ويضاف إِلى عَاشُورَاءَ وما مَعَه.
وخَيْبَرُ، كصَيْقَل: حِصْنٌ م؛ أَي معروف، قُرْبَ المَدِينَةِ المُشَرَّفَة، على ثَمَانِيةِ بُرُدٍ منها إِلى الشّام، سُمِّيَ باسم رَجُل من العَمَالِيقِ، نزَل بها، وهُو خَيْبَرُ بن قَانِيَة بن عَبِيل بن مهلان بن إِرَم بن عَبِيل، وهو أَخُو عَاد. وقال قوْم: الخَيْبَر بلسَان اليَهُودِ: الحِصْن، ولذا سُمِّيَت خَبائِرَ، أَيْضًا، وخَيْبَرُ مَعْرُوفٌ، غَزَاه النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وله ذِكْرٌ في الصَّحِيح وغيره، وهو اسْمٌ للوِلَايَة، وكانت به سَبْعَةُ حُصُونٍ، حَوْلَها مَزارِعُ ونَخْلٌ، وصادفت قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أَكْبَر، خَرِبَت خَيْبَر». وهذه الحُصُونُ السَّبْعَة أَسماؤُهَا: شِقّ ووَطِيح ونَطَاة وقَمُوص وسُلَالِم وكَتِيبة ونَاعِم.
وأَحمَدُ بْنُ عَبْدِ القَاهِر اللَّخْمِيّ الدِّمَشْقِيّ، يَرْوِي عن مُنَبِّه بنِ سُلَيْمَان. قلت: وهو شَيْخٌ للطَّبَرَانِيّ. ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيز أَبو مَنْصُور الأَصْبهانيّ، سَمِع من أَبي مُحَمّد بن فارِس، الخَيْبَرِيَّانِ، كأَنَّهُمَا وُلِدَا بِهِ، وإِلّا فلَم يخرُجْ منه مَنْ يُشارُ إِليه بالفَضْل.
وعَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْبَرَ، مُحَدِّثٌ، وَهُو شَيْخٌ لأَبِي إِسْحَاق المُسْتَمْلِي.
والخَيْبَرَى، بفتحِ الرَّاءِ وأَلِفٍ مَقْصُورَة، ومِثْلُه في التَّكْمِلَة، وفي بعضِ النُّسَخ بكَسْرِها ويَاءِ النِّسْبَة: الحَيَّةُ السَّوْدَاءُ. يُقَال: بَلَاه الله بالخَيْبَرَى، يَعْنُون به تِلْك، وكَأَنَّه لَمَّا خَرِبَ صار مَأْوَى الحَيَّاتِ القَتّالة.
وخَبَرَه خُبْرًا، بالضَّمّ، وخِبرَةً، بالكَسْرِ: بَلَاهُ وجَرَّبَه، كاخْتَبَرَه: امْتَحَنَه.
وخَبَرَ الطَّعَامَ يَخْبُره خَبْرًا: دَسَّمَه. ويقال: اخْبُر طَعَامَك؛ أَي دَسِّمْه. ومنه الخُبْرَةُ: الإِدام. يقال: أَتَانَا بخُبْزَة، ولم يأْتِنَا بخُبْرة. ومنه تَسْمِيَة الكَرج المُلاصِقِ أَرضهم بعِراق العَجَم التمرَ خُبْرَةً، هذا أَصْل لُغَتِهم، ومِنْهم من يَقْلِب الرَّاءَ لامًا.
وخابَرَانُ، بفتح المُوحَّدة: نَاحِيَةٌ بَيْنَ سَرَخْسَ وأَبيوَرْد، ومن قُراها مِيهَنَةُ. ومِمَّن نُسِب إِلى خَابَرَانَ أَبُو الفَتْحِ فَضْلُ الله بنُ عَبْد الرَّحْمن بْنِ طَاهِرٍ الخَابَرانِيّ المُحَدِّث. وخَابَرَانُ موضع آخَرُ.
واسْتَخْبَرَه: سأَلَه عن الخَبَر وطلَب أَن يُخْبِرَه، كتَخَبَّرَه.
يقال: تَخَبَّرْتُ الخَبَرَ واستَخْبرْتُه، ومِثْله تَضَعَّفْت الرَّجلَ واستَضْعَفْته. وفي حدِيث الحُدَيْبِيَة: «أَنَّه بَعَث عَيْنًا من خُزَاعَةَ يَتَخَبَّر له خَبَرَ قُرَيْشٍ» أَي يَتَعَرَّف ويَتَتَبَّع. يقال: تَخَبَّر الخَبَرَ واستَخْبَرَ، إِذا سَأَل عن الأَخبار ليَعْرِفَها. وخَبَّره تَخْبِيرًا: أَخْبَرَه. يقال: اسْتَخْبَرْتُه فأَخْبَرَنِي وخَبَّرَني.
وخَبْرِينُ، كقَزْوِينَ: قرية بِبُسْتَ. ومنها أَبُو عَليّ الحُسَيْن بْنُ اللَّيْث بن فُدَيْك الخَبْرِينِيّ البُسْتِيّ، من تاريخ شِيرَازَ.
والمخْبُورُ: الطَّيِّب الإِدَامِ، عن ابْنِ الأَعْرابِيّ؛ أَي الكَثِيرُ الخُبْرَةِ؛ أَي الدَّسم.
وخَبُورٌ، كصبُورٍ: الأَسَدُ.
وخَبِرَةُ، كنَبِقَة: ماءٌ لِبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ في حِمَى الرَّبذَةِ، وعنده قَلِيبٌ لأَشْجَعَ.
وخَبْرَاءُ العِذْقِ: موضع بالصَّمَّانِ، في أَرْضِ تَمِيم لِبَنِي يَرْبُوع.
والخَبَائِرَةُ مِن وَلَد ذِي جَبَلَة بْنِ سَواءٍ، أَبُو بَطْن من الكُلَاع، وهو خَبَائِرُ بْنُ سَوَاد بنِ عَمْرِو بْنِ الكلاع بن شَرَحْبِيل. مِنْهُم أَبُو عَلِيّ يُونُس بْن ياسِر بن إِيَادٍ الخَبَائِرِيّ، روى عنه سَعِيدُ بْنُ كثير بن عُفَيْر، في الأَخبار. وسُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ أَبو يَحْيَى الخَبَائِرِيّ، تَابِعيٌّ مِنْ ذِي الكَلَاعِ، عن أَبَي أُمَامَةَ، وعنه مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وعَبْدُ الله بْنُ عَبدِ الجَبَّارِ الخَبَائِرِيُّ الحِمْصيّ، لَقَبُه زُرَيْق، عن إِسْمَاعِيل بنِ عَيّاش، وعنه مُحَمَّد بنُ عَبْد الرحمن بن يُونُس السّرّاج، وأَبُو الأَحْوَص، وجَعْفَرٌ الفِرْيَابيّ، قالَه الدَّارَقُطْنِيّ.
وقَوْلُهم: لأَخْبُرَنَّ خَبَرَكَ، هكذا هو مَضْبُوطٌ عِنْدَنَا محرّكةً: وفي بعْضِ الأُصول الجَيِّدة بضَمٍّ فَسُكُون؛ أَي لأَعْلَمَنَّ عِلْمَك. والخُبْرُ والخَبَرُ: العِلْم بالشَّيْءِ، والحَدِيثُ الّذِي رَوَاه ابُو الدَّرْدَاءِ وأَخْرَجَه الطَّبَرانِيّ في الكَبِير، وأَبُو يَعْلَى في المُسْنَد «وَجَدْتُ النَّاسَ اخْبُرْ تَقْلَهِ» أَي وَجَدْتُهُم مَقُولًا فِيهِم هَذا القَوْلُ. أَي مَا مِنْ أَحَد إِلَّا وهو مَسْخُوطُ الفِعْلِ عِنْدَ الخِبْرَة والامْتِحانِ، هكذَا في التَّكْمِلة، وفي اللِّسَانِ والأَساسِ وتَبِعَهُم المُصَنِّفُ في البَصَائِر: يُرِيدُ أَنَّك إِذَا خَبَرْتَهُم قَلَيْتَهُم؛ أَي أَبْغَضْتَهم، فأَخْرَجَ الكلامَ علَى لَفْظِ الأَمْرِ، وَمَعْنَاه الخَبَر.
وأَخْبَرْتُ اللِّقْحَةَ: وَجدْتُهَا مَخْبُورَةً؛ أَي غَزِيرَةً، نقله الصَّاغانِيّ كأَحْمَدْته: وَجَدْتُه مَحْمُودًا.
ومُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ الخَابِرِيُّ، مُحَدِّثٌ، عن أَبي يَعْلَى عَبْدِ المُؤْمن بْنِ خَلَف النَّسَفِيّ، وعنه عَبْدُ الرَّحِيم بنُ أَحمدَ البُخَارِيّ.
* ومما يُسْتَدْرَك عليه:
الخَبِير مِن أَسْمَاءِ الله عَزَّ وجَلَّ: العالِمُ بِما كَانَ وبِمَا يَكُون. وفي شَرْح التِّرْمَذِيّ: هو العَلِيم ببَواطِنِ الأَشْيَاءِ.
والخَابِرُ: المُخْتَبِرُ المُجَرِّب.
والخَبِيرُ: المُخْبِر.
ورجلٌ مَخْبَرانِيٌّ: ذو مَخْبَرٍ، كما قالوا: مَنْظَرَانِيّ: ذُو مَنْظَرٍ.
والخَبْرَاءُ: المُجَرَّبَة بالغُزْرِ.
والخَبِيرُ: الزَّرْعُ.
والخَبِيرُ: الفَقِيه، والرَّئِيسُ.
والخَبِير: الإِدَام، والخَبِيرُ: المَأْدُومُ: ومنهحَدِيثُ أَبي هُرَيْرَة: «حينَ لا آكُل الخَبيرَ». وجَمَلٌ مُخْتَبِرٌ: كَثيرُ اللَّحْمِ. ويقال: عليه الدَّبَرَى وحُمَّى خَيْبَرى. وحُمَّى خَيْبَرَ، مُتَنَاذَرَةٌ، قال الأَخْنَس بْنُ شِهَاب:
كَمَا اعْتَادَ مَحْمُومًا بخَيْبَرَ صالِبُ
والأَخْبَارِيّ المُؤَرّخ، نُسِب للفْظ الأَخْبَار، كالأَنْصَارِي والأَنْماطي وشِبْههما. واشْتَهَر بها الهَيْثَم بنُ عَديّ الطَّائيّ.
والخَبَائرَةُ: بَطْنٌ من العَرَب، ومَساكنُهُم في جِيزةِ مِصْر.
ومن أَمْثَالهم: «لا هُلْكَ بوَادِي خبرٍ» بالضَّمّ.
والخَبِيرَة: الدَّعْوَةُ على عَقِيقَة الغُلام، قاله الحَسَنُ بنُ عَبْد الله العَسْكَرِيّ في كتاب «الأَسْمَاء والصِّفات».
والخَيَابِرُ: سَبْعَةُ حُصُونٍ، تقدَّم ذِكرُهُم.
وخَيْبَرِيّ بن أَفْلَت بن سِلْسِلَة بن غَنْم بن ثَوْب بن مَعْن، قبيلة في طَيِّئ، منهم إِياسُ بنُ مَالِك بنِ عَبْدِ الله بن خَيْبَرِيّ الشاعر، وله وِفَادَة، قاله ابنُ الكَلْبيّ. وخَيْبَرُ بنُ أُوَام بن حَجْوَر بن أَسْلم بن عَلْيَانَ: بَطْن من هَمْدَان.
وخَيْبَر بنُ الوَلِيد، عن أَبيه عن جَدِّه عن أَبي موسى، ومُدْلِجُ بنُ سُوَيْد بن مَرْثَد بن خَيْبَرِيّ الطَّائيّ، لقَبُه مُجِيرُ الجَرادِ. والخَيْبرِيّ بنُ النُّعمان الطائِيّ: صحابيّ. وسِمَاكٌ الإِسرائِيلِيُّ الخَيْبَرِيُّ، ذَكَره الرُّشاطِيّ في الصَّحَابَة.
وإِبْراهِيمُ بنُ عبدِ الله بْنِ عُمَر بن أَبي الخَيْبَرِيّ القَصَّار العَبْسِيّ الكُوفِيّ، عن وَكِيع وغيرِه. وجَمِيل بن مَعْمَر بنِ خَيْبَرِيّ العُذْرِيّ الشَّاعِرُ المَشْهُور.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
239-تاج العروس (عفر)
[عفر]: العَفَر، مُحَرَّكةً: ظاهِرُ التُّرَابِ، وقد يُسكَّن، ومِثْلُه في الأَساسِ. وقال ابنُ دُرَيد: العَفْرُ، بالفَتْح: التُّرَاب، مِثْلُ العَفَر بالتَّحرِيك. ويقال: «ما عَلَى عَفَر الأَرْضِ مِثْلُه»؛ أَي ما عَلَى وَجْهِها. الجمع: أَعْفَار.والعَفَر: أَوّلُ سَقْيَةٍ سُقِيَها الزَّرْعُ ثم يُتْرَكُ أَيّامًا لا يُسْقَى فِيها حَتَّى يَعْطَشَ ثم يُسْقَى فَيَصْلُحُ عَلَى ذلك، وأَكْثرُ ما يُفْعَل ذلك بخِلْف الصَّيْفِ وخَضْراواتِه، وكذلك النَّخْل؛ لُغَةٌ يَمَانِيَة. وقال أَبو حنيفة: عَفَرَ الناسُ يَعْفِرُون عَفْرًا، إِذا سَقَوا الزَّرْعَ بَعْد طَرْحِ الحَبّ. والعَفَرُ: السُّهَام، كغُرابٍ، الَّذي يُقَال له: مُخَاطُ الشَّيْطَانِ، ويكونُ من الشَّمْسِ أَيضًا، كذا قاله الصاغانِيّ.
وعَفَرَه في التُّرَابِ يَعْفِرُه، بالكَسْر، عَفْرًا، وعَفَّرَهُ، تَعْفِيرًا، فانْعَفَرَ وتَعَفرَّ: مَرَّغَهُ فيه أَوْ دَسَّهُ. وفي حديثِ أَبِي جَهْلٍ: «هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكم؟» يُرِيد به سُجُودَهُ في التُّرابِ؛ ولِذلِكَ قال في آخِرِه: لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِه، أَو لأُعفِّرَنَّ وَجْهَه في التُّراب» يريد إِذْلالَه.
ويُقَال: هو مُنْعَفِرُ الوَجْهِ في التُّرابِ، ومُعَفَّرُه.
والمَعْفورُ: المُتَرَّبُ المُعَفَّر بالتُّرابِ. وفي قصيد كَعْبٍ:
يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغامَيْنِ عَيْشُهُما *** لَحْمٌ مِنَ القَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَاديلُ
وعَفَرَهُ: ضَرَبَ به الأَرْضَ، عَفْرًا، كاعْتَفَرَهُ، يُقَال: أَخَذَه الأَسَدُ فاعْتَفَرَه؛ أَي افْتَرَسَهُ وضَرَبَ به الأَرضَ فمَغَثَه.
والأَعْفَرُ مِنَ الظِّباءِ: ما يَعْلُو بَيَاضَه حُمْرَةٌ، قِصارُ الأَعْنَاقِ، وهي أَضْعَفُ الظِّبَاءِ عَدْوًا، أَو الّذِي في سَرَاتِه حُمْرَةٌ وأَقْرَابُهُ بِيضٌ. وقال أَبو زيد: من الظِّبَاءِ العُفْرُ، وقيل: هي التي تَسْكُنُ القِفَافَ وصَلَابَةَ الأَرْضِ، وهي حُمْرٌ. أَو الأَعْفَرُ: الأَبْيَضُ، ولَيْسَ بالشَّدِيدِ البَيَاضِ الناصِعِ، وهِيَ عَفْرَاءُ وهُنَّ عُفْرٌ، عَفِرَ، كفَرِحَ عَفَرًا، والاسْمُ العُفْرَةُ، بالضَّمّ، وهي غُبْرَةٌ في بَيَاضٍ. وفي الحديث: «أَنَّه كان إِذا سَجَدَ جافَى عَضُدَيْه حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَه عُفْرَةَ إِبْطَيْه».
قال أَبو زيدٍ والأَصمعيّ: العُفْرَةُ: بَيَاضٌ، ولكِنْ لَيْسَ بالبَيَاضِ الناصِعِ الشَّدِيد، ولكِنَّه كلَوْنِ عَفَرِ الأَرْض، وهُوَ وَجْهُها. ومنه قيلَ للظِّباءِ: عُفْرٌ، إِذا كانَت أَلْوَانُهَا كذلك، وإِنّمَا سُمِّيَتْ بعَفَرِ الأَرْضِ.
والأَعْفَرُ: الثَّرِيدُ المُبَيَّضُ مأْخوذ من العُفْرة، وهي لَوْنُ الأَرْضِ وقد تَعافَرَ. ومن كَلامِهِم: حَتَّى تَعَافَرَ مِن نَفْثِها؛ أَي تَبْيَضّ.
والعَفْراءُ: البَيْضاءُ. وفي حديث أَبي هُرَيْرَة في الأُضْحِيَّة: «لَدَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلىَّ من دَمِ سَوْداوَيْن».
وماعِزَةٌ عَفْرَاءُ: خالِصَةُ البيَاضِ. وأَرْضٌ عَفْرَاءُ: بَيْضَاءُ لَمْ تُوطَأْ. وفي الحدِيث: «يُحْشَرُ الناسُ يَوْمَ القَيَامَة على أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ».
وعَفْرَاءُ: اسمُ أَرْضٍ بِعَيْنِهَا. وعَفْرَاءُ: قَلْعَةٌ بفِلَسْطِين الشَأْمِ.
وعَفَرَاءُ اسمُ امْرَأَةٍ.
وقَصْرُ عَفْرَاءَ: موضع بالشامِ قُرْبَ نَوَى.
والعُفْر، بالضّمّ، من لَيالِي الشَّهْر: السابِعَةُ والثامِنَةُ والتَّاسِعَةُ، وذلك لِبَيَاضِ القَمَر. وقال ثعلب: العُفْر منها: البِيضُ، ولم يُعَيِّن. وقال أَبو رزْمةَ:
ما عُفُرُ اللَّيَالِي كالدَّ آدِي *** ولا تَوَالِي الخَيْلِ كالهَوَادي
وفي الحديث: «ليس عُفْرُ اللّيَالِي كالدَّآدِي»؛ أَي اللَّيَالِي المُقْمِرَة كالسُّودِ. وقِيلَ: هو مَثَلٌ. والعُفْرُ، بالضّمّ كذا يُفْهَمُ من سِيَاقِه ـ ورأَيْتُ في كتاب ابنِ القَطَّاع: عَفُرَ، بالضمِّ، عَفَارَةً فهو عَفِرٌ، بالكَسْر: شَجُعَ وجَلُد، فليُنْظَر ـ: الشُّجَاعُ الجَلْدُ. وقِيلَ: الغَلِيظُ الشَّدِيدُ، قِيل: ومنه أَسَدٌ عَفَرْنَى، الجمع: أَعْفَارٌ وعِفَارٌ، الأَخِيرُ بالكَسْر. قال:
خَلَا الجَوْفُ من أَعْفَارِ سَعْدٍ فَمَا بِهِ *** لمُسْتَصْرِخٍ يَشْكُو التُّبُولَ نَصِيرُ
والعُفْرُ: رِمَالٌ بالبَادِيَةِ بِبِلادِ قَيْسٍ، كذا في التَّكْمِلَةِ، وفي المعجم: بَلَدٌ لِقَيْسٍ بالعالِيَة.
وعَفَّرَ تَعْفِيرًا: خَلَطَ سُودَ غَنَمِه بعُفْر، ومنهالحَدِيثُ: «أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَيْهِ قِلَّةَ نَسْلِ غَنَمِهَا وإِبلِهَا ورَسَلِهَا، وأَنَّ مالَهَا لا يَزْكُو. فقال: ما أَلْوَانُهَا؟ قالت: سُودٌ. فقال: عَفِّرِي» أَي اخْلِطيها بغَنَمٍ عُفْرٍ، وقيل: أَي اسْتَبْدِلي أَغْنَامًا بِيضًا، فإِنَّ البَرَكَةَ فيها. وفي الأَساسِ: وهُذَيْلٌ مُعْفِرُون؛ أَي غَنمُهم عُفْرٌ، وليس في العَرَبِ قَبِيلَةٌ مُعْفِرَةٌ غَيْرُها.
وعَفَّرَت الوَحْشِيَّةُ وَلَدَهَا تُعَفِّرُه: قَطَعَتْ عنه الرَّضاعَ يَوْمًا أَو يَوْمَيْن ثُمّ إِذا خافَتْ أَن يَضُرَّه ذلك رَدَّته إِلى الرَّضاع أَيّامًا ثمّ قَطَعَتْه عن الرَّضَاعِ إِرادَةً للفِطَامِ، تَفْعَل ذلك مَرّاتٍ حتَّى يَسْتَمِرّ عليه وهذا هو التَّعْفِيرُ. والوَلَدُ مُعَفَّر. وحَكاهُ أَبو عُبَيْد في المَرْأَةِ والناقَة، قال أَبو عُبَيْد: والأُمُّ تَفْعَلُ مِثْلَ ذلك بوَلَدِها الإِنْسِيّ، وأَنشَدَ بَيْتَ لَبِيدٍ يَذْكُرُ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً ووَلَدَهَا:
لِمْعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ *** غُبْسٌ كَوَاسِبُ ما يُمَنُّ طَعامُها
قال الأَزهريّ: وقِيل في تَفْسِير المُعَفَّر، في بيت لَبِيد: إِنّه وَلَدُهَا الذي افْتَرَسَهُ الذِّئابُ الغُبْسُ، فَعفَّرَتْه في التُّرابِ؛ أَي مَرَّغَتْه، قال: وهذا عندي أَشْبَهُ بمعنَى البَيْتِ. قال الجَوْهريّ: والتَّعْفِيرُ في الفِطَام: أَنْ تَمْسَح المَرْأَةُ ثَدْيَها بشَيْءٍ من التُّراب تَنْفِيرًا للصَّبِيّ.
واليَعْفُورُ: ظَبْيٌ بِلَوْنِ العَفَر، وهو التُّرَاب، أَو عامٌّ في الظِّبَاءِ، وتُضَمُّ الياءُ، والأُنْثَى يَعْفُورَةٌ. وقِيلَ: اليَعْفُورُ: الخِشْفُ. قال ابنُ الأَثِير: وهو وَلَدُ البَقَرَةِ الوَحْشِيَّةِ. وقيل: تَيْسُ الظِّبَاءِ. والجمع اليَعافِيرُ، والياءُ زائدةٌ. واليَعْفُور أَيضًا: جُزْءٌ من أَجْزاءِ اللَّيْلِ الخَمْسَة التي يُقالُ لها: سُدْفَةٌ وسُتْفَةٌ وهَجْمَةٌ ويَعْفُورٌ وخُدْرَةٌ. وقولُ طَرفة:
جازَتِ البِيدَ إِلىَ أَرْحُلِنَا *** آخِرَ اللَّيْلِ بيَعْفُورٍ خَدِرْ
أَراد بشَخْصِ إِنسان مِثْلِ اليَعْفُورِ، فالخَدِرُ، على هذا، المُتخَلِّفُ عن القَطِيع. وقيل: أَراد باليَعْفُور الجُزْءَ من أَجْزَاءِ اللَّيْل، فالخَدِرُ، على هذا، المُظْلِمُ، كذا في اللّسَان.
ويَعْفُورُ، بلا لامٍ: حمارٌ للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم صارَ إِلَيْه من خَيْبَر، قِيلَ: سُمِّيَ يَعْفُورًا لكَوْنِه من العُفْرَة، كما يُقَال في أَخْضَر: يَخْضُور، وقيل: سُمِّيَ به تَشْبِيهًا في عَدْوِه باليَعْفُورِ، وهو الظَّبْيُ. وحَكَى الأَزْهَرِيُّ عن ابن الأَعْرَابِيّ. يُقَال لِلْحِمار الخَفِيفِ: فِلْوٌ. ويَعْفُورٌ وهِنْبِرٌ، وزِهْلِقٌ.
يُرْوَى أَنّه أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأَنَّه مِنْ نَسْلِ حِمَارِ العُزَيْرِ، وأَنّه آخِرُ ذُرِّيَّتِه. وقد تَحَقَّق أَنّه لمّا مات النبيّ صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم تَردَّى في بِئْرٍ، فماتَ حُزْنًا على النبيّ صَلَّى الله تَعَالَى عليه وسلَّم، كما في شُرُوح الشِّفاءِ وغيرِهَا. ونَقَلَ خُلاصة كلامِهم الدَّمِيرِيّ في حَياةِ الحَيَوان، أَو هو عُفَيرٌ كزُبَيْرِ كما وَرَد في الحَدِيث، قال شَيْخُنا: هذا الكَلامُ صَرِيحٌ في أَنّ حِمَارَهُ صلَّى الله تعالَى عليه وسلَّم اختُلِفَ في اسْمه، فقيل: يَعْفُورٌ، وقيل: عُفَيْرٌ. وهذا كلامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ بل كِلاهُمَا كانا حِمَارَيْنِ له صلَّى الله تعالَى عليه وسلّم. فقد سَبَقَ أَنَّ يَعْفُورًا صارَ إِليه صلَّى الله تعالَى عليه وسلَّم من خَيْبَر، وعُفَيْرٌ أَهْدَاه له صلى الله عليه وسلم المُقَوْقِسُ.
وقيل: إِنّ يَعْفُورًا هو الّذِي أَهْدَاهُ له المُقَوْقِسُ وعُفَيْرًا أَهْدَاهُ له فَرْوَةُ بنُ عَمْرٍو، وقِيل: عُفَيْرٌ هو الّذِي أَهْدَاه له المُقَوْقِسُ، ويَعْفُورٌ أَهداه له فَرْوَةُ بن عَمْرو. وقَوْلُ عَبْدُوس إِنَّهما اسْمَانِ لِمُسَمًّى واحِد، وقَوْلُ غَيْرِه إِنّه واحِدٌ اختُلِفَ في اسْمِه، قد رَدُّوه وتَعَقَّبوه. وأَغْرَبَ القاضِي عِياضٌ رَحِمَه الله، فضَبَطَ عُفَيْرًا بالغَيْن المُعْجَمَة، وصَرَّحُوا بتَغْلِيطهِ في ذلك انتهى.
وفي اللّسانِ: عُفَيْرٌ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ لأَعْفرَ، من العُفْرَة، وهي الغُبْرَةُ ولَوْن التُّراب، كما قالُوا في تَصْغِيرِ أَسْوَد: سُوَيْد، وتَصْغِيرُه غَيْرَ مُرَخَّمٍ أُعَيْفِر كأُسَيْوِد.
ومن المَجاز: رَجُلٌ عِفْرٌ، بالكَسْر، وعِفْرِيَةٌ ونِفْرِيَةٌ، وعِفْرِيتٌ، بكَسْرِهِنّ، بَيِّنُ العَفَارَةِ، بالفَتْح، وعِفِرٌّ، كطِمِرٍّ، وهذه عن شَمِرٍ، وعِفِرِّيٌّ، بالكسر والياءِ المُشَدَّدَةِ، ونقله الصاغانيّ، وعُفَرْنِيَةٌ، كقُذَعْمِلَةٍ، نَقَلَه الصاغانيّ، أَيضًا وعُفَارِيَةٌ، بالضَّمّ، هو في اللّسان، وذكره الزمخشريّ أَيضًا، بَيِّنُ العَفَارَةِ، بالفَتْح وهو الخُبْثُ والشَّيْطَنَة، وعِفْرِينٌ وعِفِرِّينٌ، بكَسْرِهِما، عن اللّحْيَانيِّ، وَعَفَرْنَى، بالفَتْح، عن اللَّيْث؛ أَي خَبِيثٌ مُنْكَرٌ داهٍ شِرِّيرٌ مُتَشَيْطِنٌ. قال جَرِيرٌ:
قَرَنْتُ الظالِمِين بمَرْمَرِيسٍ *** يَذِلُّ لها العُفَارِيَةُ المَرِيدُ
قال الخَلِيلُ: شَيْطَانٌ عِفْرِيَةٌ وعِفْرِيتٌ، وهم العَفارِيَةُ والعَفَارِيتُ، إِذا سَكَّنْتَ الياءَ صَيَّرت الهاءَ تاءً، وإِذَا حَرَّكْتَها فالتاءُ هاءٌ في الوَقْف. قال ذُو الرُّمَّةِ:
كأَنَّه كَوْكَبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ *** مُسَوَّمٌ في سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
والعِفْرِيَةُ: الداهِيَةُ. وقال الفَرّاءُ: مَنْ قال عِفْرِيَة فجَمْعُه عَفَارٍ، كقَوْلهم في جَمْع الطاغُوتُ: طَوَاغِيتُ وطَواغٍ ومَن قال: عِفْرِيتٌ، فجمعه عَفَارِيتُ. وقال غَيْرُه: يقال: فلان عِفْرِيتٌ نِفْرِيتٌ، وعِفْرِيَةٌ نِفْرِيَةٌ. وفي الحديث: «إِنّ الله تَعالَى يُبْغِضُ العِفْرِيَةَ النِّفْرِيَةَ الَّذِي لا يُرْزَأُ في أَهْل ولا مَال» قيل: هو الدّاهِي الخَبِيثُ الشِّرِّيرُ، ومنه العِفْرِيتُ. وقيل: هو الجَمُوعُ المَنُوعُ. وقيل: الظَّلُوم. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: العِفْرُ والعِفْرِيَةُ والعِفْرِيتُ والعُفَارِيَةُ: القَوِيُّ المُتَشَيْطِن الذي يَعْفِرُ قِرْنَه، والياءُ في عِفْرِيَةٍ وعُفَارِيَة للإِلحاق بشِرْذِمَةٍ وعُذَافِرَةٍ، والهَاءُ فيهما للمبالغة، والتاءُ في عِفْرِيت للإِلحاق بقِنْدِيل. وممّا وَضَعَ به ابنُ سِيدَه من أَبِي عُبَيْدٍ القَاسِم بن سَلّام قَوْلُه في المُصَنَّف: العِفْرِيَةُ مثال فِعْلِلَة، فجَعَل الياءَ أَصْلًا، والياءُ لا تكونُ أَصلًا في بَنَاتِ الأَرْبَعَةِ. وفي التنزيل: {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ} قال الزَّجّاجُ: العِفْريتُ منَ الرِّجَال، وكذا العِفْرِينُ، وتُشَدَّدُ راؤُه مع كَسْرِ الفَاءِ، حكاهما اللِّحْيَانِيّ: النافِذُ في الأَمْرِ المُبَالغُ فيه مع دَهاءٍ وخُبْث. وقال المُصَنّف في البصائر: العِفْرِيتُ من الجِنّ: العارِمُ الخَبِيثُ، ويُسْتَعْمَل في الإِنسان اسْتِعَارةَ الشَّيْطَانِ له، يُقَال: عِفْرِيتٌ نِفْرِيتٌ، إِتْبَاعًا.
وقد تَعَفْرَتَ، وهذا ممَّا تَحَمَّلُوا فيه تَبْقِيَةَ الزائد مع الأَصْلِ في حالِ الاشْتِقَاقِ تَوْفِيَةً للمَعْنَى ودَلَالةً عليه.
وهي عِفْرِيتَةٌ حكاه اللّحْيَانيّ. وقال شَمِرٌ: امْرَأَةٌ عِفِرَّةٌ، ورَجُلٌ عِفِرٌّ، بتشديد الراءِ، ورِجَالٌ عِفِرُّونَ. وأَنشد في صفةِ امرأَةٍ غَيْرِ مَحْمُودَةِ الصِّفَة:
وضِبِرَّةٍ مِثْلِ الأَتَان عِفِرَّةٍ *** ثَجْلَاءَ ذاتِ خَوَاصِرٍ ما تَشْبَعُ
ويُقَال: أَسَدٌ عِفْرٌ، بالكَسْر، وعِفْرِيَةٌ، كزِبْرِجَةٍ، وعِفْرِيتٌ وعُفَارِيَةٌ، وهذه بالضَّمّ، وعِفِرٌّ، كطِمِرٍّ وعَفَرْنَى، فَعَلْنَى، والنون فيه للإِلحاق بسَفَرْجَل: شَدِيدٌ قَوِيٌّ عَظِيمٌ، ولَبُؤَةٌ عَفَرْنَى، كذلك، للذَّكَرِ والأُنْثَى؛ أَي شَدِيدَةٌ، وقيل: أَسَدٌ عَفَرْنَى، ولَبُؤةٌ عَفَرْناةٌ، إِذا كانا جَريئَيْن، إِمّا أَنْ يَكُونَ من العَفَرِ الذي هو التُّرَاب، أَو من العَفْرِ الذي هو الاعْتِفَارُ، وإِمّا أَنْ يكونَ من القُوَّةِ والجَلَد.
وعِفِرِّينُ، بالكَسْر وتشديد الراءِ: مَأْسَدَةٌ. وقال الأَصْمَعِيُّ وأَبو عَمْرٍو: اسمُ بَلَد، نقله صاحبُ المُحْكَم ويقال: «إِنّه لأَشْجَعُ من لَيْث عِفِرِّينَ»، هكذا قال الأَصْمَعِيُّ وأَبو عَمْرو، في حِكايَةِ المَثَلِ، واخْتَلفَا في التَّفْسِير: فقال أَبو عَمْرٍو: هو الأَسَد. ولَيْثُ عِفِرِّينَ: دُوَيْبَةٌ يكونُ مَأْواها التُّرَاب السَّهْل في أُصولِ الحِيطانِ تُدوِّرُ دُوّارَةً ثمّ تَنْدَسّ في جَوْفِها، فإِذا هِيجَت رَمَتْ بالتُّراب صُعُدًا، وهو من المُثُل التي لم يَجِدْهَا سِيْبَوَيه، أَو لَيْثُ عِفِرِّينَ: دَابَّةٌ كالحِرْباءِ يَتَعَرَّض للرَّاكِبِ، قاله أَبو عمرو. وروَى أَبو حاتِم عن الأَصْمَعيّ: يَتَحَدَّى الراكِبَ ويَضْرِبُ بذَنَبِه.
ولَيْثُ عِفِرِّينَ: الرَّجُلُ الكامِلُ ابنُ الخَمْسِين. ويقال: ابنُ عَشْرٍ لَعّابٌ بالقُلِينَ، وابنُ عِشْرِينَ باغِي نِسِينَ، وابنُ الثَّلاثِينَ أَسْعَى السّاعِينَ، وابنُ الأَرْبَعِينَ أَبْطَشُ الأَبْطَشِين، وابنُ الخَمسين لَيْثُ عِفِرِّينَ وابن السِّتِّين مُؤْنِسُ الجَلِيسِينَ، وابْنُ السَّبْعِين أَحْكَمُ الحاكِمِينَ، وابنُ الثَّمانِينَ أَسْرَعُ الحاسِبِينَ، وابنُ التِّسْعِينَ واحِدٌ الأَرْذَلِينَ، وابنُ المائةِ لاجا، ولاسا»، يقولُ: لا رَجُلٌ ولا امْرَأَةٌ، ولا جِنٌّ ولا إِنْسٌ. ولَيْثُ عِفِرِّينَ أَيضًا: الضابِطُ القَوِيُّ، وهو مَجازٌ.
وعِفْرِيَةُ الدِّيكِ، بالكَسْرِ، وعَفْرَاهُ، بالفَتْح: رِيشُ عُنُقِهِ، كالعُفْرَة، بالضَّمّ، ويُقَال: العِفْرِيَةُ مِنْكَ: شَعرُ القَفَا، ومِنَ الدَّابَّةِ: شَعَرُ الناصِيَةِ وقِيلَ هِيَ من الإِنْسَانِ شَعرُ الناصِيَة، ومن الدَّابَّة شَعرُ القَفَا، وقيل: العِفْرِيَة: الشَّعراتُ النابتة في وَسَطِ الرَّأْسِ يَقْشَعْرِرْنَ عِنْدَ الفَزَعِ، كالعِفْرات بالكَسرِ، والعُفَرْنِيَةِ كبُلَهْنِيَة، الأَخير عن الصاغانيّ. وقيل: العُفْرَةُ ـ بالضمّ ـ والعِفْرِيَةُ والعِفْراةُ، بكسرهما: شَعرَةُ القَفا من الأَسَدِ والدِّيك وغَيْرِهما، وهي التي يُردِّدُهَا إِلى يَافُوخِه عند الهِرَاشِ، يقال: «جاءَ فُلانٌ نافِشًا عِفْرِيَتَهْ»، إِذا جاءَ غَضْبَانَ. قال ابنُ سِيدَه: يقال: جاءَ ناشِرًا عِفْرِيَتَهُ وعِفْرَاتَهُ؛ أَي ناشِرًا شَعرَهُ من الطَّمَعِ والحِرْص.
والعِفْرُ، بالكَسْر: ذَكَرُ الخَنَازِيرِ الفَحْلُ، ويُضَمّ، أَوْ عامٌّ، أَو وَلَدُها.
ومن المَجاز: العُفُرُ، بضَمَّتَيْن: الحِينُ وطُولُ العَهْدِ، أَو الشَّهْرُ، أَو البُعْدُ، أَو قِلّةُ الزِّيارة. وبكُلٍّ من ذلك فُسِّر قولُهم: فلانٌ ما يَأْتِينا إِلَّا عن عُفُر، وما أَلْقَاهُ إِلّا عَنْ عُفُرٍ.
ويُسَكَّنُ. قال جَرِيرٌ:
دِيَارَ جَميعِ الصَّالحِينَ بذِي السِّدْرِ *** أَبِينِي لَنا إِنّ التَّحِيَّةَ عن عُفْرِ
وأَنشد ابنُ الأَعْرَابِيّ:
إِنَّ أَخْوالي جَمِيعًا مِنْ شَقِرْ *** لَبِسُوا لِي عَمَسًا جِلْدَ النَّمِرْ
فلَئنْ طَأْطَأْتُ فِي قَتْلِهِمُ *** لَتُهَاضَنَّ عِظَامِي عَنْ عُفُرْ
أَي عن بُعدٍ من أَخْوَالِي، لأَنّهُم وإِنْ كانُوا أَقْرِبَاءَ فلَيْسُوا في القُرْبِ مِثْلَ الأَعْمامِ. قال ابنُ سِيدَه: وأُرَى البَيتَ لِضَبَّابِ بن واقِدٍ الطُّهَوِيّ. وأَما قولُ المَرّار:
على عُفُرٍ منْ عَنْ تَنَاءٍ وإِنّمَا *** تَدَانَى الهَوَى مِنْ عَنْ تَنَاءٍ وعن عُفْرِ
وكان هَجَرَ أَخاهُ في الحَبْس بالمَدِينة، فيقولُ: هَجَرْتُ أَخِي على عُفْرٍ؛ أَي على بُعْد من الحَيِّ والقَرَابَاتِ؛ أَي ونحن غُرَباءُ، ولم يكن يَنْبَغِي لِي أَنْ أَهْجُرَه، ونَحْنُ على هذه الحَالَة.
ويقال: وَقَعَ في عَافُورِ شَرٍّ، وعَفَارِ شَرٍّ؛ أَي عاثُورِه، عن الفَرّاءِ. وقِيلَ: هي على البَدَل؛ أَي في شِدَّه.
والعَفَارُ، كسَحَابِ: تَلْقِيحُ النَّخْلِ وإِصْلاحُه. وعَفَرَ النَّخْلَ: فَرَغَ من تَلْقِيحه، وقد رُوِيَ بالقَاف. قال ابنُ الأَثير: وهو خَطأٌ. وقال ابنُ الأَعرابِيّ: العَفَارُ: أَنْ يُتْرَكَ النَّخْلُ بَعْدَ السَّقْي أَرْبَعِين يَوْمًا لا يُسْقَى لئلّا يَنْتَفِضَ حَمْلُها، ثمّ يُسقَى ثمّ يُتْرَك إِلى أَنْ يَعْطَشَ، ثمّ يُسْقَى.
قال: وهو من تَعْفِيرِ الوَحْشِيَّة وَلَدَها إِذَا فَطَمَتْه. ويقال: كُنَّا في العَفَارِ، وهو بالفَاءِ أَشْهَرُ منه بالقَاف.
والعَفَارُ: شَجَرٌ يُتَّخَذُ منه الزِّنادُ، يَسَوَّى من أَغْصَانِه فيُقْتَدَحُ به. قال أَبو حنيفة: أَخبرني بعضُ أَعْراب السَّرَاة أَنّ العَفَار شَبِيهٌ بشجرة الغُبَيْرَاءِ الصغيرة، إِذَا رَأَيْتَها من بَعِيد لم تَشُكَّ أَنَّها شَجَرَةُ غُبَيْراءَ، ونَوْرُهَا أَيضًا كنَوْرِهَا، وهو شجرٌ خَوّارٌ، ولذلك جادَ للزَّنادِ؛ واحِدَتُه عَفَارَةٌ. وقيل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها} إِنّهَا المَرْخُ والعَفَارُ، وهما شَجَرَتانِ فيهما نارٌ ليس في غيرهما من الشَّجَرِ. قال الأَزهريّ: وقد رأَيْتُهما في البادِيَة، والعَرَبُ تَضْرب بهما المَثَلَ في الشَّرَف العالِي فتقولُ: «في كُلِّ الشَّجَرِ نارٌ، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ». أَي كثُرَتْ فيهما على ما فِي سائر الشَّجَرِ، واسْتَمْجَدَ: اسْتَكْثَر، وذلك أَنّ هاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْن من أَكْثَرِ الشَّجَرِ نارًا، وزِنَادُهما أَسْرَعُ الزِّنادِ وَرْيًا، والعُنّاب من أَقَلِّ الشَّجَرِ نارًا. وفي المَثَل: «اقْدَحْ بعَفَار أَو مَرْخ، ثمّ اشْدُدْ إِنْ شِئْتَ أَوْ أَرْخ، وقد ذُكِر في معروف ر خ. وفي معروف الجمع: بلد [و] جَمْعٌ عَفارةٍ.
بالهَاءِ، وكان الأَنْسَبُ بالصطلاحه: وهي بِهَاءٍ، أَو واحِدتُه بِهاءٍ، كما لا يَخْفَى.
وعَفَارٌ: موضع بَيْنَ مَكّةَ والطائِفِ، وهُنَاك صَحِبَ مُعَاوِيَةُ وائِلَ بن حُجْرٍ. فقال: أَتُرْدِفُنِي؟ قال: لَسْتَ من أَرْدَافِ المُلُوك.
والعَفِيرُ، كأَمِيرٍ: لَحْمٌ يُجَفَّف على الرّمْلِ في الشّمْسِ.
وتَعْفِيرُه: تَجْفِيفُه كذلك. والعَفِيرُ: السَّوِيقُ المَلْتُوتُ بلا أُدْم. وسَوِيقٌ عَفِيرٌ لا يُلَتُّ بإِدامٍ، كالعَفَارِ، كسَحابٍ.
وكذلك خُبْزٌ عَفِيرٌ وعَفَارٌ: لا يُلَتّ بأُدْمٍ، عن ابن الأَعْرَابِيّ.
يُقَالُ: أَكَلَ خُبْزًا قَفَارًا وعَفَارًا وعَفِيرًا؛ أَي لا شَيْءَ معه.
والعَفَارُ لغةٌ في القَفَارِ، وهو الخُبْزُ بلا أُدْم.
ويُقال: جاءَنا في عُفْرَة البَرْدِ وعُفُرَّتُه، بضَمّهما؛ أَي أَوَّله. وعُفْرَةُ الحَرِّ وعُفُرَّتِه، لغة في أُفُرَّةِ الحرِّ؛ أَي شِدّته.
ونَصْلٌ عُفَارِيٌّ، بالضمّ: جَيِّدٌ.
ومَعَافِرُ، بالفَتْح: د، باليَمَنِ. نَزَلَ فيه مَعَافِرُ بنُ أُدّ؛ قاله الزمخشريّ. ومَعَافِرُ: أَبو حَيٍّ من هَمْدانَ، والمِيمُ زائدة، لا يَنْصرِفُ في مَعْرِفَة ولا نَكِرَةٍ، لأَنّه جاءَ على مِثَال ما لا يَنْصَرِف من الجَمْع. وإِلى أَحَدِهِما أَي البَلَد أَو القَبِيلَة تُنْسَب الثِّيابُ المَعَافِرِيَّةُ، ويُقَال: ثَوْبٌ مَعَافِريٌّ، فتصرِفُه، لأَنّك أَدخلْت عليه ياءَ النِّسْبَة، ولم تَكُنْ في الواحِد. وقال الأَزهريّ: بُرْدٌ مَعَافِريٌّ: منسوب إِلى مَعَافِرِ اليَمَنِ، ثم صار اسمًا لها بِغَيْرِ نِسْبَة، فيُقَال مَعَافِرُ. وقال سِيبَوَيْه: مَعافِرُ بن مُرٍّ. فيما يَزْعُمون، أَخُو تَمِيمِ بنِ مُرٍّ. قال: ونُسِبَ على الجَمْع، لأَنّ مَعَافِرَ اسمٌ لشيْءٍ واحِدٍ، كما تقول لِرَجُلٍ من بني كِلاب أَو من الضِّباب: كِلابِيّ وضِبَابيّ، فأَمّا النَّسَب إِلى الجَمَاعَة فإِنّما تُوقِع النَّسَب عَلَى واحِدٍ كالنَّسَبِ إِلى مَساجِدَ، تقولُ: مَسْجِدِيٌّ، وكذلِك ما أَشْبَهَهُ. ولا تُضَمّ المِيم. وإِنّمَا هو مَعَافِرُ، غير مَنْسُوب.
والمُعَافِرُ، بالضَّمِّ، كما هو في الصحاح: الَّذِي يَمْشِي مع الرُّفَقِ فيَنَالُ فَضْلَهُم. والرُّفَق ـ بالضمّ ففَتْح: جَمْعُ رَفِيقٍ. وفي الأَساس: هو الَّذِي يَمْشِي مع الرِّفاق يَنالُ من فَضْلِهم. ومنه قولُهم: لا بُدّ للمُسَافِرِ، مِنْ مَعُونةِ المُعَافِر، وهو مَجازٌ. وفي اللّسَان: رَجُلٌ مُعَافِرِيّ: يَمْشِي مع الرُّفَقِ، قال ابنُ دُرَيْد: لا أَدْرِي أَعَرَبِيٌّ هو أَمْ لا.
والعَفِيرَةُ، بالفَتْح: دُحْرُوجَةُ الجُعَلِ، نقله الصاغانيّ.
زاد في الأَساسِ: لأَنّه يَعْفِرُها. وهو مَجاز.
والعُفُرَّةُ، بضم العَيْن والفاءِ وتَشْديد الراءِ، والّذي في التَّكْمِلَة: العُفُرّ: الأَخْلاطُ من الناسِ.
والعَفَرْفَرَة: الرَّجُلُ الخَبِيثُ، وهو أَيضًا الأَسَدُ، لِقُوَّتِهِ كالعِفَرْنِ، كهِزَبْرٍ، كذا في التكملَة.
ويقال: كَلامٌ لا عَفَرَ فيه، بالفتْح؛ أَي لا عَوِيصَ فيه، ونَصّ التكملة: وقد جاءَ بكلامٍ لا عَفَرَ له؛ أَي لا عَوِيصَ فيه.
وعُفَارَيَاتٌ، بالضَّمّ وفتح الراءِ: عُقَدٌ بنواحِي العَقِيق بالمدينَة المُشَرَّفة، كذا في التكملة.
وعَفَرْ بَلَا، مُحَرّكة: د، قُرْبَ بَيْسَانَ، هكذا في التَّكملة، ويُوجَد في بعض النُّسَخ: وعَفَرْ: بلاد قُرْب بَيْسانَ. والأُولَى الصَّوابُ.
وعُفَيْرٌ، كزُبَيْرٍ: اسمُ رَجُل وهو تَصْغِير تَرْخِيمِ أَعْفَرَ.
وعُفَيْرٌ: فَرَسٌ كان لجُهَيْنَةَ، ذكره الصاغانيّ.
ومن المَجَازِ: العُفْرُ، بالضم، والمَعْفُورَةُ: السُّوقُ الكاسِدَةُ، الأَخِيرَة نَقَلها الصاغانيّ.
وعَفَارَةُ، بالفَتْح: امْرَأَةٌ سُمِّيَت باسم الشَّجَر، قال الأَعْشَى:
باتَتْ لتَحْزُنَنا عَفَارَهْ *** يا جارَتَا ما أَنْتِ جارَهْ
وسَمَّوا عَفَارًا، كسَحَابٍ، وعُفَيْرًا، كزُبَيْرٍ، ولا يَخْفَى أَنّه مع ما قبله تَكْرارٌ، وعَفْرَاءَ، بالفَتْح مَمْدُودًا. ومنهم مُعَاذٌ ومُعَوِّذٌ وعَوْفٌ بنو الحارِث بن رِفَاعَةَ النَّجَّارِيّ، المَعْرُوف كُلّ منهم بابْنِ عَفْرَاءَ، وهي أُمُّه. وهي عَفْرَاءُ بِنْتُ عُبَيْدِ بنِ ثَعْلَبَةَ النَّجّارِيّة، لها صُحْبَةٌ، وأَوْلادُهَا شَهِدُوا بَدْرًا.
وقال ابنُ دُرَيْدٍ: عُفَيْرَةُ كجُهَيَنَة: اسمُ امْرَأَة، كانت من حُكَماءِ الجَاهِلِيّة، قاله الصاغانيّ.
وعَفّارٌ، ككَتّانٍ، وفي بعض النُّسخ: «كشَدّادٍ»: مُلْقِحُ النَّخْلِ ومُصْلِحُهَا. وقال بعضٌ: إِنَّ الصَّوابَ أَنّه بالتَّخْفِيف، كسَحَابٍ، لأَنّ الجَوْهَرِيّ كذلك ضَبَطَهُ، قال شَيْخُنَا: وهو غَفْلَةٌ عمّا سَبَق للمُصَنِّف، وقد صرَّح به وفسَّرَه بالمَصْدَرِ، كالجَوْهَرِيّ، وهذا زِيادَةٌ على ما في الصحاح، قَصَدَ به بَيانَ الذي يَفْعَلُ ذلِكَ، فهُمَا مُتَغَايِران. انتهى. قُلْتُ: وإِنّمَا جاءَهُم الغَلَطُ من قَوْلِ الجوهريّ: والعَفارُ: لقاحُ النَّخِيل، فَظَنُّوا أَنّه لقاح، ككِتَاب ولَيْسَ كذلك، بل هو لَقّاحُ، كشدّادٍ، بمعنى المُلْقِح، فتَأَمَّل.
ومن المَجازِ: تَعفَّر الوَحْشُ: سَمِنَ، قاله أَبو سَعِيدٍ، وأَنْشَدَ:
ومَجَرِّ مُنتَحِرِ الطَّلِيِّ تَعَفَّرتْ *** فِيه الفِرَاءُ بجِزْعِ وَادِ مُمْكِنِ
قال: هذا سَحابٌ يَمُرُّ مَرًّا بَطِيئًا لِكَثْرَة مائهِ، كأَنَّه قد انْتَحَر لِكَثْرَة مائه. وطَلِيّهُ: مَناتِحُ مائِه، بمنزلة أَطْلاءِ الوَحْشِ. وتَعَفَّرت: سَمِنَت. والعَفَرْناةُ، بالفَتْح: الغُولُ، نقله الصاغانيّ.
واعْتَفَرَهُ اعْتِفَارًا: سَاوَرَهُ وجَذَبَه فضَرَبَ به الأَرضَ. وفي بعض النُّسخ: «شاوَرَه»، بالشين المنقوطة، وهو غَلَطٌ.
* وممّا يُستدرك عليه:
العَفْر، بالفَتْح: الجَذْبُ، وبه فَسَّر أَبو نَصْرٍ قولَ أَبي ذُؤَيْبٍ:
أَلْفَيْتَ أَغْلَبَ مِنْ أُسْدِ المَسَدِّ حَدِي *** دَ النابِ أَخْذَتُهُ عَفْرٌ فتَطْرِيحُ
وقال ابنُ جِنّي: قولُ أَبي نَصْرٍ هو المَعْمُولُ به، وذلك أَنَّ الفاءَ مُرَتِّبَة، وإِنّمَا يكون التَّعْفِيرُ في التُّرَاب بعد الطَّرْح لا قَبْلَه، فالعَفْرُ إِذًا هُنَا [هو] الجَذْب كقوله تعالى: {إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} لأَنَّ الجَذْبَ مآلُه إِلى العَفْر.
واعْتَفَرَ ثَوْبَه في التُّرَابِ كذلك. واعْتَفَر الشَيْءُ، كانْعَفَرَ.
والعافِرُ الوَجْهِ: المُتْرَبُ.
وفي الحديث: «أَنَّه مَرَّ علَى أَرْضٍ عَفِرَةٍ فسَمّاهَا خَضِرَةً»، ويُرْوَى بالقَاف والثاءِ والذالِ. ومن المَجَاز: رَمَانِي عَنْ قَرْنِ أَعْفَرَ؛ أَي رَمانِي بداهِيَة، ومنه قَوْلُ ابنِ أَحْمَرَ:
وأَصْبَحَ يَرْمِي الناسَ عن قَرْنِ أَعْفَرَا
وذلك أَنّهُم كانوا يَتَّخِذُونَ القُرُونَ مكانَ الأَسِنَّة، فصار مَثَلًا عندهم في الشِّدَّةِ تَنْزِلُ بهم. ويُقَالُ للرَّجُل إِذا باتَ لَيْلَتَه في شِدَّة تُقْلِقُه: كُنْتَ على قَرْنِ أَعْفَرَ. ومنه قَوْلُ امرئ القَيْس:
كَأَنِّي وأَصْحابِي عَلَى قَرْنِ أَعْفَرَا
وفي الأَساس: يُضْرَبُ ذلك للفَزِعِ القَلِق.
والأَعْفَرُ: الرَّمْلُ الأَحْمَر.
والتَّعْفِيرُ: التَّبْييضُ.
والعَفْراءُ من اللَّيَالِي: لَيْلَةُ ثَلَاثَ عَشرَةَ.
والمَعْفُورَة: الأَرْضُ التي أُكِلَ نَبْتُهَا.
ونَاقَةٌ عَفَرْناةٌ: قَوِيَّة. قال عُمَرُ بنُ لَجَإِ التَّيْميّ يصفُ إِبِلًا:
حَمَّلتُ أَثْقَالِي مُصَمِّماتِها *** غُلْبَ الذَّفارَى وعَفَرْنَيَاتِها
قال الأَزهريّ: ولا يُقالُ: جَمَلٌ عَفَرْنَى.
ويُقَال: دَخَلْتُ الماءَ فما انْعَفَرَتْ قَدَمَايَ؛ أَي لَم تَبْلُغا الأَرْضَ. ومنه قَوْلُ امرئ القَيْس:
ثانِيًا بُرْثُنَهُ ما يَنْعَفِرْ
ومن المَجاز: العَفِيرُ: الَّذِي لا يُهْدِي شَيْئًا، المذكَّر والمُؤَنّث فيه سَواءٌ. وقال الأَزهريّ: العَفِيرُ من النّسَاءِ: التي لا تُهْدِي شَيْئًا، عن الفَرّاءِ. وقال الجوهَرِيّ: هي الَّتِي لا تُهْدِي لِجَارَتِهَا شَيْئًا. والعَجَبُ من المُصَنِّف كَيْفَ تَرَكَ هذه.
ونَذِير عَفيرٌ: كَثِيرٌ، إِتْبَاعٌ. وحَكَى ابنُ الأَعرابِيّ: عليه العَفَارُ والدَّبَارُ وسوءُ الدّارِ، ولم يُفَسِّرْه.
وفي تَهْذِيب ابنِ القَطَّاعِ: عَفِرَ الرَّجُلُ كفَرِحَ: لم تُطَاوِعْه رِجْلاه في الشَّدِّ.
وسَمَّوْا يَعْفُورًا ويَعفُرَ. وحَكَى السِّيَرافيُّ: الأَسْوَدُ بنُ يَعْفُرَ ويُعْفِرَ ويُعْفُر. قال: فأَمَّا يَعْفُرُ ويُعْفِرُ فأَصْلَان، وأَما يُعْفُر فعَلَى إِتْبَاع الياءِ ضَمّةَ الفاءِ، وقد يكون على إِتْبَاع الفاءِ من يُعْفُر ضَمّة الياءِ من يُعْفُر. والأَسْوَدُ بنُ يَعْفُرَ الشاعرُ، إِذا قُلْتَه بفَتْح الياءِ لم تَصْرِفْه، لأَنّه مِثْلُ يَقْتُل. وقال يُونُسُ: سمعتُ رُؤْبَةَ يَقُول: أَسْوَدُ بنُ يُعْفُر، بضم الياءِ، وهذا يَنْصَرِفُ لأَنّه قد زال عنه شَبَهُ الفِعْل.
وعَفّارٌ، كشَدّادٍ: حِصْنٌ باليَمَنُ، افْتَتَحَه الإِمَامُ الحَسَنُ بنُ شَرَفِ الدّين بن صَلَاح الحَسَنِيّ، أَو هُو كسَحاب.
وعُفَيْرَةُ وعَفَارَى: من أَسْمَاءِ النساءِ. ونَجْدُ عُفْرٍ وعفْرَى، بالضّمّ: مَوْضِعان. قال أَبو ذُؤَيْبٍ:
لَقَدْ لاقَى المَطِيَّ بنَجْدِ عُفْرٍ *** حَدِيثٌ إِنْ عَجِبْتَ له عَجِيبُ
وقال عَدِيُّ بنُ الرِّقَاعِ:
غَشِيتُ بِعِفْرَى أَو برِجْلَتِها رَبْعَا *** رَمادًا وأَحْجَارًا بَقِينَ بِها سُفْعَا
ويَعْفُورُ بنُ المُغِيرَة بن شُعْبَةَ، ويقال: أَبو يَعْفُورٍ عُرْوَةُ بنُ المُغِيرَة. ويَعْفُورُ بنُ أَبي يَعْفُورٍ العَبْدِيّ، وأَبو يَعْفُورٍ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عُبَيْدِ بنِ نسْطَاس، وأَبو يَعْفُورٍ عَبْدُ الكَرِيم بن يَعْفُورٍ، ويَعْفُورٌ الذُّهْلِيّ، وأَبو يَعْفُورٍ عَبْدُ الكَرِيم بن سَعْد، ومُحَمَّد بن يَعْفُورِ بنِ أَبي يَعْفُورٍ العَبْديّ، وعبدُ الصَّمَد بنُ يَعْفُور الجُعْفِيّ: مُحَدِّثُون. وأَبو يَعْفُورٍ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُود الثَّقَفِيّ صَحابِيّ. وعُفَيْرُ بنُ أَبي عُفَيْرٍ الأَنصارِيّ صَحابيّ، حَدِيثُه في الأَفْرَاد لابْن أَبي عاصِمٍ. وأَبو يَعْفُورٍ العَبْدِيُّ اسمُه وَقْدان تابِعِيّ، رَوَى عن ابنِ أَبِي أَوْفَى وغَيْرِه، وعنه شُعْبَةُ، وابْنُه يُونُسُ. وإِبْرَاهِيمُ بن أَبي المَكَارِمِ بنِ أَبي القاسِمِ بنِ عَفِيرِ، كأَمِيرٍ، سَمِع ببَغْدَادَ من جَماعةٍ، ذكره ابنُ نُقْطَةَ. ويَعْفُرُ بنُ يَزِيدَ بنِ النُّعْمَانِ، جَدّ سَمَيْفَعِ بنِ ناكُورٍ جُمَاع قَبَائل ذي الكَلَاعِ. والأَسْوَدُ بن عَفَارِ بن صُنْبُورٍ كسَحابٍ، ذكره هانِئ بن مَسْعُود في رِثايته النُّعمانَ بنَ المُنْذِر، فقال:
ونَعَى الأَسْوَدَ العَفَارِيَّ عن مَنْ *** زِلِ خِصْبٍ وخَبْتَةٍ غِرْبِيبِ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
240-تاج العروس (غور)
[غور]: الغَوْرُ، بالفَتْح: القَعْرُ من كلِّ شيْءٍ وعُمْقُه وبُعْدُه. ورَجُلٌ بَعيدُ الغَوْرِ: أَي قَعِيرُ الرَّأْي جَيِّدُه. وفي الحديث؛ «أَنّه سَمع ناسًا يَذْكُرُون في القَدَر فقال: إِنَّكُمْ قد أَخَذْتُم في شِعْبَيْن بَعِيدَي الغَوْرِ»؛ أَي يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكُوا حَقِيقةَ عِلْمِه، كالمَاءِ الغائرِ الَّذِي لا يُقْدَر عليه. ومنهحَدِيثُ [الدعاء] «ومَنْ أَبْعَدُ غَوْرًا في الباطِلِ مِنّي؟» كالغَوْرَى، كسَكْرَى، ومنهحَدِيثُ طَهْفَةَ بنِ أَبي زُهَيْر النَّهْدِيّ، رضي الله عنه: «أَتَيْنَاكَ يا رَسُولَ الله مِنْ غَوْرَى تِهامَةَ بأَكْوارِ المَيْسِ، تَرْتَمِي بنا العِيسُ».وغَوْرُ تِهَامَةَ: ما بَيْنَ ذاتِ عِرْق ـ مَنْزلٍ لحاجِّ العِرَاق وهو الحَدُّ بين نَجْد وتِهَامَةَ ـ إِلى البَحْرِ، وقيل: الغَوْرُ: تِهَامَةُ وما يَلِي اليَمَنَ. وقالَ الأَصمعيُّ: ما بَيْنَ ذاتِ عِرْقٍ إِلى البَحْرِ غَوْرُ تِهَامَةَ. وقال الباهِلِيُّ: كُلُّ ما انْحَدَر مَسِيلُه مُغَرِّبًا عن تِهَامَةَ فهو غَوْر.
والغَوْرُ: موضع مُنْخَفِضٌ بين القُدْسِ وحَوْرَانَ، مَسيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيّام في عَرْضِ فَرْسَخَيْن وفيه الكَثيبُ الأَحْمَرُ الذي دُفنَ في سَفْحِه سيّدنا مُوسَى الكَلِيمُ، عليه وعلى نَبيّنا أَفْضَلُ الصَّلاة والتَّسْلِيم، وقد تَشَرَّفْتُ بِزِيارَته.
والغَوْر: موضع بدِيارِ بني سُلَيم.
والغَوْر: أَيضًا ماءٌ لِبَنِي العَدَوِيّة.
والغَوْر: إِتْيَانُ الغَوْرِ، كالغُؤُورِ، كقُعُودٍ والإِغَارَةِ والتَّغْويرِ والتَّغَوُّرِ يُقَال: غارَ القَوْمُ غَوْرًا وغُورًا، وأَغارُوا، وغَوَّرُوا، وتَغَوَّرُوا: أَتَوا الغَوْرَ، قال جَرِيرٌ:
يا أُمَّ حَزْرَةَ ما رَأَيْنا مِثْلَكُمْ *** في المُنْجِدِينَ ولا بِغَوْرِ الغَائرِ
وقال الأَعْشَى:
نَبِيٌّ يَرَى ما لَا تَرَوْنَ، وذِكْرُهُ *** أَغارَ لَعَمْرِي في البِلادِ وأَنْجَدَا
وقِيلَ: غارُوا وأَغارُوا: أَخَذُوا نَحْوَ الغَوْرِ. قال الفَرّاءُ: أَغارَ: لُغَةٌ في غَارَ. واحتجَّ بِبَيْتِ الأَعْشَى. قال صاحبُ اللِّسَان: وقد رُوِيَ بَيْتُ الأَعْشَى مَخْرُومَ النِّصف:
غارَ لَعْمرِي في البِلادِ وأَنْجَدَا
وقال الجَوهَريُّ: غَارَ يَغُورُ غَوْرًا، أَيْ أَتَى الغَوْرَ، فهو غائرٌ، قال: ولا يُقَالُ: أَغارَ. وقد اخْتُلفَ في مَعْنَى قولِه:
أَغَارَ لَعَمْري في البِلاد وأَنْجَدَا
فقال الأَصمعيّ: أَغارَ، بمعْنَى أَسْرَعَ، وأَنْجَدَ؛ أَي ارْتَفَعَ، ولم يُرِدْ أَتَى الغَوْرَ ولا نَجْدًا. قال: ولَيْس عنده في إِتْيَان الغَوْر إِلّا غارَ. وزَعَمَ الفَرّاءُ أَنَّهَا لُغَةٌ، واحتجّ بهذا البَيْت. انتهى. قلْتُ: وقال ابنُ القَطَّاع في التهذيب: ورَوَى الأَصمعيّ:
أَغَامَ لَعَمْرِي في البلاد وأَنْجَدَا
وقال: لَوْ ثَبَتَت الرِّوَايَةُ الأُولَى لكان «أَغار» هاهنا بمعنى أَسْرَع، وأَنْجَدَ ارتفع، ولم يُرِدْ أَتَى الغَوْرَ ونَجْدًا. وليس يَجُوز عنده في إِتْيَان الغَوْر إِلّا غارَ. انتهى. قُلْتُ: وناسٌ يقولون: أَغارَ وأَنْجَدَ، فإِذَا أَفْرَدُوا قالوا: غارَ، كما قالُوا: هنَأَني الطَّعَامُ ومَرَأَنِي فإِذا أَفْرَدُوا قالُوا: أَمْرَأَني. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: تقول: ما أَدْرِي: أَغارَ فلانٌ أَم مارَ. أَغَارَ: أَتَى الغَوْر. ومارَ: أَتَى نَجْدًا. وقال ابنُ الأَثير: يقال: غارَ: إِذا أَتَى الغَوْر، وأَغارَ أَيضًا، وهي لغةٌ قليلة.
والتَّغْوِيرُ: إِتْيَانُ الغَوْرِ. يُقَالُ: غَوَّرْنا وغُرْنَا، بمعنًى.
والغَوْرُ، أَيضًا: الدُّخُول في الشَّيْءِ، كالغُؤُور، كقُعُود، والغِيَار، ككِتَاب الأَخِيرَةُ عن سيبَوَيْه. ويُقَال: إِنَّك غُرْتَ في غَيْرِ مَغَارٍ؛ أَي دَخلْتَ في غيرِ مَدْخَل.
والغَوْرُ، أَيضًا: ذَهابُ الماءِ في الأَرْض، كالتَّغوير، يقال: غارَ الماءُ غَوْرًا وغُؤورًا وغَوَّرَ: ذَهَبَ في الأَرْض وسَفَلَ فيها. وقال ابنُ القَطَّاع: غاضَ. واقْتَصَرَ على المَصْدَر الأَوّل. وقال اللِّحْيَانِيُّ: غارَ الماءُ وغَوَّرَ: ذَهَبَ في العُيُون. والغَوْرُ: الماءُ الغائرُ، وَصْفٌ بالمصدر. وفي التَّنْزيل العزيز: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا} سَمّاه بالمَصْدَر، كما يُقَال: ماءٌ سَكْبٌ، وأُذُنٌ حَشْرٌ، ودِرْهَمٌ ضَرْبٌ.
والغَوْرُ: المُطْمَئِنّ من الأَرْض، ومثل الكَهْف في الجَبَل كالسَّرَبِ، كالمَغارَة، والمَغَارِ، ويُضَمّان، والغَارِ وفي التنزيل العزيز: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}.
وغَارَتِ الشمسُ تَغُورُ غِيَارًا، بالكَسر، وغُؤورًا، بالضَّمّ، وغَوَّرَتْ: غابَتْ، وكذلك القَمَرُ والنُّجُومُ، قال أَبو ذُؤَيْب:
هَلِ الدَّهْرُ إِلّا لَيْلَةٌ ونَهَارُهَا *** وإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا
أَو الغارُ كالبَيْتِ في الجَبَل، قاله اللّحْيَانيّ، أَو المُنْخَفِضُ فيه، قاله ثَعْلَب، أَو كُلُّ مُطْمَئِنٍّ من الأَرْض: غارٌ، قال الشاعرِ:
تَؤُمُّ سِنَانًا وكَمْ دُونَهُ *** من الأَرْضِ مُحْدَوْدِبًا غَارُهَا
أَو هو الجُحْرُ الذي يَأْوِي إِلَيْه الوَحْشيُّ، جٍ أَي الجَمْعُ من كلِّ ذلك، القَلِيلُ أَغْوَارٌ، عن ابنِ جِني، والكثيرُ غِيرَانٌ.
وتصغير الغارِ غُوَيْرٌ.
والغارُ: ما خَلْفَ الفَرَاشَةِ من أَعْلَى الفَمِ، أَو الأُخْدُودُ الذي بَيْنَ اللَّحْيَيْنِ، أَو هو داخِلُ الفَمِ وقيل: غارُ الفَمِ: نِطْعاهُ في الحَنَكَيْن.
والغارُ: الجَمَاعَةُ من الناسِ. وقال ابنُ سِيدَه: الجَمْعُ الكَثِيرُ منَ النّاس.
والغارُ: وَرَقُ الكَرْمِ، وبه فَسَرَّ بعضُهُم قَوْلَ الأَخْطَل:
آلَتْ إِلى النِّصْفِ من كَلْفَاءَ أَثْأَفَها *** عِلْجٌ ولَثَّمهَا بالجَفْنِ والغَارِ
والغَارُ: ضَرْبٌ من الشَّجَرِ. وقيل: شَجَرٌ عِظَامٌ له وَرَقٌ طِوَالٌ، أَطْوَلُ من وَرَق الخِلافِ، وحَمْلٌ أَصغَرُ من البُنْدُق، أَسْوَدُ القِشْرِ، له لُبٌّ يَقَع في الدَّواءِ، ووَرَقُه طَيِّبُ الرِّيح يقع في العِطْرِ، يُقَال لِثَمَرِه الدَّهْمَشْت، واحِدَتُه غَارَةٌ، ومنه دُهْن، الغَارِ، قال عَدِيُّ بن زَيد:
رُبَّ نارٍ بِتُّ أَرْمُقُها *** تَقْضَمُ الهِنْدِيَّ والغَارَا
والغَارُ: الغُبَارُ، عن كُرَاع.
والغَارُ بنُ جَبَلَةَ المُحَدِّث، هكذا ضَبَطَه البُخَاريّ، وقال: حَدِيثُه مُنْكَرٌ في طَلاقِ المُكْرَهِ. أَو هو بالزّايِ المعجمة، وهو قولُ غَيْرِ البخاريّ قلتُ: رَوَى عنه يَحْيَى الوُحَاظِيُّ وجماعَةٌ، وضَبَطَهُ الذَّهَبِيّ في الديوان، فقال: غازِي بنُ جَبَلَةَ، بزاي وياءٍ، وفيه: وقال البُخَارِيّ: الغارُ براءٍ.
والغَارُ: مِكْيَالٌ لأَهْلِ نَسَفَ، وهو مِائَةُ قَفيزٍ، نقله الصاغانيّ.
والغَارُ: الجَيْشُ الكثير، يقال: الْتَقَى الغَارَانِ؛ أَي الجَيْشَانِ. ومنه قولُ الأَحْنَفِ في انْصِراف الزُّبَيْرِ عن وَقْعَةِ الجَمَل: «وما أَصْنَعُ به أَنْ كَان جَمَعَ بَيْنَ غَارَيْنِ من الناسِ ثمّ تَرَكَهُمْ وذَهَبَ».
والغَارُ: لُغَةٌ في الغِيرَة، بِالكسر، يقال: فلانٌ شَديدُ الغارِ على أَهْله؛ أَي الغَيْرَة. وقال ابنُ القَطَّاع: غَارَ الرَّجُلُ على أَهله يَغَارُ غَيْرَةً وغارًا. وقال أَبو ذُؤَيْب، يُشَبِّه غَلَيَانَ القِدْرِ بصَخَبِ الضَّرائر:
لَهُنَّ نَشيجٌ بالنَّشِيلِ كأَنَّهَا *** ضَرَائِرُ حِرْمِيٍّ تَفاحَشَ غارُهَا
والغَارَانِ: الفَمُ والفَرْجُ، وقِيل: هُمَا البَطْنُ والفَرْجُ، ومنه قِيلَ: المَرْءُ يَسْعَى لِغَارَيْهِ، وهو مَجازٌ. قال الشَّاعرُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ *** وأَنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دائِبَا
قال الصاغانيّ: هكذا وَقَعَ في المُجْمَلِ والإِصلاحِ، وتَبِعَهُم الجوهَريُّ، والرِّوايَة «عانِيا» [والقافية يائيه] والشّعْرُ لزُهَيْرِ بنِ جَنابٍ الكَلْبِيّ.
وقالَ ابنُ سِيدَه: الغَارَانِ: العَظْمَان اللَّذَانِ فِيهما العَيْنَانِ.
وأَغَارَ الرَّجُلُ: عَجَّلَ في المَشْيِ وأَسْرَعَ؛ قالَهُ الأَصْمَعِيّ، وبه فسّر بَيت الأَعْشَى السابق.
وأَغارَ: شَدَّ الفَتْلَ، ومنه: حَبْلٌ مُغَارٌ: مُحْكَمُ الفَتْلِ، وشديدُ الغَارَةِ؛ أَي شَدِيدُ الفَتْلِ.
وأَغارَ: ذَهَبَ في الأَرْضِ، والاسمُ الغَارَة.
وأَغارَ على القَوْم غارَةً وإِغارَةً. دَفَعَ عليهم الخَيْلَ، وقِيل: الإِغَارَةُ المَصْدَرُ، والغَارَةُ الاسْمُ من الإِغَارَةِ على العَدُوّ. قال ابنُ سيدَه: وهو الصَّحِيح. وأَغارَ على العَدُوِّ يُغِيرُ إِغارَةً ومُغَارًا، كاسْتَغارَ.
وأَغارَ الفَرَسُ إِغَارَةً وغَارَةً: اشْتَدَّ عَدْوُهُ وأَسْرَعَ في الغَارَةِ وغَيْرِهَا، وفَرَسٌ مُغَارٌ: يُسْرِعُ العَدْوَ. وغَارَتُه: شِدَّةُ عَدْوِه. ومنه قولُه تعالَى: {فَالْمُغِيراتِ صُبْحًا}. قلتُ: ويُمْكن أَن يُفَسِّرَ به قَولُ الطِّرِمّاح السابقُ:
أَحَقُّ الخَيْلِ بالرَّكْضِ المُغَارُ
وأَغارَ فُلانٌ بِبَنِي فُلانٍ: جاءَهُمْ ليَنْصُرُوهُ ويُغِيثُوهُ، وقد يُعَدَّى بإِلَى، فيُقَال: جاءَهُم ليَنْصُرَهُمْ أَو لِيَنْصُروه، قاله ابنُ القَطّاع.
ويُقَالُ: أَغارَ إِغَارَةَ الثَّعْلَبِ، إِذا أَسْرَع ودَفَعَ في عَدْوِه.
ومنه قَوْلُهُم في حَدِيثِ الحَجّ: «أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِير» أَي نَنْفِر ونُسْرِع إِلى النَّحْرِ ونَدْفَع للحِجَارَة. وقال يَعْقُوبُ: الإِغَارَةُ هنا: الدَّفْع؛ أَي نَدْفَعُ للنَّفْرِ. وقيل: أَرادَ: نُغِيرُ على لُحُومِ الأَضاحي، من الإِغَارَة: النَّهْب. وقيلَ: نَدْخُلُ في الغَوْرِ، وهو المُنْخَفِض من الأَرْض، على لُغَةِ من قال: أَغَارَ، إِذا أَتَى الغَوْرَ.
ورجلٌ مِغْوارٌ، بَيِّن الغِوَارِ، بكَسْرِهِمَا: مُقَاتِلٌ كَثِيرُ الغارَاتِ، وكذلك المُغَاوِرِ.
وغَارَهُم الله تعالى يَغُورُهُم ويَغِيرُهُم غِيَارًا: مَارَهم، وبخَيْرٍ: أَصَابَهُم بخصْب ومَطَرٍ وسَقَاهُم، وبرِزْق: أَتاهُم. وغَارَهُمْ أَيضًا: نَفَعَهُم قاله ابنُ القَطَّاع. والاسْمُ الغِيرَة بالكَسْرِ، يائيّة وواويّة، وسيُذْكر في الياءِ أَيضًا، وهو مَجازٌ.
وغارَ النَّهَارُ: اشْتَدَّ حَرُّه. ومنه: الغائرَةُ، قال ذُو الرُّمَّة:
نَزَلْنا وقد غارَ النَّهَارُ وأَوقَدَتْ *** عَلَيْنا حَصَى المَعْزاءِ شَمْسٌ تَنَالُهَا
ومن المَجَاز: اسْتَغْوَرَ الله تعالَى؛ أَي سَأَلَهُ الغِيرَةَ، بالكَسْر، أَنشد ثعلب:
فلا تَعْجَلَا واسْتَغْوِرَا الله إِنّه *** إِذَا الله سَنَّى عَقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا
ثم فَسَّره فقال: استَغْوِرَا، من الغِيرَة، وهي المِيرَة. قال ابنُ سِيدَه: وعِنْدِي أَنّ معناه اسْأَلُوا الخِصْبَ.
وقد غارَ لَهُمْ غِيارًا: مارَهُم ونَفَعهُم، وكذا غارَهُم غِيَارًا. ويقال: ذَهَبَ فلانٌ يَغِيرُ أَهلَه؛ أَي يَمِيرُهُم، ومن ذلك قولُهم: اللهُمَّ غُرْنَا، بكَسْرِ الغَيْنِ وضَمْها من يَغُور ويَغِيرُ، بِغَيْث. وكذا بخَيْر ومَطَرٍ: أَغِثْنا بِه وأَعْطنا إِيّاه واسْقِنا به، وسيُذْكَر في الياءِ أَيضًا.
والغَائرَةُ: القَائلَةُ، والغائِرَةُ: نِصْفُ النَّهَار، من قولهم: غارَ النَّهارُ، إِذا اشْتَدَّ حَرُّه.
والتَّغْويرُ: القَيْلُولَةُ. وغَوَّرَ تَغْوِيرًا: دَخَلَ فيه؛ أَي نِصْف النَّهَارِ. ويُقال أَيضًا: غَوَّرَ تَغْوِيرًا، إِذا نَزَلَ فِيه للقائِلَة. ومن سَجَعَات الأَساس: غَوَّرُوا [ساعَةً] ثُمّ ثَوَّرُوا. قال جَرِيرٌ:
أَنَخْنَ لتَغْوِير وقدْ وَقَدَ الحَصَى *** وقالَ النَّعُوسُ نَوَّرَ الصُّبْحُ فاذْهَبِ
وقال امْرُؤ القَيْسِ يَصف الكلابَ والثَّور:
وغَوَّرْنَ في ظِلِّ الغَضَا وتَرَكْنَه *** كقَرْمِ الهجَانِ الفادِرِ المُتَشَمِّسِ
وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: المُغَوِّر: النازلُ نِصْفَ النَّهَارِ هُنَيْهَةً ثمّ يَرْحَلُ.
ويُقَال أَيضًا: غَوَّر تَغْويرًا، إِذا نامَ فيه؛ أَي نِصْف النّهَار، كغارَ، ومنهحديثُ السائب، لمّا وَرَد على عُمَرَ رضي الله عنه بفَتْح نَهاوَنْدَ، قال: «وَيْحَك: ما وَرَاءَك؟
فو الله ما بِتُّ هذه اللَّيْلَةَ إِلَّا تَغْويرًا» يُريدُ النَّوْمَةَ القَليلَةَ التي تكون عند القائلَةِ. ومَنْ رَواه «تَغْريرًا» جَعَلَه من الغِرَار، وهو النَّوْمُ القَلِيلُ. ويُقَال أَيضًا: غَوَّر تَغْوِيرًا: سارَ فِيه، قال ابنُ شُمَيْل: التَّغْويرُ: أَنْ يَسِيرَ الراكِبُ إِلى الزَّوَال ثمَّ يَنْزل. وقال اللَّيْثُ: التَّغْوِيرُ: يكُونُ نُزُولًا لِلْقَائِلَةِ، ويكونُ سَيْرًا في ذلك الوَقْتِ، والحُجّةُ للنُّزُولِ قَولُ الرّاعِي:
ونَحْنُ إِلى دُفُوفِ مُغَوِّراتٍ *** نَقِيسُ عَلَى الحَصَى نُطَفًا بَقِينَا
وقال ذُو الرُّمَّة في التَّغْوير، فجَعَلَه سَيْرًا:
بَرَاهُنَّ تَغْوِيرِي إِذا الآلُ أَرْفَلَتْ *** به الشَّمْسُ أُزْرَ الحَزْوَراتِ العَوانِكِ
ورَواهُ أَبو عَمْرو: أَرْقَلَت؛ أَي حَرَّكَتْ.
وفَرَسٌ مُغَارٌ: شَديدُ المَفَاصِلِ.
واسْتَغَارَ الشَّحْمُ فِيه؛ أَي في الفَرَس: اسْتَطارَ وسَمِنَ؛ وفي كَلام المصنّف نَظَرٌ، إِذْ لم يَذْكُر آنِفًا الفرسَ حتّى يَرْجِعَ إِليه الضَّمِير كما تَراه، وأَحْسَنُ منه قَوْلُ الجوهريّ: اسْتَغارَ أَي سَمِنَ ودَخَل فيه الشَّحْمُ، وهو تفسيرٌ لقَوْلِ الرّاعِي:
رَعَتْه أَشْهُرًا وخَلَا عَلَيْهَا *** فطارَ النِّيُّ فيه واسْتَغارَا
ويُرْوَى: فسارَ النِّيُّ فيها؛ أَي ارْتَفَعَ. واسْتَغارَ؛ أَي هَبَطَ. وهذا كما يُقَال:
تَصَوَّبَ الحُسْنُ عَلَيْهَا وارْتَقَى
قال الأَزهريّ: معنى اسْتَغارَ في بَيْت الراعِي هذا؛ أَي اشْتَدَّ وصَلُبَ، يعني شَحْمَ الناقَةِ ولَحْمَها إِذا اكْتَنَز، كما يَسْتَغِيرُ الحَبْلُ إِذا أُغِيرَ؛ أَي اشْتَدَّ فَتْلُه. وقال بعضُهم: اسْتَغارَ شَحْمُ البَعيرِ، إِذا دَخَلَ جَوْفَه. قال: والقَوْلُ الأَوّلُ.
واسْتَغارَت الجَرْحَةُ والقَرْحَةُ: تَوَرَّمَتْ.
ومُغِيرَةُ، بضَمٍّ وتُكْسَرُ المِيمُ في لغَةِ بعضِهِم، وليس إِتْبَاعًا لحَرْف الحَلْق كشِعِير وبِعِير كما قِيلَ: اسمٌ.
ومنهم مُغِيرَةُ بنُ عَمْرِو بنِ الأَخْنَسِ، هكذا في سائر النّسَخ، والمَعْرُوفُ عند المُحَدِّثِينَ أَنَّهُ مُغِيرَةُ بنُ الأَخْنَس بن شَرِيق الثَّقَفِيّ، من بَنِي غِيَرَةَ بنِ عَوْفِ بنِ ثَقِيفٍ، حَليف بَنِي زُهْرَة، قُتِلَ يَوْمَ الدّارِ؛ كذا في أَنْسَاب ابنِ الكَلْبيّ. ومثْلُه معجَم ابن فَهْد، والتَّجْريد للذَّهَبِيّ. وفي بَعْضِ النُّسخ: «وابن الأَخْنَسِ» وهذا يَصِحّ لو أَنَّ هناكَ في الصَّحَابَة مَن اسْمُه مُغِيرَةُ بنُ عَمْرو، فَلْيُتَأَمَّل.
ومُغيرَةُ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلِب، مشهورٌ بكُنْيَتِهِ، سَمّاه جماعةٌ، منهم الزُّبَيْرُ بنُ بَكّار وابنُ الكَلْبِيّ، وقد وَهِمَ ابنُ عبدِ البَرِّ في الاسْتيعابِ هُنَا، فجَعَلَه أَخَا أَبِي سُفْيَانَ، فتَنَبَّهْ.
وفي الصَّحَابَةِ رَجُلٌ آخَر اسْمُه المُغِيرَةُ بنُ الحارِثِ الحَضْرَمِيُّ.
ومُغِيرة بنُ سَلْمانَ الخُزاعِيُّ، رَوَى عنه حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وحَدِيثُه في سُنَنِ النَّسَائيّ مُرْسَلٌ.
ومُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ بن مَسْعُودِ بنِ مُعتِّب الثَّقَفِيُّ، من بَني مُعَتِّبِ بنِ عَوْف، وهو مَشْهُور.
ومُغِيرَةُ بنُ نَوْفَل بنِ الحارث بنِ عبدِ المُطَّلِب، له روايَةٌ.
ومُغِيرَةُ بنُ أَبي ذِئْبٍ هِشَام بنِ شُعْبَةَ القُرَشِيّ العامِرِيّ، وُلِدَ عامَ الفَتْح، ورَوَى عَنْ عُمَرَ، وهو جَدُّ الفَقِيه محمّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمن بنِ المُغِيرَةِ بن أَبي ذِئْب المَدَنِيُّ: صَحَابيُّونَ، رضي الله عنهم. وفاتَهُ من الصَّحَابَةِ مُغِيرَةُ بنُ رُوَيْبَة رَوَى عنه أَبو إِسْحَاقَ، خَرَّج له ابنُ قانِع؛ ومُغيرَةُ بنُ شِهَاب المَخْزُومِيّ، قيل: إِنّه وُلدَ سنة اثْنَتَيْنِ من الهِجْرَة. وفي المُحَدِّثِين خَلْقٌ كثيرٌ اسْمُهُم المُغِيرَة.
والغَوْرَةُ: الشَّمْسُ، عن ابن الأَعرابيّ. ومنه قولُ امرأَةٍ من العَرَبِ لِبِنْت لها: «هِيَ تَشْفِينِي من الصَّوْرة، وتَسْتُرُني من الغَوْرَة». وقد تَقَدَّم أَيضًا في الصاد.
والغَوْرَةُ: الغائرَة، وهي القائِلَةُ، نقله الصاغانيّ.
والغَوْرَةُ: موضع بناحِيَةِ السَّمَاوةِ.
وغُورَةُ، بالضَّمّ: قرية عندَ بابِ هَرَاةَ، وهو غُورَجِيٌّ، على غَيْرِ قِيَاس قاله الصاغانيّ. وإِليها نُسِبَ الإِمامُ أَبو بَكْر أَحمدُ بنُ عبدِ الصَّمَد، [روى] عن عبدِ الجَبّارِ بن مُحَمّد بن أَحْمَدَ الجَرّاحِيّ الغُورَجِيّ، رَاوِيَةُ سُنَنِ التِّرْمِذِيّ، حَدّثَ عنه أَبو الفَتْحِ عبدُ المَلِك بن [أَبي] سَهْل الكَرُوخِيّ، وتُوُفِّيَ، سنة 481.
والغُورُ، بلا هاءٍ: ناحيَةٌ مُتَّسِعة بالعَجَم، وإِليها نُسِبَ السُّلْطَانُ شِهَابُ الدِّين الغُورِيّ وآلُ بَيْتِه مُلُوكُ الهِنْدِ ورُؤساؤهَا. وقال ابنُ الأَثِيرِ: هي بلادٌ في الجِبَال بخُرَاسانَ، قَريبةٌ من هَرَاةَ. ومنها أَبو القَاسِمِ فارسُ بنُ محمّدِ بنِ مَحْمُود الغُورِيّ، حَدَّثَ عن الباغَنْديّ.
والغُورُ أَيضًا: مِكْيَالٌ لأَهلِ خُوَارَزْمَ وهو اثْنا عَشَرَ سُخًّا والسُخُّ: أَربعةٌ وعِشْرُونَ مَنًّا؛ كذا نقله الصاغانيّ.
وتغَاوَرُوا: أَغارَ بَعْضُهُم على بَعْض وكذا غاوَرُوا مُغَاوَرَةً.
والغُويْرُ، كزُبَيْر: ماءٌ، معروف معروفٌ لِبَنِي كَلْب بن وَبْرَةَ، بناحِيَةِ السَّمَاوَةِ، ومنه قولُ الزَّبّاءِ، تَكَلّمَتْ به لَمّا وَجَّهَتْ قَصِيرًا اللَّخْمِيّ بالعِيرِ إِلى العِرَاق لِيَحْمِلَ لها من بَزِّه، وكان قَصِيرٌ يَطْلُبُها بثَأْرِ جَذِيمَةَ الأَبْرَشِ، فحَمَّلَ الأَجْمَالَ صَنَادِيقَ فيهَا الرِّجَالُ والسَّلاحُ، ثمّ تَنكّبَ قَصيرّ بالأَجْمَال، هكذا بالجِيم جَمْع جَمَل، كسَبَب واسْبَاب، الطَريقَ المَنْهَجَ، وعَدَلَ عن الجادَّة المَأْلْوفَةِ، وأَخَذَ على الغُوَير، هذا الماءِ الذي لبَنِي كَلْب، فأَحسَّتْ بالشَّرِّ، وقالتْ:
عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُسًا
جَمْع بَأْسٍ؛ أَي عَسَاه أَنْ يَأْتيَ بالبَأْسِ والشّرّ، ومَعْنَى عَسَى هنا مذكورٌ في مَوْضِعه. قال أَبو عُبَيْد: هكذا أَخْبَرَنِي ابنُ الكَلْبِيّ. وقال ثعلب: أُتِيَ عُمَرُ بمَنْبُوذٍ فقال:
عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُسَا
أَي عَسَى الرِّيبَةُ مِنْ قِبَلِكَ. وقال ابنُ الأَثيرُ: هذا مَثَلٌ قَدِيم يقال عند التُّهَمَة، ومعناه رُبَّما جاءَ الشَّرُّ من مَعْدِنِ الخَيْر، وأَرادَ عُمَرُ بالمَثَل لَعَلَّكَ زَنَيْتَ بأُمِّه وادَّعَيْتَهُ لَقِيطًا، فشَهِدَ له جَمَاعَةٌ بالسَّتْرِ فَتَرَكَه. زادَ الأَزهريّ: فقال عُمَرُ حينئذٍ: هُوَ حُرٌّ، ووَلاؤُه لَكَ. وقال أَبو عُبَيْد: كأَنَّه أَرادَ:
عَسَى الغُوَيْرُ أَنْ يُحْدِثَ أَبْؤُسًا، وأَنْ يَأْتيَ بأْبؤُس. قال الكُمَيتُ:
قالُوا: أَساءَ بنو كُرْز فقُلْتُ لهم: *** عَسَى الغُوَيْرُ بإِبْآسٍ وإِغْوارِ
أَو هُوَ؛ أَي الغُوَيْرُ في المَثَل تَصْغِيرُ غارٍ، لأَنّ أُناسًا كانُوا في غارٍ فانْهَارَ عَلَيْهم، أَو أَتاهُمْ فيه عَدُوٌّ فقَتَلُوهُم فيه، فصارَ مَثَلًا لكلِّ ما يُخافُ أَنْ يَأْتِيَ منه شَرٌّ، ثمّ صُغِّر الغارُ فقِيلَ غُوَيْرٌ. وهذا قول الأَصمعيّ.
وغَارَهُمْ يَغُورُهُمْ ويَغِيرُهُم: نَفَعَهُم.
واغْتَارَ: امْتَارَ وانْتَفَعَ.
واسْتَغَارَ هَبَطَ أَو أَرادَ هُبُوطَ أَرضٍ غَوْرٍ وهذا الأَخِير نقله الصَّاغانيُّ، وهو المُسْتَغِير.
والغَوَارَةُ، كسَحَابة: قرية بجَنْبِ الظَّهْرَانِ نقله الصاغانيّ.
وغُورِينُ، بالضَّمّ: أَرضٌ، نقله الصاغَانيّ.
وغُورِيَانُ، بالضمّ أَيضًا: قرية بمَرْوَ نقله الصاغانيّ.
وذُو غَاوَرَ، كهَاجَر رجلٌ من بَنِي أَلْهانِ بن مالكٍ أَخي هَمْدانَ بن مالِك.
والتَّغْوِيرُ: الهَزيمَةُ والطَّرْدُ. وقد غَوَّرَ تَغْويرًا.
والغَارَة: السُّرَّةُ نقله الصاغانيّ، كأَنّهَا لِغُؤُورِهَا.
والغِوَر، كعِنَبٍ: الدِّيَةُ. لغةٌ في الغِيَرِ، باليَاءِ، يُقَال: غارَ الرّجُلَ يَغُورُه ويَغِيرُه، إِذا أَعْطَاه الغِيَرَة، والغِوَرَة، وهي الدِّيَةُ؛ رواه ابنُ السكّيت في الوَاو والياءِ، وسيُذْكر في الياءِ أَيضًا.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
أَغارَ صِيتُه، إِذا بَلَغَ الغَوْرَ. وبه فَسَّرَ بَعْضٌ بَيْتَ الأَعْشَى السابِقَ.
والتَّغْوِيرُ: إِتْيَانُ الغَوْرِ. يُقَال: غَوَّرْنا وغُرْنا، بمَعْنًى.
وقال الأَصمعيّ: غارَ الرَّجُلُ يَغُورُ، إِذا سارَ في بلاد الغَوْرِ، هكذا قال الكسَائيّ.
وغارَ الشَّيْءَ: طَلَبَهُ. يُقَال: غُرْتَ في غَيْرِ مَغارٍ؛ أَي طَلَبْتَ في غير مَطْلَب.
وأَغارَ عَيْنَه، وغارَتْ [عَيْنُه] تَغُورُ غَوْرًا وغُؤُورًا، وغَوَّرَتْ: دَخَلَتْ في الرَّأْس.
وغارَتْ تَغَارُ، لُغَةٌ فيه. وقال ابنُ أَحْمَر.
وسائلَةٍ بظَهْرِ الغَيْبِ عَنّي *** أَغارَتْ عَيْنُه أَمْ لَمْ تَغَارَا؟
والغَوِيرُ، كأَمِيرٍ: اسمٌ من أَغارَ غارَةَ الثّعْلَب. قال ساعِدَةُ بن جُؤَيَّة:
بساقٍ إِذَا أُولَى العَدِيِّ تَبَدَّدُوا *** يُخَفِّض رَيْعَانَ السُّعَاةِ غَوِيرُهَا
والغَارَةُ: الخَيْلُ المُغِيرَة، قال الكُمَيْت بنُ مَعْرُوف:
ونَحْنُ صَبَحْنَا آلَ نَجْرانَ غَارَةً *** تَمِيمَ بنَ مُرٍّ والرِّماحَ النَّوادسَا
يقولُ: سَقَيْنَاهُم خَيْلًا مُغِيرَةً.
وغَاوَرَوهُم مُغاوَرَةً: أَغارُوا، بعضُهم على بَعْض. ومنهحَدِيثُ قَيْس بنِ عاصم: «كنتُ أُغَاوِرُهم في الجاهِليَّة».
والمَغَاوِرُ، كمَسَاجِدَ، في قَوْل عَمْرو بن مُرَّةَ:
وبَيْض تَلَالا في أَكُفِّ المَغَاوِرِ
يحتَمِل أَنْ يكونَ جَمْعَ مُغَاوِر بالضمّ، أَو جَمْعَ مِغْوار بالكَسْر بحَذْف الأَلِف أَو حَذْف الياءِ من المَغَاوِير.
والمُغَارُ، بالضّمّ: مَوْضِع الغَارَة، كالمُقَام موضع الإِقَامَة. ومنهحَدِيثُ سَهْل: «فَلَمّا بَلَغْنا المُغَارَ اسْتَحْثَثْتُ فَرَسِي» وهي الإِغَارَةُ نَفْسُهَا أَيضًا، قاله ابنُ الأَثير. وقومٌ مَغَاوِيرُ. وخَيْلٌ مغِيرَةٌ، بضَمّ المِيمِ وَكَسْرِها.
وفَرَسٌ مِغْوَارٌ سَريع. وقال اللّحْيَانيّ: شَدِيدُ العَدْوِ، والجمْع مَغاوِيرُ، قال طُفَيْلٌ:
عَناجِيجُ من آلِ الوَجيهِ ولاحِقٍ *** مَغَاوِيرُ فِيهَا للأَرِيبِ مُعَقَّبُ
وقال اللَّيْثُ: فَرَسٌ مُغَارٌ، بالضّمّ: شَدِيدُ المَفَاصِل. قال الأَزهريّ: معناهُ شِدَّةُ الأَسْرِ، كأَنَّه فُتِلَ فَتْلًا. قلتُ: وهو مَجَازٌ. وبه فَسَّرَ أَبو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ بَيْتَ الطِّرِمّاح السابق:
أَحَقُّ الخَيْلِ بالرَّكَضِ المُغَارُ
كذا نَقَلَه شَيْخُنَا من «أَحَاسِن الكَلام ومَحَاسِن الكِرَام لابْنِ النُّعْمَان بَشيرِ بنِ أَبي بَكْر الجَعْفَرِيِّ التِّبْرِيزيّ.
والغَارَةُ: النَّهْبُ، وأَصْلُهَا الخيْلُ المُغِيرَة. وقال امْرُؤ القَيْس:
وغَارَةُ سِرْحَانٍ وتِقْرِيبُ تَتْفُلِ
وغَارَتُه: شِدَّة عَدْوِهُ.
وقال ابنُ بُزُرْج: غَوَّر النَّهَارُ، إِذا زالَت الشَّمْسُ، وهو مجاز.
والإِغارَةُ: شِدَّة الفَتْلِ. وحَبْلٌ مُغَارٌ: مُحْكَمُ الفَتْل.
وشديدُ الغَارَةِ؛ أَي شَدِيدُ الفَتْلِ. فالإِغَارَةُ مصدرٌ حقيقيّ، والغَارَةُ اسمٌ يَقُومُ مَقَامَ المَصْدَر.
واسْتَغَارَ: اشْتَدَّ وصَلُبَ واكْتَنَزَ.
والمُغِيرِيَّة: صِنْفٌ من الخَوَارِج السَّبَئِيَّةَ نُسِبُوا إِلى مُغِيرَةَ بنِ سَعِيدٍ، مَوْلَى بَجِيلَة. زاد الحافظ: المَقْتُول على الزَّنْدَقَة. قلتُ: وقال الذَّهَبيّ في الدّيوان: حَكَى عنه الأَعْمَشُ أَنَّ عَلِيًّا كان قادرًا عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى؛ أَحْرَقُوه بالنَّارِ.
وأَغَارَ فُلانٌ أَهْلَه؛ أَي تَزَوَّجَ عَلَيْهَا؛ حكاه أَبو عُبَيْدٍ عن الأَصمعيّ.
والغَارُ: مَوْضعٌ بالشَّأْم.
وغَارُ حِرَاءٍ وغارُ ثَوْر: مَشْهُورانِ.
وغَارَ في الأُمُور: أَدَقَّ النَّظَرَ، كأَغَارَ، ذكرَهُ ابنُ القَطّاع، وهو مَجازٌ. ومنه عَرَفْتُ غَوْرَ هذا المَسْأَلةِ. وفُلانٌ بَعِيدُ الغَوْر: مُتَعَمِّقُ النَّظَرِ. وهو بَحْرٌ لا يُدْرَك غَوْرُه.
والمُغيرِيُّون: بَطْنٌ منْ مَخْزُوم، وهُمْ بَنُو المُغيرَةِ بنِ عَبْد الله بنِ عُمَرَ بن مَخْزُوم. قال عُمَرُ بنُ أَبي رَبِيعَةَ منْهُم، يَعْني نَفْسَه:
قِفِي فانْظُري يَا أَسْمَ هَلْ تَعْرفينَهُ *** أَهذا المُغِيرِيُّ الَّذِي كان يُذُكَرُ
ويقال: بُنِيَ هذا البَيْتُ على غائِرَةِ الشَّمْسِ إِذا ضُرِبَ مُسْتَقْبِلًا لمَطْلَعِهَا، وهو مَجَازٌ.
وفارِسُ بنُ مُحَمّدِ بن مَحْمُودِ بن عيسَى الغُوريّ، بالضَّمِّ: حَدَّثَ عن البَاغَنْدِيّ. ووَلَدُه أَبو الفَرَج محمّدُ بنُ فارِسِ بن الغُورِيّ حَدَّثَ. وأَبو بَكْرٍ محمّدُ بنُ مُوسَى الغُورِيّ، ذكره المالِينِيّ. وحُسَامُ الدِّين الغُورِيُّ قاضِي الحَنَفِيَّة بمصر، ذُكِرَ أَنه نُسِبَ إِلى جَبَل بالتُّرْك.
والغَوْرُ، بالفَتْح: نَاحِيَةٌ واسِعَة، وقَصَبَتُهَا بَيْسَانُ.
وذاتُ الغَار: وَادٍ بالحِجازِ فَوْق قَوْرَانَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
241-تاج العروس (قلر)
[قلر]: * وممّا يُسْتَدْرَك عليه هنا:القِلّارُ، والقِلّارِيّ: وهو ضَرْبٌ من التِّينِ، أَضْخَمُ من الطُّبّار والجُمَّيْز. قال أَبو حَنِيفَةَ: أَخبرني أَعْرَابِيٌّ قال: هو تِينٌ أَبْيَضُ متوسِّطٌ، ويابِسُه أَصْفَرُ كأَنّه يُدْهَنُ بالدِّهَان لِصَفَائِه، وإِذا كَثُرَ لَزِمَ بَعْضُه بَعْضًا كالتَّمْرِ، وقال: نَكْنِزُ منه في الحِبَاب، ثمّ نَصُبُّ عليه رُبَّ العِنَبِ العَقِيد [وكلما تَشَرَّبَه فَنَقصَ زِدناه] حَتَّى يَرْوَى، ثم نُطَيِّنُ أَفْوَاهَهَا، فيَمْكُث ما شِئْنَا: السَّنَةَ والسَّنَتَين، فَيَلْزَمُ بَعْضُه بَعْضًا وَيَتَلبَّد حَتَّى يُقْتَلَع بالصَّياصِي؛ كذا في اللّسان.
وقَلَوَّرَة، كحَزَوَّرَة: جَدُّ عُمَرَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ قَلَوَّرَةَ البَلَدِيِّ الخَطِيبِ، من شُيُوخِ ابنِ جُمَيْعٍ الغَسّانِيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
242-تاج العروس (مر مرر مرمر)
[مرر]: مَرَّ عليه يَمُرُّ مَرًّا، ومُرُورًا: جاز. ومَرَّ مَرًّا ومُرُورًا: ذَهَبَ، كاسْتَمَرَّ، وقال ابنُ سِيدَه: مَرَّ يَمُرُّ مَرًّا ومُرورًا: جاءَ وذَهَب. ومَرَّهُ ومَرَّ به: جازَ عَلَيْه؛ وهذا قد يَجُوز أَن يكون ممّا يتعدّى بحَرْفٍ وغيْرِ حرف، ويَجُوز أَن يكون مِمَّا حُذِف فيه الحرفُ فأُوصِلَ الفِعْل، وعلى هذين الوَجهَين يُحمل بيت جَريرٍ:تَمُرُّون الدِّيَارَ ولمْ تعُوجُوا *** كلامُكمُ عَليَّ إِذًا حَرَامُ
وقال بعضُهُم: إِنّمَا الرّوايةُ:
مَرَرْتُم بالدِّيار ولم تَعُوجُوا
فدَلَّ هذا على أَنّه فَرِقَ مِن تَعَدِّيه بغير حرْف. وأَمَّا ابنُ الأَعرابيّ فقال: مُرَّ زَيدًا، في معنى مُرَّ به، لا على الحَذْف، ولكن على التَّعدّي الصحيح. أَلا تَرَى أَنّ ابن جنّي قال: لا تقول مَررْتُ زيدًا، في لغة مشهورة، إِلّا في شيءٍ حكاه ابنُ الأَعرابيّ، قال: ولمْ يَروِهِ أَصحابُنا.
وامْترَّ. به امْتِرَارًا وامْترَّ عَليْهِ، كمَرَّ مُرُورًا. وفي خبر يوم غَبِيطِ المَدَرَةِ: فامْتَرُّوا على بني مالِك.
وقولُ الله تعَالى وعزَّ: {فَلَمّا تَغَشّاها} حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ أَي اسْتمرَّت به يعني المَنِيَّ. قيل: قَعَدتْ وقامَتْ فلم يُثْقِلْهَا، فلمَّا أَثْقلَت؛ أَي دَنا وِلَادُها. قاله الزجَّاج. وقال الكلابيُّون: حَمَلتْ حَمْلًا خفِيفًا فاسْتمَرَّتْ به؛ أَي مَرَّت، ولم يَعْرِفُوا فمَرَّت به.
وَأَمَرَّهُ على الجِسْرِ: سَلَكَهُ فيه، قال اللِّحْيَانيّ: أَمْرَرْتُ فلانًا على الجِسْرِ أُمِرُّه إِمْرارًا، إِذا سَلَكْت به عَليْه. والاسمُ من كلِّ ذلك المَرَّةُ، قال الأَعْشى:
أَلَا قُلْ لِتَيَّا قَبْلَ مَرَّتِها اسْلَمِي *** تَحِيَّةَ مُشْتاقٍ إِليها مُسَلِّمِ
وأَمَرَّهُ به، وفي بعض النُّسخ: أَمَرَّ به، والأُولَى الصَّوَاب: جَعَلَه يَمُرُّ به، كذا في النُّسخ والصواب: جعلَه يَمُرُّه، كما في اللسان. ويُقَال: أَمْرَرْتُ الشيءَ إِمْرَارًا، إِذا جَعلْته يَمُرُّ؛ أَي يَذْهب.
ومَارَّهُ مُمارَّةً ومِرَارًا: مَرَّ مَعَهُ.
واسْتَمَرَّ الشيءُ: مَضَى على طَرِيقَةٍ وَاحِدَة، وقال اللَّيْثُ: وكُلُّ شَيْءٍ قد انقادَتْ طَرِيقَتُه فهو مُستَمِرٌّ. واستَمَرَّ بالشَّيْءِ: قَوِيَ على حَمْلِه، ويُقَال: استَمَرَّ مَرِيرُه؛ أَي اسْتَحْكَمَ عَزْمُه. وقال ابن شَمَيْل: يُقَال للرجُل إِذا استقامَ أَمرُه بعد فسادٍ: قد اسْتَمَرَّ. قال: والعربُ تقول: أَرْجَى الغِلْمَانِ الذي يَبدأُ بحُمْقٍ ثمَّ يَستمِرّ. وأَنشدَ للأَعشَى يُخَاطبُ امرأَتَه:
يا خَيَرُ إِنِّي قد جَعلْتُ اسْتَمِرّ *** أَرْفَعُ مِن بُرْدَيَّ ما كنتُ أَجُرّ
والمَرَّةُ، بالفَتْح، الفَعْلَةُ الوَاحِدَة، الجمع: مَرٌّ ومِرَارٌ ومِرَرٌ، بكسرهما، ومُرُورٌ، بالضَّمّ، عن أَبي عليّ، كذا في المُحكم. وفي الصّحاح: المَرَّة وَاحدةُ المَرِّ والمِرَار. قال ذو الرُّمَّة:
لا بَلْ هُوَ الشَّوْقُ منْ دَارٍ تَخَوَّنَهَا *** مَرًّا شَمَالٌ ومَرًّا بارِحٌ تَرِبُ
وأَنشد ابنُ سيده قول أَبِي ذُؤَيْب شاهِدًا على أَنَّ مُرورًا جَمْع:
تَنَكَّرْتَ بَعْدِي أَمْ أَصابَك حادِثٌ *** مِن الدَّهْرِ أَمْ مَرَّت عليكَ مُرُورُ
قال: وذهب السُكَّرِيّ إِلى أَنّ مُرورًا مصدرٌ، ولا أُبْعِدُ أَن يكونَ كما ذكرَ، وإِن كان قد أَنّث الفِعل، وذلك أَنَّ المصدر يُفِيد الكَثْرةَ والجِنْسِيّةَ. ولَقِيَهُ ذَاتَ مَرَّةٍ. قال سيبويه: لا يُسْتَعْمَلُ ذات مَرَّة إِلَّا ظَرْفًا، ولَقِيَه ذَاتَ المِرَارِ أَي مِرَارًا كثيرةً. ويُقَال: فلانٌ يَصْنَع ذلك الأَمْرَ ذاتَ المِرارِ؛ أَي يَصنَعُه مِرَارًا ويَدَعُه مِرَارًا. وقال ابنُ السِّكِّيت: يُقَال: فلانٌ يَصنع ذلكَ تارَاتٍ، ويَصنع ذلك تِيَرًا، ويَصنع ذلك ذَاتَ المِرَارِ، معنَى ذلك كُلِّه: يَصنعه مِرَارًا ويَدَعُه مِرارًا. وجِئتُه مَرًّا أَو مَرَّيْنِ؛ أَي مَرَّةً أَو مَرَّتَيْن. وقولُه عَزَّ وجَلَّ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} قال: يعَذَّبون بالإِيثاق والقَتْلِ، وقيل: بالقَتْل وعَذابِ القَبْر. وقد تكون التَّثْنِية هنا بمعنَى الجَمْع، كقولِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أَي كَرَّاتٍ.
والمُرُّ، بالضَّمِّ: ضدّ الحُلْوِ، مَرَّ الشيءُ يَمَرُّ ويَمُرُّ، بالفَتْحِ والضَّم، الفَتْحُ عن ثَعْلَب، مَرَارَةً، وكذا أَمَرَّ الشيءُ، بالأَلف، عن الكسائيّ، وأَنشد ثَعْلَب:
لئن مَرَّ في كِرْمانَ لَيْلِي لَطَالَمَا *** حَلَا بين شَطَّيْ بابِل فالمُضَيَّحِ
وأَنْشَدَ اللِّحْيَانِيُّ:
أَلَا تِلْكَ الثَّعالِبُ قدْ تَوَالَتْ *** عَلَيَّ وحالَفتْ عُرْجًا ضِبَاعَا
لِتَأْكُلَني فَمرَّ لَهنَّ لَحْمِي *** فأَذْرَقَ من حِذَارِي أَوْ أَتَاعَا
وأَنشد الكسَائيُّ البَيْتَ هكذا:
لِيَمْضُغَنِي العِدَا فأَمَرَّ لَحْمِي *** فَأَشْفَقَ منْ حِذَارِي أَو أَتَاعَا
وأَنشد ثَعلبٌ.
تُمِرُّ علينا الأَرْضُ مِن أَنْ نَرَى بها *** أَنِيسًا ويَحْلَوْلِي لنا البَلَدُ القَفْرُ
عدّاه بعلى لأَنّ فيه معنَى تَضِيقُ. قال: ولم يَعرف الكسائيُّ مَرّ [اللَّحْمُ] بغير أَلفِ. وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: مَرَّ الطعامُ يَمَرُّ فهو مُرُّ، وأَمَرَّهُ غَيْرُه ومَرَّهُ. ومَرَّ يَمُرُّ، من المُرُور. ويُقال: لَقَدْ مَرِرْتُ، مِن المِرَّة. أَمَرُّ، مَرًّا ومِرَّةً، وهي الاسم. وهذا أَمَرُّ مِن كذا.
وفي قصَّة مَوْلد المَسيح عليهالسلام: خَرَج قَومٌ معهُم المُرُّ، قالوا نَجْبُر به الكَسِيرَ والجُرْحَ المُرُّ: دَواءُ م، كالصَّبِرِ، سُمِّيَ به لمَرَارَته، نافعٌ للسُّعالِ، اسْتِحْلابًا في الفَم، ولَسْعِ العَقَارِب طِلاءً، ولِدِيدانِ الأَمْعَاءِ، سُفُوفًا، وله خواصُّ كثيرة أَودَعها الأَطِبّاءُ في كُتُبهم. وسمعتُ شَيخِي المُعَمَّرَ عبدَ الوهاب بنَ عبد السلام الشاذليَّ يقول: مَنْ أَكل المُرُّ ما رأَى الضُرَّ. الجمع: أَمْرارٌ، قال الأَعْشَى يصف حِمارَ وَحْشٍ:
رَعَى الرَّوْضَ والوَسْميَّ حتَّى كَأَنَّمَا *** يَرَى بيَبِيس الدَّوِّ أَمْرَارَ عَلْقَمِ
والمَرُّ، بالفَتْح: الحَبْلُ قال:
ثُمَّ شَدَدْنَا فَوْقَه بمَرِّ *** بيْنَ خَشَاشَىْ بازِلٍ جِوَرِّ
وجمعه المِرَارُ.
والمَرُّ: المِسْحاةُ أَو مَقْبِضُها، وكذلك هو من المِحْرَاث. وقال الصاغانيّ: المَرُّ هو الذي يُعْمَل به في الطِّين.
والمُرَّةُ، بالضمّ: شَجَرَةٌ أَو بَقْلةٌ تَنْفَرِش على الأَرض، لها وَرَقٌ مثْل وَرَقِ الهِنْدَبَا أَو أَعْرَض، ولها نَوْرَة صَفْرَاءُ وأَرومَةٌ بيضاءُ، وتُقْلَع مع أَرُومَتها فتُغْسَل ثم تُؤكل بالخلّ والخُبْز، فيها عُلَيْقِمَةٌ يَسيرة. ولكنّهَا مَصَحَّة، وهي مَرْعًى، ومَنْبِتُها السُّهولُ وقُرْبُ الماءِ حَيْثُ النَّدَى. قاله أَبو حَنِيفة: الجمع: مُرٌّ، بالضمّ، وأَمْرَارٌ. وفي التَّهْذِيب: وهذه البَقلة من أَمْرَارِ البُقُول، والمُرُّ الواحد. وقال ابنُ سِيدَه أَيضًا: وعندي أَنَّ أَمْرَارًا جمْع مُرٍّ. قال شيخُنا: وظاهر كلام المصنِّف أَنّ المُرَّة اسمٌ خاصٌّ لشَجَرة أَو بَقْلة، وكلامُ غيْرِه كالصَّرِيح في أَنَّهَا وَصْف، لأَنّهم قالوا: شَجَرَة مُرَّة، والجمع المَرَائر كحُرَّة وحَرَائِر. وقال السُّهَيلِيّ في الرَّوْض: ولا ثالثَ لهمَا.
والمُرِّيُّ، كدُرِّيٍّ: إِدَامٌ كالكَامَخِ يُؤْتَدَمُ به، كأَنه منسوب إِلى المَرَارَة، والعَامَّة تُخَفّفه. وأَنشد أَبو الغَوْث.
وأُمُّ مَثَوَايَ لُبَاخِيَّةٌ *** وعِندَها المُرِّيُّ والكَامَخُ
وقد جاءَ ذكره في حديث أَبي الدَّرْداءِ، وذَكَرَه الأَزهريُّ في الناقِص.
وفلانٌ ما يُمِرُّ وما يُحْلِي؛ أَي ما يَضُرُّ وما يَنْفَعُ، ويُقَال: شتَمَنِي فلانٌ فما أَمْرَرْتُ وما أَحْلَيْت؛ أَي ما قُلتُ مُرَّةً ولا حُلْوةً. وقولهم: ما أَمَرَّ فلانٌ وما أَحْلَى؛ أَي ما قال مُرًّا ولا حُلْوًا. وفي حديث الاستِسقاءِ.
وأَلْقَى بكَفَّيه الفَتِيُّ استِكانَةً *** من الجُوعِ ضَعْفًا ما يُمِرُّ وما يُحْلِي
أَي ما يَنطق بخَيْرِ ولا شَرٍّ، من الجُوع والضَّعْف. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: ما أُمِرُّ وما أُحْلِي؛ أَي ما آتِي بكَلِمَةٍ ولا فعْلَةٍ مُرَّةٍ ولا حُلْوَةٍ، فإِن أَردتَ أَن تكون مَرَّةً مُرًّا ومَرَّةً حُلْوًا قلْت: أَمَرُّ وأَحْلُوا، وأَمُرُّ وأَحْلُو.
ومن المَجَاز: لَقِيتُ مِنْهُ الأَمَرِّينَ بكسر الرَّاءِ، وكذا البُرَحِينَ والأَقْوَرِينَ. قال أَبو منصور: جاءَت هذه الأَحْرُف على لفظ الجمَاعَة بالنون، عن العَرَب؛ أَي الدَّوَاهيَ، وفَتْحِهَا، على التثنية، عن ابن الأَعرابيّ، وعنه أَيضًا: لَقِيتُ منه المُرَّتَيْن، بالضّمّ، كأَنّهَا تَثْنية الحالةِ المُرَّى؛ أَي الشَّرَّ والأَمْرَ العَظِيمَ. والمُرَارُ، بالضّمِّ: حَمْضٌ، وقيل: شَجَرٌ مُرٌّ من أَفضلِ العُشْبِ وأَضْخَمِه إِذَا أَكَلَتْه* الإِبِلُ قَلَصَتْ عنه مَشَافِرُها فبَدَتْ أَسْنانُهَا، واحدته مُرَارَة، ولذلك قِيل لجَدِّ امرِئِ القَيْسِ: آكِلُ المُرَارِ، لكَشْرٍ كانَ بِهِ. قال أَبو عُبَيْد: أخبرني ابنُ الكَلْبيّ أَنَّ حُجْرًا إِنَّمَا سُمِّيَ آكِلَ المُرَار لأَنّ ابْنَةً كانت له سَبَاهَا مَلِكٌ من مَلوك سَلِيح يقال له ابن هَبُولةَ، فقالت له ابنةُ حُجْر: كأَنَّك بأَبِي قد جاءَ كأَنه جَمَلٌ آكِلُ المُرَارِ. يعني كاشِرًا عن أَنْيَابِه، فسُمِّيَ بذلك، وقيل: إِنَّه كان في نَفَر من أَصْحَابه في سَفَرٍ فأَصابهم الجُوعُ، فأَمّا هو فأَكَل من المُرَار حتى شَبع ونَجا، وأَمَّا أَصحابُه فلم يُطيقُوا ذلك حتى هَلَكَ أَكثرُهُم، ففَضَل عليهم بصَبْرِه على أَكْله المُرَارَ. قلْت: آكِلُ المُرَار لَقَبُ حُجْرِ بن مُعاويةَ الأَكْرَم بن الحارث بن مُعاوية بن ثَوْر بن مُرْتِع بن مُعاوية بن ثَوْر وهو كِنْدَة، وهو جَدُّ فَحْل الشُعراءِ امرئ القيْس بن حُجْر بن الحارث بن عَمْرِو بن حُجْرٍ آكلِ المُرَار. وأَمّا ابن هَبُولة فهو زِيَادُ بن الضَّجَاعِمة مُلُوك الشام، قتله عَمْرُو بن أَبي رَبيعةَ بن ذُهْل بن شَيْبان، كان مع حُجْر.
وذُو المُرَارِ: أَرْضٌ، لأَنّها كثيرةُ هذا النّباتِ، فسُمِّيَت بذلك، قال الرَّاعي:
مِنْ ذي المُرَارِ الَّذِي تُلْقِي حَوَالِبُه *** بَطْنَ الكِلَابِ سَنِيحًا حيْثُ يَنْدَفِقُ
وثَنِيَّةُ المُرَار: مَهْبِط الحُدَيْبيَةِ وقد رُويَ عن جابرٍ رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليهوسلم أَنَّه قال: «مَنْ يَصْعَد الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ المُرَار فإِنَّهُ يُحَطُّ عنه ما حُطَّ عن بني إِسْرائيلَ»، المشهور فيها ضمّ الميم، وبعضُهُم يَكْسِرها.
والمَرَارَةُ، بالفتْح: هَنَةٌ لازِقَةٌ بالكَبِد، وهي التي تُمْرِئُ الطَّعَامَ، تكون لكُلِّ ذي رُوح إِلَّا النَّعامَ والإِبلَ فإِنَّها لا مَرَارَةَ لها.
والمُرَيْرَاءُ، كحُمَيْرَاءَ، والمَارُورَة: حَبٌّ أَسْودُ يكونُ في الطَّعام، يَمَرُّ منه، وهو كالدَّنْقة، وقيل: هو ما يُخْرَج منه ويُرْمَى به. وقال الفَرَّاءُ: في الطّعام زؤَانٌ ومُرَيْراءُ ورُعَيداءُ وكُلَّه ممّا يُرْمى به ويُخْرج منه.
وقد أَمرَّ الطَّعامُ: صار فيه المُرَيْراءُ. ويقال: قد أَمَرَّ هذا الطعامُ في فَمي؛ أَي صار فيه مُرًّا، وكذلك كلّ شيءٍ يَصير مُرًّا. والمَرَارَةُ الاسْمُ.
والمِرَّةُ، بالكسْر: مِزَاجٌ من أَمْزِجةِ البَدَن، كذا في المُحْكم، وهي إِحْدَى الطبائع الأَرْبعة، قال الّلحْيانيّ: وقد مُررْتُ به، مجْهولًا؛ أَي على صِيغة فِعْل المفْعُول، أُمَرُّ مَرًّا، بالفتْح، ومِرَّةً، بالكسْر: غَلَبَتْ عليَّ المِرَّةُ، وقال مَرَّةً: المَرُّ المَصْدرُ، والمِرَّةُ الاسمُ، كما تقُول: حُمِمْتُ حُمَّى والحُمَّى الاسْمُ. والمَمْرُور: الذي غَلَبتْ عليه المِرَّةُ.
والمِرَّةُ: قُوَّةُ الخَلْق وشِدَّتُه، ومنهالحديث: «لا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لغَنِيٍّ ولا لذِي مِرَّةٍ سَوِيّ» المِرَّة: الشِّدَّةُ والقُوَّة، والسَّوِيُّ: الصَّحيحُ الأَعْضاءِ، الجمع: مِرَرٌ، بالكسْر، وأَمْرارٌ، جَمْعُ الجَمْعِ.
والمِرَّةُ: العَقْلُ، وقيل: شِدَّتُه.
والمِرَّةُ: الأَصَالَةُ والإِحْكامُ، يقالُ: إِنَّهُ لَذُو مِرَّة؛ أَي عَقْل وأَصَالةٍ وإِحْكام، وهو على المَثل. وقال ابنُ السِّكِّيت: المِرَّة: القُوَّةُ وجَمعُها المِرَرُ، قال: وأَصْل المِرَّةِ إِحْكام الفَتْل، والمِرَّةُ: طاقَةُ الحَبْل، كالمَرِيرَة، وكُلُّ قُوَّةٍ من قُوَى الحَبْل مِرَّةٌ، وجمعها مِرَرٌ، والمَرَائر هي الحِبالُ المَفْتُولة على أَكْثرَ من طاقٍ، واحدها مَرِيرٌ ومَرِيرَةٌ. ومنه قولُهُم: ما زال فلان يُمِرُّ فلانًا، يُمَارُّهُ؛ أَي يُعالِجه ويَتَلَوَّى عليه ليَصْرَعَه. وأَنشد ابنُ سِيدَه لأَبي ذُؤَيْب:
وذلك مَشْبُوحُ الذِّراعَيْن خَلْجَمٌ *** خَشُوفٌ إِذا ما الحَرْبُ طال مِرَارُها
فسره الأَصمعيُّ فقال: مِرارُها: مُداوَرَتُها ومُعالَجتُها.
وسأَل أَبو الأَسْود الدُّؤَليّ غلامًا له عن أَبيه فقال: ما فَعلَت امرأَةُ أَبيك؟ قال: كانت تُسَارُّه وتُجَارُّه وتُزَارُّه وتُهَارُّه وتُمَارُّه.
أَي تَلْتَوِي عليْه وتُخالِفُه. وهو من فَتْلِ الحَبْل. وهو يُمَارُّ البَعيرَ؛ أَي يُدِيرُه، كذا في النُّسخ، وفي اللسان: أَي يُرِيده ليَصْرَعهُ وهو الصوابُ، ويدُلُّ على ذلك قولُ أَبي الهَيْثم: مارَرْتُ الرَّجُل مُمَارَّةً ومِرَارًا إِذا عالَجْتَه لتَصْرَعَه وأَراد ذلك منك أَيضًا. وفي قَول الله عزّ وجلّ ذُو {مِرَّةٍ فَاسْتَوى} قيل: هو جِبْرِيلُ عليهالسلام، خلَقَه الله قَويًّا ذَا مِرَّةٍ شَدِيدة. وقال الفَرَّاءُ: {ذُو مِرَّةٍ}، من نَعْت قوله تعالَى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ}.
والمَرِيرَةُ: الحَبْلُ الشَّديدُ الفَتْلِ، أَو هو الحَبْل الطَّويلُ الدَّقيقُ، أَو المفتول على أَكثرَ مِن طاقٍ، جمْعُها المَرَائرُ، ومنهحديثُ عليٍّ: «إِنَّ الله جعلَ المَوْتَ قاطِعًا لمَرَائرِ أَقْرانِها».
والمَرِيرَة: عِزَّةُ النَّفْسِ. والمَرِيرَة: العَزِيمَةُ.
ويقال: اسْتَمَرَّت مَرِيرةُ الرَّجُلِ، إِذا قَوِيَت شَكِيمتُه، قال الشاعر:
ولا أَنْثَنِي مِن طِيرَةٍ عنْ مَرِيرةٍ *** إِذا الأَخْطَبُ الدَّاعِي على الدَّوْحِ صَرْصَرَا
كالمَرِير، يُقَال: استَمرَّ مَرِيرُه، إِذا قَوِيَ بعْدَ ضَعْف، أَو المَرِيرُ: أَرْضٌ لا شيءَ فيها، الجمع: مَرَائرُ. والمَريرُ أَيضًا: مَا لَطُفَ من الحِبَال وطالَ واشْتَدَّ فَتْلُه، وهي المَرَائرُ، قاله ابن السِّكِّيت.
وقِرْبَةٌ مَمْرُورَةٌ: مَمْلُوءَة.
والأَمَرُّ: المَصَارِينُ يَجْتَمِعُ فيها الفَرْثُ، جاءَ اسمًا للجَمْع، كالأَعَمِّ للجَمَاعَة، قال:
ولا تُهْدِي الأَمَرَّ ومَا يَلِيهِ *** ولا تُهْدِنَّ مَعْرُوقَ العِظَامِ
وقبله:
إذا ما كُنْتِ مُهْدِيَةً فأَهْدِي *** من المَأْناتِ أَو فِدَرِ السَّنَامِ
قال ابن بَرّيّ: يُخاطب زَوْجَتَه ويأْمُرها بمكارِم الأَخلاقِ.
أَي لا تُهدِي من الجَزورِ إِلَّا أَطَايبَه.
ومَرَّانُ شَنُوءَةَ، بالفتح: موضع باليمن، عن ابن الأَعْرابيّ، قال الصاغانيّ: به قَبْرُ تَمِيم بن مُرّ.
وبَطْنُ مَرٍّ، بالفتْح، ويُقال له مَرُّ الظَّهْرانِ: موضع على مَرْحلةٍ من مكَّة على جادَّة المدينة، شرفهما الله تعالى، قال أَبو ذُؤَيْب:
أَصْبَح من أُمِّ عَمْرٍو بَطْنُ مَرَّ فَأَكْ *** نَافُ الرَّجِيعِ فذُو سِدْرٍ فأَمْلاحُ
وتَمَرْمَرَ الرجُلُ: مارَ.
والمَرْمَرُ: الرُّخَامُ، وقيل: نَوْعٌ منه صُلْب، وقال الأَعْشَى:
كدُمْيَةٍ صُوِّرَ مِحْرَابُها *** بمُذْهَبٍ ذي مَرْمَرٍ مائرِ
والمَرْمَرُ: ضَرْبٌ من تَقْطِيع ثِيَابِ النِّساءِ.
ومن المَجاز: نَزَلَ به الأَمَرَّانِ؛ أَي الفَقْرُ والهَرَم، وقال الزَّمخشريُّ: الهَرم والمَرَض، أَو الأَمرَّانِ الصَّبِرُ والثُّفَّاءُ، ومنهالحَدِيث: «ماذا في الأَمَرَّيْن من الشِّفاءِ»: والمَرَارَةُ في الصَّبر دون الثُّفَّاءِ فغلَّبَه عليه. والصَّبرُ هو الدَّواءُ المعروفُ.
والثُّفَّاءُ: الخَرْدَل، قيل: إِنّما قال الأَمَرَّيْنِ والمُرُّ أَحدُهما، لأَنّه جعلَ الحُرُوفَة والحِدَّة التي في الخَرْدَل بمنزلة المَرَارَة.
وقد يُغلِّبُون أَحد القَرِينَيْن على الآخر فيَذْكُرُونهما بلفظ واحد. وتأَنيثُ الأَمَرِّ المُرَّى، وتَثْنيَتُها المُرَّيَانِ. ويُقال: رَعَى بنو فلانِ المُرَّيَان وهما، الأَلَاءُ والشِّيحُ.
ومُرّ، بالضَّمِّ: تَميمُ بنُ مُرِّ بنِ أُدِّ بنِ طابِخَةَ بن الْيَاس بن مُضَرَ: أَبو قبيلة مَشْهُورة. ومُرُّ بنُ عَمْرٍو بن الغَوْث بن جُلْهُمَة من طَيِّئٍ، وإِخوته ستَّةَ عَشَرَ.
ومُرَّةُ بنُ كَعْبٍ: أَبو قَبيلَة من قُرَيْش، وهو مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَيّ بن غالِب بن فِهْر بن مالِك بن النَّضْر. ومُرَّة: أَبُو قَبِيلَةٍ من قَيْس عَيْلانَ، وهو مُرَّة بن عَوْف بن سَعْد بن قَيْسِ عَيْلان. وأَبو مُرَّةَ: كُنْيَة إِبليس لَعَنَه الله تعالَى، قيل: تَكَنَّى بابْنَةٍ اسمُها مُرَّة.
والمُرّانُ، كعُثْمَانَ: شَجَرٌ باسِقٌ. والمُرَّانُ: رِمَاحُ القَنَا تُعْمَل من هذا الشَّجَر، وصوابه أن يذكر في باب النون لأَنَّه فُعَّال كما في اللسان.
وعَقَبَةُ المُرَّانِ، مشْرِفَةٌ على غُوطَةِ دِمَشْق الشَّام.
والمَرْمَر والمَرْمارُ: الرُّمَّانُ الكَثِيرُ الماءِ الذي لا شَحْمَ لَهُ. والمَرْمَر والمَرْمَارُ: النَّاعِمُ المُرْتَجُّ، كالمُرَامِرِ، كعُلابِطٍ، والمَرْمُور، يقال: جِسْمٌ مَرْمَارٌ ومَرْمُورٌ ومُرَامِرٌ: ناعمٌ.
والمَرْمَرَةُ: المَطَرُ الكَثِيرُ، نقله الصاغانيّ.
ومَرْمَرَ، إِذا غَضِبَ، ورَمْرَمَ، إِذا أَصلَحَ شأْنَه، عن ابن الأَعْرَابيّ. ومَرْمَرَ المَاءَ: جَعَلَهُ يَمُرُّ على وَجْهِ الأَرضِ: والمَارُورَةُ والمُرَيْرَاءُ كحُمَيْرَاءَ، هكذا في سائر النُّسَخ وهو محلُّ تأَمُّل: إِن كان المرادُ أَنَّ المارُورَة مثل المُرَيْرَاءِ فلا يحتاج إِلى إِتْيَان واو العطف. وقد تقدّم ذِكْرُ المُرَيْرَاءِ، فكان يَنْبَغِي أَن يَقُول هناك كالمَارُورَة، فيخْلُص من هذا التَّكْرارِ الذي لا يَزِيد الناظِرَ إِلا الانْبِهام.
والمُرْمُورَة، بالضمّ، والمَرْمَارَةُ، بالفَتْح: الجَارِيَةُ النَّاعِمَةُ الرَّجْرَاجَةُ، وهي التي تَرْتَجُّ عند القِيَام. وقال أَبو منصور: معنى تَرْتَجُّ وتَمَرْمَرُ وَاحدٌ؛ أَي تَرْعُدُ من رُطُوبتها.
ومَرٌّ المُؤذِّنُ، بالفتح: مُحدِّثٌ، عن عَمْرِو بن فَيْرُوز الدَّيْلميِّ.
وذاتُ الأَمْرَار: موضع، أَنشد الأَصْمعيُّ:
ووَكَرَى مِنْ أَثْل ذَاتِ الأَمْرَارْ *** مِثْلِ أَتَانِ الأَهْلِ بيْنَ الأَعْيارْ
وقال الزَّجَّاجُ: مَرَّ الرجلُ بَعِيرَهُ، وكذا أَمَرَّ على بَعِيره، إِذا شدَّ عليه المِرَارَ، بالكسر، وهو الحَبْل.
والمَرَّارُ، كشدَّادٍ، ستّة: المَرَّارُ الكَلْبيّ؛ والمَرَّارُ بنُ سَعيدٍ الفَقْعَسيّ؛ والمَرَّارُ بنُ مُنْقِذٍ التَّمِيميّ؛ والمَرَّارُ بنُ سَلَامة العِجْليُّ؛ والمَرَّارُ بنُ بَشِيرٍ الشَّيْبانيُّ؛ والمَرَّارُ بنُ مُعاذٍ الحَرشيّ، شُعراءُ. قال شيْخُنا: وفي شرْح أَمالي القالي: إِنَّ المَرَّارِينَ سَبْعة، ولم يذكر السابع، وأحاله على شُرُوح شواهد التَّفْسير.
قلْت: ولعلّ السابع هو المَرَّارُ العَنْبريّ. ولهم مَرَّارُ بن مُنْقِذ العَدَويُّ، ومَرَّار بن مُنْقِذ الهِلاليّ، ومَرَّارُ بنُ الجُلِّيُّ الطائيُّ الشاعر، كان في زَمنِ الحجّاج، نقلَه الحافظ في التَّبْصير، ويأْتي ذكره في الجمع: ل ل.
ومُرَامِرُ بنُ مُرَّةَ، بضمِّهما: أَوَّل مَنْ وَضَعَ الخَطَّ العربيَّ، قال شَرْقِيُّ بن القُطاميّ: إِنَّ أَوَّل من وَضَع خَطَّنا هذا من طَيِّئ، منهم مُرَامِرُ بنُ مُرَّةَ، قال الشاعر:
تعَلَّمْتُ بَاجَادِ وآلَ مُرَامِرٍ *** وسَوَّدْتُ أَثْوَابي ولَسْتُ بكاتِبِ
قال: وإِنّما قال: وآل مُرَامِر، لأَنَّه كان قد سَمّى كُلّ واحدٍ من أَولادِه بكلمةٍ من أَبْجد، وهي ثمانية. قال ابن بَرِّيّ: الذي ذكره ابنُ النَّحَّاس وغيْرُه عن المَدائنيّ أَنَّهُ مُرَامِرُ بن مَرْوَة. قال المَدائني: أَوّل مَنْ كتبَ بالعربيّة مُرَامِرُ بن مَرْوة مَن أَهْل الأَنْبَار، ويقال: من أَهْل الحِيرَة.
قال: وقال سَمُرَةُ بن جُنْدَب: نَظرْتُ في كتاب العربيّة فإِذا هو قد مرَّ بالأَنْبار قبلَ أَن يَمُرَّ بالحِيرة. ويُقال: إِنَّه سُئل المُهاجرُون. مِن أَيْنَ تَعَلَّمْتُم الخَطَّ. فقالوا: من الحِيرَةِ.
وسُئِل أَهلُ الحِيرَة: من أَين تَعَلَّمْتُم الخَطَّ؟ فقالوا: من الأَنْبَارِ. قلت: وذكر ابنُ خلِّكان في ترجمة عليّ بن هِلال ما يَقْرُب من ذلك. ومرَّ للمصنِّف في الجمع: بلد ر أَنّ أَوَّل مَن كَتَب بالعَرَبِيّة عامِرُ بنُ جَدَرَةَ. ولعَلَّ الجَمْع بينهما إِمّا بالتَّرْجِيح أَو بالعُمُوم والخُصوص، أَو غَيْرِ ذلِك ممّا يَظهر بالتّأَمُّل، كما حقَّقه شيخُنَا.
والمُرَامِرُ أَيضًا، بالضَّمِّ: الباطِلُ نقله الصاغانيّ.
والمُمَرُّ، بالضَّمِّ، قال أبو الهَيْثَم: الَّذي يَتَغَفَّلُ، هكذا بالغَيْن والفاءِ في النُّسَخ، وفي التكملة: يتَعَقَّل بالعين والقاف، البَكْرَةَ الصَّعْبَةَ فيَتَمَكَّنُ، هكذا في النُّسَخ، وصوابُه فيَسْتَمكِن مِنْ ذَنَبِهَا ثم يُوتِدُ قَدَمَيْه في الأَرْضِ لئلَّا، هكذا في النُّسَخ وصوابُه كَما في الأُصول الصَّحيحة: كيلا تَجُرَّه إِذا أَرادَت الإِفْلاتَ منه. وأَمَرَّها بذَنَبِها أَي صَرَفَها شِقًّا بِشِقٍّ، هكذا في النُّسخ، والصواب لِشِقّ، حَتَّى يُذَلِّلَها بذلك، فإِذا ذَلَّت بالإِمرَار أَرسلَها إِلى الرائضِ.
ومَرَّرَهُ تَمْرِيرًا: جَعَلَه مُرًّا. ومَرَّرَه: دَحَاهُ على وَجْه الأَرْض، كمَرْمَرَه. وقال الأَزهريّ: ويُمَرْمِرُه على وَجْه الأَرْض؛ أَي يَدْحُوه. وأَصله يُمَرِّرُه.
وتَمَرْمَرَ جِسْمُ المرأَةِ: اهْتَزَّ وتَرَجْرَجَ. وقال ابنُ القَطَّاع: إِذا صار ناعِمًا مثلَ المَرْمَرِ. وقال الصاغانيّ: تَمَرْمَرَ، إِذا تَحَرّكَ، أَنشدَ ابنُ دُرَيْد لِذي الرُّمَّة:
تَرَى خَلْقَهَا نِصْفًا قَنَاةً قَوِيمَةً *** ونِصْفًا نَقًا يَرْتَجُّ أَوْ يَتَمَرْمَرُ
وأَمْرَرْتُ الحَبْلَ أُمِرُّه فهو مُمَرٌّ، إِذا شَدَدْتَ فَتْلَه، ومن ذلك قولُه عَزَّ وجلَّ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَي مُحْكَمٌ قَوِيٌّ، أَو معناه ذاهِبٌ باطِلٌ؛ أَي سيَذْهَبُ ويَبْطُل. قال الأَزهريُّ: جعله من مَرَّ يَمُرُّ، إِذا ذَهَب، وأَمَّا قولُه تعالَى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ فقِيلَ: أَي قَوِيّ في نُحُو سَتِهِ، وهذه عن الزَّجَّاج، أَو دائمِ الشَّرِّ، أَو الشُؤْم، أَو مستمِرّ: مُرٍّ، وكذا في قوله تعالى: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أَي مُرّ. يقال: استَمَرَّ الشيءُ؛ أَي مَرَّ، قاله الصاغانيّ أَو نَافِذٍ أَو ماضٍ، هكذا في النُّسخ، وصوابه أَو نافذٍ ماضٍ فِيما أُمِرَ به وسُخِّر له، أَوْ هو أَي يوم نَحْس مُسْتَمِرّ يَوْمُ الأَرْبِعَاءِ الَّذِي لا يَدُورُ في الشَّهْر؛ ومنهُم من خَصَّه بآخرِ الأَرْبَعَاءِ في شَهْر صَفَر.
واسْتَمَرَّت مَرِيرَتُه علَيْه: اسْتَحْكَمَ أَمْرُه عليه، وقَوِيَتْ شَكِيمَتُه فيه وأَلِفَهُ واعْتَادَه، وهو مَجاز، وأَصلُه من فَتَل الحَبْلَ، وهُوَ، وفي الصحاح: لَتَجِدَنَّ فُلانًا أَلْوَى بَعِيد المُسْتَمَرِّ، بفتح المِيمِ الثّانِيَة؛ أَي أَنَّه قَوِيٌّ في الخُصومَة لا يَسْأَمُ المِرَاسَ. وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد:
إِذا تَخازَرْتُ وما بِي من خَزَرْ *** ثُمَّ كَسَرْتُ العَيْنَ مِنْ غَيْرِ عَوَرْ
وَجَدْتَنِي أَلْوَى بَعِيدَ المُسْتَمَرّ *** أَحْمِلُ مَا حُمِّلْتُ من خَيْرٍ وشَرّ
قال ابنُ بَرِّيّ: هذا الرَّجَزُ، يُرْوَى لعَمْرِو بن العاص.
قال: وهو المشهور. ويُقال إِنّه لأَرطاةَ بنِ سُهَيَّةَ تَمَثَّل به عَمرو. قال الصاغانيّ: ويُرْوَى للعَجّاج، وليس له، وللنَّجاشِيّ الحارثيّ، وقال أَبو محمّد الأَعْرَابِيّ: إِنّه لمُسَاوِر بنِ هِنْد.
وَمارَّ الشَّيْءُ نَفْسُه مِرَارًا بالكسر: انْجَرَّ، ومنهحديث الوَحْيِ: «إِذا نَزَل سَمِعَتِ الملائكةُ صَوتَ مِرَارِ السِّلْسِلة على الصَّفا»؛ أَي صوت انجِرارها واطِّرادها على الصَّخْر.
وأَصلُ المِرَارِ: الفَتْلُ، لأَنَّهُ يُمَرُّ؛ أَي يُفْتَلُ. وفي حديثٍ آخر: «كإِمْرَارِ الحَدِيد على الطَّشْتِ»؛ أَي كجَرِّه عليه.
قال ابنُ الأَثير: ورُبَّما رُوِيَ الحَدِيثُ الأَوّلُ: صَوتَ إِمرارِ السِّلْسِلَة.
* وممّا يُستَدرَك عليه:
استَمَرَّ الرجلُ، إِذا استَقامَ أَمرُهُ بعد فَسادٍ، عن ابنِ شُمَيل. وقد تَقَدَّم.
المَمَرُّ بالفَتْح: مَوضع المُرورِ، والمَصدَر.
وهذا أَمَرُّ من كذا.
قالَت امرَأَةٌ من العَرَب: «صُغْرَاهَا مُرَّاهَا». وهو مَثَلٌ، وقد تُستَعار المَرارَة للنَّفْسِ ويُرَاد بها الخُبْثُ والكَرَاهَة، قال خالِدُ بن زُهَيرٍ الهُذَلِيّ:
فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ خَدْعُها حينَ أَزْمَعَتْ *** صَرِيمَتَهَا والنَّفْسُ مُرٌّ ضَمِيرُها
أَراد ونَفْسها خَبِيثَة كارِهَة.
وشيءٌ مُرٌّ، والجَمع أَمرَارٌ. وبَقْلَةٌ مُرَّةٌ، وجَمعُهَا مِرَارٌ.
وعَيْشٌ مُرٌّ، على المَثَل، كما قالوا: حُلْوٌ، وفي حَدِيث ابنِ مَسعُود في الوَصِيَّة «هُمَا المُرَّيَانِ: الإِمساكُ في الحياةِ والتَّبذيرُ عند المَمات» قال أَبو عُبَيد: معناه هما الخَصْلتَانِ المُرَّيَان، نَسَبَهما إِلى المَرَارَةِ لِمَا فِيهِمَا من مَرَارَةِ المَأْثَم.
وقال ابنُ الأَثِير المُرَّيَان: تَثْنِيَة المُرَّى مثل صُغْرَى وكُبرَى وصُغْرَيَان وكُبْرَيَان، فهي فُعْلَى من المَرَارة تأْنيث الأَمرّ، كالجُلَّى والأَجَلّ؛ أَي الخَصْلَتَان المُفَضَّلتان في المَرَارة على سائر الخِصال المُرَّة أَنْ يَكونَ الرَّجلُ شَحِيحًا بمالِه ما دام حَيًّا صَحيحًا، وأَنْ يُبَذِّره فيما لا يُجدِي عليه من الوَصايَا المَبنِيَّة على هَوَى النَّفْسِ عند مُشارَفَةِ المَوت.
ورَجُلٌ مَرِيرٌ، كأَمِيرٍ: قَوِيٌّ ذو مِرَّة.
والمُمَرُّ، على صيغة اسمِ المَفْعُولِ: الحَبْلُ الذي أُجِيدَ فَتْلُه. ويقال: المِرَارُ، بالكَسر، وكُلُّ مفتولٍ مُمَرٌّ. وفي الحديث: «أَنَّ رَجُلًا أصابَه في سَيْرِه المِرَارُ» أَي الحَبْل، قال ابنُ الأَثِير: هكذا فُسِّر، وإِنَّمَا الحَبْل المَرُّ، ولعلَّه جَمَعه، وفي حديث مُعَاوِية: سُحِلَتْ مَرِيرَتُه»؛ أَي جُعلَ حَبْلُه المُبْرَم سَحِيلًا، يَعني رخْوًا ضَعيفًا.
ويُقَال: مَرَّ الشَّيْءُ واستَمَرَّ وأَمَرَّ، من المَرَارَة.
وقَولُه تَعَالَى: {وَالسّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} أَي أَشَدُّ مَرارَةً.
والمِرَارُ: المُدَاوَرَةُ والمُرَاوَدَة.
والمُمِرُّ، بالضّمّ: الذي يُدعَى للبَكْرَةِ الصَّعبَة، لِيُمِرَّهَا قَبل الرّائضِ: قاله أَبو الهَيثَم.
وفُلانٌ أَمَرُّ عَقْدًا من فُلانٍ؛ أَي أَحكَمُ أَمْرًا منه، وأَوْفَى ذِمَّةً.
ومَرْمَارٌ، من أَسماءِ الدّاهِيَة قال:
قَد عَلمَتْ سَلْمَةُ بالغَمِيسِ *** لَيلَةَ مَرْمَارٍ ومَرْمَرِيسِ
ومَرْمَرَةُ: مَضِيقٌ بين جَبَلَين في بَحرِ الرُّومِ صَعْبُ المَسْلَك.
ومُرَيْرَةُ والمُرَيْرَةُ: مَوضع، قال:
كأَدمَاءَ هَزَّتْ جِيدَهَا في أَرَاكَةٍ *** تَعَاطَى كَبَاثًا من مُرَيْرَةَ أَسوَدَا
وقال:
وتَشْرَبُ آسَانَ الحِيَاضِ تَشُوفُها *** ولَوْ وَرَدَت ماءَ المُرَيْرَةِ آجِنَا
وقال الصاغَانيّ: المُرَيْرَةُ ماءٌ لبني عَمْرِو بن كِلَاب.
والأَمْرَارُ: مِيَاهٌ معروفة في دِيَار بني فَزَارَةَ، وأَمّا قولُ النّابِغَة يُخَاطِبُ عَمْرَو بنَ هنْد:
مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ آيَةً *** ومِنَ النَّصيحَة كَثْرَةُ الإِنْذارِ
لا أَعْرِفَنَّك عارِضًا لِرِماحِنا *** في جُفِّ تَغْلِبَ وَارِدِي الأَمْرَارِ
فهي مِيَاهٌ بالبَادِيَة.
وقال ابنُ بَرّيّ: الأَمْرَار: مِيَاهٌ مُرَّةٌ معروفَة، منها عُرَاعِرٌ، وكُنَيْبٌ، والعُرَيْمَة.
وقال الصاغانيّ: وبنو يَرْبُوع يقولُون: مِرَّ علينا فُلانٌ، بالكَسْر؛ أَي مَرَّ.
وتَمَرْمَرَ عَلَيْنَا؛ أَي تَأَمَّرَ.
والمُرَّارَ كرُمَّان: الكُهَّانُ.
ومَرَّانُ، كشَدَّاد: مَوْضِع بين البَصْرة ومَكَّة، لبَنِي هِلالٍ من بني عامرٍ. ومَوْضِعٌ آخر بين مَكَّة والمدينة.
ومَرَّارٌ، كشَدَّادٍ: وَادٍ نَجْدِيٌّ.
وذَاتُ المُرَارِ، كغُرَاب: مَوضعٌ من دِيَارِ كَلْب.
ومَرٌّ، بالفَتْح: ماءٌ لغَطَفان، وبالضَّمّ: وَادٍ من بَطْنِ إِضَمٍ، وقيل: هو إِضَمٌ.
والمُرَّانِ، مُثَنًّى: ماءَان لغَطَفَانَ بينهما جَبَلٌ أَسْوَد.
ومُرَيْرٌ، كزُبَيْرٍ: ماءٌ نَجْديٌّ من مِياه بَنِي سُلَيْم. ومُرِّينُ، بالضّمِّ وتَشْدِيد الراءِ المَكْسُورة: ناحِيَةٌ من دِيَار مُضَر.
ورَجلٌ مُمَرٌّ وفَرَسٌ مُمَرٌّ مُسْتَحْكِمْ الخِلْقَةِ.
والدَّهْرُ ذُو نَقْضٍ وإِمْرَارٍ. وهو على المَثَل.
وأَمَرَّ فلانًا: عالَجَهُ وفَتَلَ عُنُقَه لِيَصْرَعَه. وهما يَتَمارَّانِ.
ومَرَّت عليه أَمْرارٌ؛ أَي مَكَارِهُ، وهو مَجاز.
والمَرَّارُ بن حَمُّويةَ الهَمَذانيُّ، كشَدَّاد: شيخٌ للبُخَارِيّ.
وأَبُو عَمْرٍ وإِسْحَاقُ بن مِرَارٍ الشَّيْبَانيّ ككِتَاب: لُغَوِيٌّ، كتب عنه أحمد بن حَنْبَل، وابنُه عَمّرو بن أَبي عَمْرٍو، له ذِكْر.
ومَرَّانُ بنُ جَعْفَر، بالفَتْح: بَطْن.
ومِرَّةُ بنُ سُبَيْع، بكَسْر الميم، وسُبَيْع هو ابنُ الحارِث بنِ زَيد بن بَحرِ بن سَعدِ بن عَوف.
وذُو مُرٍّ، بالضَّمّ، من أَصحابِ عليّ رضي الله عنه.
وذُو مَرِّين، بالفَتْح فتَشْدِيد راءٍ مكسورة: لَقبُ وَائِلِ بن الغَوْثِ بن قَطَنِ بن عَرِيبٍ الحِميَرِيّ.
وذُو مَرّانَ، بالفَتْح: عُمَيْرُ بن أَفْلَح بن شُرَحْبِيلَ من الأَقْيَال. وبالضّمِّ: مُجَالِدُ بن سَعِيدِ بن ذي مُرَّانَ الهَمْدانيّ، عن الشَّعبِيّ مشهور.
ومُرَّةُ، بالضّمّ: قريَةٌ باليَمَن بالقُرب من زَبِيد.
والمَرِّيّةُ، بالفَتح وتشديد الرّاءِ المَكْسُورة: بلدةٌ بالأَندلس.
ومُرَيرَة، كهُرَيرَة: جَدّ أَبي مُحَمَّدٍ إِسماعيلَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ محَمّدِ بن مُوسَى بن هَارُون بن مُرَيرَةَ الآخِريّ. ذكره المَالِينيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
243-تاج العروس (بلعز)
[بلعز]: * وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:البَلَاعِزَةُ: قومٌ من العَرَب ذَوُو مَنعَةٍ يَنزلُون أَفْرِيقِيَة وأَطرافَ طَرابُلُسِ الغَرْب، نُسِبُوا إِلى جَدٍّ لهم لُقِّب ببَلْعَز، كما أَخْبَرَني بذلك صاحِبُنَا الشيخ المُعَمَّر أَبو الحَسَن عليّ بن محمّد البَلْعَزِيّ الطَّرَابُلُسِيّ، خادِمُ وَلِيّ الله سيِّدِي محمَّدٍ العَيّاشِيّ الأُطْرُوش.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
244-تاج العروس (عيس)
[عيس]: العَيْس، بالفَتْح: ماءُ الفَحْلِ، وهو يَقْتُل؛ لأَنَّه أَخْبَثُ السَّمّ، وأَنشد المفَضَّل لطَرَفَةَ بن العَبْد:سَأَحْلُب عَيْسًا صَحْنَ سمٍّ فأَبْتَغِي *** به جِيرَتي حتى يحلو ليَ الخَمَرْ
ورواه غير المفَضّل: «عَنْسًا» بالنون، «إِن لَمْ تُجَلُّوا ليَ الخَبَرْ، وإِنّمَا يَتهدَّدهم بشعْره.
وقيل: العَيْس: ضِرَابُ الفَحْلِ، نقله الخَليلُ.
يقال: عاسَ الفَحْلُ النّاقَةَ يَعِيسُها عَيْسًا: ضَرَبَها.
والعِيسُ، بالكَسْر: الإِبلُ البِيضُ يُخَالِطُ بَيَاضَها شيْءٌ من شُقْرة، وهو أَعْيَسُ، وهي عَيْساءُ بَيِّنَا العَيَسِ وهذا نَصُّ الجوهريِّ. وقالَ غيره: العِيسُ والعِيسَةُ: لَوْنٌ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ صَفَاءً بظُلْمَةٍ خَفيَّةٍ، وهي فُعْلَةٌ، على قِياس الصُّهْبَة والكُمْتَة، لأَنَّهُ ليسَ في الأَلْوَان فِعْلَة، وإِنما كُسِرَت لتَصِحَّ الياءُ، كبِيضٍ.
وقيل: العِيس: الإِبلُ تَضْرِبُ إِلى الصُّفْرَة، رواه ابنُ الأَعْرَابيِّ وَحْدَه، وقيلَ: هي كَرَائمُ الإِبلِ.
وعَيْسَاءُ: امْرَأَةٌ، وهي جَدَّةُ غَسّانَ السَّلِيطيِّ، قال جَريرٌ:
أَسَاعِيَةٌ عَيْسَاءُ والضَّأْنُ حُفَّلٌ *** فَما حَاوَلَتْ عَيْسَاءُ أمْ مَا عَذِيرُهَا
والعَيْسَاءُ: الأُنْثَى من الجَرَاد. وعِيسَى، بالكَسْر: اسمْ المَسيحِ، صَلَوَاتُ الله على نَبيِّنَا وعليه وسلَّم. قالَ الجَوْهَريُّ: عِبْرَانيُّ أَو سُرْيانيُّ، وقال اللَّيْثُ: وهو مَعْدولٌ عن أَيشُوعَ، كذا يَقُولُ أَهلُ السُّريانيَّة. قلْتُ: وهو قولُ الزَّجّاج، وقال سِيبَوَيْه: عِيسَى، فِعْلَى، وليسَتْ أَلِفُه للتّأْنِيث، إِنَّما هو أَعْجَميُّ، ولو كانَتْ لِلتَّأْنيث لم يَنْصَرفُ في النَّكرة، وهو يَنْصرفْ فيها، قال: أَخْبَرَني بذلك مَن أَثِقُ به، يَعني بصَرْفه في النَّكرة. ومثلُه قَولُ الزَّجَّاج، فإِنَّه قال: عِيسَى: اسمٌ أَعْجَميُّ عُدِلَ عن لَفْظِ الأَعْجَمِيَّة إِلى هذا البِنَاءِ، وهو غيرُ مَصروفٍ في المَعْرِفة، لاجْتِمَاع العُجْمَة والتَّعْريف فيه، ويقال: اشْتِقاقُه من شَيْئَين: أَحَدُهما العَيَسُ، والآخَرُ العَوْسُ، وهو السِّيَاسَة، فانْقَلَبَت الواوُ ياءً لانْكِسار ما قبلَها، الجمع: عِيسَوْنَ، بفتحِ السين. قالَه الجَوْهَرِيُّ. وقال غيرُهُ: وتُضَمُّ سِينُه، لأَنَّ الياءَ زائِدَةٌ، فسقطَت... قال الجَوْهَرِيُّ: وتَقُولُ: رأَيْتُ العِيسَيْنَ، ومَرَرْتُ بالعِيسَيْنَ، بفتح سِينِهما وتُكْسَرُ سِينهُمُا، كُوفِيَّةٌ، قال الجَوْهَرِيّ: وأَجَازَ الكُوفِيُّونَ ضَمَّ السينِ قَبْلَ الواو، وكَسْرَها قبلَ الياءِ، ولم يُجِزْه البَصْرِيُّون، وقالُوا: لأَنَّ الأَلِفَ لمّا سَقَطَتْ لاحْتِمَاع الساكِنَيْن وَجَبَ أَنْ تَبْقَى السِّينُ مَفْتُوحةً على ما كانَتْ عليه، سَوَاءٌ كانَتْ الأَلِفُ أَصْلِيّةً أَو غَيْرَ أَصْلِيّةٍ. وكانَ الكِسَائِيُّ يَفْرِق بينَهما ويَفْتَحُ في الأَصليّة، فيقول: مُعْطَوْنَ، ويَضُمّ في غيرها، فيقول: عِيسُونَ، وكذا القَولُ في مُوسَى.
والنِّسْبَةُ إِليهِما عِيسِيٌّ ومُوسِيٌّ، بكسرِ السّينِ وحَذْفِ الياءِ، كما تَقُولُ في مَرْمِيٍّ ومَلْهِيٍّ، وعِيسَويّ ومُوسَوِيّ، بقلب الواو ياءً، كمَرْمَوِيٍّ، في مَرْمًى، قال الأَزهريّ: كأَنَّ أَصلَ الحَرْفِ من العَيَسِ، وقالَ الليثُ: إِذا استعملتَ الفِعْلَ مِن عَيس قلت: عَيِسَ يَعْيَسُ، أَو عاسَ يَعِيسُ.
وأَعْيَسَ الزَّرْعُ إِعْيَاسًا؛ إِذا لم يَكُنْ فيه رَطْبٌ، وأَخْلَسَ؛ إِذا كانَ فيه رَطْبٌ ويابِسٌ، قالَهُ أَبو عُبَيْدةَ.
وتَعَيَّسَتِ الإِبِلُ: صارَتْ بَياضًا في سَوَادٍ، وهذا نَقَلَه الصّاغَانِيُّ، قال المَرّارُ الفَقْعَسِيُّ:
سَلِّ الهُمُومَ بِكُلِّ مُعْطٍ رَأْسَهُ *** ناجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ بتَعَيُّسِ
وأَبُو الأَعْيَس عبدُ الرحمن بنُ سُلَيْمَانَ الحِمْصِيُّ، هكذا في النُّسَخ، وصوابه: ابن سَلْمَانَ، وقد تقدّمت الإِشارةُ إِليه في «ع ن س».
* ومِمّا يُسْتَدْرَك عليه:
العِيسَةُ، بالكسر: لَوْنُ العَيَسِ، وتَقَدَّم تَعْلِيلُه.
وظَبْيٌ أَعْيَسُ: فيه أُدْمَةٌ، وكذلك الثَّوْرُ، قال:
وعَانَقَ الظِّلَّ الشَّبُوبُ الأَعْيَسُ
ورَجلٌ أَعْيَسُ الشَّعرِ: أَبْيَضُه. ورَسْمٌ أَعْيسُ: أَبْيَضُ.
وسَمَّوْا عَيَّاسًا، كشَدَّادٍ، ووَقَع هكذا في نَسَبِ المحَدِّث عفِيفِ الدِّينِ المَطَرِيِّ المَدَنِيِّ، وهو ضَبَطَه وجَوَّدَه.
وأَبو العَيّاسِ، عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وعنه أَنَسُ بنُ عِياضٍ.
وعَمْرُو بنُ عَيْسُون الأَنْدَلُسِيُّ، عن رَجُلٍ، عن إِسماعِيلَ القَاضِي.
وعبدُ الحَمِيدِ بنُ أَحْمَدَ بنِ عيسَى، يُعْرَف بابْن عيْسُونَ، سَمعَ منه عبدُ الغَنيِّ بنُ سَعِيد.
ومحمّد بن عَيْسُونَ الأَنْمَاطِيّ، عن الحَسنَ بنُ مُلَيح.
وأَبو بَدْرٍ العِيسِيّ، بالكَسْر: نِسْبة إِلى عِيسَى، روَى عنه أَبو عليّ الهَجَرِيّ شِعْرًا في نَوَادِره.
ونَهْرُ عِيسَى: مَعروفٌ.
وعليُّ بنُ عبدِ الله بنِ إِبْرَاهِيمَ العِيسَويُّ، إِلى العَيّاسِ جَدٍّ له اسمُه عِيسَى، له جُزآنِ سَمِعْنَاهُمَا.
ووَاثِقُ بنُ تَمّامِ بنِ أَبِي عِيسَى العِيسَوِيُّ وأَبو مَنْصُورٍ يَحْيَى بنُ الحَسَنِ بن الحُسَيْنِ العِيسَوِيُّ الهاشِمِيُّ، حَدَّثَا.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
245-تاج العروس (رهش)
[رهش]: الرَّهِيشُ، كأَمِيرٍ، كَذا في سَائِر النُّسَخِ، والصَّوَابُ كَمَا في العَيْن: الرَّهَشُ، مُحَرَّكَةً: ارْتِهَاشٌ؛ أَي اضْطِرَابٌ يَكُونُ في الدّابَّةِ، وهُوَ اصْطِكاكُ يَدَيْهَا في مَشْيِهَا، فتُعْقَرُ رَوَاهِشُهَا، وهي عَصَبُ يَدَيْهَا، قالَهُ اللَّيْثُ، وهو نَصّ العَيْنِ هكذا.وقَالَ الجَوْهَرِيُّ: الارْتِهَاشُ: أَنْ تَصُكَّ الدّابَّةُ بعَرْضِ حافِرَهَا عَرْضَ عُجَايَتِهَا مِنَ اليَدِ الأُخْرَى، فرُبَّمَا أَدْمَاهَا، وذلِكَ لضَعْفِ يَدِهَا.
والرّاهِشَانِ: عِرْقانِ في باطِنِ الذّراعَيْنِ، أَوْ الرَّوَاهِشُ: عُرُوق باطِنِ الذِّراعِ، قالَهُ أَبُو عَمْرٍو، ونَقَلَه عنه الجَوْهَرِيُّ، وَاحدتها رَاهِشَةٌ ورَاهِشٌ، بغير هاء، قال:
وأَعْدَدْتُ للحَرْبِ فَضْفَاضَةً *** دِلَاصًا تَثَنَّى عَلَى الرّاهِشِ
وقِيلَ: الرَّوَاهِشُ: عَصَبٌ وعُرُوقٌ في بَاطِنِ الذِّرَاعِ، والنَّوَاشِرُ: عُرُوقٌ في ظَاهِرِ الكَفِّ.
وقِيلَ: النَّواشِرُ: عُرَوقُ ظَاهِر الذِّرَاعِ، والرَّوَاهِش: عَصَبُ بَاطِنِ يَدَيِ الدّابَّةِ، وقَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيّ: أَخْبَرَني أَبو نَصْرٍ عن الأَصْمَعِيّ، قال: الرّاهِشُ: عَصَبٌ في بَاطِنِ الذِّرَاعِ. ونَقَلَ الأَزْهَرِيّ عن أَبِي عَمْرٍو: النَّوَاشِرُ والرَّوَاهِشُ: عُرُوقُ بَاطِنِ الذِّرَاعِ، والأَشَاجعُ: عُرُوقُ ظَاهِرِ الكَفّ، فقَوْلُ المُصَنِّفِ في تَفْسِير الرَّوَاهِشِ عُرُوقُ ظَاهِرِ الكَفّ، مَحَلُّ تَأَمُّلٍ ظاهِرٍ، ثُمَّ رأَيْتُ الصّاغَانِيَّ في العُبَابِ نَقَلَ عن ابنِ فارسٍ ما نَصُّه: الرَّوَاهِشُ: عُرُوقُ ظاهِر الكَفِّ وبَاطِنِهَا، ثمّ قالَ: وفي الحَدِيثِ: أَنّ قُزْمَانَ المُنَافِقَ خَرَجَ يومَ أُحُدٍ فأَخَذَ سَهْمًا فقَطَعَ به رَوَاهِشَ يَدَيْهِ فقَتَلَ نَفْسَه».
ورَجُلٌ رُهْشُوشٌ بَيِّن الرُّهْشُوشَةِ، كَذا في النُّسَخ، وصَوابُه الرُّهْشُوشِيَّةِ، والرُّهْشَةِ، بِضَمِّهِنَّ؛ أَي سَخِيٌّ حَيِىٌّ، كرِيمٌ رَقِيقُ الوَجْهِ، قَالَهُ اللَّيْثُ، وقِيل: عَطُوفٌ رَحِيمٌ لا يَمْنَعُ شَيْئًا، قال رُؤْبَةُ:
أَنْتَ الجَوادُ رِقَّةَ الرُّهْشُوشِ *** المانِعُ العِرْضَ مِنَ التَّخْدِيشِ
والرَّهِيشُ، كأَمِيرٍ: النّاقَةُ الغَزِيرَةُ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَأَنْشدَ:
وخَوّارَة مِنْهَا رَهِيشٌ كَأَنَّمَا *** بَرَى لَحْمَ مَتْنَيْهَا عن الصُّلْبِ لَاحِبُ
كالرَّهِيشَةِ، والرهْشُوشِ، بالضَّمّ، يُقَالُ: نَاقَةٌ رُهْشُوشٌ: غَزِيرَةُ اللَّبَنِ، والاسْمُ الرُّهْشَةُ، وقد تَرَهْشَشَتْ، قالَ ابنُ سِيدَه: ولا أَحُقُّهَا.
أَو الرَّهِيشُ من الإِبِلِ: القَلِيلَةُ لَحْمِ الظَّهْرِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ؛ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقِيلَ: المَهْزُولَةُ، وقِيلَ: الضَّعِيفَةُ، قال رُؤْبَةُ:
نَتْفَ الحُبَارَى عَنْ قَرًا رَهِيشِ
وقَال أَبُو سَعِيدٍ السُّكَّرِيّ: إِذا كَانَت الناقَةُ غَزِيرَةً كَانَتْ خَفِيفَةَ لَحْمِ المَتْنِ، وأَنْشَد:
وخَوّارَة مِنْهَا رَهِيشٌ كَأَنَّمَا *** بَرَى لَحْمَ مَتْنَيْها عن الصُّلْبِ لاحِبُ
والرَّهِيشُ: المُنْهَالُ من التُّرَابِ الَّذِي لا يَتَماسَكُ، مِنَ الارْتِهَاشِ، وهو الاضْطِرابُ.
والرَّهِيشُ: الضَّعِيفُ.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الدَّقِيقُ القَلِيلُ اللَّحْمِ، المَهْزُولُ، وقِيلَ: هو الدَّقِيقُ مِنْ كُلِّ الأَشْياءِ.
وعَنِ الأَصْمَعِيّ: الرَّهِيشُ: النَّصْلُ الرَّقِيقُ، هكذا بالرّاء في سائِرِ النُّسَخِ، ومِثْلُه في بَعْضِ نُسَخِ الصّحاح، وصَوَابُه: الدَّقِيقُ، بالدّال.
والرَّهِيشُ: السَّهْمُ الضّامِرُ الخَفِيفُ الَّذِي سَحَجَتْهُ الأَرْضُ، قال امْرُؤُ القَيْسِ:
فرَمَاهَا في فَرَائِصِها *** بإِزاءِ الحَوْضِ أَو عُقُرِهْ
بِرَهِيشٍ مِنْ كِنَانَتِه *** كتَلَظَّى الجَمْرِ في شَرَرِه
والرَّهِيشُ: القَوْسُ الدَّقِيقَةُ، عن ابنِ عَبّادٍ، قال الأَصْمَعِيُّ: هِيَ الَّتِي يُصِيبُ وَتَرُهَا طَائِفَها، والطّائِفُ: مَا بَيْنَ الأَبْهَرِ والسِّيَةِ، وقِيلَ: هُو ما دُونَ السِّيَةِ فيُؤَثِّرُ فِيهَا، والسِّيَةُ ما اعْوَجَّ مِنْ رَأْسِهَا.
وقَدْ ارْتَهَشَتِ القَوْسُ، فهِيَ مُرْتَهِشَةٌ، وهِيَ الَّتِي إِذا رُمِيَ عَلَيْهَا اهتَزَّتْ فضَرَبَ وَتَرُهَا أَبْهَرَهَا، والصَّوَابُ طائِفَها، كما قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: ذلِكَ إِذا بُرِيَتْ بَرْيًا سَخِيفًا، فجاءَتْ ضَعِيفَةً، ولَيْسَ ذلِكَ بِقَوِيّ.
والارْتِهَاشُ: الارْتِعَاشُ والاضْطِرَابُ، قَالَهُ ابنُ شُمَيْلٍ.
والارْتِهاشُ: الاصْطِلامُ، هكذا في النُّسَخِ، والصَّوابُ الاصْطِدامُ، وهُوَ أَنْ يَصُكَ الفَرَسُ بعَرْضِ حافِرِه عَرْضَ عُجَايَتِه مِنَ اليَدِ الأُخْرَى، فرُبَّما أَدْمَاها، وذلِكَ لِضَعْفِ يَدِه، ومِنْهُ حَدِيثُ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ، رَضِيَ الله تَعَالَى عنه: «وجَرَاثِيمُ العَرَبِ تَرْتَهِشُ»، أَيْ تَصْطَكُّ قَبَائِلُهُم بالفِتَنِ، قَالَهُ ابن الأَثِير.
وقالَ اللَّيْثُ: الارْتِهَاشُ: ضَرْبٌ من الطَّعْنِ في غَرْضٍ، وأَنشد:
أَبا خَالِدٍ لَوْلا انْتَظَارِيَ نَصْرَكُمْ *** أَخَذْتُ سِنَانِي فارْتَهَشْتُ بِهِ عَرْضَا
قالَ الأَزْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: أَيْ قَطْعْتُ به رَوَاهِشي حَتّى يَسِيلَ مِنْهَا الدَّمُ ولا يَرْقَأُ، فأَمُوت. وارْتَهَشُوا: وَقَعَتِ الحَرْبُ بَيْنَهُم، وبِه فَسَّر ابنُ الأَثِيرِ أَيْضًا حَدِيثَ عُبَادَةَ، المُتَقَدِّمَ، قَالَ: وهُمَا مُتَقَارِبانِ في المَعْنَى، ويُرْوَى بالسَّينِ، وفي أُخْرَى تَرْتَكِسُ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذلِكَ في مَوْضِعِه.
* ومِمّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:
ارْتَهَشَ الجَرَادُ: رَكِبَ بَعْضُه بَعْضًا. لُغَةٌ في السّينِ.
وارْتَهَشَ القَوْمُ: ازْدَحَمُوا. لغَةٌ في السِّينِ، عن أَبِي شُجَاعٍ.
وامْرَأَةٌ رُهْشُوشَةٌ: مَاجِدَةٌ.
وتَرَهَّشَ الرَّجُلُ: تَسَخَّى وتَكَرَّمَ.
والناقَةُ: غَزُرَ لبَنُها.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
246-تاج العروس (ريش)
[ريش] الرِّيش، بالكَسْرِ، لِلطّائِرِ كالرَّاشِ، قالَ القُتَيْبِيّ: هُوَ ما سَتَرَه الله تَعَالَى بهِ، وقد جاءَ في الشِّعر، قالَ ابنُ هَرْمَةَ:فاحْتَثَّ أَجْمَالَهُمْ حَادٍ له زَجَلٌ *** مُشَمِّرٌ أَشِرٌ كالقِدْحِ ذِي الرّاشِ
الجمع: أَرْياشٌ، كحِلْسٍ وأَحْلَاسٍ، ونَابٍ وأَنْيَابٍ، ورِيَاشٌ كلِهْبٍ ولِهَابٍ، قالَهُ ابنُ جِنِّي، وقد قُرِئَ به.
قلتُ: وهُوَ قراءَةُ عُثْمَانَ، رَضِيَ الله عنه، وابنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، والسُّدِّيّ، وعاصِمٍ في رواية المُفَضَّل: يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ورِيَاشًا.
ومن المَجَازِ: الرِّيشُ: اللِّبَاسُ الفاخِرُ، كالرَّيَاشِ، كاللِّبْسِ واللِّبَاسِ والدِّبْغ والدِّباغ والحِلِّ والحِلال والحِرْمِ والحِرَام، مُسْتَعَارٌ من الرِّيش الَّذِي هُوَ كُسْوَةٌ وزِينَةٌ لِلطائرِ. والرِّيشُ والرِّيَاشُ: الخُصْبُ والمَعَاشُ، والمالُ المُسْتَفَادُ، والأَثَاثُ.
وقال القُتَيْبِيُّ: الرِّيشُ والرِّيَاشُ وَاحِدٌ، وهُمَا ما ظَهَرَ من اللِّباسِ.
وقَالَ ابنُ السِّكِّيتِ: قالَتْ بَنُو كِلَابٍ: الرِّيَاشُ: هو الأَثَاثُ من المَتَاعِ ما كَانَ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَشْوٍ مِنْ فِرَاشٍ أَو دِثَارٍ، والرِّيشُ: المَتَاعُ والأَمْوَالُ، وقَدْ يَكُونُ في الثِّيَابِ دُونَ الأَمْوَالِ، وإِنَّهُ لَحَسَنُ الرِّيشِ؛ أَي الثِّيَابِ. وهو مَجَازٌ.
وفي البَصَائِر: ويَكُونُ الرِّيشُ للطّائِرِ كالثِّيَابِ للإِنْسَانِ، اسْتُعِير للثِّيَابِ، قالَ تَعالى: {لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ} رِيشًا.
ومن المَجَازِ: أَعْطَاهُ؛ أَي النُّعْمَانُ النابِغَةَ مائِةً مِنْ عَصَافِيرِه بِرِيشِهَا، أَيْ بِلِبَاسِهَا وأَحْلاسِهَا، وذلِكَ لِأَنَّ الرِّحَالَ لَها كالرِّيشِ، أَوْ لأَنَّ المُلُوكَ كانَتْ إِذا حَبَتْ حِبَاءً جَعَلُوا في أَسْنِمَةِ الإِبِلِ، رِيشًا، وقِيلَ: رِيش النَّعَامَةِ لتُعْرَفَ أَنّهُ مِنْ حِبِاءِ المَلِكِ.
وذُو الرِّيشِ: فَرَسُ السَّمْحِ بنِ هِنْدٍ الخَوْلانِيّ، وفيه يَقُول:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ لِذِي الرِّيشِ بالعِدَا *** مَوَاسِمَ خِزْيٍ لَيْسَ تَبْلَى مع الدَّهْرِ
يَكُرُّ عَلَيْهِم في خَمِيسٍ عَرَمْرَمٍ *** بِلَيْثٍ هَصُورٍ من ضَرَاغِمَةٍ غُبْرِ
وذَاتُ الرِّيشِ: نَبَاتٌ من الحَمْضِ كالقَيْصُومِ وَرَقًا ووَرْدًا، يَنْبُتُ خِيطانًا من أَصْلٍ واحدٍ، وهُوَ كَثِيرُ الماءِ جِدًّا، يَسِيلُ من أَفْوَاهِ الإِبِلِ سَيْلًا، والناسُ أَيْضًا يَأْكُلُونَه، قالَهُ أَبو حَنِيفَةَ.
ورِيشَةُ: أَبُو قَبِيلَةٍ، مِنَ العَرَبِ، مِنْهُم بَقِيَّةٌ بالحِجَازِ، أَهْلُ صِدْقٍ وأَمَانَةٍ. أَوْ هِيَ رِيشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْر بنِ عامِرِ بنِ عَوْفٍ، أُمّ مَالِكٍ الوَحِيدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ هُبَلَ بنِ عَبْدِ الله بنِ كِنَانَةَ بنِ بَكْرِ بنِ عَوْفِ بنِ عُذْرَةَ بن زَيْدِ اللاَّتِ، وهُوَ الَّذِي أَسَرَهُ جِذْلُ الطِّعَان، فافْتَدَتْهُ مِنْهُ أُمُّه بأُخْتِه، رُهْمَ، فوَلَدَتْ فِيهِم.
ورَاشَ السَّهْمَ يَرِيشُه رَيْشًا، بالفَتْح: أَلْزَقَ عَلَيْهِ الرِّيشَ، ورَكَّبَه عَلَيْه، كرَيَّشَهُ تَرْيِيشًا، فهُوَ سَهْمٌ مَرِيشٌ ومُرَيَّشٌ، قال لَبِيدٌ يَصِفُ السَّهْمَ:
ولَئِنْ كَبِرْتُ لَقَدْ عَمِرْتُ كأَنَّنِي *** غُصْنٌ تُفَيِّئهُ الرِّيَاحُ رَطِيبُ
وكَذاكَ حَقًّا مَنْ يُعَمَّرْ يُبْلِهِ *** كَرُّ الزَّمَانِ عَلَيْهِ والتَّقْلِيبُ
حَتَّى يَعُودَ من البَلاءِ كَأَنَّهُ *** في الكَفِّ أَفْوَقُ نَاصِلٌ مَعْصُوبُ
مُرُطُ القِذَاذِ فَلَيْسَ فيهِ مَصْنَعٌ *** لا الرِّيشُ يَنْفَعُهُ ولا التَّعْقِيبُ
هكذا أَنشَدَ الجَوْهَرِيُّ البَيْتَ الأَخِيرَ، ونَسَبَه للَبِيدٍ، وقالَ ابنُ بَرِّيّ: لَمْ أَجِدْه في دِيوَانِه وإِنَّمَا هُو لِنافِعِ بن لَقِيطٍ الأَسَدِيّ، وقالَ الصّاغَانِيّ: نُوَيْفِعُ بنُ لَقِيطٍ، يَصِفُ الهَرَمَ والشَّيْبَ. ومُرُطُ القِذاذِ: لَمْ يَكُنْ عَليه الرِّيشُ، والتَّعْقِيبُ: شَدُّ الأَوْتَارِ عَلَيْهِ، والأَفْوَقُ: السَّهْمُ المَكْسُورُ الفُوقِ، والفُوقُ: مَوْضِعُ الوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ، والنّاصِلُ: الَّذِي لا نَصْلَ فِيه، والمَعْصُوبُ: الَّذِي عُصِبَ بعِصَابَةٍ بَعْدَ انْكِسارِه.
وراشَ يَرِيشُ رَيْشًا: جَمَعَ الرِّيشَ، وهُوَ المَال والأَثَاث.
ورَاشَ الصَّدِيقَ يَرِيشُه رَيْشًا: أَطْعَمَه وسَقَاهُ، وكَسَاهُ ومِنْهُ حَدِيثُ عائِشَةَ، تَصِفُ أَباهَا، رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْه: «يَفُكُّ عَانِيَهَا ويَرِيشٌ مُمْلِقَها»؛ أَي يَكْسُوه ويُعِينُه، وأَصْلُه من الرِّيشِ، كأَنَّ الفَقِيرَ المُمْلِقَ لا نُهُوضَ لَهُ كالمقصُوصِ مِنْهُ الجَنَاح، وكُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ خَيْرًا فَقَدْ رِشْتَه، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «أَنَّ رَجُلًا رَاشَهُ الله مالًا»، أَيْ أَعْطَاه، وفي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ والنّسّابَةِ:
الرّائِشينَ ولَيْسَ يُعْرَفُ رائِشٌ *** والقَائِلِين: هَلُمَّ للأَضْيَافِ
ومِنَ المَجَاز: راشَ فُلانًا، إِذا قَوّاهُ وأَعانَه عَلَى مَعَاشِه، وأَصْلَحَ حالَه ونَفَعَه، قال سُوَيْدٌ الأَنْصَارِيّ:
فرِشْنِي بخَيْرٍ طَالَما قَدْ بَرَيْتَنِي *** وخَيْرُ المَوَالِي مَنْ يَرِيشُ ولا يَبْرِي
وقَد وُجِدَ هذا المِصْراعُ الأَخِيرُ أَيْضًا في قَوْل الخَطِيمِ بنِ مُحْرِزٍ، أَحَدِ اللُّصُوص.
والرّائِشُ، في قَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى الله تَعالَى عَلَيْهُ وسَلَّمَ: «لَعَنَ الله الرّاشِيَ والمُرْتَشِيَ والرّائِشَ»: السَّفِير بَيْنَ الرّاشِي والمُرْتَشِي لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمَا، وهُوَ مَجازٌ، كَأَنَّهُ يَرِيشُ هذا من مَالِ هذا.
والرّائِشُ: السَّهْمُ ذُو الرِّيِشِ، ومِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ قالَ لِجَرِير بنِ عَبْدِ الله، رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهما، وقَدْ جاءَ مِنَ الكُوفَةِ: «أَخْبِرْنِي عَنِ النّاسِ؟ فقالَ: هُمْ كسِهَامِ الجَعْبَةِ، مِنْهَا القَائِمُ الرّائِشُ» أَيْ ذُو الرِّيشِ إِشارَةً إِلى كَمالِه واسْتَقامَتِه، أَيْ فهُوَ كالماءِ الدّافِقِ، والعِيشَةِ الرّاضِيَةِ.
ومن المَجَازِ: كَلَأُ رَيِّشٌ، كهَيِّنٍ وهَيْنٍ: كَثِيرُ الوَرَقِ كَذَا في النُّسَخ، والصَّوَابُ: إِذا كَثُرَ الوَرَقُ، وكَذلِكَ كَلَأٌ له رِيشٌ، كَمَا في التَّكْمِلَةِ، والَّذِي في اللِّسَانِ: فُلانٌ رَيِّشُ ورَيْشٌ، ولَهُ رِيشٌ، وذلِكَ إِذا كَبُرَ ورَفَّ، فتَأَمَّل.
ورَيْشانُ بالفَتْح: حِصْنٌ باليَمَنِ، من عَمِلِ أَبْيَنَ، وجَبَلٌ آخَرُ مُطِلُّ على المَهْجَمِ، باليَمَنِ أَيْضًا.
وقال نُصَيْرٌ: الرَّيْشُ مُحَرَّكَةً: الزَّبَبُ، وهُوَ كَثْرَةُ الشَّعَرِ في الأُذُنَيْنِ خاصَّةً، وقِيلَ: الوَجْهِ كَذلِكَ، ونَاقَةٌ رَيَاشٌ، كسَحَابٍ، قالَ: ويَعْتَرِي الأَزَبَّ النِّفَارُ وأَنْشَد:
أَنْشُدُ من خَوَّارَةٍ رَيَاشِ *** أَخْطَأَهَا في الرَّعْلَةِ الغَوَاشِي
ذُو شَمْلَةٍ تَعْثُرُ بالإِنْفاشِ
وجَمَلٌ رَاشٌ وذُورَاشٍ: كَثِيرُ شَعرِ الوَجْهِ، هُنَا مَحَلُّ ذِكْرِه، وقد ذَكَرَه المُصَنّفُ أَيْضًا، في روش.
ورَجُلٌ أَرْيَشُ. وأَراشَ ورَوَّشَ، كذا في النُّسَخ، والصواب رَؤُوشٌ، كما هو نصَّ ابنُ عبّادٍ: أَي كثيرُ شَعرِ الأُذُنِ، وكَذلِك رَاشٌ.
ورُمْحٌ رَاشٌ ورَائِشٌ: خَوّارٌ ضَعِيفٌ عن ابنِ فارِسٍ، وهو مَجَازٌ، شُبِّه بالرِّيشِ ضَعْفًا، أَو لِخِفَّتِهِ، قال الزَّمَخْشَرِي: فَعْلٌ أَو فاعِل، كشَاكٍ.
والمُرَيَّشُ، كمُعَظَّم: البَعِيرُ الأَزَبُّ، أَيْ كَثِيرُ شَعرِ الأُذُنِ.
ومِنَ المَجَازِ: بَعِيرٌ مُرَيَّشٌ: وهو المُرْهَفُ السَّنَامِ، القَلِيلُ اللَّحْمِ الخَفِيفُه من الهُزالِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَخَفُّ من الرِّيشَةِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وهُوَ من المَجازِ اللَّطِيفِ المَسْلَكِ.
والمُرَيَّشُ: البُرْدُ المُوَشَّى، عن اللِّحْيَانِيّ: خُطُوطُ وَشْيِهِ على أَشْكَالِ الرِّيشِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وهذا كقَوْلِهِم: بُرْدٌ مُسَهَّمٌ، وهُوَ مَجَازٌ.
ومن المَجاز: المُرَيَّشُ: الرَّجُلُ الضَّعِيفُ الصُّلْبِ، وقد رَاشَهُ السُّقْمُ: أَضْعَفَه.
والمُرَيَّشُ أَيْضًا: الهَوْدَجُ المُصْلَحُ بالقِدِّ، وهو الجِلْدُ اليابِسُ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا، وقد رَيَّشْتُ هَوْدَجِي، وذلِكَ أَنْ تُلَطَّفَ وتُحَسِّسَ أَمْرَه، قالَهُ أَبو عَمْرو.
ونَاقَةٌ مُرَيَّشَةُ اللَّحْمِ: قَلِيلَتُه مِن الهُزَال، وهو مَجَازٌ أَيْضًا، كما تقَدَّمَ قَرِيبًا.
* ومِمّا يُسْتَدْرَك عليه:
طائِرٌ رَاشٌ: نَبَتَ رِيشُه.
وارْتَاشَ السَّهْمَ، كرَاشَهُ، وأَنْشَدَ سِيبَوَيه لِابْنِ مَيّادَةَ:
وارْتَشْنَ حِينَ أَرَدْنَ أَنْ يَرْمِينَنَا *** نَبْلًا بِلَا رِيشٍ ولا بقِدَاح
ومِنْ أَمْثَالِهِم: «فُلانٌ لا يَرِيشُ ولا يَبْرِي»، أَيْ لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ.
و«مَا لَهُ أَقَذُّ ولا مَرِيشٌ». أَيْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وهذِه عن الجَوْهَرِيِّ. ورَاشَهُ اللهُ رَيْشًا: نَعَشَهُ.
وتَرَيَّشَ الرَّجُلُ، وارْتاشَ: أَصابَ خَيْرًا فرُئِيَ عَلَيْه أَثَرُ ذلِكَ.
وارْتاشَ فُلانٌ: حَسُنَتْ حالُه.
والرِّيشُ: الزِّينَةُ، قالَهُ أَبو مُنْذِرٍ القارِئُ، وهو مَجازٌ.
والرِّيشُ: الحالُ وهُوَ مَجازٌ أَيْضًا.
والرِّيَاشُ: حُسْنُ الحالِ، وهو مَجازٌ أَيْضًا.
ورَجُلٌ أَرْيَشُ ورَاشٌ: ذو مَالٍ وكُسْوَةٍ.
والرِّيَاشُ: القِشْر.
ورَاشَ الطّائِرُ: كَثُرَ نُسَالُه.
وقال الفرّاءُ: راشَ الرَّجُلُ: اسْتَغْنَى.
وجَمَلٌ رَاشُ الظَّهْرِ: ضَعِيفٌ، وناقَةٌ رَاشَةٌ: ضَعِيفَةٌ، وفي قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
راشَ الغُصُونَ شَكِيرُهَا
قِيلَ: كَسَا، وقِيلَ: طَالَ، الأَخِيرَةُ عن أَبِي عَمْرٍو، والأَوَّلُ أَعْرَفُ.
والرّائِشُ الحِمْيَرِيُّ: مَلِكٌ كان غَزَا قَوْمًا فغَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرةً، ورَاشَ أَهْلَ بَيْتِه، وفي الصّحاح، والحَارِثُ الرّائِشُ: مِنْ مُلُوكِ اليَمَنِ.
وأَبُو رِيَاشٍ اللُّغَوِيُّ ككِتَابٍ: مَشْهُورٌ.
وأَبُو الطَّيِّبِ مُحَمّد بنُ الحَسَنِ الرَّيَاشُ، بالتَّشْدِيد.
والرّائِشُ بنُ الحارِثِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ ثَوْرِ بنِ مُرتِعٍ: بَطْنٌ من كِنْدَةَ.
والرَّائِشُ بنُ قَيْسِ بنِ صَيْفِيّ ذي الأَذْعَارِ، بنِ أَبْرَهَةَ ذي المَنَار.
ورِيشَةُ، بالكَسْرِ: لَقَبُ أَبي القَاسِمِ عبدِ الرّحمنِ بنِ نمى التَّاهَرْتِيّ، حكى عَنْهُ السَّلَفِيّ.
وأَبو الرِّيشِ، بالكَسْرِ: كُنْيَةُ بَعْضِ المتأَخِّرِين.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
247-تاج العروس (كرش)
[كرش]: الكِرْشُ بالكَسْرِ، وككَتِفٍ، مِثْلُ كِبْدٍ وكَبِدٍ، لُغَتَان: اسْم لِكُلِّ مُجْتَرٍّ، بمَنْزِلَةِ المَعِدَةِ للإِنْسَانِ تُفَرِّغُ في القَطِنَةِ كَأَنَّهَا يَدُ جِرَابٍ، تَكُونُ لِلأَرْنَبِ واليَرْبُوعِ، وتُسْتَعْمَلُ في الإِنْسَانِ، وهي مُؤَنَّثَةٌ نقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.ومِنَ المَجَازِ: الكرشُ: عِيَالُ الرَّجُلِ وصِغَارُ، وفي الصِّحاح: من صِغَارِ وَلَدِهِ، يُقَال: جَاءَ يَجُرُّ كرشَهُ؛ أَي عِيَاله.
ويُقَالُ: عَلَيْهِ كرشٌ مَنْثُورَةٌ: أَيْ صِبْيَانٌ صِغَارٌ.
ومِنَ المَجَازِ: الكرشُ: الجَمَاعَةُ مِن النّاسِ ومِنْهُ قوْلَه صلى الله عليه وسلم: «الأَنْصارُ عَيْبَتِي وكَرِشِي»، قِيلَ: مَعْنَاه أَنّهُم جَمَاعَتِي وصَحَابَتِي الَّذِين أُطْلِعُهُم علَى سِرِّي وأَثِقُ بهِم، وأَعتَمِدُ عَلَيْهِم، وقالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ: عَلَيْه كَرِشٌ من النّاسِ، أَيْ جَماعَةٌ، وقِيلَ: أَرادَ: الأَنْصارُ مَدَدِي الَّذِين أَستَمِدُّ بِهم، لأَنَّ الخُفَّ والظِّلْفَ يَسْتَمِدّ الجِرَّةَ من كَرِشِه، وقِيلَ: أَرادَ بِهِم بِطانَتَه ومَوْضِعَ سِرِّهِ وأَمَانَتِه، والَّذِينَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِم فِي أُمُورِه، واسْتَعَار الكَرِشَ والعَيْبَةَ لِذلِكَ، لأَنَّ المُجْتَرَّ يَجْمَعُ عَلَفَه في كَرِشِه، والرَّجُلُ يَجْمَعُ ثِيَابَه في عَيْبَتهِ.
والكِرْشُ: جَبَلٌ بِدِيَارِ بَنِي أَبِي بَكْرِ بنِ كِلَابٍ عَنِ ابنِ زِيَادٍ، وقالَ: لا أَعْرِفُ في دِيَارِ بَنِي كِلابٍ جَبَلًا أعْظَمَ منه.
والكرشُ: التَّلْعَةُ قُرْبَ المَهْجَمِ.
والكرشُ: مِنْ نَبَاتِ الأَرْضِ والقِيعَانِ، مِنْ أَنْجَعِ المَرَاتِعِ لِلْمَالِ، تَسْمَنُ عَلَيْه الإِبِلُ والخَيْلُ، يَنْبُتُ في الشِّتاءِ، ويَهِيجُ في الصّيفِ، وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَه الله: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَعْرَابِ بَنِي رَبِيعَةَ قالَ: الكَرِشُ: شَجَرَةٌ من الجَنْبَةِ، تَنْبُتُ في أَرُومٍ، وتَرْتَفِعُ نَحْوَ ذِراعٍ، ولَهَا وَرَقَةٌ مُدَوَّرَةٌ حَرْشاءُ خَضْرَاءُ شَدِيدَةُ الخُضْرَةِ، وهِي مَرْعًى من الخُلَّةِ، وإِنَّمَا قِيلَ لَهَا: الكَرِشُ، لِأَنَّ وَرَقَها يُشْبِهُ خَمْلَ الكَرِشِ، فيها تَعْيِينٌ، كأَنَّهَا مَنْقُوشَةٌ. وقال غَيْرُه: مَنَابِتُه السَّهْلُ، وقَالَ غَيْرُه: يَجُوزُ كَرِشٌ وكِرْشٌ، كما في الكِرْشِ المَعْرُوفةِ، نقله الصّاغَانِيُّ.
وقالَ ابنُ سِيدَه: الكَرِشُ والكَرِشَةُ مِنْ عُشْبِ الرَّبِيعِ، وهي نَبْتَةٌ لَاصِقَةٌ بالأَرضِ، بُطَيْحاءُ الوَرَقِ، مُعْرَضَّةٌ غُبَيْرَاءُ، ولا تَكادُ تَنْبُتُ [إلا] في السَّهْلِ، وتَنْبُت في الدِّيَارِ، ولا تَنْفَعُ في شَيْءٍ ولا تُعَدُّ، إِلاَّ أَنّه يُعْرَف رَسْمُهَا.
والكِرْشِيُّونَ، بالكَسْرِ، وككَتِفٍ أَيْضًا: هُمْ أَهْلُ وَاسِط العِرَاق، لأَنَّ الحَجّاجَ لمّا بَناهُ كَتَب إِلَى عَبْدِ المَلِكِ: إِنّي اتَّخَذْتُ مَدِينَةً في كَرِشٍ من الأَرْضِ بَيْنَ الجَبَلِ والمِصْرَيْنِ، وسَمَّيْتُهَا بوَاسِطَ، لِكَوْنِها مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُمَا، وسَيَأْتِي.
ومن المَجَاز: قَوْلُهُمْ: لَوْ وَجَدْتُ إِلَيْهِ فا كَرشٍ، أَيْ سَبِيلًا وفي الصّحاحِ: وقَوْلُ الرَّجُلِ إِذا كَلَّفْتَه أَمرًا: إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذلِكَ فَا كَرِشٍ، أَصْلُه: أَنَّ رَجُلًا فصَّلَ شاةً فأَدْخَلَها في كرشِهَا، لِيَطْبُخَها، فقِيلَ له: أَدْخِل الرَّأْسَ، فقالَ: إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذلِكَ فَا كَرِشٍ، يعنِي إِنْ وَجَدْتُ إِلَيْه سَبِيلًا، انتهى.
ويُقَالُ: ما وَجَدْتُ إِلَيْه فا كَرِشٍ، أَيْ سَبِيلًا.
وحَكَى اللِّحْيَانِيّ: لو وَجَدْتُ إِليه فَا كَرِشٍ، وبابَ كَرِشٍ، وأَدْنَى فِي كَرِشٍ لأَتَيْتُه، يَعْنِي قَدْرَ ذلِكَ من السُّبُلِ.
وفي حَدِيثِ الحَجّاجِ: لَوْ وَجَدْتُ إِلَى دَمِكَ فَا كَرِشٍ لشَرِبَتِ البَطْحَاءُ مِنْكَ، أَيْ لَوْ وَجَدْتُ إِلَى دَمِكَ سَبِيلًا، وأَصْلُه: أَنّ قومًا طَبَخُوا شاةً فِي كَرِشِها، فضاقَ فَمُ الكَرِشِ عَنْ بَعْضِ الطَّعَامِ، فقالُوا للطَّبّاخِ: أَدْخِلْهُ إِنْ وَجَدْتَ فَا كَرِشٍ.
وكَرِشَ الجِلْدُ، كفَرِحَ، كَرَشًا، إِذا مَسَّتْهُ النّارُ فانْزَوَى وَتَقَبَّضَ.
ومن المَجَازِ: كَرِشَ الرّجُلُ كَرَشًا، إِذا صَارَ لَهُ جَيْشٌ بعْدَ انْفِرَادِهِ.
والكَرْشاءُ: الامْرَأَةُ العَظِيمَةُ البَطْنِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيتِ، وزَادَ غَيْرُه: الوَاسِعَةٌ.
ومن المَجَازِ: الكَرْشَاءُ: القَدَمُ الَّتِي كَثُرَ لَحْمُهَا، واسْتَوَى أَخْمَصُها، وقَصُرَتْ أَصابِعُهَا. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والكَرْشاءُ: الأَتَانُ الضَّخْمَةُ الخَاصِرَتَيْنِ، نقلَه الجَوْهَرِيُّ أَيضًا.
والكَرْشاءُ مِنَ الرَّحِمِ: البَعِيدَةُ، يُقَال: بَيْنَهُم رَحِمٌ كَرْشَاءُ.
والكَرْشاءُ: فَرَسُ بِسْطامِ بنِ قَيْسٍ الشَّيْبانِيِّ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ، وفِيهَا يُقولُ العَوّامُ الشَّيْبانِيُّ:
وأَفْلَتَ بِسْطَامٌ جَرِيضًا بِنَفْسِه *** أَغَادَرَ في الكَرْشَاءِ لَدْنًا مُقَوَّمَا
وكَرْشُ، بالفَتْحِ، د، بينَ كَفَا وأَزَاقَ، كانَ قَدِيمًا بِيَدِ الرُّومِ، وهُوَ الآنَ بِيَدِ الإِسْلَامِ.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: كُرْشَانُ، بالضَّمِّ: وهو أَبُو قَبِيلَةٍ من العَرَبِ.
قُلْت: هو كُرْشانُ بنُ الآمِرِيِّ بنِ مَهْرَةَ بنِ حَيْدانَ بنِ عَمْرو بن الْحافِ بنِ قُضاعَةَ. قال ابنُ دُرَيْد.
وكُرَاشٌ، ككِتَابٍ، وضَبَطَه الصّاغَانِيُّ بالضّمّ: جَبَلٌ لهُذَيْلٍ، وقيل: ماءٌ بنَجْد لبَنِي دُهْمانَ، قال أَبو بُثَيْنَة العامِريُّ يَهْجُو سارِيَةَ بنَ زُنَيْمٍ:
وأَوْفَى وَسْطَ قَرْنِ كُرَاشَ دَاعٍ *** فجَاؤُوا مثْلَ أَفْوَاجِ الحَسِيلِ
والكُرّاشُ، كزُنَّارٍ: دُوَيْبَّةٌ تَلْكَعُ النّاسَ، تُوجَدُ في مَبارِكِ الإِبِلِ، وهي ضَرْب من القِرْدَانِ، وقِيلَ: هُو كالقَمْقَامِ، وَاحِدَتُه كُرّاشَةٌ.
والتَّكْرِيشَةُ: الَّتِي تُطْبَخُ في الكُرُوشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو.
وقال الأَزْهَرِيّ: المُكَرَّشَةُ، كمُعَظَّمَةٍ: طَعَام البادِينَ، يُعْمَلُ من اللَّحْمِ والشَّحْمِ، وذلِك أَنْ يُؤْخَذَ اللّحْمُ الأَشْمَطُ فيُهَرَّم تَهْرِيمًا جيِّدًا، ويُجْعَلَ معه من الشَّحْمِ المُقَطَّعِ مثلُه، ثمّ يُجْعَلَ في قِطْعَةٍ مُقَوَّرَةٍ من كَرِش البَعِيرِ بعد أَن يُغْسَل وينظَّف وَجْهُه الأَمْلَسُ الذِي لا خَمْلَ فيه ولا فَرْث [ويُجعل فيه اللَّحْمُ المهرّمُ] وتُجْمَعَ أَطْرَافُه، ويُخَلَّ عَلَيْهِ بخِلالٍ يُمْسِكُه، وتُحْفَرَ له إِرَةٌ على قَدْرِه، وتُطْرَح فيها الرِّضافُ، ويُوقَد عَلَيْهَا حَتَّى تَحْمَى وتَحْمَرَّ، فتَصِيرَ كالنّارِ، ثم يُنَحَّى الجَمْرُ عَنْهَا، وتُدْفَن المُكَرَّشَةُ فِيها، ويُجْعل فَوْقَها مَلَّةٌ حامِيَةٌ، ثُم يُوقَد فَوْقَها بِحَطَبٍ جَزْلٍ، ثُمَّ تُتْرَك حَتَّى تَنْضَجَ نُضْجًا جَيِّدًا، فتُخْرَج وقَدْ طابَتْ، وقد صارَتْ كالقِطْعَةِ الوَاحِدَةِ، وقد ذابَ الشَّحْمُ باللَّحْمِ، فتُؤْكَل بالتَّمْرِ طَيِّبَةً، يُقَالُ: كَرِّشُوا لَنَا من لَحْمِ جَزُورِكُم تَكْرِيشًا.
والمُكَرِّشَةُ، بكَسْرِ الرّاء: ما تَعَقَّفَ بَزْرُه مِنْ أَنْوَاعِ البِطِّيخِ، وهذِهِ عن الصّاغَانِيُ. وكَرَّشَ تَكْرِيشًا، قَطَّبَ وَجْهَهُ قال رُؤْبَةُ:
وَارِي الزِّنادِ مُسْفِرُ البَشِيشِ *** طَلْقٌ إِذا اسْتَكْرَشَ ذُو التَّكْرِيشِ
وهُوَ مَجَازٌ.
وكَرَّشَ تَكْرِيشًا: عَمِلَ المُكَرَّشَةَ، قالَهُ الأَزْهَرِيّ.
وتَكَرَّشُوا: إِذا تَجَمَّعُوا، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ.
وقال الجَوْهَرِيُّ: تَكَرَّشَ وَجْهُهُ: تَقَبّضَ. وزادَ غَيْرُه: جِلْدُه، وقِيلَ: جِلْدُ وَجْهِهِ. هكَذا في بَعْضِ النُّسَخِ، وَقَدْ يُقَال ذلِكَ في كلِّ جِلْدٍ، ويُقَالُ: كَلَّمْتُه بِكَلامٍ فتَكَرَّشَ وَجْهُه، وتَكَرَّشَ جِلْدُه، أَيْ تقَبَّضَ، وهو مَجازٌ، وزادَ ابنُ فارِسٍ: فصارَ كالكَرِشِ.
واسْتَكْرَشَتِ الإِنْفَحَةُ: صارَتْ كَرِشًا، وذلِكَ إِذا رَعَى الجَدْيُ النَّباتَ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: لِأَنّ الكَرِشَ تُسَمَّى إِنْفَحَةً ما لَمْ يَأْكُلِ الجَدْيُ، فإِذا أَكَلَ تُسَمَّى كَرِشًا، وقد اسْتَكْرَشَتْ.
وقالَ غَيْرُه: اسْتَكْرَشَ الصَّبِيُّ والجَدْيُ: عَظُمَتْ كَرِشُه، وقِيلَ: المُسْتكْرِشُ بَعْدَ الفطِيمِ، واسْتِكْرَاشُه: أَنْ يَشْتَدَّ حَنَكُه ويَجْفُرَ بَطْنُه، وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيّ: اسْتَكْرَشَت البَهْمَةُ: عَظُم بَطْنُه، وقَالَ الأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ لِلْصَبِيّ إِذا عَظُمَ بَطْنُه، وأَخَذَ في الأَكْلِ: قد اسْتَكْرَشَ، وأَنْكَرَ بَعْضُهم ذلِكَ في الصَّبِيِّ فقال: يُقَالُ للصَّبِيِّ قد اسْتَجْفَرَ، وإِنَّمَا يُقَالُ: اسْتَكْرَشَ الجَدْيُ، وكُلُّ سَخْلٍ يَسْتَكْرِشُ، يَعْنِي يَعْظُم بَطْنُه، ويَشْتَدُّ أَكْلُه.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:
جَمْعُ الكَرِش أَكْرَاشٌ وكُرُوشٌ، وإِذا كانَت الأَرْضُ جَدْبَةً يُقَال: اغْبَرَّتْ جِلْدَتُهَا ورَقَّت كَرِشُها، وهو مَجَازٌ.
ويُقَال لِلدَّلْوِ العَظِيمَةِ المُنْتَفِخَةِ النَّوَاحِي: كَرْشاءُ، وهو من مَجازِ المَجَازِ: نَقَلَهُ الزّمَخْشَرِي.
ورَجُلٌ أَكْرَشُ، أَيْ عَظِيمُ البَطْنِ، وقِيلَ: عَظِيمُ المالِ، وهُوَ مجازٌ.
والكَرِشُ: وِعَاءُ الطِّيبِ والثَّوْبِ، مؤنَّثٌ أَيْضًا.
وكَرِشُ كُلِّ شَيْءٍ: مُجْتَمَعُه.
وكَرِشُ القَوْمِ: مُعْظَمُهم، وهو مَجازٌ، والجَمْعُ أَكْرَاشٌ وكُرُوشٌ، قالَ الشاعر:
وأَفَأْنَا السَّبِيَّ مِن كُلِّ حَيٍّ *** فَأَقَمْنَا كَرَاكِرًا وكُرُوشَا
وقيلَ: الكُرُوشُ والأَكْرَاشُ: جَمْعٌ لا وَاحِدَ لَهُ.
ويُقَالُ: تَزَوَّجَ المَرْأَةَ فنَثَرَتْ لَهُ كَرِشَها وبَطْنَها، أَيْ كَثُرَ وَلَدُهَا لَهُ. وهُوَ مَجازٌ.
وكَذَا كَرِشَ الرَّجُلُ، كفَرِحَ، إِذا كَثُرَ عِيَالُه بَعْدَ مُدّةٍ، وهذِه عن الصّاغَانِيِّ وهُوَ مَجَازٌ أَيْضًا.
وقَالَ شَمِرٌ: اسْتَكْرَشَ: تَقَبَّضَ وقَطَّبَ وعَبَسَ، وأَنْشَد قولَ رُؤْبَةَ:
طَلْقٌ إِذا اسْتَكْرَشَ ذُو التَّكْرِيشِ
وقال ابنُ بُزُرْج: ثوْبٌ أَكْرَاشٌ: وهو من بُرُودِ اليَمَنِ نقلهُ الأَزْهَرِيُّ.
والكِرْشانِ: الأَزْدُ وعَبْدُ القَيْسِ. نَقَلَهُ الأَزْهَرِيّ، وعَجِيبٌ مِنَ المُصَنِّفِ، رَحِمَهُ الله تَعالَى، كَيْفَ أَغْفَلَه.
وكِرْشِمٌ، كزِبْرِجٍ: اسمُ رجُلٍ، ميمُه زائدةٌ في أَحَدِ قَوْلَيْ يَعْقُوبَ.
وكِرْشاءُ بنُ المُزْدَلِف عَمْرِو بن أَبِي رَبِيعَةَ في بَنِي رَبِيعَةَ.
ومُنْيَةُ أَكْرَاشٍ: قريةٌ بمِصْرَ.
والكُرَيْشَةُ بالضَّمِّ: نَوْعٌ من أَثْوابِ الخَزِّ.
وبَنُو كُرَيْشَة: بَطْنٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
248-تاج العروس (كندش)
[كندش]: الكُنْدُشُ، بالضَّمِّ، كَتَبَهُ بالحُمْرَة، عَلَى أَنّه ممّا اسْتَدْرَكَ بِهِ على الجَوْهَرِيّ، ولَيْسَ كَذلِكَ بَلْ ذَكَره الجَوْهَرِيُّ في تركيب «كدش» عَلَى أَنَّ النونَ زائدَةٌ، فَلْيُتَنَبَّهْ لذلِك، وكَأَنَّهُ بِهِ عِنْدَهُ لَمْ يأْتِ بِهِ هُنَا، فكأَنّه أَهْمَلَه، وقَدْ يَخْتَارُ ذلكَ كَثِيرًا في كِتَابه، قالَ الجَوْهَرِيُّ: الكُنْدُشُ: هُوَ العَقْعَقُ، ونَقَلَ ابنُ بَرِّيّ عن ابنِ خالَوَيْه: أَنّه لِصُّ الطَّيْرِ، كما انّ الرِّئْبالَ لِصُّ الأُسُودِ، والطِّمْلُ: لِصُّ الذِّئَابِ، والزَّبَابَةُ: لِصُّ الفِيرَانِ، قَالَ ابنُ الأَعْرَابِيّ: أَخْبَرَنِي ابنُ المُفَضَّلِ: يُقَال: «هُوَ أَخْبَثُ منْ كُنْدُشٍ» وأَنْشَدَ لأَبي الغَطَمَّش الأَسَدِيّ، هكذا في الحَمَاسَة، وصَحَّحَ ابنُ جِنِّي هُوَ لابِنِ المُغَطَّشِ الحَنَفِيّ، وضَبَطَه، يَصِفُ امْرَأَةً، كَذَا في نُسَخِ الصّحاحِ، وفي بَعْضِهَا يَذُمُّ امْرَأَةً:مُنِيتُ بِزَنْمَرْدَةٍ كالعَصَا *** أَلَصَّ وأَخْبَثَ منْ كُنْدُشِ
تُحِبُّ النِّسَاءَ وتَأْبَى الرِّجَالَ *** وتَمْشِي مع الأَخْبَثِ الأَطْيَشِ
لَهَا وَجْهُ قِرْدٍ إِذا ازَّيَّنَتْ *** ولَوْنٌ كبَيْضِ القَطَا الأَبْرَشِ
قال ابنُ بَرّيّ: مُنِيتُ: أَيْ بُلِيتُ، وزَنْمَرْدَة: امرَأَةٌ يُشْبه خَلْقُها خَلْقَ الرَّجُلِ، فارِسِيٌّ مُعَرَّب، ويُرْوَى بكَسْرِ الزايِ مع المِيمِ، ويُرْوَى بزِمَّرْدَةٍ، بحَذْفِ النُّون، على مثال عِلَّكدَة.
قلتُ: ويُرْوَى، أَيْضًا، بفَتْحِ الزاي وكَسْرِ المِيم.
وأَمّا الدَّواءُ المُعَطِّسُ فبالسِّينِ، لا غَيْرُ، وذَكَرَه الجَوْهَرِيُّ في الشين، وهو تَصْحِيفٌ، وقد نَبّه عَلَى هذا أَبو سَهْلٍ الهَرَويُّ، والصّاغَانِيُّ، أَو الشِّينُ لُغَيَّةٌ مَرْذُولَةٌ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:
الكِنْدِشُ لُغةٌ في الكُنْدُشِ بالضّمِّ بمَعْنى العَقْعَقِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
249-تاج العروس (بربعيص)
[بربعيص]: بَرْبَعِيصٌ، كَزَنْجَبِيلٍ، أَهْمَلَه الجَوْهَرِيُّ وصاحِبُ اللِّسَانِ، وقَالَ ابنُ دُرَيْدٍ: هُوَ: موضع بحِمْصَ. وقالَ امْرؤُ القَيْسِ:وما جَبُنَتْ خَيْلِي ولكِنْ تَذَكَّرَتْ *** مَرَابِطَها مِن بَرْبَعِيصَ ومَيْسَرَا
هكذا أَنْشَدَه الصّاغَانِيُّ والَّذِي في المُعْجَم:
يُذَكِّرُهَا أَوْطانَها تَلُّ مَاسِحٍ *** مَنَازِلُهَا مِنْ بَرْبَعِيصَ ومَيْسَرَا
قال ابنُ السِّكِّيتِ في شَرْحِ هذا البَيْت: تَلُّ ماسِحٍ: مَوْضِعٌ. قالَ يَاقُوت: قُلْتُ: هُوَ من أَعْمَالِ حَلَب، ومَيْسَرُ: مَكَانٌ. قالَ: وقال أَبُو عَمْرو: كَانَتْ ببَرْبَعِيص ومَيْسَرَ وَقْعَةٌ قَدِيمَةٌ، وقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا مَنْ لَقِيتُ مِنَ العُلَماء فما أَخْبَرَنِي عَنْهَا أَحَدٌ بشَيْءٍ.
قُلْتُ: وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَيْسَرَ في الراءِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
250-تاج العروس (برص)
[برص]: البَرَصُ، مُحَرَّكَةً: داءٌ مَعْرُوفٌ، أَعاذَنَا اللهُ منه ومن كُلِّ داءٍ، وهو بَيَاضٌ يَظْهَرُ في ظاهِرِ البَدَنِ، ولَوْ قال: يَظْهَرُ في الجَسَدِ لِفَسَادِ مِزَاجٍ كان أَخْصَر.وقد بَرِصَ الرَّجُلُ كفَرِحَ، فهُوَ أَبْرَصُ وهِيَ بَرْصاءُ.
وأَبْرَصَهُ الله تَعَالَى.
والبَرَصُ: الَّذِي قد ابْيَضَّ من الدّابَّةِ من أَثَرِ العَضِّ، عَلَى التَّشْبِيهِ، قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ، رَضِيَ الله عَنْه:
يَرْمِي بكَلْكَلِه أَعْجَازَ جافِلَةِ *** قَدْ تَخِذَ النَّهْسَ في أَكْفَالِهَا بَرَصَا
وسامُّ أَبْرَصَ، بِتَشْدِيدِ المِيمِ، قالَ الأَصْمَعِيُّ: ولا أَدْرِي لِمَ سُمِّيَ بِذلِكَ، هُوَ مُضَافٌ غَيْرُ مركَّبٍ ولا مَصْرُوفٍ: الوَزَغَةُ، وقالَ الجَوْهَرِيُّ: هُوَ من كِبارِ الوَزَغِ، وهُوَ م، مَعْرُوفٌ، معرِفَةٌ، إِلاّ أَنَّه تَعْرِيفُ جِنْسٍ. قالَ الأطِبّاء: دَمُه وَبْولُه عَجِيبٌ إِذا جُعِلَ في إِحْلِيلِ الصَّبِيِّ المَأْسُورِ فإِنَّهُ يَحُلُّهُ من ساعَتهِ، كأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ورَأْسُه مَدْقُوقًا إِذا وُضِعَ عَلَى العُضْوِ أَخْرَجَ ما غَاصَ فيهِ مِنْ شَوْكٍ ونَحْوِه. وقال الجَوْهَرِيُّ: هُمَا اسْمَانِ جُعِلَا وَاحِدًا، وإِنْ شِئْتَ أَعْرَبْتَ الأَوَّلَ وأَضَفْتَه إِلَى الثانِي، وإِنْ شِئْتَ بَنَيْتَ الأَوّلَ عَلَى الفَتْحِ وأَعْرَبْتَ الثّانِي بإِعْرَابِ ما لا يَنْصَرِف، وتَقُولُ في التَّثْنِيَةِ: هذانِ سامَّا أَبْرَصَ، وفي الجَمْعِ: هَؤُلاءِ سَوامُّ أَبْرَصَ، أَوْ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ: السَّوَامُّ، بلا ذِكْر أَبْرَصَ، أَوْ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ: هؤْلاءِ البِرَصَةُ، بكَسْرٍ ففَتْحٍ، والأَبارِصُ، بِلَا ذِكْرِ سامٍّ، وقالَ ابنُ سِيدَه: وقَدْ قالُوا الأَبارِصَ، عَلَى إِرادَةِ النَّسَبِ وإِنْ لَمْ تَثْبُت الهاءُ، كَمَا قالُوا المَهَالِبَ، وأَنشد:
والله لَوْ كُنْتُ لِهذَا خَالِصَا *** لكُنْتُ عبْدًا آكُلُ الأَبَارِصَا
قُلْتُ: هكَذَا أَنْشَدَهُ الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ ابنُ جِنِّي آكِلَ الأَبَارِصَا، أَرادَ آكِلًا الأَبَارِصَ، فحَذَفَ التّنْوِينَ لِالْتِقَاءِ الساكِنَيْنِ.
والأَبْرَصُ: القَمَرُ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ، تَقُولُ: بِتُّ ولا مُؤْنِسِي إِلاّ الأَبْرَصُ.
وبَنُو الأَبْرَصِ: بَطْنٌ مِنَ العَرَبِ وهُمْ بَنُو يَرْبُوعِ ابنِ حَنْظَلَةَ بنِ مالِكِ بنِ زَيْدِ مَناةَ، من تَمِيمٍ، وأَنْشَدَ ابنُ دُرَيْدٍ:
كانَ بَنُو الأَبْرَصِ أَقْرَانَهَا *** فَأَدْرَكُوا الأَحْدَثَ والأَقْدَمَا
وعَبِيدُ بنُ الأَبْرَصِ بنِ جُشَمَ بنِ عامِرِ بنِ فِهْرِ بنِ مالِكِ ابنِ الحارِثِ بنِ سَعْدِ بنِ ثَعْلَبَةَ بن دُودانَ بنِ أَسَدٍ الأَسَدِيُّ: شَاعِرٌ مَشْهُورٌ.
والبَرْصَاءُ: لَقَبُ أُمِّ شَبِيب بنِ يَزِيدَ بنِ حَمزة بن عَوْفِ ابنِ أَبي حارِثَةَ. الشّاعِرِ، واسْمُها أُمامَةُ بنْتُ قَيْسٍ، أَو قِرْصافَةُ، عن السُّكَّرِيِّ، والأَوّل قولُ ابنِ الكَلْبِيِّ قال: وهي ابْنَةُ الحَارِث بنِ عَوْفٍ، وقَال: قَال ابنُ الزُّبَيْرِ: إِنّمَا سُمِّيَتْ البَرْصَاء فيما أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بنُ الضَّحّاكِ بنِ عُثْمَانَ عن أَبيهِ أَنَّ أَبَاهَا الحارِثَ بنَ عَوْفٍ جاءَ إِلى النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فخَطَبَ إِليه صلى الله عليه وسلم ابْنَتَه، فقال: إِنَّ بها وَضَحًا، فرَجَع وقد أَصابَهَا، ولم يَكُنْ بها وَضَحٌ، وقَالَ بَعْضُ النّاسِ: إِنّمَا سُمِّيَت البَرْصاءَ لشِدَّةِ بَيَاضِهَا، ففِي ذلِكَ يَقُولُ ابْنُهَا شَبِيبٌ:
أَنَا ابْنُ بَرْصَاءَ بها أُجِيبُ *** هَلْ في هِجَانِ اللَّوْنِ ما تَعِيبُ
قلت: وفيه يقول الشّاعِر:
مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ مُرَّةَ أَنّهُ *** هَجَانَا ابنُ بَرْصاءِ العِجَانِ شَبِيبُ
ومِنَ المَجَازِ: أَرْضٌ بَرْصَاءُ: رُعِيَ نَباتُهَا مِنْ مَوَاضِعَ فعَرِيَتْ عَنْهُ.
وحَيَّةٌ بَرْصَاءُ: فِيهَا، أَيْ في جِلْدِها لُمَعُ بَياضٍ. والبَرِيصُ، كأَمِيرٍ: نَبْتٌ يُشْبِهُ السُّعْدَ، يَنْبُتُ في مَجارِي الماءِ عن أَبِي عَمْرٍو.
والبَرِيصُ: موضع بدِمَشْقَ، الصّوَابُ نَهْرٌ بدِمَشْقَ، كَمَا في المُحْكَمِ والتّهْذِيبِ، والفَرْقِ لابنِ السّيدِ والمُعْجَمِ، ونَبَّهَ عَلَى ذلِكَ شَيْخُنا، والمصَنِّفُ قَلَّد الصّاغَانِيَّ وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: لَيْسَ بالعَرَبِيِّ الصَّحِيح، وأَحْسبُه رُومِيَّ الأَصْلِ، وقَدْ تَكَلَّمَتْ به العَرَبُ، قال حسّانُ بنُ ثابِتٍ، رَضِيَ الله عنه يَمْدَحُ بنِي جَفْنَةَ:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قُلْتُ: وقَالَ بَعْضٌ: إِنَّ البَرِيصَ اسمٌ لِلغُوطَةِ بِأَجْمَعَها، واسْتَدَلَّ بقَوْلِ وَعْلَةَ الجَرْمِيِّ:
فما لَحْمُ الغُرَابِ لَنَا بِزَادٍ *** ولا سَرَطَانُ أَنْهَارِ البَرِيصِ
قَالَ شَيْخُنا: وَرَأَيْتُ كَثِيرًا من شُرّاحِ الشَّوَاهِد وغَيْرِهِم يَرْوُونَه: البَرِيض، بالضادِ المُعْجَمَة، ويَتَشَدَّقُّونَ بِهِ في مَجَالِسِهِم ومُخَاطَباتِهِم، جَهْلًا وتَقْلِيدًا للتّصْحِيفِ، أَو عَدَم وُقُوفٍ عَلَى الحَقيقَةِ وأَخْذ عن ماهِرٍ عَرِيفٍ، والله أَعلَمُ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ مِثْلِ شَنَاعَة هذا التَّحْرِيفِ.
قُلْتُ: هُوَ كَما قالَ، وهُوَ بالضّادِ المُعْجَمَةِ: مَوْضِعٌ فِي شِعْرِ امرئَ القَيْسَ، ولَيْسَ هو هذا النّهْرَ الَّذِي بدِمَشْقَ، أَوْ هُوَ باليَاءِ التّحْتِيَّةِ كما سَيَأْتِي.
والبَرِيصُ: مِثْلُ البَصِيص، وهُوَ البَرِيقُ، قَال الشاعِرُ:
وتَبْسِمُ عَنْ نَوَاسِعَ شاخِصاتٍ *** لَهُنَّ بخَدِّهِ أَبَدًا بَرِيصُ
والبِرَاصُ، ككِتَابٍ: مَنَازِلُ الجِنِّ، جَمْعُ بُرْصَةٍ، بالضَّمِّ. والبِرَاصُ: بِقَاعٌ في الرَّمْلِ لا تُنْبِتُ شَيْئًا، جَمْع بُرْصَةٍ، بالضَّمِّ. قالَ ابنُ شُمَيْل: البُرْصَةُ: البُلُّوقَةُ، وجَمْعُهَا بِرَاصٌ، وهِيَ أَمْكِنَةٌ من الرَّمْلِ بِيضٌ لا تُنْبِتُ شَيْئًا.
والبَرْصُ، بالفَتْحِ، ذِكْرُ الفَتْحِ مُسْتَدْرَك: دُوَيْبَّةٌ تَكُونُ في البِئرِ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن ابنِ عَبّادٍ.
وأَبْرَصَ الرَّجُلُ: جَاءَ بوَلَدٍ أَبْرَصَ.
ومن المَجازِ عن ابنِ عَبّادِ: التَّبْرِيصُ: حَلْقُكَ الرَّأْسَ، وقد بَرَّصَه، نقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ والصّاغَانِيُّ.
والتَّبْرِيصُ أَيْضًا: أَنْ يُصِيبَ الأَرْضَ المَطَرُ قَبْلَ أَنْ تُحْرَثَ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ عن ابنِ عَبّادٍ.
ومن المَجَازِ: تَبَرَّصَ البَعِيرُ الأَرْضَ، إِذا لَمْ يَدَعْ فِيهَا رِعْيًا إِلاَّ رَعَاهُ، نقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ والصّاغَانِيُّ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
البُرْصُ، بالضَّمْ: جَمْعُ الأَبْرَصِ، وقَدْ يُطْلَقُ البُرْصُ عَلَى الوَزَغَةِ.
ويُصَغَّر أَبْرَصُ، فيقال: بُرَيْص، ويُجْمَع بُرْصَانًا.
وأَبُو بُرَيْصٍ: كُنْيَةُ الوَزَغَةِ.
وأَبُو بُرَيْصٍ أَيْضًا: طائِرٌ يُسَمَّى البَلَصَةُ، عَن ابنِ خالَوَيْه، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ اسْتِطْرادًا في «بلص»، أَوْ هُوَ أَبُو بُرْبُصٍ، كقُنْفُذٍ.
والبُرَيْصَةُ: دابَّةٌ صَغِيرَةٌ دُونَ الوَزَغَةِ، إِذا عَضَّتْ شَيْئًا لَمْ يَبْرَأْ.
والبُرْصَةُ، بالضَّمّ: فَتْقٌ في الغَيْمِ يُرَى مِنْه أَدِيمُ السَّمَاءِ.
والبريصان: فَرَسٌ نَجِيبٌ.
وبَرْصِيصَا العَابِدُ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، وقِصَّتُه مَشْهُورَةٌ.
والبَرْصَاءُ: أُمُّ خالِدٍ الصّحابِيّ، وهذا نَقَلَه شَيْخُنَا، وقالَ أَبو إِسْحَاقَ النَّجِيرَمِيُّ في أَمَالِيه: العَرَبُ تَقُول: لا أَبْرَحُ بَرِيصِي هذا؛ أَي مقَامِي هذا، قالَ ومنْهُ سُمِّيَ بابُ البَرِيصِ بدِمَشْقَ؛ لأَنَّهُ مَقَامُ قَوْمٍ يَرِدُون، هكذا نَقَلَهُ ياقُوت.
قُلْتُ: فهو إِذًا عَرَبيٌّ صَحِيحٌ، خِلافًا لِمَا نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ عن ابنِ دُرَيْدٍ أَنَّهُ رُومِيُّ الأَصْلِ، كما تَقَدَّم، فتَأَملْ. والأَبْرَاصُ: مَوْضِعٌ بَيْنَ هَرْشَى والغَمْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
251-تاج العروس (خلص)
[خلص]: خَلَصَ الشّيْءُ يَخْلُصُ، بالضَّمِّ، خُلُوصًا، كقُعُودٍ، وخَالِصَةً ـ كعَافِيَةٍ وعاقِبَةٍ، قالَ شَيْخُنَا: وزَعَمَ بَعْضُهُم أَنّ الهَاءَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، كرَاوِيَةٍ، والسِّياق يَأْباهُ، انْتَهَى. وفي اللِّسَانِ: ويُقَالُ: هذَا الشَّيْءُ خَالِصَةٌ لكَ، أَيْ خَالِصٌ لَكَ خَاصَّةً. قُلْتُ وكَوْنُ هذَا البَابِ ككَتَبَ هُوَ المَشْهُور في دَوَاوِينِ أَنَّه ككَرُمَ وكَتَبَ، وبَقِي عَلَيْه مِنَ المَصَادِرِ الخَلَاصُ، بالفَتْحِ، وقيلَ: الخَالِصَةُ والخَلَاصُ: اسْمَانِ ـ: صَارَ خالِصًا.ومِن المَجَازِ: خَلَصَ إِليْهِ خُلُوصًا: وَصَلَ، وكذا خَلَصَ بهِ، ومِنْهُ حَدِيثُ الإِسْرَاءِ: «فلمَّا خَلَصْتُ بمُسْتوًى مِنَ الأَرْضِ» أَيْ وَصَلْتُ وبَلغْتُ، وكَذا خَلَصَ إِليْهِ الحُزْنُ والسُّرُورُ.
وقالَ الهوَازِنِيُّ: خَلِصَ العَظْمُ، كفَرِحَ خَلَصًا، إِذا نَشِطَ، هكَذَا في سَائِرِ النُّسَخ الَّتِي بِأَيْدِينَا، وهو غَلَطٌ وصوابُه تَشَظَّى في اللَّحْمِ، كَمَا هو نَصُّ الهَوَازِنِيِّ فِي اللِّسَانِ والتَّكْمِلَةِ، قالَ: وذلِكَ فِي قَصَبِ عظَامِ اليَدِ والرِّجْلِ، وزادَ في اللِّسَانِ بَقِيَّةَ نَصِّ الهَوَازِنِيِّ، يُقالُ: خلِصَ العَظْمُ [يَخْلَصُ] خَلَصًا: إِذَا بَرَأَ وفِي خِلَلِه شَيْءٌ مِنَ اللَّحْمِ.
وقالَ الدِّينَوَرِيُّ: أَخْبَرنِي أَعْرَابِيُّ أَنَّ الخَلَصَ، مُحَرَّكَةً: شَجَرٌ يَنْبُتُ كالكَرْمِ يَتَعَلَّقُ بالشَّجَرِ، فيَعْلُو ولَهُ وَرَقٌ أَغْبَرُ رِقَاقٌ مُدَوَّرَةٌ وَاسِعَةٌ، ولَهُ وَرْدٌ كوَرْدِ المَرْوِ، وأُصُولُه مُشْرَبَةٌ، وهُوَ طَيِّبُ الرِّيحِ، وحَبُّه كنحْوِ حَبِّ عنَبِ الثّعْلَبِ، يَجْتَمِعُ الثَّلاثُ والأَرْبَعُ مَعًا، وهُوَ أَحْمَرُ كخَرَزِ العَقِيقِ لا يُؤْكَلُ، ولكنّه مَرْعًى، وَاحِدَتُه بهَاءٍ.
والخَالِصُ: كُلُّ شَيْءٍ أَبْيَض، يُقَالُ: لَوْنٌ خَالِصٌ، وماءٌ خَالِصٌ، وثَوْبٌ خَالِصٌ.
وقال اللِّحْيَانِيُّ: الخَالِصُ من الأَلْوَانِ: ما صَفَا ونَصَعَ، أَيّ لَوْنٍ كانَ، وفي البَصَائِر: الخَالِصُ: الصّافِي الَّذِي زالَ عَنْهُ شَوْبُه الَّذِي كانَ فِيه.
والخَالِصُ: نَهْرٌ شَرْقِيَّ بَغْدَاد، عَلَيْه كُورَةٌ كَبِيرَةٌ تُسَمَّى الخَالِصَ، وقَدْ نُسِبَ إِلَيْهَا بَعْضُ المُحَدِّثِينَ هكذَا وبَعْضُهُم: بِالنَّهْرِ خالِصِيّ.
وخالِصَةُ: د، بجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ.
وخَالِصَة: بِرْكَةٌ بَيْنَ الأَجْفَرِ والخُزَيْمِيَّةِ والخَلْصَاءُ: موضع، بالدَّهْنَاءِ فِيه عَيْنُ ماءٍ، قَالَ الحارِثُ بنُ حِلِّزَةَ:
بَعْدَ عَهْدِي لَهَا ببُرْقَةِ شَمَّا *** ءَ فأَدْنَى دِيَارِهَا الخَلْصَاءُ
وقالَ غَيْرُه:
أَشْبَهْنَ من بَقَرِ الخَلْصَاءِ أَعْيُنَهَا *** وهُنَّ أَحْسَنُ من صِيرَانِهَا صُوَرَا
وقَوْلُه عزَّ وجَلّ {إِنّا} أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ {ذِكْرَى الدّارِ} أَيْ خَلَّةٍ خَلَّصْنَاهَا لَهُم، فمن قَرَأَ بالتَّنْوِينِ جَعَلَ {ذِكْرَى الدّارِ} بَدَلًا مِنْ خالِصَة، ويَكُونُ المَعْنَى جَعَلْنَاهُم خالِصِينَ بِأَنْ جَعَلْنَاهُم يُذَكِّرُونَ بِدَارِ الآخرة، ويُزَهِّدُونَ فِيهَا أَهْلَ الدُّنْيَا، وذلِكَ شَأْنُ الأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهمُ الصّلاةُ والسّلامُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، يُكْثِرُونَ ذِكْرَ الآخِرَةِ والرُّجُوعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وقُرِئَ عَلَى إِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلى ذِكْرَى أَيْضًا.
وخَلْصٌ، بالفَتْح: موضع، بآرَةَ، من دِيَارِ مُزَيْنَةَ، قَال ابنُ هَرْمَةَ:
كأَنَّكَ لم تَسِرْ بجُنُوبِ خَلْصٍ *** ولَمْ تَرْبَعْ على الطَّلَلِ المُحِيلِ
وخُلَيْصٌ كزُبَيْرٍ: حِصْنٌ بَيْنَ عُسْفانَ وقُدَيْد، عَلَى ثَلاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، شَرّفَها الله تَعَالَى.
وكُلُّ أَبْيَضَ خُلَيْصٌ، كالخَالِصِ.
وخَلْصَا الشَّنَّةِ ـ مُثَنّى خَلْص بِالْفتْحِ، والشَّنَّةُ بفتْحِ الشِّينِ وتشْدِيدِ النّونِ ـ: عِرْقاهَا، هكذا في سَائرِ الأُصُولِ، وصَوَابُه: عِرَاقاهَا، وهو ما خَلَصَ من الماءِ مِنْ خَلَلِ سُيُورِهَا، عن ابنِ عَبّادٍ.
ويُقالُ: هُوَ خِلْصُكَ، بالكسْرِ، أَيْ خِدْنُكَ، ج: خُلَصاءُ، بالضَّمِّ والمدّ، تَقُولُ: هؤُلاءِ خُلصَائِي، إِذا كانُوا مِنْ خاصَّتِك، نقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ.
وخُلَاصَةُ السَّمْنِ، بالضَّمِّ، وعَليْه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، والكَسْر، نقَلَهُ الصاغَانِيُّ عَن الفَرّاءِ: ما خَلَصَ منْهُ، لِأَنَّهُمْ إِذَا طَبَخُوا الزُّبْدَ ليتَّخذُوه سَمْنًا طَرحُوا فيه شَيْئًا من سَوِيقٍ وتَمْرٍ وأَبْعَارِ غزْلانٍ، فإِذا جاد وخَلَصَ من الثُّفْل فذلكَ السَّمْنُ هو الخُلاصةُ.
والخِلاصُ، بالكَسْرِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي عُبيْدٍ: الإثْرُ، بكَسْرِ الهَمْزَة، وقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الزُّبْدُ حِينَ يُجْعَلُ في البُرْمَةِ لِيُطْبَخَ سَمْنًا فهُو الإِذْوَابُ والإِذْوَابَةُ، فإِذا جادَ وخَلَصَ اللَّبَنُ من الثُفْلِ فذلِك اللَّبَنُ الإِثْرُ والإِخْلاصُ، وقَال الأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ العَرَبَ تقُولُ لِمَا يُخْلَصُ بِهِ السّمْنُ في البُرْمَةِ مِن الماءِ واللَّبَنِ والثُفْلِ: الخِلَاصُ، وذلِك إِذا ارْتجَن واخْتَلَطَ اللّبَنُ بالزُّبْدِ، فيُؤْخذُ تَمْرٌ أَو دَقِيقٌ أَو سَوِيقٌ فيُطْرَحُ فِيه ليَخْلُصَ السَّمْنُ منْ بَقيَّة اللَّبَن المُخْتلط به، وذلِكَ الَّذِي يَخْلُصُ هو الخِلَاصُ، بالكَسْرِ، وأَمَّا الخُلَاصَةُ فهو ما بَقِيَ في أَسْفلِ البُرْمَة من الخلَاصِ وغيْرِهِ من ثُفْلٍ أَوْ لبَنٍ وغيْرِه، وقال أَبُو الدُّقَيْشِ: الزُّبْدُ: خِلَاصُ اللَّبَنِ، أَيْ منْهُ يُسْتخْلصُ، أَيْ يُسْتَخْرَجُ. والخلَاصُ: ما أَخْلَصَتْهُ النّارُ من الذَّهَبِ والفضَّة والزُّبْد، وكذلك الخُلَاصَة، حَكاهُ الهَرَوِيّ في الغَرِيبَيْنِ، وبِهِ فُسِّر حَدِيثُ سَلْمَانَ «أَنَّه كاتَبَ أَهْلَهُ عَلى كَذَا وكَذَا، وعَلى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةَ خِلَاصٍ». والخُلاَّصُ، كرُمّانٍ: الخَلَلُ في البَيْتِ، بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، نَقَلَه ابنُ عَبّادٍ.
والخُلُوصُ، بالضَّمِّ: القِشْدَةُ والثُّفْلُ، والكُدَادَةُ والقِلْدَةُ: الَّذِي يَبْقَى في أَسْفَلِ خُلاصَةِ السَّمْنِ، والمَصْدَرُ مِنْهُ الإِخْلَاصُ، نقلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقد أخْلَصْت السَّمْنَ.
وذُو الخَلَصَةِ، مُحَرّكَةً، وعَلَيْه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، ويُقَالُ بضَمَّتَيْنِ، حَكاهُ هِشامٌ، وحَكَى ابنِ دُرَيْدٍ فتْحَ الأَوَّلِ وإِسْكانَ الثّانِي، وضَبَطَه بَعْضُهُم بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وضَمِّ ثانِيه، والأَوَّلُ الأَشْهُرُ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ: بَيْتٌ كان يُدْعَى الكَعْبَةَ اليَمَانِيَّة، ويُقَالُ لهُ: الكَعْبَةُ الشّامِيةُ أَيْضًا، لِجَعْلِهِم بَابَه مُقَابِل الشَّامِ، وصَوَّبَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ اليَمَانِيّة، كما نَقَلَه شَيْخُنَا.
قُلْتُ: وفي بَعْضِ الأُصُولِ: كانَ يُدْعَى كعْبَةَ اليَمامَةِ، وهُوَ الَّذِي في أُصُولِ الصّحاحِ، وقوْلُه: لِخثْعَمٍ، هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَليْه الجَوْهَرِيّ، فلا تقْصِيرَ في كَلامِ المُصَنّفِ، كمَا زَعَمَهُ شيْخُنَا، لِأَنَّه تَبعَ الجَوْهَرِيَّ فيما أَورَدَه، وزادَ غَيْرُه: ودَوْسٍ وبَجِيلَةَ وغَيْرِهم، ومِنه الحَدِيثُ: «لا تَقُوم السّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِساءِ دَوْس عَلَى ذِي الخَلَصَة» والَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سياقِ الحافظِ، في الفَتْحِ، أَنَّ المَذْكُورَ فِي هذا الحَدِيثِ غيْرُ الَّذِي هَدَمَه جَرِيرٌ؛ لِأَنَّ دَوْسًا رَهْطُ أَبِي هُرَيْرَةَ من الأَزْد، وخَثْعَمُ وبَجِيلَةُ من بنِي قَيْسِ، فالأَنْسَابُ مُخْتَلِفَة، والبِلادُ مُخْتَلِفةٌ، والصَّحِيحُ أَنَّهُ صَنَمٌ كانَ أَسْفَلَ مَكَّةَ نَصَبَهُ عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ، وقَلَّدَه القَلائدَ، وعَلَّقَ بِه بَيْضَ النَّعامِ، وكانَ يُذْبَحُ عِنْدَه، فتأَمَّلْ ذلِك.
كانَ فيهِ صَنَمٌ اسْمُه الخَلَصَةُ، فأَنْفَذَ إِليْهِ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم جَرِيرَ بنَ عَبْدِ الله، رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، فهَدَمَه وخَرَّبَه.
وقِيلَ: ذُو الخَلَصَةِ: الصَّنَمُ نَفْسُهُ، قال ابنُ الأَثِيرِ: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ «ذُو» لا تُضَافُ إِلاَّ إِلَى أَسْمَاءِ الأَجْنَاسِ: أَو لِأَنَّه كانَ مَنْبتَ الخَلَصَةِ، النّبَاتِ الَّذِي ذُكِرَ قريبًا.
وأَخْلَصَ لله الدِّينَ: أَمْحَضَهُ وتَرَكَ الرِّيَاءَ فِيهِ، فهُوَ عَبْدٌ مُخْلِصٌ ومُخْلَصٌ، وهو مَجَازٌ، وفي البَصَائِرِ: حَقِيقَةُ الإِخْلَاصِ: التِّبَرِّي من دُونِ الله تعَالَى، وقُرِئَ: {إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ} الْمُخْلَصِينَ بكَسْرِ اللاَّمِ وفتْحِها، قال الزَّجّاجُ: المُخْلَص: الَّذِي جَعَلَه الله مُخْتارًا خَالِصًا من الدَّنَسِ، والمُخْلِصُ: الَّذِي وحَّدَ الله تعالى خَالِصًا.
وأَخْلَصَ الرَّجُلُ السَّمْنَ: أَخَذَ خُلاصَتَهُ، نَقَلَه الفَرّاءُ.
وأَخْلَصَ البَعِيرُ سَمِنَ، وكَذلِكَ النّاقَةُ، نَقَلَهُ أَبو حَنِيفَةَ وأَنْشَدَ:
وأَرْهَقَتْ عِظَامُهُ وأَخْلَصَا
وقالَ اللَّيْثُ: أَخْلَصَ، إِذا صَارَ مُخُّهُ قَصِيدًا سَمِينًا، وأَنْشد:
مُخْلِصَةَ الأَنْقاءِ أَوْ زَعُومَا
وخَلَّصَ الرَّجُلَ تَخْلِيصًا: أَعْطَى الخَلَاصَ، وهو مِثْلُ الشَّيْءِ، ومِنْهُ حَدِيثُ شُرَيْحٍ «أَنَّه قَضَى في قَوْسٍ كَسَرَهَا رَجُلٌ بالخَلَاصِ»، أَيْ بمِثْلِهَا.
والخَلَاصُ أَيْضًا: أُجْرَةُ الأَجِيرِ، يُقالُ: أَعْطَى البَحَّارَةَ خَلاصَهُم، أَيْ أَجْرَ أَمْثالِهِم.
وخَلَّصَ تَخْلِيصًا: أَخَذَ الخُلَاصَةَ من السَّمْنِ وغَيْرِه، كَذا يَقْتَضِيه سِيَاقُ عِبَارَتِهِ، والَّذِي في الأُصُولِ الصّحِيحَة أَنّ فِعْلَه بالتَّخْفِيفِ، يقال أَخْلَصَ وخَلَصَ إِخْلاصًا وخَلَاصًا وخُلُوصًا: إِذا أَخَذَ الخُلَاصَةَ، ومِثْلُه في التّكْمِلَةِ، وهُوَ مَضْبُوطٌ بالتَّخْفِيفِ هكذا، فتأَمَّلْ.
وخَلَّصَ الله فُلانًا: نَجّاهُ بَعْدَ أَنْ كانَ نَشِبَ، كأَخْلَصَه فتَخلَّصَ كما يَتَخَلَّصُ الغَزْلُ إِذا الْتَبَسَ.
ومِنَ المَجَازِ خَالَصَةُ في العِشْرَةِ، أَيْ صافاهُ ووَادَدَهُ.
واسْتَخْلَصَه لِنَفْسِه: اسْتَخَصَّهُ بدُخْلُلِهِ، كأَخْلَصَه، وذلِكَ إِذَا اخْتَارَه.
* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:
التَّخْلِيصُ: التَّصْفِيَةُ. ويَاقُوتٌ مُخَلَّصٌ؛ أَي مُنَقّىً.
وقِيل لِسُورَة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} سُورَةُ الإِخْلَاص، قال ابنُ الأَثِيرِ: لِأَنَّها خَالِصَةٌ في صِفَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّ اللاَّفظَ بها قدْ أَخْلَصَ التَّوْحِيدَ للهِ عَزَّ وجَلَّ.
وكَلِمَةُ الإِخْلاصِ: كَلِمَةُ التّوْحِيدِ.
والخَالِصَةُ: الإِخْلاصُ.
وقولُه عَزَّ وجَلَّ خَلَصُوا {نَجِيًّا}، أَيْ تَمَيَّزُوا عَنِ النّاسِ يتَناجَوْنَ فِيمَا أَهَمَّهُم.
ويَوْمُ الخَلَاصِ: يَوْمُ خُرُوجِ الدَّجّالِ: لتَمَيُّزِ المُؤْمِنِين وخَلاصِ بَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ.
وأَخْلَصَه النَّصِيحَة والحُبَّ، وأَخْلَصَهُ له، وهُوَ مَجَاز.
وهُم يَتَخالَصُون: يُخْلِصُ بَعْضُهم بَعْضًا.
والخُلُوصُ، بالضّمِّ: رُبٌّ يُتَّخَذُ مِنْ تَمْرٍ.
والإِخْلَاصُ والإِخْلاصَةُ: الإِذْوَابُ والإِذْوَابَةُ.
وهو خَالِصَتِي وخُلْصَانِي، يَسْتَوِي فِيهِ الوَاحِدُ والجَمَاعَةُ.
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْلَصَ العَظْمُ، إِذا كَثُرَ مُخُّه.
وأَبُو عَبْدِ الله مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ خَلَصَةَ، مُحَرَّكَةً، اللَّخْمِيُّ، البَلَنْسِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغوِيُّ، أَخَذَ عن ابنِ سِيدَه، ونَزَل دَانِيَةَ، تُوفِّي سنة 521.
وخُلْصٌ، بالضَّمّ: مَوْضع.
وخَلَصَ مِن القَوْمِ: اعْتَزَلَهُم، وهو مَجَازٌ.
وخَالِصَةُ: اسْمُ امْرَأَة.
والخَلَصِيُّون: بَطْنٌ مِن الجَعَافِرَةِ، جَدُّهُمْ أَبْو الحَسَنِ عُبَيْدُ الله بنُ محمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عِيسَى بنِ جَعْفَر بن إِبراهِيمَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ بنِ عَبْدِ الله بنِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طالِبٍ، قالَ الهَجَرِيُّ: وهو الخَلَصِيُّ، مِنْ ساكِنِي خَلَص.
ولَعَلَّهُ يُرِيدَ ذا الخَلَصَةِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
252-تاج العروس (قرص)
[قرص]: القَرْصُ: أَخْذُكَ لَحْمَ الإِنْسَانِ بإِصْبَعَيْكَ حَتَّى تُؤْلِمَهُ، وفي العُبابِ: حَتَّى يُؤْلِمَهُ ذلِك. وقيل: هو التَّجْمِيشُ والغَمْزُ بالإِصْبع. قَرَصَهُ يَقْرُصُهُ، بالضَّمّ، قَرْصًا، فهُوَ مَقْرُوصٌ.والقَرْصُ: لَسْعُ البَرَاغَيثِ، وهو مَجازٌ. ومنْ سَجَعات الأَسَاس: قَرَصَهُمُ البَعُوضُ قَرَصَات، رقَصُوا منْهَا رَقَصَات.
والقَرْصُ: القَبْضُ بالإِصْبَعَيْن حَتَّى يُؤلَمَ.
والقَرْصُ: القَطْعُ. ومنه حَديثُ دَمِ المَحِيضِ: «حُتِّيه بضِلَعٍ واقْرُصيهِ بماءٍ وسِدْرٍ». والدَّمُ وغَيْرُه ممَّا يُصيبُ الثَّوْبَ إِذَا قُرِصَ كانَ أَذْهَبَ للأَثَرِ منْ أَنْ يُغْسَلَ باليَد كلِّها.
وقال ابْنُ الأَثير: القَرْصُ: الدَّلْكُ بأَطْرَافِ الأَصابعِ والأَظْفارِ مَعَ صَبِّ الماءِ عليه، حَتَّى يَذْهَبَ أَثَرُه.
والقَرْصُ: بَسْطُ العَجِينِ، وقد قَرَصَتْهُ المَرْأَةُ تَقْرُصُهُ، بالضَّمّ، قَرْصًا؛ أَي بَسَطَتْهُ وقَطَعَتْه قُرْصَةً قُرْصَةً.
وكُلَّمَا أَخَذْتَ شَيْئًا بَيْنَ شَيْئَيْن أَو قَطَعْتَه فقد قَرَصْتَه. ومن المَجاز: القَوَارِصُ من الكَلامِ: هيَ التي تُنَغِّصُك وتُؤْلِمُك، كالقَرْص في الجَسَد. تقولُ: أَتَتْنِي من فُلانٍ قَوَارِصُ، ولا تَزالُ تَقْرُصُني من فُلانٍ قَارِصَةٌ؛ أَي كَلِمَةٌ مُؤْذِيَةٌ. قال الفَرزدق:
قَوَارِصُ تَأْتينِي فتَحْتقِرُونَهَا *** وقَدْ يَمْلأُ القَطْرُ الإِنَاءَ فيُفْعَمُ
وقال الأَعْشَى يَهْجُو عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثَةَ:
فإِنْ تَتَّعِدْني أَتَّعِدْك بمِثْلِها *** وسَوْفَ أُرِيكَ الباقيَاتِ القَوَارِصَا
والقَارِصُ: دُوَيْبَّةٌ كالبَقِّ تَقْرُص، وهو مَجازٌ.
والقارِصُ: الحامِضُ من أَلْبانِ الإِبِلِ خَاصَّةً، وقيلَ: هو لَبَنٌ يَحْذِي اللِّسَانَ، فأَطْلَقَ ولم يُخَصِّص الإِبِلَ. وقال الأَصْمَعيّ وَحْدَهُ: إِذا حَذَى اللَّبَنُ اللِّسَانَ فهو قَارِصٌ، وهو مَجاز. أَو هُوَ حَامِضٌ يُحْلَبُ عَلَيْه حَلِيبٌ كَثيرٌ حَتَّى تَذْهَبَ الحُمُوضَةُ. ظاهرُ سِيَاقِه أَنَّهُ منْ مَعَانِي القَارص، وهو خَطَاٌ، وإِنّمَا هُو تَفْسيرُ المُمَحَّل من اللَّبَنِ، وقد أَخَذَهُ من كَلام الصّاغَانيّ في العُبَابِ واشْتَبَهَ عَلَيْهِ. ونَصُّه في شَاهِد القَارص، قال أَبُو النَّجْم يَصف راعيًا:
يَحْلِفُ بالله سِوَى التَّحَلُّلِ *** ما ذَاقَ ثُفْلًا مُنْذُ عَامٍ أَوَّلِ
إِلاَّ منَ القَارِصِ والمُمَحَّلِ
قال: المُمَحَّل: الَّذي قد أَخَذَ طَعْمًا، وهُوَ دُونَ القَارِص، وقد صُيِّرَ في السِّقاءِ. ويُقَال: هو الحامِضُ يُحْلَبُ عَلَيْهِ حَليبٌ كَثيرٌ حَتَّى تَذْهَبَ عنه الحُمُوضَةُ. انْتَهَى. فهو ساقَ هذه العِبَارَة في مَعْنَى المُمَحَّل لا القارِص، وعَجيبٌ من المُصَنِّف، رحمَهُ الله تَعَالَى، كَيْف لم يَتَأَمَّلْ لذلكَ.
ولَعَمْري إِنَّ هذَا لإِحْدَى الكُبَرِ. فتَأَمَّل.
والمِقْرَاصُ، كمِحْرَابٍ: السِّكِّينُ المُعَقْرَبُ الرَّأْسِ، قال الصَّاغَانِيّ: هكَذَا يُسَمِّيه بَعْضُ النّاس؛ أَي فَهيَ لَيْسَتْ منَ اللُّغَة الفُصْحَى، وهو مَجازٌ أَيضًا.
وقُرْصٌ، بالضَّمّ: تَلٌّ بأَرْض غَسَّانَ، كَأَنَّهُ سُمِّىَ لاسْتدارَته كهَيْئَةِ القُرْصِ. قال عَبيدُ بْنُ الأَبْرَص:
ثُمَّ عُجْنَاهُنَّ خُوصًا كالقَطَا ال *** قارِباتِ الماءَ منْ أَيْنِ الكَلالِ
نَحْوَ قُرْصٍ يَوْمَ جالَتْ حَوْلَه الْ *** خَيْلُ قُبًّا عن يَمِينٍ وشِمَالِ
أَضافَ الأَيْنَ إِلى الكَلَالِ، وإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا، لأَنَّهُ أَرادَ بالأَيْنِ الفُتُورَ، وبالكَلالِ الإِعْيَاءَ، كما في اللِّسَان.
وقيل: قُرْصٌ هو ابْنُ أُخْتِ الحَارِثِ بن أَبي شِمْرٍ الغَسَّانيّ، وهو المُرَادُ في قَوْل ابن الأَبْرَص.
والقُرْصَةُ: الخُبْزَةُ، ويُقَال: هي الصَّغيرَةُ جِدًّا، كالقُرْصِ، والتَّذْكيرُ أكْثَر. وأَنْشَد الأَصمَعيُّ يَصفُ حَيَّةً:
كَأَنَّ قُرْصًا من عَجينٍ مُعْتَلِثْ *** هَامَتُه في مثْل كُثَّابِ العَبِثْ
الجمع: القُرْصِ قِرَصَة، وأَقْرَاصٌ، مثْل غُصْنٍ، وغِصَنَةٍ وأَغْصَانٍ.
وجَمْعُ القُرْصَة: قُرَصٌ، كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ. وفي الحديث: «فأُتِيَ بثَلاثَةِ قِرَصَةٍ من شَعِيرٍ».
ومن المَجَاز: القُرْصُ: عَيْنُ الشَّمْسِ، يَقُولُونَ: غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ، وظاهرُهُ أَنَّهُ تُسَمَّى به عَيْنُ الشَّمْس عَامَّةً، ومنهم مَنْ خَصَّصَهُ عند غَيْبُوبَتِها. وقال اللَّيْثُ: تُسَمَّى عَيْنُ الشَّمْسِ قُرْصَةً، بالهَاءِ، عند الغَيْبُوبَةِ.
والقَرِيصُ، كأَمِيرٍ: ضَرْبٌ من الأُدْمِ، قاله اللَّيْثُ، وهو القَرِيسُ، بلُغَةِ قَيْسٍ، وقد تَقَدَّم في السّين.
والقُرَّاصُ، كرُمَّانٍ: البَابُونَجُ، وهو نَوْرُ الأُقْحُوانِ الأَصْفَرِ إِذا يَبِسَ، الوَاحدَةُ بهاءٍ. هكذا نَقَلَه الجَوْهَريّ عن أَبي عَمْرٍو. وقال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَني أَعرابيٌّ من أَزْدِ السَّرَاةِ قَال: القُرَّاصُ قُرَّاصَانِ: أَحَدُهُمَا العُقَّارُ، وقد وَصَفْناه في «ع ق ر»، وقال هُنَاكَ: العُقّارُ: عُشْبٌ يَرتَفِع نِصْفَ القَامَةِ، رِبْعِيٌّ، له أَفْنَانٌ ووَرَقٌ أَوسَعُ من وَرَقِ الحَوْكِ، شَدِيدُ الخُضْرَةِ، وله ثَمَرَةٌ كالبَنَادقِ، ولا نَوْرَ له ولا حَبَّ، ولا يُلابِسُه حَيَوَانٌ إِلاَّ أَمَضَّه، حَتَّى كأَنمَا كُوِيَ بالنّار، ثُمَّ يَشْرَى به الجَسَدُ. قال: ويُدْعَى عُقّارَ ناعِمَةَ، وقد تَقَدَّم وَجْهُ تَسْمِيَته في «ع ق ر» قال: والآخَرُ يَنْبُتُ كالجِرْجِير، يَطُولُ ويَسْمُو، ولَهُ زَهْرٌ أَصْفَرُ تَجْرُسُه النَّحْلُ وله حَبٌّ صِغارٌ حُمْرٌ، والسَّوَامُّ تُحِبُّه وتَحْبَطُ عَنْه كَثيرًا حَتَّى تَنْقَدَّ بُطُونُها.
وإِنَّمَا رأَيتُ الإِبلَ تَأْكُلُ منه الأَكْلَةَ الوَاحِدَةَ فتَحْبَطُ، والناسُ يَحْذَرُونَهُ ما دامَ غَضًّا، فإِذَا وَلَّى ذَهَبَ ذلكَ عنه. قالَ: ولصُفْرَة نَوْره قال [الأَخْطل] ووَصَفَ ثَوْرَ وَحْشٍ:
كَأَنَّهُ منْ نَدَى القُرّاصِ مُغْتَسِلٌ *** بالوَرْسِ أَو رائحٌ من بَيْتِ عَطّارِ
وقال ابنُ هَرْمةَ في مِثله:
تَرَدّدَ في القُرَّاص حَتَّى كَأَنَّمَا *** تَكَتَّمَ منْ أَلْوَانِهِ أَو تَحَنَّأَ
قال: وقال بَعْضُ الرُّوَاةِ: إِنَّمَا قال تَكَتَّمَ أَو تَحَنَّأَ، لِأَنَّ من القُرّاصِ ما لَوْنُه أَصْفَرُ، ومنه ما نَوْرُهُ إِلى السَّوادِ. ومعنى تَكَتَّمَ: تَخَضَّب بالكَتَم. وتَحَنَّأَ: تَخَضَّبَ بالحِنّاء.
وأَنْشَدَ قولَ النّابغَةِ الجَعْديّ، رضيَ اللهُ تَعَالَى عنه:
بَرَاحًا كَسَا القُرْيانُ ظاهِرَ لِيطِها *** جِسَادًا من القُرَّاصِ أَحْوَى وأَصْفَرَا
هذه روَايَةُ الأَخْفَشِ. ورَوَى الأَصْمَعيُّ بَرَاحٌ. ورَوَى غَيْرُهما برح أَي بواسعة.
وقال أَبُو زياد: منَ العُشْب القُرّاصُ، وهو عُشْبَةٌ صَفْراءُ، وزَهْرَتُها صَفْراءُ، ولا يَأْكُلُها شَيْءٌ من المال إِلاّ هُرِيقَ فَمُه ماءً، ومَنَابِتُه القيعانُ، قال: وقال بَعْضُ الرُّوَاة: القُرّاصُ من الذُّكُور.
وكُلّ هذا كلام الدِّينَوَريّ. وقال ابنُ عَبّاد: وقيل: القُرَّاصُ: الوَرْسُ.
ويَقُولُون: أَحْمَرُ قُرَّاصٌ، كرُمّانٍ: قَانِئٌ؛ أَي شَدِيدُ الحُمْرَةِ. وقال كُرَاع: أَي أَحْمَرُ غَلِيظٌ، وقد تَقَدَّم في «ف ر ص» أَيْضًا مِثْلُ ذلِك فتَأَمَّلْ. وفي رَجَزِ الجنّ:
يَأْكُلْنَ مِنْ قُرَّاصِ *** وحَمَصِيصٍ آصِ
وقد تَقَدَّم في «حمص».
وقَرِصَ كفَرِح: دامَ عَلَى المُقَارَصَة، وَهِي المُنافَرَةُ والغِيبَةُ، وهو مَجاز.
والقِرَاصُ، ككِتَاب: مَاءٌ لِبَنِي عَمْرِو بنِ كِلابٍ، أَوْرَدَهُ الصَّاغَانِيُّ ويَاقُوت.
والقُرْصُنَّةُ، بالضَّمّ: نَعْتٌ من القَرْصِ، بالفَتْح. كسُمْعُنَّةٍ ونُظْرُنَّةٍ؛ أَي عَلَى وَزْنِها، من السَّمْع والنَّظَرِ.
وتَقْرِيصُ العَجِينِ: تَقْطِيعُه قُرْصَةً قُرْصَةً، والتَّشْديدُ للتَّكْثِيرِ، وقد قَرَصْته قَرْصًا، وقَرَّصْتُه تَقْرِيصًا.
ومن المجَازِ: حَلْيٌ مُقَرَّصٌ، كمُعَظَّمٍ؛ أَي مُسْتَدِيرُ كالقُرْصِ، وهذا قولُ ابْنِ فَارِس. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: أي مُرَصَّعٌ بالجَوْهَرِ.
قُلْتُ: ويُسَمُّونَهُ أَيْضًا القُرْص. قال الصَّاغَانِيّ: والتَّرْكِيبُ يَدُلُّ على قَبْضِ شَيْءٍ بأَطْرَافِ الأَصَابعِ مع نَتْرٍ يَكُونُ، وقد شَذَّ عن هذا التَّرْكِيبِ القُرّاصُ للنَّبْتِ.
قُلْتُ: لا شُذُودَ فيه عند التَّأَمُّل الصّادق، وتَكُونُ تَسْمِيَتُهُ بضَرْبٍ من المَجازِ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
القَارِصَةُ: اسمُ فاعِلَة من القَرْصِ بالأَصَابع. ومنه حَديثُ عَليٍّ، رَضيَ الله تَعالَى عنه «أَنّهُ قَضَى في القَارِصَة والقَامِصَةِ والوَاقِصة بالدِّيَةِ أَثْلاثًا». هُنَّ ثَلاثُ جَوَارٍ، كُنَّ يَلْعَبْنَ فتَرَاكَبْنَ، فقَرَصَتِ السُّفْلَى الوُسْطَى فقَمَصَتْ فسَقَطَتِ العُلْيَا فوُقِصَتْ عُنُقُها، فجَعَلَ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ على الثِّنْتَيْن، وأَسْقَط ثُلُثَ العُلْيَا لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِها.
جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا الحَديثَ مَرْفوعًا، وهو من كَلام عَليٍّ، رَضِيَ الله تَعَالَى عنه. والوَاقِصَة بمَعْنَى المُوْقُوصَة، ك {عِيشَةٍ راضِيَةٍ}، وسَيَأتي في مَوْضعِهِ. وفي المَثَل: «عَدَا القَارِصُ فحَزَرَ» أَي جَاوزَ الحَدَّ إِلى أَنْ حَمِضَ، يُضْرَبُ في تَفَاقُمِ الأَمْرِ واشْتِدادِه، وأَوردَه الجَوْهَريُّ وتَرَكَه المُصَنِّفُ قُصُورًا.
والمَقَارصُ: الأَوْعيَةُ الَّتِي يُقَرَّصُ فِيهَا اللَّبَنُ، الوَاحِدَةُ مِقْرَصَة. قال القَتَّالُ الكِلَابِيّ:
وأَنْتُمْ أُناسٌ تُعْجَبُون برَأْيِكُمْ *** إِذا جَعَلَت ما فِي المَقَارصِ تَهْدِرُ
والمُقَرَّص: كمُعَظَّمٍ: المُقَطَّعُ المَأْخُوذُ بَيْنَ شَيْئَيْن.
ورُوِيَ في حَديث المَحِيض: «قَرِّصِيهِ بالمَاءِ» أَي قَطِّعِيه به، عن أَبِي عُبَيْد.
ويُجْمعُ القُرْصُ بمعنى الرغيفِ أيضًا على قراصٍ بالكسر.
والمَقَارِصُ: أَرَضُونَ تُنْبِتُ القُرَّاصَ.
ومن المَجاز: بَيْنَهُمَا مُقَارَصاتٌ.
وتقولُ: رَأَيْتُهما يَتَقَارَظَان، ثم رَأَيْتُهُما يَتقارَصَانِ.
ونَبِيذٌ قارِصٌ: يَحْذِي اللِّسَانَ، وفيه قُرُوصَةٌ.
وقَرَصَتْهُ الحَيَّةُ، فهُوَ مَقْرُوصٌ.
والقُرَّيْصُ، كجُمَّيْزٍ: عُشْبٌ وكَأَنَّه القُرّاص، من لُغَةِ العَامَّة.
ولجَامٌ قَرّاصٌ وقَرُوصٌ: يُؤْذِي الدَّابَّةَ.
وقَرَصَه البَرْدُ، وبَرْدٌ قَارِصٌ. وقَرْصُ الماءِ: بَرْدُهُ، والسِّين في هؤلاءِ لُغَة، وقد تَقَدَّمَ.
وقُورِصُ، بالضَّمِّ وكَسْرِ الرّاءِ: قَرْيَةٌ بمصْرَ من المنُوفِيَّة، وقد وَرَدْتُهَا، أَو هي بالسِّين وقَد تَقَدَّم.
والحُسَيْن بنُ أَبِي نَصْرٍ الحَريميّ بن القَارِص، وأَخُوه الحَسَنُ، مُحَدِّثانِ سَمعَا من ابْنِ الحُصَيْن.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
253-تاج العروس (ورص)
[ورص]: وَرَصَت ـ هذا الحَرْفُ، أَهمَلَه الجَوْهَرِيّ هُنَا، وأَوْرَدَه في الضَّادِ تبَعًا لِلَّيْثِ، وقد غَلَّطَهُ الأَزْهَرِيُّ في كِتَابه. وقال: الصَّوابُ وَرَّصَتِ ـ الدَّجَاجَةُ وَرْصًا، كوَعدَ، وأَوْرَصَتْ، ووَرَّصَتْ تَوْرِيصًا: وَضَعَت، ونَصُّ التَّهْذِيب: إِذا كَانَتْ مُرْخِمَةً عَلى البَيْض ثمَّ قَامَتْ فوَضَعَتْ بمَرَّةٍ.واقْتَصَر الجَوْهَرِيُّ في الضَّادِ عَلى الأَخِيرِ، وقال: ثمّ قامَت فذَرَقَتْ بمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ذَرْقًا كَثِيرًا.
وامرَأَةٌ مِيرَاصٌ، إِذَا كَانَتْ تُحْدِثُ إِذا وُطِئَتْ عادَةً.
وقال الأَزهَرِيُّ: أَخبَرَنِي المُنْدِرِيُّ عن ثَعْلَب عَنْ سَلَمَةَ عن الفَرَّاءِ: وَرَّص الشَّيْخُ تَوْرِيصًا، إِذا اسْتَرْخَى حِتَارُ خَوْرَانِهِ وأَبْدَى، قال: وحَكَى عن ابنِ الأَعْرَابِيّ قال: أَوْرَصَ ووَرَّصَ، إِذا رَمَى بغائِطِه.
قُلْتُ: وذَكَرَ ابنُ بَرّيّ في ترْجَمَة «عربن»: وَرَّصَ، إِذا رَمَى بالعَرَبُونِ، مُحَرَّكَةً، وهو العَذِرَةُ، ولم يَقْدِرْ على حَبْسِهِ.
ووَهِمَ الجَوْهَرِيُّ وَهَمًا فاضِحًا فجَعَلَ الكُلَّ مِمَّا ذُكِرَ من اللُّغَاتِ بالضَّادِ المُعْجَمَة.
قُلتُ: الجَوْهَرِيُّ تَبعَ اللَّيْثَ، فإِنّه أَوْرَدَهُ في كِتَابِ العَيْن هكذا بالضّادِ، ووَهَّمَه الأَزهَرِيّ بما تَقَدَّمَ من سَمَاعهِ عن شيُوخِهِ، واستَرابَ في مَجِيءِ هذِهِ الأَحْرُفِ بالضَّادِ، ولَعَلَّ الجَوْهَرِيّ صَحَّ عِنْدَهُ من طُرُقٍ أُخْرَى بالضّادِ، واللَّيْثُ ثِقَةٌ فلا يُنْسَبُ إِليه الوَهَمُ الفاضِحُ، مع أَنَّ المُصَنِّفَ تَبِعَهُ في الضّادِ مُقَلِّدًا له من غيْرِ تَنبِيهٍ عليه، وسُكُوتُه دَلِيلٌ على التَّسْلِيمِ، فتَأَمَّلْ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
الوَرْصُ: الدَّبُوقاءُ، وجَمعُه أَوْرَاصٌ. نَقَلَهُ ابْنُ بَرِّيٍّ عن ابْنِ خَالَوَيْه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
254-تاج العروس (نض نضض نضنض)
[نضض]: نَضَّ الماءُ من العَيْنِ يَنِضُّ نَضًّا، ونَضِيضًا: نَبَعَ، أَو سالَ، كبَضَّ، أَو سَالَ قَلِيلًا قَلِيلًا، كما في الصُّحاحِ، أَوْ خَرَجَ رَشْحًا كما يَخْرُجُ من حَجَرٍ. وبِئْرٌ نضُوضٌ، إِذَا كانَ ماءُهَا يَخْرُج كذلِك.ونَضَّ العُودُ يَنِضُّ نَضِيضًا: غَلَى أَقْصَاهُ بَعْدَ أَنْ أُوقِدَ أَدْنَاه، عن ابنِ عَبّادٍ.
ونَضَّتِ القِرْبَةُ من شِدَّةِ الملْءِ تَنِضُّ نَضِيضًا: انْشقَّتْ وخَرجَ منها الماءُ، ومنه الحَدِيثُ: «فالمزَادَةُ تَكَادُ تَنِضُّ من المَلءِ».
والنَّضِيضُ: المَاءُ القَلِيلُ، ج: نَضَائِضُ، هكَذَا في النُّسَخِ، وهو غَلَطٌ، والصَّوابٌ: نِضَاضٌ، بالكَسْرِ، كَمَا في الصّحاحِ والعُبَابِ واللِّسَانِ.
والنَّضِيضَةُ، بهاءٍ: المَطَرُ القَلِيلُ، رَوَاه الجَوْهَرِيُّ عن أَبِي عَمْرٍو، وقِيلَ: هُوَ المَطَرُ الضَّعِيفُ، وقيل: هي السّحابَةُ الضَّعِيفَةُ، وقِيلَ: هي الَّتِي تَنِضُّ بالماءِ: تَسِيلُ، ج: أَنِضَّةٌ ونَضَائِضُ، وأَنْشَدَ الفَرّاءُ:
وأَخْوَتْ نُجومُ الأَخْذِ إِلاَّ أَنِضَّةً *** أَنِضَّةَ مَحْلٍ ليس قَاطِرُهَا يُثْرِي
أَي ليس يَبُلُّ الثَّرَى. وقالَ الأَسَدِيُّ، كما فَي الصّحاحِ، وقِيلَ: هُوَ لأَبِي مُحَمَّدٍ الفَقْعَسِيَّ:
يا جُمْلُ أَسْقَاكِ البُرِيْقُ الوَامِضُ *** والدِّيَمُ الغَادِيَةُ النَّضَانِضُ
في كلِّ عامٍ قَطْرُهُ نَضَائِضُ
ويُرْوَى: في كُلِّ يَوْمٍ، ورَوَاهُ أَبُو زِيَادٍ الكِلابِيُّ في نَوَادِرِه لأَبِي شِبْلٍ الكِلابِيِّ، وهو لأَبِي مُحَمَّدٍ، كما في العُبِابِ.
والنَضِيضَةُ من الرِّيَاح: الرِّيحُ الَّتِي تَنِضُّ بالمَاءِ فيَسِيلُ، أَوْ هِيَ الضَّعِيفَةُ، نَقَلَهُ أَبو عُبَيْدٍ.
وقال ابنُ عَبَّادٍ: جاءُوا بأَقْصَى نَضِيضِهِم، ونَضِيضَتِهِمْ؛ أَي جَمَاعَتِهِم، كما في العُبَابِ.
وإِبِلٌ، وفي الصّحاحِ: يُقَال: لقد تَرَكَتِ الإِبِلُ الماءَ وهي ذَاتُ نَضِيضَةٍ، وذاتُ نَضَائِضَ؛ أَي ذاتُ عَطَشٍ لَمْ تَرْوَ.
ورَجُلٌ نَضِيضُ اللَّحْمِ: قَلِيلُهُ وكَذلِكَ نَضُّهُ. ونَضْنَاضُهُ ونُضَاضَةُ الماءِ وغَيْرِه، بالضَّمِّ: بَقِيَّتُهُ وآخِرُه، جَمعُه: نَضَائِضُ ونُضَاضُ، وهو مَجَاز. والنُّضَاضَةُ من وَلَدِ الرَّجُلِ: آخِرُهُم، وهو مجَازٌ. وقالَ أَبو زَيْدٍ: هو نُضَاضَةُ وَلَدِ أَبَوَيْهِ، لِلمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ والتَّثْنِيَةِ، والجَمْع، مثلُ العِجْزَةِ والكِبْرَةِ.
ونُضَاضُهُمْ، بالضَّمِّ أَيْضًا: خَالِصُهُم، وكذلِكَ مُضَاضُهُم ومُصَاصُهُمْ.
وأَمْرٌ نَاضٌّ: مُمْكِنٌ، وقد نَضَّ يَنِضُّ نَضِيضًا، إِذا أَمْكَنَ وتَيَسَّرَ.
ومن المجاز: هو يَسْتَنِضٌّ مَعْرُوفًا؛ أَي يَسْتَقْطِرُه، وقيل يَسْتَخْرِجه، وقيل: يَسْتَنْجِزُه. وقال رُؤْبَةُ يُخَاطِبُ امرأَتَه:
إِن كان خيرٌ مِنْكِ مُسْتَنَضَّا *** فاقْنَيْ فَشَرُّ القَوْلِ ما أَمَضَّا
والاسمُ: النَّضَاضُ، بالكَسْرِ، قال:
تَمْتَاحُ دَلْوِي مُطْرَبَ النَّضَاضِ *** ولا الجَدَى من مُتْعَبٍ حَبَّاضِ
وقَوْلُ الرّاجِزِ:
تَسْمعُ للرَّضْفِ بها نَضَائِضَا
النَّضَائِضُ: صَوْتُ الشِّواءِ على الرَّضْفِ. قال ابنُ سِيدَه: وأُراه للوَاحِدِ، كالخَشَارِم، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الوَاحِدَةُ نَضِيضَةٌ، ويُعْنَى بصَوْت الشِّواء أَصْوَتُ الشِّواءِ وإِلَيْه مالَ الجَوْهَرِيُّ.
وحَيَّةٌ نَضْنَاضَةٌ، ونَضْنَاضٌ: لَا تَسْتَقِرُّ في مَكَانٍ لِشرَّتِهَا ونَشَاطِهَا. أَو هي الَّتِي إِذَا نَهَشَتْ قَتَلَتْ من سَاعَتِهَا، أَو هي الَّتِي أَخْرَجَت لِسَانَهَا تُنَضْنِضُه؛ أَي تُحَرِّكُهُ، والصّادُ في المَعْنى الأَخِيرِ لُغَةٌ، قالَ رُؤُبَةُ:
كَمْ جاوَزَتْ من حَيَّةٍ نَضْنَاضِ *** وأَسَدٍ في غِيلِهِ قَضْقاضِ
وقالَ الرّاعِي يَصِفُ صَائِدًا في نَامُوسِهِ:
تَبِيتُ الحَيَّةُ النَّضْنَاضُ منهُ *** مكَانَ الحِبِّ يَسْتَمِعُ السِّرَارَا
قال ابنُ جِنِّي: أَخْبرَنِي أَبو عَليٍّ، يَرفَعُه إِلى الأَصْمَعِيِّ، قالَ: حَدَّثَنَا، وفي الصّحاحِ: قال، وفي العُبَابِ: زَعَمَ عِيسى بنُ عُمَر، سَأَلْتُ ذا الرُّمَّةِ عن النَّضْنَاضِ فلم يَزِدْنِي أَنْ حَرَّكَ لِسَانَهُ فِي فِيهِ، كما في الصّحاحِ، وفي العُبَابِ: قالَ لذِي الرُّمَّةِ: ما الحَيَّةُ النَّضْنَاضُ؟ فأَخْرَج لِسَانَهُ يُحَرِّكُه في فِيهِ، وأَوْمَأَ إِليه به. ونَصُّ ابنِ جِنِّي: فأَخْرَجَ لِسَانَه فحَرَّكَه.
وفي اللَّسِانِ: نَضْنَضَ لِسَانَه: حَرَّكَهُ، الضَّادُ فيه أَصْلٌ وليسَتْ بَدَلًا من صادِ نَضْنَضَه، كما زَعمَ قومٌ؛ لأَنَّهُما لَيْستَا أُخْتَيْن فتُبْدلَ إِحْدَاهُما من صاحِبَتِهَا.
وفي الحَدِيثِ عنِ أَبِي بكْرٍ: «أَنَّهُ دُخِلَ عليه وهو يُنضْنِضُ لِسَانَه»؛ أَي يُحَرِّكُه، ويُرْوى بالصَّادِ، وقد تقَدَّم.
وقال ابنُ الأَعْرابِيِّ: النَّضُّ الإِظْهَارُ.
والنَّضُّ: مَكْرُوهُ الأَمْرِ، يُقَال: أَصَابَنِي نَضٌّ من أَمْرِ فلانٍ.
ومن المجاز: أَعْطاهُ من نَضِّ مالِهِ؛ أَي صامِتِه، وهو الدِّرْهمُ والدِّينَارُ، كالنَّاضِّ، فِيهما. قال الأَصْمَعِي: وهي لُغَةُ أَهْلِ الحِجَاز، قال: أَو إِنَّمَا يُسَمَّى نَاضًّا، إِذَا تَحَوَّلَ عَيْنًا بَعْدَ أَنْ كَان مَتَاعًا، لأَنَّهُ يُقال: ما نَضَّ بيَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، وفي حَدِيثِ عُمَرَ رضِيَ الله عنه: «كانَ يأْخُذُ الزَّكاةَ من ناضِّ المالِ» وهو ما كانَ ذَهَبًا أَو فِضَّةً، عَيْنًا أَوْ وَرِقًا.
ووُصِفَ رجلٌ بكَثْرَةِ المالِ فقِيلَ: أَكْثَرُ النَّاسِ نَاضًّا.
والنَّضُّ: تَحْرِيكُ الطَّائرِ جَنَاحَيْهِ لِيَطِيرَ.
وأَنَضَّ الحاجَةَ إِنْضَاضًا: أَنْجزَها وأَنَضَّ الرّاعِي السِّخَالَ: سَقَاهَا نَضِيضًا من اللَّبَنِ؛ أَي قليلًا منه.
واسْتَنَضَّ حقَّهُ من فُلانٍ: اسْتَنْجَزَهُ وأَخَذَ منه الشَّيْءَ بعد الشَّيْءِ، أَو اسْتَخْرَجَهُ شَيْئًا بعد شَيْءٍ.
ونَضْنَضَ الرَّجلُ: كَثُر نَاضُّهُ، وهو ما ظَهَرَ وحصَلَ مِن مالِهِ.
ونَضْنَض فُلانًا: حَرَّكَه وأَقْلَقَهُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ، قالَ: ومنه الحَيَّةُ النَّضْنَاضُ، وهو القَلِقُ الَّذِي لا يَثْبُتُ في مَكَانِه لشَرِّه ونَشَاطِهِ.
وتَنَضَّضْتُ منه حَقِّي: اسْتنْظَفْتُه، أَي: اسْتَوْفَيْتُه شيئًا بعدَ شَيْءٍ.
وتَنَضَّضْتُ الحاجةَ: تَنَجَّزْتُهَا.
وتَنَضَّضْتُ فُلانًا: اسْتَحْثَثْتُه. نَقَلَه الصّاغانِيُّ.
* ومّما يُسْتَدْرك عليه:
النَضَضُ، مُحَرَّكَةً: الحِسَى، وهو ماءٌ على رَملٍ دُونَه إِلى أَسْفَلَ أَرْضٌ صُلْبَةٌ، فكُلَّما نَضَّ مِنْهُ شَيْءٌ؛ أَي رَشَحَ واجْتَمَعَ، أُخِذَ.
واسْتَنَضَّ الثَّمَادَ من الماءِ: تَتَبَّعَهَا وتَبَرَّضَهَا.
ونَضَّ إِليه مِنْ مَعْرُوفِه شيءٌ يَنِضُّ نَضًّا ونَضِيضًا: سالَ.
وأَكْثَرُ ما يُسْتعْمَلُ في الجَحْدِ، وهي النُّضَاضَةُ، ويُقَال: نَضَّ من مَعْرُوفِك نُضَاضَةٌ، وهو القَلِيلُ منه.
وقال أَبو سَعِيدٍ: عَلَيْهِم نَضَائِضُ من أَمْوَالِهم وبَضَائضُ، وَاحِدُها نَضِيضَة وبضِيضَةٌ.
وقالَ الأَصْمَعِيُّ: نضَّ له بشيْءٍ، وبَضَّ له بشيْءٍ، وهو المَعْرُوفُ القَلِيلُ.
ونُضَاضَةُ الشَّيْءِ، بالضَّمِّ: ما نَضَّ منه في يَدِك، والنَّضُّ: الحاصِلُ، يقالُ: خُذْ ما نَضَّ لَكَ من غَرِيمِك؛ أَي تَيَسَّرَ وحَصل.
واسْتَنَضَّ مِنْهُ شَيْئًا: حَرَّكَه وأَقْلَقَه، عن ابنِ الأَعْرابيِّ.
ونَضْنَضَ البعِيرُ ثَفِنَاتِه: حَرَّكَها وبَاشَرَ بها الأَرْضَ، قال حُميْدُ:
ونَضْنَضَ في صُمِّ الحَصَى ثَفِنَاتِهِ *** ورامَ بسَلْمَى أَمْرَه ثُمَّ صَمَّمَا
ويُقَال بالصّادِ، وقد تَقَدَّم.
والنَّضْنَضَةُ: صَوْتُ الحَيَّةِ، عن ابن عَبّاد، ومنه الحَيَّةُ النَّضْنَاضُ؛ أَي المُصوِّتَةُ.
ورجُلٌ نَضْنَاضُ اللَّحْمِ ونَضُّه: قَلِيلُه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
255-تاج العروس (دمط)
[دمط]: دِمْياطُ، كجِرْيال، أَهْمَلَه الجَمَاعَةُ، وهو: د، م، مَعْرُوفٌ: أَحَدُ الثُّغُورِ المِصْرِيَّة، وهي كُورَةٌ عَظِيمَةٌ من كُوَرِ مِصْرَ، بينَهَا وبينَ تِنِّيسَ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا، ويُقَال: سُمِّيت بدِمْيَاطَ من وَلدِ أَشمن بن مِصْرايمَ بن بنصر بن حام، ويُقَال: الدّالُ والمِيمُ والطّاءُ أَصلُهَا سُرْيَانيّة، ومَعْنَاها: القُدْرَة، إِشَارَة إِلى مَجْمَع العَذْبِ والمِلْح.ويُقَال: إِنَّ إِدْرِيسَ عَلَيْه السَّلامُ كانَ أَوَّلَ ما نَزَلَ عليه: أَنا الله ذُو القُوَّةِ والجَبَرُوتِ، أَجْمَعُ بين العَذْبِ والمِلْحِ، والماءِ والنّار، وذلِكَ بقُدْرَتي ومَكْنُونِ عِلْمِي.
وقال إِبْرَاهِيمُ بنُ وَصِيف شاه: دِمْيَاطُ: بَلَدٌ قديمٌ بُنِيَ في زَمَانِ قَيْلَمُون بن أَتريب بن قِبْطم بن مِصْرَايم، على اسْمِ غُلامٍ.
ولَمَّا قَدِمَ المُسْلِمُونَ إِلى أَرْضِ مِصْرَ كان بدِمْيَاطَ الهاموك من أَخوالِ المُقَوْقِس، فلمّا افْتَتَح عَمْرُو بنُ العاصِ مِصْرَ امْتَنَع الهامُوكُ بدِمْيَاط، واستَعَدَّ للحَرْبِ، فأَنْفَذَ إِليه عَمْرٌو المقْدادَ بنَ الأَسْوَدِ في طَائِفَةٍ من المُسْلِمِينَ، فافْتَتَحَهَا بعد مَكَائدَ وحُرُوبٍ وخُطُوب.
وكان الفَرَنْسِيسُ، لَعَنَهُ الله، قد حاصرَ دِمْيَاطَ وأَخَذَهَا من يَدِ المُسْلِمِينَ، وكانت في يَدِه أَحَدَ عَشَر شَهْرًا وسَبْعَةَ أَيّامٍ، ثمّ تَسَلَّمَهَا المُسْلِمُونَ في آخِرِ دَوْلَةِ المَلِك المُعَظَّمِ عِيسى بنِ أَبِي بَكْر بنِ أَيُّوب، ولمَّا اسْتَوْلَى المَلِكُ النّاصِرَ يُوسُفُ بنُ العَزِيزِ على دِمَشْقَ حينَ الاخْتِلاف اتَّفَقَ أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ بمِصْرَ على تَخْرِيبِ دِمْيَاط خَوْفًا من هُجُومِ الإِفْرِنج مَرَّةً أُخْرَى، فسَيَّرُوا إِليها الحَجّارِينَ، فوَقَعَ الهَدْمُ في أَسْوَارِهَا يومَ الاثْنيْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ من شعبان سنة 648 حتّى امَّحت آثارُهَا، ولم يَبْقَ منها سِوَى الجَامِعِ، وصار في قِبْلِيِّهَا أَخصاصٌ على النِّيلِ، سَكَنَهَا الضُّعَفَاءُ، وسَمَّوْهَا المَنْشِيَّةَ.
وهذا السُّورُ هو الَّذِي كانَ بَنَاه المُتَوكِّل. ثُمّ إِنَّ المَلِكَ الظَّاهِرَ بِيبَرْس رحِمهُ الله تعالَى لما استَبَدَّ بمَمْلَكَةِ مِصرَ أَخْرَجَ عِدَّة حَجَّارِين مِن مِصْرَ في سنة 659 لرَدْمِ فَمِ بَحْرِ دِمْيَاطَ، فمَضَوْا من القَرَابِيص وأَلْقَوْها في بَحْرِ النِّيلِ الَّذِي يصُبُّ في شَمَالِيّ دِمْيَاط في بَحْرِ المِلْح، حتى ضَاقَ وتَعَذَّر دُخولُ المَرَاكِب منه إِلى دِمْيَاط إِلى الآن. قال ابنُ وَصِيف شاه: وأَمّا دِمْيَاطُ الآن فإِنَّها حَادِثَةٌ بعد تَخْرِيبِ مَدِينَتِها، وما بَرِحَتْ تَزْدَادُ إِلى أَن صارَتْ بلدةً كبيرةً ذاتَ حَمّاماتٍ وجَوامِعَ وأَسواقٍ ومَدارِسَ ومَساجِدَ. ودُورُهَا تُشْرِفُ على النِّيلِ. ومن وَرائِهَا البَسَاتِينُ، وهي أَحْسَنُ بِلادِ الله مَنْظَرًا، وقد أَخْبَرَنِي الوَزِيرُ يَلْبُغا السالِمِيُّ، رَحِمَهُ الله، أَنَّهُ لم يَرَ في البِلادِ التي سَلَكَهَا من سَمَرْقَنْدَ إِلى مِصْرَ أَحْسَنَ من دِمْيَاطَ، فظَنَنْتُ أَنَّه يَغْلُو في مَدْحِها إِلى أَنْ شاهَدْتُها، فإِذا هي أَحْسَنُ بَلْدَةٍ وأَنْزَهُه. انتهى مع الاخْتِصَار.
وقد نُسِبَ إِلى دِمْيَاطَ جُمْلَةٌ من المُحَدِّثِين، وكذا إِلى قُرَاهَا، كتِنِّيسَ، وتُونَة، وبوار، وقسيس، ومنهم: الإِمَام الحافظ شَرَفُ الدِّينِ عبدُ المُؤْمِن بنُ خَلَفٍ التُّونِيُّ الدِّمْيَاطِيّ، صاحبُ المُعْجَمِ، وهو في سِفْرَيْنِ، عندي حَدَّثَ عن الزَّكِيِّ المُنْذِرِيِّ، وأَبِي العَبَّاس القُرْطُبيّ شارِح مُسْلِم، والعزّ بن عَبْد السَّلامِ، والجَمَال محمَّد بن عَمْرُون، والعَلَم اللُّورَقِيّ، شَارِحًا المُفَصَّل، والصّاغَانِيّ صاحِب العُبَاب، وعليّ بن سَعِيدٍ الأَنْدَلُسِيّ صاحبِ المُغْرِب، وياقُوت الحَمَوِيّ صاحِبِ مُعجمِ البُلْدَان، وابنِ الخَبّاز النَّحْوِيّ، والصَّاحبِ بنِ العَدِيم مؤرّخ حَلَب، وغيرهم، حَدَّثَ عنه أَبُو طَلْحَةَ محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ يُوسُفَ الحراديّ شيْخُ المُسْنِدِ المُعَمَّرِ، محمَّدِ بن مُقْبِلٍ الحَلَبِيّ، وأَسانِيدُنا إِليه مَشْهُورَةٌ، وفي الدّفَاتِر مَسْطُورَة.
وقد سَمِعتُ الحَدِيثَ بدِمْيَاطَ على شَيْخِها العلاَّمةِ الأُصُوليِّ المُحَدِّث أَبِي عَبْدِ الله مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى بنِ يُوسُفَ الشّافِعيّ، كان أَحْفَظَ أَهْلِ زَمَانِه، قِرَاءةً عليه بجامِعِ البَحْر، وبالزّاوِيَةِ المَعْرُوفَةِ بمَسْجِد زُرَارَةَ بنِ عَبْدِ الكَرِيم، حَدَّث عن أَبِي عَبْدِ الله مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّد بنِ محمّد الدِّمْياطيّ وغيره، تُوُفِّيَ في 6 شعبان سنة 1179.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه من هذِه المادّة: دَمَاطُ، كسَحَاب: قَرْيَةٌ من أَعْمَال الغَرْبِيَّة، ومنها الشَّمْسُ مُحَمَّد بنُ محمّد بن عبدِ القُدُّوس الدَّمَاطِيّ، حدَّثَ عن ابنِ عَمِّه الشِّهَابِ أَحْمَدَ بن عليِّ بنِ عبدِ القُدُّوس نَزِيل المَدِينَةِ المُنَوَّرة، على ساكِنها أَفْضَلُ الصَّلاة والسّلام.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
256-تاج العروس (سنط)
[سنط]: السَّنْطُ: قَرَظٌ يَنْبُتُ بمِصْرَ، قال الدِّينَوَرِيُّ: بالصَّعِيدِ، وهو أَجْوَدُ حَطَبِهم، يَزْعُمونَ أَنَّه أَكْثَرُه نَارًا، وأَقَلُّه رَمادًا، قال: أَخْبَرَنِي بذلِكَ الخَبِيرُ، قال: ويَدْبُغُون به أَيضًا، ويُقَال: الصَّنْطُ أَيْضًا، وهو اسمٌ أَعْجَمِيٌّ، قال الصّاغَانِيُّ: وهو مُعَرّب: جَنْد، بالهِنْدِيَّةِ.والسَّنْطُ: قرية بالشّامِ، أَو هي باللاّمِ، وقد تَقَدَّمتِ الإِشَارَةُ إِليه.
وسَنْطَةُ: قَرْيَتَان بمِصْرَ، بل هِي ثلاثُ قُرًى، اثْنَتانِ مِنْهَا بالشَّرْقِيَّةِ، إِحداهُمَا تُعْرفُ بكومِ قَيْصَرَ، والثّانِيَة تُعْرَفُ بصَفْرَاءَ، والثّالِثَةُ هي المَجْمُوعة مع «سَنْدمنت» من السَّمَنُّودِيّةِ، وفي الغَرْبِيَّة أَيضًا قَرْيَةٌ تُعرف بسَنْطَة، فصَارَتْ أَرْبَعَةً.
والسِّنْطُ، بالكَسْرِ: المَفْصِل بَيْنَ الكَفِّ والسّاعِدِ. وأَسْنَعَ الرجُلُ، إِذا اشْتَكَى سِنْعَه؛ أَي سِنْطَه، وهو الرُّسْغُ.
والسَّنُوطُ، والسَّنُوطِيُّ، بفتحِهِمَا، والسِّنَاطُ، بالكَسْرِ، هذِه الثَّلاثَةُ ذَكَرهُنَّ الجَوْهَرِيُّ. وفي اللِّسَانِ والعُبَاب: وكذلِكَ السُّنَاطُ، بالضَّمِّ، كُلُّ ذلِكَ: كَوْسَجٌ، لا لِحْيَةَ له أَصْلًا، كما في الصّحاحِ، أَو: الخَفِيفُ العارِضِ ولم يَبْلُغْ حالَ الكَوْسَجِ، نَقَلَه ابنُ الأَعْرَابِيِّ أَو رجلٌ سَنُوطٌ: لِحْيَتُه في الذَّقَنِ وما بالعَارِضَيْن شَيْءٌ وهذا قولُ الأَصْمَعِيِّ.
وجَمْعُ السَّنُوط: سُنُطٌ، بضَمَّتَيْنِ، عن ابن الأَعْرَابِيِّ. وقال غيره: أَسْنَاطٌ، وقد سَنُطَ، ككَرُم، قال الأَزْهَرِيُّ: وكذلِكَ عامَّةُ ما جَاءَ على بِنَاءِ فِعَالٍ، وقال ابن بَرِّيّ: السِّنَاطُ: يُوصَفُ به الوَاحِدُ والجَمْعُ، قال ذُو الرُّمَّةِ:
زُرْقٌ إِذا لاقَيْتَهُمْ سِنَاطُ *** لَيْسَ لهمْ في نَسَبٍ رِبَاطُ
ولا إِلَى حَبْلِ الهُدَى صِرَاطُ *** فالسَّبُّ والعَارُ بهم مُلْتاطُ
وسَنُوطَى، كهَيُولَى لَقَبُ عُبَيْدٍ المُحَدِّثِ، أَو اسمُ والِدِهِ، فإِنّه يقال فيه: عُبَيْدُ بنُ سَنُوطَى أَيضًا، كما في العُبَاب.
وسُنَاطٌ، كغُرَابٍ لَقَبُ الحَسَنِ بن حَسّان الشّاعِرِ القُرْطُبِيِّ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.
وقال ابنُ عَبّادٍ: سَنُوطٌ، كصَبُورٍ: دَوَاءٌ، م، معروفٌ.
وقال ابنُ فارِسٍ: السِّينُ والنُّون والطّاءُ ليس بشَيءٍ إِلاّ السِّنَاطَ، وهو الَّذِي لا لِحْيَة له.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
سَنِطَ الرَّجُلُ، كفَرحَ، سَنَطًا، فهو سِنَاطٌ: لغةٌ في سَنُطَ، ككَرُم.
وسُنَيْطَةُ، بالتَّصْغِيرِ: قَرْيَةٌ بشَرْقِيَّةِ مِصْر.
وسِنِيطُ، بكَسْر السِّينِ والنُّون: قَرْيةٌ أُخرَى بمِصْر، وأَهْلُها مَشْهُورونَ بالتَّلَصُّصِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
257-تاج العروس (ضبط)
[ضبط]: ضَبَطَهُ يَضْبُطه ضَبْطًا وضَبَاطَةً، بالفَتْحِ: حَفِظَهُ بالحَزمِ، فهو ضابِطٌ؛ أَي حازِمٌ. وقَالَ اللَّيْثُ: ضَبْطُ الشَّيْءِ: لُزُومُه لا يُفَارِقُه، يُقَال ذلِكَ في كُلِّ شَيْءٍ. وضَبْطُ الشيْءِ: حِفْظُه بالحَزْم.وقال ابنُ دُرَيْدٍ: ضَبَطَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ يَضْبُطُه ضَبْطًا، إِذا أَخَذَه أَخْذًا شَدِيدًا، ورَجُلٌ ضابِطٌ وضَبَنْطَى.
وقال غيرُه: جَمَلٌ ضابِطٌ وضَبَنْطَى [كَحَبَنْطَى] أَيْضًا كِلاهُمَا أَي قَوِيٌّ شَدِيدٌ أَيِّدٌ. وفي التَّهْذِيبِ: شَدِيدُ البَطْشِ والقُوَّةِ والجِسْمِ، وقال أُسَامَةُ [بن الحارث] الهُذَلِيُّ:
وما أَنَا والسَّيْرُ في مَتْلَفٍ *** يُبَرِّحُ بالذَّكَرِ الضابِطِ
ورَجُلٌ أَضْبَطُ: يَعْمَلُ بيَدَيْه جَمِيعًا، قال ابنُ دُرَيْدٍ: ولا أَعْلَمُ له فِعْلًا يَتَصَرَّفُ منه، وفي الصّحاح: يَعْمَلُ بِكلْتَا يَدَيْه. تَقُول منه: ضَبِطَ الرَّجُلُ، بالكَسْرِ، يَضْبَطُ، وهي ضَبْطاءُ، وفي الحَدِيثِ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن الأَضْبَطِ فقال: الذي يَعْمَلُ بيَسَارِه كما يَعْمَلُ بِيَمِينَه» وكذلِكَ كُلُّ عامِلٍ يَعْمَلُ بِيَدَيْه جَمِيعًا، نقله أَبو عُبَيْدٍ، وهو الّذِي يُقَال له: أَعْسَرُ يَسَرٌ.
وكانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ الله عنه ـ أَضْبَطَ، نَقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ.
ويُقَال: تَأَبَّطَه ثُمَّ تَضَبَّطَه؛ أَي أَخَذَه عَلَى حَبْسٍ وقَهْرٍ، ومنه حَدِيثُ أَنَسٍ رضِيَ الله عنه: سَافَرَ ناسٌ من الأَنْصَارِ، فأَرْمَلُوا، فمَرُّوا بحَيٍّ من العَرَبِ، فسَأَلُوهم القِرَى فلم يَقْرُوهُم، وسأَلُوهم الشِّرَاءَ فلم يَبِيعُوهُم، فأَصَابُوا مِنْهُم وتَضَبَّطُوا».
وتَضَبَّطَتِ الضَّأْنُ: نَالَتْ شَيْئًا من الكَلْأِ، تَقُول العَرَبُ: إِذَا تَضَبَّطَت الضَّأْنُ شَبِعَتِ الإِبِلُ قال ابنُ الأَعْرَابِيّ: وذلِكَ أَنَّ الضَّأْنَ يُقَالُ لها: الإِبِلُ الصُّغْرَى؛ لأَنَّهَا أَكْثَرُ أَكْلًا من المِعْزَى، والمِعْزَى أَلْطَفُ أَحْنَاكًا، وأَحْسَنُ إِرَاغَةً، وأَزْهَدُ زُهْدًا منها، فإِذا شَبِعَتِ الضَّأَنُ فقد أَحْيَا النّاسُ؛ لكَثْرَةِ العُشْبِ.
أَو معنَى تَضَبَّطَتْ؛ أَي أَسْرَعَتْ في المَرْعَى وقَوِيَتْ وسَمِنَت.
وفي المَثَلِ: هو أَضْبَطُ من ذَرَّةٍ، وذلِكَ لأَنَّهَا تَجُرُّ ما هُو عَلى أَضْعافِهَا، ورُبما سَقَطَا من مَكانٍ شَاهِقٍ مُرْتَفِعٍ فلا تُرْسِلُه.
ويُقَال: أَضْبَطُ من عائشَةَ بنِ عُثْمٍ من بَنِي عَبْشَمْسِ بن سَعْدٍ وذلِكَ أَنَّه سَقَى إِبلَهٌ يَوْمًا وقد أَنْزَلَ أَخاهٌ في الرَّكِيَّة للمَيْح فازْدَحَمَتِ الإِبِلٌ فهَوَتْ بَكْرَةٌ منها في البِئْرِ، فأَخَذَ بذَنَبِهَا، وصاحَ به أَخوه: يا أَخِي المَوْتَ، قال: ذلِكَ إِلى ذَنَبِ البَكْرَةِ، يريدُ أَنَّه إِنْ انْقَطَعَ ذَنَبُهَا وَقَعَتْ. ثمّ اجْتَذَ بَهَا فأخْرَجَهَا قال الصّاغَانِيّ: هذه رِوَايَةُ حَمْزَةَ وأَبِي النَّدَى، وقال المُنْذِرِيُّ: هو عَابِسَةُ، من العُبُوسِ. ولم يَذْكُرْ عائِشَةَ بنَ عَثْمٍ ابنُ الكَلْبِيِّ في جَمْهَرَةِ نَسَبِ عَبْشَمْسِ بن سَعْدِ بن زَيْدِ مَنَاةَ بنِ تَمِيمٍ. قلتُ: وراجعتُ في أَنْسَاب أَبي عُبَيْدٍ فلم يَذْكُرْه في بَنِي عَبْشَمْسٍ أَيضًا.
ومن المَجازِ: ضُبِطَت الأَرْضُ، بالضَّمِّ، إِذا مُطِرَتْ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ. وفي الأَسَاسِ: بَلَدٌ مَضْبُوطٌ مَطَرًا؛ أَي معمومٌ بالمَطَرِ. وفي العُبَابِ: أَرضٌ مَضْبُوطَةٌ: عَمَّها المَطرُ.
والأَضْبَطُ: الأَسَدُ يَعْمَلُ بيَسَارِه كعَمَلِهِ بيَمِينِه، قالتْ مؤبِّنَةُ رَوْحِ بنِ زِنْبَاعٍ في نَوْحِهَا. وفِي العُبَاب: قال الأَصْمَعِيُّ: أَخْبَرَني من حَضَرَ جِنَازَةَ رَوْحِ بنِ حَاتمٍ وبَاكِيَةٌ تقولُ:
أَسَدٌ أَضْبَطُ يَمْشِي *** بَيْنَ طَرْفاءٍ وغِيلِ
لُبْسُه من نَسْجِ دَاوُو *** دَ كضَحْضَاحِ المَسِيلِ
وقَال الكُمَيْتُ:
هُوَ الأَضْبَطُ الهَوّاسُ فِينَا شَجَاعَةً *** وفِيمَنْ يُعَادِيهِ الهِجَفُّ المُثَقَّلُ
وقِيلَ: إِنَّمَا وُصِفَ الأَسَدُ بذلِك لأَنَّه يَأْخُذُ الفَرِيسَة أَخذًا شَدِيدًا، ويَضْبُطَهَا فلا تَكَادُ تُفْلِتُ منه، كالضّابِط، وُصِفَ به لما تَقَدَّم.
والأَضْبَطُ بنُ قُرَيْع بن عَوف بنِ كَعْب بنِ سَعد بنِ زيد مَنَاةَ بن تَمِيمٍ: شَاعِرَ، م، مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. وبَنُو تَميمٍ يَزْعَمُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ من رَأَس فِيهم. قلتُ: وهو أَخُو جعْفَرٍ أَنْفِ النّاقَةِ.
والأَضْبَطُ بنُ كِلَاب بن رَبِيعَةَ، واسمُ الأَضْبَطِ كَعْبٌ.
وبَنُو الأَضْبَطِ: بَطْنٌ من بَنِي كِلابٍ، هو هذا الأَضْبَط الَّذِي ذَكَره.
ورَبِيعَةُ بنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ كَانَ من الأَشِدّاءِ على الأُسَراءِ، قال ابْنُ هَرْمَةَ يصفُ الوَتِدَ:
هَزَمَ الوَلَائِدُ رَأْسَهُ فكأَنَّمَا *** يَشْكُو إِسارَ رَبِيعَةَ بنِ الأَضْبَطِ
والضَّبْطَةُ: لُعْبَةٌ لَهُم، وهي المَسَّةُ أَيضًا، والطَّرِيدةُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الضَّبْطُ: حَبْسُ الشَّيْءِ وقد ضَبَطَ عَلَيْهِ.
وضَبِطَ الرَّجُلُ. كفَرِحَ، عن الجَوْهَرِيِّ.
ولَبُؤَةٌ ضَبْطاءُ، ونَاقَةٌ ضَبْطَاءُ، ومن الأَوَّلِ قولُ الجُمَيحِ الأَسَدِيِّ:
أَمّا إِذا أحَرَدَتْ حَرْدَى فمُجْرِيَةٌ *** ضَبْطاءُ تَمْنَعُ غِيلًا غَيْرَ مَقْرُوبِ
أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ هكَذا، وشَبَّه المَرْأَةَ باللَّبُؤَةِ الضَّبْطَاءِ نَزَقًا وخِفَّةً. ومن الثّانِي قولُ مَعْنِ بنِ أَوْسٍ يَصف ناقَةً:
عُذَافِرَة ضَبْطَاء تَخْدِي كَأَنَّهَا *** فَنِيقٌ غَدَا يَحْمِي السَّوَامَ السَّوَارِحَا
وضَبَطَه وَجَعٌ: أَخَذَه، وهو مجَازٌ.
وبَعِيرٌ ضَابِطٌ: قَوِيٌّ على العَمَلِ، وكذلِكَ رَجُلٌ ضابِطٌ للأُمُورِ، وهو مَجَازُ.
وفُلانٌ لا يَضْبُطُ عَمَلَه؛ أَي لا يَقُومُ بما فُوِّضَ إِليه، وهو مَجَازٌ.
وهو لا يَضْبُط قِرَاءَتَه؛ أَي لا يُحْسِنُهَا، وهو مجَازٌ.
وكذلِكَ: كِتَابٌ مَضْبُوطٌ، إِذا أُصْلِحَ خَلَلُه.
والضّابِطَةُ: المَاسِكَةُ. والقَاعِدةُ، جَمْعُه ضَوَابِطُ.
ورَجُلٌ ضَبّاطٌ للأُمُورِ: كَثِيرُ الحفْظِ لهَا. ومن أَمثالِهِم: «هو أَضْبَطُ مِنَ الأَعْمَى».
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
258-تاج العروس (رضع)
[رضع]: رَضَعَ الصَّبِيُّ أُمَّهُ، كسَمِعَ وضَرَبَ، الثانِيَةُ لُغَةُ نَجْدٍ، والأُولَى لُغَة تِهَامَةَ، كما في الصّحاحِ والعُبَابِ واللِّسَانِ. وفي الْمِصْبَاح بعَكْسِ ذلِكَ، قال الجَوْهَرِيُّ: قالَ الأَصْمَعِيُّ: أَخْبَرنِي عِيسَى بنُ عُمَرَ أَنَّه سَمِعَ العَرَبَ تُنْشِدُ هذا البَيْتَ ـ لابْنِ هَمّام السَّلُولِيِّ ـ عَلَى هذِه اللُّغَةِ:وِذَمُّوا لنا الدُّنْيَا وهُمْ يَرْضِعُونَها *** أَفاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ له ثُعْلُ
وفي العُبَابِ: هو قَوْلُ عَبْدِ الله بنِ هَمّامٍ يُخَاطِبُ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ ـ رضي الله عنهما ـ:
فقَبْلَكَ ما كانَتْ تَلِينا أَئِمَّةٌ *** يُهِمُّهُمُ تَقْوِيمُنَا وهُمُ عُضْلُ
يَذُمُّونَ دُنْيَاهُمْ، وهُمْ يَرْضِعُونَهَا...
هكذا بكَسْرِ الضّادِ، رَضْعًا، بالفَتْح، مصدر رَضَعَ كضَرَبَ، ويُحَرَّكُ، مَصْدَر رَضِعَ كسَمِع ورَضَاعًا ورَضَاعَةً بفَتْحِهِمَا، أَمّا الأَوَّلُ فمَصْدَر رَضِعَ رَضَاعًا، كسَمِعَ سَماعًا، ونَقَلَه الجَوْهَرِيُّ ويُكْسَرانِ، قال الله تَعالَى: {أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} بفَتْحِ الرّاءِ، وقرأَ أَبُو حَيْوَةَ، وأَبُو رَجاء، والجارُودُ، وابنُ أَبِي عَبْلَةَ: «أَنْ يُتِمَّ الرِّضَاعَة»، بكَسْرِ الرّاءِ، ورَضِعًا، ككَتِفِ، فهو رَاضِعٌ، ج: رُضَّعٌ، كَرُكَّع، ورَضِعٌ، ككَتِفٍ، ج: رُضُعٌ، كعُنُق: امْتَصَّ ثَدْيَها. وفي الحَدِيثِ: «انْظُرْن ما إِخْوَانِكُنَّ، فإِنَّمَا الرَّضاعَةُ من المَجَاعَةِ». قالَ ابْنُ الأَثِيرِ: الرَّضَاعَةُ بالفَتْحِ والكسرِ: الاسم من الإِرْضَاع، فأَمّا من الرَّضاعَةِ: اللُّؤمِ فالفتحُ فقَط. وتَفْسِيرُ الحَدِيث: أَنَّ الرَّضَاعَ الَّذِي يُحَرِّمُ النِّكَاحَ إِنَّمَا هو في الصَّغَرِ عندَ جُوع الطِّفْلِ، فأَمّا في حالِ الكِبَرِ فلا.
وِالرَّضُوعَةُ التي تُرْضِعُ وَلَدَهَا، وخَصَّ أَبو عُبَيْدة به الشَّاة تُرْضِعُ.
وِالرّضِعَتَانِ: ثَنِيَّتَا الصَّبِيِّ المُتَقَدِّمَتانِ اللَّتَانِ يَشْرَبُ عليهما اللَّبَنَ. ج: رَوَاضِعُ، وقيل: الرَّوَاضِعُ: ما نَبَتَ من أَسْنَان الصَّبِيِّ ثمّ سَقَطَ في عَهْدِ الرَّضَاع، يُقَال منه: سَقَطَت رَوَاضِعُه، ويُقَال: الرَّوَاضِعُ: سِتٌّ مِنْ أَعْلَى الفَمِ، وسِتٌّ من أَسْفَلِه.
وِمن المَجَازِ: رَضُعَ الرَّجُلُ، ككَرُمَ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابنُ عَبّادٍ: رَضَعَ الرَّجُلُ أَيضًا مثل مَنَع رَضَاعَةً، بالفَتْح لا غَيْرُ. ومنهُ رَجَزٌ يُرْوَى لفاطِمَةَ ـ رضي الله عنها ـ:
ما بِيَ مِنْ لُؤْمٍ ولا رَضَاعَهْ
قال الجوهَرِيّ: قالوا: رَضُعَ الرجلُ بالضّمِّ، كأَنَّه كالشَيْءِ يُطْبَع عليه، وقال الزَّمَخْشَرِيّ: ولمّا نُقِل إِلى مَعْنَى المُبَالغةِ في اللُّؤْمِ بَنَوْا فِعْلَه على فَعُلَ، فقالوا: رَضُعَ رَضَاعَةً، فهو رَاضِعٌ ورَضِيعٌ* ورَضّاعٌ، كشَدَّادٍ، مِن قَوْمٍ رُضَّعٍ ورُضَّاعٍ، كرُكَّعٍ وكُفَّارٍ؛ أَي لَؤُمَ؛ أَي صارَ لَئِيمًا، ومنهقَوْلُ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَع رضي الله عنه: «واليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ».
أَي: اليَوْمُ يَوْمُ هَلَاكِ اللِّئامِ. وفي حَدِيثِ ثَقِيف: قالَتْ عَجُوزٌ منهم: «أَسْلَمَها الرُّضّاعَ، وتَرَكوا المِصَاعَ».
أَي: اللِّئام، والمِصَاعُ: المُضَارَبَةُ بالسَّيْفِ والاسْمُ: الرَّضَعُ، مُحَرَّكَةً، وكَكَتِفٍ.
وِ قالَ اليَمَاميُّ: الرَّاضِعُ: اللَّئِيمُ الَّذِي رَضَعَ اللُّؤْمَ مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، يريدُ أَنَّه وُلِدَ في اللُّؤْمِ. وهو مَجَازٌ.
وِقِيلَ: الرّاضِعُ: الرّاعِي الَّذِي لا يُمْسِكُ معه مِحْلَبًا، فإِذا سُئِلَ اللَّبَنَ اعْتَلَّ بذلك؛ أَي بأَنَّه لا مِحْلَبَ له، وإِذا أَرادَ الشُّرْبَ رَضَعَ حَلُوبَتَهُ، وقيل: اللَّئيمُ الرّاضِعُ: مَنْ يَأْكُلُ الخُلالَةَ من بَيْنِ أَسْنَانِه لُؤْمًا لئلًا يَفُوتَهُ شَيءٌ.
وِقال ابنُ عَبّاد: اللَّئيمُ الرّاضِعُ: منْ يَرْضَعُ النّاسَ؛ أَي يَسْأَلُهُم. قلتُ. وبه فَسَّرَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ قولَ جَرِيرٍ:
وِيَرْضَعُ مَنْ لاقَى وإِنْ يَرَ مُقْعَدًا *** يَقُودُ بأَعْمَى فالفَرَزْدَقُ سائِلُهْ
قال: أَي يَسْتَعْطِيه ويَطْلُبُ منه؛ أَي لو رأَى هذا لَسَأَلَهُ.
وهذا لا يَكُونُ؛ لأَنَّ المُقْعَدَ لا يَقْدِرُ أَن يقومَ فيقودَ الأَعْمَى.
وفي الأَسَاسِ: وتَقُولُ: اسْتَعِذْ بالله من الرَّضَاعَة، كما تَسْتَعِيذُ بِهِ من الضَّراعَة. ونَقَل ابنُ الأَثِيرِ أَيْضًا مثلَ ذلِك.
وِفي الصّحاح: قَوْلُهم: لَئِيمٌ راضِعٌ، أَصلُه زَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا كان يَرْضَعُ إِبلَهُ أَو غَنَمَه، ولا يَحْلُبُها لئِلَّا يُسْمَعَ صَوْتُ حَلْبِه، فيُطْلَبَ مِنْهُ. وقالَ ابنُ دُرَيْدِ: كان هذا الحَدِيثُ في العَمالِقَة، فكَثُرَ حَتَّى صارَ كلُّ لَئِيمٍ رَاضِعًا، فَعَلَ ذلِكَ الفِعْلَ أَو لم يَفْعَلْ. قالَ: وأَصْلُ الحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا من العَمَالِيقِ طَرَقَهُ ضَيفٌ لَيْلًا، فمَصَّ ضَرْعَ شَاتهِ؛ لِئلَّا يَسْمَعَ الضَّيْفُ صَوْتَ الشَّخْبِ.
قال: والرَّضَاعَةُ، كسَحَابَةٍ: اسْمُ الدَّبُور، أَو رِيحٌ بَيْنَها وبينَ الجَنُوبِ، وذلِكَ لأَنَّهَا إِذا هَبَّتْ عَلَى اللِّقَاحِ رَضَعَتْ أَلْبَانُهَا؛ أَي قَلَّتْ، وهو مَجَازٌ.
قال: والرِّضْعُ، بالكَسْر: شَجَرٌ تَرْعاهُ الإِبِلُ كما في العُبَابِ.
وِتَقُول: هذا رَضِيعُكَ؛ أَي أَخُوكَ من الرَّضاعَةِ، بالفَتْحِ، كما في الصّحاحِ، كما تَقُول: أَكِيلُك، قالَ الأَعْشَى:
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمِّ تَقَاسَمَا *** بأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نتَفَرَّقُ
وِقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الرَّضَعُ مُحَرَّكَةً: صِغَارُ النَّحْلِ، وَاحِدَتُها رَضَعَة كالرَّصَعِ، بالصّادِ، وقد تَقَدَّم عن الأَزْهَرِيِّ أَنّه تَصْحِيفٌ.
وِأَرْضَعَتِ المَرْأَةُ، فهي مُرْضِعٌ أَي لَها وَلَدٌ تُرْضِعُه ومنه قَوْلُ امْرئِ القَيْسِ:
فمِثْلِكِ حُبْلَى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ *** فأَلْهَيْتُها عن ذِي تَمائمَ مُحْوِلِ
ويُرْوَى «مُرْضِعًا» ويُرْوَى «مُغْيِلٍ» أَي ذات رَضِيعٍ فإِن وَصَفْتَها بإِرضَاعِ الوَلَدِ أَلْحَقْتَ الهاءَ. وقُلْتَ: مُرْضِعَة، كما في الصّحاح والعُبَابِ، ومنه قولُه تَعالَى: {يَوْمَ [تَرَوْنَها] تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ} وفِي الحَدِيثِ حِينَ ذكر الإِمارَةَ فَقالَ: «نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ، وبِئْسَت الفَاطِمَةُ» ضَرَبَ المُرْضِعَةَ مَثَلًا للإِمارَةِ، وما تُوَصِّلُه إِلَى صاحِبِها من الأَحْلَابِ، يَعْنِي المَنَافِع، والفاطِمَةَ مثلًا للمَوْتِ الَّذِي يَهْدِمُ عليهِ لَذّاتِه، ويَقْطَعُ مَنَافِعَها [دونه].
قال ثَعْلَبٌ: المُرْضِعَةُ: التي تُرْضِعُ وإِنْ لم يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، أَو كانَ لها وَلَدٌ، والمُرْضِعُ: الَّتِي ليس مَعَهَا وَلَدٌ وقد يَكُونُ معَهَا وَلَدٌ. وقال مَرَّةً: إِذا أَدْخَلَ الهاءَ أَرَادَ الفِعْلَ، وجَعَلَه نَعتًا، وإِذا لم يُدْخِل الهاءَ أَرادَ الاسْمَ.
وقال الفَرّاءُ: المُرْضِعُ والمُرْضِعَةُ: الَّتِي مَعَهَا صَبِيٌّ تُرْضِعُه، قال: ولو قِيلَ في الأُمِّ: مُرْضِعٌ ـ لأَنَّ الرَّضَاعَ لا يَكُونُ إِلّا من الإِناثِ، كما قَالُوا: امْرَأَةٌ حائضٌ وطامِثٌ ـ كان وَجْهًا. قال: ولو قِيلَ في الَّتِي مَعها صَبِيٌّ: مُرْضِعَةٌ كان صَوابًا.
وقالَ الأَخْفَشُ: أَدْخَلَ الهاءَ في المَرْضِعَةِ لأَنَّهُ أَرادَ ـ والله أَعلَم ـ الفِعْلَ، ولو أَرادَ الصِّفَةَ لقال: مُرْضِعٌ.
وقال أَبو زَيْدٍ: المُرْضِعَةُ: الَّتِي ترْضِع وثَدْيُها فِي فَمِ وَلَدِها، وعليه قَوْلُه تَعالَى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} قالَ: وِالمُرْضِعُ: الَّتِي دَنا لها أَنْ تُرْضِعَ ولم تُرْضِعْ بَعْدُ، والمُرْضِعُ: الَّتِي مَعها الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ.
وقال الخَلِيلُ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ: ذاتُ رَضِيع، كما يُقَالُ: امرأَةٌ مُطْفِلٌ: ذاتُ طِفْلٍ، بلا هاءٍ، لأَنَّك تَصِفُهَا بفِعْلٍ منها وَاقِع أَو لَازِمٍ، فإِذا وَصَفْتَها بفِعْلٍ هي تَفْعَلُه قُلْتَ: مُفْعِلَةٌ، بفِعْلٍ هي تَفْعَلُه قُلْتَ: مُفْعِلَةٌ، كقولِه تَعالَى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ} وَصَفها بالفِعْلِ فأَدْخَلَ الهاءَ في نَعْتِها، ولو وَصَفَها بأَنَّ مَعَهَا رَضِيعًا قالَ: كُلُّ مُرْضِعٍ.
وقال ابنُ بَرِّيّ: أَمّا مُرْضِعٌ فعَلَى النَّسَبِ؛ أَي ذاتُ رَضِيع، كما تَقُولُ: ظَبْيَةٌ مُشْدِنٌ؛ أَي ذاتُ شَادِن، وعليه قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ.
فمِثْلِكِ...
الخ فهذا عَلَى النَّسَب، وليس جاريًا على الفِعْلِ، كما تَقُولُ: رَجُلٌ دَارِعٌ تارِسٌ؛ أَي معه دِرْعٌ وتُرْسٌ، ولا يُقَال منه: دَرِعٌ ولا تَرِسٌ، فلذلِكَ يُقَدَّرُ في مُرْضِعٍ أَنَّهُ ليس بجَارٍ على الفِعْلِ، وإِنْ كَانَ قد اسْتُعْمِلَ منه الفِعْلُ. وقد يَجِيءُ مُرْضِعٌ عَلَى مَعْنَى ذَاتِ إِرْضَاعٍ؛ أَي لها لَبنٌ وإِنْ لم يَكُنْ لها رَضِيعٌ. هذا خُلاصَةُ ما قالَهُ النحْوِيُّون.
وِرَاضَعَ فُلانٌ ابْنَهُ؛ أَي دَفَعَهُ إِلى الظِّئْرِ. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ لرُؤْبَةَ:
إِنَّ تَمِيمًا لم يُرَاضَعْ مُسْبَعَا *** وِلَمْ تَلِدْهُ أُمُّه مُقَنَّعَا
أَي وَلدَتْهُ مَكْشُوفَ الأَمْرِ، ليسَ عليهِ غِطاءٌ.
وِقالَ الجَوْهَرِيُّ: ارْتَضَعَتِ العَنْزُ؛ أَي شَرِبَتْ لَبَنَ نَفْسِهَا، وأَنْشَدَ للشّاعر، وهو عَمْرُو بنُ أَحْمَرَ الباهِلِيُّ:
إِنِّي وَجَدْتُ بَنِي أَعْيَا وجَاهِلَهُمِ *** كالعَنْزِ تَعْطِفُ رَوْقَيْهَا فتَرْتَضِعُ
هكذا هو في الصّحاحِ، ويُرْوَى: «بَنِي سَهْم وجامِلَهم» ويُرْوَى «وعِزَّهُم» يريدُ تَرْضَعُ نَفْسَها، يَصِفُهُم باللُّؤْمِ، والعَنْزُ تَفْعَلُ ذلِك.
وِاسْتَرْضَعَ: طَلَبَ مُرْضِعَةً، ومنه قَوْلُه تَعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ}، أَي: تَطْلُبُوا مُرْضِعَةً لأَوْلادِكُمْ. قال ابنُ برِّيّ: وتَقُول: اسْتَرْضَعْتُ المَرْأَةَ وَلَدِي؛ أَي طَلَبْتُ منها أَنْ تُرْضِعَه، قال اللهُ تَعَالَى: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} والمَفْعُولُ الثاني مَحْذُوفٌ؛ أَي أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَولادَكُم مَرَاضِعَ، والمَحْذُوفُ في الحَقِيقَةِ المَفْعُولُ الأَوّلُ؛ لأَنَّ المُرْضِعَةَ هي الفاعِلَةُ بالوَلَد، ومنه «فُلانٌ المُسْتَرْضِع في بَنِي تَمِيم» وحَكَى الحَوْفِيُّ في البُرْهَانِ في أَحَد القَوْلَيْنِ: أَنّه مُتَعَدٍّ إِلى مَفْعُولَيْنِ، والقَوْلُ الآخَرُ: أَنْ يكونَ على حَذْفِ اللّام؛ أَي لأَوْلادِكُم.
وِقالَ الأَزْهَرِيُّ: قرأْتُ بخطِّ شَمِرٍ: رُبَّ غُلَامٍ يُرَاضَع.
قال: والمُرَاضَعَةُ: أَنْ يَرْضَعَ الطِّفْلُ أُمَّهُ وفي بَطْنِها وَلَدٌ، قالَ: ويُقال لذلِكَ الوَلَدِ الَّذِي في بَطْنِهَا: مُرَاضَعٌ، ويَجِيءُ مُخْتَلًّا ضَاوِيًّا سَيِّئَ الغِذاءِ. ونَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن النَّضْرِ.
وِالمُرَاضَعَةُ: أَنْ يَرْضَعَ مَعَهُ آخَرُ، كالرِّضَاعِ، بالكَسْرِ، يُقَال: رَاضَعَه مُرَاضَعَةً ورِضَاعًا.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:
رَضَعَ الصَّبِيُّ ثَدْيَ أُمِّه كمَنَعَ، لُغَةٌ حكاهَا صاحِبُ المِصْبَاحِ وابنُ القَطّاعِ، واسْتَدْرَكَه شَيْخُنَا.
وِارْتَضَعَ كرَضَع.
وِالرّاضِعُ: ذاتُ الدَّرِّ واللَّبَن، على النَّسَبِ.
وتَرَاضَعَا: رَضَعَ كلُّ مِنْهُما مع الآخَر.
وِالرَّضِيعُ: المُرَاضِعُ، والجَمْعُ رُضَعاءُ. وجَمْعُ المُرْضِعِ: المَرَاضِعُ، قال الله تَعالَى: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ} والمَراضِيعُ، على ما ذهب إِليه سيبويه في هذا النَّحْوِ، قال الهُذَلِيُّ:
وِيَأْوِي إِلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ *** وِشُعْثٍ مَرَاضِيعَ مِثْلِ السَّعالِي
واسْتَعَارَ أَبُو ذُؤَيْبٍ المَرَاضِيعَ للنَّحْلِ، فقالَ:
تَظَلُّ على الثَّمْرَاءِ منها جَوَارِسٌ *** مَرَاضِيعُ صُهْبُ الرِّيشِ زُغْبٌ رِقَابُها
وِالرّاضِعُونَ: اللِّئامُ.
وهو يَرْضَعُ الدُّنْيَا ويَذُمُّها، وهو مَجازٌ: ويُقَالُ: بَيْنَهُما رِضَاعُ الكَأْسِ، وهو مَجَازٌ أيضًا.
وفي حَدِيثِ قُسٍّ: «رَضِيعُ أَيْهُقانٍ»، قالَ ابْنُ الأَثِيرِ: فَعِيلٌ بمَعْنَى المَفْعُول، يَعْنِي أَنَّ النَّعَامَ في ذلِكَ المَكَانِ يَرْتَعُ هذا النَّبْت ويمصّه بمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ؛ لشدَّة نُعُومَتِه وكَثْرَةِ مائِه. ويُرْوَى بالصّادِ المُهْمَلَة، وقد تَقَدَّم.
وِالراضِعُ: الشَّحّاذُ، لأَنَّهُ يَرْضَعُ النّاسَ بسُؤالهِ، وهو مَجَازٌ.
وِالرَّضَع، مُحَرَّكَةً: سِفَادُ الطّائرِ، عن كُرَاعِ، والمَعْرُوفُ بالصادِ المُهْمَلَةِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
259-تاج العروس (رقع)
[رقع]: الرُّقْعَةُ، بالضَّمِّ: الَّتِي تُكْتَبُ.وِالرُّقْعَةُ أَيْضًا: ما يُرْقَعُ به الثَّوْبُ، ج: رِقَاعٌ، بالكَسْرِ، ومنهالحَدِيثُ: «يَجِيءُ أَحَدُكُم يومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِه رِقَاعٌ تَخْفِقُ» أَرادَ بالرِّقاعِ: ما عَلَيْه من الحُقُوقِ المَكْتُوبَةِ في الرِّقاعِ، وخُفُوقُها: حَرَكَتُهَا. وتُجْمَعُ أَيْضًا رُقْعَةُ الثَّوْبِ عَلَى رُقَعٍ، يُقَال: ثَوْبٌ فيه رُقَعٌ، ورِقَاعٌ، وفي الأَسَاسِ: الصّاحِبُ كالرُّقْعَةِ في الثَّوْبِ، فاطْلُبُه مُشَاكِلًا.
قلتُ: وسَمِعْتُ الأَمِيرَ الصّالِحَ «عَلي أَفندي» وكِيلَ طَرَابُلُسِ الغَرْبِ، رَحِمَهُ الله يَقُولُ: الصّاحِبُ كالرُّقْعَةِ في الثَّوْبِ إِنْ لَم تَكُنْ منه شانَتْهُ.
وِمِنْ المَجَاز: الرُّقْعَةُ الجَرَبِ: أَوَّلُهُ، يُقَال: جَمَلٌ مَرْقُوع: به رِقَاعٌ من الجَرَب. وكذلِك النُّقْبَة من الجَرَبِ.
وِقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الرَّقْعَةُ، بالفَتْحِ: صَوْتُ السَّهْمِ في الرُّقْعَةِ؛ أَي رُقْعَةِ الغَرَضِ، وهي القِرْطاسُ.
وِقال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ من السَّرَاةِ قالَ: الرُّقَعَةُ، كهُمَزَة: شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ كالجَوْزَةِ، وساقُهَا كالدُلْبِ، وَوَرَقُها كوَرَقِ القَرْعِ أَخْضَرُ فيه صُهْبَةٌ يَسِيرَةٌ، وثَمَرُهَا كالتِّينِ العِظَامِ كأَنَّهَا، صِغَارُ الرُّمّانِ، لا يَنْبُتُ إِلّا في أَضْعافِ الوَرَقِ، كما يَنْبُت التِّينُ. ولكِن من الخَشَبِ اليَابِس يَنْصَدِعُ عنه، وله مَعَالِيقُ وحَمْلٌ كَثِيرٌ جِدًّا، يُزَبَّبُ منه أَمرٌ عَظِيمٌ، يُقَطَّر منه القَطَرَاتُ. قال: ولا نُسَمِّيهِ جُمَّيْزًا ولا تِينًا، ولكِن رُقَعًا. إِلَّا أَنْ يُقَال: تِينُ الرُّقَعِ ج: كصُرَدٍ.
وَرَقَعَ، كمَنَعَ: أَسْرَعَ، كما في العُبَابِ.
وِرَقَعَ الثَّوْبَ والأَدِيمَ يَرْقَعُه رَقْعًا: أَصْلَحَهُ وأَلْحَمَ خَرْقَه بالرِّقَاعِ، قالَ ابنُ هَرْمَةَ:
قد يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفَتَى ورِدَاؤُه *** خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِه مَرْقُوعُ
وفي الحَدِيثِ: «المُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فالسَّعِيدُ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقْعِه» قَوْلُه: وَاهٍ؛ أَي يَهِي دِينُه بمَعْصِيَته، ويَرْقَعُه بتَوْبَتِه.
كَرَقَّعَهُ تَرْقِيعًا. وفي الصّحاحِ تَرْقِيعُ الثَّوْبِ: أَنْ تُرَقِّعَه في مَوَاضِعَ، زادَ في اللِّسَانِ: وكُلُّ ما سَدَدْتَ من خَلَّةٍ فقَدْ رَقَعْتَه وَرَقَّعْتَه، قالَ عُمَرُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
وِكُنَّ إِذا أَبْصَرْنَنِي أَو سَمِعْنَنِي *** خَرَجْنَ فَرَقَّعْنَ الكُوَى بالمَحَاجِرِ
وأُراه على المَثَلِ.
وِمن المَجَازِ: رَقَعَ فُلانًا بقَوْلِهِ، فهو مَرْقُوعٌ، إِذا رَماهُ بِلِسَانهِ وهَجاهُ، يُقَال: لأَرْقَعَنَّه رَقْعًا رَصِينًا.
وِمن المَجَازِ: رَقَعَ الغَرَضَ بسَهْمٍ: إِذا أَصابَهُ بِه، وكلُّ إِصابَةٍ رَقْعٌ.
وِقالَ ابنُ عَبّادٍ: رَقَعَ الرَّكِيَّةَ رَقْعًا، إِذا خافَ هَدْمَهَا، من أَعْلَاها فَطَوَاهَا قَامَةً، أَو قامَتَيْنِ، يَقُولُون: رَقَعُوهَا بالرِّقَاعِ.
وهو مَجَازٌ.
وِمن المَجَازِ: رَقَعَ خَلَّةَ الفَارِسِ، إِذا أَدْرَكَهُ فطَعَنَهُ.
وِالخَلَّةُ: هي الفُرْجَةُ بينَ الطَّاعِنِ والمَطْعُونِ، كما في العُبَابِ.
وِكَانَ مُعاوِيَةُ رضي الله عنه، فِيما رُوِيَ عنه، يَلْقَمُ بيَدٍ ويَرْقَعُ بأُخْرَى؛ أَي يَبْسُطُ إِحْدَى يَدَيْهِ لِيَنْتَثِرَ عليها ما سَقَطَ مِن لُقَمِه، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ وابنُ الأَثِير.
وِككِتَابٍ أَبُو دَاوُودَ عَدِيُّ بنُ زَيْدِ بنِ مالِكِ بنِ عَدِيِّ بنِ الرِّقاعِ ابنِ عَصَر بنِ عَدِيّ بنِ شَعْلِ بن مُعَاوِيَةَ بنِ الحارِثِ، وهو عامِلَةُ بنُ عَدِيِّ بنِ الحَارِثِ بنِ مُرَّةَ بنِ أُدَد، وأُمُّ مُعَاوِيَةَ المَذْكُورِ أَيضًا عامِلَةُ بنتُ مالِكِ بنِ ودِيعَةَ بنِ قُضَاعَةَ الشّاعِر العامِلِيّ. وفيه يَقُولُ الرّاعي يَهْجُوه:
لَوْ كُنْتَ من أَحَدٍ يُهْجَى هَجَوْتُكُمُ *** يا ابْنَ الرِّقَاعِ، ولكِنْ لَسْتَ مِنْ أَحَدِ
نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ. قُلْتُ، وقد أَجابَهُ ابنُ الرِّقَاع بِقَوْلِه:
حُدِّثْتُ أَنَّ رُوَيْعِي الإِبْلِ يَشْتُمُنِي *** وِالله يَصْرِفُ أَقْوَامًا عن الرَّشَدِ
فإِنْكَ والشِّعْرَ ذُو تُزْجِي قَوَافِيَه *** «كمُبْتَغِي الصَّيْدِ في عِرِّيسَةِ الأَسَدِ
وِعَلِيُّ بنُ سُلَيْمَانَ بنِ أَبِي الرِّقاع الرِّقاعيُّ الإِخْمِيمِيُّ المُحَدِّثُ عن عَبْدِ الرَّزّاقِ، وعنه أَحْمَدُ بنُ حَمّادٍ، كذّابٌ.
وِذاتُ الرِّقاع: جَبَلٌ فيه بُقَعُ حُمْرَةٍ وبَيَاضٍ وسَوَادٍ قَرِيبٌ من النُّخَيْلِ بين السَّعْد والشُّقْرَةِ ومِنْهُ غَزْوَةُ ذاتِ الرِّقاع إِحْدَى غَزَوَاتِه صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لعَشْرٍ خَلَوْنَ من المُحَرَّم، على رَأْسِ ثَلاثِ سِنِينَ وأَحَدَ عَشَر شَهْرًا من الهِجْرةِ، وذلِكَ لمّا بَلَغَه أَنَّ أَنْمَارًا جَمَعُوا الجُمُوعَ، فخَرَجَ في أَرْبَعِمَائةٍ، فوَجَدَ أَعرابًا هَرَبُوا في الجِبَالِ، وغابَ خَمْسَةَ عَشَرَ يومًا. أَوْ لأَنَّهُم لَفُّوا على أَرْجُلِهِم الخِرَقَ لَمَّا نَقِبَتْ أَرْجُلُهُم، وَيُرْوَى ذلِكَ، عن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضِيَ الله عنه، قَال: «خَرَجْنَا مع النَّبِيِّ صَلَى الله عليه وسلّم في غَزاةٍ ونَحْنُ ستّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُه، فنَقِبَتْ أَقْدَامُنا، ونَقِبَتْ قَدَمايَ، وسَقَطَت أَظْفَارِي، فكُنَّا نَلُفُّ على أَرْجُلِنَا الخِرَقَ، فسُمِّيَت غَزْوَة ذاتِ الرِّقاع؛ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ الخِرَقَ على أَرْجُلِنا.
وِرُقَيْعٌ، كزُبَيْرٍ: شاعِرٌ والِبِيٌّ إِسْلامِيٌّ أَسَدِيٌّ، في زمن معاوية رضي الله عنه.
وِابنُ الرُّقَيْعِ التَّمِيمِي، هكَذا هو في العُبَابِ والتَّكْمِلَةِ واللِّسَانِ، ولم يُسَمُّوه. وفي التَّبْصِير للحافِظِ: رَبِيعَةُ بنُ رُقَيْبٍ التَّمِيمِيُّ أَحَدُ المُنادِين من وَرَاءِ الحُجُرَاتِ، ذَكَره ابنُ الكَلْبِيّ. وضَبَطَه الرَّضِيُّ الشّاطِبِيُّ عن خَطِّ ابنِ جِنِّي؛ وابنُه خالِدُ بنُ رُقَيْعٍ له ذِكْرٌ بالبَصْرَةِ. أَو هو بالفاءِ، كما ضَبَطَه الذَّهَبِيُّ وابنُ فَهْدٍ وإِليه نُسِبَ الرُّقَيْعِيُّ، لِمَاءٍ بين مَكَّةَ والبَصْرَة وأَنْشَدَ الصّاغَانِيُّ رَجَزَ سَالِمِ بنِ قَحْطَان، وقِيلَ: عَبْد اللهِ بن قُحْفَانَ بن أبي قحفان العَنْبَرِيِّ:
يا ابنَ رقَيْعٍ هَلْ لها من مَغْبَقِ
ما شَرِبَتْ بعد قَلِيبِ القُرْبَقِ *** بقَطْرَةٍ غيرِ النَّجاءِ الأَرْفَقِ
وِالرَّقْعَاءُ من الشّاءِ: ما فِي جَنْبِهَا بَياضٌ، وهو مَجَاز.
وِالرَّقْعَاءُ: المَرْأَةُ الدَّقِيقَةُ السّاقَيْنِ.
وقال ابنُ السِّكِّيتِ في الأَلْفَاظ: الرَّقْعَاءُ والجَبّاءُ والسَّمَلَّقَة: الزَّلّاءُ من النِّسَاءِ، وهي الَّتِي لا عَجِيزَةَ لها.
وِالرَّقْعَاءُ: فَرَسُ عامِرٍ الباهِلِيِّ وقَتَلَتْهُ بنُو عامِرٍ، وله يَقُولُ زَيْدُ الخَيْلِ رضِيَ الله عنه:
وِأُنْزِلَ فارِسُ الرَّقْعاءِ كَرْهًا *** بِذِي شُطَبٍ يُحَادَثُ بالصِّقالِ
وجُوعٌ يَرْقُوعٌ، بفَتْحِ الياءِ، وضَمَّها السَّيرافيُّ، وكذلِك دَيْقُوع؛ أَي شَدِيدٌ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: وقالَ أَبُو الغَوْثِ: دَيقُوعٌ، ولم يَعْرِفْ يَرْقُوع.
وِمن المَجَازِ: الرَّقِيعُ، كأَمِيرٍ: الأَحْمَقُ الَّذِي يَتَمَزَّقُ عليه عَقْلُه، وقد رَقُعَ، بالضَّمِّ، رَقاعَةً، كالمُرْقَعَانِ والأَرْقَعِ.
وفي الصّحاح: المَرْقَعَانُ: الأَحْمَقُ، وهو الّذِي في عَقْلِه مَرَمَّةٌ، وفي العُبَابِ: الرَّقِيع: الأَحْمَقُ. لأَنَّهُ كأَنَّه رُقِع؛ لأَنّه لا يُرْقَعُ إِلّا الوَاهِي الخَلَقُ، وهي رَقْعَاءُ، مولّدَة، كما في اللِّسَانِ، ومَرْقَعَانَةٌ. يُقَالُ: هي رَقعَاءُ مَرْقَعَانَة؛ أَي زَلّاءُ حَمْقَاءُ.
وفي الأَسَاسِ: رَجلٌ رَقِيعٌ: تَمَزَّقَ عليهِ رَأْيُه وأَمْرُه.
وتقولُ: يا مَرْقَعَانُ، ويا مَرْقَعانَةُ للأَحْمَقَيْنِ. وتَزَوَّجَ مَرْقَعانٌ مرْقَعَانَةً، فولَدا مَلْكَعَانًا ومَلْكَعانَةً.
وِمن المَجَازِ: الرَّقِيعُ: السَّمَاءُ، أَو السَّمَاءُ الأُولَى، وهي سَمَاءُ الدُّنيا، كما نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، لأَنَّ الكَوَاكِبَ رَقَعَتْهَا، سُمِّيَتْ بذلِكَ لأَنّها مَرْقُوعةٌ بالنُّجُومِ، وقِيلَ: لأَنَّهَا رُقِعَت بالأَنْوارِ الَّتِي فِيها، وقِيلَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ من السَّمواتِ رَقِيعٌ للأُخْرَى، والجَمْعُ أَرْقِعَةٌ. والسَّمواتُ السَّبْعُ يُقالُ: إِنَّهَا سَبْعَةُ أَرْقِعَةٍ، كُلُّ سَماءٍ مِنْهَا رَقَعَتِ الَّتِي تَلِيهَا، فكانت طَبَقًا لها، كما تَرْقَعُ الثَّوْبَ بالرُّقْعَةِ، وفي الحَدِيثِ «مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» قال الجَوْهَرِيُّ: فجاءَ بهِ على لَفْظِ التَّذْكِيرِ، كأَنَّهُ ذَهَبَ به إِلى السَّقْفِ. وعَنَى سَبْعَ سَمواتٍ. وقالَ أُمَيَّةُ بنُ أَبِي الصَّلْتِ يَصِفُ المَلائِكَةَ:
وِساكن أَقْطَارِ الرَّقِيع على الهَوَا *** وِمِنْ دُونِ عِلْمِ الغَيْبِ كُلُّ مَسْهَّدُ
وِقِيلَ: الرَّقْعُ: السَّمَاءُ السابِعَةُ، وبه فُسِّر قولُ أُميَّةَ بنِ أَبي الصَّلْت:
وِكأَنَّ رَقْعًا والمَلائِكُ حَوْلَهُ *** سَدِرٌ تَوَاكَلُه القوائمُ أَجْرَدُ
وِقالَ بعضُهُم: الرَّقْعُ: الزَّوْجُ ومنه يُقَالُ: لا حَظِيَ رَقْعُكِ؛ أَي لا رَزَقَكِ الله زَوْجًا، أَو هو تَصْحِيفٌ، وتَفْسِيرُ الرَّقْعِ بالزَّوْجِ ظَنٌّ وتَخْمِينٌ وحَزْرٌ والصَّوابُ رُفْغُكِ، بالفَاءِ والغَيْنِ المُعْجَمَةِ، نبَّه عليه الصّاغانِيُّ، وقال: ولمّا صَحَّفَ المُصَحِّفُ المَثَلَ فَسَّرَه بالزَّوجِ حَزْرًا وتَخْمِينًا.
وِمن المَجَازِ: ما تَرْتَقِعُ مِنِّي يا فُلانُ برَقَاعِ، كقَطامِ وحَذَامِ، وقال الفَرّاءُ: برَقاعٍ، مثل سَحَابٍ وكِتَابٍ. ووَقَع في الصّحاح: قال يَعْقُوبُ: ما تَرْتَقِعُ مِني بمِرْقاعٍ، هكذا وُجِد بخطّ الجَوْهَرِيِّ، ومثلُه بخَطِّ أَبِي سَهْلٍ، والصَّوابُ برَقَاع، من غَيْرِ مِيمٍ، وقد أَصْلَحَه أَبو زَكَرِيّا هكذا، ونَبَّه الصّاغَانِيُّ عليهِ أَيْضًا في التَّكْمِلَةِ، وجَمَعَ بينَهُما صاحبُ اللِّسَانِ من غير تَنْبِيهٍ عليه، ونُسَخُ الإِصْلاحِ لابْنِ السِّكِّيتِ كلُّهَا من غيرِ مِيمِ. أَي ما تَكْثَرِثُ لِي، ولا تبَالِي بِي. يقَالُ: ما ارْتَقَعْتُ له، وما ارْتَقَعْتُ به؛ أَي ما أَكْتَرَثْتُ له، وما بالَيْتُ به، كما في الصّحاحِ. وفي اللِّسَانِ: قَرَّعَني فُلانٌ بلَوْمِه فما ارْتَقَعْتُ به؛ أَي لم أَكْثَرِثْ به، ومنه قَوْلُ الشّاعِر:
ناشَدْتُها بكِتَابِ الله حُرْمَتَنَا *** وِلم تَكُنْ بكِتَابِ الله تَرْتَقِعُ
أَو قِيلَ: مَعْنَاه: ما تُطِيعُنِي ولا تَقْبَلُ مِنِّي مِمَّا أَنْصَحُكَ به شَيْئًا، لا يُتَكَلَّمُ به إِلّا في الجَحْدِ، وهذا نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ عن يَعْقُوبَ.
وِالرَّقاعَةُ، كسَحَابَةٍ: الحُمْقُ، وقد رَقُعَ، كَكَرُمَ وأَرْقَعَ: جاءَ بها وبالخُرْقِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ. وأَرْقَعَ الثَّوْبُ: حانَ له أَنْ يُرْقَعَ، كاسْتَرْقَعَ بمَعْنَاه.
وفي الأَسَاسِ: اسْتَرْقَعَ: طَلَبَ أَنْ يُرْقَعَ.
وِمن المَجَازِ: التَّرْقِيعُ: التَّرْقِيحُ، وهو اكْتِسَابُ المالِ.
وقد رَقَعَ حالَهُ ومَعِيشَتَهُ؛ أَي أَصْلَحَهَا، كَرقَّحَهَا.
وِالتَّرَقُّع: التَّكَسُّب، وهو مَجَاز، أَيضًا.
وِما ارْتَقَعَ له، وبه: ما اكْتَرَثَ وما بَالَى، وقد تَقَدَّم قريبًا.
وِطارِقُ بنُ المُرَقَّعِ، كمُعَظَّمٍ: حِجَازِيٌّ، رَوَى عنه عَطَاءُ بنُ أَبي رَبَاحٍ، والأَظْهَرُ أَنّه تابِعِيٌّ، وقد ذَكَرَه بعضٌ في الصَّحابَةِ.
وِمُرَقَّعُ بن صَيْفِي الحَنْظَلِيُّ: تابِعيُّ.
وِراقَعَ الخَمْرَ: قَلْبُ عَاقَرَ؛ أَي لازَمَهَا، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وهو مَجَازٌ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
يُقَالُ: فِيه مُتَرَقَّعٌ لمَنْ يُصْلِحُه؛ أَي مْوضِعُ تَرْقِيعٍ، كما قالُوا: فيه مُتَنَصَّحٌ؛ أَي مَوْضِعُ خِيَاطَةٍ، ويُقَال: أَرى فيه مُتَرَقَّعًا؛ أَي موضِعًا للشَّتْمِ والهِجَاءِ. نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ، وأَنْشَدَ للبَعِيثِ:
وِما تَرَكَ الهاجُونَ لِي في أَديمِكُمْ *** مَصَحًّا ولكِنِّي أَرَى مُتَرَقَّعَا
وهو مَجَازٌ.
ويُقَالُ: لا أَجِدُ فِيك مَرْقَعًا للكَلامِ، وهو مَجَازُ أَيضًا.
وكذا قَوْلُهُم: وما رَقَعَ رَقْعًا؛ أَي ما صَنَعَ شَيْئًا.
والعَرَبُ تقولُ: خَطِيبٌ مِصْقَعٌ، وشاعِرٌ ومِرْقَعٌ، وحَادٍ قُرَاقِر. مِصْقَعٌ: يَذْهَبُ في كُلِّ صُقْعٍ من الكَلامِ، ومِرْقَعٌ: يصِلُ الكلامَ فَيَرْقَعُ بَعْضَهُ ببَعْضٍ، وهو مَجَازٌ أَيضًا.
وِالرُّقْعَةُ، بالضَّمِّ: رُقْعَةُ الشّطْرَنْجِ، سُمِّيَتْ لأَنَّهَا مَرْقُوعَةٌ.
وِرُقْعَةُ الغَرَضِ: قِرْطَاسُه.
وِالأَرْقَع: اسمُ السّمَاءِ الدُّنْيَا.
وِالأَرْقَعُ: الأَحْمَقُ، ويُقَال: ما تَحْتَ الرَّقِيعِ أَرْقَعُ مِنْه.
وِرُقْعَةُ الشَّيْءِ: جَوْهَرُه وأَصْلُه، ومنه قَوْلُ أَبِي الأَسْوَدِ الدُؤَلِيِّ، وكان قد تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فأَنْكَرَتْ عليهِ أُمُّ عَوْفٍ ـ أُمُّ وَلَدٍ له ـ وكانَت لهَا عِنْدَهُ مَنْزِلَةٌ، ونَسَبَتْهُ إِلى الفَنَدِ والخُرْقِ:
أَبَى القَلْبُ إِلَّا أُمَّ عَوْفٍ وحُبَّها *** عَجُوزًا، ومن يُحْبِبْ عَجُوزًا يُفَنَّدِ
كسَحْقِ اليَمانِي قَد تَقادَمَ عَهْدُه *** وِرُقْعَتُه ما شِئْتَ في العَيْنِ واليَدِ
هذِه رِوايَةُ العُبَابِ، وفي الصّحاحِ: «إِلّا أُمَّ عَمْرِو... كثَوْبِ اليَمانِي».
ويُقَال: رَقَع ذَنَبَه بسَوْطِه، إِذا ضَرَبَ به، وقد استُعْمِل أَيضًا في مُطْلَق، يقال: اضْرِبْ وارْقَعْ. ورَقَعَه كَفًّا، وهو يَرْقَعُ الأَرْضَ برِجْلَيْهِ.
وِرَقَعَ الشيخُ: اعْتَمَدَ على راحَتَيْه لِيَقُومَ، وهو مجاز.
وِرَقَّعَ النّاقةَ بالهِنَاءِ تَرقِيعًا: إِذا تَتَبَّع نُقَبَ الجَرَبِ مِنْهَا، وهو مَجَازٌ.
ويُقَالُ: للَّذِي يَزِيدُ في الحَدِيثِ: هو صاحِبُ تَنْبِيقٍ وتَرْقِيعٍ وتَوْصِيلٍ.
وهذه رُقْعَةٌ مِن الكَلإِ، وما وَجَدْنا غَيْرَ رِقَاعٍ من عُشْبٍ.
وِالرُّقْعَةُ: قِطْعَةٌ من الأَرْضِ تَلْتَزِقُ بأُخْرَى، ويُقَال: رِقاعُ الأَرْضِ مُخْتَلِفَةٌ. وتَقُولُ: الأَرْضُ مُخْتَلِفَةٌ الرِّقاعِ، مُتَفَاوِتَةُ البِقَاع، ولذلِكَ اخْتَلَفَ شَجَرُها ونَبَاتُها، وتَفَاوَتَ بَنُوها وبَنَاتُهَا.
وهو رَقَاعِيُّ مَالٍ، كرَقَاحِيٍّ، لأَنًّه يَرْقَعُ حالَه.
وِرَقَّع دُنْياهُ بآخِرَتهِ، ومِنْهُ قول عَبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ.
نُرَقِّعُ دُنْيَانا بتَمْزِيقِ دِينِنا *** فلا دِينُنا يَبْقَى، ولا ما نُرَقِّعُ
ورَجُلٌ مُرَقَّعٌ، كمُعَظَّمٍ: مُجَرَّبٌ، وهو مَجَازٌ. والمُرَقَّعَةُ: من لُبْسِ السّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، لِمَا بها من الرُّقَعِ.
وقَنْدَةُ الرِّقاعِ: ضَرْبٌ من التَّمْرِ، عن أَبِي حَنِيفَةَ.
وذَوَاتُ الرِّقاع: مَصانِعُ بنَجْدٍ تُمْسِكُ الماءَ، لِبَنِي أَبِي بَكْرِ بنِ كِلابٍ.
ووَادِي الرِّقاع، بنَجْدٍ أَيضًا.
وعَبْدُ المِلك بنُ مِهْرَانَ الرِّقاعِيُّ، عن سَهْلِ بنِ أَسْلَمَ، وعنه سُلَيْمَانُ بنُ بِنْتِ شُرَحْبِيل.
وأَبو عُمَرَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ الرِّقاعِيُّ الضَّرِيرُ، عن الطَّبَرانِيِّ، ماتَ سنةَ أَرْبَعِمَائَةٍ وثَلَاثٍ وعِشْرِين.
ويَزِيدُ بنُ إِبْرَاهِيمُ الرِّقاعِيُّ أَصْبَهَانِيٌّ، عن أَحْمَدَ بنِ يُونُسَ الضَّبِّيِّ، وعنه الطَّبَرانِيُّ.
وإِبْرَاهِيمُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الرِّقاعِيُّ، عن مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ الباغَنْدِيّ، وعنه ابنُ مَرْدُوَيهِ.
وجَعْفَرُ بنُ محمَّدٍ الرِّقاعيُّ عن المَحَامِلِيِّ وابنِ عُقْدَةَ.
وأَبو القاسِم عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الرِّقاعيُّ، رَوَى عن أَبِي بَكْرِ بن مَرْدَوَيْهِ. كذا في التَّبْصِيرِ للحافِظِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
260-تاج العروس (روع)
[روع]: الرَّوْعُ: الفَزَعُ، راعَهُ الأَمْرُ يَرُوعُه رَوْعًا، وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: «إِذا شَمِطَ الإِنْسَانُ في عَارِضَيْهِ فذلِكَ الرَّوْعُ» كأَنَّهُ أَرادَ الإِنْذَارَ بالمَوْتِ. وقالَ اللَّيْثُ: كُلُّ شَيْءٍ يَرُوعُكَ منه جَمَالٌ وكَثْرَةٌ تقولُ: رَاعَنِي فهو رائعٌ، كالارْتِيَاعِ، قالَ النّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يصفُ ثَوْرًا:فارْتاعَ مِنْ صَوْتِ كَلّابٍ فبَاتَ لهُ *** طَوْعَ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
ويُقَالُ: ارْتَاعَ مِنْه، وله. والتَّرَوُّعِ قال رُؤْبَةُ:
وِمَثَلُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَرَوَّعَا *** ضَبَابَةٌ لا بُدَّ أَنْ تَقَشَّعَا
أَو حَصْدُ حَصْدٍ بعدَ زَرْعٍ أَزْرَعَا
وِالرَّوْعُ: د، باليَمَنِ قُرْبَ لَحْجٍ، نَقَلَه الصّاغانِيّ.
وِالرَّوْعَةُ: الفَزْعَةُ، وهي المَرَّةُ الوَاحِدَةُ من الرَّوْعِ: الفَزَعِ، والجَمْعُ رَوْعَاتٌ، ومنهالحَدِيثُ: «اللهُمَّ آمِنْ رَوْعَاتِي، واسْتُرْ عَوْرَاتِي» وفي الحَدِيثِ: «فأَعْطَاهُمْ برَوْعَةِ الخَيْل» يريدُ أَنَّ الخَيْلَ راعَتْ نِساءَهم وصِبْيَانَهم، فأَعْطَاهُم شَيْئًا لِمَا أَصابَهُمْ من هذِه الرَّوْعَة.
وِقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الرَّوْعَة: المَسْحَةُ من الجَمَالِ: والرَّوْقَة: الجَمَالُ الرّائِقُ.
وِقال الأَزْهَرِيّ: يُقَال: هذِهِ شَرْبَةٌ رَاعَ بها فُؤَادِي أَي: بَرَدَ بِهَا غُلَّةُ رُوعِي، ومنه قَوْلُ الشاعِر:
سَقَتْنِي شَرْبَةً رَاعَتْ فُؤادِي *** سَقَاها الله مِنْ حَوْضِ الرَّسُولِ
صلى الله عليه وسلم.
وِرَاعَ فُلانٌ: أَفْزَعَ، كرَوَّعَ تَرْوِيعًا، لازِمٌ مُتَعَدٍّ، فارْتَاعَ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، ومنهالحَدِيثُ: «لَنْ تُرَاعُوا، ما رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ» وقد رِيعَ يُرَاعُ: إِذا فَزِعَ.
وقولهم: لا تُرَعْ؛ أَي لا تَخَفْ ولا يَلْحَقْك خَوْفٌ، قال أَبُو خِراشٍ:
رَفَوْنِي وقالُوا: يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ *** فقُلْتُ ـ وأَنْكَرْتُ الوُجُوهَ ـ: هُمُ هُمُ
وللأُنْثَى: لا تُرَاعِي، قال قَيْسُ بن عامر:
أَيا شِبْهَ لَيْلَى لا تُرَاعِي فإِنَّنِي *** لَكِ اليَوْمَ مِنْ وَحْشِيَّةٍ لَصَدِيقُ
وِراعَ فُلانًا الشَّيءُ: أَعْجَبَهُ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، ومنهالحَدِيثُ في صِفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ: «فيَرُوعُه ما عَلَيْه من اللِّبَاسِ» أَي يُعْجِبُه حُسْنُه.
وِرَاعَ في يَدِي كَذَا وراقَ؛ أَي أَفادَ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ هكَذا في كتابَيْه، ولكِنَّه فِيهِمَا «فادَ» بغيرِ أَلف، ثمّ وَجَدْتُ صاحِبَ اللِّسَانِ ذَكَرَه عن النّوادِرِ في «ر ى ع»: «رَاعَ في يدِي كذا وكذا، وراقَ مثلُه، أَي: زادَ» فعُلِمَ من ذلِكَ أَنَّ الصَّاغَانِيَّ صَحَّفَه، وقَلَّدَهُ المُصَنِّف في ذِكرِه هنا، وصَوابُه أَنْ يُذْكَر في الَّتِي تَلِيها، فتَأَمَّلْ.
وِراعَ الشَّيْءُ يَرُوعُ، ويَرِيعُ رُوَاعًا، بالضّمّ: رَجَعَ إِلى مَوْضِعه.
وِارْتَاعَ، كارْتَاحَ، نَقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ، وأَوْرَدَه الجَوْهَريُّ في «ر ى ع» فإِنّ الحَرْفَ وَاوِيٌّ يائِيٌّ، وذَكَرَ هنا أَنه «سُئلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عن القَيْءِ يَذْرَعُ الصائمَ، فقالَ: هَلْ راعَ منه شَيْءٌ؟ فقال له السائلُ: ما أَدْرِي ما تَقُولُ؟ فقالَ: هل عادَ مِنْه شَيْءٌ؟». ورائِعَةُ: مَنْزِلٌ بين مَكَّةَ والبَصْرَةِ، أَو هو مَاءٌ لبَنِي عُمَيْلَةَ وموضِعٌ بَيْن إِمَّرَةَ وضَرِيَّةَ، كما في العُبَابِ أَو هُو؛ أَي هذا المَوْضِعُ المَذْكُور بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، وهذا خَطأٌ، والصّوابُ: أَو هو بالغَيْنِ المُعْجَمَة، ففِي مُعْجَمِ البَكْرِيِّ: رَائِغَةُ، بالغَيْنِ: منزلٌ لِحَاجِّ البَصْرَة بينَ إِمَّرَةَ وطَخْفَةَ، كما سَيَأْتِي إِن شَاءَ اللهُ تَعالَى في «ر وغ».
وِدَارُ رائِعةَ: موضِعٌ بمَكَّةَ، شَرَّفَها الله تَعالَى، جاءَ ذِكْرُه في الحَدِيثِ. هكَذَا ضَبَطَهُ الصاغانِيُّ بالعَيْن المُهْمَلَة، وفي التَّبْصِير للحافِظِ: رَائِغَة. بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ: امْرَأَةٌ تُنْسَبُ إِليها دَارٌ بمكَّةَ، يقالُ لها: دَارُ رائِغَةَ، قَيَّدَهَا مُؤْتَمَنٌ السّاجِيُّ هكَذَا، فتَنَبَّه لذلِكَ، به* قَبْرُ آمِنَةُ أُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها، في قولٍ، وقِيلَ: في شِعْبِ أَبِي دُبٍّ بمَكَّة أَيْضًا، وقِيلَ: بالأَبْوَاءِ بينَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، شرَّفَهُما اللهُ تعالى، والقَوْلُ الأَخيرُ هو المَشْهُورُ.
وِرائعٌ: فِنَاءٌ من أَفْنِيَةِ المَدِينَةِ، على ساكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام.
وِكشَدَّاد: الرَّوّاعُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ التُّجِيبِيّ. وسُلَيْمَانُ بنُ الرَّوّاعِ الخُشَنِيُّ شيخٌ لسَعِيدِ بن عُفَيْر، وأَحْمَدُ بنُ الرَّوّاعِ بنِ بُرْدِ بنِ نَجِيحٍ المِصْرِيّ المُحَدِّثُون، ذَكَرَهُم ابنُ يُونُسَ هكذا، وأَوْرَدَهُم الصّاغَانِيُّ في هذا البابِ، وهو خَطَأٌ، والصَّوابُ بالغَيْن المُعْجَمَةِ في الكُلِّ، كما ضَبَطَه الحافظُ بن حَجَرٍ، وسَيَأْتي للصّاغانِيّ في الغَيْنِ أَيْضًا على الصّواب، وتَبِعَه المُصَنِّف هُنَاك من غير تَنْبِيهٍ، فليُتَنَبَّه لذلِك.
وِالرَّواعُ: امْرَأَةٌ شَبَّبَ بِهَا رَبِيعَةُ بنُ مَقْرُومٍ الضَّبِّيُّ.
مُقْتَضَى سِيَاقهِ أَنَّه كشَدَّادٍ، وهو المَفْهُومُ من سِيَاقِ العُبَابِ، فإِنَّه أَوْرَدَه عَقِبَ ذِكْرِه الأَسْمَاءَ الَّتِي تَقَدَّمَت، وضبطهم كشَدّادٍ، والصَّوابُ أَنَّه كسَحابٍ، كما هو مَضْبوطٌ في التَّكْمِلَة، أَو هي كغُرابٍ وهذا أَكْثرُ حيثُ يَقُولُ:
أَلا صَرَمَتْ مَوَدَّتَك الرُّوَاعُ *** وَجَدَّ البَيْنُ مِنْهَا والوَدَاعُ
وقال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِمٍ:
تَحَمَّلَ أَهلُهَا مِنْهَا فبانُوا *** فَأَبْكَتْنِي مَنازِلُ للرُّوَاعِ
وِأَبو رَوْعَةَ الجُهَنِيُّ: ممَّنْ وَفَدَ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ مع أَخِيهِ لِأُمِّه عبدِ العُزَّى بنِ بَدْرٍ الجُهَنِيّ، رضي الله عنهما، ولم يَذْكُر أَبا رَوْعَة الذَّهَبِيُّ ولا إبنُ فَهْدٍ، فهو مُسْتَدْرَكٌ عليهِمَا في مُعْجَمَيْهِما.
وِالرُّوعُ، بالضَّمِّ: القَلْبُ، كما في الصّحاحِ، أَو الرُّوعُ: مَوْضِعُ الرَّوْعِ؛ أَي الفَزَعِ منه؛ أَي من القَلْب، أَو رُوعُ القَلْبِ: سَوَادُه، وقِيلَ: الذِّهْنُ، وقِيل: العَقْلُ، الأَخِيرُ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ. ويُقَالُ: وَقَع ذلِكَ في رُوعِي، أَي: نَفْسِي وَخَلَدِي وبَالِي، وفي الحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها، فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ» قال أَبُو عُبَيْدَةَ: معناهُ: في نَفْسِي وخَلَدِي، ونحو ذلِك. ومنه الحَديثُ قالَ صلى الله عليه وسلم لعُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسِ بنِ أَوْسِ بنِ حارِثَةَ بنِ لَأْمٍ الطّائيِّ رضِيَ اللهُ عنه ـ حِينَ انْتَهَى إِلَيْه، وهو بجَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الغَدَاةَ، فقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ طَوَيْتُ الجَبَلَيْنِ، ولَقِيتُ شِدَّةً ـ: «أَفْرَخَ رُوعُكَ، مَنْ أَدْرَكَ إِفاضَتنا هذِه فقَدْ أَدْرَكَ» يعنِي الحَجَّ؛ أَي خَرَجَ الفَزَعُ من قَلْبِك، هكَذا فسَّرَه أَبُو الهَيْثَمِ، ويُرْوَى رَوْعُك، بالفَتْحِ، أَو هي الرِّوايَةُ فَقَطْ. قال الأَزْهَرِيُّ: كلُّ مَنْ لَقِيتُه من اللُّغَوِيِّينَ يَقولُ: أَفْرَخَ رَوْعُه، بفتحِ الرّاءِ، إِلّا ما أَخْبَرَنِي به المُنْذِرِيُّ عن أَبِي الهَيْثَمِ أَنَّه كانَ يَقُولُ: إِنّما هو أَفْرَخَ رُوعُه، بالضَّمِّ.
وفِي العُبَابِ: قالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَسَنُ بنُ عبدِ الله بنِ سَعِيدٍ العَسْكَرِيُّ: أَفْرَخَ رَوْعُك، أَيْ زالَ عنكَ ما تَرْتَاعُ له وتَخافُ، وذَهَبَ عنكَ، وانْكَشَفَ، كأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من خُرُوجِ الفَرْخِ من البَيْضَةِ وانْكِشافِ الغُمَّةِ عنه، وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَفْرِخْ رَوْعَكَ، تَفْسِيرُه: ليَذْهَبْ رُعْبُكَ وفَزَعُكَ، فإِنَّ الأَمْرَ ليسَ عَلَى ما تُحاذِرُه.
وِفي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَتَبَ إِلى زِيادٍ وذلِكَ أَنَّهُ كانَ عَلَى البَصْرَةِ، وكانَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ على الكُوفَةِ، فتُوفِّيَ بها، فخافَ زِيَادٌ أَنْ يُوَلِّيَ مُعاوِيةُ عبدَ الله بنَ عامرٍ مَكَانَه، فكَتَبَ إِلى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُه بوَفَاةِ المُغِيرَةِ، ويُشيرُ عليهِ بتَوْلِيَةِ الضَّحّاكِ بنِ قَيْسٍ مكَانَه، ففَطِنَ له مُعَاوِيَةَ، وكَتَبَ إِليه: قد فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وليُفْرِخْ رُوعُكَ أَبا المُغِيرَةِ، وقد ضَمَمْنَا إِلَيْك الكُوفَةَ مع البَصْرَةِ».
المَشْهُورُ عندَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ بالفَتْحِ، إِلّا أَبا الهَيْثَمِ، فإِنَّه رَواه بالضَّمِّ، والمَعْنَى: أَي أَخْرِجِ الرَوْعَ من رُوعِك؛ أَي الفَزَعَ من قلْبِك.
قال أَبو الهَيْثَمِ: ويُقَالُ: أَفْرَخَتِ البَيْضَةُ، إِذا خَرَجَ الفَرْخُ مِنْهَا، قال: والرَّوْعُ، بالفَتْح: الفَزعُ، والفَزَعُ لا يَخْرُجُ من الفَزَعِ، وإِنّما يَخْرُجُ من مَوْضِعٍ يكونُ فيه الفَزَع، وهو الرُّوعُ، بالضَّمِّ، قال: والرَّوْعُ في الرُّوعِ كالفَرْخ في البَيْضَةِ، يُقَالُ: أَفْرَخَتِ البَيْضَةُ، إِذا تَفَلَّقَتْ عن الفَرْخِ، فَخَرَجَ منها وأَفْرَخَ فُؤَادُ رَجُل: إِذا خَرَجَ رَوْعُهُ، قالَ: وقَلَبَه ذُو الرُّمَّةِ عَلَى المَعْرِفَةِ بالمَعْنَى، فقالَ يَصِفُ ثَوْرًا:
وَلَّى يَهُزُّ اهْتِزازًا وَسْطَهَا زَعِلًا *** جَذْلانَ قد أَفْرَخَتْ عن رُوعِهِ الكُرَبُ
قال: ويُقَالُ: أَفْرِخْ رُوعَكَ، على الأَمْرِ؛ أَي اسْكُنْ، وأْمَنْ، قال الأَزْهَرِيُّ: والذي قالَهُ أَبو الهَيْثَمِ بَيِّنٌ، غيرَ أَنِّي اسْتَوْحِشُ منه؛ لانْفِرَادِه بقَوْلِه. وقد يَسْتَدْرِكُ الخَلَفُ على السَّلَفِ أَشْيَاءَ رُبَّمَا زَلُّوا فيها. فلا نُنْكِر إِصابَة أَبِي الهَيْثَم فيما ذَهَب إِليهِ، وقد كانَ له حَظٌّ من العِلْم مَوْفُورٌ، رَحِمَه اللهُ تَعالَى.
وِنَاقَةٌ رُوَاعَةُ الفُؤادِ، ورُوَاعُهُ، بضَمِّهِما، إِذا كانَت شَهْمَة ذَكِيَّة، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:
رَفَعْتُ له رَحْلِي عَلَى ظَهْرِ عِرْمِسٍ *** رُوَاعِ الفُؤادِ حُرَّةِ الوَجْهِ عَيْطَلِ
وِالرَّوْعَاءُ: الفَرَسُ والنّاقَةُ الحَدِيدَةُ الفُؤَادِ، ولا يُوصَفُ به الذَّكَر، كما في الصّحاح، وفي التَّهْذِيبِ: فَرَسٌ رُوَاعٌ. بغير هاءٍ. وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: فَرَسٌ رَوْعَاءُ: لَيْسَتْ من الرّائِعَةِ، ولكِنَّهَا الَّتِي كأَنَّ بها فَزَعٌ من ذَكائِها، وخِفَّةِ رُوحِها.
وِالأَرْوَعُ من الرِّجَالِ: مَنْ يُعْجِبُكَ بحُسْنِهِ وجَهَارَةِ مَنْظَرِه مع الكَرَمِ والفَضْلِ والسُّؤْدُدِ، أَوْ بِشَجَاعَتِه، وقِيلَ: هو الجَمِيلُ الَّذِي يَرُوعُك حُسْنُه، ويُعْجِبُك إِذا رَأَيْتَه، قال ذُو الرُّمَّةِ:
إِذا الأَرْوَعُ المَشْبُوبُ أَضْحَى كَأَنَّه *** على الرَّحْلِ ممّا مَنَّه السَّيْرُ أَحْمَقُ
وقِيلَ: هو الحَدِيدُ، ورَجُلٌ أَرْوَعُ: حَيُّ النَّفْسِ ذَكِيٌّ، كالرّائِعِ، ج: أَرْوَاعُ ورُوعٌ، بالضَمِّ. أَمّا الرُّوعُ فجمعُ أَرْوَع، يُقَال: رِجَالٌ رُوعٌ، ونِسْوَةٌ رُوعٌ. وأَمّا الأَرْوَاعُ فجَمْعُ رَائعٍ، كشَاهِدٍ وأَشْهَادٍ، وصَاحِبٍ وأَصْحَابٍ، ومنه حديث وائلِ بنِ حُجْرٍ: «إلى الأَقْيَالِ العَبَاهِلَةِ الأَرْوَاعِ المَشَابِيبِ» وهم الحِسَانُ الوُجُوهِ، الَّذِين يَرُوعُونَ بجَهَارَةِ المَنَاظِرِ، وحُسْنِ الشّاراتِ. وقِيلَ: هُم الَّذِينَ يَرُوعُونَ النّاسَ؛ أَي يُفْزِعُونَهُم بمَنْظَرِهم؛ هَيْبَةً لهم، والأَوَّلُ أَوْجَه.
وِالاسْمُ: الرَّوَعُ، محرَّكةً، يُقَالُ: هو أَرْوَعُ بَيِّنُ الرَّوَعِ، وهي رَوْعاءُ بَيِّنَةُ الرَّوَعِ، والفِعْلُ من كُلِّ ذلِك وَاحِدٌ، فالمُتَعَدِّي كالمُتَعَدِّي، وغَيْرُ المُتَعَدِّي كَغَيْرِ المُتَعَدِّي. قالَ الأَزْهَريُّ: والقِيَاسُ في اشْتِقَاقِ الفِعْل منه رَوِعَ يَرْوَعُ رَوَعًا.
وِقال شَمِرٌ: رَوَّعَ خُبْزَهُ بالسَّمْنِ تَرْوِيعًا ورَوَّغَه، إِذا رَوّاهُ به.
وقالَ ابنُ عَبّادٍ: أَرْوَعَ الرّاعِي بالغَنَمِ، إِذا لَعْلَعَ بها، قال: وهوَ زَجْرٌ لها.
وِالمُرَوَّع، كمُعَظَّمٍ: مَنْ يُلْقَي في صَدْرِه صِدْقُ فِرَاسَةٍ، أَو مَنْ يُلْهَمُ الصَّوابَ، وبهما فُسِّرَ الحَدِيثُ المَرْفُوع: «إِنَّ في كُلِّ أُمَّةٍ مُحَدِّثِينَ ومُرَوَّعِينَ، فإِنْ يَكُنْ في هذه الأُمَّةِ أَحَدٌ فإِنَّ عُمَرَ مِنْهُم! » وكذلك المُحَدَّثُ، كأَنَّه حُدِّثَ بالحَقِّ الغَائِب، فنَطَقَ به.
وِتَرَوَّعَ الرَّجُل: تَفَزَّعَ، وهذا قد تَقَدَّمَ له في أَوَّلِ المادَةِ، وأَنْشَدْنا هُنَاك شاهِدَه من قَوْلِ رُؤْبَةَ، فهو تَكْرَارٌ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:
الرُّوَاعُ، بالضَّمِّ: الفَزَعُ، رَاعَنِي الأَمْرُ رُوَاعًا، بالضَّمِّ، ورُوُوعًا، ورُؤُوعًا، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ. كذلِكَ حَكَاهُ بغَيْرِ هَمُزٍ، وإِنْ شِئْتَ هَمَزْتُ، وكذلِك رَوّعَهُ، إِذا أَفْزَعَه بكَثْرَتِه أَو جَمَالِه.
ورَجُلٌ رَوِعٌ، ورَائعٌ: مُتَرَوِّعٌ، كِلاهُما على النَّسَبِ، صَحَّت الواوُ في رَوِعَ؛ لأَنَّهم شَبَّهُوا حَرَكَةَ العَيْنِ التّابِعَةِ لها بحَرْفِ اللِّينِ التّابع لها، فكأَنَّ فَعِلًا فَعِيلٌ، وقد يَكُونُ رَائِعٌ فَاعِلًا في مَعْنَى، مَفْعُول، كقَوْلِهِ:
ذَكَرْتُ حَبِيبًا فَاقِدًا تَحْتَ مَرْمَسِ
وقَوْلُ الشّاعِر:
شُذَّانُهَا رَائِعَةُ من هَدْرِهِ
أَي: مُرْتاعَةٌ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وقالُوا: رَاعَهُ أَمرُ كذا؛ أَي بَلَغَ الرَّوْعُ رُوعَهُ.
وِالرّائِعُ من الجَمَالِ: الّذِي يُعْجِبُ رُوعَ مَنْ رَآه، فيَسُرُّه.
وكَلامٌ رائعٌ؛ أَي فائقٌ، وهو مَجَازٌ.
وزِينَةٌ رائعةٌ؛ أَي حَسَنَةٌ.
وفَرَسٌ رَوْعَاءُ، ورائعةٌ: تَرُوعُكَ بعِتْقِها وخِفَّتِهَا، قال:
رائِعَةٌ تَحْمِلُ شَيْخًا رَائِعَا *** مُجَرَّبًا قدْ شَهِدَ الوَقائِعا
ونِسْوَةٌ رَوَائِع، ورُوعٌ.
وقلبٌ أَرْوَعُ ورُوَاعٌ: يَرْتاع لِحِدَّته ـ من كلِّ ما سَمِعَ أَو رأَى. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: فَرَسٌ أَرْوَعُ، كرَجُلٍ أَرْوَعَ.
وشَهِدَ الرَّوْعَ؛ أَي الحَرْبَ. وهو مَجاز. وثَاب إِلَيْه رُوعُه، بالضّمّ؛ أَي ذَهَب إِلى شَيْءٍ، ثم عاد إِلَيْه.
ويقال: ما رَاعَنِي إِلَّا مَجِيئُك، معناه: ما شَعَرْتُ إِلّا بمَجِيئِكَ، كأَنَّهُ قال: ما أَصابَ رُوعِي إِلّا ذلِكَ، وهو مَجازٌ، وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسِ: «فلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ بمَنْكِبِي» أَي لم أَشْعُر، كأَنَّهُ فاجَأَه بَغْتَةً من غَيْرِ مَوْعِدٍ ولا مَعْرِفَةٍ، فراعَهُ ذلِكَ وأَفْزَعَه.
وقال أَبو زَيْد: ارْتَاعَ للخَيْرِ، وارْتَاحَ له، بمَعْنًى وَاحِدٍ. وأَبو الرُّوَاعِ، كغُرَابٍ: من كُنَاهُمْ.
وِالرُّواعُ بنتُ بَدْرِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الحارِث بن نُمَيْرٍ: أُمُّ زُرْعَةَ، وعَلَسٍ ومَعْبَدٍ، وحارِثَةَ، بني عَمْرِو بن خُوَيْلِدِ بن نُفَيْلِ بنِ عَمْرِو بنِ كِلابٍ.
وِالأَرْوَعُ: الَّذِي يُسْرعُ إِليهِ الارْتِيَاعُ، نقله ابنُ بَرِّيّ في ترجمة «عجس».
وِمَرْوَعٌ، كَمَقْعَدٍ: مَوْضِعٌ، قال رُؤْبَةُ:
فباتَ يَأْذَى مِنْ رَذَاذٍ دَمَعَا *** مِنْ واكِفِ العِيدانِ حَتَّى أَقْلَعا
في جَوْفِ أَحْبَى من حِفَافَيْ مَرْوَعَا
وِراعَ الشَّيْءُ يَرُوعُ: فَسَدَ، وهذا نَقَلَه شَيْخُنا عن الاقْتِطَافِ.
والمُرَاوَعَةُ ـ مُفَاعَلَة من الرَّوْع ـ: قَرْيَةٌ باليَمَنِ، وبِهَا دُفِنَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ عليُّ بنُ عُمَرَ الأَهْدَلُ، أَحَدُ أَقْطَاب اليَمَنِ، وَوَلَدُه بها، بارَكَ الله في أَمْثَالِهم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
261-تاج العروس (سلع)
[سلع]: السَّلْعُ: الشَّقُّ في القَدَمِ، ج: سُلُوعٌ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.وِسَلْعٌ: جَبلٌ، وفي العُبَابِ: جُبَيْل في المَدِينَة، الأَوْلَى بالمَدِينَةِ، على ساكِنِها أَفضلُ الصَّلاةِ والسّلامِ، قالَ ابنُ أُخْتِ تَأَبَّطَ شَرًّا يَرْثيه ـ ويُقَال: هي لَتَأَبَّطَ شَرًّا، وقال أَبو العبّاسِ المُبَرِّدُ: هي لِخَلَفٍ الأَحْمَر، إِلّا إِنَّهَا تُنْسَبُ إِلى تَأَبَّطَ شَرًّا، وهو نَمَطٌ صَعْبٌ جَدًّا ـ:
إِنَّ بالشِّعْبِ الّذِي دُونَ سَلْعٍ *** لَقَتِيلًا دَمُهُ ما يُطَلُّ
وهي خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ بيتًا مَذْكُورة في دِيوانِ الحَمَاسَةِ.
قلتُ: والصَّواب القولُ الأَوّل، ودَلِيلُ ذلِكَ البَيْتُ الَّذِي في آخِرِ القَصِيدَةِ:
فاسْقِنِيها يا سَوادُ بنَ عَمْرٍو *** إِنَّ جِسْمِي بَعْدَ خالِي لَخَلُّ
يَعْنِي بخالِه تَأَبَّطَ شَرًّا، فَثَبَتَ أَنَّه لابْنِ أُخْتِه الشَّنْفَرى، كما حَقَّقَهُ ابنُ بَرِّيّ.
وِقولُ الجَوْهَرِيُّ: السَّلْعُ: جبلٌ بالمَدِينَةِ، هكذا بالأَلِفِ واللّامِ في سائر نُسَخِ الصّحاحِ التي ظَفِرْنَا بها، فلا يُعْبَأُ بقَوْلِ شَيْخِنا: إِنَّ الأُصُولَ الصَّحِيحَةَ من الصّحاحِ فيها: «سَلْع»، كما للمُصَنِّفِ، خَطَأٌ؛ لأَنَّه عَلَمٌ، والأَعْلامُ لا تَدْخُلها الّلامُ، هذا هو المَشْهُورُ عندَ النَّحْوِيِّينَ. وقد حَصَلَ من الجَوْهَرِيّ سَبْقَ قَلَمٍ، والكمالُ لله سُبْحَانَهُ وَحْدَه جَلَّ جَلالُه، وليسَ المُصَنِّفُ بأَوّل مُخَطِّئٍ له في هذا الحَرْفِ، فقد وُجِدَ بخطِّ أَبِي زَكَرِيّا ما نَصّه: قال أَبو سَهْلٍ الهَرَوِيُّ: الصوابُ: وسَلْعٌ: جَبَلٌ بالمَدِينةِ، بغير أَلِفٍ ولامٍ، لأَنَّه معرفَةٌ لجَبَلٍ بعَيْنِه، فلا يجوزُ إِدْخَالُ الأَلِفِ والّلام عليه.
ورامَ شيخُنَا الردَّ على المُصَنِّفِ، وتَأْيِيدَ الجَوْهَرِيِّ بوُجوهِ.
الأَوّل: أَنّه وُجِدَ في الأُصُولِ الصَّحِيحَة من الصّحاحِ: «سَلْع» بلا لامٍ، وهذِه دَعْوَى، وقد أَشَرْنا إِليه قريبًا.
وثَانِيًا: أَنَّ عَدَم تَعْرِيفِ المَعْرِفَةِ ليس بمُتَّفَقٍ عليه، كما صَرَّحَ به الرَّضِيُّ في شَرْحِ الحاجِبيَّة. وجَوَّزَ إِضافَةَ الأَعْلام، وتَعْرِيفَهَا بنَوْعٍ آخر من التَّعْرِيفِ، وفيه تَكَلُّفٌ لا يَخْفَى.
وثالثًا: فإِنّ الأَلِفَ والّلامَ مَعْهُودَةُ الزِّيَادَةِ، ومِن مَوَاضِعِ زيادَتِهَا المَشْهُورَةِ دُخُولُهَا على الأَعْلامِ المَنْقُولةِ مُرَاعَاةً للَمْحِ الأَصْلِ، كالنُّعْمَانِ والحارِثِ، والفَضْلِ. والسَّلْعُ لَعَلَّه مَصْدَرُ سَلَعَهُ، إِذا شَقَّه، فنُقِلَ وصارَ عَلَمًا، فتَدْخُلُ عليه الّلامُ، للَمْحِ الأَصْلِ.
ورَابِعًا: فإِنَّ المُصَنِّفَ قد ارْتَكَبَ ذلِكَ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ من كِتَابِه هذا، كما نَبَّهْنَا على بعضِه، وأَغْفَلْنَا بعضَه؛ لكَثْرَتِه في كلامِه مِمّا لا يَخْفَى على من مارسَ كَلامَه، وعَرَفَ القَوَاعِدَ، فكيف يُعْتَرَضُ على هذا الفَرْدِ في كلامِ الجَوْهَرِيُّ مع أَنَّهُ له وَجْهٌ في الجُمْلَةِ؟.ثم إِنَّ قوله: «وسَلْع، بالفَتْح» هو المَشْهُورُ عند أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، ومَنْ صَنَّفَ في الأَمَاكِن؛ ونَقَل شَيْخُنَا عن الحافِظِ بنِ حَجَرٍ في الفتح ـ أَثْنَاءَ الاسْتِسْقَاءِ ـ أَنَّه يُحَرَّكُ أَيْضًا. قلتُ: وهو غَرِيبٌ.
وِسَلْعٌ أَيضًا: جَبَلٌ لهُذَيْلٍ، قال البُرَيْقُ بنُ عِياض الهُذَلِيُّ، يَصف مَطَرًا:
يَحُطُّ العُصْمَ من أَكْنَافِ شِعْرٍ *** وِلم يَتْرُكْ بذي سَلْعٍ حِمَارَا
وَرَوَى أَبو عَمْرٍو: في «أَفنانِ شَقْر» وشَعْرٌ، وشَقْرٌ: جَبلان. هكذا في العُبَاب، والصَّوَابُ أَنّ الجَبَل هذا يُعْرَفُ بذي سَلَع مُحَرَّكَةً، كما ضَبَطَه أَبُو عُبَيْدٍ البَكْرِيُّ وغيرُهُ، وهكَذَا أَنْشَدُوا قَوْلَ البُرَيْقِ، وهو بينَ نَجْدٍ والحجَازِ، فتأَمَّلْ.
وِسَلْعٌ أَيضًا: حِصْنٌ بوَادي مُوسَى عليهالسلام من عَمَلِ الشَّوْبَكِ بقُرْبِ بَيْت المَقْدِسِ.
وِسُلَيْع كزُبَيْرٍ: ماءٌ بقَطَنٍ بنَجْدٍ، لبَنِي أَسَد.
وِسُلَيْعٌ أَيضًا: جُبَيْل بالمَدِينَة، على ساكِنَهَا أَفْضَلُ الصّلاة والسّلام يُقَالُ له: غَبْغَبٌ، هكذا بغَيْنَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ ومُوَحَّدَتَيْن في سائرِ النُّسَخِ، وهو غَلَطٌ، [والصّوابُ: يُقال له]: عَثْعَثٌ بعَيْنَيْن، مُهْمَلَتَيْنِ ومُثَلَّثَتَيْنِ ـ وهو غَيْر سُلَيْعٍ ـ عليه بُيُوتُ أَسْلَمَ بن أَفْصَى، وإِليه تُضَاف ثَنِيَّةُ عَثْعَثٍ.
وِالسُّلَيْع: وَادٍ باليَمَامَة، به قُرًى.
وِسُلَيْعٌ: قرية، بنَوَاحِي زَبِيدَ، من أَعْمَالِ الكَدْراءِ.
وِسَلَعَانُ، مُحَرَّكَةً: حِصْنٌ باليَمَنِ من أَعْمَالِ صَنْعَاءَ.
وِالسَّلَعُ، مُحَرَّكَةً: شَجَرٌ مُرٌّ، قال أُمَيَّةُ بنُ أَبِي الصَّلْتِ:
سَلَعٌ ما، ومِثْلُه عُشَرٌ ما، *** عائلٌ ما، وعَالَت البَيْقُورَا
وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ هذا البَيْتَ شاهِدًا على ما يَفْعَلُه العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ من اسْتِمْطارِهِم بإِضْرامِ النّارِ في أَذْنَابِ البَقَرِ.
قال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ من أَهْل السَّرَاةِ أَنَّ السَّلَعَ يَنْبُتُ بقُرْبِ الشَّجَرَةِ، ثمَ يَتَعلَّقُ بها، فَيَرْتَقِي فِيها حِبَالًا خُصْرًا لا وَرَقَ لها، ولكن [لها]، ولكن [لها] قُضْبَانٌ تَلْتَفُّ عَلى الغُصُونِ وتَتَشَبَّكُ، وله ثَمَرٌ مثلُ عَنَاقِيدِ العِنَبِ صِغَارٌ، فإِذا أَيْنَع اسْوَدَّ، فتَأْكُلُه القُرُودُ فَقَط، ولا يَأْكُلُه النّاسُ ولا السّائِمَةُ. قال: ولم أَذُقْه، وأَحْسَبَهُ مُرًّا. قال: وإِذا قُصِفَ سَالَ منه ماءٌ لَزِجٌ صَافٍ، له سَعَابِيبُ. ولِمَرَارَةِ السَّلَعِ قَال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِمٍ:
يَرُومُون الصَّلَاحَ بذَاتِ كَهْفٍ *** وِما فِيها لَهُمْ سَلَعٌ وقَارُ
هذَا قولُ السَّرَوِيِّ، وقد قالَ أَبُو النَّجْمِ في وَصْفِ الظَّلِيمِ:
ثُمَّ غَدَا يَجْمَعُ مِنْ غِذَائِه *** مِنْ سَلَعِ الغَيْثِ ومِنْ خُوّائِه
وهذا بعَيْنِه من وَصْف السَّرَوِيِّ.
أَو السَّلَع: نَبْتٌ يَخْرُجُ في أَوَّلِ البَقْلِ لا يُذَاقُ، إِنَّمَا هو سَمٌّ وهو مِثْلُ الزَّرْعِ أَوّلَ ما يَخْرُجُ، وهو لَقَطٌ قليلٌ في الأَرْضِ، وله وُرَيْقَةٌ صَفْرَاءُ شَاكَة، كأَنَّ شَوْكَها زَغَبٌ، وهو بَقْلَة تَتْفَرَّشُ كأَنَّهَا رَاحَةُ الكَلْبِ لا أَرُومَةَ لها، قاله أَبُو زِيادِ. قال: وليسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَرْعَاهُ النَّعَامُ مع مَرارتِه، فقد تَرْعَى النَّعَامُ الحَنْظَلَ الخُطْبَانَ. أَو هو ضَرْبٌ من الصَّبِرِ، أَوْ بَقْلَةٌ من الذُّكُورِ خَبِيثَةُ الطَّعْمِ، قاله أَبو حَنِيفَةَ. قلتُ: وبِمِثْلِ ما وَصَفَ السَّرَوِيُّ آنِفًا شَاهَدْتُه بعَيْنِي في أَرْضِ اليَمَنِ.
وِالسَّلَعُ: البَرَصُ، عن ابْن دُرَيْدٍ، قال جَرِيرٌ:
هَلْ تَذْكُرُونَ على ثَنِيَّةِ أَقْرُنٍ *** أَنَسَ الفَوَارس يَوْمَ يَهْوِي الأَسْلَعُ
الأَسْلَع في البَيْتِ: هو عَبْدُ الله بنُ نَاشِبٍ العَبْسِيُّ، قَتَلَ عَمْرَو بنَ عَمْرِو بنِ عُدَسَ يومَ ثَنِيَّة أَقْرُنٍ، وقال ابن دُرَيْد: كان عَمْرُو بنُ عُدَسَ أَسْلَعَ؛ أَي أَبْرَص، قَتَلهُ أَنَسُ الفَوَارِسِ بنُ زِيَادٍ العَبْسِيُّ يَومَ ثَنِيَّةِ أَقْرُنٍ. قال الصّاغَانِي: والّذِي ذَكَرْتُ بعد البَيْت هو في النّقائِضِ، وروايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ: «هَلْ تَعْرِفُونَ...» و«.. يَوْمَ شَدَّ الأَسْلَعُ».
وِالسَّلَع: تَشَقُّقُ القَدَمِ، وقد سَلِعَ، كفَرِحَ، فيهما، فهو أَسْلَعُ وقالَ الجَوْهَرِيُّ: سَلِعَتْ قَدَمُه تَسْلَعُ سَلَعًا: مثلُ زَلِعَت، ج: سُلْعٌ، بالضَّمِّ.
وِالسَّوْلَعُ، كَجَوْهَرٍ: الصَّبِرُ المُرُّ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ قال: والصَّوْلَعُ، بالصَّاد: السِّنَانُ المَجْلُوُّ.
وِالسِّلْعُ، بالكَسْرِ: المِثْلُ، عن أَبِي عَمْرٍو، يُقَال: هذا سِلْعُ هذا؛ أَي مِثْلُه.
وِالسِّلْعُ في الجَبَلِ: الشَّقُّ كهَيْئَةِ الصَّدْعِ، عن يَعْقُوبَ، وابْنِ الأَعْرَابِيِّ، واللِّحْيَانِيِّ، ويُفْتَحُ، عن بَعْضِهِم، ج: أَسْلاعٌ، عن يَعْقُوبَ، وزادَ غيرُه: سُلُوعٌ، وهذَا يَدُلُّ على أَنَّ وَاحِدَه سَلْعٌ، بالفَتْح.
وِسِلْع: أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ، ثلاثةٌ منها ببِلادِ بَنِي بَاهِلَةَ، وهُنَّ: سِلْعُ مَوْشُومٍ، وسِلْعُ الكَلَدِيَّة، وسِلْع السُّتَرِ، الأَولَ: وَادٍ، والثانِي: جَبَلٌ أَو وَادٍ والرابعُ: مَوْضِعٌ بِبِلادِ بَنِي أَسَدٍ بنَجْدِ.
وقال ابنُ عَبّادٍ: تَقُول: غُلامانِ سِلْعَان، بالكَسْرِ؛ أَي تِرْبانِ، وغِلْمَانٌ أَسْلاعٌ: أَتْرَابٌ. وفي اللِّسَانِ: أَعْطَاهُ أَسْلَاعَ إِبِلهِ؛ أَي أَشْبَاهَهَا، وَاحِدُهَا سِلْعٌ، وسَلْعٌ. قال رَجُلٌ من الأَعْرَاب: ذَهَبَتْ إِبِلِي، فقالَ: رَجُلٌ: لَكَ عِنْدِي أَسْلاعُهَا؛ أَي أَمْثَالُها في أَسْنَانِها وهيَآتِهَا. وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: لأَسْلاعُ: الأَشْبَاهُ، فلم يخُصَّ بهِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ.
وِأَسْلاعُ الفَرَسِ: ما تَعَلَّقَ من اللَّحْمِ على نَسَيَيْهَا إِذَا سَمِنَتْ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.
وِالسِّلْعَةُ، بالكَسْرِ: المَتَاعُ، كما في الصّحاحِ، وقيل: ما تُجِرَ به، ج: سِلَعٌ، كعِنَبٍ.
وِالسِّلْعَةُ: كالغُدَّةِ تَخْرُجُ في الجَسَدِ، ويُفْتَحُ، وهو المَشْهُورُ الآنَ، ويُحَرَّكُ، وبفَتْحِ الّلام كعِنَبَةٍ، وهذِه عن ابْنِ عَبّادٍ أَو هي خُرَاجٌ في العُنُقِ، أَو غُدَّةٌ فِيها، نَقَلَه ابنُ عَبّادٍ أَو هي زِيَادَةٌ تَحْدُثُ في البَدَنِ، كالغُدَّةِ، تَتَحَرَّكُ إِذا حُرِّكَتْ، وقد تَكُونُ من حِمَّصَةِ إِلى بِطِّيخَةٍ، كما نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وقد أَطالَ المُصَنِّفُ، هُنَا والمَدَارُ كُلُّه على عِبَارَةِ الجَوْهَرِيِّ، مع ذِكْرِه في مَحَلَّيْنِ، فتأَمَّلْ.
وِهو مَسْلُوعٌ، أَي: به سِلعَةٌ.
وِالسِّلْعَةُ أَيْضًا: العَلَقُ، لأَنَّه يَتَعَلَّق بالجَسَد كهَيْئة الغُدَّة، ج: سِلَعٌ، كعِنَبٍ.
وِالسَّلْعَةُ، بالفَتْح: الشَّجَّةُ، كما في الصّحاحِ، زادَ في اللِّسَانِ: في الرَّأْسِ كائِنَةً ما كانَتْ، ويُحَرَّكُ، أَو هيَ الَّتي تَشُقُّ الجِلْدَ، ج: سَلَعَاتٌ، مُحَرَّكَةً، وسِلَاعٌ، بالكَسْرِ.
وِالسَّلَعُ، مُحَرَّكَةً: اسمُ جَمْعٍ، كحَلْقَةٍ وحَلَقٍ.
وِأَسْلَعَ الرَّجُلُ: صَارَ ذَا سَلْعَةٍ؛ أَي شَجَّةٍ أَو دُبَيْلَةٍ.
وِالمِسْلَعُ، كمِنْبَرٍ: الدَّلِيلُ الهَادِي، قالَهُ اللَّيْثُ، وأَنْشَدَ للخَنْسَاءِ ـ وهو لِلَيْلَى الجُهَنِيَّةِ تَرْثي أَخاهَا أَسْعَد ـ:
سَبّاقُ عَادِيَةٍ وهادِي سُرْبَةٍ *** وِمُقَاتِلٌ بَطَلٌ وهَادِ مِسْلَعُ
ويُرْوَى «ورَأْسُ سَرِيَّةٍ» وإِنَّمَا سُمِّيَ به لأَنَّه يَشُقُّ الفَلَاةَ شَقًّا.
وِالمَسْلُوعَة: المَحَجَّة، عن ابنِ عَبّادٍ، قال في اللِّسَان: لأَنَّهَا مَشْقُوقةٌ، قال مُلَيْحٌ:
وِهُنَّ على مَسلُوعَةٍ زِيَمِ الحَصَى *** تُنِيرُ وتَغْشَاهَا هَمالِيجُ طُلَّحُ
وِالتَّسْلِيع في الجاهليّة: كانُوا إِذا أَسْنَتُوا؛ أَي أَجْدَبُوا عَلَّقُوا السَّلَعَ معَ العُشَرِ بثِيرَانِ الوَحْشِ، وحَدَرُوها من الجِبَال وأَشْعَلُوا في ذلِكَ السَّلَعِ والعُشَرِ النارَ؛ يَسْتَمْطِرُون بذلِكَ قال ودّاك الطائِيّ:
لا دَرَّ دَرُّ رِجَالٍ خابَ سَعْيُهُمُ *** يَسْتَمْطِرُونَ لَدَى الأَزْماتِ بالعُشَرِ
أَجاعِلٌ أَنْتَ بَيْقُورًا مُسَلَّعَةً *** ذَرِيعَةً لكَ بَيْنَ الله والمَطَرِ
وقِيلَ: كانُوا يُوقِرُونَ ظُهُورَهَا مِن حَطَبِهما، ثمّ يُلْقِحُونَ النّارَ فِيها، يَسْتَمْطِرُونَ بلَهَبِ النَّارِ المُشَبَّهِ بسَنَا البَرْقِ. وقولُ الجَوْهَرِيّ: عَلَّقُوه، قلت: ليس نَصُّ الجَوْهَرِيِّ كذلِكَ، بل قالَ: والسَّلَع، بالتَّحْرِيك: شَجَرٌ مُرٌّ، ومنه المُسَلَّعَةُ؛ لأَنَّهُم كانُوا في الجَدْبِ يُعَلِّقُونَ شَيْئًا من هذا الشَّجَرِ ومن العُشَرِ بذُنَابَى البَقَرَ ثمَّ يُضْرِمُون فيها النَّارَ وهم يُصَعِّدُونَهَا في الجَبَل، فيُمْطَرُونَ، زَعَمُوا، وأَنْشَدَ قولَ الطّائِيِّ، وقوله: بذُنَابَى البَقَرِ غَلَطٌ، والصَّوابُ بأَذْنَابِ البَقَرِ، وقد سَبَقَ المُصَنِّفَ إِلى هذِه التَّخْطِئَةِ غيرُه، فقد قَرَأْتُ بخَطِّ ياقُوت المَوْصِلِيّ في هامِشِ نُسْخَةِ الصّحاحِ الّتِي هي بخَطِّه ما نَصُّهُ: قال أَبُو سَهْلٍ الهَرَوِيُّ: قولُه: بذُنَابَى البَقَرِ خَطَأٌ، والصّوابُ بأَذْنَابِ البَقَرِ؛ لأَنَّ الذُّنَابِي وَاحِدٌ مثلُ الذَّنَبِ، وفي هَامِش آخَرَ ـ بخَطِّه أَيْضًا: كانَ في الأَصْلِ بذُنَابَى البَقَرِ، وقد أُصْلِحَ من خَطِّ أَبي زَكَرِيَّا بأَذْنَابِ البَقَرِ، وهو الصَّوابُ؛ لأَنَّ الذُّنَابَى وَاحِدٌ. ثم رَأَيْتُ العَلّامةَ الشيخَ عبدَ القادِرِ بنَ عُمَرَ البَغْدَادِيَّ قد تَكَلَّمَ على البَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ في شَرْحِ شَوَاهِدِ المُغْنِي، وتَعَرَّضَ لكلامِ المُصَنِّفِ، ونَقَل عن خَطِّ ياقُوت المَوْصِلِيِّ ما نَقَلْتُه برُمَّتِه، ثم قالَ: وقد تَبِعَهُمَا صَاحِبُ القامُوسِ والغَلَطُ منهُم لا مِنَ الجَوْهَرِيِّ، فإِن غايَةَ ما فيهِ التَّعْبِيرُ عن الجَمْعِ بالوَاحِدِ، وهو سائِغٌ، قال الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أَي الأَدْبَارَ، وأَمّا غَلَطُهُم فجَهْلُهُم بصِحَّةِ ذلِكَ، وزَعْمُهُم أَنَّه خَطَأٌ. على أَنْ غالِبَ النُّسَخِ كما نَقَلْنَا، وقد نَقَلَ شيخُنَا أَيضًا هذا الكَلامَ، وفَوَّقَ به إِلى المُصَنِّفِ سِهَامَ المَلامِ، ونسأَلُ الله حُسْنَ الخِتَام. وفي البَيْتِ الّذِي اسْتَشْهَدَ به وهو قولُ ودّاكٍ الطّائِيِّ تِسْعَةُ أَغْلاطٍ، قالَ شَيْخُنَا: هو بَيْتٌ مَشْهُورٌ، اسْتَدَلَّ به أَعْلامُ اللُّغَةِ والنَّحْوِ وغيرُهُم، ونَبَّهُوا على أَغْلاطِه، كما في شُرُوحِ المُغْنِي وشُرُوحِ شَوَاهِدِه، فليسَتْ من مُخْتَرَعاتِه حَتّى يَتَبَجَّحَ بها، بل هي مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وقد أَوْرَدَهَا عبدُ القادِر البَغْدَادِيُّ مَبْسُوطَةً، وساقَها أَحْسَنَ مَسَاقٍ، رَحِمَهُ الله.
وِتَسَلَّعَ عَقِبُه؛ أَي تَشَقَّق، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ.
وِانْسَلَع: انْشَقَّ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ وأَنْشَدَ للرّاجِزِ، وهو أَبو مُحَمَّدٍ الفَقْعَسِيُّ:
من بَارِئٍ حِيصَ ودَامٍ مُنْسَلِعْ
وفي اللِّسَانِ: هو لحُكَيمِ بنِ مُعَيَّةَ الرَّبَعِيِّ، وأَوَّلَهُ:
تَرَى برِجْلَيْه شُقُوقًا فِي كَلَعْ
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:
المُسْلِعُ، كمُحْسِنٍ: مَنْ به الدُّبَيْلَةُ.
وِالسَّلَعُ، مُحَرَّكةً: آثارُ النّارِ في الجِلْدِ، ورَجُلٌ أَسْلَعُ: تُصِيبُه النَّارُ، فَيَحْتَرِقُ، فيُرَى أَثَرُهَا فيه.
وِسلِعَ جِلْدُه بالنارِ سَلَعًا.
وِسَلَع رَأْسَه بالعَصَا سَلْعًا: ضَرَبَه فشَقَّه.
ورَجُلٌ مَسْلُوعٌ، ومُنْسَلِعٌ: مَشْجُوجٌ.
وِالأَسْلَعُ: الأَحْدَبُ.
وإِنّه لكَرِيمُ السَّلِيعَةِ؛ أَي الخَلِيقَةِ.
وهُمَا سَلْعانِ؛ أَي مِثْلانِ، لُغَةٌ في الكَسْرِ.
وِالمُسَلَّعَةُ: جَماعَةُ البَقَرِ الّتِي يُعَلَّقُ في أَذْنَابِهَا من حَطَبِ السَّلَعِ، أَو يُوقَرُ على ظُهورِهَا. وقد تَقَدَّمَ شاهِدُه.
ويُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ أَبِي القاسِمِ السَّدُوسِيُّ البَصْرِيُّ السَّلْعِيُّ، بالفَتْحِ؛ لسَلْعَة في قَفَاهُ، قال ابنُ رَسْلان: وأَكْثَرُهم يُخْطِئُون ويَقُولُون بكَسْرِ السِّينِ المُهْمَلَةِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
262-تاج العروس (شكع)
[شكع]: شَكِعَ الرَّجُلُ، كَفَرِحَ، يَشْكَعُ شَكَعًا: كَثُرَ أَنِينُه من المَرَض والوَجَعِ يُقْلِقهُ، نقله ابنُ فارس.وِشَكِعَ الزَّرْعُ: كَثُرَ حَبُّهُ نقَلَه ابنُ فَارس أَيْضًا.
وِقيل: شَكِعَ، إِذا غَضِبَ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ. وقِيلَ: طالَ غَضَبُه.
وِشَكِعَ أَيْضًا: تَوَجَّعَ.
وِالشَّكِعُ، كَكَتِف: البَخِيلُ اللَّئِيمُ، سُمِّيَ به لكَوْنِه يَتَضَجَّرُ من الضَّيْفِ، ويَتَغَضَّبُ عادَةً.
وِالشَّكِعُ: الوَجِعُ يُقَال: باتَ شَكِعًا؛ أَي وَجعًا لا يَنَامُ، كَما في الصّحَاح، ويُقَال لكلِّ مُتأَذٍ من شَيْءٍ: شَكِعٌ.
وِقالَ ابنُ فارِسٍ: شَكَعَ بَعِيرَهُ بزِمامِهِ، كمَنعَ: رَفعَه وقالَ الفَرّاءُ: يُقَال: اشْكَعْ بَعيرَكَ بالزِّمامِ؛ أَي ارْفَعْ به رَأْسَه.
وِأَشْكَعَه: أَغْضَبَهُ، نقله الجَوْهَرِيُّ وكذلِكَ أَحْمَشَه، وأَدْرَأَه، وأَحْفَظَه. قاله الأَحْمَرُ أَوْ أَمَلَّهُ وأَضْجَرَهُ، كما في الصّحاح.
وِالشُّكَاعَةُ، كثُمَامَةٍ: شَوْكَةٌ تَمْلَأُ فمَ البَعِيرِ لا وَرَقَ لها، إِنَّمَا هي شَوْكٌ وعِيدَانٌ دِقَاقٌ، أَطْرَافُهَا أَيْضًا شَوْكٌ. قال أَبو حَنِيفَة: هكَذَا أَخْبَرَنِي بعضُ الأَعْرَابِ.
قال: والشُّكَاعَى، كحُبَارَى، وقد تُفْتَحُ، على زَعْمِ بَعْضِ الرُّواةِ، قال، ولم أَجِدْ ذلِك مَعْرُوفًا: مِنْ دِقِّ النَّبَاتِ، دَقِيقَةُ العِيدَانِ، ضَعِيفَةُ الوَرَق، خَضْرَاءُ، وهي مُؤَنَّثَةٌ لا تُنَوَّنُ، وياؤُها ياءُ التَّأْنِيثِ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: نَبْتٌ يُتَدَاوَى بهِ. قالَ الأَخْفَشُ: هو بالفَارِسِيَّةِ جَرْخَهْ، وأَنْشَدَ لعَمْرِو بنِ أَحْمَرَ الباهِلِيِّ:
شَرِبْتُ الشُّكاعَى والْتَدَدْتُ أَلِدَّةً *** وِأَقْبَلْتُ أَفْوَاهُ العُرُوقِ المَكَاوِيَا
قال أَبُو حَنِيفَةَ: ولدِقَّتِهِ وضَعْفِ عُودِهِ يُقَال للمَهْزُولِ: كأَنَّهُ عُودُ الشُّكَاعَى، وقال تَأَبَّطَ شَرًّا، وهو يَجُودُ بنفْسه:
وِلقَدْ عَلِمْتُ لتَغْدُوَنَّ *** عَلَيَّ شِيمٌ كالحَسائِلْ
يَاْكُلْنَ أَوْصَالًا ولَحْ *** مًا كالشُّكاعَى خَيْرَ خاذِلْ
يا طَيْرُ كُلْنَ فإِنَّنِي *** لكم يتيم ذو غَوائِلْ
الوَاحِدَةُ شُكَاعَاةٌ، عن الأَخْفَشِ، فإِذا صَحَّ ذلِكَ فأَلِفُها للإِطْلاقِ، كأَكْثر أَسْمَاءِ النّباتاتِ. أَو لا وَاحِدَةَ لها، وإِنمَا يُقَالُ: هذِهِ شُكَاعَى وَاحِدَةٌ، وشُكَاعَى كَثِيرَةٌ؛ أَي أَنَّ الوَاحِدَ والجَمْعَ فِيها سَوَاءٌ، وهو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والفَرّاءِ. قال أَبو زَيْدٍ: هي شَجَرَةٌ صَغيرَةٌ ذَاتُ شَوْك، وتُثَنَّى وتُجْمَع، ويُقَال: هُمَا شُكَاعَيانِ، وهُنَّ ثَلَاثُ شُكَاعَيَات، قالَ: وهي مِثْلُ الحَلَاوَى لا يَكَادُ يُفْرَقُ بَيْنَهُمَا.
قال الأَزْهَرِيُّ: وزَهْرَتُهَا حَمْرَاءُ. وقالَ غيرُه: هو يُشْبِهُ البَاذَاوَرْدَ، وليسَ بهِ. قلتُ: أَما الباذَاوَرْدُ فهي: الشَّوْكَةُ البَيْضَاءُ تُشْبِهُ الحَسَكَةَ إِلّا أَنَّهَا أَشَدُّ بَيَاضًا، وأَطولُ شَوْكًا، وسَاقُه قد يَبْلُغُ ذِرَاعَيْنِ، وحَبُّه أَشَدُّ اسْتِدارَةً من القُرْطُمِ، نافِعٌ من الحُمَّيَاتِ البَلْغَمِيَّةِ العَتِيقةِ وضَعْفِ المَعِدَة واللهَاةِ الوَارِمَةِ عن البَلْغَمِ ووَجَعِ الأَسْنَانِ ولَسْعِ الهَوَامِّ، والتَّشَنُّجِ، ونَفْثِ الدَّمِ، ثُمّ إِنّ هذِه الخَوَاصَّ المَذْكُورَةَ لَيْسَتْ فِيها؛ وإِنَّمَا هي في بَزْرِهَا، كما حَقَّقهُ ابنُ جَزْلَة.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الشَّاكِعُ والشَّكُوعُ: القَلِقُ، والضَّجِرُ، والكَثِيرُ الأَنِينِ، والشَّدِيدُ الجَزَعِ.
وِالشاكِعُ: المُتَأَذِي من الشَّيْءِ.
وِالشَّكِعُ: الطَّوِيلُ الغَضَبِ.
ورَجُلٌ شَكِعُ البِزَّةِ؛ أَي ضجِرُ الهيْئَةِ والحالةِ.
وِشَكِعَ شَكَعًا: غَرِضَ.
وِشَكِع شَكَعًا: مالَ.
وما أَدْرِي أَيْنَ شَكَعَ: أَيْنَ ذهَبَ، والسِّينُ أَعْلَى.
وشَيْخُنَا المُعَمَّرُ عبدُ القادِرِ بنُ الشَّكْعَةِ، بالفَتْح، ويُقَال: الشَّكْعَاوِيُّ، كَتَبَ لنا الإِجازَةَ من طَرَابُلُسَ، حَدَّث عالِيًا عن الشَّيْخِ عَبْدِ الغَنِيِّ بنِ إِسماعِيلَ، وغَيْرِه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
263-تاج العروس (شوع)
[شوع]: الشُّوعُ، بالضّمِّ: شَجَرُ البَانِ، الوَاحِدَةُ شُوعَةٌ، كما في الصّحاح، وجَمْعُه: شِيَاعٌ، أَو ثَمَرُهُ، وقال أَعْرَابِيٌّ من رَبِيعَةَ: الشُّوعُ طِوَالٌ، وقُضْبَانُه طِوَالٌ سَمْجَةٌ، ويُسَمَّى أَيْضًا ثَمَرُهُ الشُّوعَ، والثَّمَرَةُ قد تُسَمَّى باسمِ الشَّجَرَةِ، والشَّجَرَةُ قد تُسَمَّى باسمِ الثَّمَرَةِ، وهو يَرِيعُ ويَكْثَرُ على الجَدْبِ وقِلَّة الأَمْطَارِ، والنّاسُ يُسْلِفُونَ في ثَمَرِه الأَموالَ.وقال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ من الأَعْرَابِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَعْرَابِيًّا يَقْتَضِيهِ شُوعًا كانَ أَسْلَفَه، فقالَ له الأَعْرَابِيُّ: إِنْ لَمْ يَأْتِ الله من عِنْده برَحْمَةٍ فما أَسْرَعَ ما أَقْتَضِيك! أَي إِنْ لم يأْتِ بِمَطَرٍ، وأَهْلُ الشُّوعِ يَسْتَعْمِلُون دُهْنَه كما يَسْتَعْمِلُ أَهْلُ السِّمْسِمِ دُهْنَ السِّمْسِم؛ وهو جَبَلِيٌّ. وقِيلَ: يَنْبُتُ في السَّهْلِ والجَبَل وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للشَّاعِرِ يَصِفُ جَبَلًا:
بأَكْنَافِه الشُّوعُ والغِرْيَفُ
ونَسَبَه بَعْضُهم لقَيْسِ بنِ الخَطِيمِ، وقال ابنُ بَرِّيّ والصّاغَانِيُّ هو: لأُحَيْحَةَ بنِ الجُلَاحِ يَصِفُ عَطَنَهُ، وأَنَّ له بَسَاتِينَ وأَرْضِينَ، يَزْرَعُهَا ويَسْقِيها بالسَّوَانِي، فلا يَعْبأُ بتَأَخُّرِ المَطَرِ وانْقِطَاعِه:
إِذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا *** زانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ
مُعْرَوْرِفٌ أَسْبَلَ جَبارُه *** أَسودُ كالغَابَةِ مُغْدَوْدِفُ
يَزْخَرُ في أَقْطَارِه مُغْدِقٌ *** بحافَتَيْهِ الشُّوعُ والغِرْيَفُ
وِشَوُعَ رَأْسُه كَكَرُم، يَشُوع، شَوْعًا، بالفَتْحِ، إِذا اشْعانَّ، قاله أَبُو عَمْرٍو، هكَذا في النُّسَخِ، والصَّوابُ أَبو عُمَرِ، أَي: المُطَرِّز، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ.
قال الأَزْهَرِيُّ: هكَذَا رَواه عنه، والقِيَاسُ شَوِعَ رَأْسُه كفَرِحَ يَشْوَعُ شَوَعًا وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الشَّوَعُ، محرَّكةً: انتِشَارُ شَعَرِ الرَّأْسِ وتَفَرُّقُه وصَلابَتُه، حَتَّى كأَنَّهُ شَوْكٌ، قال الشّاعِرُ:
وِلا شَوَعٌ بخَدَّيْهَا *** وِلا مُشْعَنَّةٌ قَهْدَا
وِهو أَشْوَعُ، وهي شَوْعَاءُ، وبه سُمِّيَ الرجُلُ أَشْوَع، ج: شُوعٌ، بالضَّمِّ.
وِقالَ ابنُ عَبّاد: الشَّوَعُ: بَيَاضُ أَحَدِ خَدَّيِ الفرَسِ وهو أَشْوَعُ، وهي شَوْعَاءُ.
وِقاضِي الكُوفَةِ سَعِيدُ بنُ عَمْرِو بنِ أَشْوَعَ الهَمْدَانِيُّ، كأَحْمَدَ، من الثِّقَاتِ الأَثْبَاتِ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ قلتُ: وقد رَوَى عن بِشْرِ بن غالِب، ورَبِيعَةَ بنِ أَبْيَضَ، والشَّعْبِيِّ، وعنه الحارِثُ بن حَصِيرَةَ، والحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ، وسَلَمَةُ بنُ كُهَيْل، كذا في حَوَاشِي الكَمَالِ.
وِالمِشْوَاعُ، كمِحْرَابٍ: مِحْرَاثُ التَّنُّورِ، عن ابنِ عَبّادٍ، قال: كَأَنَّهُ من شَيَّعَ النَّارَ، وأَصلُه مِشْيَاعٌ، ولكِنَّه كصِبْيَانٍ وصِبْوَانٍ، كما في العُبَابِ.
وِقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ للرَّجُلِ: شُعْ شُعْ، بضَمِّهِمَا، وهُو أَمْرٌ بالتَّقَشُّف وتَطْوِيل الشَّعَرِ، ومنه قِيلَ: فُلانٌ ابنُ أَشْوَعَ.
وقالَ الجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: هذا شَوْعُ هذا، وشَيْعُ هذا لِلَّذِي وُلِدَ بَعْدَه ولمْ يُولَدْ بَيْنَهُمَا، هكَذا نصُّ الصّحاحِ والعُبَاب واللِّسَانِ، وليْسَ في كُلٍّ مِنْهَا شَيْءٌ، وإِنَّمَا زادَه المُصَنِّفُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:
شَوَّعَ القَوْمَ تَشْوِيعًا: جَمَعَهم، وبه فُسِّرَ قولُ الأَعْشَى:
نُشَوِّعُ عُونًا ونَجْتَابُهَا
ويُقَال منه: شِيعَةُ الرَّجُلِ، والأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الشِّيعَة ياءً؛ لِقَوْلِهِم: أَشْيَاعٌ، اللهُمَّ إِلّا أَنْ يَكُونَ من باب أَعْيَادٍ، أَو يَكُون شَوَّعَ على المُعَاقَبَة. وشاعَةُ الرَّجُل: امْرَأَتُه، وإِنْ حَمَلْتَها عَلَى مَعْنَى المُشَايَعة واللزُومِ فأَلِفُهَا ياءٌ.
ومَضَى شَوْعٌ من اللَّيْل، وشُوَاعٌ، حُكِيَ عن ثَعْلَبٍ، قال ابنُ سِيده: ولَسْتُ منه على ثِقَة. قلتُ: والصَّوابُ أَنَّهُ بالسِّينِ المُهْمَلَةِ، وقد تَقَدَّم.
وِالمِشْوَاعُ، كمِحْرَابٍ: شُسْتَقَةٌ تحت خِمَار المَرْأَة، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن ابن عَبّادٍ.
وقال ابنُ القَطّاعِ: أَشاعَ ببَوْلهِ: قَطَرَهُ قلِيلًا قَليلًا.
وِأَشْوَعَ الرَّجُلُ أَخاهُ: وُلِدَ بَعْدَه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
264-تاج العروس (قفع)
[قفع]: القَفْعَةُ: شَيْءٌ كالزَّبِيلِ، يُعْمَلُ مِنْ خُوصٍ، لَيْسَ بالكَبِيرِ، بِلا عُرْوَةٍ، ويُسَمَّى بالعِرَاقِ القُفَّةَ، كما في المُحْكَمِ أَو جُلَّةُ التَّمْرِ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، كما في العُبَابِ، وقالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: القَفْعَةُ: الجُلَّةُ، بلُغَةِ اليَمَنِ، يُحْمَلُ فِيها القُطْنُ، وفي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: «وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدَنَا مِنَ الجَرَادِ قَفْعَةً أَو قَفْعَتَيْنِ» أَو القَفْعَةُ: مِنْ خُوصٍ مُسْتَدِيرَةٌ يُجْتَنَى فِيها الرُّطَبُ ونَحْوُه، قالَهُ اللَّيْثُ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وهُوَ شَيْءٌ كالقُفَّةِ بِنَجْدٍ، واسِعُ الأَسْفَلِ، ضَيِّقُ الأَعْلَى، حَشْوُهَا مَكَانَ الحَلْفَاءِ عَرَاجِينُ تُدَقُّ، وظَاهِرُهَا خُوصٌ عَلَى عَمَلِ سِلالِ الخُوصِ.وِقالَ اللَّيْثُ: القَفْعَةُ: الدُّوّارَةُ الَّتِي يَجْعَلُ الدَّهّانُونَ فِيها السِّمْسِمَ المَطْحُونَ، ثُمَّ يُوضَعُ بَعْضُها عَلَى بَعْضٍ، ثمَّ يَضْغَطُونَها حَتّى يَسِيلَ مِنْهَا الدُّهْنُ، والجمع: القَفْعَةِ كالزَّبِيلِ: قِفَاعٌ، بالكَسْرِ، وجَمْعُ قَفْعَةِ السِّمْسِمِ: قَفَعَاتٌ، مُحَرَّكَةً، كما في العَيْنِ.
وِقالَ اللَّيْثُ: القَفْعُ: جُنَّةٌ مِن خَشَبٍ كالمكَبَّةِ، يَدْخُلُ تَحْتَه الرِّجَالُ، يَمْشُونَ بهِ في الحَرْبِ إِلَى الحُصُونِ، واحِدَتُهَا قَفْعَةٌ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هِيَ الدَّبّاباتُ.
وِالقَفْعَاءُ: خَشَبَة، كَذَا فِي النُّسَخِ، وهُوَ غَلَطٌ، والصَّوابُ: حَشِيشَةٌ خَوّارَةٌ ضَعِيفَةٌ من نَبَاتِ الأَرْضِ في أَيّامِ الرَّبِيعِ، خَشْنَاءُ الوَرَقِ، لَها نَوْرٌ أَحْمَرُ مثلُ الشّرَارِ، صِغارٌ وَرَقُها، تَراها مُسْتَعْلِياتٍ من فَوْقُ، وثَمَرَتُهَا مُقَفَّعَةٌ مِنْ تَحْتُ، قالَهُ اللَّيْثُ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هي من أَحْرَارِ البُقُولِ، رأَيْتُها بالبَادِيَةِ، وقد ذَكَرَها زُهَيْرٌ في شِعْرِه، فقال:
جُونِيَّةٌ كحَصاةِ القَسْمِ مَرْتَعُها *** بالسِّيِّ ما يُنْبِتُ القَفْعَاءُ والحَسَكُ
أَو هي شَجَرَةٌ يَنْبُتُ فِيها حَلَقٌ كحَلَقِ الخَوَاتِيمِ، إِلّا أَنَّها لا تَلْتَقِي، تَكُونُ كَذلِكَ ما دامَتْ رَطْبَةً، فإِذا يَبِسَتْ سَقَطَتْ أَي سَقَطَ ذلِكَ عَنْهَا، قالَ كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ يَصِفُ الدُّرُوعَ:
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ *** كَأَنَّه حَلَقُ القَفْعَاءِ مَجْدُولُ
وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ قالَ: القَفْعَاءُ: شُجَيْرَةٌ خَضْرَاءُ ما دامَتْ رَطْبَةً، وهِيَ قُضْبانٌ قِصارٌ، تَخْرُجُ من أَصْلٍ واحِدٍ لازِقَةٌ لِلأَرْضِ، ولَهَا وُرَيْقٌ صَغِيرٌ، فإِذا هَمَّتْ بالجُفُوفِ ارْتَفَعَتْ عَن الأَرْضِ، وتَقَبَّضَتْ وتَجَمَّعَتْ، ولا تُؤْكَلُ، وأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ السّابِقَ، وقالَ بعضُ الرُّوَاةِ: القَفْعَاءُ: من أَحْرَارِ البُقُولِ، تَنْبُتُ مُسْلَنْطِحَةً، ورَقُها مِثْلُ وَرَقِ اليَنْبُوتِ.
وِالأُذُنُ القَفْعَاءُ: الّتِي كَأَنَّهَا أَصابَتْهَا نارٌ فانَزَوَتْ، كَمَا فِي الصِّحاحِ، وفي العُبَابِ: فَتَزَوَّتْ من أَعْلاها إِلى أَسْفَلِها، والفِعْلُ قَفِعَتْ، كفَرِحَ قَفَعًا.
وِالرِّجْلُ القَفْعَاءُ: الّتِي ارْتَدَّتْ أَصابعُهَا إِلى القَدَمِ، كما في الصِّحاحِ، زادَ في اللِّسَانِ: فتَزَوَّتْ عِلَّةً أَو خِلْقَةً، والأَقْفَعُ صاحِبُهَا، وهِيَ قَفْعَاءُ بَيِّنَةُ القَفَعِ، وقومٌ قُفْعُ الأَصَابِعِ.
وِالأَقْفَعُ: المُنَكِّسُ الرَّأْسِ أَبَدًا نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ كالمُقَفِّعِ كمُحَدِّثٍ هكَذَا في النُّسَخِ، والصَّوابُ كمُعَظَّمٍ.
وِالمِقْفَعَةُ، كمِكْنَسَةٍ: خَشَبَةٌ يُضْرَبُ بِها الأَصَابِعُ.
وِقَفَعَهُ بِها، كمَنَعَ: ضَرَبَهُ: ورُوِيَ أَنَّه مَرَّ غُلامٌ بالقَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، فعَبَثَ بهِ الغُلامُ، فَتَنَاوَلَه القاسِمُ وقَفَعَه قَفْعَةً شَدِيدَةً، فإِمّا أَنْ يَكُونَ القَاسِمُ قَفَعَهُ بخَشَبَةٍ، أَو بِيَدِه فكانَتْ كالمِقْفَعَةِ. وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: هو مِنْ قَفَعَهُ عَمّا أَرادَ: إِذا صَرَفَه عَنْهُ ومَنَعَه فانْقَفَعَ انْقِفاعًا.
وِقال ابن عَبادٍ: القَفَعُ مُحَرَّكَةً: الضِّيقُ والنَّصَبُ، يُقَالُ: النّاسُ فِي قَفَعٍ.
وِقالَ اللَّيْثُ: القَفَاعِيُّ من الرِّجَالِ بالضَّمِّ: الأَحْمَرُ الّذِي يَنْقَشِرُ أَنْفُه لِشِدَّةِ حُمْرَتِه.
وِقالَ الأَزْهَرِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ لغَيْرِ اللَّيْثِ أَحْمَرُ قُفَاعِيٌّ القَافُ قبلَ الفاءِ، قال المُصَنِّفُ: وهي لُغَيَّةٌ في فُقَاعِيٍّ مُقَدَّمَةَ الفاءِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: المَعْرُوفُ من تَأْكِيدِ صِفَةِ الأَلْوَانِ: أَصْفَرُ فاقِعٌ وفُقَاعِيٌّ، وقد ذُكِرَ في مَوْضِعِهِ.
وِقالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ: هُوَ قَفّاعٌ لِمالِهِ، كشَدّاد: إِذا كانَ لا يُنْفِقُه.
ولا يُبَالِي ما وَقَعَ في قَفْعَتِهِ، أَي: في وِعَائِه.
وِالقُفَاعُ كغرَابِ، ورُمّانٍ، والأُولَى القِيَاسُ؛ أَي تَخْفِيفُهَا، كسائِرِ الأَدْوَاءِ إِلّا أَنَّه هكَذَا وُجِدَ في نُسَخِ الجَمْهَرَةِ المُصَحَّحَةِ المَقْرُوءَة علَى العُلَمَاءِ ـ بِخَطِّ أَبِي سَهْلٍ الهَرَوِيِّ والأَرْزَنِي ـ بتَشْدِيدِ الفاءِ، قاله الصّاغَانِيُّ: داءٌ في قَوَائِمِ الشّاةِ يُعَوِّجُهَا، وفِي الجَمْهَرَةِ: داءٌ يُصِيبُ النّاسَ، كوَجَعِ المَفَاصِلِ ونَحْوِه، تَتَشَنَّجُ مِنْهُ الأَصَابِعُ.
وِالقُفّاعُ كرُمّانٍ: نَباتٌ مُتَقَفِّعٌ، كأَنَّهُ قُرُونٌ صَلَابَةً إِذا يَبِسَ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ ليابِسهِ: كَفُّ الكَلْبِ.
وِالقُفّاعَةُ بهاءٍ: شَيْءُ يُتَّخَذُ من جَرِيدِ النَّخْلِ، ثُمّ يُغْدَفُ بِهِ عَلَى الطَّيْرِ، فيُصادُ قالَ ابنُ دُرَيْد: هي كَلِمَةٌ عِرَاقِيَّةٌ، ولا أَحْسِبُهَا عَرَبِيَّةً. قلتُ: واسْتَعْمَلَها أَهْلُ مِصْر أَيْضًا.
وِرَجُلٌ مُقَفَّعُ اليَدَيْنِ، كمُعَظَّمٍ أَي: مُتَشَنِّجُهِما نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، كالأَقْفَعِ.
وِمَرْوانٌ بنُ المُقَفَّعِ المَرْوَزِيُّ: تابِعِيٌّ.
وِأَبُو مُحَمَّدِ عَبْدُ الله بنُ المُقَفَّعِ: فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وكانَ اسْمُه رُوزْبَةَ، أَو داذَبَةَ بن داذ جِشْنِشْ قَبْلَ إِسْلامِهِ، وكُنْيَتُه أَبُو عُمَرَ، فلَمّا أَسْلَمَ تَسَمَّى بعَبْدِ الله، وتَكَنَّى بأَبِي مُحَمَّدِ، والقَوْلُ الأَخِيرُ في اسْمِه هو الّذِي ذَكَرَهُ في كِتَابِه المَوْسُومِ باليَتِيمَةِ، ولُقِّبَ أَبُوه بالمُقَفَّعِ لأَنَّ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ ضَرَبَه ضَرْبًا مُبَرِّحًا فتَقَفَّعَتْ يَدُه، كَذا فِي العُبَابِ.
وِيُقَالُ: قَفِّعْ هذا، أَي: أَوْعِهِ؛ أَي ضَعْهُ في الوِعَاءِ، هكذا في العُبَابِ والتَّكْمِلَة، وفي اللِّسَانِ: أَقْفَعْ هذا.
وِانْقَفَعَ: مُطَاوِعُ قَفَعَه، أَي: امْتَنَع.
وِتَقَفَّعَ مُطَاوِعُ: قَفَّعَهُ البَرْدُ تَقْفِيعًا، أَي: تَقَبَّضَ، وقالَ اللَّيْثُ: نَظَر أَعْرَابِيٌّ ـ وكُنْيَتُه أَبُو الحَسَنِ ـ إِلى قُنْفُذَة قد تَقَبَّضَتْ، فقالَ: أَتُرَى البَرْدَ قَفَّعَهَا؟ أَي: قَبَّضَها.
* ومِمّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
انْقَفَعَ النَّباتُ: إِذا يَبِسَ وتَصَلَّبَ، قال الرّاجِزُ:
في ذَنَبَانٍ ويَبِسٍ مُنْقَفِعْ
وِالقَفْعُ، بالفَتْحِ: نَبْتٌ عن ابنِ دُرَيْدٍ.
وِالقَيْفُوعُ، كطَيْفُورٍ: نَبْتَةٌ ذاتُ ثَمَرَةٍ فِي قُرُونٍ، وهِي ذاتُ وَرَقٍ وغِصَنَةٍ، تَنْبُتُ بكُلِّ مكانٍ.
وشاةٌ قَفْعَاءُ، وهي القَصِيرَةُ الذَّنَبِ، وقد قَفِعَتْ قَفَعًا، وَكَبْشٌ أَقْفَعُ، وهِيَ الكِبَاشُ القُفْعُ، قال الشّاعِرُ:
إِنّا وَجَدْنَا العِيسَ خَيْرًا بَقِيَّةً *** مِنَ القُفْعِ أَذْنابًا إِذا ما اقْشَعَرَّتِ
قالَ الأَزْهَرِيُّ: كأَنَّهُ أَرادَ بالقُفْعِ أَذْنَابًا: المِعْزَى؛ لأَنَّهَا تَقْشَعِرُّ إِذا صَرِدَتْ، وأَمّا الضَّأْنُ فإِنَّهَا لا تَقْشَعِرُّ من الصَّرَدِ.
وِالقَفْعَاءُ: الفَيْشَلَةُ.
وِالقَفَعَةُ، مُحَرَّكَةً: جَمَاعَةُ الجَرَادِ.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: القُفْعُ، بالضَّمِّ: القِفَافُ، واحِدَتُهَا قَفْعَةٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
265-تاج العروس (يدع)
[يدع]: الأَيْدَعُ: الزَّعْفَرانُ قالَ رُؤْبَةُ:كَمَا اتَّقَى مُحْرِمُ حَجٍّ أَيْدَعَا
قالَ الجَوْهَرِيُّ: وهذا يَنْصَرِفُ، فإِنْ سَمَّيْتَ بهِ رَجُلًا لَمْ تَصْرِفْه فِي المَعْرِفَةِ: لِلتَّعْرِيفِ ووَزْنِ الفِعْلِ، وصَرَفْتَه فِي النَّكِرَةِ، مِثْل أَفْكَل.
وِقالَ اللَّيْثُ: الأَيْدَعُ: صِبْغٌ أَحْمَرُ، وهُوَ خَشَبُ البَقَّمِ قالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ الثَّوْرَ:
فنَحَا لَهَا بمُذَلَّقَيْنِ كأَنَّمَا *** بِهِمَا مِنَ النَّضْحِ المُجَدَّحِ أَيْدَعُ
وِيُقَالُ: الأَيْدَعُ: دَمُ الأَخَوَيْنِ وهذا قَوْلُ الأَصْمَعِيِّ، وقالَ شَمِرٌ: الأَيْدَعُ: البَقَّمُ، وأَنْشَدَ لابْنِ قَيْسِ الرُّقيّاتِ:
فو اللهِ لا يَأْتِي بخَيْرٍ صَدِيقها *** بَنُو جُنْدَعٍ ما اهْتَزَّ فِي البَحْرِ أَيْدَعُ
قالَ: لأَنَّ البَقَّمَ يُحْمَلُ فِي السُّفُنِ مِنْ بِلادِ الهِنْدِ.
قلتُ: وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ لكُثَيِّرٍ:
كأَنَّ حُمَولَ القَوْمِ حِينَ تَحَمَّلُوا *** صَرِيمَةُ نَخْلٍ أَو صَرِيمَةُ أَيْدَعِ
قالَ: هذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَيْدَعَ هُوَ البَقَّمُ؛ لأَنَّهُ يُحْمَلُ فِي السُّفُنِ مِنْ بِلادِ الهِنْدِ.
وِقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ أَنَّ الأَيْدَعَ: صَمْغٌ أَحْمَرُ، يُجْلَبُ مِنْ سُقُطْرَى جَزِيرَةِ الصَّبِر، يُدَاوَى بهِ الجِرَاحاتُ.
وِقالَ السُّكَّرِيّ فِي شَرْحِ قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ـ بَعْدَ ما ذَكَرَ دَمَ الأَخَوَيْنِ والزَّعْفَرَانِ ـ: والأَيْدَعُ أَيْضًا: شَجَرٌ تُصْبَغُ بهِ الثِّيَابُ، أَو هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الحِنّاءِ قالَهُ ابنُ عَبّادٍ، وقالَ السُّكَّرِيُّ: قالَ خالِدُ بنُ كُلْثُوم: الأَيْدَعُ: شَجَرٌ لَهُ حَبٌّ أَحْمَرُ يَصْبُغُ بهِ أَهْلُ البَدْوِ ثَيَابَهُم.
وِقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الأَيْدَعُ: طائِرٌ وأَنْشَدَ:
ما اسْتَنَّ فِي سَنَنِ الجَنُوبِ الأَيْدَعُ
أَي: عَلَى سَنَنِ الجَنُوبِ.
وِيَدِيعُ، كيَبِيعُ ولَوْ قالَ: كأَمِيرٍ، كانَ أَحْسَن: موضع، بَيْنَ فَدَكَ وخَيْبَرَ، بِهَا مِيَاهٌ وعُيُونٌ لِبَنِي فَزَارَةَ وغَيْرِهِمْ، وقَدْ جاءَ ذِكْرُه فِي الحَدِيثِ، وقالَ المَرّارُ بنُ سَعِيدٍ:
كأَنَّ العِيرَ ناهِلَةً قَرَوْرَى *** يُعَالِي الآلُ مَلْهَمَ أَو يَدِيعَا
شَبَّهَ حُمُولَهُم وقَدْ صَدَرَتْ عَنْ قَرَوْرَى بنَخْلِ مَلْهَمَ أَو يَدِيعَ.
قلتُ: وقَدْ سَبَقَ للمُصَنِّفِ في «ب بلد ع» أَنَّهُ يُقَال لَهُ: بَدِيعٌ، كَمَا فِي العُبَاب.
وِيَدَعَةُ، مُحَرَّكَةً: بَرِّيَّةٌ بَيْنَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
وِيَدَعَانُ، مُحَرَّكَةً وضُبِط في نُسَخِ العُبَابِ والتّكْمِلَةِ بكَسْرِ الدّالِ: اسْمُ وادٍ بهِ مَسْجِدٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ مُعَسْكَرُ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
وِمَبْدُوع: اسمٌ لِلْفَرَسِ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: هو فَرَسُ عَبْدِ الحارِثِ بنِ ضِرارِ بنِ عَمْرِو بنِ مالِكٍ الضَّبِّيِّ، وأَنْشَدَ لَهُ شِعْرًا قَدَّمْنَا ذِكْرَه في «ب بلد ع» لأَنَّ الصَّوابَ أَنَّهُ بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، ووَهِمَ الجَوْهَرِيُّ فِي ذِكْرِه هُنا، نَبَّهَ عَلَيْهِ الصّاغَانِيُّ، قال: وهكَذَا رُوِيَ فِي شِعْرِه أَيْضًا. قُلْتُ: فإِذا كانَت الرِّوَايَةُ هكَذَا بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، فلا مُعَوَّلَ عَلَى ما تَكَلَّفَ شَيْخُنَا لِانْتِصارِ الجَوْهَرِيِّ بأَنَّهُ إِنّمَا سُمِّيَ بهِ كأَنَّهُ لحُسْنِه مَطْلِيٌّ بالأَيْدَعِ، وهو الزَّعْفَرَانُ، فإِنَّ السَّماعَ والرِّوَايَةَ يُقَدَّمانِ عَلَى القِيَاسِ، فتَأَمَّلْ.
وِأَيْدَعَ الحَجَّ عَلَى نَفْسِه: أَوْجَبَهُ وذلِكَ إِذا تَطَيَّبَ لإِحْرَامِه، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، قالَ جَرِيرٌ:
وِرَبِّ الرّاقِصَاتِ إِلى الثَّنَايَا *** بشُعْثٍ أَيْدَعُوا حَجًّا تَمَامَا
ومَعْنَى أَيْدَعُوا: أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، يُقَال: أَيْدَعَ الرَّجُلُ: إِذا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِه حَجَّا.
وِيَدَّعُه الصَّبّاغُ تَيْدِيعًا: صَبَغَهُ بالأَيْدَعِ أَي الزَّعْفَرانِ، فهُوَ ثَوْبٌ مُيَدَّعٌ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الأَيْدَعُ: نَبَاتٌ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وأَنْشَدَ:
إِذا رُحْنَ يَهْزُزْنَ الذُّيُولَ عَشِيَّةً *** كهَزِّ الجَنُوبِ الهَيْفِ دَوْمًا وأَيْدَعَا
وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: أَوْزَمْتُ يَمِينًا، وأَيْدَعْتُهَا، أَي: أَوْجَبْتُها.
ومَيْدَعَانُ بنُ مالِكِ بْنِ نَصْرِ بن الأَزْدِ: أَبُو قَبِيلَةٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
266-تاج العروس (رنف)
[رنف]: الرَّنْفُ، بالفَتْحِ، وعَلَيه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، ويُحَرَّكُ، نَقَلَهُ أَبو عُبَيْدٍ: بَهْرَامَجُ الْبَرِّ، وَهو مِن شَجَرِ الجِبَالِ، وفي مَقْتَلِ تَأَبَّطَ شَرًّا أنَّ الذي رَمَاهُ لَاذَ منه بِرَنْفَةٍ، فلم يَزَلْ تَأَبَّطَ شَرَّا يَجْدُمُها بالسَّيْفِ حتى وَصَلَ إِليه فقَتَلَهُ، ثم مات مِن رَمْيَتِهِ، قال أَوْسُ بنُ حَجَرٍ يَذْكُرُ نَبْعَةً:تَعَلَّمَها في غِيْلِهَا وهي حَظْوَةٌ *** بِوادٍ به نَبْعٌ طِوَالٌ وحِثْيَلُ
وبَانٌ وظَيَّانٌ وأَنْفٌ وشَوْحَطٌ *** أَلَفُّ أَثِيثٌ نَاعِمٌ مُتَغَيِّلُ.
وَهذِه كُلُّهَا مِن شَجَرِ الجِبَالِ، وقال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرَابِيٌّ مِن أَهْلِ السَّرَاةِ، قال الرَّنْفُ: هو هذا الشَّجَرُ الذي يُقَال له: الخِلَافُ البَلْخِيُّ، وهو بعَيْنِهِ، ينْضَمُّ وَرَقُهُ إلى قُضْبَانِهِ إذا جاءَ اللَّيْلُ، وينْتَشِرُ بالنَّهَارِ.
والرَّانِفَةُ: طَرَفُ غُضْرُوفِ الْأَنْفِ، وقيل: ما لَانَ عَن شِدَّةِ الغُضْرُوفِ.
والرَّانِفَةُ: أَليْةُ الْيَدِ، وَهو أَسْفَلُهَا.
والرَّانِفَةُ: جُلَيْدَةُ طَرَفِ الرَّوْثَةِ، أي: الأَرْنَبَةِ، كلُّ ذلك مِن نَوَادِرِ اللِّحْيَانِيِّ.
وقال أَبو حاتمٍ: الرَّانِفَةُ مِن الْكَبِدِ: مَا رَقَّ منها.
وقال اللِّحْيَانِيُّ: الرَّانِفَةُ مِن الْكُمِّ: طَرَفُهَا، وَرَأْسُهَا.
والرَّانِفَةُ: أَسْفَلُ الأَلْيَةِ، وطَرَفُهَا الذِي يَلِي الأَرْضِ إِذا كُنْتَ قَائِمًا، كما في الصِّحاحِ، وقال غيرُه: الرَّانِفَةُ: ما سَالَ مِن الأَلْيَةِ علَى الفَخِذَيْنِ، وفي حديث عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ: «أَنّه قال له رَجُلٌ: خَرَجَتْ فيَّ قُرْحَةٌ، فقَالَ: في أيِّ مَوْضِعٍ مِن جَسَدِكَ؟ قال: بَيْنَ الرَّانِفَةِ والصَّفَنِ» فأَعْجَبَهُ حُسْنُ ما كَنَى، والجَمْعُ: رَوَانِفُ، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ لعَنْتَرَةَ يَهْجُو عُمَارةَ بنَ زِيادٍ العَبْسِيَّ:
مَتَى مَا نَلْتَقِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ *** رَوَانِفُ أَلْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا
والرَّانِفَةُ: كِسَاءٌ يُعَلَّقُ إلى شِقَاقِ بُيُوتِ الْأَعْرَابِ، حتى تَلْحَقَ بِالأَرْضِ، ج: رَوَانِفُ، نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ.
وفي الصّحاح: أَرْنَفَتِ النَّاقَةُ بأُذُنَيْهَا: إذا أَرْخَتْهُمَا مِن الْإِعْيَاءِ، ومنهالحديث: «كان إذا نَزَلَ عَلَيه صلى الله عليه وسلم الوَحْيُ وَهو علَى القَصْوَاءِ تَذْرِفُ عَيْنَاهَا، وتُرْنِفُ بأُذُنَيْهَا مِن ثِقَلِ الوَحْيِ».
وقال ابنُ عَبَّادٍ: أَرْنَفَ الْبَعِيرُ، سَارَ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ، فَتَقَدَّمَتْ جِلْدَةُ هَامَتِهِ.
قال: وأَرْنَفَ الرَّجُلُ: أَسْرَعَ، يُقَال: جَاءَنِي فُلانٌ مُرْنِفًا، أي مُسْرِعًا.
والْمِرْنَافُ، بالكَسْرِ: سَيْفُ: الْحَوْفَزَانِ بنِ شَرِيكٍ، وهو القائلُ فيه:
إِن يكُنِ الْمِرْنَافُ قد فَلَّ حَدَّهُ *** جِلادِي به في المَأْزِقِ المُتَلاحِمِ
تَوَارَثَهُ الْآباءُ مِن قَبْلِ جُرْهُمٍ *** فأَرْدَفَهُ قَدِّي شُؤُونَ الجَمَاجِمِ
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
رَانِفُ كُلِّ شَيْءٍ: نَاحِيَتُه، كما في المُحِيطِ، واللِّسَانِ، وَيُقَال للعَجْزَاءِ: ذَاتُ رَوَانِفَ.
وَمن المَجَازِ: عَلَوْا رَوَانِفَ الْآكامِ، أي: رُؤُوسَها.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
267-تاج العروس (زلف)
[زلف]: الزَّلَفُ، مُحَرَّكَةً: الْقُرْبَةُ، عن ابنِ دُرَيْدٍ، وزادَ غيرُه: الدَّرَجَةُ. والمَنْزِلَةُ.والزَّلَفُ: الْحِيَاضُ الْمُمْتَلِئَة، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للعُمَانِيِّ:
حَتَّى إذا مَاءُ الصَّهَارِيجِ نَشَفْ *** مِنْ بَعْدِ مَا كَانَتْ مِلَاءً كالزَّلَفْ
أَو الزَّلَفُ: الْحَوْضُ الْمَلآنُ، وأَنْشَدَ أَبو حَنِيفَةَ:
جَثْجَاثُهَا وخُزَامَاهَا وثَامِرُهَا *** هَبَائِبٌ تَضْرِبُ النُّغْبَانَ والزَّلَفَا
والزَّلَفَةُ، بِهَاءٍ: الْمَصْنَعَةُ الْمُمْتَلِئَةُ مِنْ مَصَانِعِ الماءِ، وَمنه حديثُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ: «ثُمَّ يُرْسِلُ الله مَطَرًا، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزَّلَفَةِ» أي: كأَنَّهَا مَصْنَعَةٌ مِن مَصَانِعِ الْمَاءِ، هكذا فَسَّرَه شَمِرٌ.
وقال: الزَّلَفَةُ: الصَّحْفَةُ المُمْتَلِئَةُ، جَمْعُهَا: زَلَفٌ.
وقال أَبو عُبَيْدَة: الزَّلَفَة: الإِجّانَةُ الْخَضْرَاءُ، جَمْعُهَا: زَلَفٌ، وأَنْشَدَ:
يَقْذِفُ بِالطَّلْحِ والْقَتَادِ عَلَى *** مُتُونِ رَوْضٍ كأَنَّهَا زَلَفُ
وَقال أبو حاتمٍ: لم يَدْرِ الأَصمَعِيُّ ما الزَّلَفُ، ولكن بَلَغِني عن غيرِه أنَّ الزَّلَفَ الأَجاجِينُ الخُضْرُ، وكذا قال ابنُ دُرَيْدٍ، وقال: هكذا أَخْبَرَنِي أبو عثمان، عن التَّوَّزِيِّ، عن أَبي عُبَيْدَةَ، قال: وقد كنتُ قَرأْتُ عَلَيه في رَجَزِ العُمَانِيِّ:
مِنْ بَعْدِ مَا كانتْ مِلَاءً كالزَّلَفْ *** وصَارَ صَلْصَالُ الغَدِيرِ كالخَزَفْ
قال: فسأَلْتُه عن الزَّلَفِ، فذكر ما ذَكَرْتُهُ لك آنِفًا، وسأَلْتُ أَبا حاتمٍ، والرِّيَاشِيَّ، فلم يُجِيبَا فيه بشَيْءٍ، قال القُتَيْبِيُّ: وقد فُسِّرَتِ الزَّلَفَةُ، في حديثِ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ الذي تقدَّم آنِفًا بالمَحَارَةِ، وهي: الصَّدَفَةُ، قال: ولستُ أَعْرِفُ هذا التَّفْسِيرَ، إلَّا أَن يكونَ الغَدِيرُ يُسَمَّى مَحَارَةً؛ لأَنَّ الماءَ يَحُورُ إِليه، ويَجْتَمِعُ فيه، فيكونُ بمَنْزِلَة تَفْسِيرِنَا، وَأَوْرَدَ ابنُ بَرِّيٍّ شَاهِدًا على أنَّ الزَّلَفَةَ هي المَحارَةُ قَوْل لَبِيدٍ:
حَتَّى تَحَيَّرَتِ الدِّبَارُ كَأَنَّهَا *** زَلَفٌ وأُلْقِيَ قِتْبُها الْمَحْزُومُ
قال: وقال أَبو عمرٍو: الزَّلَفَةُ في هذا البَيْتِ مَصْنَعَةُ الماءِ.
والزَّلَفَةُ: الصَّخْرَةُ الْمَلْسَاءُ، وَبه فُسِّرَ أَيضًا حديثُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ السَّابِقُ، ويُرْوَى بالْقَافِ أَيضًا.
والزَّلَفَةُ: الأَرْضُ الْغَلِيظَةُ، وقيل: هي الأَرْضُ الْمَكْنُوسَةُ، وقيل: هو الْمُسْتَوِي مِن الْجَبَلِ الدَّمِثِ: ج، أي جَمْعُ الكُلِّ، زَلَفٌ.
والزَّلَفَةُ: الْمِرْآةُ، حَكَاهُ ابنُ بَرِّيٍّ، عن أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، ونَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ، عن الكِسَائِيِّ، قال: وكذا تُسَمِّيهَا العَرَبُ، وبه فُسِّرَ أَيضا حديثُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ السابِقُ، شُبِّهَت الأَرْضُ بها لاسْتِوَائِها ونَظَافَتِهَا، أَو وَجْهُهَا، وَهو قَوْلُ ابنِ الأَعْرَابِيِّ.
والمَزْلَفَةُ، كَمَرْحَلَةٍ: كُلُّ قَرْيَةٍ تكونُ بَيْنَ الْبَرِّ والرِّيفِ: الجمع: مَزَالِفُ، وَهي البَرَاغِيلُ، كما في الصِّحاحِ، وفي المُحْكَمِ: بَيْنَ البَرِّ والبَحْرِ، كالأَنْبَارِ، والقَادِسيَّةِ، ونَحْوِها.
والزُّلْفَةُ، بالضَّمِّ: مَاءَةٌ شَرْقِيَّ سَمِيرَاءَ، وَقال عُبَيْدُ بنُ أَيُّوبَ:
لَعَمْرُكِ إِنِّي يَوْمَ أَقْوَاعِ زُلْفَةٍ *** عَلَى ما أَرَى خَلْفَ الْقَفَا لَوَقُورُ
والزُّلْفَةُ: الصَّحْفَةُ، عن ابنِ عَبّادٍ، وجَمْعُهَا: زُلَفٌ.
والزُّلْفَةُ: القُرْبَةُ، وَمنه قَوْلُه تَعَالَى: {فَلَمّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال الزَّجَّاجُ: أي رَأَوا العَذابَ قَرِيبًا، وأَنْشَدَ ابنُ دُرَيْدٍ لابن جُرْمُوذٍ:
أَتَيْتُ عَلِيًّا برَأْسِ الزُّبَيْرِ *** وَقد كنتُ أَحْسَبُهُ زُلْفَهْ
والزُّلْفَةُ أَيضًا: المَنْزِلَةُ، وَالرُّتْبَةُ، والدَّرَجَةُ، والجمعُ: زُلَفٌ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للعَجَّاجِ:
نَاجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا *** طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا
سَماوَةَ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا يقول: مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، ودَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، كالزَّلْفِ، بالفَتْحِ، نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ في التَّكْمِلَةِ.
والزُّلْفَى، كَحُبْلَى، وَمنه قَوْلُه تعالَى: {وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى}، أَو هي، أي الزُّلْفَى: اسْمُ الْمَصْدَرِ، قال الجَوْهَرِيُّ: كأَنَّهُ قال: بالتي تُقَرِّبُكُمْ عندَنا ازْدِلَافًا، وقال جَمَاعَةٌ: وقد تُسْتَعْمَلُ الزُّلْفَةُ بمعنى القَرِيبِ، كما في العِنَايَةِ، وقال ابنُ عَرَفَةَ: الزُّلْفَى: التَّقْرِيبُ جِدًّا، قال شيخُنَا: وأَمَّا قَوْلُ ابنِ التِّلْمِسَانِيِّ، في شَرْحِ الشِّفَاءِ: إنَّ الزُّلْفَى جَمْعُ زُلْفَةٍ، فهو غريبٌ جِدَّا، غيرُ مَعْرُوفٍ، والصحيحُ أنَّ جَمْعَه زُلَفٌ.
والزُّلْفَةُ: الطَّائِفةُ مِن أَول اللَّيْلِ، قَلِيلَةً كانَتْ أو كثيرةً، كما ذَهَبَ إِليه ثَعْلَبٌ، وقال الأَخْفَشُ: مِن مُطْلَقِ اللَّيْلِ: الجمع: زُلَفٌ، كَغُرَفٍ، وزُلَفَاتٌ، بضَمٍّ ففَتْحٍ مِثْلِ غُرَفَاتٍ، وزُلَفَاتُ، بضَمَّتَيْنِ، مِثْل غُرُفَاتٍ، وزُلْفَاتٌ، بضَمٍّ فسُكُونٍ، مثل غُرْفَاتٍ.
أَو الزُّلَفُ، كغُرَفٍ: سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةُ مِن النَّهَارِ، وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِن اللَّيْلِ، وَاحِدَتُهَا: زُلْفَةٌ.
وقَوله تعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، قال الزَّجَّاجُ: هو مَنْصُوبٌ علَى الظَّرْفِ، كما تقول: جِئْتُ طَرَفَيْ النَّهَارِ وأَوَّلَ اللَّيْلِ، أي ساعةً بَعْدَ ساعةٍ، يَقْرُبُ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، وعَنَى بالزُّلَفِ مِن اللَّيْلِ: المَغْرِبَ والعِشَاءَ، وقُرِئَ. وزُلُفًا، بِضَمَّتَيْنِ، وَهي قِرَاءَةُ ابنِ مُحَيْصِنٍ، وفيها وَجْهَان: إِمَّا مُفْرَدٌ، كَحُلُمٍ، وإِمَّا جَمْعُ زُلُفَةٍ، كَبُسُرٍ وبُسُرَةٍ، بِضَمِّ سِينِهِمَا، وقُرِئَ: وزُلْفًا، بِضَمَّةٍ فسُكُونٍ، وفيها أَيضًا وَجْهَانِ: إِمَّا جَمْعُ زُلْفَةٍ بالضَّمِّ، جَمَعَهَا جَمْعَ الأَجْنَاسِ المَخْلُوقةِ، وإِنْ لم تَكُنْ جَوَاهِرَ، كما جَمَعُوا الجَوَاهِرَ المَخْلُوقَةَ، كَدُرَّةٍ ودُرٍّ، وَإِمَّا جَمْعُ زَلِيفٍ، مِثْل القُرْبِ، والقَرِيبِ، والغُرْبِ والغَرِيبِ.
وقرِئَ أَيضًا: وزُلْفَى، كَحُبْلَى، والْأَلِفُ للتَّأْنِيثِ، أي: لا أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أو اسْمُ مَصْدَرٍ.
والزِّلْفُ، بِالكَسْرِ: الرَّوْضَةٌ، نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ في التَّكْمِلَةِ.
وزَلَّفَ في حَدِيثِهِ، تَزْلِيفًا: زَادَ، كزَرَّفَ تَزْرِيفًا، وهو يُزَلِّفُ في حَدِيثِهِ، ويُزَرِّفُ، عن ابنِ دُرَيْدٍ.
وزُلَيْفَةُ، كَجُهَيْنَةٍ: بَطْنٌ بِالْيَمَنِ، عن ابنِ دُرَيْدٍ، قال أَبو جُنْدُبٍ الهُذَلِيُّ:
مَنْ مُبْلِغٌ مَآلِكِي حُبْشِيَّا *** أَجَابَنِي زُلَيْفَةُ الصُّبْحِيَّا
والْمَزَالِفُ: الْمَرَاقِي؛ لأَنَّ الرَّاقِيَ فيها تُزْلِفُه، أي: تُدْنِيَهِ مِمَّا يَرْتَقِي إِليه.
وعَقَبَةٌ زَلُوفٌ: أي بَعِيدَةٌ. نَقَلَهُ ابنُ فَارِسٍ.
والزَّلِيفُ: الْمُتَقَدِّمُ، هكذا في النُّسَخِ، والصَّوابُ: التَّقَدُّم مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ، نَقَلَهُ ابنُ دُرَيْدٍ.
والْمُزْدَلِفُ بنُ أَبِي عَمْرٍو بنِ مِعْتَرِ بنِ بَوْلَانَ بنِ عمَرِو بنِ الغَوْثِ: طَائِيٌّ.
والمُزْدَلِفُ أَيضا: لَقَبُ الْخَصِيبِ، وَهو أَبو رَبِيعَةَ، كما نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ، أَو هو لقب عَمْرِو بنِ أَبِي رَبِيعَةَ بن ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ، كما نَقَلَهُ ابنُ حَبِيبٍ، وإِنَّمَا لُقِّبَ به، لِأَنَّه أَلْقَى رُمْحَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ في حَرْبٍ كانتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمٍ، فَقَالَ.
ازْدَلِفُوا إِلَيْهِ، وله حديثٌ، كما قَالَهُ ابنُ دُرَيْدٍ.
وَفي اللِّسَانِ: ازْدَلِفُوا قَوْسِي أو قَدْرَهَا، أي: تَقَدَّمُوا في الحربِ بقَدْرِ قَوْسِي، قال الصَّاغَانِيُّ: وهذه الحَرْبُ هي حَرْبُ كُلَيْبٍ، وكان إذا رَكِبَ لم يَعْتَمَّ مَعَه غَيْرُه، أَو لِاقْتِرَابِهِ مِنَ الْأَقْرَان في الْحُرُوبِ، وازْدِلَافِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِقْدَامِه علَيْهِم، كما نَقَلَهُ ابنُ حَبِيب.
والْمُزْدَلِفَةُ، وَيُقَال أيضًا: مُزْدَلِفَةُ، بلَا لامٍ: موضع، بَيْنَ عَرَفَاتٍ ومِنًى، قيل: حَدُّهُ مِن مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إلى مَأْزِمَيْ مُحَسِّرٍ، ولو قال: مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ، كما قَالَهُ الجَوْهَرِيُّ، أَو مَوْضِعٌ معروفٌ، كان أَظْهَرَ، سُمِّيَ به لِأَنَّهُ يُتَقَرَّبُ فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى، كما في العباب، أو لِاقْترَابِ النَّاسِ إِلَى مِنى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، مِن عَرَفات، كما قَالَهُ اللَّيْث، وقال ابن سِيدَه: وَلا أَدْرِي كيفَ هذا أَو لِمَجِيءِ النَّاسِ إِليها في زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، أو لأَنَّها أَرْضٌ مُسْتَويَةٌ مَكْنُوسَةٌ، وهذا أَقْرَبُ، قال شيخُنَا وأَشْهَرُ منه ما ذَكَرَه المُؤَرِّخُونَ، وأَكْثَرُ أَهْلِ المَنَاسِكِ، والمُصَنِّفُون في المواضِعِ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ لأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ فيها مع حَوَّاءَ عليهماالسلام، وازْدَلَفَ منها، أي: دَنَا، كما سُمِّيَتْ جَمْعًا لذلك، قلتُ: وإِلَى هذا الوَجْهِ مَالَ أَبو عُبَيْدَةَ.
وتَزَلَّفُوا: تَقَدَّمُوا، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.
وتَزَلَّفُوا: تَفَرَّقُوا، هكذا في النُّسَخِ، وهو غلَطٌ، وَالصَّوابُ: تَقَرَّبُوا، أي دَنَوْا، كما هو نَصُّ اللِّسَانِ، وَالعُبَابِ، وقال أَبو زَبِيدٍ:
حَتَّى إِذَا اعْصَوْصَبُوا دُونَ الرِّكَابِ معًا *** دَنَا تَزَلُّفَ ذِي هِدْمَيْنِ مَقْرُورِ
كَازْدَلَفُوا فِيهِمَا، أي في التَّقَدُّمِ والتَّقَرُّبِ، والأَوَّلُ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، ومنه المُزْدَلِفُ على قَوْلِ ابنِ حَبِيب، وقد تقَدَّم، ومنْ الثاني الحديثُ: «فَإِذا زَالَتِ الشَّمْسُ فَازْدَلِفْ إِلَى اللهِ فِيهِ بِرَكْعَتَيْنِ»، وفي حديثٍ آخَرَ: أَنَّه «أُتِيَ ببَدَنَاتٍ خَمْسٍ أو سِتٍّ، فطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِليْهِ، بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ» أي: يَقْرُبْنَ، كما قَالَهُ الصَّاغَانِيُّ، ولو قيل في مَعْنَاه: يتَقَدَّمْنَ إِليْه، لَكَانَ مُنَاسِبًا أَيضًا، وفي حديثِ محمدٍ البَاقِرِ ـ عليهالسلام والرِّضَا ـ: «مَا لَكَ مِن عَيْشِكَ إِلَّا لَذَّةٌ تَزْدَلِفُ بِكَ إِلَى حِمَامِكَ».
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
زَلَفَ إِليه: دَنَا منه.
وَأَزْلَفَ الشَّيءَ: قَرَّبَهُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: قُرِّبَتْ، وقال الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُه: أي قَرُبَ دُخُولُهم فيها، ونَظَرُهم إِليها.
وَازْدَلَفَهُ: أَدْنَاهُ إلى هَلَكَةٍ.
وَأَزْلَفَهُ: جَمَعَهُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ}.
وَأَزْلَفَ سَيِّئَةً: أَسْلَفَهَا وقَدَّمَها.
وَالزَّلْفُ: التَّقَدُّمُ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، عن أَبي عُبَيْدٍ، كالزَّلِيفِ، والتَّزَلُّفِ، وقد ذكَرهما المُصَنِّفُ.
وَزَلَفْنَا له: أي تَقَدَّمْنَا.
وَزَلَفَ الشَّيْءَ، وزَلَّفَهُ: قَدَّمَهُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.
وَالمَزَالِفُ: الأَجَاجِينُ الخُضْرُ، عن أَبي عُبَيْدَةَ.
وَالزَّلَفَةُ، مُحَرَّكَةً: الرَّوْضَةُ، حَكاهُ ابنُ بَرِّيّ، عن أبي عُمَرَ الزَّاهدِ، وبه فُسِّرَ حديثُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ السابِقُ، وَيُقَال بالقَافِ أَيضًا.
وَقال ابنُ عَبَّادٍ: فُلانٌ يُزلفُ الناسَ تَزْلِيفًا أي يُزْعِجُهم مَزْلَفَةً مَزْلَفَةً، ونَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيضًا هَكذا، إِلَّا أَنَّه قال: «دَلِيل»، بَدَلَ «فُلان».
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
268-تاج العروس (عرف)
[عرف]: عَرَفَه يَعْرِفُه مَعْرِفَةً، وعِرْفانًا، وعِرْفَةً بالكسرِ فيهما وعِرِفّانًا، بكسْرَتَيْنِ مُشَدَّدَةَ الفاءِ: عَلِمَه واقتصر الجوهريُّ على الأَوّلَيْنِ، قال ابنُ سِيده: وينْفَصِلان بتَحْدِيدٍ لا يَليقُ بهذا المَكانِ.وَقال الرّاغِبُ: المَعْرِفةُ والعِرْفانُ: إِدْراكُ الشيءِ بتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ لأَثَرِهِ، فهي أَخصُّ من العِلمِ، ويُضَادُّه الإِنكارُ، وَيُقال: فلانٌ يعرِفٌ الله ورَسُولَه، ولا يُقال: يَعْلمُ الله متَعَدِّيًا إلى مفعولٍ واحدٍ لمّا كانَ مَعرِفَةُ البَشَرِ لله تعالَى هو تَدبُّرُ آثارِه دُونَ إدْراكِ ذاتِه، ويُقالُ: الله يَعْلَمُ كذا، ولا يُقالُ: يَعْرِفُ كذا؛ لمّا كانت المَعْرِفةُ تُسْتَعْمَلُ في العِلْمِ القاصِرِ المُتَوَصَّلِ إِليه بتَفَكُّر، وأَصْلُه من عَرَفْتُهُ، أي: أَصَبْتُ عَرْفَه، أي رائِحَتَه، أو من أَصَبْتُ عَرْفَه: أي خَدَّهُ فهو عارِفٌ، وعَريفٌ، وعَرُوفَةٌ يَعْرِفُ الأُمورَ، ولا يُنْكِرُ أَحَدًا رآه مرّةً، والهاءُ في عَرُوفَة للمُبالَغَةِ، قال طَرِيفُ بْنُ مالِكٍ:
أَوَ كُلَّما وَرَدَتْ عُكاظَ قبِيلَةٌ *** بَعَثُوا إِليَّ عَرِيفَهُم يَتَوَسَّمُ؟
أي: عارِفَهم، قال سِيبَوَيْه: هو فَعِيل بمَعْنى فاعِلٍ، كقْولِهم: ضَرِيبُ قِداحٍ.
وعَرَفَ الفَرَسَ عَرْفًا، بالفتحِ، وذِكْرُ الفتح مُسْتَدْرَكٌ: جَزَّ عُرْفَه يقال: هو يَعْرِفُ الخيل: إذا كانَ يَجُزُّ أَعْرافَها، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ والجَوْهَرِيُّ وابنُ القَطّاعِ.
وعَرَف بذَنْبِه، وكذا عَرَفَ لَهُ: إذا أَقَرَّ به، وأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
عَرَفَ الحِسانُ لها غُلَيِّمَةً *** تَسْعَى مع الأَتْرابِ في إِتْبِ
وَقال أَعرابِيٌّ: ما أَعْرِفُ لأَحَدٍ يَصْرَعُنِي: أي لا أُقِرُّ بِهِ.
وعَرَفَ فُلانًا: جازاهُ، وقَرَأَ الكِسائِيّ قولَه عزَّ وجَلّ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثًا فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَفَ} بَعْضَه وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ: أيْ جازَى حَفْصَةَ رَضِيَ الله تَعالَى عَنْها ببَعْضِ ما فَعَلَتْ قال الفَرّاءُ: من قَرَأَ «عَرَّفَ» بالتّشْديدِ، فمَعْناه أَنّه عَرَّفَ حَفْصَةَ بعضَ الحَدِيثِ وترَكَ بَعْضًا، ومن قَرأَ بالتَّخْفِيف، أَرادَ غَضِبَ من ذلِكَ، وجازَى عَلَيهِ، قال: ولعَمْرِي جازَى حَفْصَةَ بطَلاقِها، قال: وهو وَجْهٌ حَسَنٌ، قرأَ بذلِك أَبو عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَمِيّ.
أَو مَعْناهُ: أَقَرَّ ببَعْضِه {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}، ومنه قولُهم: أَنا أَعْرِفُ للمُحْسِنِ والمُسِئِ: أي لا يَخْفَى عليَّ ذلكَ ولا مُقابَلَتُه بما يُوافِقُه وفي حدِيثِ عَوْفِ بن مالِكٍ: «لتَرُدَّنَّهُ أَو لأُعَرِّفَنَّكَها عندَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم» أي لأُجازِيَنَّك بها حتَّى تَعْرِف سُوءَ صَنِيعِك، وهي كلمةٌ تُقالُ عند التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، وقالَ الأَزْهَري: قَرَأَ الكِسائِيُّ وَالأَعْمشُ عن أَبِي بَكْرٍ عن عاصِمٍ «عَرَف بَعْضُه» خفيفةً، وَقرأَ حَمْزةُ ونافِعٌ وابنُ كَثِيرٍ وأَبو عَمْرٍو وابنُ عامِرٍ اليَحْصُبِيُّ بالتّشْدِيدِ.
والعَرْفُ: الرِّيحُ طيِّبَةً كانَتْ أَو مُنْتِنةً يُقال: ما أَطْيَبَ عَرْفَه! كما في الصِّحاحِ، وأَنشدَ ابنُ سِيدَه:
ثَناءٌ كَعُرْفِ الطِّيبِ يُهْدَى لأَهْلِه *** وَلَيْسَ له إلّا بَنِي خالِدٍ أَهْلُ
وَقال البُرَيْقُ الهُذَلِيُّ في النَّتْنِ:
فلَعَمْرُ عَرْفِكِ ذِي الصُّماخِ كما *** عَصَبَ السِّفادُ بغَضْبةِ اللِّهْمِ
وأَكْثَرُ اسْتِعمالِه في الطَّيِّبَةِ ومنهالحَدِيثُ: «من فَعَل كَذَا وَكَذَا لم يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ» أي: رِيحَها الطَّيِّبَةَ.
وفي المثل: «لا يَعْجَزُ مَسْكُ السَّوْءِ عن عَرْفِ السَّوْءِ» كما في الصِّحاحِ، قال الصاغانيُّ: يُضْرَبُ للَّئِيمِ الذي لا يَنْفَكُ عن قُبْحِ فِعْلِه، شُبِّهَ بجِلْدٍ لَم يَصْلُحْ للدِّباغِ فنُبِذَ جانِبًا، فأَنْتَنَ.
والعَرْفُ: نَباتٌ، أو الثُّمامُ، أو نَبْتٌ ليْسَ بحَمْضٍ ولا عِضاهٍ من الثُّمامِ كذا في المُحيطِ واللِّسانِ.
والعَرْفَةُ بهاءٍ: الرِّيحُ.
والعَرْفَةُ: اسمُ من اعْتَرَفَهُم اعْتِرافًا: إذا سَأَلَهُم عن خَبَرٍ ليَعْرِفَه، ومنه قولُ بِشْرِ بنِ أَبي خازِمٍ:
أَسائِلَةٌ عُمَيْرَةُ عن أَبِيها *** خِلالَ الجَيْشِ تَعْتَرِفُ الرِّكابَا
ويُكْسَرُ.
والعَرْفَةُ أيضًا: قُرْحَةٌ تَخْرُجُ في بَياضِ الكَفِّ نقله الجوهريُّ عن ابنِ السِّكِّيتِ.
ويُقال: عُرِف الرَّجلُ كعُنِيَ عَرْفًا، بالفَتْحِ وفي بعضِ النُّسخِ عِرْفانًا بالكسرِ، فهو معْرُوفٌ: خَرَجَتْ به تِلكَ القُرْحَةُ، كما في الصِّحاح.
والمَعْرُوفُ: ضِدُّ المُنْكَرِ قال الله تعالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الحَدِيث: «صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ».
وَقال الرّاغِبُ: المَعْرُوفُ: اسمٌ لكلِّ فِعْلٍ يُعْرَفُ بالعَقْلِ وَالشَّرْعِ حُسْنُه، والمُنْكَرُ: ما يُنْكَرُ بِهِما، قال تَعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وقالَ تعالَى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ومن هذا قيل للاقْتِصادِ في الجُودِ: مَعْرُوفٌ، لَمّا كانَ ذلِك مُسْتَحْسَنًا في العُقولِ، وبالشَّرْعِ نحو: {وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وقولُه: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي بالاقْتِصادِ، وَالإِحسانِ، وقولُه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي: رَدٌّ بالجَمِيلِ ودُعاءٌ خيرٌ من صَدَقَةٍ هكذا.
ومعْرُوفٌ: فَرَسُ سَلَمَةَ بنِ هِنْد الغاضِرِيِّ من بَنِي أَسَدٍ، وَفيه يَقُولُ:
أُكَفِّئُ مَعْرُوفًا عليهِم كأَنَّه *** إذا ازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الأَسِنَّةِ أَحْرَدُ
ومَعْرُوفُ بنُ مُسْكانَ: باني الكعبَةِ شَرَّفها الله تَعالَى، أَبُو الوَلِيدِ المَكِّيُّ، صَدُوقٌ مُقْرِئُ مَشْهُورٌ، مات سنة 165 ومُسكانُ كعُثْمانَ، وقِيلَ بالكَسْرِ، هكَذا هو بالسِّينِ المُهْمَلةِ، والصوابُ بالمُعْجَمة.
ومَعْرُوفُ بنُ سُوَيْدٍ الجُذامِيُّ: أَبو سَلَمَةَ البَصْرِيُّ، رَوَى له أَبو دَاوُدَ والنِّسائِيّ.
ومَعْرُوفُ بنُ خَرَّبُوذَ المَكِّيُّ: مُحَدِّثانِ وقد تَقَدَّم ضبطُ خَرَّبُوذَ في موضِعِه، قال الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ: تابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَليسَ له في البُخارِيّ غيرُ موضعٍ واحدٍ، وفي كِتابِ الثِّقاتِ لابن حِبّان، يَرْوِي عن أَبِي الطُّفَيْلِ، قال: وكانَ ابنُ عُيَيْنَةَ يقولُ: هو مَعْرُوفُ بْنُ مُشْكانَ، رَوَى عنه ابنُ المُباركِ، وَمَرْوانُ بنُ معاوِيَةَ الفَزارِيُّ.
وأَبو محْفُوظٍ مَعْرُوفُ بنُ فَيْرُوزانَ الكَرْخِيُّ قَدَّسَ الله رُوحَه من أَجِلَّةِ الأَولِياءِ، وقَبْرُه التِّرْياقُ المُجَرَّبُ ببَغْدادَ لقَضاءِ الحاجاتِ، قال الصّاغانِيُّ: عَرَضَتْ لِي حاجَةٌ، وَحَيَّرَتْنِي في سنةِ خَمْسَ عَشرَةَ وسِتَّمائةٍ، فأَتَيْتُ قَبْرَهُ، وَذَكَرْتُ له حاجَتِي، كما تُذْكَرُ للأَحْياءِ مُعْتَقِدًا أنَّ أَوْلياءَ الله لا يَمُوتُونَ، ولكِنْ يُنْقَلُون من دارٍ إلى دارٍ، وانْصَرَفْتُ، فقُضِيَت الحاجَةُ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلى مَسْكَنِي.
قلتُ: وفاتَه مِمَّن اسمُه مَعْرُوفٌ جماعَةٌ من المُحَدِّثِينَ منهم: مَعْرُوفُ بنُ محَمّدٍ أَبو المَشْهُورِ عن أَبي سَعِيدِ بنِ الأَعْرابِيّ، ومَعْرُوفُ بنُ أَبِي مَعْرُوفٍ البَلْخِيّ، ومَعْرُوفُ بنُ هُذَيْلٍ الغَسّانِيُّ، ومَعْرُوفُ بنُ سُهَيْلٍ: مُحَدِّثُون، وهؤلاءِ قد تُكُلِّمَ فيهِم. ومَعْرُوفٌ الأَزْدِيُّ الخَيّاط، أَبُو الخَطّابِ مَوْلَى بنِي أُمَيَّةَ، وَمَعْرُوفُ بنُ بَشِيرٍ أَبُو أَسْماء، وهؤلاءِ من ثِقاتِ التّابِعِينَ.
ومَعْرُوفَةُ بِهاءٍ: فَرَسُ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ القُرَشِيِّ الأَسَدِيّ، هكذا في سائِرِ النّسَخِ، وهو غَلَطٌ، والصوابُ أَنّ اسمَ فَرسِه مَعْرُوف بغير هاءٍ، وهي التي شَهِدَ عليها حُنَيْنًا، وَمثله في اللِّسان والعُبابِ، وأَنْشدَ الصّاغانِيُّ ليَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ:
أَبٌ لِيَ آبِي الخَسْفِ قَدْ تَعْلَمُونَه *** وَصاحِبُ مَعْرُوفٍ سِمامُ الكَتائِبِ
وَقد تَقَدّم ذلك في «خسف».
ويَوْمُ عَرَفَةَ: التّاسِعُ من ذِي الحِجَّةِ تَقُول: هذا يَوْمُ عَرَفَةَ غيرَ مُنَوَّنٍ، ولا تَدْخُلُه الأَلِفُ والّلامُ، كما في الصِّحاحِ.
وعَرَفاتٌ: موقِفُ الحاجِّ ذلِكَ اليَوْمَ، على اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا من مَكَّةَ على ما حَقَّقَه المُتَكَلِّمُونَ على أَسماءِ المَواضِع، وغَلِطَ الجَوْهَرِيُّ فقَالَ: مَوْضِعٌ بمِنًى وكذا قَوْلُ غيرِه: موضِعٌ بمَكَّةَ، وإِن أُريدَ بذلك قُرْبَ مِنًى ومَكَّةَ فلا غَلَطَ، قال ابنُ فارِسٍ: أَمّا عَرفاتٌ فقَالَ قَومٌ: سُمِّيَتْ بذلِكَ لأَنَّ آدَمَ وحَوّاءَ عليهماالسلام تَعارَفَا بِها بعد نُزُولِهما من الجَنَّةِ.
أَو لِقَوْلِ جِبْرِيلَ لإِبْراهِيمَ عليهماالسلام، لمّا عَلَّمَه المَناسِكَ وأَراهُ المَشاهِدَ أَعَرَفْت؟ أَعَرَفْتَ؟ قال: عَرَفْتُ عَرَفْتُ.
أَو لأَنَّها مُقدَّسَةٌ مُعَظَّمَةٌ، كأَنَّها عُرِفَتْ؛ أي طُيِّبَتْ.
وَقِيلَ: لأَنَّ الناسَ يَتَعارَفُونَ بها. زادَ الرّاغِبُ: وقيل: لِتَعرُّفِ العِبادِ فيها إلى الله تَعالَى بالعِباداتِ والأَدْعِيَةِ.
قال الجَوْهَرِيُّ: وهو اسمٌ في لَفْظِ الجَمْعِ، فلا يُجْمعُ كأَنّهم جَعَلُوا كُلَّ جُزْءٍ منها عَرَفة، ونقَلَ الجَوْهرِيُّ عن الفَرّاءِ أَنَّه قالَ: لا واحِدَ له بصِحَّةٍ وهي مَعْرِفَةٌ وإِنْ كانَ جَمْعًا؛ لأَنَّ الأَماكِنَ لا تَزُولُ، فصارَتْ كالشَّيْءِ الواحِدِ وخالَفَ الزَّيْدِينَ، تقولُ: هؤَلاءِ عرفاتٌ حَسَنَةً، تنصِبُ النَّعْت لأَنَّه نَكِرَةٌ، وهي مَصْرُوفَةٌ قال سِيبَويْه: والدَّلِيلُ على ذلِك قولُ العَرَب: هذهِ عَرَفاتٌ مُبارَكًا فِيهَا، وهذِه عَرَفاتٌ حَسَنَةً، قال: ويَدُلُّكَ على كَوْنِها مَعْرِفَةً أَنّكَ لا تُدْخِلُ فيها أَلفًا وَلامًا، وإِنما عَرفاتٌ بمَنْزِلَةِ أَبانَيْنِ، وبمنزلةِ جَمْعٍ، ولو كانت عَرَفاتٌ نَكِرَةً لكانَتْ إِذَنْ عَرَفاتٌ في غيرِ مَوْضِعٍ، وَقال الأَخْفَشُ: وإِنّما صُرِفَتْ عَرَفاتٌ لأَنَّ التاءَ بمَنْزلَةِ الياءِ وَالواوِ في مُسْلِمينَ ومُسْلِمُون لأَنّه تَذْكِيرُه، وصار التَّنْوِينُ بمنزلةِ النّونِ، فلمّا سُمِّيَ به تُرِكَ على حالِه، كما يُتْرَكُ مُسْلِمُون إذا سُمِّيَ به على حالِه، وكذلِك القولُ في أَذْرِعاتٍ، وعاناتٍ، وعُرَيْتِناتٍ، كما في الصِّحاحِ.
والنِّسْبَةُ عَرَفيٌّ محَرَّكَةً.
وزَنْفَلُ بنُ شَدّادٍ العَرَفيُّ من أَتْباعِ التّابِعِينَ، رَوَى عن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ سَكَنَها فَنُسِب إِليها ذَكَرَهُ الصّاغانِيُّ والحافِظُ.
قال الجَوْهَرِيُّ: وقَوْلُهمُ: نَزَلْنا عَرَفَةَ شَبِيهُ مُوَلَّدٍ وليسَ بعرِبِيٍّ مَحْضٍ.
والعارِفُ، والعَرُوفُ: الصَّبُورُ يُقال: أُصِيبَ فُلانٌ فوُجِدَ عارِفًا.
والعارِفَةُ: المَعْرُوفُ، كالعُرْفِ بالضّمِّ، يُقال: أَوْلاهُ عارِفَةً: أي مَعْرُوفًا، كما في الصِّحاحِ ج: عَوارِفُ ومنه سَمَّى السُّهْرَوَرْدِيُّ كتابه «عَوارِفَ المعارِفِ».
والعَرّافُ كشَدّادٍ: الكاهِنُ.
أَوالطَّبِيبُ كما هو نَصُّ الصِّحاح.
وَمن الأَوّل الحَدِيثُ: «من أَتَى عَرّافًا فَسأَلَه عَنْ شَيْءٍ لم يُقْبَلْ مِنْهُ صلاةٌ أَرْبَعينَ لَيْلَةً».
وَمن الثّانِي قولُ عُرْوَةَ بنِ حِزامٍ العُذْرِيِّ:
وَقُلْتُ لعَرّافِ اليَمامَةِ داوِنِي *** فإِنَّكَ إِنْ أَبْرَأْتَنِي لطَبِيبُ
فما بِيَ مِنْ سُقْمٍ ولا طَيْفِ جِنَّةٍ *** وَلكنَّ عَمِّي الحِمْيَرِيَّ كَذُوبُ
هكذا فَصَّلَه الصّاغانِيُّ، وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «من أَتَى عَرّافًا أو كاهِنًا فقَدْ كَفَرَ بما أُنْزِلَ على مُحَمّدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم» قال ابن الأثِيرِ: العَرّافُ: المنَجِّمُ، أَو الحازِي الذي يَدَّعِي عِلْمَ الغَيْبِ الذي استَأْثرَ الله بعِلْمِه، وَقالَ الرّاغِبُ: العَرّافُ: كالكاهِنِ، إلّا أنَّ العَرّاف يُخَصُّ بمَنْ يُخْبِرُ بالأَحْوالِ المُسْتَقْبَلَةِ، والكاهِنُ يخبِرُ بالأَحْوالِ الماضِيَةِ.
وعَرّافٌ: اسمٌ.
وقال اللَّيْثُ: يُقالُ: أَمْرٌ عارِفٌ: أي مَعْرُوفٌ فهو فاعِلٌ بمعْنى مَفْعُولٍ، وأَنْكَره الأَزْهَريُّ، وقال: لم أَسْمَعْهُ لغيرِ اللَّيْثِ، والّذِي حَصَّلْناه للأَئِمَّةِ: رَجُلٌ عارِفٌ: أي صَبُورٌ، قاله أَبو عُبَيْدَةَ وغيرُه.
وقال ابنُ الأَعرابيِّ: عَرِفَ الرَّجُلُ، كسَمِعَ: إذا أَكْثَرَ من الطِّيبِ.
والعُرْفُ، بالضمِّ: الجُودُ.
وقِيلَ: هو اسْمُ ما تَبْذُلُه وتُعْطِيه.
والعُرْفُ: مَوْجُ البَحْرِ وهو مجازٌ.
والعُرْفُ: ضِدُّ النُّكْرِ وهذا قد تَقَدَّم له، فهو تَكْرارٌ، وَمنه قَوْلُ النّابِغَةِ الذَّبْيانِيِّ ـ يَعْتَذِرُ إلى النُّعْمانِ بْنِ المُنْذِرِ ـ:
إلى الله إِلا عَدْله ووَفَاءَه *** فلا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ، ولا العُرْفُ ضائِعُ
والعُرْفُ: اسمٌ من الاعْتِرافِ الّذِي هو بمَعْنَى الإقْرارِ، تَقُول: لَهُ عليَّ أَلْفٌ عُرْفًا: أي اعْتِرافًا وهو تَوْكِيدٌ، نقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والعُرْفُ: شَعَرُ عُنُقِ الفَرَسِ وقِيل: هو مَنْبِتُ الشَّعَرِ وَالرِّيشِ من العُنُقِ، واسْتَعْمَلَه الأَصْمَعِيُّ في الإِنْسانِ، فقَالَ: جاءَ فلانٌ مُبْرَئِلًّا للشَّرِّ: أي نافِشًا عُرْفَه، جَمْعُه أَعْرافٌ وعُرُوفٌ، قال امْرُؤُ القَيْسِ:
نَمُشُّ بأَعْرافِ الجِيادِ أَكُفَّنَا *** إذا نَحْنُ قُمْنا عَنْ شِواءِ مُضَهَّبِ
ويُضَمُّ راؤُه كعُسُرٍ، وعُسْرٍ.
والعُرْفُ: موضع قال الحُطَيْئةُ:
أَدارَ سُلَيْمَى بالدَّوانِكِ فالعُرْفِ *** أَقامَتْ علَى الأَرْواحِ والدِّيَمِ الوُطْفِ
وَفي المُعْجَمِ: في دِيارِ كِلابٍ به مُلَيْحَةُ: ماءَهٌ من أَطْيَبِ المِياهِ بنَجْدٍ، يخرجُ من صَفًا صَلْدٍ.
والعُرْفُ: عَلَمٌ.
والعُرْفُ: الرَّمْلُ والمَكانُ المُرْتَفِعانِ، ويُضَمُّ راؤُه وَفي الصِّحاح: العُرْفُ: الرَّمْلُ المُرتَفِعُ، قال الكُمَيْتُ:
أَهاجَكَ بالعُرُفِ المَنْزِلُ *** وَما أَنْتَ والطَّلَلُ المُحْوِلُ؟!
وَقالَ غيرُه: العُرْفُ هُنا: موضِعٌ أو جَبَلٌ، كالعُرْفةِ بالضّمِّ، ج: كصُرَدٍ، وجمْعُ العُرْفِ: أَعْرافٌ، مثل أَقْفالٍ.
والعُرْفُ: ضَرْبٌ من النَّخْلِ قال الأَصْمَعِيُّ: في كلامِ أَهل البَحْرَيْنِ.
وَقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الأَعْرافُ: ضربٌ من النَّخْلِ، وأَنْشَد:
يَغْرِسُ فيها الزّاذَ والأَعْرافَا *** والنّابِجِيَّ مُسْدِفًا إِسْدافَا
أَو هي: أَوَّلُ ما تُطْعِمُ وقِيلَ: إذا بَلَغَت الإِطْعامَ.
أَو هي: نَخْلَةٌ بالبَحْرَيْنِ تُسَمَّى البُرْشُومَ وهو بعينهِ الذي نَقَلَه الأَصْمَعِيُّ وابنُ دُرَيْدٍ.
والعُرْفُ: شجَرُ الأُتْرُجِّ نَقَلَه الجوهَرِيُّ، كأَنَّه لرائِحَتِه.
والعُرْفُ من الرَّمْلَةِ: ظَهْرُها المُشْرِفُ وكذا من الجَبَلِ، وَكُلِّ عالٍ.
والعُرُف: جَمْعُ عَرُوفٍ كصَبُورٍ للصّابِرِ.
والعُرْفُ: جَمْعُ العَرْفاءِ من الإِبِلِ والضِّباعِ ويُقال: ناقَةٌ عَرْفاءُ: أي مُشْرِفَةُ السَّنامِ، وقِيلَ: ناقَةٌ عَرْفاءُ: إذا كانَتْ مذَكَّرَةً تُشْبِه الجِمالَ، وقيلَ لها: عَرْفاءُ لِطُولِ عُرْفِها، وَأَمّا العَرْفاءُ من الضِّباعِ فسيأْتِي للمُصَنِّفِ فيما بَعْدُ.
والعُرْفُ: جَمْعُ الأَعْرَفِ من الخَيْلِ والحَيّاتِ يُقال: فَرَسٌ أَعْرَفُ: كثيرُ شَعَرِ المَعْرَفَةِ، وكذا حَيَّةٌ أعْرَفُ.
ويُقال: طارَ القَطَا عُرْفًا بالضَّم: أي مُتَتابِعَةً بَعْضُها خَلْفَ بَعْضٍ، ويُقالُ: جاءَ القَوْمُ عُرْفًا عُرْفًا أي مُتَتابِعَةً كذلِك ومنه حدِيثُ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ: «جاءُوا كأَنَّهُم عُرْفٌ» أي يَتْبَعُ بعضُهُمْ بَعْضًا، قِيلَ: ومنه قَولُه تَعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا وهي المَلائِكَةُ أُرْسِلَتْ مُتَتابِعَةً، مُستعارٌ من عُرْفِ الفَرَسِ.
أَو أَرادَ أَنَّها تُرْسَلُ بالمَعْرُوفِ والإِحْسانِ، وقُرِئت: عُرْفًا، وعُرُفًا.
وذُو العُرْفِ، بالضَّمِّ: رَبِيعَةُ بنُ وائِل ذِي طَوّافٍ الحَضْرَمِيُّ وقد تَقَدَّم ذكرُ أبيهِ في «طوف» من وَلَدِه الصّحابِيُّ رَبِيعَةُ بنُ عَيْدانَ بنِ رَبِيعَةَ ذِي العُرْفِ الحَضْرَمِيُّ، ويُقالُ: الكِنْدِيُّ ـ رضي الله عنه ـ شَهِدَ فتحَ مِصْر، قاله ابنُ يُونُسَ، وهو الذي خاصَمَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في أَرْضٍ، وتقَدَّم الاخْتلافُ في ضَبْطِ اسمِ أَبيهِ، هلْ هو عَيْدانُ، أو عَبْدانُ.
والعُرُفُ* كعُنُقٍ: ماءٌ لبَنِي أَسَدٍ من أَحْلَى المِياهِ.
وأَيضًا: موضع وبه فَسَّرَ غيرُ الجَوْهَرِيِّ قولَ الكُمَيْتِ السّابِقَ.
والمُعَلَّى بنُ عُرْفانَ بنِ سلَمَةَ الأَسَدِيُّ الكُوفيُّ بالضَّمِّ: من أَتْباعِ التّابِعِينَ ضَبَطَه الصّاغانِيُّ هكذا.
قلتُ: وهو أَخُو ابنِ أَبِي وائِلٍ شَقِيقِ ابن سَلَمَةَ، يَرْوِي عن عَمِّه، قال يَحْيَى وأَبو زُرْعَةَ والدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيفٌ، وقالَ البُخارِيُّ وأَبو حاتِمٍ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ، وقال النسائِيُّ وَالأَزْدِيّ: مَتْرُوكُ الحَدِيثِ وقال ابنُ حِبّان: يَرْوِي الموْضُوعاتِ عن الأَثْباتِ، لا يَحِلُّ الاحْتِجاجُ به، قاله ابنُ الجَوْزِيِّ والذَّهَبِيُّ.
وعُرُفّانٍ، كجُرُبّانٍ، وعِفِتّانٍ ثُم فَسَّر الوَزْنَيْنِ بقولِه: بضَمَّتَيْن مُشَدَّدَةً، وبِكَسْرَتَيْنِ مُشَدَّدَةً وفيه لَفُّ ونَشْرٌ مَرتَّبٌ، قال أَبو حَنِيفَةَ: جُنْدَبٌ ضَخْمٌ كالجَرادَةِ له عُرْفٌ، لا يَكُونُ إلّا في رِمْثَةٍ، أو عُنْظُوانَةٍ وقد اقْتَصرَ على الضَّبْطِ الأَوّلِ. أَو دُوَيْبَةٌ صَغِيرَةٌ تكونُ برملِ عالِجٍ أَو رِمالِ الدَّهْناءِ وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: العُرُفّانُ بالضبط الأَوّل: جَبَلٌ أَو دُوَيْبَّةٌ.
والعِرِفّانِ، بكَسْرَتَيْنِ مُشَدَّدَةً فقَط: اسمُ رَجُلٍ، وهو صاحبُ الرّاعِي الشاعِرِ الذي يَقُولُ فيه:
كَفانِي عِرِفّانُ الكَرَى وكَفيْتُه *** كُلُوءَ النُّجُومِ والنُّعاسُ مُعانِقُهْ
فباتَ يُرِيهِ عِرْسَهُ وبَناتِه *** وَبتُّ أُرِيهِ النَّجْمَ أَيْنَ مَخافِقُهْ
وقال ثَعْلَبٌ: العِرِفّانُ هنا: الرّجلُ المُعْتَرِفُ بالشيءِ الدَّالُّ عَلَيهِ وهذا صِفَةٌ، وذكر سِيبَوَيْه أَنه لا يَعْرِفُه وَصْفًا ويُضَم مع التّشْدِيدِ، وهكذا رواهُ سِيبَويْه، جَعَلَه مَنْقُولًا عن اسمِ عينٍ.
وعِرْفانُ، كعِتْبانَ: مُغَنِّيَةٌ مَشْهُورةٌ نَقَله الصّاغانِيَّ.
والعُرْفَةُ، بالضمِّ: أَرْضٌ بارِزَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ تُنْبِتُ.
والعُرْفَةُ أَيضًا: الحَدُّ بينَ الشّيَئَيْنِ كالأُرْفَةِ ج: عُرَفٌ كصُرَدٍ.
والعُرَفُ: ثَلاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، في بلادِ العَرَبِ، منها عُرْفَةُ صارَةَ، وعُرْفَةُ القَنانِ، وعُرْفَةُ ساقٍ وهذا يُقالُ لهُ: ساقُ الفَرْوَيْنِ وفِيهِ يَقُولُ الكُمَيْتُ:
رَأَيْتُ بعُرْفَةِ الفَرْوَيْنِ نارًا *** تُشَبُّ ودونِيَ الفَلُّوجَتانِ
وعُرْفَةُ الأَمْلَحِ، وعُرْفَةُ خَجَا، وعُرْفَةُ نِباطٍ، وغيرُ ذلك ويُقال: العُرَفُ في بلادِ ثَعْلَبَةَ بنِ سَعْدٍ، وَهُمْ رَهْطُ الكُمَيْتِ، وفي اللِّسانِ: العُرْفَتانِ ببلادِ بنِي أَسَدٍ. والأَعْرافُ: ضَرْبٌ من النَّخْلِ عن ابنِ دُرَيْدٍ، وخَصَّهُ الأَصْمَعِيُّ بالبَحْرَيْنِ، وقد تقَدَّم شاهِدُه.
والأَعْرافُ: سُورٌ بينَ الجَنَّةِ والنّارِ وبه فُسِّرَ قولُه تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ} وقالَ الزَّجّاجُ: الأَعْرافُ: أَعالِي السُّورِ، واخْتُلِفَ في أَصْحابِ الأَعْرافِ، فَقِيلَ: هم قَوْمٌ اسْتوَتْ حَسَناتُهم وسيئاتهم فلم يستحقّوا الجَنَّةَ بالحَسَناتِ، ولا النارَ بالسَّيِّئاتِ، فكانُوا على الحِجابِ الّذِي بينَ الجَنَّةِ والنّارِ، قالَ: ويَجُوزُ أَن يَكُونَ مَعْناه ـ والله أَعْلَمُ ـ: {عَلَى الْأَعْرافِ}: على مَعْرَفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ وأَهْلِ النّارِ هؤلاءِ الرِّجالُ، وقِيلَ: {أَصْحابُ الْأَعْرافِ}: أَنْبِياءُ، وقِيلَ: مَلائِكَةٌ على ما هو مُبَيِّنٌ في كُتُب التّفاسِيرِ.
والأَعْرافُ من الرِّياحِ: أعالِيها وأَوائِلُها، وكذلك من السَّحابِ والضَّبابِ، وهو مجازٌ.
وأَعْرافُ: نَخْلٌ وهِضابٌ وفي بعضِ النُّسَخِ ـ وهو الصَّواب ـ وأَعْرافُ نَخْلٍ: هِضابٌ حُمْرٌ لبَنِي سَهْلَة هكَذا في النُّسَخِ، وهو غَلَطٌ، صوابُه حُمْرٌ في أَرْضٍ سهْلَةٍ، كما هو نَصُّ المُعْجَمِ لياقُوت، وأَنشدَ:
يا مَنْ لثَوْرٍ لَهَقٍ طَوّافِ *** أَعْيَنَ مشّاءٍ على الأَعْرافِ
وَيومُ الأَعْرافِ: من أَيّامِهِمْ.
وقال أَبُو زِياد: في بِلادِ العَرَب بُلْدانٌ كَثيرةٌ تُسَمَّى الأَعْراف، منها: أَعْرافُ لُبْنَى، وأَعْرافُ غَمْرَةَ وغيرُهما، وَهي مَواضِعُ في بِلادِ العَرَبِ، قال طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ:
جلَبْنَا من الأَعرافِ أَعْرافِ غَمْرَةٍ *** وَأَعْرافِ لُبْنَى الخَيْلَ مِنْ كُلِّ مَجْلَبِ
عِرابًا وحُوًّا مُشْرِفًا حَجَبَاتُها *** بَناتِ حِصانٍ قَدْ تُخُيِّرَ مُنْجِبِ
بناتِ الأَغَرِّ والوَجِيهِ ولاحِقٍ *** وَأَعْوَجَ ينْمِي نِسْبَةَ المُتَنَسِّبِ
والعَريفُ، كأَمِيرٍ: مَنْ يُعَرِّف أَصْحابَه، ج: عُرَفاءُ ومنهالحدِيثُ: «فارْجِعُوا حتّى يَرْفَع إِلينا عُرَفاؤكُم أَمْرَكُم».
وعَرُفَ الرَّجُلُ، ككَرُمَ وضَرَب عَرافَةً مصدر الأَول، وَاقْتَصَر الصّاغانيُّ والجَوْهَريُّ على البابِ الأَوّلِ، أي: صارَ عَرِيفًا، ويُقال أَيضًا: عَرَفَ فلانٌ عَلَيْنا سِنَين، يعْرُفُ عِرافَةً ككَتَبَ كِتابَةً: إذا عَمِلَ العِرافَةَ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
والعَرِيفُ: رَئِيسُ القَوْمِ وسَيِّدُهم سُمِّي به؛ لأَنَّه عُرِفَ بذلِكَ أَو لمعْرِفَتِه بسِياسةِ القَوْمِ.
أَو النَّقِيبُ، وهو دُونَ الرَّئِيسِ وفي الحَدِيث: «العِرافَةُ حقٌ، والعُرَفاءُ في النّارِ» وقال ابنُ الأَثِيرِ: العُرَفاءُ جمعُ عَرِيفٍ، وهو القَيِّمُ بأمورِ القَبِيلَةِ أو الجَماعةِ من النّاسِ، يَلِي أُمُورَهُم، ويَتَعَرَّفُ الأَمِيرُ منهُ أَحْوالَهُم، فِعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ، وقولُه: «العِرافَةُ حَقٌّ»: أي فِيها مَصْلَحَةٌ للنّاسِ، وَرِفْقٌ في أُمورِهم وأَحوالِهم، وقولُه: «والعُرَفاءُ في النّارِ»: تَحْذِيرٌ من التَّعَرُّضِ للرِّياسَةِ؛ لِمَا في ذلكَ من الفِتْنَةِ؛ فإِنّه إذا لَم يَقُمْ بحَقِّه أَثِمَ، واسْتَحَقَّ العُقُوبَةَ، ومنه حدِيثُ طاوُس: «أَنَّه سأَلَ ابنَ عَبّاسٍ: ما مَعْنَى قَوْلِ النّاسِ: «أَهْلُ القُرآنِ عُرَفاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ فقَالَ: رُؤَساؤُهم» وقال عَلْقَمَةُ بنُ عَبْدَةَ:
بل كُلُّ حَيٍّ وإِنْ عَزُّوا وإِنْ كَرُمُوا *** عَرِيفُهم بأَثافي الشَّرِّ مَرْجُومُ
وعَرِيفُ بنُ سَرِيعٍ، وابنُ مازِنٍ: تابِعِيّانِ أَما الأَولُ فإِنّه مِصْرِيّ يَرْوِي عنْ عبدِ الله بنِ عَمْرٍو وعنه تَوْبَةُ بنُ نَمْرٍ، ذكرهُ ابنُ حِبّانٍ في الثّقاتِ، وأَما الثّانِي، فإِنّه حَكَى عن عَلِيِّ بْنِ عاصِمٍ، قاله الحافِظُ.
وعَرِيفُ بنُ جُشَمَ: شاعِرٌ فارِسٌ وهو من أَجدادِ دُرَيْدِ ابنِ الصِّمَّةِ وغيرِه من الجُشَمِيِّينَ.
وابنُ العَرِيفِ: أَبُو القاسِمِ الحُسَيْنُ بنُ الوَلِيدِ القُرْطُبِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ: نَحْوِيُّ شاعِرٌ.
وفاته: أَبو العَبّاسِ بنُ العَرِيفِ: مَعْرُوفٌ، نقله الحافِظُ.
قلت: وهو أَبو العَبّاسِ أَحمَدُ بنُ مُحمَّدِ بنِ مُوسَى بنِ عَطاءِ الله الصِّنْهاجِيُّ الطَّنْجِيُّ نَزِيلُ المَرِيَّةِ، والمُتوفَّى بمَرّاكُشَ سنة 536 أَخَذ عن أَبِي بَكْرٍ عبدِ الباقِي بنِ مُحَمّدِ بْنِ بُرْيال الأَنْصارِيّ، تلميذِ أَبي عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيِّ، وعنه مُحْيِي الدّينِ ابنُ العَرَبِيِّ، وغَيْرُه، كَما ذَكَرْناهُ في رِسالَتِنا: «إِتْحاف الأَصْفياءِ بسُلّاك الأَوْلِياءِ».
وكَزُبَيْرٍ: عُرَيْفُ بْنُ دِرْهَمٍ أَبُو هُرَيْرةَ الكُوفيُّ عن الشَّعْبِيِّ.
وعُرَيْفُ بْنُ إِبْراهِيمَ يَرْوِي حَدِيثَه يَعْقُوبُ بنُ مُحَمّدٍ الزّهرّيْ.
وعُرَيْفُ بنُ مُدْرِكٍ وغيرُ هؤلاءِ: مُحَدِّثُونَ.
والحارِثُ بنُ مالِكِ بنِ قَيْسِ بن عُرَيْفٍ: صَحابِيُّ، لم أَجِدْ ذِكْره في المَعاجِمِ.
وعُرَيْفُ بنُ آبَدَ كأَحْمَدَ في نَسِبِ حَضْرَمَوْتَ من اليَمَنِ.
وفي الصِّحاحِ: العِرْفُ بالكَسر، من قَوْلِهم: ما عَرَفَ عِرْفي [بالكسرِ] * إِلّا بِأَخَرَةٍ: أي ما عَرَفَنِي إلّا أَخِيرًا.
و* العِرْفَةُ، بالكسر: المَعْرِفَةُ وهذا تقدم ذكره في أَولِ المادة، عند سَرْدِه مَصادِرَ عَرَفَ.
وقال ابنُ الأَعرابِيِّ: العِرْفُ بالكسرِ: الصَّبْرُ وأَنشَد لأبِي دَهْبَلٍ الجُمَحِيِّ:
قُلْ لابْنِ قَيْسٍ أَخِي الرُّقَيّاتِ *** ما أَحْسَنَ العِرْفَ في المُصِيباتِ
وقد عَرَفَ للأَمْرِ يعْرفُ من حَدِّ ضَرَبَ، واعْتَرَفَ أي: صَبَرَ، قال قَيْسُ بنُ ذَرِيحٍ:
فيا قَلْبُ صَبْرًا واعْتِرافًا لِما تَرَى *** وَيا حُبَّها قَعْ بالَّذِي أَنْتَ واقَعُ
والمَعْرَفَةُ، كَمَرْحَلَةٍ: مَوْضِعُ العُرْفِ من الفَرَسِ من النّاصِيَةِ إلى المِنْسَجِ، وقِيلَ: هو اللَّحْمُ الّذي يَنْبُتُ عَلَيه العُرْفُ.
والأَعْرفُ من الأَشياءِ: مالهُ عُرْفٌ قال:
عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ *** كمِثْلِ شَيْطانِ الحَماطِ أَعْرَفُ
والعَرْفاءُ: الضَّبُعُ، لكَثْرَةِ شَعَرِ رَقَبَتِها وقِيلَ: لطُولِ عُرْفِها، وأَنشدَ ابنُ بَرَيٍّ للشَّنْفَرَى:
وَلِي دُونَكُم أَهْلُونَ سِيدٌ عَمَلَّسٌ *** وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفاءُ جَيْأَلُ
وَقال الكُمَيْتُ:
لها راعِيَا سُوءٍ مُضِيعانِ مِنْهُما *** أَبو جَعْدَةَ العادِي وعَرْفاءُ جَيْأَلُ
ويُقال: امْرَأَةٌ حَسَنةُ المَعارِفِ: أي الوَجْهِ وما يَظْهَرُ مِنْها، واحِدُها مَعْرَفٌ، كمَقْعَدٍ سُمِّيَ به لأَنَّ الإِنسانَ يُعْرَفَ بهِ، قال الرَّاعِي:
مُتَلَثِّمِينَ على مَعارِفِنَا *** نَثْنِي لَهُنَّ حَواشِيَ العَصْبِ
وَقِيل: المَعارِفُ: مَحاسِنُ الوَجْهِ.
ويُقال: هو من المَعارِفِ: أي المَعْرُوفِينَ كأَنَّه يُرادُ به من ذَوِي المَعارِفِ، أي: ذَوي الوُجُوهِ.
ومن سجَعاتِ المَقاماتِ الحَرِيريّةِ: حَيّا الله المعارفَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَعارِف. أي حيّا الله الوُجُوهَ.
وأَعْرَفَ الفَرَسُ: طالَ عُرْفُه.
والتَّعْرِيفُ: الإِعْلامُ يُقال: عَرَّفَه الأَمْرَ: أَعْلَمَه إِيّاه، وَعَرَّفَهُ بَيْتَه: أَعْلَمَه بمَكانِه، قال سِيبَوَيْه: عَرَّفْتُه زَيْدًا، فذَهَبَ إلى تَعْدِيَةِ عَرَّفْتُ بالتَّثْقِيل إلى مَفْعُولَيْنِ، يعني أَنَّك تَقُول: عَرَفْتُ زَيْدًا، فيَتَعَدَّى إلى مَفْعُولَيْنِ، قال: وأَمّا عَرَّفْتُه بزْيدٍ، فإِنَّما تُرِيدُ عرَّفْتُه بهذِه العَلامَةِ وأَوْضَحْتُه بها، فهو سِوَى المَعْنَى الأَوّلِ، وإِنّما عَرَّفْتُه بزيدٍ، كقَوْلِكَ سَمَّيْتُه بزَيْدٍ.
والتَّعْرِيفُ: ضِدُّ التَّنْكِيرِ وبه فُسِّرَ قولُه تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} على قِراءَةِ من قَرأَ بالتَّشْدِيدِ.
والتَّعْرِيفُ: الوُقُوفُ بعرَفاتٍ يُقال: عَرَّفَ الناسُ: إذا شَهِدُوا عَرَفاتٍ، قال أَوْسُ بنُ مَغْراءَ:
وَلا يَرِيمُونَ للتَّعْرِيفِ مَوْقِفَهم *** حتّى يُقال: أَجيزُوا آلَ صَفْوانَا
وهو المُعَرَّفُ، كمُعَظَّمٍ: الموْقِفُ بعَرَفاتٍ وفي حَدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ: « {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وذلِكَ بعدَ المُعَرَّفِ» يريدُ بعدَ الوُقُوفِ بعَرَفَةَ، وهو في الأَصْلِ موضِعُ التَّعْرِيفِ، ويكونُ بمعنى المَفْعُول.
ومن المَجازِ: اعْرَوْرَفَ الرَّجلُ: إذا تَهَيَّأَ للشَّرِّ واشْرَأبَّ له.
ومن المَجازِ أَيضًا: اعْرَوْرَفَ البَحْرُ: إذا ارْتَفَعَت أَمْواجُه كالعُرْفِ.
وَكذلِكَ اعْرَوْرَفَ السَّيْلُ: إذا تَراكَمَ وارْتَفَعَ.
ومن المجاز أَيضًا: اعْرَوْرَفَ النَّخْلُ: إذا كَثُفَ والْتَفَّ كأَنّه عُرْفُ الضَّبُعِ قال أُحَيْحَةُ بنُ الجُلاحِ يصِفُ عَطَنَ إِبِلِه:
مُعْرَوْرِفٌ أَسْبَلَ جبّارُه *** بحافَتَيْهِ الشُّوعُ والغِرْيَفُ
واعْرَوْرَفَ الدَّمُ صارَ له زَبَدٌ مثلُ العُرْفِ، قال أَبو كَبِيرٍ الهُذَلِيُّ:
مُسْتَنَّةٍ سنَنَ الفُلُوِّ مُرِشَّةٍ *** تَنْفي التُّرابَ بقاحِزٍ مُعْرَوْرِفِ
واعْرَوْرَفَ الرَّجُلُ الفَرَسَ: إذا علا عَلَى عُرْفِه نَقَلَه الصّاغانيُّ.
وقال ابنُ عَبّادٍ: اعْرَوْرفَ الرَّجلُ: ارْتَفَع علَى الأَعْرافِ.
ويُقال: اعْتَرَفَ الرَّجُلُ بهِ أي بذَنْبِه: أَقَرَّ به، ومنه حدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه: «اطْرُدُوا المُعْتَرِفِينَ» وهم الَّذِين يُقِرُّون على أَنْفُسِهِم بما يَجِبُ عليهم فيهِ الحَدُّ والتَّعْزِيرُ، كأَنَّه كَرِه لَهُم ذلِك، وأَحَبَّ أَنْ يَسْتُرُوه.
واعْتَرَفَ فُلانًا: إذا سَأَلَه عن خَبَرٍ ليَعْرِفَه والاسمُ العِرْفَةُ، بالكَسْرِ، وقد تَقَدَّم شاهدُه من قولِ بِشْرٍ.
واعْتَرَفَ الشَّيْءَ: عَرَفَه قال أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ سَحابًا:
مَرَتْه النُّعامَى فلم يَعْتَرِفْ *** خِلافَ النُّعامَى مِن الشَّأْمِ رِيحَا
وَرُبّما وَضَعُوا اعْتَرَفَ موضِعَ عَرَفَ، كما وَضَعُوا عَرَفَ موضِعَ اعْتَرَف.
وقال ابنُ الأَعرابِيِّ: اعْتَرَفَ فُلانٌ: إذا ذلَّ وانْقادَ وأَنْشَدَ الفَرَّاءُ في نوادِرِه:
ما لَكِ تَرْغِينَ ولا يَرْغُو الخَلِفْ *** وتَجْزَعِينَ والمَطِيُّ يَعْتَرِفْ
أي: يَنْقادُ بالعملِ، وفي كِتاب «يافِع ويَفَعَة»: والمَطِيُّ مُعْتَرِف.
واعْتَرَفَ إِليَّ: أَخْبَرَنِي باسْمِه وشَأْنِه كأَنّه أَعْلَمَه به.
وتَعَرَّفْتُ ما عِنْدَك: أي تَطَلَّبْتُ حتّى عَرَفْتُ ومنهالحَدِيثُ: «تَعَرَّفْ إلى الله في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّة».
ويُقال: ائْتِه فاسْتَعْرِفْ إِليهِ حَتَّى يَعْرِفَكَ وفي اللِّسانِ: أَتَيْتُ مُتَنَكِّرًا ثم اسْتَعْرَفْتُ: أي عَرَّفْتُه مَنْ أَنا، قال مُزاحِمٌ العُقَيْلِيُّ:
فاسْتَعْرِفا ثُمّ قُولَا: إنَّ ذا رَحِمٍ *** هَيْمانَ كَلَّفَنا من شَأْنِكُم عَسَرَا
فإِن بَغَتْ آيةً تَسْتَعْرِفانِ بِها *** يَوْمًا، فقُولَا لَها: العُودُ الَّذِي اخْتُصِرَا
وتَعارفُوا: عَرَفَ بَعْضُهُمْ بعْضًا ومنه قَولُه تَعالى: {وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا}.
وسَمَّوْا عَرَفَةَ مُحَرَّكَةً، ومَعْرُوفًا، وكزُبَيْرٍ، وأَمِيرٍ، وَشَدّادٍ، وقُفْلٍ، وما عَدا الأَوَّلَ فقد ذَكَرَهم المُصَنِّفُ آنِفًا، فهو تَكْرارٌ، فتَأَمَّلْ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
أَمْرٌ عَرِيفٌ: معروفٌ، فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ.
وَأَعْرَفَ فُلانٌ فُلانًا، وعَرَّفَه: إذا وَقَفَهُ على ذَنْبِه، ثم عَفَا عنه. وعَرَّفَه بِهِ: وسَمَهُ.
وَهذا أَعْرَفُ مِنْ هذا، كَذا في كِتاب سِيبَوَيْهِ، قال ابنُ سِيدَه: عِنْدِي أَنَّه على تَوَهُّم عَرُفَ؛ لأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّما هو مَعْرُوفٌ لا عارفٌ، وصِيغَةُ التَّعَجُّبِ إِنّما هِيَ من الفاعِل دونَ المَفْعُولِ، وقد حَكَى سِيبَوَيْه: ما أَبْغَضَه إِليَّ: أي أَنَّه مُبْغَضٌ، فتَعَجَّبَ من المَفْعُول كما يُتَعَجَّبُ من الفاعِلِ، حتَّى قال: ما أَبْغَضَنِي له، فعَلَى هذا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ أَعْرَفُ هنا مُفاضَلَةً وتَعَجُّبًا من المَفْعُولِ الَّذِي هو المَعْرُوف.
والتَّعْرِيفُ: إِنشادُ الضّالَّةِ، نَقَلَه الجَوْهَريُّ.
وَتَعَرَّفَ الرَّجُلُ، واعْتَرَفَ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لطَرِيفٍ العَنْبَرِيّ:
وَتَعَرَّفُونِي إِنَّنِي أَنا ذَاكُمُو *** شاكٍ سِلاحِي في الفَوارِسِ مُعْلَمُ
وَاعْتَرَفَ اللُّقَطَةَ: عَرَّفَها بصِفَتِها وإِنْ لم يَرَها في يدِ الرَّجُلِ، يقال: عَرَّفَ فلانٌ الضّالَّةَ: أي ذَكَرَها وطَلَبَ مَنْ يَعْرِفُها، فجاءَ رَجُلٌ يَعْتَرِفُها: أي يَصِفُها بصِفَةٍ يُعْلِمُ أَنّه صاحِبُها.
وَاعْتَرَفَ له: وصَفَ نفسَه بصفةٍ يُحَقِّقُه بها.
وَاسْتَعْرَفَ إِليه: انْتَسَب له.
وَتَعَرَّفَهُ المَكانَ، وفيهِ: تأَمَّلَه بِه، وأَنشَدَ سِيبَوَيْه:
وَقالُوا: تَعَرَّفْها المَنازِلَ مِنْ مِنىً *** وَما كُلُّ من وافَى مِنىً أَنا عارِفُ
وَمَعارِفُ الأَرضِ: أَوْجُهُها وما عُرِف مِنْها.
وَنَفْسٌ عَرُوفٌ: حامِلَةٌ صَبورٌ إذا حُمِلَتْ على أَمرٍ احْتَمَلَتْه.
قال الأَزْهَرِيُّ: ونفسٌ عارِفَةٌ، بالهاءِ مِثْلُه، قال عَنْتَرَةُ:
فصَبَرْتُ عارِفَةً لذلِكَ حُرَّةً *** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجَبانِ تَطَلَّعُ
يَقُول: حَبَسْتُ نَفْسًا عارِفَةً، أي: صابرَةً.
وَالعَوارِفُ: النُّوقُ الصُّبُرُ، وأَنشدَ ابنُ بَرِّيٍّ لمُزاحِمٍ العُقَيْلي:
وقَفْتُ بها حَتّى تَعالَتْ بيَ الضُّحَى *** وَمَلَّ الوُقُوفَ المُبْرَياتُ العَوارِفُ
المُبْرَياتُ: التي في أُنُوفِها البُرَةُ.
وَالعُرُف، بضمَّتَيْنِ: الجُودُ، لغةٌ في العُرْفِ بالضم، قال الشّاعِرُ:
إنَّ ابنَ زَيْدٍ لا زالَ مُسْتَعْمَلًا *** بالخَيْرِ يُفْشِي في مِصْرِه العُرُفَا
وَالمَعْرُوف: الجُودُ إذا كانَ باقْتِصادٍ: وبه فَسَّرَ ابنُ سِيدَه ما أَنشَدَه ثَعْلَبٌ:
وَما خَيْرُ مَعْرُوفِ الفَتَى في شَبابِه *** إذا لم يَزِدْهُ الشَّيْبُ حِينَ يَشِيبُ
وَالمَعْرُوف: النُّصْحُ، وحُسنُ الصُّحْبَةِ مع الأَهْلِ وغيرِهم من النّاسِ، وهو من الصِّفاتِ الغالِبَةِ.
وَيُقال للرَّجُلِ ـ إِذا وَلَّى عنكَ بِوُدِّه ـ: قد هاجَتْ مَعارِفُ فُلانٍ، وهي ما كُنْتَ تَعْرِفُه من ضَنِّه بكَ، ومعنَى هاجَتْ: يبِسَتْ، كما يَهيجُ النَّباتُ إذا يَبِسَ.
وَالتَّعْرِيفُ: التَّطْيِيبُ والتَّزْيِينُ، وبه فُسِّرَ قولُه تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} أي: طَيَّبَها، قال الأَزهَرِيُّ: هذا قولُ بعضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، يقال: طَعامٌ مُعَرَّفٌ: أي مُطَيَّبٌ، وقال الفَرّاءُ: معناه يَعْرِفُونَ منازِلَهُم حَتَّى يكونَ أَحَدُهم أَعْرَفَ بمَنْزِلِه [في الجَنَّةِ مِنْهُ بمَنْزِله] إِذا رَجَع من الجُمُعَةِ إلى أَهْلِه، وقالَ الرّاغِبُ: {عَرَّفَها لَهُمْ} بأَن وَصَفَها وَشَوَّقَهُم إِليها.
وَطَعامٌ مُعَرَّفٌ: وُضِعَ بعضُه على بعضٍ.
وَعَرُفَ الرَّجُلُ، ككَرُمَ: طابَ رِيحُه.
وَعَرِفَ، كعَلِم: إذا تَرَكَ الطِّيبَ، عن ابنِ الأَعرابيِّ.
وَأَرْضٌ مَعْرُوفَةٌ: طَيِّبَةُ العَرْفِ. وتَعَرَّفَ إِليه: جَعَله يَعْرِفُه.
وَعَرَّفَ طَعامَه: أَكْثَر إِدامَهُ.
وَعَرَّفَ رَأْسَهَا بالدُّهْن: روّاهُ.
وَاعْرَوْرَفَ الفَرَسُ: صارَ ذا عُرْفٍ.
وَسَنامٌ أَعْرَفُ: أي طَوِيلٌ ذُو عُرْفٍ.
وَناقَةٌ عَرْفاءُ: مُشْرِفَةُ السَّنامِ، وقيل: إذا كانَتْ مُذَكَّرةً تُشْبِهُ الجِمالَ.
وَجَبَلٌ أَعْرَفُ: له كالعُرْفِ.
وَعُرْفُ الأَرْضِ، بالضَّمِّ: ما ارْتَفَعَ منها، وحَزْنٌ أَعرَفُ: مُرْتَفِعٌ.
وَالأَعْرافُ: الحَرْثُ الذِي يَكُونُ على الفُلْجانِ والقَوائِدِ.
وَعَرَّفَ الشَّرَّ بينَهم: أَرَّثَه، أُبْدِلَت الأَلِفُ لمكانِ الهَمْزَةِ عَيْنًا، وأُبْدِل الثّاءُ فاءً، قالَهُ يَعْقُوبُ في المُبْدَلِ، وأَنشد:
وَما كُنْتُ مِمَّن عَرَّفَ الشَّرَّ بينَهُم *** وَلا حينَ جَدَّ الجِدُّ مِمَّنْ تَغَيَّبَا
: أي أَرَّثَ.
وَمَعْرُوفٌ: وادٍ لَهُم، أَنشَدَ أَبُو حنِيفَةَ:
وَحَتَى سَرَتْ بعدَ الكَرَى في لَوِيِّهِ *** أسارِيعُ مَعْرُوفٍ وصَرَّتْ جَنادِبُهْ
وَتَعارَفُوا: تَفاخَرُوا، ويُرْوَى بالزاي أَيضًا، وبهما فُسِّرَ ما في الحَدِيثِ: «أَنّ جارِيَتَيْن كانَتَا تُغَنِّيانِ بما تَعارفَت الأَنْصارُ يومَ بُعاثٍ».
وَتَقُولُ ـ لمَنْ فِيه جَرِيرَةٌ ـ: ما هو إِلا عُوَيْرِفٌ.
وَقُلَّةٌ عَرْفاءُ: مرتَفِعَةٌ، وهو مجازٌ.
وَعَرَفْتُه: أَصَبْتُ عَرْفَه، أي: خَدَّه.
وَالعارِفُ ـ في تَعارُفِ القومِ ـ: هو المُخْتَصُّ بمَعْرِفَةِ الله، ومَعْرِفةِ مَلَكُوتِه، وحُسْنِ مُعامَلَتِه.
وقالَ ابنُ عَبّادٍ: عَرَفَ: اسْتَحْذَى.
وقد عَرَفَ عندَ المُصِيبَةِ: إذا صَبَرَ.
وَعَرُفَ، ككَرُمَ، عَرافَةً: طابَ رِيحُه.
وَأَعْرفَ الطَّعامُ: طابَ عَرْفُه، أي رائِحَتُه.
وَالأَعَارفُ: جِبالُ اليمامَةِ، عن الحَفْصِيِّ.
وَالأَعْرَفُ: اسمُ جَبَلٍ مُشْرِفٍ على قُعَيْقِعانَ بمَكَّةَ.
وَالأُعَيْرِفُ: جَبَلٌ لطَيِّئٍ، لهم فيه نَخْلٌ، يُقالُ له: الأَفِيقُ.
وَعَرَف، مُحَرَّكَةً: من قُرَى الشِّحْرِ باليَمَنِ.
وَعَبْدُ الله بنُ مُحمَّدِ بنِ حُجْرٍ العَرّافيُّ بالفتح [مع التَّشديد] رَوَى عن شيخٍ يُكْنَى أَبا الحَسَنِ، وعنه حَسَنُ ابنُ يَزْدادَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
269-تاج العروس (عقف)
[عقف]: العَقْفُ: الثَّعْلَبُ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ وابنُ فارِسٍ، وَأَنشدَ الأَوَّلُ لحُميْدِ بنِ ثَوْر:كأَنَّه عَقْفٌ تَوَلَّى يَهْرُبُ *** من أَكْلُبٍ يَعْقُفُهُنَّ أَكْلُبُ
وَقالَ ابنُ بَرِّيّ: هذا الرَّجَزُ لحُمَيْدٍ الأَرْقَطِ، ومثلُه لابن فارِسٍ، قال الصّاغانِيُّ: وليسَ الرَّجَزُ لأَحَدِ الحُمَيْدَيْنِ.
وعَقَفَه، كضَرَبَه يَعْقِفه عَقْفًا: عَطَفَه نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.
وقال اللَّيْثُ: الأَعْقَفُ: الفَقِيرُ المُحْتاجُ وأَنْشَد ليَزِيدَ بنِ مُعاوِيَةَ:
يا أَيُّها الأَعْقَفُ المُزْجِي مَطِيَّتَه *** لا نِعْمَةً تَبْتَغِي عِنْدِي ولا نَشَبَا
وَالجمعُ: عُقْفانٌ.
والأَعْقَفُ من الأَعْرابِ: الجافي نَقَلَه الجَوْهَرِيِّ.
والأَعْوَجُ: أَعْقَفُ، عن ابنِ دُرَيْدٍ، وأَنشَدَ للعَبْدِيِّ.
إِذا أَخَذْتُ في يَمِينِي ذا القَفَا *** وفي شِمالِي ذا نِصابٍ أَعْقَفَا
وجَدْتَنِي للدَّارِعِينَ مِنْقَفَا
والأَعْقَفُ: المُنْحَنِي المُعْوَجُّ.
والعَقْفاءُ: حَدِيدَةٌ قد لُوِيَ طَرَفُها، وفِيها انْحِناءٌ.
وقال ابنُ دُرَيْدٍ: العَقْفاءُ: نَبْتٌ قال الأَزْهَرِيُّ: الذي أَعْرِفُه في البُقُولِ: الفَقْعاءُ، ولا أَعرفُ العَقْفاءَ، وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبرنِي أَعرابيٌّ من اليَمامة، قال: العَقْفاءُ: وَرَقُهُ كالسَّذابِ وله زَهْرَةٌ حَمْراءُ، وثمرٌ عَقْفاءُ، كأَنّها شِصٌّ فيها حَبٌّ يَقْتُل الشَاءَ، ولا يَضرُّ بالإِبِلِ، ويُقال: هي العُقَيْفاءُ بالتصغير.
والعُقّافَة، كرُمّانةٍ: خَشبَةٌ في رَأْسِها حُجْنَةٌ يُمَدُّ بها الشَّيْءُ، كالمِحْجَنِ ويُقال: هي الصَّوْلَجانُ، ومنهالحَدِيثُ: «فانْحَنَى واعْوَجَّ، حتَّى صارَ كالعُقّافَةِ».
والعُقافُ، كغُرابٍ: داءٌ يَأْخُذُ في قَوائِمِ الشّاءِ تَعْوَجُّ منهُ.
ويُقالُ: شاةٌ عاقِفٌ، ومَعْقُوفَةُ الرِّجْلِ وقد عُقِفَتْ، وَرُبَّما اعْتَرَى ذلِك كلّ الدَّوابِّ.
وعُقْفانُ، كعُثْمان: حَيٌّ من خُزاعَةَ نَقَلَه اللَّيْثُ.
وعُقْفانُ: موضع بالحِجازِ.
وقال أَبو ضَمْضَمٍ النَّسَّابَةُ البَكْرِي: للنَّمْلِ جَدّانِ: عُقْفانُ وفازِرٌ، فعُقْفانُ: جَدُّ الحُمْرِ منَ النَّمْلِ، وفازِرٌ: جَدُّ السُّودِ كذا في العُبابِ، ونقل ابنُ بَرِّيّ عنَ دغْفَلٍ النَّسّابَةِ أَنَّه قال: يُنْسَبُ النّملُ إلى عُقْفانَ والفازِرِ، فعُقْفانُ: جَدُّ السُّودِ، والفازِرُ: جَدُّ الشُّقْرِ، فتَأَمَّلْ ذلِك، وقالَ إِبراهيمُ الحَرْبِيُّ: النَّمْلُ ثلاثَةُ أَصْنافٍ: الذَّرُّ، والفازِرُ، والعُقَيْفانُ فالعُقَيْفانُ: النَّمْلُ الطويلُ القَوائِمِ يَكُونُ في المَقابِر وَالخَرِباتِ قال: والذَّرُّ: الذي يكُون في البُيُوتِ يُؤْذِي النّاسَ، والفازِرُ: المُدَوَّرُ الأَسْودُ، يكونُ في التَّمْرِ، وأَنْشَدَ:
سُلِّطَ الذَّرُّ فازِرٌ وعُقَيْفا *** نُ فأَجْلاهُمُ لدارٍ شَطُونِ
وقال أَبو حاتِمٍ: العَقُوفُ، كصَبُورٍ، من ضُرُوعِ البَقَرِ: ما يُخالِفُ شَخْبُه عِنْدَ الحَلْبِ.
وانْعَقَفَ: انْعَوَجَ وانْعَطَفَ، كما في الصِّحاحِ، وهو مُطاوِعُ عَقَفَه عَقْفًا، كتَعَقَّفَ: إذا تَعَوَّجَ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: ظبْيٌ أَعْقَفُ: مَعْطُوفُ القُرُونِ.
وَالعَقْفاءُ من الشِّياهِ: الَّتِي الْتَوَى قَرْناها على أُذُنَيْها.
وَشَوْكَةٌ عَقِيفَةٌ: أي مَلْوِيَّةٌ كالصِّنّارَةِ.
وَشَيْخٌ مَعْقُوفٌ: انْحَنَى من شِدَّةِ الكِبَرِ.
وَالتَّعْقِيفُ: التَّعْوِيجُ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
وَالعَيْقُفانُ، على فَيْعُلان: نَبْتٌ كالعَرْفَجِ، له سَنِفَةٌ كسَنِفَة الثُّفاءِ، عن أبي حَنِيفَةَ.
وَعُقْفانُ بنُ قَيْسِ بنِ عاصِمٍ: شاعِرٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
270-تاج العروس (غيف)
[غيف]: غافَتِ الشَّجَرَةُ تَغِيفُ غَيَفانًا، مُحَرَّكَةً: إذا مالَتْ أَغْصانُها يَمِينًا وشِمالًا، كتَغَيَّفَ، كذا في النُّسَخِ، وَالصَّوابُ كتَغَيَّفَتْ، نقله الجَوْهَريُّ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّيٍّ لنُصَيْبٍ:فظَلَّ لها لَدْنٌ من الأَثْلِ مُورِقٌ *** إذا زَعْزَعَتْهُ سَكْبَةٌ يَتَغَيَّفُ
وقال اللَّيْثُ: الأَغْيَفُ كالأَغْيَدِ، إلّا أَنّه في غَيْرِ نُعاسٍ قال العَجّاجُ يصف ثَوْرًا:
في دِفْءِ أَرْطاةٍ لَها حَنِيُّ *** عُوجٌ جَوافٍ ولها عِصِيُّ
وهَدَبٌ أَغْيَفُ غَيْفانِيُّ
وَيُرْوَى: «أَهْدَبُ».
والأَغْيَفُ من العَيْشِ: النّاعِمُ مثلُ الأَغْضَفِ، عنِ ابنِ عَبّادٍ.
قال: والغَيْفُ: جَماعَةُ الطَّيْرِ.
والغَيّافُ: كشَدّادٍ: مَنْ طالَتْ لِحْيَتُه وعَرُضَتْ من كُلِّ جانِبٍ وكَبُرَتْ جدًّا بالباءِ الموحّدة، وفي بعضِ النُّسَخِ بالمُثَلَّثةِ.
والغَيْفانُ، كرَيْحانٍ وهَيَّبانٍ: المَرْخُ هكَذا في سائرِ النُّسخِ، وهو تَصْحيفٌ، صوابُه المَرَحُ محرَّكَةً، أي في السَّيْرِ، كما في اللِّسانِ، وفي نُسْخَةِ التَّكْمِلَةِ المَرِحُ، ككَتِفٍ، هكَذا هو مَضْبُوطٌ، والأُولى الصوابُ.
وقال أَبُو حَنِيفَةَ: الغافُ: شَجَرٌ عِظامٌ يَنْبُتُ في الرَّمْلِ، وَيَعْظُمُ، وورقُ الغافِ أَصْغَرُ من وَرَقِ التُّفّاحِ، وهو في خِلْقَتِه، وله ثَمَرٌ حُلْوٌ جِدًّا وهو غُلْفٌ كأَنَّه قُرُونُ الباقِلَّى، وَخَشَبُه أَبيضُ، أَخْبَرَنِي بذلِك بعضُ أَعرابِ عُمَانَ، وهُناك مَعْدنُ الغافِ، الواحِدَةُ غافَةٌ، قال ذُو الرُّمَّةِ:
إلى ابْنِ أَبِي العاصِي هِشامٍ تَعَسَّفَتْ *** بِنا العِيسُ من حَيْثُ الْتَقَى الغافُ والرَّمْلُ
أَو: هو شَجَرُ اليَنْبُوت يَكُونُ بعُمَانَ، وقالَ أَبو زَيْدٍ: الغافُ: من العِضاهِ، وهي شَجَرةٌ نحوُ القَرَظِ شاكَةٌ حِجَازِيّةٌ، تَنْبُتُ في القِفافِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّيٍّ لقَيْسِ بنِ الخَطِيمِ:
أَلْفَيْتَهُمُ يومَ الهِياجِ كأَنَّهُم *** أُسْدٌ ببيشَةَ أو بِغافِ رُؤافِ
وَرُؤاف: موضِعٌ قُرْبَ مكَّةَ، وقالَ الفَرَزْدَقُ:
إِليكَ نَأَشْتُ يا ابْنَ أَبِي عَقِيلٍ *** وَدُونِي الغافُ غافُ قُرَى عُمانِ
وأَغَافَهُ أي: الشَّجَرَ، إِغافَةً: أَمالَهُ من النَّعْمَةِ وَالغُضُوضَةِ.
وغَيْفَةُ: قرية، قُرْبَ بُلْبَيْسَ شَرْقِيَّ مِصْرَ، وقد صَحَّفَه شَيْخُنا وَحَرَّفَه، فأَعادَه ثانِيًا في القافِ، كما سَيَأْتي، قال الحافِظُ: وَالذي على أَلْسِنَةِ المِصرييِّن الآن غَيْثَةُ، بالثاءِ بدلَ الفاءِ، وقال أَبو عُبَيْدٍ البَكْرِيُّ: ناحِيَةٌ عَلَى طَرِيقِ الفَرْماء إلى مِصْر.
وقال أَبو عُبَيْدَةَ: غَيَّفَ تَغْييفًا: إذا فَرَّ.
ويُقالُ: حَمَلَ في الحَرْبِ فَغَيَّفَ: أي جَبُنَ وعَرَّدَ وَكَذَّبَ، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ للقُطَامِيّ:
وَحَسِبْتُنَا نَزَعُ الكَتِيبَةَ غُدْوَةً *** فيُغَيِّفُونَ ونُوزِعُ السَّرَعانَا
وَيُرْوى «ونَرْجِعُ».
وتَغَيُّفُ الفَرَسِ: تَعَطُّفُه ومَيَلانُه في أَحَدِ جانِبَيْهِ في العَدْوِ.
والمُتَغَيِّفُ: فَرَسُ أَبِي فَيْدِ بنِ حَرْمَلٍ السَّدُوسِيِّ صِفَةٌ غالبةٌ من ذلِك، وفي نُسْخَةِ اللسانِ: «المُغَيَّفُ» بَدَل «المُتَغَيِّف» هكَذا هو مَضْبُوطٌ كَمُعَظَّمٍ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
تَغَيَّفَ: تَبَخْتَرَ ومَشَى مِشْيَةَ الطِّوالِ، وقِيلَ: مَرَّ مَرًّا سَهْلًا سَرِيعًا، وقالَ الأَصْمَعِيُّ: مَرَّ البَعِيرُ يَتَغَيَّفُ، ولم يُفَسِّرْه، قال شَمِرٌ: مَعْناهُ يُسْرِعُ، قال: وقالَ أَبُو الهَيْثَمِ: التَّغَيُّفُ: أَنْ يَتَثَنَّى ويَتَمايَلَ في شِقَّيْهِ من سَعَةِ الخَطْوِ، ولِينِ السَّيْرِ، وقالَ المُفَضَّلُ: تغَيَّفَ: اخْتالَ في مِشْيَتِه.
وَأَغْيَفَت الشَّجرةُ أَغْيافًا: تَغَيَّفَتْ.
وَشَجَرَةٌ غَيْفاءُ، وشَجَرٌ أَغْيَفُ، وغَيْفانِيٌّ: يَمْؤودٌ، قال رُؤْبَةُ:
وهَدَبٌ أَغْيَفُ غَيْفانِيُّ
وَتَغَيَّفَ عَنِ الأَمْرِ، وغَيَّفَ: نَكَلَ، الأَخِيرَةُ عن ثَعْلَبٍ.
وَغَيْفانُ: موضعٌ.
وَالغافُ: موضِعٌ بعُمان.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
271-تاج العروس (قطف)
[قطف]: قَطَفَ العِنَبَ يَقْطِفُه: جَنَاه قال شيخُنا: ظاهرُه أو صَرِيحُه أَنّه خاصٌّ بالعِنَبِ، ومثلُه في المُغْرِبِ وَالمِصْباحِ والصِّحاحِ وغيرِها، وفي كَلامِ صَدْرِ الشَّرِيعةِ.أَنّه جَنْيُ الثَّمَرِ من الأَشْجارِ. قلتُ: وفي التَّهذِيب: القَطْفُ: قَطْفُكَ العِنَبَ [وغيرَهُ]، وكلُّ شيْءٍ تَقْطِفُه عن شيءٍ فقد قَطَفْتَه حَتَّى الجَراد تَقْطِفُ رُؤُوسَها. ثمّ الّذِي يَظْهرُ من سِياقِ عِبارَةِ هَؤُلاءِ أنَّ مصدرَ قَطَفَ العِنَبَ القَطْفُ لا غيرُ، والذي في المُحْكَم أنَّ قَطَفَ الشَّيْءَ بمعنَى قَطَعَه مصْدَرُه القَطْفُ، والقَطَفانُ، والقَطافُ، والقِطافُ عن اللِّحْيانِيّ، ثم نَقَل شيخُنَا عن البَيْضاوِيّ في تفسيرِ قوله تَعالى: {قُطُوفُها دانِيَةٌ} ما نَصُّه: القَطْفُ: هو الاجْتِناءُ بسُرْعةٍ، وقالَ الشِّهابُ: إِنَّه لا بُدَّ فيهِ من السُّرْعَةِ، لأَنّها شَأْنُه، ومثلُه في كُتُبِ الأَفْعالِ وغيرِها، قال: ثُمَّ ظاهِرُ كلام المُصَنِّفِ أَيضًا ـ بل صَرِيحُه ـ أنَّ الفعلَ منه كضَرَب، وهو الأَكْثَرُ، وفي المِصباحِ أَنّه يُقالُ من بابَيْ ضرَبَ وقَتَلَ، فتَأَمَّلْ. قلتُ: وسَيَأْتِي للمُصَنِّفِ قريبًا أنَّ الَّذِي من البابَيْنِ هو قُطُوفُ الدَّابَّةِ، فتَأمَّلْ ذلِكَ.
كَقطَّفَه تَقْطِيفًا، وهو مُبالَغَةٌ في القَطْفِ، نَقَلَه الصّاغانيُّ، وَأَنشدَ للعَجّاجِ:
كأَنَّ ذا فَدّامَةٍ مُنَطَّفَا *** قَطَّفَ من أَعْنابِهِ ما قَطَّفَا
وقَطَفَت الدَّابَّةُ: ضاقَ مَشْيُها وقِيلَ: أَساءَت السَّيْرَ وَأَبْطَأَت، وفَسَّره بعضُهم بتَقارُبِ خَطْوِها.
وَأَسْرَعَتْ تَقْطُفُ بالضَّمِّ وتَقْطِفُ بالكسرِ قِطافًا بالكسرِ وقُطُوفًا بالضَّمِّ.
أَو القِطافُ بالكسر: الاسْمُ كما في الصِّحاح، وجمع القِطاف القُطُفُ وأَنشدَ الجَوْهَرِيُّ لزُهَيْرٍ:
بآرِزَةِ الفَقارَةِ لَم يَخُنْها *** قِطافٌ في الرِّكابِ ولا خِلاءُ
ودابَّةٌ قَطُوفٌ: بَطِيءٌ، وقالَ أَبو زَيْدٍ: هو الضَّيِّقُ المَشْيِ، وفي التَّهْذِيبِ: القِطافُ: مَصْدَرُ القَطُوفِ من الدّوابِّ، وهو المُتَقارِبُ الخَطْوِ، البَطِيءُ، وفَرَسٌ قَطُوفٌ: يَقْطِفُ في عَدْوِه، وفي حَدِيثِ جابِرٍ: «فبيْنا أَنَا على جَمَلِي أَسِيرُ، وكَانَ جَمَلِي فيه قِطافٌ» وفي رِوايَةٍ: «على جَمَلٍ لِي قَطُوفٍ» وفي حَدِيثٍ آخر: «رَكِبَ على فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ تَقْطِفُ» وفي رِواية: «قَطُوف».
وقَطَفَ فُلانًا: خَدَشَه يَقْطِفُه قَطْفًا. كقَطَّفَه تَقْطِيفًا، قال حاتِمٌ:
سلاحُكَ موقِيٌّ فما أَنْتَ ضائِرٌ *** عَدُوًّا ولكن وَجْهَ مَوْلاكَ تَقْطِفُ
وَأَنشَدَ الأَزهَرِيُّ:
وَهُنَّ إذا أَبْصَرْنهُ متَبَذِّلًا *** خَمَشْنَ وُجُوهًا حُرَّةً لم تُقَطَّفِ
أي: لم تُخْدَشْ. وبه قُطُوفٌ: خُدُوشٌ حكاه أَبو يُوسُفَ عن أَبِي عَمْرٍو، والواحِدُ قَطْفٌ، كما في الصِّحاح.
والقِطْفُ، بالكسرِ: العُنْقُودُ ساعةَ يُقْطَفُ، قال الجَوْهَرِيُّ: وبجَمْعِه جاءَ القُرآن: {قُطُوفُها دانِيَةٌ}.
وقال اللَّيْثُ: القِطْفُ: اسمٌ للثِّمارِ المَقْطُوفَةِ ومَعْنَى الآية: أيْ ثِمارُها دانِيَةٌ من مُتناوِلِها، لا يَمْنَعُها بُعْدٌ ولا شَوْكٌ، وفي الحَدِيثِ: «يَجْتَمِعُ النَّفَرُ على القِطْفِ فيُشْبِعُهم».
وَفي النِّهاية: القِطْفُ، بالكَسْرِ: اسمٌ لكلِّ ما يُقْطَفُ كالذِّبْحِ وَالطِّحْنِ، ويُجْمَع على قِطافٍ وقُطُوفٍ، وأَكثرُ المُحدِّثِين يَرْوُونه بفتحِ القاف، وإِنّما هو بالكسرِ.
والقِطْفَةُ بهاءٍ: بقْلَةٌ رِبْعِيَّةٌ من السُّطّاحِ تَسْلَنْطِحُ وَتَطُولُ، شائِكَةٌ كالحَسَكِ، جَوْفُها أَحْمَرُ، ووَرقُها أَغْبَرُ قال أَبو حَنِيفَة: وهذا عَن الأَعْرابِ القُدَماءِ، وقالَ غيرُهُم من الرُّواةِ: القِطْفُ: يُشْبِه الحَسَكَ، والقَوْلانِ مُتَّفِقان.
والقَطَفُ، مُحَرَّكَةً، وكذا القَطَفَةُ بهاءٍ: الأَثَرُ نَقَلَه الصّاغانِيُّ.
والقَطَفُ: بَقْلَةٌ من أَحْرارِ البُقُولِ، وهو الَّذِي يُقالُ لها بالفَارِسِيّة: السَّرْمَقُ وعِبارَةُ الصِّحاح: القَطْفُ: نَباتٌ رَخْصٌ عَرِيضُ الوَرَقِ يُطْبَخُ، الواحِدَةُ قَطْفةٌ، يُقال له بالفارسِيَّة: سَرْنَكْ، قال ابنُ بَرِّيّ: كذا ذَكَر الجَوْهَريُّ القَطْفَ بالتسكين، وصوابُه القَطَفُ، بفَتْح الطاءِ، الواحِدَةُ قَطَفَةٌ، وبه سُمِّيَ الرَّجُلُ قَطْفَةَ.
وقال أَبو حَنِيفَةَ: القَطَفُ: شَجرٌ جَبَلِيٌّ بقَدْرِ الإِجّاصِ وَورَقتُه خَضْراءُ مُعْرَضَّةٌ، حَمْراءُ الأَطراف خَشْناءُ، وخَشَبُهُ صُلْبٌ مَتِينٌ، يُتَّخَذُ منه الأَصْناقُ، أيْ: الحَلَقُ التي تُجْعَلُ في أَطْرافِ الأَرْوِيَةِ قال: أَخْبَرنِي بذلِك كُلِّه أَعْرابِيٌّ، وَأَنْشَدَ:
أَمِرَّة اللِّيفِ وأَصْناق القَطَفْ
وقَولُه: بهِ قُطوفٌ: خُدُوشٌ، الواحِدُ قَطْفٌ هكَذا في سائِرِ النُّسَخِ، وهو مُكَرَّرٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لذلِك.
والقَطَافُ، كسَحابٍ وكِتابٍ: وَقْتُ القَطْفِ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وفي التَّهْذِيب: القِطافُ: اسمُ وقتِ القَطْفِ، وَقالَ الحَجّاجُ على المِنْبَرِ: «أَرَى رُؤُوسًا قد أَيْنَعَتْ وحانَ قِطافُها» قال: والقَطافُ، بالفتحِ: جائزٌ عندَ الكِسائِيِّ أَيضًا، قال: ويَجوزُ أَيضًا أَن يكونَ القِطافُ مَصْدَرًا.
والقَطُوفُ كصَبُورٍ: فَرَسٌ جابِر هكَذا في النُّسَخ، وَصوابُه جَبّار بن مالِكِ بن حِمارٍ الشَّمْخِيِّ قال نَجَبَةُ بنُ رَبِيعةَ الفَزارِيُّ:
لم أَنْسَ جَبّارًا ومَوْقِفَه الَّذِي *** وَقَفَ القَطُوفُ، وكانَ نِعْمَ المَوْقِفُ
وفي المَثَلِ: «أَقْطَفُ مِنْ ذَرَّةٍ» و«أَقْطَفُ من حَلَمَةٍ» و«أَقْطَفُ من أَرْنَبٍ» فالأَوَّلُ والثّانِي من القَطْفِ، وهو الأَخْذُ بسُرْعَة، والثالِثُ من قِطافِ الدّابَّةِ.
والقَطِيفَةُ: دِثارٌ مُخَمَّلٌ كما في الصِّحاح، وهي القَرْطَفَة، وقالَ بَعْضُهم: هي كِساءٌ مُرَبَّعٌ غَلِيظٌ له خَمْلٌ وَوَبَرٌ، وفي الحَدِيث: «تَعِسَ عبْدُ القَطِيفَةِ» قال ابنُ الأَثِير: أي الَّذِي يَعْمَلُ لها، ويَهْتَمُّ لتَحْصِيلِها ج: قَطائِفُ، وقُطُفٌ بضمتين مثل: صحِيفَةٍ وصُحُفٍ، كأَنَّها جمعُ قَطِيفٍ وَصَحِيفٍ، قال ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ ظَلِيمًا:
هَجَنَّعٌ راحَ في سَوْداءَ مُخْمَلَةٍ *** من القَطائِفِ أَعْلَى ثَوْبِه الهُدَبُ
والقَطِيفَةُ: قرية، دُونَ ثَنِيَّةِ العُقابِ لمَنْ طَلبَ دِمَشْقَ في طَرَفِ البَرِّيَّةِ من ناحِيَةِ حِمْصَ نَقَلَه الصّاغانيُّ.
وأَبُو قَطِيفَةَ: شاعِرٌ من بَنِي أُمَيَّةَ، وهو عَمْرُو بنُ الوَلِيدِ بن عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وله قِصَّةٌ غَريبَةٌ ذَكَرَها ياقُوت في مُعْجَمِه في «برام».
وأَمّا القَطائِفُ المَأْكُولَةُ فإِنَّها لا تعْرِفُها العَرَبُ، أَو قِيلَ لها ذلِكَ لِما عَلَيْها من نَحْوِ خَمْلِ القَطائِفِ المَلْبُوسَةِ وفي التَّهذِيب: القَطائِفُ: طَعامٌ يُسَوَّى من الدَّقِيق المُرَقِّ بالماءِ، شُبِّهَتْ بخَمْلِ القَطائِفِ التي تُفْتَرَشُ.
والقَطائِفُ: تَمْرٌ صُهْبٌ مُتَضَمِّرةٌ نَقَله الصّاغانِيُّ.
والقَطِيفُ، كشَرِيفٍ: د، بالبَحْرَيْن يُذْكَر مع الحِساءِ.
وقَطافِ، كقَطامِ: الأَمَةُ نقَلَه الصّاغانِيُّ.
والقُطافَةُ، ككُنَاسَةٍ: ما يَسْقُطُ من العِنَب إذا قُطِفَ كالجُرامَةِ من التَّمْرِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وأَقْطَفَ الرَّجُلُ: صارَ لَه دابَّةٌ قَطُوفٌ قال ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ جُنْدبًا:
كأَنَّ رِجْلَيْهِ رِجْلًا مُقْطِفٍ عَجِلٍ *** إذا تَجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ
وأَقْطَفَ الكَرْمُ: دَنا قِطافُه.
وَأَقْطَفَ القومُ: حانَ قِطافُ كُرُومِهم كما في الصِّحاح.
والمُقَطَّفَةُ، كمُعَظَّمَةٍ: الرَّجُلُ القَصِيرُ نَقَلَه الصّاغانيُّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
المِقْطَفُ، كمِنْبَرٍ: المِنْجَلُ الذي يُقْطَفُ به.
وَأَيْضًا: أَصْلُ العُنْقُودِ.
وَالقَطِيفُ، كأَمِيرٍ: المَقْطُوفُ من التَّمْرِ، فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ. والقَطْفُ في الوافِرِ: حَذْفُ حَرْفَيْن مِن آخِر الجُزْءِ، وَتسكينُ ما قَبْلَهُما، كحَذفِكَ «تن» من مُفاعَلَتُنْ، وتَسْكِين اللّام، فيبقى مُفَاعَلْ، فيُنْقَلُ في التَّقْطِيع الى «فعَوُلُنْ، ولا يكونُ إلّا في عَرُوضٍ أو ضَرْبٍ، وليس هذا بحادِثٍ للزِّحافِ، إِنّما هو المُسْتَعْمَلُ في عَرُوضِ الوافرِ وضَرْبِه، وَإِنَّما سُمِّيَ مَقْطُوفًا؛ لأَنَّك قَطَفْتَ الحَرْفَيْنِ ومعهُما حرَكة قبلَهُما، فصارَ نحوَ الثَّمَرَةِ التي تَقْطِفُها فيَعْلَقُ بها شَيْءٌ من الشَّجَرةِ.
وَقَطُفَت الدّابَّةُ ككَرُمَ، فهي قَطُوفٌ، مثل قَطَفَتْ، وقد يُسْتَعْمَلُ القَطُوف في الإِنسانِ، أَنشد ابنُ الأَعرابِيِّ:
أَمْسَى غُلامِي كَسِلًا قَطُوفًا *** مُوَصَّبًا تَحْسَبُه مَجُوفَا
وَالقَطْفُ: ضَرْبٌ من مَشْيِ الخَيْلِ، وفي الحَدِيثِ: «أَقْطَفُ القَوْمِ دابَّةً أَمِيرُهُمْ» أي أَنَّهُم يَسِيرُون بسيرِ دابَّتِه، فيَتِّبِعُونَه كما يُتَّبَعُ الأَميرُ.
وَقَطَّفَ الماءَ في الخَمْرِ: قَطَّرَه، قال جِرانُ العَوْدِ:
وَنِلْنا سُقاطًا من حَدِيثٍ كأَنَّه *** جَنَى النَّحْلِ في أَبْكارِ عُوذٍ تُقَطَّفُ
قال شَيْخُنا: وكانُوا يُسَمُّونَ الشَّمْسَ قَطِيفَةَ المَساكِين، وَمنه قولهم:
يا شَمْسُ يا قَطِيفَةَ المَساكِينْ *** قَرَّبَكِ الله مَتَى تَعُودِينْ
كذا في «مُنْتَخَبِ رَبيعِ الأَبْرارِ».
وَقد سمَّوْا قَطَفَة، مُحَرَّكَةً، نَقَلَه ابنُ برِّيّ.
وَالمَقْطَفُ، كمَقْعَدٍ: ما يُجْنَى فيه الثَّمَرُ، والجَمْعُ مَقاطِفُ.
وَالقَطْفُ: العَسَلُ ساعةَ يُجْنى عامِّيّةً.
وَأَبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عُمَرَ الحَلاوِي القَطائِفيّ، حَدَّثَ عن الجَوْهَرِيّ، مات سنة 519.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
272-تاج العروس (كوف)
[كوف]: الكُوفَةُ، بالضَّمِّ: الرَّمْلَةُ الحمْراءُ المُجْتَمِعةُ، وَقِيلَ: المُسْتَدِيرةُ، أو كلُّ رَمْلَةٍ تُخالِطُها حصْباءُ أَو الرَّمْلَة ما كانَتْ.والكُوفَةُ: مَدِينَةُ العِراقِ الكُبْرى، وَهي قُبَّةُ الإِسْلام، ودارُ هِجْرَةِ المُسْلِمِينَ، قيل: مَصَّرَها سعْدُ بنُ أَبِي وقّاصٍ، وَكانَ قبل ذلِك مَنْزَلَ نُوحٍ عليهالسلام، وبَنَى مَسْجِدَها الأَعْظَم، واخْتُلِفَ في سبَب تَسْمِتِها، فقِيلَ: سُمِّي هكَذا في النُّسخ، وصوابُه سُمِّيَتْ لاسْتِدارتِها، وقِيل: بسبَب اجْتِماعِ النّاسِ بِها وقِيلَ: لكَوْنِها كانَتْ رَمْلَةً حمْراءَ، أَو لاخْتِلاطِ تُرابِها بالحَصَى، قاله النَّوَوِيُّ، قال الصّاغانِيُّ: وَورَدَتْ رامةُ بِنْتُ الحُصَيْن بنِ مُنْقِذِ بنِ الطَّمّاحِ الكُوفَةَ فاسْتَوْبلَتْها، فقالَتْ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** وَبيْنِي وبيْنَ الكُوفَةِ النَّهَرانِ
فإِنْ يُنْجِنِي مِنْها الَّذِي ساقَنِي لَها *** فلا بُدَّ من غِمْرٍ، ومِن شَنَآنِ
ويُقال: لَها أَيْضًا كُوفانُ بالضمِّ، نقله النّوَوِيُّ في شرحِ مُسْلِمٍ عن أَبي بَكْرٍ الحازمِيِّ الحافِظِ، وغيرِه، واقْتَصرُوا على الضَّمِّ، قال أَبو نُواس:
ذَهَبَتْ بنا كُوفانُ مذْهَبَها *** وَعَدِمْتُ عن ظُرَفائِها خَيْرِي
وَقالَ اللِّحْيانِيُّ: كُوفانُ: اسمٌ للكُوفَةِ، وبها كانَتْ تُدْعى قبلُ، وقال الكِسائِيُّ: كانَت الكُوفَةُ تُدْعَى كُوفانَ. قولُه: ويُفْتَحُ إِنما نَقَل ذلكَ عن ابنِ عبّادٍ في قولِهم: إِنَّه لَفي كَوْفانٍ، كما سيأْتِي، ويُقالُ لها أَيضًا: كُوفَةُ الجُنْدِ؛ لأَنّه اخْتُطَّتْ فيها خِطَطُ العربِ أَيّامَ عُثْمانَ رضي الله عنه، وفي العُباب، أَيامَ عُمَرَ رضي الله عنه خَطَّطَها أي: تَولَّى تَخْطِيطَها السّائِبُ بنُ الأَقْرَع بنِ عوْفٍ الثَّقَفيُّ رضي الله عنه، وهو الذي شَهد فتحَ نَهاوَنْدَ مع النُّعْمانِ بنِ مُقَرِّنٍ، وَقد ولِيَ أَصْبهانَ أَيضًا، وبها ماتَ، وعَقِبُه بها، ومنه قَوْلُ عَبْدةَ بنِ الطَّبِيبِ العَبْشَمِيّ:
إِنّ التِي ضَرَبَتْ بيْتًا مُهاجرةً *** بكُوفَةِ الجُنْدِ غالَتْ وُدَّها غُولُ
أَو سُمِّيَتْ بِكُوفانَ، وهو جُبَيْلٌ صَغِيرٌ، فسَهَّلُوهُ واخْتَطُّوا علَيْهِ وقد تقَدَّم ذلِكَ عن اللِّحْيانِيِّ والكِسائِيِّ، أَو مِنَ الكَيْفِ وَهو القَطْعُ، لأَنَّ أَبْرَوِيزَ أَقْطَعَه لبَهْرامَ، أو لأَنَّها قِطْعَةٌ من البلادِ، والأَصلُ كُيْفَة، فلمّا سَكَنَت الياءُ وانْضَمَّ ما قَبْلَها جُعِلَتْ واوًا، أَو هي من قَوْلِهم: هُمْ في كُوفانٍ، بالضّمِّ وَيُفْتَحُ وهذه عن ابنَ عَبّادٍ، والضَّمُّ عن الأَمَويّ وكَوَّفانٍ، مُحَرَّكَةً مشَدَّدَةَ الواوِ، أي في عِزٍّ ومَنَعَةٍ، أو لأَنَّ جَبَلَ ساتِيدَمَا مُحِيطٌ بِها كالكافِ، أو لأَنَّ سَعْدًا أي ابنَ أَبي وقّاصٍ ـ رضي الله عنه ـ لَمّا أَراد أَنّ يبْنِيَ الكُوفَةَ ارْتادَ هذِه المَنْزِلَةَ للمُسْلِمِينَ، قال لَهُم: تَكَوَّفُوا في هذا المَكانِ، أي: اجْتَمِعُوا فيه، أَو لأَنَّه قالَ: كَوِّفُوا هذِه الرَّمْلَةَ: أي نَحُّوها وانْزِلُوا، وهذا قولُ المُفَضَّلِ، نقله ابنُ سِيدَه.
قال ياقُوت، ولمّا بَنَى عُبَيْدُ الله بْنُ زِيادٍ مَسْجِدَ الكُوفَةِ صَعَد المِنْبَرَ، وقالَ: يا أَهْلَ الكُوفَةِ، إِنِّي قد بَنَيْتُ لكُمْ مَسْجِدًا لم يُبْنَ على وَجْهِ الأَرضِ مِثْلُه، وقد أنْفَقْتُ على كُلِّ أُسْطوانَةٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مائةً، ولا يهدِمه إِلا باغٍ أَو حاسِدٌ، ورُوِيَ عن بِشْرِ بن عَبْدِ الوَهّابِ القُرَشِيِّ مَوْلَى بنِي أُمَيَّة، وكان يَنْزِلُ دِمَشْقَ، وذَكَر أَنَّه قَدَّر الكُوفَةَ، فكانَتْ سِتَّةَ عَشَرَ مِيلًا وثُلُثَيْ مِيلٍ، وذَكَر أنَّ فِيها خَمْسِينَ أَلْفَ دارٍ للعَرَبِ من رَبيعَةَ ومُضَرَ، وأَرْبَعةً وعِشْرِينَ أَلْفَ دارٍ لسائِر العَرَبِ، وستّةً ومُضَرَ، وأَرْبَعةً وعِشْرِينَ أَلْفَ دارٍ لسائِر العَرَبِ، وستّةً وثَلاثِينَ أَلفَ دارٍ لليَمَنِ. والحَسْناءُ لا تَخْلُو من ذامٍّ، قال النِّجاشِيُّ يَهْجُو أَهلَها:
إذا سَقَى الله قَوْمًا صَوْبَ غادِيَةٍ *** فلا سَقَى الله أَهْلَ الكُوفَةِ المَطَرَا
التّارِكِينَ على طُهْرٍ نَساءَهُمُ *** وَالنائِكِين بشَطَّيْ دِجْلَةَ البَقَرَا
وَالسّارِقِينَ إذا ما جَنَّ لَيْلُهُمُ *** وَالدّارِسِينَ إذا ما أَصْبَحُوا السُّوَرَا
وَالمَسافَةُ ما بينَ الكُوفَةِ والمَدِينَةِ نحوُ عِشْرِينَ مَرْحَلَةً.
وكُوَيْفَةُ كجُهَيْنَةَ: موضع، بقُرْبِها أي الكُوفَة، ويُضافُ لابنِ عُمَرَ، لأَنَّه نزَلَها وهو عبدُ الله بنُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، هكَذا ذكره الصّاغانيُّ، والصوابُ ما في اللِّسانِ، يقال له: كُوَيْفَةُ عَمْرٍو، وهو عَمْرُو بنُ قَيْسٍ من الأَزْدِ، كان أَبْرَوِيزُ لمّا انْهَزَمَ من بَهْرام جُورَ نَزَل به، فَقَراهُ، فلما رَجَع إلى مُلْكِه أَقْطَعَه ذلِك المَوْضِعَ.
وكُوفَى، كطُوبَى: د، بِباذَغِيسَ، قُرْبَ هَراةَ نَقَله الصّاغانِيُّ.
والكُوفانُ بالضمِّ ويُفْتَحُ عن ابنِ عَبّادٍ والكَوَّفانُ، وَالكُوَّفانُ، كهَيَّبان، وجُلَّسانٍ. الرَّمْلَةُ المُسْتَدِيرَةُ وهو أَحَدُ أَوْجُهِ تَسْمِيَةِ الكوفَةِ كُوفَةَ، كما تقَدَّم.
والكوفانُ: الأَمْرُ المُسْتَدِيرُ يُقالُ: تُرِكَ القَوْمُ في كُوفانٍ، نَقَلَه الجَوْهَريُّ.
والكوفانُ: العَناءُ والمَشَقَّةُ، وبه فُسِّرَ أَيْضًا قولُهُم: تَرَكْتُهم في كوفانٍ، كما في الصِّحاحِ: أي عَناءٍ ومَشَقَّةٍ وَدَوَرانٍ، وأَنشَدَ اللَّيْثُ:
فلا أُضْحِي ولا أَمْسَيْتُ إِلّا *** وَإِنِّي منكُمُ في كَوَّفانِ
وقال الأُمَوِيُّ: الكُوفانُ، بالضمِّ: العِزُّ والمَنَعَةُ، ومنه قولُهم: إِنَّه لفي كُوفانٍ، وفتَحَ ابنُ عَبّادٍ الكافَ، وفي اللِّسانِ: إِنَّه لَفي كُوفانٍ من ذلِك: أي حِرْزٍ ومَنَعَةٍ.
والكُوفانُ: الدَّغَلُ من القَصَبِ والخَشَبِ نَقَله الصّاغانِيُّ، وفي اللِّسانِ بَيْنَ القَصَبِ والخَشَبِ، ويُقال: ظَلُّوا في كُوفانٍ: أي في عَصْفٍ كَعَصْفِ الرِّيحِ والشَّجَرةِ أَو في اخْتِلاطٍ وشَرٍّ شَدِيدٍ أَو في حَيْرَةٍ، أَو في مَكْرُوهٍ، أَو في أَمْرٍ شَدِيدٍ كلُّ ذلِك أَقوالٌ ساقَها الصّاغانِيُّ.
ويُقال: لَيْسَت به كُوفَةٌ ولا تُوفَةٌ: أي عَيْبٌ نقَلَه الصّاغانِيُّ، وهو مثل المَزْرِيَة، وقد تافَ وكافَ.
وكافَ الأَدِيمَ يَكُوفُه كَوْفًا: كَفَّ جَوانِبَه.
والكافُ: حَرْف يذَكَّر ويُؤَنَثُ، وكذلك سائِرُ حُروفِ الهِجاءِ، قال الرّاعِي:
أَشاقَتْكَ أَطْلالٌ تَعَفَّتْ رُسُومُها *** كما بَيَّنَتْ كافٌ تَلُوحُ ومِيمُها
وَأَلِفُ الكافِ واوٌ، وهي من حُرُوف ال جَرِّ تكون: أَصْلًا، وَبَدَلًا، وزائدًا، وتكونُ اسْمًا، فإِذا كانت اسمًا ابْتُدِئَ بها، فقِيلَ: كزَيدٍ جاءَنِي، يريدُ: مِثْل زَيْدٍ جاءَنِي.
وتَكُونُ للتَّشْبِيهِ مثل: زَيْدٌ كالأَسَدِ.
وتكونُ للتَّعْلِيل عند قَوْمٍ، ومنه قولُه تَعالَى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا: أي، لأَجْلِ إِرْسالِي، وقولُه تَعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي لأَجْلِ هِدايتِه لَكُم.
وتَكُونُ أَيضًا للاسْتِعْلاءِ قال الأَخْفَشُ: وذلِك مثلُ قَوْلِهم: كُنْ كَما أَنْتَ علَيْهِ أي: على ما أَنْتَ عَلَيهِ.
وكَخَيْرٍ، في جوابِ ما إذا قِيلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ أَو كَيْفَ أَصْبحْتَ؟ فالكافُ هُنا في معنَى علَى، قال ابنُ جِنِّي: وقد يجُوزُ أَنْ تكونَ في معْنَى الباءِ، أي: بخَيْرٍ.
وتكونُ للمُبادرةِ: إذا اتَّصلَتْ بِما، نحو: سلِّمْ كَما تَدْخُلُ، وصلِّ كَما يَدْخُلُ الوَقْتُ.
وَقد تَقَعُ موقعَ الاسمِ، فيدْخُلُ عليها حرفُ الجرِّ، كما قال امْرُؤُ القَيْسِ يصِفُ فَرسًا:
وَرُحْنَا بكَابْنِ الماءِ يُجْنَبُ وَسْطَنا *** تَصوَّبُ فيهِ العيْنُ طَوْرًا وتَرْتَقِي
وقد تَكُونُ للتَّوْكِيدِ، وهي الزَّائِدةُ بمنزلةِ الباءِ ـ في خَبِر لَيْس، وفي خَبر ما ـ ومِنْ، وغَيْرِها من الحروفِ الجارَّةِ، نحو قولِه عزّ وجلّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَتَفْسِيرُه ـ والله أَعلَمُ: ـ ليس مِثْلَه شيْءٌ، ولا بُدَّ من اعتِقادِ زيادةِ الكافِ، ليصحَّ المَعْنَى؛ لأَنَّكَ إِن لم تَعْتَقِد ذلِك أَثْبتَّ له عزَّ اسمُه مِثْلًا، وزَعَمْتَ أَنّه لَيْس كالَّذِي هُو مِثله شيءٌ، فيفْسُدُ هذا من وجْهيْنِ: أَحدُهما: ما فِيه من أَثْباتِ المِثْلِ لمَنْ لا مِثْلَ له، عزَّ وَعلَا علُوًّا كَبيرًا.
والآخرُ: أنَّ الشَّيْءَ إذا أَثْبتَّ له مِثْلًا فهو مِثْلُ مِثْلِه؛ لأَنَّ الشَّيْءَ إذا ماثَلَهُ شَيْءٌ فهو أَيْضًا مُماثِلٌ لِما ماثَلَه، ولو كانَ ذلِكَ كذلك ـ على فَسادِ اعْتِقادِ مُعْتَقِدِه ـ لما جازَ أَن يُقال: لَيْس كمِثْلهِ شيءٌ؛ لأَنَّه تعالَى مِثْلُ مِثْلِه، وهو شَيْءٌ؛ لأَنَّه تباركَ وتَعالَى قد سَمَّى نَفْسه شَيْئًا بقولِه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
فعُلِم من ذلكَ أنَّ الكافَ في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} لا بُدّ أَنْ تَكُونَ زائِدَةً، ومثلُه قولُ رُؤْبة:
لَواحِقُ الأَقْرابِ فِيها كالمَقَقْ
وَالمَقَقُ: الطُّولُ، ولا يُقال: في هذَا الشَّيْءِ كالطُّولِ، إِنّما يُقال: في هذَا الشيءِ طُولٌ، فكأَنَّه قالَ: فِيها مَقَقٌ: أي طُولٌ.
وَقال شيخُنا في قَوْلِه تَعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} قد أَخْرجها المُحقِّقُونَ عن الزِّيادةِ، وجعلُوها من بابِ الكِنايةِ، كما في شُرُوحِ التَّلْخِيصِ والمِفْتاحِ، والتَّفْسِيرَيْنِ، وَغيرِها.
وتَكُونُ اسْمًا جارًّا مُرادِفًا لِمِثْل، أو لا تَكُونُ إلّا في ضَرُورةٍ، كقَوْلِه:
يضْحكْنَ عَنْ كالْبَرَدِ المُنْهَمِّ
أي: عَن مثل البَرَدِ.
وقد تَكُونُ ضَمِيرًا مَنْصوبًا ومَجْرُورًا، نحو قولِه تَعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ونَصُّ الصِّحاحِ: وَقد تَكُون ضَمِيرًا للمُخاطَبِ المَجْرُورِ والمَنْصُوب، كقولِكَ: غُلامُكَ، وضَرَبَكَ، زاد الصّاغانِيُّ: تُفْتَحُ للمُذَكَّر، وَتُكْسَرُ للمُؤَنَّثِ، للفَرْقِ.
وقد تكونُ حَرْفَ مَعْنًى، لاحِقَةً اسْمَ الإِشارَةِ ونصُّ الصِّحاحِ: وقد تَكُونُ للخِطابِ، ولا موضعَ لها من الإِعْرابِ كَذلِكَ، وتِلْكَ وأُولئكَ، ورُوَيْدَكَ؛ لأَنَّها لَيْسَتْ باسمٍ هُنا، وَإِنَّما هي للخِطاب فقط، تُفْتَحُ للمُذَكَّرِ، وتُكسرُ للمُؤَنَّثِ.
وتكون لاحِقَةً للضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَنْصُوبِ، كإِيّاكَ وَإِيّاكُما.
ولاحِقَةً لبَعْضِ أَسْماءِ الأَفْعالِ، كحَيَّهَلَكَ، ورُوَيْدَكَ، وَالنَّجاكَ.
وتكونُ لاحِقَةً لأَرَأَيْتَ، بمَعْنَى أَخْبِرْنِي، نحو: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ وقد بُسِط معانِي «الكافِ» وَما فِيها كُلُّه في المُغْنِي وشُرُوحِه، وأَوردَ الشيخُ ابنُ مالِكٍ أَكثَرَها في التَّسْهِيل عن اللِّحْيانِيّ.
وتُكافُ، بضَمِّ المُثَنّاةِ الفَوْقِيّة: قرية بجُوزَجانَ، و: قرية أُخْرَى بنَيْسابُورَ.
وَكَوَّفْتُ الأَدِيمَ تَكْوِيفًا: قَطَعْتُه، كَكَيَّفْتُهُ تَكْييفًا.
وكَوَّفْتُ الكافَ: عَمِلْتُها، وكَتَبْتُها.
وتَكَوَّفَ الرَّمْلُ تَكَوُّفًا، وكَوْفانًا بالفَتْحِ: اسْتَدارَ وكذلِك الرَّجُلُ.
وتَكَوَّفَ الرَّجُلُ: تَشَبَّهَ بالكُوفِيِّين، أو انْتَسبَ إِلَيْهم أَو تَعصَّبَ لهُم، وذَهَبَ مَذْهَبَهم.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
كَوَّفَ الشيءَ: نَحّاهُ، وقِيلَ: جَمَعَه.
وَكَوَّفَ القومُ: أَتَوا الكُوفَةَ، قال:
إذا ما رَأَتْ يَوْمًا مِنَ النّاسِ راكِبًا *** يُبَصِّرُ من جِيرانِها ويُكَوِّفُ
وَقالَ يَعْقُوبُ: كَوَّفَ: صارَ إلى الكُوفَةِ.
وَالنّاسُ في كَوْفَى من أَمْرِهِم، كسَكْرى: أي في اختِلاطٍ.
وَجمعُ الكافِ أَكْوابٌ على التَّذْكِيرِ، وكافاتٌ على التَّأْنِيثِ، ومن الأَخِيرِ قَوْلُهم: كافاتُ الشِّتاءِ سَبْعٌ.
وَالكافُ: الرَّجُلُ المُصْلِحُ بينَ القَوْمِ، قال:
خِضَمٌّ إذا ما جِئْتَ تَبْغِي سُيُوبَه *** وَكافٌ إذا ما الحَرْبُ شَبَّ شِهابُها
وَالكافُ: لَقَبُ بعضِهم.
وَالكُوفِيّةُ: ما يُلْبَسُ على الرَّأْسِ، سُمِّيَتْ لاسْتِدارَتِها.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
273-تاج العروس (لحف)
[لحف]: لَحَفَه، كمنَعَهُ: غَطّاهُ باللِّحافِ ونَحْوِه قالَهُ اللَّيْثُ، وقِيلَ: إذا طَرَحَ عَلَيه اللِّحافَ، أو غَطّاهُ بشيءٍ، وَأَنْشَد الجَوْهَرِيُّ لطَرَفَةَ:ثُمَّ راحُوا عَبَقُ المِسْكِ بهِمْ *** يَلْحَفُونَ الأَرْضَ هُدّابَ الأُزُرْ
أي: يُغَطُّونَها، ويُلْبِسُونَها هُدَّابَ أُزُرِهِمْ إذا جَرُّوها في الأَرْضِ.
ولَحَفَه لَحْفًا: لَحِسَه عن ابنِ عَبادٍ، وهو مَجازٌ، ومنه قولُهمُ: أَصابَهُ جُوعٌ يَلْحَفُ الكَبِدَ، ويَلْحَسُ الكَبِدَ، ويَعَضُّ بالشَّراسِيفِ.
والْتَحَفَ بِهِ: إذا تَغَطَّى ومنهالحَدِيثُ: «وهُوَ يُصَلِّي في ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا به، ورِدَاؤُه مَوْضُوعٌ».
واللِّحافُ، ككِتابٍ: اسمُ ما يُلْتَحَفُ بِهِ وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: كلُّ ما تَغَطَّيْتَ بِهِ فهو لِحافٌ، والجَمْعُ لُحُفٌ، كَكُتُبٍ، ومنهالحَدِيث: «كانَ لا يُصَلِّي في شُعُرِنا ولا في لُحُفِنا».
ومن المَجاز امْرَأَةُ الرَّجُلِ: لِحافُه.
واللِّحافُ أَيضًا: اللِّباسُ فوقَ سائِر اللِّباسِ مِنْ دِثارِ البَرْدِ ونَحْوِه.
كالمِلْحَفَةِ والمِلْحَفِ، بكسرِهِما جَمْعُهما مَلاحِفُ.
وَفي اللِّسانِ: المِلْحَفَةُ عندَ العَرَبِ: هي المُلاءَةُ السِّمْطُ، فإِذا بُطِّنَتْ ببِطانَةِ، أو حُشِيَتْ فهي عندَ العَوامِّ مِلْحَفَةٌ، والعَرَبُ لا تَعْرِفُ ذلِكَ.
قُلتُ: وكذا الحالُ في اللِّحاف، قال الأَزْهَريُّ: لِحافٌ وَمِلْحَفٌ بمعنًى واحد، كما يُقال: إِزارٌ ومِئْزَرٌ، وقِرامٌ وَمِقْرَمٌ، وقد يُقالُ: مِقْرَمَةٌ ومِلْحَفَةٌ، وسَواءٌ كان الثَّوْبُ سِمْطًا أو مُبَطَّنًا.
واللَّحِيفُ كأَميرٍ، أو زُبَيْرٍ: فَرَسٌ لرَسُول الله صَلَّى الله تَعالَى عليه وسَلَّمَ سُمِّيَ به لطُول ذَنَبِه، قال أَبو عُبَيْدٍ الهَرَويُّ، هو فَعيلٌ بمَعْنَى فاعل كأَنّه كانَ يَلْحَفُ الأَرْضَ بذَنَبه أَي: يُغَطِّيها به أَهْداه له رَبيعَةُ بنُ أَبي البَراءِ فأَثابَه عليه فَرائِضَ من نَعَمِ بَني كلابٍ، قال شيخُنا: ورَوَى آخَرُونَ أَنّه بالخاءِ المُعْجَمَة، كما يَأْتي للمُصَنِّف، والحاءُ المُهْمَلَةُ غَلَطٌ، وقال آخرونَ بالعكسِ، والصوابُ أَنّه يُقالُ بكُلٍّ منهُما، بل صَحَّحَ قومٌ أَنّهُما فَرَسانِ، أَحَدُهُما بالمهمَلَةِ، والآخرُ بالمُعْجَمَة، وستَأْتي الإِشارَةُ إلى الخِلاف في «لخف».
ولُحِفَ في مالِهِ، كعُنِيَ، لُحْفَةً: إِذا ذَهَبَ منه شَيْءٌ عن ابن عَبّادِ، وهو قولُ اللِّحْيانِيِّ.
واللِّحْفُ، بالكسرِ: أَصْلُ الجَبَلِ.
واللِّحْفُ: صُقْعٌ من نَواحي بَغْدادَ، سُمِّي بذلك لأَنَّه في أَصْلِ جبالِ هَمَذانَ ونَهاوَنْدَ وهو دُونَهُما مما يَلي العراقَ.
ولِحْفٌ: وادٍ بالحجاز علَيْه قَرْيَتان: جَبَلَةُ والسِّتارُ نقَلُه الصّاغانيُّ.
واللِّحْفُ من الاسْت: شِقُّها، وقال ابنُ الفَرَجِ: سَمعْتُ الخَصيبيَّ يَقُول: هُو أَفْلَسُ منْ ضارِبِ قِحْفِ اسْتِه، ومن ضارِب لِحْفِ اسْتِه وهو شِقُّها، قال: لأَنَّه لا يَجِدُ ما يَلْبَسُه، فتَقَعُ يَدُه على شُعَبِ اسْتِه وتقَدَّم مثْلُه في «قحف».
واللِّحْفَةُ بالكسرِ: حالَةُ المُلْتَحِفِ وفي التّهْذِيبِ: يُقال: فلانٌ حَسَنُ اللِّحْفَةِ، وهي الحالَةُ التي يَتَلَحَّفُ بها.
ومن المَجازِ: الإِلْحافُ: شِدَّةُ الإِلْحاحِ في المَسْأَلَةِ وَفي التنزيل: {لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافًا} وقد أَلْحَفَ عليهِ: إذا أَلَحَّ.
وَقال الزّجّاجُ: أَلْحَفَ: شَمِلَ بالمَسْأَلَةِ وهو مُسْتَغْنٍ عنها، وَمنه اشْتُقَّ اللِّحافُ؛ لأَنّه يَشْمَلُ الإِنْسانَ في التَّغْطِيَةِ، قال:
وَمَعْنَى الآيةِ: ليسَ فِيهم سُؤالٌ فيكونُ إِلْحافٌ، كما قال امْرُؤُ القَيْسِ:
على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِه
المَعنَى: ليس بِهِ منارٌ فيُهْتَدَى به.
قال الجَوْهَريُّ: يُقال:
ولَيْسَ للمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ
قال ابنُ بَرِّي: هو قَوْلُ بَشّارِ بنِ بُرْدِ، وأَوّلُه:
الحُرُّ يُلْحَى والعَصَا للعَبْدِ *** ولَيْسَ للمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ
وعن أَبِي عَمْرٍو: أَلْحَفَ بِهِ وأَعَلَّ به: إذا أَضَرَّ بهِ.
ومن المَجازِ: أَلْحَفَ الرَّجُلُ ظُفُرَهُ: إذا اسْتَأْصَلَه بالمِقَصِّ، وكذلِكَ أَحْفاهُ، نَقَلَه ابنُ عَبّادٍ، زادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجوزُ كونُ إِلْحافِ السائِل منه.
وأَلْحَفَ الرَّجُلُ: مَشَى في لِحْفِ الجَبَلِ.
وأَلْحَفَ: إذا جَرَّ إِزارَه عَلَى الأَرْضِ خُيَلاءَ وبَطَرًا، وبه فَسَّرَ الكِسائِيُّ بيتَ طَرَفَةَ السابِقَ كَلَحَّفَ تَلْحِيفًا كأَنَّه غَطَّى الأَرْضَ بما يَجُرُّه من إِزارِه.
ولاحَفَه مُلاحَفَةً: كانَفَهُ ولازَمَهُ وهو مَجازٌ.
وتَلَحَّفَ: اتَّخَذَ لِنَفْسِه لِحافًا نقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
وَقِيلَ: تَلَحَّفَ به: إذا تَغَطَّى به.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
لَحَفَه لِحافًا: أَلْبَسه إِيّاه.
وَأَلْحَفَه إِيّاه: جَعَلَه له لِحافًا.
وَأَلْحَفَه: اشْتَرَى له لِحافًا، حكاهُ اللِّحْيانِيّ عن الكِسائِيّ.
وَالْتَحَفَ الْتِحافًا: اتَّخَذ لنَفْسِهِ لِحافًا.
وَلَحَفَ باللِّحافِ لَحْفًا: تَغَطَّى بِهِ، لُغَيَّةٌ.
وَتَقولُ: فلانٌ يُضاجِعُ السَّيْفَ ويُلاحِفُه.
وَالْتَحَفَت الدَّابَّةُ بالسِّمَنِ، ولُحِفَتْ وهو مَجازٌ.
وَيُقال: لَحَفَنِي فَضْلَ لِحافِه: أي أَعْطانِي فَضْلَ عَطَائِه، قال الأَزْهَرِيُّ: أَخْبَرَنِي المُنْذِرِيُّ عن الحَرّانِيِّ عن ابنِ السِّكِّيتِ أَنّه أَنشَدَه لجَرِيرٍ:
كَمْ قَدْ نَزَلْتُ بكُم ضَيْفًا فتَلْحَفُنِي *** فَضْلَ اللِّحافِ، ونِعْمَ الفَضْلُ يُلْتَحَفُ
قال: أَرادَ أَنَلْتَنِي مَعْروفَكَ وفَضْلَكَ، وزَوَّدْتَنِي، وهو مَجازٌ.
قال: وأَلْحَفَ الرَّجُلُ ضَيْفَه: إذا آثَرَهُ بفِراشِه ولِحافِه في شِدَّةِ البَرْدِ والثَّلْجِ.
وَأَلْحَفَ شارِبه: بالَغَ في قَصِّه، كأَحْفاه، وهو مَجاز.
وَلَحَفْتُه سَهْمًا: أَصَبْتُه به.
وَلَحَفَه بجُمْعِ كَفِّه: ضَرَبَه.
وَلَحَفْتُه بنارِ الحَطَبِ: أَلْقَيْتُه بها، وكلُّ ذلِك مَجازٌ.
وَلحافٌ، ككِتابٍ: اسمُ فَرَسِه صلى الله عليه وسلم، كما في اللِّسانِ.
وَلَحَفْتُ عنه اللَّحْمَ: سَحَوْتُه، كأَنَّه كانَ لِحافًا لَه فكَشَفْتُه عنه، وهو مَجازٌ.
وَلُحِفَ القَمَرُ، كعُنِي: امْتَحَقَ، كما في الأساسِ.
وَفي اللِّسانِ: إذا جاوَزَ النِّصْفَ، فنَقَصَ ضَوْءُه عمّا كانَ عَلَيْهِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
274-تاج العروس (وكف)
[وكف]: الوَكْفُ: النَّطَعُ نقَلَه الجَوهَرِيُّ، وأَنشَدَ لأَبِي ذُؤَيْبٍ:تَدَلَّى عَلَيْها بَيْنَ سِبٍّ وخَيْطَةِ *** بجَرْداءَ مِثْلِ الوَكْفِ يَكْبُو غُرابُها
ووَكَفَ البَيْتُ يَكِفُ، وَكْفًا، ووَكِيفًا وتَوْكافًا: قَطَرَ قال العَجّاجُ:
وانْحَلَبَتْ عَيْناهُ من فَرْطِ الأَسى *** وَكِيفَ غَرْبَيْ دالِجٍ تَبَجَّسَا
كأَوْكَفَ قال الجَوْهَرِيُّ: لغةٌ في وَكَفَ، وكذلك السَّطْحُ.
وناقَةٌ وَكُوفٌ: غَزِيرَةٌ نقَلَه الجَوْهرِيُّ، ومنهالحَدِيثُ: «أَنَّ رَجُلًا جاءَه، فقَالَ: أَخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُ الجَنَّةَ، قال: المِنْحَةُ الوَكُوفُ، والفَيْءُ على ذِي الرَّحِمِ» قال أَبو عُبَيْدٍ: هي الكَثِيرَةُ الدَّرِّ، وكذلِك شاةٌ وَكُوفٌ، وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: الوَكُوفُ، التي لا يَنْقَطِعُ لبَنُها سَنَتَها جَمْعاءَ.
والوَكَفُ، مُحَرَّكَةً: المَيْلُ والجَوْرُ يُقال: إِنّي لأَخْشى وَكَفَ فُلانِ، أي: جَوْرَه.
والوَكَفُ: العَيْبُ يُقالُ: ليسَ عليكَ في هذَا وَكَفٌ، أي: مَنْقَصَةٌ وعَيْبٌ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والوَكَفُ: الإِثْمُ وقَدْ وَكِفَ الرَّجُلُ كوَجِلَ: إذا أَثِمَ، وَأَنشَدَ الجوهريُّ للشّاعِرِ:
والحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ لا *** يأْتِيهِمُ مِنْ ورائِهِمْ وَكَفُ
قلتُ: هو من أَبْياتِ الكِتابِ، أَنشَدَه ابنُ السِّكِّيتِ لعَمْرِو ابنِ امْرئِ القَيْسِ الخَزْرَجيِّ، وهكَذا رواهُ أَبو زَكَريّا التَّبْريزِيُّ أَيضًا، ويُرْوَى لقَيْسِ بنِ الخَطِيم، وقِيلَ: لشُرَيْحِ ابنِ عِمْرانَ القُضاعِيِّ، ورَواه سِيبَوَيْه لرَجُل من الأَنْصارِ، وَالصَّوابُ أَنَّه لمالِك بن عَجْلانَ الخَزْرَجِيِّ، قال ابنُ برِّيّ: وَأَنْكَرَ عليُّ بنُ حَمْزَةَ أَنْ يكونَ الوَكَفُ بمعنى الإِثْمِ، وقالَ: هو بمَعْنَى العَيْب فقط.
والوَكَفُ: سَفْحُ الجَبَلِ وبه فَسَّرَ الجَوْهرِيُّ قولَ العَجّاجِ يصِفُ ثَوْرًا:
غَدا يُبارِي خَرِصًا واسْتَأْنَفَا *** يَعْلُو الدَّكادِيكَ ويَعْلُو وَكَفَا
وَقال ابنُ الأَعْرابِيِّ: الوَكَفُ من الأرْضِ: ما انْهَبَطَ عن المُرْتَفعِ، وقال ثَعْلَبٌ: هو المَكانُ الغَمْضُ في أَصْلِ شَرَفٍ، وقال ابنُ شُمَيْلٍ: الوَكَفُ مِن الأَرْضِ: القِنْعُ يَتَّسِعُ، وهو جَلَدٌ طِينٌ وحَصًى، والجَمْع: أَوْكافٌ.
والوَكَفُ: العَرَقُ نَقَلَه: إِبْراهِيمُ الحَرْبِيُّ في غَرِيبهِ، هكَذا بالعَيْنِ، وأَنْشَدَ:
رَأَيْتُ مُلوكَ النّاسِ عاكِفَةً بهِمْ *** على وَكَفٍ من حُبِّ نَقْدِ الدَّراهِمِ
وعندَ ابنِ فارِسٍ: «الفَرَقُ» بالفاءِ كذا في نُسَخِ المُجْمَلِ، والمَقايِيسِ ولعَلَّه تَصْحِيفٌ.
قال الصّاغانِيُّ: ومُنْحَدَرُكَ من الصَّمّانِ إِذا خَلَّفْتَه يُسَمَّى الوكَفُ لانْهِباطِه، قال جَرِيرٌ:
سارُوا إِلَيْكَ من السَّهْبَى ودُونَهُمُ *** فَيْحانُ، فالحَزْنُ، فالصَّمّانُ، فالوَكَفُ
والوَكَفُ: الفَسادُ والضَّعْفُ يُقال: ليسَ في هَذا الأَمْرِ وَكَفٌ، نقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ، وقالَ غيرُه: أي مَكْرُوهٌ ونَقْصٌ، وَقال ثَعْلَبٌ وابنُ الأَعرابِيِّ: في عَقْلِه ورَأْسِه وَكَفٌ، أي: فَسادٌ. وقال أَبُو عَمْرٍو: الوَكَفُ: الثِّقْلُ والشِّدَّةُ وقال اللَّيْثُ: الوَكَفُ: مِثْلُ الجَناحِ يَكُونُ على كَنِيفِ البَيْتِ أَو الكُنَّة ج: أَوْكافٌ، وفي الحَدِيثِ: «خَيْرُ هَكَذا في النُّسَخِ، والرِّوايَةُ خِيارُ الشُّهَداءِ عِنْدَ الله تَعالَى أَصْحابُ الوَكَفِ قِيلَ: يا رَسُولَ الله: ومَنْ أَصْحابُ الوَكَفِ؟ قال: أي الّذِينِ انْكَفَأَتْ والرِّوايَةُ: تَكَفَّأَتْ عَلَيْهِمْ مَراكِبُهُم في البَحْرِ» وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: المَعْنَى أَن مَرَاكِبَهُم انْقَلَبَتْ بِهِم فصارَتْ فَوْقَهُم مِثْلَ أَوْكافِ البَيْتِ وفي النِّهايَةِ البُيُوتِ، قال شَمِرٌ: هكَذا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأَبِي وأُمِّي.
والوِكافُ، ككِتابٍ وغُرابٍ لُغَتان في الإِكافِ ككِتابٍ وَغُرابٍ بالهَمْزِ، يكونُ للبَعِيرِ والحِمارِ والبَغْلِ، قال يَعْقُوبُ: وَكانَ رُؤْبَةُ يُنْشِدُ:
كالكَوْدَنُ المَشْدُودِ بالوِكافِ
وأَوْكَفَه: أَوْقَعَه في الإِثْم نقَلَه ابْنُ عَبَّادٍ.
ووَكَّفَه تَوْكِيفًا نقَلَه الصّاغانِيُّ وآكفَهَ إِيكافًا وهذه لُغَةُ تَمِيم، نقلها الجَوْهَرِيُّ وأَكَّفَه تَأْكِيفًا وقد ذُكِرَ الأَخيرانِ أَيضًا في «أكف»: وضَعَ عَلَيهِ الإِكافَ ومرَّ له في «أكف» شَدَّهُ عليهِ.
واسْتَوْكَفَ: اسْتَقْطَرَ ومنهالحَدِيثُ: «أَنّه تَوَضَأَ فاسْتَوْكَفَ ثَلاثًا» والمَعْنَى أَنَّهُ اصطَبَّهُ على يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فغَسَلَهما قبلَ إِدْخالِهما الإِناءَ، وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ لحُمَيْدِ بنِ ثَوْرٍ ـ رضي الله عنه ـ يَصِفُ الخَمْرَ:
إذا اسْتَوْكَفَتْ باتَ الغَوِيُّ يَشَمُّها *** كما جَسَّ أَحْشاءَ السَّقِيمِ طَبِيبُ
أَرادَ إذا اسْتَقْطَرَتْ.
وواكَفَهُ في الحَرْبِ. وغَيْرِها مُواكَفَةً: واجَهَهُ، وعارَضَه قال ذُو الرُّمَّةِ:
مَتَى ما يُواكِفْها ابنُ أُنْثَى رَمَتْ بِهِ *** مَعَ الجَيْشِ يَبْغِيها المَغانِمَ تَثْكَلِ
أي: مَتَى ما يُواجِه هذِه الفَرَسَ ابنُ أُنْثَى، أي: رَجُلٌ.
ويُقالُ: هُوَ يَتَوَكَّفُ لَهُم أي: لِعِيالِه وحَشَمِه: إذا كانَ يَتَعهَّدُهُم، ويَنْظُرُ في أُمُورِهِم.
ومن المَجازِ: يُقال: هُو يتَوَكَّفُ الخَبَرَ ويتَوَقَّعُه، وَيَتَسَقَّطُه؛ أي: يَنْتَظِرُ وَكْفَهُ ويَدُلُّ على أَنّه منه ما رَواهُ الأَصْمَعِيُّ من قولِهم: اسْتَقْطَرَ الخَبَرَ، واسْتَوْدَفَه، وفي حَدِيثِ ابنِ عُمَيْرٍ: «أَهْلُ القُبُورِ يَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ» أي: يَنْتَظِرُونَها، ويَسْأَلُون عَنْها، وفي التَّهْذِيبِ: أي يَتَوَقَّعُونَها، فإِذا ماتَ المَيِّتُ سأَلُوه: ما فَعَلَ فُلانٌ؟ وما فَعَلَ فُلانٌ؟ وقال أَبُو عَمْرٍو: هو يَتَوَكَّفُ لِفُلانِ: إذا كانَ يَتَعَرَّضُ له حَتّى يَلْقاهُ قال:
سَرَى مُتَوَكِّفًا عن آل سُعْدَى *** وَلَوْ أَسْرَى بلَيْلٍ قاطِنِينَا
وَتَقُول: ما زِلْتُ أَتَوَكَّفُه حَتّى لَقِيتُه.
وقال ابنُ عَبّادٍ: تَواكَفُوا: انْحَرَفُوا.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
وَكَفَ الماءُ والدَّمْعُ وَكْفًا، ووَكِيفًا وُوكُوفًا، ووَكَفانًا سالَ.
وَوَكَفَتِ العَيْنُ الدَّمْعَ: أَسالَتْه عن اللِّحْيانِيِّ.
وَسَحابٌ وَكُوفٌ: إذا كانَتْ تَسِيلُ قَلِيلًا قَلِيلًا.
وَالواكِفُ: المطَرُ المُنْهلُّ.
وَوكَفَتِ الدَّلْوُ وَكْفًا، ووَكِيفًا: قَطَرَتْ.
وَقِيلَ: الوَكْفُ: المصْدَرُ، والوَكِيفُ: القَطْرُ نفسُه.
وَاسْتَوْكَفَ الشَّيْءَ: اسْتَقْطَرَه.
وَأَوْكَفَت المَرْأَةُ: قارَبَتْ أَنْ تَلِد.
وَالوَكْفُ: بالفتحِ: لُغَةٌ في الوَكَفِ مُحرَّكَةً، بمعنى الفَسادِ، عن ابن دُرَيْدٍ.
وَوكَفَ عن عِلْمِه؛ أي: قَصَّرَ عنه ونَقَصَ، قاله الزَّجّاجُ.
وَقالَتِ الكِلابيَّةُ: يُقالُ: فُلانٌ عَلَى وكَفٍ من حاجَتِه، مُحَرَّكَةً: إذا كانَ لا يَدْرِي عَلَى ما هُوَ مِنْها.
وَتَوكَّفَ الأَثَرَ: تَتَبَّعَهُ.
وجمعُ الوُكافِ وُكُفٌ، بضَمَّتينِ.
وَأَوْكَفَ الدّابَّةَ: لُغَةٌ حِجازيَّةٌ، نقله اللِّحْيانِيُّ.
وَوَكَّفَ وِكافًا: عَمِلَه.
وَوَكَفُ الرِّماءِ، مُحَرَّكَةً: اسمُ جَبَلٍ لهُذَيْلٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
275-تاج العروس (حبق)
[حبق]: الحَبَقُ، مُحرَّكَةً: نَباتٌ طَيِّبُ الرّائِحَةِ حَدِيدُ الطَّعْمِ، ورَقُه كوَرَقِ الخِلافِ، منه سُهْلِيُّ ومنه جَبَلِيٌّ، وليس بمَرْعىً فارسِيَّتُه الفُوتَنْجُ.قلتُ: إِنَّما فارِسِيَّتُه بُودِينَه، قال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعرابيٌّ قال: الحَبَقُ مَجْفَرَةٌ، يُمَرَّغُ عليه الفَرَسُ فيُجْفِرُهُ، ويُجْعَلُ في المِخَدَّةِ فيُوضَعُ تحتَ رَأْسِ الإِنسانِ فيُجْفِرُه، وهو يُشْبِهُ الرَّيْحانَةَ التي تُسَمّى النَّمّام ويَكْثُر نَباتُه على الماءِ. وحَبَقُ الماءِ، وحَبَقُ التِّمْساحِ هو: الفُوتَنْجُ النَّهْرِيُّ لنَباتِه على حافاتِ الأَنْهارِ، ولأَنَّ التِّمْساحَ يأْكُلُ منه كَثِيرًا.
وحَبَقُ الفَتَى، أَو حَبَقُ الفِيل هو المَرْزَنْجُوشُ وقد ذُكِرَ في موضِعِه.
وحَبَقُ الرّاعِي: البَرَنْجاسِفُ وقد أَهملَه المُصَنِّفُ في مَوْضِعِه.
وحَبَقُ البَقَرِ هو: البابُونَجُ.
وحَبَقُ الشُّيُوخ هو: المَرْوُ ويُسَمَّى أَيضًا رَيْحانَ الشُّيُوخ.
والحَبَقُ الصَّعْتَرِيُّ، والحَبَق الكِرْمانِيُّ هو: الشّاهِسْفَرَمُ وهو سُلْطانُ الرّياحِين، ويُعْرَفُ بالرَّيْحانِ المُطْلَق، وهو الذي يُزْرَعُ في البيُوتِ.
والحَبَقُ القَرَنْفُلِيُّ هو: الفَرَنْجَمَشْكُ تفسيرُه: مِسْكُ الإِفْرِنْج.
والحَبَقُ الرَّيْحانِيُّ هو: الَّذِي يُؤْكَلُ من المُقْلِ المَكِّيِّ.
وفاتَه: الحَبَقُ النَّبَطِيُّ، وهو: رَيْحانُ الحُماحِم.
وحَبَق تُرُنْجان، وهو: الباذَرَنْجبُويَه.
والحِبْقُ، بالكَسْرِ هكذا في النُّسَخ، والصَّوابُ بكسر الباءِ، كما في العُباب واللِّسانِ والحُباقُ كالغُرابِ: الضُّراطُ قال خِداشُ بنُ زُهَيْرٍ العامِرِيُّ:
لهم حِبِقٌ والسَّودُ بَيْنِي وبَيْنَهُم *** يُدِيَّ لَكُمْ والعادِياتِ المُحَصَّبا
قال ابنُ بَرِّيّ: السَّوْدُ: اسمُ موضِعٍ ويُدِيّ: جمعُ يَدٍ، مثلُ قولِه:
فإِنّ له عِنْدِي يُدِيًّا وأَنْعُما
وأَضافَها إِلى نَفْسِه، ورواه أَبُو سَهْلٍ الهَرَوِيُّ: «يَدَيَّ لَكُمْ» وقالَ: يُقالُ: يَدَيّ لَكَ أَنْ يَكُونَ كذا، كما تَقُول: عليَّ لكَ أَنْ يكونَ كذا، ورواه الجَرْمِيُّ «يَدِي لَكُمُ» ساكنَة الياءِ، والعاديات مخفوضٌ بواوِ القَسَم.
وأَكْثَرُ اسْتِعمالِه في الإِبِلِ والغَنَمِ وقالَ اللَّيْثُ: الحَبْقُ: ضُراطُ المَعِزِ وقَدْ حَبَقَ يَحْبِقُ حَبْقًا بالفَتْحِ وحَبِقًا، ككَتِفٍ، وغُرابٍ لفظُ الاسْمِ ولفظُ المَصْدَرِ فيه سَواءٌ، وقد يُسْتَعمَلُ في الناسِ، وأَفْعالُ الضَّرْطِ كَثِيرًا ما تَجِيءُ مُتَعَدِّيةً بحرفٍ، كقَوْلِهمْ: عَفَقَ بها، وحَطأَ بها، ونَفَخَ بها: إِذا ضَرَطَ، وفي حَدِيثِ المُنْكَرِ الّذِي كانَوا يَأْتُونَه في نادِيهِم: «كانُوا يَحْبِقُون فِيه».
والحَبْقَةُ: الضَّرْطَةُ وقال ابنُ دُرَيْدٍ: الضُّرَيْطَةُ الخَفِيفة، قال: وأَخْبَرَنا أَبو حاتِمٍ ـ عن أَبِي عُبَيْدَة ـ قالَ: لمّا قُتِلَ عُثمانُ رضي الله عنه قالَ عدِيُّ بنُ حاتِم رضي الله عنه: «لا تَحْبِقُ فيه عَنْزٌ» فأُصِيبَتْ عَيْنُه يومَ صِفِّين، وقُتِلَ ابنُه طَرِيفٌ، فدَخَلَ على مُعاوِيَةَ بعدَ قَتْلِ عليٍّ رضي الله عنهما، فقالَ: هل حَبَقَت العَنْزُ في قَتْلِ عُثْمانَ؟ فقالَ: إِي واللهِ، والتَّيْسُ الأَعْظَمُ.
ويُقال للأَمَةِ: يا حَباقِ، كقَطامِ كما يُقالُ لها: يا دَفارِ.
وقالَ الأَصْمَعِيُّ: غِذْقُ حُبَيْقٍ، كزُبَيْرٍ: تَمْرٌ دَقَلٌ أَغْبَرُ صَغِيرٌ مع طُولٍ فيه، رَدِيءٌ مَنْسُوبٌ إِلى ابنِ حُبَيْقٍ، ويُقال له أَيضًا: نُبَيْقٌ، ويُقال: حُبَيْقٌ، ونُبَيْقٌ، وذَواتُ العُنَيْق: لأَنواعٍ من التَّمْرِ وفي الحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن لَوْنَيْنِ من التَّمْرِ: الجُعْرُور، ولَوْنِ حُبَيْقٍ» يعني في الصَّدَقَةِ.
والحُباقُ ككِتابٍ، أَو غُرابٍ وعلى الأُولَى اقْتَصَر ابنُ دُرَيْدٍ: أَبو بَطْنٍ من تَمِيم وهو لَقَبٌ له، قالَ أَبو العَرَنْدَسِ العَوْذِيُّ، من بَنِي عَوْذِ بن سَوْدٍ:
يُنادِي الحُباقَ وحِمّانَها *** وقَدْ شَيَّطُوا رَأْسَه فالْتَهَبْ
والحِبِقَّى كالزِّمِكَّى: سَيْرٌ سَرِيعٌ بالحاءِ والخاءِ، قال أَبو عُبَيْدَةَ: وهو يَمْشِي الحِبِقَّى، والدِّفِقَّى، والحِبِقَّى دُونَ الدِّفِقَّى، قالَ:
يَعْدُو الحِبِقَّى والدِّفِقَّى مِنْعَبُ
والحَبَقَةُ، مُحَرَّكَةً: الجاهِلُ عن ابْنِ عَبّادٍ، زاد الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّفِيهُ، والجَمْعُ: حَبَقاتٌ، كشَجَرةٍ وشَجَراتٍ، وهو مَجاز.
والحِبِقَّةُ بكَسْرتينِ مُشَدَّدَةَ القافِ: القَصِيرُ نَقَلَهُ الصّاغانِيُّ.
وقالَ أَبُو عَمْرٍو: الحُبَقُ كصُرَدٍ: القَلِيلُ العَقْلِ، وهي بهاءٍ كهُبَعٍ، وهُبَعَةٍ، وأَنْشَدَ:
حِبِقَّةٌ يَتْبَعُها شَيْخٌ حُبَقْ *** وإِنْ يُوَفِّقْها لِخَيْرٍ لا تُفِقْ
والحَبْقُ بالفتحِ: الضَّرْب بالجَرِيدِ هكذا في النُّسخ والصَّواب: بالجَرِيرِ، كما هو نَصُّ المُحِيط وكذا الضَّرْبُ بالحَبْلِ، وبالسَّوْطِ.
وأَحْبَقَ القَوْمُ بما عِنْدَهُم أَي: سَلِسُوا به وأَذْعَنُوا عن أَبي عَمْرٍو.
وحَبَّقَ الرَّجُلُ مَتاعَهُ تَحْبِيقًا: إِذا جَمَعَه وأَحْكَم أَمْرَه.
وسَلَمَةُ بنُ المُحَبِّقِ، كمُحَدِّثٍ: صحابِيٌّ رضي الله عنه، شَهِدَ حُنَيْنًا، وفَتْحَ المَدائِن، قال أَبو أَحْمَدَ العَسْكَرِيّ في كتابِ التصحيف: المُحَبِّقُ، بكسرِ الباءِ، وأَصحابُ الحَدِيث يُصَحِّفُون ويَفْتَحُونَ الباءَ، وقال البُخارِيُّ في التارِيخِ الكَبِير: قالَ لِي رَوْحُ بنُ عَبْدِ المُؤْمِنِ: اسمُ المُحَبِّق صَخْر بن عُتْبَةَ بنِ الحارِث بنِ حُصَيْن بنِ الحارِثِ بنِ عَبْدِ العَزِيز بنِ دابِغَة بنِ لِحْيانَ بنِ هُذَيْلٍ، وفي التَّكْمِلَةِ: صَخْرُ بنُ عُبَيْدٍ.
وقال ابنُ فارِس في كتابِ المَقايِيس: الحاءُ والباءُ والقافُ ليسَ عِنْدِي بأَصْلٍ يُؤْخَذُ به، ولا مَعْنَى له، ولكنّهم يَقُولُونَ: حَبَّقَ مَتاعَه: إِذا جَمَعَه، ولا أَدْرِي كيف صِحَّتُه.
* ومما يُستدركُ عليه:
الحَبْقُ، بالفتحِ: الضُّراطُ.
وقالَ ابنُ خالَوَيْهِ: جمعُ الحَبَقِ محركةً للمَأْكُولِ: حِباقٌ، بالكسرِ، وأَنْشَد:
فأَتَوْنا بدَرْمَقٍ وحِباقٍ *** وشِواءٍ مُرَعْبَلٍ وصِنابِ
قالَ ابنُ سِيدَه: والحَبَاقَى: الحَنْدَقُوقَى، لغةٌ حِيرِيَّةٌ، وهي بالعَرَبِيَّة الذُّرَقُ وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ لبعضِ العِبادِيِّينَ، كما في العُباب، وفي اللّسانِ البَغْدادِيِّينَ، وهو تحريفٌ:
ليتَ شِعْرِي مَتَى تَخُبُّ بِيَ النا *** قَةُ بين العُذَيْبِ فالصِّنِّينِ
مُحْقِبًا زُكْرَةً وخُبْزًا رُقاقًا *** وحَباقَى وقِطْعَةً من نُونِ
وما في النِّحْيِ حَبَقَةٌ، مُحَرَّكَةً، أَي: لَطْخُ وَضَرٍ، عن كُراعٍ، كقَوْلِكَ: ما في النِّحْيِ عَبَقَةٌ.
وقال ابنُ خالَوَيْهِ: الحُبَيْبِيقُ، كعُصَيْفِيرٍ: السَّيِّئُ الخُلُقِ، كما فِي اللِّسانِ، وفي العُبابِ: هو الحُبَقْبِيق.
وحَبَقُ، محرَّكَةً: ناحِيَةٌ من خَبِيصَ من أَعْمالِ كِرْمانَ، كما في المُعْجَمِ.
ويُقالُ: ظَلُّوا يَحْبِقُونَ على فُلانٍ: إِذا سَبُّوه وجَهِلُوا عليه، وهو مَجازٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
276-تاج العروس (حلق)
[حلق]: الحَلْقَةُ بتَسْكِينِ الَّلامِ: السِّلاحُ عامًّا، وقِيلَ: الدِّرْعُ خاصَّةً، وفي الصِّحاحِ: الدُّرُوع، وفي المُحْكَم: اسمٌ لجُمْلَةِ السِّلاحِ والدُّرُوعِ وما أَشْبَهَها، وإِنَّما ذلِك لمَكانِ الدُّرُوعِ، وغَلَّبُوا هذا النَّوْعَ من السِّلاحِ، أَعْنِي الدُّرُوعَ، لشِدَّةِ غَنائِه، ويَدُلُّكَ على أَنَّ المُراعاةَ في هذا إِنَّما هي للدُّرُوعِ أَنَّ النُّعْمَانَ قد سَمَّى دُرُوعَه حَلْقَةً.ومنه الحَدِيثُ: «إِنَّكُم أَهْلُ الحَلْقَةِ والحُصُونِ» الحَلْقَةُ: الكَرُّ، أَي: الحَبْلُ.
والحَلْقَةُ من الإِناءِ: ما بَقِيَ خالِيًا بعدَ أَنْ جُعِلَ فيه شَيْءٌ من الطَّعامِ والشَّرابِ إِلى نِصْفِه، فما كانَ فوقَ النِّصْفِ إِلى أَعْلاهُ فهو الحَلْقَة، قالَه أَبو زَيْدٍ.
وقال أَبو مالِكٍ: الحَلْقَةُ من الحَوْضِ: امْتِلاؤُه، أَو دُونَه قالَ أَبو زَيْدٍ: وَفَّيْتُ حَلْقَةَ الحَوْضِ تَوْفِيَةً، والإِناء كَذلِكَ، وهو مَجازٌ.
والحَلْقَةُ: سِمَةٌ في الإِبِلِ مُدَوَّرَةٌ، شِبْهُ حَلْقَةِ البابِ.
والحَلَقُ، مُحَرَّكَةً: الإِبِلُ المَوْسُومَةُ بها، كالمُحَلَّقَةِ كمُعَظَّمَةٍ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ:
وذُو حَلَقٍ تَقْضِي العَواذِيرُ بَيْنَها *** يَرُوح بأَخْطارٍ عِظامِ اللَّقائِحِ
وقالَ عَوْفُ بنُ الخَرِعِ يُخاطِبُ لَقِيطَ بنَ زُرارَةَ:
وذَكَرْتَ مِنْ لَبَنِ المُحَلَّقِ شَرْبَةً *** والخَيْلُ تَعْدُو في الصَّعِيدِ بَدادِ
وأَنْشَدَه ابنُ سِيدَه للنّابِغَةِ [الجعدي] ولكنَّ ابنَ بَرِّيّ أَيَّدَ قولَ الجَوْهَرِيِّ.
وحَلْقَةُ البابِ والقَوْمِ بالفَتْحِ، وكَذا كُلُّ شَيْءٍ اسْتَدَارَ، كحَلْقَةِ الحَدِيدِ والفِضَّةِ والذَّهَبِ وقد تُفْتَحُ لامُهُما حَكاه يُونُسُ عن أَبِي عَمْرِو بنِ العَلاءِ، كما في الصِّحاحِ، وحَكاه سِيبَوَيْه أَيضًا، واخْتارَه أَبو عُبَيْدِ في الحَدِيدِ، كما سيأْتِي قريبًا وقد تُكْسَرُ أَي: حاؤُهُما، كما في اللِّسانِ، وفي العُبابِ تكْسَرُ اللَّامُ، نَقَلَه الفَرّاءُ والأُمَوِيُّ، وقالا: هي لُغَةٌ لبَلْحارِثِ بنِ كَعْبٍ في الحَلْقَة والحَلَقَة.
أَو لَيْسَ في الكَلامِ الفَصِيحِ حَلَقَةٌ مُحَرَّكَةً إِلّا في قَوْلِهم: هؤُلاءِ قَوْمٌ حَلَقَةٌ، للَّذِينَ يَحْلِقُونَ الشّعرَ، وفي التَّهْذِيبِ: يَحْلِقُونَ المِعْزَى جَمْع حالِقٍ قال الجَوْهَرِيُّ: قالَ أَبو يُوسُفَ: سَمِعْتُ أَبا عَمْرٍو الشَّيْبانِيَّ، يَقُول هكَذا. قالَ شَيْخُنا، وقد جَزَم به أَكثرُ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ، وعليه اقْتَصَر التَبْرِيزِيُّ في [تَهْذِيب] إِصْلاحِ المَنْطَقِ، وجَماعَةٌ من شُرّاحِ الفَصِيحِ. أَو التَّحْرِيكُ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ وقالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّهُم يُجِيزُه على ضَعْفه، وقال اللِّحْيانِيُّ: حَلْقَةُ البابِ، وحَلَقَتُه، بإِسْكانِ الّلامِ وفَتْحِها، وقالَ كُراع: حَلْقَةُ القَوْم وحَلَقَتُهم، وقالَ اللَّيْثُ: الحَلْقَةُ بالتَّخْفِيفِ من القَوْمِ، ومِنْهُم من يَقُول: حَلَقَةٌ، وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: أَخْتارُ في حَلَقَةِ الحَدِيدِ فتحَ الّلامِ، ويَجُوزُ الجَزْمُ، وأَخْتارُ في حَلْقَةِ القَوْمِ الجَزْمَ، ويَجُوزُ التَّثْقِيل، وقالَ أَبو العَبّاسِ: وأَخْتارُ في حَلْقَة الحَدِيدِ وحَلْقَةِ النّاسِ التَّخْفِيف، ويَجُوز فيهما التَّثْقِيلُ، وعِنْدَه ج: حَلَقٌ مُحَرَّكَةً وهو عَلَى غيرِ قِياسِ، قالَه الجَوْهَرِيُّ، وهو عندَ سِيبَوَيْهِ اسمٌ للجَمْع، وليس بجَمْعٍ؛ لأَنَّ فَعْلَةَ لَيْسَتْ مما يُكَسَّرُ على فَعَل، ونَظِيرُ هذا ما حَكاهُ من قَوْلِهم: فَلْكَةٌ وفَلَكٌ، وقد حَكَى سِيبَوَيْه في الحَلْقَةِ فتحَ الَّلامِ، وأَنْكَرَها ابنُ السِّكِّيتِ وغيرُه، فعَلَى هذه الحِكَاية حَلَقٌ جَمْعُ حَلَقَةٍ، وليس حينئِذٍ اسمَ جَمْعٍ، كما كانَ ذلِك في حَلَق الّذِي هو اسمُ جَمْعٍ لحَلْقَةٍ، ولم يَحْمِلْ سِيبَوَيْه حَلَقًا إِلّا عَلَى أَنّه جَمْعُ حَلْقَة، وإن كانَ قد حَكَى حَلَقَةً، بفتحها.
قلتُ وقد اسْتَعْمَلَ الفَرَزْدَقُ حَلَقَةً في حَلْقَةِ القَومِ، قال:
يا أَيُّها الجالِسُ وَسْطَ الحَلَقَهْ *** أَفِي زِنًا قُطِعْتَ أَمْ في سَرِقَهْ
وقالَ الرّاجِزُ:
أُقْسِمُ باللهِ نُسْلِمُ الحَلَقَهْ *** ولا حُرَيْقًا وأُخْتَه الحُرَقَهْ
وقال آخَرُ:
حَلَفْتُ بالملْحِ والرَّمادِ وبالنّ *** ارِ وباللهِ نُسْلِمُ الحَلَقَهْ
حَتّى يَظَلَّ الجَوادُ مُنْعَفِرًا *** ويَخْضِبُ القَيْلُ عُرْوَةَ الدَّرَقَهْ
وقالَ الأَصْمَعِيُّ: حَلْقَةٌ من النّاسِ، ومن الحَدِيدِ، والجَمْعُ: حِلَقٌ كبِدَرٍ في بَدْرَة، وقِصَعٍ في قَصْعَة، وعَلَى قَوْلِ الأُمَوِيِّ والفَرّاءِ: جمع حِلْقَة بالكسرِ، على بابِه وحَلَقاتٌ، مُحَرَّكَةً حكاه يُونُسُ عن أَبِي عَمْرٍو، هو جَمْعُ حَلَقَةٍ مُحَرَّكَةً، وكذلِكَ حَلَقٌ، وأَنشدَ ثَعْلَبٌ:
أَرِطُّوا فقَدْ أَقْلَقْتُمُ حَلَقاتِكُم *** عَسَى أَن تَفُوزُوا أَن تَكُونُوا رَطائِطَا
وتقَّدَم تفسيرُه في: «ر ط ط» وفي الحَدِيثِ: «نَهَى عن الحِلَقِ قَبْلَ الصَّلاةِ» وفي رِوايَةٍ: «عن التَّحَلُّقِ» هي: الجَماعَةُ من الناسِ مُسْتَدِيرِين كحَلْقَةِ البابِ وغَيْرِها، وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «الجالِسُ وَسَطَ الحَلْقَةِ مَلْعُونٌ» وفي آخر «نَهَى عن حَلَقِ الذَّهَبِ» وتُكْسَرُ الحاءُ فحِينَئذٍ يَكُون جَمْعَ حِلْقَة، بالكسرِ.
وقالَ أَهْلُ التَّشْرِيح: للرَّحِمِ حَلقتانِ: حَلْقَةٌ على فَمِ الفَرْجِ عند طَرَفِه، والحَلْقَةُ الأُخْرَى تَنْضَمُّ على الماءِ وتَنْفَتِحُ للحَيْضِ وقِيلَ: إِنَّما الأُخْرَى التى يُبالُ منها، يُقالُ: وَقَعَت النُّطْفَةُ في حَلْقَةِ الرَّحِمِ، أَي: بابِها، وهو مَجازٌ.
وقال ابنُ عَبّادٍ: يُقالُ: انْتَزَعْتُ حَلْقَتَهُ كأَنّه يُريدُ سَبَقْتُه.
وقَوْلُهم للصَّبِيِّ المَحْبُوبِ إِذا تَجَشَّأَ: حَلْقَةً وكَبْرَة، وشَحْمَةَ في السُّرَّة أَيْ: حُلِقَ رَأْسُكَ حَلْقَةً بعدَ حَلْقَةٍ حَتّى تَكْبَرَ، نقَلَهُ ابنُ عَبّادٍ أَيْضًا، وفي الأَساسِ: أَي: بَقِيتَ حَتَّى يُحْلَقَ رَأْسُكَ وتَكْبَرَ.
وحَلَقَ رَأْسَه يَحْلِقُه حَلْقًا، وتَحْلاقًا بفَتْحِهما: أَزالَ شَعَرَه عنه، واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ على الحَلْقِ.
كحَلَّقَه تَحْلِيقًا، وفي الصِّحاحِ: حَلَّقُوا رُؤُوسَهُمْ، شُدِّدَ للكَثْرَةِ، وفي العُباب: التَّحْلِيقُ مُبالَغَةُ الحَلْقِ، قالَ الله تَعالَى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}.
وفي المُحْكَمِ: الحَلْقُ في الشَّعَرِ من النّاسِ والمَعِزِ، كالجَزِّ في الصُّوفِ، حَلَقَه حَلْقًا، فهو حالِقٌ وحَلّاقٌ، وحَلَّقَهُ واحْتَلَقَه أَنْشَدَ ابنُ الأَعْرابِيِّ:
فابْعَثْ عليهِم سَنَةً قاشُورَهْ *** تَحْتَلِقُ المالَ احْتِلاقَ النُّورَهْ
ويُقالُ: رَأْسٌ جَيِّدُ الحِلاقِ، ككِتابٍ نَقَله الجَوْهَرِيُّ.
ونُقِلَ عن أَبِي زَيْدٍ: عَنْزٌ مَحْلُوقَةٌ، وشَعَرٌ حَلِيقٌ، ولِحْيَةٌ حَلِيقٌ ولا يُقالُ: حَلِيقَةٌ وقالَ ابنُ سِيده: رأَسٌ حَلِيقٌ، أَي: مَحْلُوقٌ، قالت الخَنْساءُ:
ولكِنِّي رَأَيْتُ الصَّبْرَ خَيْرًا *** من النَّعْلَيْنِ والرَّأْسِ الحَلِيقِ
وحَلَقَهُ كنَصَرَه: ضَرَبَه فَ أَصابَ حَلْقَه وكذلِكَ: رَأَسَهُ، وعَضَدَه، وصَدَرَه، نقله الجَوْهَرِيُّ.
ومن المَجازِ: حَلَقَ الحَوْضَ إِذا مَلَأَه فوَصَلَ بهِ إِلى حَلْقِه، كأَحْلَقَه نَقَلَه الصّاغانِيُّ.
وحَلَقَ الشَّيْءَ: قَدَّرَه كخَلَقَه، بالخاءِ المُعْجَمة، نقله الصّاغانِيُّ.
ومن المَجازِ: أَخَذُوا في حُلُوقِ الأَرْضِ مَجاريها وأَوْدِيَتُها و* وكذلِك الطُّرُق: مَضايِقها وهو عَلَى التَّشْبِيهِ أَيضًا. ويَوْمُ تَحْلاقِ اللِّمَمِ كانَ لتَغْلِبَ عَلَى بَكْرِ بنِ وائِلٍ لأَنَّ شِعارَهُم كانَ الحَلْقَ يومَئذٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وفي الحَدِيثِ: «دَبَّ إِلَيْكُم داءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: البغضاءُ والحالِقَةُ».
قالَ خالدُ بنُ جَنْبَةَ: هي قَطِيعَةُ الرَّحِمِ والتَّظالُمُ، والقولُ السَّيِّئُ، وهو مَجازٌ، وقالَ غيرُه: هي الَّتي من شَأْنِها أَنْ تَحْلِقَ، أَي: تُهْلِكَ وتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ، كما يَسْتَأْصِلُ المُوسَى الشَّعَرَ.
و«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من النِّساء الحالِقة، والخارِقَةَ، والسّالِقَةَ» فالحالِقَةُ: التي تَحْلِقُ شَعْرَها في المُصِيبَةِ وقِيلَ: أَرادَ التي تَحْلِقُ وَجْهَها للزِّينَةِ، وفي حَدِيث آخَرَ: «ليسَ مِنّا من سَلَق، أَو حَلَق، أَو خَرَقَ». ومن المَجازِ: الحالِقُ: الضَّرْعُ المُمْتَلِئُ وكأَنَّ اللَّبَنَ فيه إِلى حَلْقِه، ومنه قولُ لَبِيدٍ رضي الله عنه يَصِفُ مَهاة:
حَتّى إِذا يَبِسَتْ وأَسْحَقَ حالِقٌ *** لم يُبْلِهِ إِرْضاعُها وفِطامُها
قالَ ابنُ الأَعرابِيِّ: الحالِقُ: الضَّرْعُ* المُرْتَفِعُ الذي قَلَّ لَبَنُه، وأَنْشَدَ هذا البَيْتَ، نَقَلَهُ الصّاغانِيّ، والجمعُ: حُلَّقٌ، وحَوالِقُ، وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: الحالِقُ: الضَّرْعُ، ولم يُحَلِّه، قالَ ابنُ سِيدَه: وعِنْدِي أَنَّه المُمْتَلِئُ، وفي التَّهْذِيب: الحالِقُ، من نَعْتِ الضُّرُوعِ جاءَ بمَعْنَيَيْنِ مَتَضادَّيْنِ، فالحالِقُ: المُرْتَفِعُ المُنْضَمُّ الذي قَلَّ لَبَنُه، وإِسْحاقُه دَلِيلٌ على هذا المَعْنَى، والحالِقُ أَيضًا: الضَّرْعُ المُمْتَلِئُ، ودَلِيلُه قولُ الحُطَيْئَةِ يصفُ الإِبِلَ بالغَزارَةِ:
وإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلّا الأَمالِيسُ أَصْبَحَتْ *** لَها حُلَّقٌ ضَرّاتُها شَكِراتِ
لأَنَّ قولَه: «شَكِراتٌ» يَدُلُّ على كَثْرةِ اللَّبَنِ، فانْظُر هذا مَعَ ما نَقَلهُ الصّاغانِيُّ، ولم يُفْصِح المُصَنِّف بالضِّدِّيّةِ، وهو قُصُورٌ منه مع تَأَمُّلٍ في سِياقِه. وقال الأَصْمَعِيُّ: أَصبَحَت ضَرَّةُ الناقَةِ حالِقًا: إِذا قارَبَتِ المَلْءَ ولم تَفْعَلْ، ونَقَلَ ابنُ سِيدَه عن كُراع: الحالِقُ: التي ذَهَبَ لبَنُها، وحَلَقَ الضَّرْعُ يَحْلِقُ حُلُوقًا فهو حالِقٌ، وحُلُوقُه: ارْتِفاعُه إِلى البَطْنِ وانْضِمامُه، قالَ: وهو فِي قولٍ آخَر: كَثْرَةُ لَبَنِه.
قلتُ: ففِيه إِشارَةٌ إِلى الضِّدِّيَّة.
والحالِقُ: من الكَرْمِ والشَّرْيِ ونَحْوِه: ما الْتَوَى منه وتَعَلَّقَ بالقُضْبانِ قالَ الأَزهرِيُّ: مَأْخُوذٌ من اسْتِدارَتِه كالحَلْقَةِ.
ومن المَجازِ: الحالِقُ: الجَبَلُ المُرْتَفِعُ المُنِيفُ المُشْرِفُ، ولا يَكُونُ إِلَّا مع عَدَمِ نَباتٍ، ويُقال: جاءَ من حالِقٍ، أَي: مِنْ مَكانٍ مُشْرِفٍ، وفي حَدِيثِ المَبْعَثِ: «فهَمَمْتُ أَن أَطْرَحَ نَفْسِي من حالِقٍ» أَي: من جَبَلٍ عالٍ، وأَنشدَ اللَّيْثُ:
فخَرَّ مِنْ وَجْأَتِه مَيِّتًا *** كأَنَّما دُهْدِهَ مِنْ حالِقِ
وقيل: جَبَلٌ حالِقٌ: لا نَباتَ فيه، كأَنّه حُلِقَ، وهو فاعِلٌ بمعنى مَفْعُول، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو من تَحْلِيقِ الطّائِرِ، أَو من البُلُوغ إِلى حَلْقِ الجَوِّ.
ومن المجازِ: الحالِقُ: المَشْؤومُ على قَوْمٍ، كأَنَّه يَحْلِقُهم، أَي: يَقْشِرُهم كالحالِقَةِ هكذا في النُّسَخِ، وفي العُبابِ والتَّكْمِلَة: كالحالُوقَةِ، وهو الصَّوابُ.
وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: الحَلْقُ: الشُّؤْمُ وهو مجازٌ، ومنه قولُهم في الدُّعاءِ: عَقْرًا حَلْقًا.
والحَلْقُ: مَساغُ الطَّعامِ والشَّرابِ في المَرِيءِ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هو مَخْرَجُ النَّفَسِ من الحُلْقُومِ ومَوْضِعُ الذَّبْحِ.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: الحَلْقُ: موضِعُ الغَلْصَمَةِ، والمَذْبَحِ.
والحُلْقُومُ: فُعْلُومٌ عند الخَلِيلِ، وفُعْلُولٌ عندَ غيرِه، وسيَأْتي ذكره. قالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَنِي أَعْرابِيٌّ من السَّراةِ أَنّ الحَلْقَ: شَجَرٌ كالكَرْمِ يَرْتَقِي في الشَّجَرِ، وله وَرَقٌ كوَرَقِ العِنَبِ حامِضٌ يُطْبَخُ به اللَّحْمُ، وله عَناقِيدُ صِغارٌ كعَناقِيدِ العِنَبِ البَرِّيِّ يَحْمَرُّ، ثم يَسْوَدُّ فيكونُ مُرًّا، ويُؤْخَذُ وَرَقُه فيُطْبَخُ، ويُجْعَلُ ماؤُه في العُصْفُرِ فيَكُونُ أَجْوَدَ لَهُ مِنْ ماءِ حَبِّ الرُّمّانِ ومَنابِتُه جَلَدُ الأَرْضِ، وقالَ اللِّيْثُ: هو نَباتٌ لوَرَقِه حُمُوضَةٌ يُخْلَطُ بالْوَسْمَةِ للخِضابِ، الواحِدَةُ حَلْقَةٌ، أَو تُجْمَعُ عِيدانُها وتُلْقَى فِي تَنُّورٍ سَكَن نارُه، فتَصِيرُ قِطَعًا سُودًا، كالكَشْكِ البابِلِيِّ، حامِضٌ جِدَّا، يَقْمَعُ الصَّفْراءَ، ويُسَكِّنُ اللهبَ.
وقالَ ابنُ عَبّادٍ: سَيْفٌ حالُوقَةٌ: ماضٍ، وكذا رَجُلٌ حالُوقَةٌ: إِذا كان ماضِيًا، وهو مجازٌ.
وحَلِقَ الفَرَسُ والحِمارُ، كفَرِحَ يَحْلَقُ حَلَقًا، بالتَّحْرِيكِ: إِذا سَفَدَ فأَصابَهُ فَسادٌ في قَضِيبِه من تَقَشُّرٍ واحْمِرارٍ فيُداوَى بالخِصاءِ، كما في الصِّحاحِ، قاله أَبُو عُبَيْدٍ، قالَ ثَوْرٌ النَّمَرِيُّ: يكونُ ذلك من داءٍ ليسَ له دَواءٌ إِلا أَنْ يُخْصَى، فرُبّما سَلِم، ورُبّما ماتَ، قال:
خَصَيْتُكَ يا ابْنَ حَمْزَةَ بالقَوافِي *** كما يُخْصَى مِنَ الحَلَقِ الحِمارُ
وقال الأَصْمَعِيُّ: يكونُ ذلِكَ من كَثْرَةِ السِّفادِ، قالَ ابنُ بَرِّيّ: الشُّعَراءُ يَجْعَلُونَ الهِجاءَ والغَلَبَة خِصاءً، كأَنَّه خَرَج من الفُحُولِ.
وقالَ شمر: أَتانٌ حَلَقيَّةٌ، مُحَرَّكَةً: إِذا تَداوَلَتْها الحُمُرُ حَتّى أَصابَها داءٌ في رَحِمِها.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الحَوْلَقُ كجَوْهَرٍ: وَجَعٌ في حَلْقِ الإِنْسانِ وليسَ بثَبَتٍ.
قالَ والحَوْلَقُ أَيضًا: الدّاهِيَةُ، كالحَيْلَقِ كحَيْدَرٍ، وهو مجازٌ.
قالَ: وحَوْلَقٌ أَيْضًا: اسمُ رَجُلٍ.
قالَ: ومَثَلٌ للَعَربِ: «لأُمِّكَ الحُلْقُ» بالضَّمِّ وهو الثُّكْلُ كما يَقُولُونَ: لعَيْنَيْكَ العُبْرُ؛ وفي الأَساس أَي: حَلْقُ الرَّأْسِ.
والحِلْقُ بالكَسْرِ: خاتَمُ المُلْكِ الذي يَكُونُ في يَدِه، عن ابْنِ الأَعرابِيِّ، وأَنشدَ:
وأُعْطِيَ مِنّا الحِلْقَ أَبْيَضُ ماجِدٌ *** رَدِيفُ مُلوكٍ ما تَغِبُّ نَوافِلُهْ
وأَنشدَ الجَوْهَرِيُّ لجَرِيرٍ:
ففازَ بحِلْقِ المُنْذِرِ بنِ مُحَرِّقٍ *** فتىً منهُمُ رَخْوُ النِّجادِ كَرِيمُ
أَو الحِلْقُ: خاتَمٌ من فِضَّةٍ بلا فَصٍّ نَقَلَه ابنُ سِيدَه.
والحِلْقُ: المالُ الكَثِيرُ يُقال: جاءَ فُلانٌ بالحِلْقِ والإِحْرافِ لأَنَّه يَحْلِقُ النَّباتَ، كما يَحْلِقُ الشَّعَرَ وهو مَجازٌ.
والمِحْلَقُ كمِنْبَرٍ: المُوسَى لأَنّه آلةُ الحَلْقِ.
ومن المَجازِ: المِحْلَقُ: الخَشِن من الأَكْسِيَةِ جِدًّا، كأَنّه لخُشُونَتِه يَحْلِقُ الشَّعَر وأَنشَدَ الجَوْهَرِيُّ للرّاجِز، وهو عُمارَةُ بنُ طارِقٍ، يَصِفُ إِبِلًا تَرِدُ الماءَ فتَشْرَبُ:
يَنْفُضْنَ بالمَشافِرِ الهَدالِقِ *** نَفْضَكَ بالمَحاشِئِ المَحالِقِ
ومن المَجازِ: «سُقُوا بكَأْسِ حَلاقِ» كقَطامِ وعليه اقْتَصَر الجَوْهَرِيُّ، وبُنِيَتْ على الكَسْرِ لأَنَّهَ حَصَلَ فيها العَدْلُ والتَّأْنِيثُ والصِّفَةُ الغالِبَةُ، وهي مَعْدُولَةٌ عن حالِقَةٍ وجَوَّزَ ابنُ عَبّادِ حَلاقٍ بالتَّنوينِ، مِثْل سَحابٍ ووَقَعَ في التَّكْمِلَة مثل كِتابٍ أَي: المَنِيَّة الحالِقَةُ، أَيْ: القاشِرَةُ، وأَنشدَ الجَوْهَرِيُّ:
لَحِقَتْ حَلاقِ بِهِم عَلَى أَكْسائِهِم *** ضَرْبَ الرِّقابِ ولا يُهِمُّ المَغْنَمُ
قالَ ابنُ بَرِّيّ: البَيْتُ للأَخْزَمِ بنِ قارِبٍ الطّائِيِّ، وقِيلَ: هو للمُقْعَدِ بنِ عَمْرو، وعليه اقتَصَر الصّاغانِيُّ، وأَنشَدَ ابن سِيدَه لمُهَلْهِلٍ:
ما أُرَجِّي بالعَيْشِ بعدَ نَدامَى *** قَدْ أُراهُم سُقُوا بكَأْسِ حَلاقِ
وحُلاقَةُ المِعْزَى، بالضَّمِّ: ما حُلِقَ من شَعَرِه نَقَله الجَوْهَرِيُّ.
قالَ: والحُلاقُ كغراب: وَجَعُ الحَلْقِ.
وفي المُحْكَم: الحُلاقُ: أَن لا تَشْبَعَ الأَتانُ من السِّفادِ، ولا تَعْلَقَ على ذلِكَ أَي: مَعَ ذلك وكذَا المَرْأَةُ قالَ ابنُ سِيدَه: الحُلاقُ: صِفَةُ سَوْءٍ، كأَنَّ مَتاعَ الإِنسانِ يَفْسُدُ، فتعُودُ حَرارَتُه إِلى هُنَالِكَ وقد اسْتَحْلَقَت الأَتانُ والمَرْأَةُ.
والحُلْقانُ بالضَّمِّ، والمُحَلْقِنُ نَقَلَهما الجَوْهَرِيُّ والمُحَلِّقُ كمُحَدِّثِ، وهذِه عن أَبي حَنِيفَةَ: البُسْرُ قد بَلَغَ الإِرْطابُ ثُلُثَيْهِ وإِذا بَدَا من قِبَلِ ذَنَبِه فتُذْنُوبٌ، وإِذا بَلَغَ نِصْفَه فهو مُجَزَّعٌ، وفي حَدِيثِ بَكّارٍ: «أَنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يَأْكُلونَ رُطَبًا حُلْقانِيًّا، وثَعْدًا، وهم يَضْحَكُون، فقال: لو عَلِمْتُم ما أَعْلَمُ لضَحِكْتُم قَلِيلًا، ولبَكَيْتُم كَثِيرًا» الواحِدَةُ بهاءٍ قالَ ابنُ سِيدَه: بُسْرَةٌ حُلْقانَةٌ: بَلَغَ الإِرْطابُ حَلْقَها، وقِيلَ: هي التي بَلَغَ الإِرْطابُ حَلْقَها قَرِيبًا من الثُّفْرُوق من أَسْفَلِها.
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ حَلَّقَ البُسْرُ تَحْلِيقًا وهي الحَوالِيقُ، بثَباتِ الياءِ، قالَ ابنُ سِيدَه: وهذا البناءُ عِنْدِي على النَّسَبِ؛ إِذْ لو كانَ على الفِعْلِ لقالَ: مَحالِيقُ، وأَيضًا فإِنِّي لا أَدْرِي ما وَجْهُ ثَباتِ الياءِ في حَوالِيقَ.
وفي الحَدِيثِ: «قالَ صلى الله عليه وسلم لصَفِيَّةَ بنتِ حُيَيِّ حِينَ قِيَلَ له يَوْمَ النَّفْرِ: إِنَّها نَفِسَتْ، أَو حاضَتْ فقالَ: «عَقْرًا حَلْقًا ما أُراها إِلا حابِسَتَنَا» قالَ الأَزْهَرِيُّ: عَقْرًا حَلْقًا بالتَّنْوِينِ علَى أَنَّه مصدَرُ فِعْلٍ مَتْرُوكِ اللَّفْظِ، تقديرُه: عَقَرَها اللهُ عَقْرًا، وحَلَقَها اللهُ حَلْقًا وتَرْكهُ قَلِيلٌ بل غيرُ مَعْرُوفٍ في اللُّغَةِ أَو هو من لَحْنِ المُحَدِّثِينَ وفي التَّهْذِيب: وأَصحابُ الحَدِيثِ يَقُولُونَ: عَقْرَى حَلْقَى، بوَزْنِ غَضْبى، حيث هو جارٍ عَلَى المُؤَنَّثِ والمَعْرُوفُ فى اللُّغَةِ التَّنْوِينُ، ومَعْنَى هذا أَنَّه دَعَى عَلَيْها أَنْ تَئِيمَ مِنْ بَعْلِها، فتَحْلِقَ شَعْرَها، وقِيلَ: مَعناه: أَصابَها الله تَعالَى بوَجَع في حَلْقِها نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وليسَ بقَوِيٍّ. وقالَ ابنُ سِيدَه: قِيل: معناه أَنّها مَشْؤُومَةٌ، ولا أُحِقُّها، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: حَلْقَى عَقْرَى: مَشْؤُومَةٌ مُؤْذِيَةٌ، وقالَ أَبو نَصْرٍ: يُقالُ عِنْدَ الأَمْرِ تَعْجَبُ منه: خَمْشَى عَقْرَى حَلْقَى، كأَنَّه من الخَمْشِ والعَقْرِ والحَلْقِ، وأَنشد:
أَلا قَوْمِي أُولُو عَقْرَى وحَلْقَى *** لِما لاقَتْ سَلامانُ بنُ غَنْمِ
هكَذا أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ، والمَعْنَى: قَوْمِي أُولُو نِساءٍ قد عَقَرْنَ وجُوُهَهُن فخَدَشْنَها، وحَلَقْنَ شُعُورَهُنَّ، قال ابنُ بَرِّي: وقد رَوَى هذا البَيْتَ ابنُ القَطّاع هكذا، وكَذَا الهَرَوِيُّ في الغَرِيبَيْنِ، والذي رَواهُ ابنُ السِّكِّيتِ.
أَلا قُومِي إِلى عَقْرَى وحَلْقَى
وفسَّرَهُ ابنُ جِنِّي فقال: قولُهم: «عَقْرَى وحَلْقَى» الأَصْلُ فيه أَنَّ المَرْأَةَ كانت إِذا أُصِيبَ لها كَرِيمٌ حَلَقَتْ رَأْسَها، وَأَخَذَتْ نَعْلَيْنِ تَضْرِبُ بهما رَأْسَها، وتَعْقِرُهُ، وعلى ذلِكَ قولُ الخَنْساءِ:
ولكِنّي رأَيتُ الصَّبْرَ خَيْرًا *** من النَّعْلَيْنِ والرَّأْسِ الحَلِيقِ
يُرِيدُ أَنَّ قَوْمِي هؤُلاءِ قد بَلَغَ بهم من البَلاءِ ما يَبْلُغُ بالمَرْأَةِ المَعْقُورَةِ المَحْلُوقةِ، ومعناه أَنَّهم صارُوا إِلى حالِ النِّساءِ المَعْقُوراتِ المَحْلُوقاتِ، وقالَ شَمِرٌ: رَوَى أَبو عُبَيْدٍ: «عَقْرًا حَلْقًا» فقُلْتُ له: لم أَسْمَعْ هذا إِلا عَقْرَى حَلْقَى، فقال: لكِنِّي لم أَسْمَعْ فَعْلَى على الدُّعاءِ، قال شَمِرٌ: فقلتُ له: قال ابنُ شُمَيْلٍ: إِنَّ صِبْيانَ البادِيَةِ يَلْعَبُون ويَقُولُون: مِطِّيرَى، على فِعِّيلَى، وهو أَثْقَلُ من حَلْقَى، قال: فَصَيَّرَه في كِتابِه على وَجْهَيْنِ: مُنَوَّنًا، وغَيْرَ مُنَوَّنٍ.
وتَحْلِيقُ الطّائِرِ: ارْتِفاعُه في طَيَرانِه واسْتِدارَتُه في الهَواءِ، وهو مَجازٌ، قال ذُو الرُّمَّةِ يصفُ ماءً وَرَدَهُ:
وَرَدْتُ اعْتِسافًا والثُّرَيّا كأَنَّه *** عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابنُ ماءٍ مُحَلِّقُ
وقالَ النّابِغَةُ الذُّبْيانِيُّ:
إِذا ما غَزَوْا بالجَيْشِ حَلَّقَ فَوْقَهُم *** عَصائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائِبِ
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: حَلَّقَ ضَرْعُ النّاقَةِ تَحْلِيقًا: إِذا ارْتَفَعَ لَبَنُها إِلى بَطْنِها.
وقالَ ابنُ سِيدَه: حَلَّقَ اللَّبَنُ: ذَهَبَ.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: حَلَّقَتْ عُيُونُ الإِبِلِ: إِذا غارَتْ وهو مَجازٌ.
وحَلَّقَ القَمَرُ: صارَتْ حَوْلَه دَوّارَةٌ أَي: دارَةٌ، كتَحَلَّقَ.
وحَلَّقَ النَّجْمُ: ارْتَفَع ورَوَى أَنَسٌ ـ رضي الله عنه ـ: «كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ بَيْضاءُ مُحَلِّقَةٌ» قال شَمِرٌ: أَي: مُرْتَفِعَةٌ، وقال غَيْرُه: تَحْلِيقُ الشَّمْسِ من أَوَّلِ النَّهارِ: ارْتِفاعُها من المَشْرِق، ومن آخِرِ النَّهار: انْحِدارُها، وقال شَمِرٌ: لا أَدْرِي التَّحْلِيقَ إِلّا الارْتِفاعَ، قال ابنُ الزَّبِيرِ الأَسَدِيُّ ـ في النَّجْمِ ـ:
رُبَ مَنْهَلٍ طاوٍ وَرَدْتُ وقد خَوَى *** نَجْمٌ وحَلَّقَ في السَّماءِ نُجُومُ
خَوَى، أَي: غابَ.
وحَلَّقَ بالشَّيْءِ إِليه: رَمَى ومنه الحَدِيثُ: «فبَعَثَتْ عائِشَةُ ـ رضي الله عنها ـ إِليهم بقَمِيصِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فانْتَحَبَ النّاسُ، فحَلَّقَ به أَبُو بَكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ إِليَّ، وقال: تَزَوَّدِي به، واطْوِهِ».
وقالَ ابنُ عَبّادٍ: يُقالُ: شَرِبْتُ صُواجًا فحَلَّقَ بِي، أَي: نَفَخَ بَطْنِي وهو مَجازٌ.
وقالَ اللَّيْثُ: المُحَلَّقُ، كمُعَظَّمٍ: موضِعُ حَلْقِ الرَّأْسِ بمِنىً وأَنْشَدَ:
كَلّا ورَبِّ البَيْتِ والمُحَلَّق
وقال الفَرَزْدَقُ:
بمَنْزِلَةٍ بينَ الصَّفا كُنْتُما بهِ *** وزَمْزَمَ والمَسْعَى، وعندَ المُحَلَّقِ
والمُحَلَّقُ: لَقَبُ عَبْدِ العُزَّى بنِ حَنْتَمِ بنِ شَدّادِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ بنِ كِلابٍ العامِرِيِّ، وضَبَطَهُ صاحِبُ اللِّسانِ كمُحَدِّثٍ لأَنَّ حِصانًا له عَضَّهُ في خَدِّه وكانَت العَضَّةُ كالحَلْقَةِ هذا قولُ أَبي عُبَيْدَة أَو أَصابَه سَهْمٌ غَرْبٌ فكُوِيَ بحَلْقَة مِقْراضٍ، فبَقِيَ أَثَرُها في وَجْهِه، قال الأَعْشَى:
تُشَبُّ لمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيانِها *** وباتَ على النّارِ النَّدَى والمُحَلَّقُ
والمُحَلِّقُ بكسرِ الّلامِ: الإِناءُ دُونَ المَلْءِ وأَنشَدَ أَبُو مالِكٍ: فَوافٍ كَيْلُها ومُحَلِّقُ وحَلَّقَ ماءُ الحَوْضِ: إِذا قَلَّ وذَهَبَ، قال الفَرَزْدَقُ:
أُحاذِرُ أَنْ أُدْعَى وحَوْضِي مُحَلِّقٌ *** إِذا كانَ يَوْمُ الوِرْدِ يَوْمَ خِصامِ
وقالَ ابنُ عَبّادٍ: المُحَلِّقُ: الرُّطَبُ نَضِجَ بَعْضُه ولم يَنْضَجْ بعضٌ، وهذا قد تَقَدَّم عند ذِكْر الحُلْقان.
والمُحَلِّقُ من الشِّياهِ: المَهْزُولَة عن ابنِ عَبّادٍ.
والمُحَلَّقَةُ، كمُعَظَّمَةٍ: فَرَسُ عُبَيْدِ اللهِ بنِ الحُرِّ الجُعْفِيِّ. وتَحَلَّقُوا: إِذا جَلَسُوا حَلْقَةً حَلْقَةً ومنه الحَدِيثُ: «نَهَى عن التَّحَلُّق قَبْلَ الصَّلاةِ» وقد تَقَدَّم، وهو تَفَعُّلٌ من الحَلْقَة.
ويُقال: ضَرَبُوا بُيُوتَهم حِلاقًا، ككِتابٍ أَي: صَفًّا واحِدًا حَتَّى كأَنَّها حَلْقَةٌ، والحِلاقُ هنا: جَمْعُ الحَلْقَةِ بالفتحِ، على الغالِبِ، أَو جمعُ حِلْقَةٍ بالكسرِ، على النادر.
* ومما يُسْتَدركُ عليه:
حَلْقُ التَّمْرَةِ والبُسْرَةِ: مُنْتَهَى ثُلُثَيْها، كأَنَّ ذلك مَوْضِعُ الحَلْقِ منها.
وجَمْعُ حَلْقِ الرَّجُلِ: أَحْلاقٌ في القليل، وحُلُوقٌ وحُلُقٌ في الكثيرِ، والأَخِيرةُ عَزِيزَةٌ، قال الشاعِرُ:
إِنَّ الّذِينَ يَسُوغُ في أَحْلاقِهم *** زادٌ يَمَرُّ عليهِمُ لَلِئامُ
وأَنْشَدَه المُبَرِّدُ: «في أَعْناقِهم» فرَدَّ ذلِكَ عليه عَلِيُّ بنُ حَمْزَةَ: وأَنْشَد الفارِسِيُّ:
حَتَّى إِذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ
وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: حَلَقَ الرَّجُلُ كضَرَبَ: إِذا أَوْجَعَ، وحَلِقَ، كفَرِحَ: إِذا وَجِعَ، وقال غَيْرُه: شَكَى حَلْقَه.
وحُلُوقُ الآنِيَةِ والحِياضِ: مَجارِيها.
والحُلُق بضَمَّتَيْنِ: الأَهْوِيَةُ بينَ السّماءِ والأَرْضِ، واحِدُها حالِقٌ.
وفَلاةٌ مُحَلِّقٌ، كمُحَدِّث: لا ماءَ بِها، قال الزَّفَيانُ:
ودُونَ مَرْآها فَلاةٌ خَيْفَق *** نائِي المِياهِ ناضِبٌ مُحَلِّقُ
وهَوَى من حالِقٍ: هَلَكَ، وهو مَجازٌ.
وجَمْعُ المُحَلِّقِ من البُسْرِ: مَحالِيقُ.
والحِلاقُ، بالكَسْرِ: جمعُ حَلِيق، للشَّعرِ المَحْلُوق، وجَمْعُ حَلْقَةِ القَوْمِ أَيضًا.
وكَشّدادِ: الحالِقُ.
والحَلَقَةُ، محرَّكَةً: الضُّرُوعُ المُرْتَفِعَةُ، جمعُ حالِقٍ، يُقال: ضَرْعٌ حالِقٌ: إِذا كان ضَخْمًا يَحْلِقُ شَعَرَ الفَخِذَيْنِ من ضِخَمِه.
وقالُوا: «بَيْنَهُم احْلِقِي وقُومِي» أَي: بَيْنَهُم بَلاءٌ وشِدَّةٌ، قال:
يَوْمُ أَدِيمِ بَقَّةَ الشَّرِيمِ *** أَفْضَلُ من يَوْمِ احْلِقِي وقُومِي
وامرأَةٌ حَلْقَى عَقْرَى: مَشْؤُومَةٌ مُؤْذِيَةٌ، نقلَهُ الأَزْهَرِيُّ.
ويُقال: لا تَفْعَلْ ذلك أُمُّكَ حالِقٌ، أَي: أَثْكَلَ اللهُ أُمَّكَ بكَ حَتَّى تَحْلِقَ شَعْرَها.
وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: «كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ» يُضرَبُ مَثَلًا للقَوْمِ إِذا كانُوا مُؤْتَلفِينَ: الكلمةُ والأَيْدِي.
وحَلَّقَهُ حَلْقَةً: أَلْبَسَها إِيّاه.
وحَلَّقَ بإِصْبَعهِ: أَدارَهَا كالحَلْقَةِ.
وحَلَّقَ ببَصَرِه إِلى السّماءِ: رفَعَهُ.
وحَلَّقَ حَلْقَةً: أَدارَ دائِرَةً.
وسِكِّينٌ حالِقٌ وحاذِقٌ، أَي: حَدِيدٌ، وهو مجاز.
وناقَةٌ حالِقٌ: حافِلٌ، والجمعُ: حَوالِقُ، وحُلَّقٌ، ومنه قولُ الحُطَيْئَةِ:
لَها حُلَّقٌ ضَرّاتُها شَكِراتِ
وقالَ النَّضْرُ: الحالِقُ من الإِبِلِ: الشَّدِيدَةُ الحَفْلِ، العَظِيمَةُ الضَّرَّةِ، وإِبِلٌ مُحَلَّقَةٌ: كثيرةُ اللَّبَنِ، ويُرْوى قولُ الحُطَيْئَةِ:
مُحَلَّقَةٌ ضَرّاتُها شَكِراتِ
والحالِقُ: الضامِرُ.
والحالِقُ: السَّرِيعُ الخَفِيفُ. وحَلَقَ الشَّيْءَ يَحْلِقُه حَلْقًا: قَشَرَه.
ويُقال: وَقَعَت فيهم حالِقَةٌ، لا تَدَعُ شَيْئًا إِلَّا أَهْلَكَتْه، وهي السَّنَةُ المُجْدِبَةُ، وهو مَجازٌ.
وحُلِّقَ على اسمِ فُلانٍ، أَي: أُبْطِلَ رِزْقُه، وهو مَجازٌ.
وأُعْطِيَ فُلانٌ الحِلْقَ: إِذا أُمِّرَ.
والحُروفُ الحَلْقِيَّةُ سِتَّةٌ: الهَمْزَةُ، والهاءُ، ولهُما أَقْصَى الحَلْقِ، والعَيْنُ والحاءُ المُهْمَلَتَانِ، ولَهُما أَوْسَطُ الحَلْق، والغَيْنُ والخاءُ المُعْجَمَتانِ، ولَهُما أَدْنَى الحَلْقِ.
ومِحْلَقٌ، كمِنْبَرٍ: اسمُ رَجُلٍ، وأَنْشَدَ اللّيْثُ:
أَحَقًّا عبادَ اللهِ جُرْأَةُ مِحْلَقٍ *** عَلَيَّ وقَدْ أَعْيَيْتُ عادًا وتُبَّعَا؟
والحَوْلَقَةُ: قَوْلُ الإِنْسانِ: «لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلّا بالله» نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيتِ، قالَ ابنُ بَرِّي: أَنْشَدَ ابنُ الأَنْبَارِيِّ شاهِدًا عليه:
فِداكَ من الأَقْوامِ كُلُّ مُبَخَّلٍ *** يُحَوْلِقُ إِمّا سالَهُ العُرْفَ سائِلُ
قالَ ابنُ الأَثِير: هكذا أَوْرَدَها الجَوهرِيُّ بتَقْدِيم الّلامِ على القافِ، وغيرُه يَقُول: الحَوْقَلَةُ، بتَقْدِيمِ القافِ على اللَّامِ، وسَيَأْتِي.
ومن كُناهُم: أَبو حُلَيْقَة، مُصَغَّرًا، منهم: المُهَلَّبُ بنُ أَبِي حُلَيْقَةَ الطَّبِيبُ، مِصْرِيٌّ مشهورٌ.
وحَلْقُ الجَرَّةِ: موضِعٌ خارِجَ مِصْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
277-تاج العروس (طبق)
[طبق]: الطَّبَق، مُحَرَّكَةً: غِطاءُ كُلِّ شَيْءٍ لازِمٌ عليه، يُقالُ: وَضَع الطَّبَقَ على الحُبِّ، وهو قِناعُه ج: أَطْباقُ، وأَطْبِقَةٌ. الأَخير غَرِيبٌ لم أَجِدْه في أُمَّهاتِ اللّغَةِ، ولعَلَّ الصوابَ: وأَطْبَقَهُ وطَبَّقَه تَطْبِيقًا: غَطّاه فانْطَبَق وقد يُقالُ: لو كانَ كذا ما احْتاج إِلى إِعادَة قَوْله: وأَطْبَقَه فتَطَبَّقَ إِلَّا أَنْ يُقالَ: إِنَّه إِنّما أَعادَه ليُعْلَم أَن الانْطِباق مُطاوِعُ الإِطْباق والتَّطْبِيق، والتَّطبُّق مطاوع الإِطْباقِ وَحْدَه، وفيه تَأَمُّلٌ. ومنه قولُهم: لو تَطَبَّقَت السمّاءُ على الأَرضِ ما فَعَلتُ كذا.والطَّبَقُ أَيضًا من كُلِّ شيءٍ: ما سَاوَاه والجَمْعُ أَطْباقٌ.
وقولُه:
ولَيْلةٍ ذاتِ جَهامٍ أَطْباقْ
مَعْناه أَنَّ بَعضَه طَبَقٌ لبَعْض، أَي: مُساوٍ له، وجَمَع لأَنّه عَنَى الجِنْسَ، وقد يَجوزُ أَن يَكونَ من نَعتِ اللَّيْلةِ، أَي: بَعضُ ظُلَمِها مُساو لبَعْضٍ، فيكون كجُبَّةٍ أَخْلاقٍ، ونَحْوِها.
وقَدْ طَابَقَه مُطابَقَة وطِباقًا: وافَقَه وسَاواه.
والطَّبَقُ: وَجْهُ الأَرْضِ وهو مَجازٌ.
والطَّبَقُ: الذي يُؤْكَل عليه وفيه، وأَيضًا لِمَا تُوضَع عليه الفَواكِهُ كما في المُفْرداتِ.
ومن المَجازِ: الطَّبَق: القَرْن: من الزَّمانِ. ومنه قَولُ، العَبّاسِ ـ رضي الله عنه ـ يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم:
تُنْقَل من صَالَبٍ إِلى رَحِمٍ *** إِذا مَضَى عالَمٌ بدَا طَبَقُ
أَي: إِذا مَضَى قَرْنٌ بَدَا قَرْنٌ. وقِيلَ للقَرْن: طَبَقٌ؛ لأَنَّهم طَبَقٌ للأَرضِ، ثم ينْقَرِضونَ، ويَأْتي طَبَقٌ آخرُ.
وقالَ ابنُ عَرفةَ: يُقالُ: مَضَى طَبَقٌ، وجاءَ طَبَق، أَي: مَضَى عالَمٌ وجاءَ عالَمٌ.
وقالَ ابنُ الأَعَرابِيِّ: الطَّبَقُ: الأُمَّة بعدَ الأُمَّة. أَو الطَّبَقُ: عِشْرُون سَنَة والذي في كتابِ الهَجَريِّ عن ابنِ عَباس: الطَّبَقةَ: عِشْرونَ سنةً.
والطَّبَق من النَّاسِ، ومن الجَرادِ: الكَثِير، أَو الجَمَاعَةُ، كالطِّبْق بالكَسْرِ. قال الأَصمعيُّ: الطِّبْقُ، بالكسْر: الجَماعةُ من النّاسِ. وقالَ ابنُ سِيدَه: الطَّبَقُ: الجَماعَةُ من النّاسِ يَعدِلُون جَماعةً مِثلَهم. وفي الحَدِيث: «أَنَّ مَرْيَم عليهاالسلام جاعَتْ، فجاءَها طَبَقٌ من جَرَاد، فصادَتْ منه» أَي: قَطِيعٌ من الجَرادِ.
ومن المَجاز: الطَّبَقُ: الحَالُ على اخْتِلافها، عن ابنِ الأَعرابيِّ. ومنه قولُه تَعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أَي: حَالًا بعد حَالِ، ومَنْزِلَةً بعد مَنْزِلة، كما في الأَساسِ.
وفي الصِّحاحِ حَالًا عن حَالٍ يوْمَ القيامةِ.
قُلتُ: ويَقَع «عن» مَوْقِع «بَعْدَ» كَثِيرًا مِثْل قَوْلهم: وَرِثَه كابِرًا عَنْ كابِرٍ، أَي: بَعْدَ كابرٍ، قالَه أَبو عليٍّ.
وقال أَبو بَكْرٍ: مَعْناه لتَركَبُنَّ السّماءَ حالًا بَعْد حالٍ؛ لأَنَّها تَكونُ في حَالٍ {كَالْمُهْلِ}، ثم كالفَرَسِ الوَرْدِ، وفي حال {كَالدِّهانِ}.
قالَ الصاغانِيُّ: وإِنَّما قِيلَ للحَالِ: طَبَقٌ؛ لأَنّها تَمْلأُ القُلُوبَ، أَو تُشارِفُ ذلِك.
وقال الرَّاغِبُ: مَعْنَى الآية: أَيْ تَرْقَى مَنْزِلٍا عن مَنْزل، وذلِك إِشارة إِلى أَحوالِ الإِنْسانِ من تَرَقِّيه في أَحْوال شَتَّى في الدُّنيا، نَحْو ما أَشارَ إِليهِ بقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وأَحْوال شَتَّى قي الآخِرَةِ: من النُّشُورِ والبَعْثِ، والحِسابِ، وجَوازِ الصِّراطِ إِلى حِينِ المُسْتَقَرِّ في أَحَدِ الدَّارينِ.
ونَقَل شَيخُنا عن ابنِ أَبي الحَدِيدِ في شَرْح نَهْج البلاغةِ ما نَصّه: الطَّبَقُ: المَشَقَّة، ومنه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} انتهى.
قلت: هذا قد نَقَله الأَزْهَرِيُّ عن ابنِ عَبّاسٍ، وقالَ: المَعْنَى لتَصِيرَنَّ الأُمورُ حالًا بعدَ حَالٍ في الشِّدَّةِ. قال: والعَربُ تقولُ: وَقَع فلانٌ في بَناتِ طَبَق: إِذا وَقَع في الأَمرِ الشّدِيد. وقرأَ ابنُ كَثيِر والكُوفِيُّون غَيْر عاصمٍ: «لتَرْكَبَنّ»، بفتح الباءِ؛ أَي لتَرْكَبَنَّ يا مُحمَّد طَبَقًا من أَطْبَاق السَّماءِ، نقله الزَّجّاجُ والصّاغانِيُّ، وقرأَ ابنُ عبّاس وابنُ مسعود رضي الله عنهم «لِترْكَبُنّ» بكسر الثاءِ وهي لُغَة تَمِيم وقَيْس وأَسَد، ورَبِيعة، يَكْسِرون أَولَ حَرْف من حُروفِ المُسْتَقْبل، إِلّا أَنْ يكونَ أَولُه ياءً، فإِنَّهُم لا يَكْسِرُونَها.
قالَ ابنُ مَسعود: والمَعْنَى: لتَرْكَبُنَّ السَّماءَ حالًا بعد حالٍ. وقد تَقدَّم ذلِكَ عن أَبي بكرٍ. وقال مَسْرُوقٌ: لتَرْكَبُنَّ حَالًا بعدَ حال، زادَ الزَّجاجُ: حتى تَصِيرُوا إِلى الله من إِحياءٍ وإِماتة وبَعْثٍ.
وقرأَ عُمَر رضي الله عنه: «لَيَرْكَبَنَّ» «بالياءِ وفتح الباءِ» وفيه وَجْهان: أَحدُها: أَن يَكُونَ المُرادُ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلَفْظِ الإِخبارِ عنه.
والثَّانِي: أَن يكونَ الضّمِيرُ راجعًا على لَفْظِ قولِهِ تَعالَى: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} إِلى قَوْله: «بَصِيرًا» على الإِفرادِ. كذلك ليَرْكَبَنَّ السّماءَ {طَبَقًا عَنْ} طَبَقٍ، يعني هذا المذكور، ليكُونَ اللَّفظُ واحِدًا والمَعْنَى الجَمْع.
وقال الزَّجّاجُ على قِراءَة أَهْلِ المَدِينةِ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا» يَعْنِي النَّاس عامةً، والتَّفْسِيرُ الشِّدَّة، والجَمْع أَطْباقٌ. ومنه حَدِيثُ عَمْرِو بن العاصِ: «إِنّي كُنتُ على أَطْباقٌ. ثَلاثة» أَي: أَحْوال.
والطَّبَقُ: عَظْمٌ رَقِيقٌ يَفصِلُ بين كُلّ فَقارَيْنِ، قالَ الشاعِرُ:
أَلا ذَهَبَ الخِداعُ فلا خِداعَا *** وأَبْدَى السَّيفُ عن طَبَقٍ نُخاعَا
ومنه حَدِيثُ ابنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه: «وتَبْقى أَصلابُ المُنافِقِين طَبَقًا واحِدًا» أَي تَصِيرُ الفِقَر كلها فَقْرةً واحدة، نقله أَبو عُبَيْد عن الأَصمعيّ، وقِيلَ: الطَّبَق: فَقار الصُلبِ أَجْمع، وقيل: الفَقْرة حَيْثُ كانَت.
ومن المجاز: الطَّبَقُ من المَطَر: العَامُّ نَقَله الصّاغانيُّ والأَصمعيّ، وإِنما سُمِّي طَبَقًا لأَنه غِشاءٌ للأَرضِ، ومنه حَدِيث الاسْتِسْقاءِ: «اللهمَّ اسْقِنا غَيْثًا مُغِيثًا طَبَقًا» أَي مالِئًا للأَرضِ، مُغَطِّيًا لها، يقالُ: غَيْث طَبَق، أَي: عامّ واسِع، وقال امرؤُ القَيْس:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ *** طَبَقُ الأَرضِ تَحرَّى وتَدُرّ
والطَّبَقُ ظَهْرُ فَرْجِ المَرْأَة عن ابنِ عَبّاد، وهو مجاز.
والطَّبَقُ من اللَّيلِ، ومن النَّهار*: مُعْظَمُهُما. يقال: مَضَى طَبَق من اللَّيل، وطَبَق من النَّهار، أَي: بَعض منهُما.
وفي المُفْردات: طَبَق اللَّيلِ والنَّهارِ: سَاعاتُه المُطابِقَة.
ومن المجاز: هذه بِنْتُ طَبَقٍ، وإِحدى بَنات طَبَقٍ وهي الدَّوَاهِي وفي المثل: إِحدى بَناتِ طَبَق، وأَصلُها من الحَيَّاتِ، وذكرَ الثَّعالبيّ أَنّ طَبَقًا حَيَّةٌ صَفراءُ. وقال غيره: قيل للحَيَّة: أُمّ طَبَق، وبِنْت طَبقَ، لتَرَحِّيها وتَحَوِّيها، وأَكثَرُ التَّرَحِّي للأَفْعَى، وقيل: إِنما قِيلَ للحَيَّات: بَناتُ طَبَق لإِطْباقِها على مَنْ تَلْسَعه، وقيل: لأَنَّ للحَيَّات: بَناتُ طَبَق لإِطْباقِها على مَنْ تَلْسَعه، وقيل: لأَنَّ الحَوَّاءَ يُمْسِكُها تحت أَطْباقِ الأَسْفاطِ المُجَلَّدَة. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لأَنها تُشْبِه الطَّبَق إِذا استَدارَت.
وتَزعُم العَربُ أَنَّ بِنْت طَبَقٍ: سُلَحْفَاةٌ تَبِيضُ تِسْعًا وتِسْعَينَ بَيْضَة كُلُّها سَلاحِفُ، وتَبِيضُ بَيْضَةً تَنْقُفُ عن حَيَّةٍ وفي الصِّحاح: عن أَسْوَدَ.
وطَبَقَةُ مُحَرَّكةً: امرأَةٌ عاقِلَة تزَوَّج بها رَجُلٌ عَاقِلٌ منْ دُهاةِ العَرَبِ، ولهما قِصَّةٌ ذَكَرها الصاغانِيُّ في العُباب.
قالَ: قال الشَّرْقِيُّ بنُ القُطامِيِّ: كانَ رَجُلٌ من دُهاةِ العَرَب وعُقلائِهِم يُقال له: شَنٌّ، فقالَ: واللهِ لأُطَوِّفَنَّ حتى أَجِدَ امْرَأَةً مِثْلِي، فأَتَزَوَّجَها، فبينما هو في بَعضِ مَسِيرِه إِذ رافَقَه رَجُلٌ في الطَّرِيق، فسأَلَه شَنٌّ: أَتَحْمِلُني أَم أَحْمِلُكَ؟ فقالَ له الرَّجُلُ: يا جاهِلُ أَنا راكِبٌ وأَنَت راكِبٌ، فكيفَ أَحْمِلُك أَو تَحْمِلُني؟، فسكَت عنه شَنٌّ، وسارَ حَتَّى إِذا قَرُبَا من القَرْيةِ إِذا هما بزَرْعٍ قد استَحْصَدَ، فقالَ شَنٌّ: أَتُرى هذا الزَّرْعَ أُكِلَ أَم لا؟ فقال له الرَّجُلُ: يا جاهِلُ تَرْى نَبْتًا مُسْتَحصِدًا فتَقُولُ: أُكِلَ أَم لا؟ فسَكَتَ عنه شَنٌّ، حتى إِذا دَخَلا القَريَةَ لقِيَتْهُما جِنازة، فقالَ شَنٌّ: أَتُرى صاحبَ هذا النَّعْش حَيًّا أَو مَيِّتًا؟ فقالَ له الرَّجُلُ: ما رأَيتُ أَجْهَلَ منكَ! تَرَى جِنَازَةً تَسأَلُ عنها: أَميِّتٌ صاحِبُها أَم حَيّ؟ فسَكَتَ عنه شَنٌّ، فأَرادَ مفارَقَته فأَبى ذلك الرّجُلُ أَن يَتْرُكَهُ حتى يَسِيرَ به إِلى مَنْزِله، فمَضَى مَعَه، وكانَ للرَّجُلِ بِنْتٌ يُقالُ لها: طَبَقَةُ، فلمّا دَخَلَ عليها أَبوها سأَلَتْه عن ضَيْفِه، فأَخْبَرَها بمُرافَقَته إِيّاه، وشَكَا إِليها جَهْلَه، وحدَّثها بحَدِيثِه، فقالَتْ: يا أَبَتِ، ما هذا بِجاهِلٍ. أَما قولُه: أَتَحْمِلُنِي أَم أَحْمِلُكَ؟ فأَرادَ أَتُحَدِّثُنِي أَم أُحَدِّثُك حتى نَقْطَعَ طرِيقَنا، وأَما قولُه: أَتُرى هذا الزرعَ أُكِل أَم لا؟ فإِنّما أَرادَ هَلْ باعَهُ أَهْلُه فأَكَلُوا ثمنَه أم لا، وأَمَّا قولُه في الجِنازة: فأَرادَ هل تَرَكَ عَقِبًا يحيا بهم ذِكْرُه أَم لا، فخَرَجَ الرَّجُلُ، فقَعَدَ مع شَنٍّ، فحادَثَه ساعةً، ثم قالَ: أَتُحِبُّ أَن أُفسِّرَ لك ما سَأَلْتَنِي عنه؟ قال: نَعَم، ففَسَّرَه، فقالَ شَنٌّ: ما هذا من كَلامِكَ، فأَخْبِرْني عن صاحِبِه. فقالَ: ابنَةٌ لي، فخَطَبها إِليه وزَوَّجَها له، وحَمَلَها إِلى أَهلِه. ومنه قولُه: وافَقَ شَنٌّ طَبَقَة وكذا: صادَفَ شَنٌّ طَبَقَةَ.
أَو هُم قَوْم كانَ لَهُم وِعاءُ أَدَم فتَشَنَّنَ، فجَعَلوا له طَبَقًا، فوافَقَه ففِيلَ ذلك، قالَه الأَصمَعِيُّ، ونقله أَبو عُبَيْدٍ هكذا، وفَسَّره.
أَو طَبَق: قَبِيلَةٌ منْ إِيادِ كانَتْ لا تُطاقُ وكانت شَنّ لا يُقام لها فأَوقَعَتْ بها شَنٌّ وهو ابنُ أَفصَى بن عَبدِ القَيْس، فانْتَصَفَتْ منها، وأَصابَت فيها فضُرِبتْ مَثَلًا للمُتَّفِقينَ في الشِّدَّةِ وغيرها، وقيلَ: «وافق شَنٌّ طبَقَه، وافقَه فاعْتَنَقه» قاله ابنُ الكَلبيّ. وقال الشاعر:
لقِيَتْ شَنٌّ إِيادًا بالقَنَا *** طَبَقًا وافَقَ شَنٌّ طَبَقَه
قال ابنُ سِيدَه: وليس الشَّنُّ هُنا القِربَةَ لأَنَّ القِرْبَةَ لا طَبقَ لها. وقيلَ: يُضرَبُ لكُلّ اثْنَينِ ـ أَو أَمْرين ـ جَمَعَتْهُما حالةٌ واحدة اتَّصَفَ بها كُلُّ منهما، وقيلَ: هما حَيَّانِ اتَّفَقُوا على أَمرٍ، فقيلَ لهما ذلِك، لأَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما قِيلَ لَه ذلِك لَمَّا وافَقَ شَكلَه ونَظِيرَه.
وطابَقَ بين قَمِيصَين: لَبِسَ أَحَدَهُما فَوْقَ الآخر وكذلك صافَقَ بيْنَهما، وطَارَق.
والسَّمواتُ طِباقٌ، كَكِتاب في قوله تَعالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا} سُمِّيت بذلِكَ لمُطابَقَة بَعْضِها بَعْضًا أَي: بَعضها فَوْقَ بعْض، وقِيلَ: لأَنَّ بعضَها مُطْبِقٌ على بعضٍ، وقيل: الطِّباقُ: مصدرُ طُوبِقَت طِباقًا. وقالَ الزَّجّاج: أَي: مُطبِقٌ بَعضُها على بَعْضٍ. قالَ: ونَصَب طِباقًا على وَجْهَيْنِ، أَحدهما: مُطابَقةً طِباقًا، والآخر: من نَعْت سَبْعٍ، أَي: خَلَقَ سَبْعًا ذات طِباقٍ. وقال اللَّيثُ: السَّموات طِباقٌ بعضُها على بعضٍ، وكُلُّ واحد من الطِّباق طَبَقَة، ويُذَكَّر، فيُقال: طَبَق.
وطَبَّقَ الشَّيءُ تَطْبِيقًا: عَمَّ.
وطَبَّق السَّحابُ الجَوَّ: إِذا غَشَّاه. ومنه سَحابَةٌ مُطبِّقَة.
وطَبَّق الماءُ وَجْهَ الأَرْض: إِذا غَطّاه. ويُقالُ: هذا مَطَر طَبَّقَ الأَرضَ: إِذا عَمَّها.
والطُّبَّاقُ، كَزُنَّار: شَجَرٌ. قال أَبو حَنِيفَةَ: أَخْبَرنِي بَعضُ أَزْدِ السَّراة قالَ: هو نَحْوُ القامَةِ، يَنْبُت مُتجاوِرًا، لا تَكادُ تُرَى منه واحدَةٌ منفرِدَة، وله ورقٌ طوالٌ دِقاقٌ خُضْر تتلزَّجُ إِذا غُمِزَتْ، يُضمَدُ بها الكسرُ فيُجْبَرُ، وله نَوْرٌ أَصفَرُ مُجْتَمِعٌ، ولا تَأْكُله الإِبِلُ، ولكن الغَنم، ومَنابِتُه الصَّخْرُ مع العَرْعَر، والنَّحْلُ تَجْرِسُه، والأَوعالُ أَيضًا تَرْعاه، وأَنْشدَ:
وأَشْعَثَ أَنسَتْه المَنِيَّةُ نَفْسَه *** رَعَى الشَّثَّ والطُّبّاقَ في شاهِقٍ وَعْرِ
انتهى كَلامُ أَبي حَنِيفة.
وقال تأَبَّط شَرًّا:
كأَنّما حَثْحَثُوا حُصًّا قوادِمُه *** أَو أُمَّ خِشْفٍ بذي شَثٍّ وطُبَّاقِ
وفي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ ـ رحمه الله تعالى ـ وذَكرَ رَجُلًا يَلِي الأَمْرَ بعدَ السُّفْيانيّ، فقال: «حَمْش الذِّراعينِ والسَّاقَين، مُصفَّح الرَّأْس، غائِر العَيْنَيْن، يكون بينَ شَثّ وطُبَّاقٍ» وهما شَجَرتان مَعْروفتان بنَواحِي جِبَال مَكَّة. أَرادَ أَنَّ مُقَامَه أَو مَخْرَجَه يكونُ بالحِجاز، نافِعٌ للسُّموم شُرْبًا وضِمادًا، ومن الجَرَبِ والحِكَّة والحُمَّياتِ العَتِيقَةِ، والمَغَص، واليَرَقَان وسُدَدِ الكَبِدِ، شَدِيدُ الإِسْخانِ.
ومن المَجازِ: جَمَلٌ طَباقاءُ انْطَبَق عليه، فهو عاجِزٌ عن الضِّرابِ.
ورَجُلٌ طَبَاقاءُ مُعْجَم، يَنْطَبِق، أَي: يَنْعَجِمُ عليه الكَلامُ ويَنْغَلِقُ، وقِيلَ: هو الذي لا يَنْكِحُ.
أَو الطَّباقاءُ: ثَقِيلٌ يُطْبِقُ على المَرْأَةِ بصَدْرِه لِثِقَلِه، أَو عَيِيٌّ ثَقِيل يُطبِقُ على الطَّرُوقَة أَو المرأَةِ بصَدْرِه لصِغَرِه، قال جَمِيلُ بنُ مَعْمَر:
طَباقَاءُ لم يَشْهَدْ خُصُومًا ولم يُنِخْ *** قِلاصًا إِلى أَكْوارِها حينَ تُعْكَفُ
ويُرْوَى: «عَيايَاء» وهُما بمَعْنىً.
قال ابنُ بَرِّيّ: ومِثلُه قَولُ الآخَرِ:
طَباقاءُ لم يَشْهَدْ خُصومًا ولم يَعِشْ *** حَمِيدًا ولم يَشْهَدْ حَلالًا ولا عِطْرا
وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: فقالت: «زَوْجِي عَيَايَاءُ طَباقَاءُ، وكُلُّ داءٍ له دَاءٌ» قال الأَصْمَعِيُّ: الطَّباقاءُ: الأَحمَقُ الفَدْم.
وقال ابنُ الأَعرابِيّ: هو المُطْبَق عليه حُمْقًا. وقِيلَ: هو الَّذِي أُمورُه مُطبَقَة عليه؛ أَي مُغَشَّاة. وقيل: هو الذي يَعجِز عن الكَلامِ فتُطبَق شَفَتاه.
والطَّابِق، كهَاجَر وصاحِبٍ هكذا حَكاهُ اللِّحيانيُّ عن الكِسائيِّ بكَسْر الباءِ وفَتْحِها: الآجُرُّ الكَبِير فارسِيٌّ مُعرَّب تابَه كالطابَاق، وهذه عن الفَرَّاءِ.
وقال ثَعْلب: الطابَق والطابِق: العُضْوُ من أَعضاءِ الإِنسانِ، كاليَدِ، والرِّجْلِ، ونَحْوِهما. وفي حَدِيث عَلِيّ رضي الله عنه: «إِنَّما أُمر في السّارِق بقَطْعِ طابِقِه» أَي: يَدِه. وفي حَدِيث عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: «أَنَّ غُلامًا له أَبَقَ فقال: لَئنْ قَدَرْتُ عليه لأَقْطَعَنَّ منه طابِقًا» يُرِيد عُضْوًا.
أَو الطَّابِقَ: نِصْفُ الشَّاةِ أَو مِقْدارُ ما يَأْكُل منه اثْنان أَو ثَلاثة، ومنه الحَدِيثُ: «فخَبَزْتُ خُبْزًا، وشوَيْتُ طابَقًا من شَاة».
والطّابَق، بفَتْح الباءِ: ظَرْفٌ منْ حَدِيدٍ، أَو نُحاسٍ، يُطْبَخُ فِيهِ فارسيّ مُعَرَّب تابَهْ الجمع: طَوابِقُ وطَوَابِيقُ قال سِيبَوَيْهُ: أَما الَّذِين قالُوا طَوابِيق فإِنَّما جَعلوه تَكْسِيرَ فاعال، وإِن لم يكن في كَلامِهم، كَما قَالُوا: مَلامِح.
والعِمَّةُ الطابِقِيَّة: هي الاقْتِعاطُ. وقالَ ابنُ الأَعرَابِيّ: جاءَ فلانٌ مُقْتَعِطًا أَي جاءَ مُتَعَمِّمًا طابِقِيًا، وقد نُهِي عنها.
وقال ابنُ دُرَيْدٍ: الطِّبْقُ، بالكَسْرِ في بَعْضِ اللُّغاتِ: الدِّبْق الذي يُصادُ به ومثلُه عن ابنِ الأَعرابيِّ.
وهو أَيضًا: حَمْلُ شَجَرٍ بعَيْنِه.
وكُلُّ ما أُلْزِق بِهِ شَيْءٌ فهو طِبْق.
والطِّبْقُ: من حَبائِلِ الطَّيْرِ، مثلُ الفِخاخ كالطِّبَقِ كعِنَب، واحِدُهُما طِبْقَة، بالكسرِ نقله ابنُ عَبّادٍ.
قالَ: والطِّبْقُ: السَّاعَة من النَّهار، كالطِّبْقة بالكسرِ: يُقالُ: أَقَمْتُ عنْدَه طِبْقًا من النَّهارِ، وطِبْقَةً.
والطَّبِيق كأَمِيرٍ: السَّاعَةُ من اللَّيلِ. وفي اللِّسانِ: يُقال: أَتانا بعدَ طِبْقٍ من اللَّيْلِ وطَبِيقٍ، أَي: بعدَ حِينٍ. وكذلك من النَّهارِ ج: طُبْقٌ بالضَّمِّ.
وقال ابنُ عبّادٍ: طِبْقًا بالكَسْرِ وطَبِيقًا كأَمِيرٍ، أَي: مَلِيًّا عن ابنِ عَبّاد.
وقال ابنُ الأَعرابيِّ: يُقالُ: هذَا الشّيءُ طِبْقُه، بالكَسْر، والتَّحْرِيك، وطِباقُه، ككِتاب وأَمِير، أَي: مُطابِقُه وكذلك وَفْقُه ووِفاقُه، وطابَقُه ومُطْبِقُه، وقَالَبُه، وقالِبُه، كلُّ ذلِكَ بمعنىً واحد، كذا في النَّوادر. ويقال: ما أَطْبَقَه لكذا، أَي: ما أَحْذَقَه عن ابنِ عَبَّادٍ.
قال: ويَقُولون: طَبِقَ يَفْعَل كذا، كفَرِح: في معْنَى طَفِقَ.
ومن المَجازِ: طَبِقَتْ يَدُه طَبْقًا بالفتحِ ويُحَرَّك فهو من حَدَّيْ نَصَر وفَرِح فهي طَبِقَة كفَرِحةٍ: إِذا لَزِقَت بالجَنْب ولا تَنْبَسِط.
وأَطْبَقه إِطْباقًا: غَطَّاه وجَعَلَه مُطْبِقًا عليه، فانْطَبَقَ، وهذا قد تَقدَّم له في أَوَّل التَّركيبِ، فهو تَكرار.
ومنه الجُنونُ المُطبِقُ كمُحْسِن الذي يُغَطِّي العَقْل، وقد أَطْبَق عليه الجُنُونُ.
والحُمَّى المُطْبِقَة: هي الدّائمةُ التي لا تُفارِق لَيْلًا ولا نَهارًا، وقد أَطبَقَت عليه، وهو مجاز.
ومن المَجازِ: أَطْبَقَ القَومُ عَلَى الأَمرِ: إِذا أَجْمَعُوا عليه.
وأَطبَقَت النُّجُومُ: كَثُرتْ وظَهَرتْ كأَنَّها لكَثْرتِها طَبَقةٌ فَوْقَ طَبَقةٍ.
والحُروفُ المُطْبَقَةُ أَربعةٌ: الصَّادُ إِلى الظَّاءِ تَجْمَعُها أَوائل: «صِلْ ضَرِيرًا طَالَ ظُلْمُه». وما سِوَى ذلِك فمَفْتُوحٌ غَيْرُ مُطْبَقٍ.
والإِطْباقُ: أَنْ تَرْفَعَ ظَهْرَ لِسانِك إِلى الحَنَك الأَعلى مُطْبِقًا له. ولو لا الإِطْباقُ لصارَت الطَّاءُ دَالًا، والصَّادُ سِينًا، والظّاءُ ذَالًا، ولخَرجَتِ الضَّادُ من الكلام، لأَنَّه ليسَ من مَوْضِعِها شَيْءٌ غيرُها، تَزُولُ الضَّادُ إِذا عَدِمَ الإِطْباق البَتَّةَ.
والتَّطْبِيقُ في الصَّلاةِ: جَعْلُ اليَدَيْنِ بَيْنَ الفَخِذَيْنِ في الرُّكُوعِ وكذلك في التَّشَهُّد، كما رَواه المُنْذِرِيُّ عن الحَرْبيِّ، وكان ذلك في أَوَّل الأَمرِ، ثم نُهُوا عن ذلِك، وأُمِرُوا بإِلقام الكَفَّيْنِ رأْسَ الرُّكْبَتَيْنِ. وكانَ ابنُ مَسْعُودٍ مُستَمِرًا على التَّطْبِيقِ، لأَنّه لم يَكُنْ عَلِمَ الأَمَر الآخَر.
والتَّطْبِيقُ: إِصابَةُ السَّيْفِ المَفْصِل حتى يَبِينَ العُضوُ.
قالَ الفَرزْدَقُ يَمْدَحُ الحَجّاجَ ويُشبِّهُه بالسَّيفِ.
وما هُو إِلّا كالحُسامِ مُجَرَّدا *** يُصَمِّمُ أَحْيانًا وحِينًا يُطبِّقُ
والتَّصْمِيم: أَن يَمْضِيَ في العَظْمِ. ويُقال: طَبَّق السَّيفُ: إِذا وَقَعَ بَيْنَ عظمينِ.
والتَّطْبِيقُ: تَقرِيب الفَرَسِ في العَدْوِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: هو أَن يَثِبَ البَعِيرُ فتَقَعَ قوائمُه بالأَرضِ معًا، ومنه قَولُ الرَّاعي يَصِف ناقةً نَجِيبةً:
حَتَّى إِذا ما اسْتَوى طَبَّقَت *** كما طَبَّق المِسْحَلُ الأَغْبَرُ
يقولُ: لَمَّا اسْتَوَى الرّاكبُ عليها طَبَّقَت.
قال الأَصمعِيُّ: وأَحْسَنَ الرّاعِي في قَوْلِه:
وهِيَّ إِذا قامَ في غَرْزِها *** كمِثْلِ السَّفِينةِ أَو أَوْقَرُ
لأَنَّ هذَا من صِفَةِ النَّجائبِ، ثم أَساءَ في قَوْلِه: طَبَّقَت لأَنَّ النَّجِيبَةَ يُستَحَبُّ لها أَن تُقدِّمَ يَدًا ثم تُقدّمَ الأُخْرَى، فإِذا طَبَّقَت لم تُحْمَد.
قالَ: وهو مِثلُ قولِه:
حتَّى إِذا ما اسْتَوى في غَرْزِها تَثِبُ
والتَّطْبِيقُ: تَعْمِيم الغَيْمِ بِمَطَرِه الأَرضَ، وقد طَبَّقَ، وهذا قد تَقدَّم آنفًا، فهو تَكرار، ومنه: سَحابةٌ مُطَبِّقة.
ومن المَجاز: المُطَبِّقُ كمُحَدِّث مَنْ يُصِيبُ الأُمورَ برَأْيهِ. ومنه قَولُ ابنِ عَبَّاسِ لأَبي هُرَيرة ـ رضي الله عنهم ـ حين بَلَغه فُتْياهُ في المُطَلَّقةِ ثَلاثًا غيرَ مَدْخول بها: إِنَّها لا تَحِلُّ له {حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. فقالَ له: طَبَّقْتَ.
قال أَبو عُبَيد: أَي أَصَبْتَ وَجْه الفُتْيا؛ وأَصلُه إِصابةُ السَّيف المَفْصِل. وقيل: طَبَّق فُلانٌ: إِذا أَصابَ فَصَّ الحَدِيث.
ويُقال للَّذِي يُصيبُ الحُجَّة: إِنه يُطبِّقُ المَفْصِل. وقال أَبو زَيْد: يُقالُ للبَلِيغ من الرِّجالِ: قد طَبَّق المَفْصِلَ، ورَدَّ قَالَبَ الكَلام، ووضَعَ الهنَاءَ مواضِعَ النُّقَبِ.
والمُطابَقَة: المُوافَقَة، وقد طابَقَه مُطابَقَة وطِباقًا. وقال الرَّاغِب المُطابَقَة: من الأَسْماءِ الْمتَضايِفَة؛ وهو أَن يُجعَلَ الشَّيءُ فوقَ آخر بقَدْره، ومنه: طابَقْتُ النَّعْلَ، قال الشاعر:
إِذ لاوَذَ الظِّلَّ القَصِيرَ بخُفّه *** فكَان طِباقَ الخُفِّ أَو قَلَّ زائِدَا
ثم يُستَعْمل الطِّباقُ في الشَّيْءِ الذي يكونُ فَوقَ الآخَرِ تارةً، وفيما يُوافِقُ غيرَه تارةً، كسائرِ الأَشْياءِ المَوْضُوعة لِمعْنَيَيْن، ثم يُستَعْمَلُ في أَحَدِهما من دُونِ الآخر، كالكأْسِ والرّاوِية، ونحوهما.
ومن المَجازِ: المُطَابَقةُ: مَشْيُ المُقَيَّدِ، وهو مُقارَبَةُ الخَطْو.
وهو مأْخُوذٌ من قَولِهم: المُطابَقَة هو وَضْعُ الفَرَسِ رِجْلَيْهِ مَوْضِع يَدَيْه وهو الأَحَقُّ من الخَيْلِ، وكذلِك البَعِير، كما في الأَساسِ.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه:
تَطَابَق الشَّيْئانِ: تَساويَا واتَّفَقا.
وطابَقْتُ بَيْن الشَّيْئَينِ: إِذا جَعَلْتَهما على حَذْوٍ واحدٍ، وأَلْزَقْتَهما.
وهذا الشَّيءُ مُطْبَقُه كمُكْرَم، وطابَقُه كهاجَر، أَي: وَفْقُه عن ابنِ الأَعرابيِّ.
وأَصْبَحَت الأَرضُ طَبَقًا واحِدًا: إِذا تَغَشَّى وَجْهُها بالماءِ.
وطِباقُ الأَرْضِ، وطِلاعُها سواءٌ، بمعنى مِلْئِها. وفي الحَدِيثِ: «قُرَيْشٌ الكَتَبَة الحَسَبَة مِلْحُ هذِه الأُمَّةِ، عِلْمُ عالِمِهم طِباقُ الأَرْضِ» كأَنَّه يَعُمُّ الأَرْضَ فيكونُ طَبَقًا لها.
وفي رواية: «عِلْمُ عالِمِ قُرَيْش طَبَقُ الأَرضِ». وفي حَدِيث آخر: «الله مائَةُ رَحْمَة كُلًّ رَحْمَةٍ منها كطِباقِ الأَرْضِ» أَي: تُغَشِّي الأَرضَ كُلَّها.
وفي حَدِيث أَشْراطِ السّاعة: «تُوصَلُ الأَطْباقُ وتُقْطَعُ الأَرْحام» يعنِي بالأَطْباقِ البُعَداءَ والأَجانِبَ.
وطابَقَه على الأَمْرِ: جامَعَهُ ومَالأَه. وقِيلَ: عَاونَه.
وطابَقَت المَرْأَةُ زَوْجَها: إِذا واتَتْه.
وطابَقَ على العَمَل: مارَنَ.
وطابَقَت النَّاقةُ والمَرْأَةُ: انْقادَت لمُرِيدِها.
والطِّبْقُ بالكَسْرِ، والمُطَبَّق كمُعَظَّم: شَيءٌ يُلْصَقُ به قِشْرُ اللُّؤلُؤ فيَصِيرُ مثلَه.
وجاءَت الإِبِلُ طَبَقًا واحِدًا، بالتَّحْرِيك، أَي: على خُفٍّ واحِد.
ويُقالُ: باتَ يَرْعَى طَبَقَ النُّجُومِ، أَي: حالَها في مَسِيرِها، وهو مَجازٌ.
والطَّبَقَة: الحَالُ، والجَمْع الطَّبَقَات.
والمُطْبِقاتُ: الدَّواهِي والشَّدائِد، عن أَبي عَمْروٍ. ويُقالُ للسَّنَةِ الشَّدِيدَةِ: المُطْبِقَةُ، وهو مَجاز. قال الكُمَيْتُ:
وأَهْل السَّماحة في المُطْبِقات *** وأَهلُ السَّكِينة في المَحْفَلِ
ويَكُون المُطْبَق بمعنى المُطْبِق.
وولدَتِ الغَنَمُ طَبَقًا [وطَبْقًا]: إِذا نُتِج بَعضُها بَعْد، بَعْضٍ. وقالَ الأمَوِيُّ: إِذا وُلِدَتِ الغَنَمُ بَعضُها بَعْدَ بَعْضٍ قيلَ: قد وَلَّدْتُها الرُّجَيْلاءَ، ووَلَّدْتُها طَبَقًا وطَبَقَةً.
والطَّبَقات: المَنازِل والمَراتِب.
والطَّبَقَة من الأَرضِ: شِبْه المَشَارَة.
وقال الأَصمعِيُّ: كلُّ مَفْصِل طَبَق، والجَمْع أَطباقٌ.
والطَّبَقُ: الدَّرَكُ من أَدْراكِ جَهَنَّم، أَعاذَنا اللهُ منها.
وقال ابنُ الأَعْرابِّي: الطَّبْقُ، بالفَتْحِ: الظُّلْمُ بالبَاطِل.
وقال ابنُ شُمَيْلٍ: يُقالُ: تَحَلَّبُوا على فُلان طَباقَاءَ، بالمَدِّ، أَي: تَجَمَّعوا كُلُّهم عليه.
وأَطْباقُ الرَّأْسِ: عِظامُه؛ لِتطابُقِها مع بَعْضِها واشْتِباكِها.
وقال ابنُ عَبَّاد: بِئْرٌ ذاتُ طابَقٍ إِذا كانَت فِيها حُروفٌ نادِرَةٌ.
قالَ: وكُتُبُه لي طَبَقة، أَي: مُتَواتِرة.
والمُطْبَقُ عليه، بفَتْح الباءِ: المُغْمَى عليه.
وطابَقَ لي بحَقِّي: إِذا أَذْعَنَ وأَقَرّ.
وهذا جوابٌ يُطابِقُ السُّؤالَ.
وأَطبَقْتُ الرَّحَى: إِذا وَضَعتَ الطَّبَقَ الأَعلَى على الأَسْفلِ.
وجَرادٌ مُطبِّقٌ: عامٌّ.
وأَطْبِق شَفَتَيْك: أَي اسكُت.
وأَطبَقَ الغَيمُ السْماءَ، كطَبَّقَها.
والمُطبِقُ، كمُحْسِنٍ: سِجْنٌ تحتَ الأَرضِ.
وبَيْتٌ مُطبَقٌ: انتَهى عَرُوضُه في وَسَط الكلمةِ. ولامِيَّةُ عَبِيدٍ كُلُّها مُطْبَقةٌ إِلَّا بَيْتًا واحِدًا، نَقَله الزَّمَخْشَرِيّ.
وأَطْبَقَ الرَّاكعُ: مثل طَبَّق.
وطَبَّقَتِ الإِبِلُ الطْرِيقَ: قطعَتْه غَيرَ مائِلةٍ عن القَصْدِ، وهو مجاز.
والإِطْباقَةُ: قَرْية بِمصْر من أَعمالِ الغَرْبِيَّة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
278-تاج العروس (ورق)
[ورق]: الوَرْقُ مُثَلَّثة، وكَكَتِف، وجَبَل خَمْس لُغاتٍ، حَكَى الفَرَّاءُ منها وَرْقًا بالفتحِ، وَوَرِقًا ككَتِف، ووِرْقًا بالكسر، مثل: كَبِد وكِبْد؛ لأَنَّ فيهم من يَنْقُل كَسْرةَ الرَّاءِ إِلى الواو بعد التَّخْفِيف، ومنهم مَنْ يَتْرُكها على حالِها، كما في الصّحاح. وقرأَ أَبو عَمُرو، وأَبو بَكْر، وحَمزةُ، وخَلَف: «بوَرْقكم» بالفَتْح. وعن أَبي عَمْروٍ أَيضًا، وابن مُحَيْصِن «بِوِرْقِكم» بكَسْر الوَاوِ. وقرأَ أَبو عبيدَةَ بالتَّحرِيك، وقرأَ أَبو بكر «بوُرْقِكم» بالضَّم: الدَّراهِم المَضْرُوبَةُ كما في الصِّحاح. وقال أَبو عبيَدَة: الوَرَق: الفِضَّةُ كانت مَضْروبة كدَراهِم أَوْلا، وبه فُسِّر حَدِيثُ عَرفَجَةَ: أَنَّه لَمَّا قُطِع أَنْفُه اتَّخَذ أَنْفًا من وَرِق، فأَنْتَن عليه، فاتَّخَذ أَنْفًا من ذَهَب.وحَكَى عن الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ إِنما اتَّخذ أَنْفًا من وَرَق «بفَتْح الرّاءِ»، أَرادَ الرَّقَّ الذي يُكْتَبُ فيه، لأَنَّ الفِضَّةَ لا تُنْتِنُ.
قالَ ابنُ سيدَه: وكُنتُ أَحسِب أَنَّ قولَ الأَصمعيّ إِنَّ الفِضَّة لا تُنْتِن صَحِيحًا، حتى أَخبَرِني بعضُ أَهلِ الخِبْرة أَنَّ الذَّهَبَ لا يُبلِيه الثَّرَى، ولا يُصْدِئه النَّدَى، ولا تَنقُصُه الأَرضُ، ولا تأْكُله النّارُ. فأَمّا الفِضَّةُ فإِنَّها تَبْلَى، وتَصْدَأُ، ويَعلُوها السّوادُ، وتُنْتِنُ ج: أَوراقٌ يُحْتَمل أَن يكونَ جمع وَرِق ككَتِف، وجمع وِرْق، بالكَسْرِ وبالضَّم وبالتَّحريك.
ووِراق بالكَسْرِ نقله الصّاغانيُّ كالرِّقَةِ* كعِدَة، والهاءُ عِوَضٌ عن الواو. ومنه الحَدِيث: «في الرِّقَة رُبعُ العُشْرِ». وفي حَدِيثٍ آخر: «عَفوْتُ لكم عن صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيق، فهاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ» يُرِيد الفِضَّةَ والدَّراهِم المَضْروبةَ منها.
وأَنشَدَ ابنُ بَرِّيّ قولَ خالدِ بنِ الوَلِيدِ ـ رضي الله عنه ـ في يومِ مُسَيْلِمةَ:
إِنَّ السِّهامَ بالرَّدَى مُفَوَّقَهْ *** والحَرْبَ وَرْهاءُ العِقال مُطْلَقَه
وخالِدٌ من دِينِه على ثِقَهْ *** لا ذَهَبٌ يُنْجِيكُمُ ولا رِقَهْ
قال ابنُ سِيدَه: وربّما سُمِّيت الفِضَّة وَرَقًا، يقال: أَعطاه أَلفَ دِرْهم رِقَةً لا يُخالِطُها شَيْءٌ من المالِ غَيرها.
وقال أَبو الهَيْثم: الوَرِق والرِّقَة: الدّراهم خاصّة.
وقال شَمِر: الرِّقَةُ: العَيْن. ويُقال: هي من الفِضَّة خاصّةً. ويقال: الرِّقَةُ: الفِضَّةُ والمَالُ، عن ابنِ الأَعْرابِيِّ، وأَنشدَ:
فلا تَلْحَيا الدُّنْيا إِليَّ فإِنَّنِي *** أَرَى وَرِقَ الدُّنْيا تَسُلُّ السّخائمَا
ويا رُبَّ مُلْتاثٍ يَجُرُّ كِساءَه *** نَفَى عنه وِجدانُ الرِّقينَ العَزائِما
يَقُول: يَنفِي عنه كَثرةُ المال عَزائمَ النّاس فيه أَنَّه أَحمَقُ مَجْنون. قال الأَزهَرِيّ: لا تَلْحَيا: لا تَذُمّا. والمُلْتاث: الأَحمَق. قال ابنُ بَرِّيّ: والشِّعْر لُثمامَة السَّدُوسِيّ.
والوَرَّاقُ: الكِثيرُ الدَّراهم كما في الصَّحاح.
وقال غَيرُه: رَجُل وَرّاقٌ: صاحِبُ وَرَق. وقَرَأَ عليٌّ رضي الله عنه: «فابْعَثُوا بوَرّاقِكُم» أَي بصَاحِب وَرَقِكم. قالَ الرّاجِزُ:
يا رُبّ بَيْضاءَ من العِراقِ *** كأَنَّها في القُمُص الرِّقاقِ
مُخَّةُ ساقٍ بينَ كَفَّيْ ناقِ *** أَعْجَلَها النّاقِي عن احْتِراقِ
تأْكُلُ من كِيسِ امْرِئٍ وَرَّاقِ
وقال ابنُ الأَعرابيّ: أَي كَثِيرُ الوَرَقِ والمَالِ.
والوَرَّاقُ أَيضًا: مُوَرِّقُ الكُتُب كما في العُبابِ. وفي الصِّحاح: رجل وَرَّاق، وهو الَّذِي يُوَرِّقُ ويَكْتُب، وحِرْفَتُه الوِراقَةُ بالكَسْر.
والوَرَاق كَسحَاب: خُضْرَةٌ الأَرْضِ من الحَشِيشِ. قالَ ابنُ الأَعرابيِّ: ولَيْس من الوَرَق أَي: من وَرَقِ الأَرض في شَيْءٍ. وقال أَبو حَنِيفةَ: هو أَن تَطَّرِدَ الخُضْرةُ لعَيْنِكَ، قال أَوسُ بنُ حَجَرٍ يَصِف جَيْشًا بالكَثْرةِ كما في الصّحاح، ونَسَبَه الأَزْهَرِيُّ لأَوْسِ بنِ زُهَيْر:
كأَنّ جِيادَهُنَّ برَعْنِ زُمٍّ *** جَرادٌ قد أَطاع له الوَراقُ
ويُرْوَى: برَعْن قُفٍّ. قالَ ابنُ سِيدَه: وعِنْدِي أَن الوَرَاق من الوَرَق.
وأَنشدَ الأَزْهَرِيُّ:
قُلْ لِنُصَيْبٍ يَحْتَلِبْ نارَ جَعْفَرٍ *** إِذا شَكِرَتْ عند الوَراقِ جِلامُها
ومُحَمَّد بنُ عَبْدِ الله بنِ حَمْدَوَيْهِ بن الحَكَم بن وَرْق، كوَعْد السّماحيُّ: مُحَدِّث، روى عن أَبِي حَكِيم الرّازِيّ، وطَبَقَتِه، مات سنَة تِسْع عَشْرة وثَلثمِائة.
والوَرَق ـ مُحَرَّكة ـ من الكِتاب والشَّجَر: معروف معروف، واحِدَتُه بِهاءٍ. أَما وَرَق الكِتاب فأُدُمٌ رِقاقٌ. ومنه كأَنَّ وَجهَه وَرَقةُ مُصْحَفٍ، وهو مَجازٌ. وأَما وَرَق الشَّجَرِ فقالَ أَبو حَنِيفَةَ: هو كُلُّ ما تَبَسَّطَ تَبَسُّطًا وكان له عَيْر في وَسَطه تَنْتَشِرُ عنه حاشِيَتاه.
ومن المجازِ: الوَرَق: ما اسْتَدارَ من الدَّمِ على الأَرْضِ. وقالَ ابنُ الأَعرابيِّ: مِقْدارِ الدِّرْهَم من الدَّم، أَو هو ما سَقَط من الجِراحَة عَلَقًا قِطَعًا. قال أَبو عُبَيَدَة: أَوَّله وَرَق، وهو مِثْل الرَّشّ، والبَصِيرة: مثل فِرْسِن البَعِير، والجَدِيَّةُ أَعظَم من ذلك، والإِسْباءَةُ في طُولِ الرُّمح، والجمع الأَسَابيّ. كذا في الصِّحاح.
وقال عَمْروٌ في ناقَته، وكان قَدِمَ المَدِينةَ:
طالَ الثَّواءُ عليه بالمَدِينةِ لا *** تَرْعَى وبِيعَ له البَيْضاءُ والوَرَقُ
أَرادَ بالبَيْضاءِ الحَلِيَّ، وبالوَرَق: الخَبَط. وبِيع: اشْتُرِي.
والوَرَق: الحَيُّ من كُلّ حَيَوان قال أَبو سَعِيد: رأَيتُه وَرَقا، أَي: حَيًّا، وكُلُّ حَيٍّ وَرَق، لأَنهم يَقُولون: يَمُوتُ كما يَمُوتُ الوَرَق، ويَيْبَس كما يَيْبَس الوَرَق، قال الطّائِيُّ:
وهَزَّت رأْسَها عَجَبًا وقالت: *** أَنا العُبْرِي أَإِيّانا تُرِيدُ؟
وما يَدْرِي الوَدُودُ لعلَّ قَلْبِي *** ولو خُبِّرتَه وَرَقًا جَلِيدُ
أَي: ولو خُبّرته حَيًّا فإِنه جَلِيد.
ومن المجاز: الوَرَق: المَالُ من إِبلٍ ودَراهِم وغَيْرِها، قال العَجَّاج:
إِيَّاكَ أَدعُو فتَقَبَّلْ مَلَقِي *** واغْفِر خَطَايَاي وثَمِّرْ وَرَقِي
أَيَ: مالِي، نَقَله الجوهَرِيُّ.
وقال ابنُ الأَعرابي: الوَرَق: المَالُ الناطِقُ كله.
وقال الزّمخْشَرِيّ: ثَمَّر الله ورَقَه، أَي: ماشِيَتَه.
والوَرَق من القوم: أَحْداثُهم عن ابنِ السِّكِّيت، وهو مَجازٌ، وأَنشَدَ لهُدْبَة بنِ الخَشْرَمِ يَصِفُ قومًا قَطَعُوا مَفازَةً.
إِذا وَرَقُ الفِتْيان صارُوا كأَنَّهُم *** دَراهِمُ منها جائِزاتٌ وزائِفُ
أَو الضِّعاف من الفِتْيانِ عن اللَّيْثِ.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الوَرَقُ: حُسْن القَوْم وجَمالُهم ونَصُّه في الجَمْهرة: وَرَقُ الفِتْيانِ: جَمالُهم وحُسْنُهم، وهو مَجازٌ.
وقال اللَّيْثُ: الوَرَقُ: جَمالُ الدُّنْيا وبَهْجَتُها. ونَصُّ العَيْن: وَرَق الدُّنيا: نَعِيمُها وبَهْجَتُها، وأَنْشَدَ:
فما وَرَقُ الدّنيا بِباقٍ لأَهْلِها
ومن المَجاز: الوَرَقة بهاءٍ: الخَسِيسُ من الرّجال.
والوَرَقة: الكَرِيمُ من الرِّجال عن ابنِ الأَعرابيِّ ضِدٌّ.
ورجُلٌ وَرَقَة، وامرأَة وَرَقَةٌ: خَسِيسان.
وفي الأَسَاس: يقال: إِنّه وإِنَّها وَرَقَة: إِذا كانا ضَعِيفَين حَدِيثَيْن.
وَوَرَقَة: د، باليَمَن من نَواحِي ذَمَار.
ووَرَقة بنُ نَوْفل بنِ* أَسَدِ بنِ عَبْد العُزَّى بنِ قُصَيّ وهو ابنُ عَمِّ أُمِّ المؤمنين، وجدَّةِ أَهل البَيْتِ خَدِيجَة بنتِ خُوَيْلِد بن أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى، رضي الله عنها. وقال ابنُ مَنْدَه: اختُلِف في إِسْلامِه، والأَظْهَرُ أَنّه مات قَبْل الرِّسالة، وبَعْد النُّبُوَّة.
ووَرَقَةُ بنُ حَابِس التَّمِيمِيّ: صَحابِيُّ رضي الله عنه، قَدِم نَيْسابُور، قاله الحَاكِم، قَدِم مع الأحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، ورَجُلانِ من الصَّحابة يُعرَفان بوَرَقَةَ، أَحدُهما: من بَنِي أَسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى، وقد رَوَى عن ابنِ عَبّاس، والثّانِي: له ذِكْرٌ في حَدِيثٍ ذَكَره أَبو مُوسى.
وشَجَرَةٌ وَارِقة ووَرِيقَة وَوَرِقَة الأَخِيرةُ على النَّسَب؛ لأَنه لا فِعْلَ له: كَثِيرَةُ الوَرَق، وقد وَرَق الشَّجَرُ يَرِقُ كوَعَد يَعِد، وأَوْرَق إِيراقًا وَورَّق تَوْرِيقًا. قالَ الأَصمعيُّ: وأَوْرَقَ بالأَلِف: أَكْثَر، أَي: خَرَج ورَقُه. وقالَ أَبو حَنِيفَة: إِذا ظَهَر وَرَقُه تَامًّا.
والوِراقُ كَكِتابٍ: وَقْتُ خُروجِه أَي: الوَقْتُ الذي يُورِقُ فيه الشجر.
والوَرَقَة*: الشَّجَرةُ الخَضْراءُ الوَرَق الحَسَنَتُه، وقيل: الكَثِيرَةُ الأَوْراق.
والرِّقةُ كعِدَة: أَولُ نَبات النَّصِيِّ والصِّلِّيان والطَّرِيفة رَطْبًا. يُقال: رَعَيْنا رِقَة الطَّرِيفة.
وقال ابنُ الأَعرابيِّ: يُقال للنَّصِيّ والصِّلِّيان إِذا نَبَتا: رِقةٌ ما داما رَطْبَيْنِ، وأَيضًا رِقَةُ الكَلإِ: إِذا خَرَج له وَرَق.
وقال ابنُ سَمْعان: الرِّقة: الأَرضُ التي يُصِيبُها المَطَر في الصَّفَرِيّة أَو في القَيْظِ، فَتَنْبُتُ، فتكون خَضْراءَ، فيُقال: هي رِقةٌ خَضْراء.
وَوَرْقان: موضع. قال جَمِيلٌ:
يا خَلِيلَيَّ إِنَّ بَثْنَةَ بانَت *** يوم وَرْقانَ بالفُؤاد سَبِيّا
ووَرِقان بكَسْر الرَّاءِ: جَبَل أَسْود من أَعظَم الجِبال بَيْن العَرْجِ والرُّوَيْثَة يدفَعُ سَيلَه في رِئْم، وهو أَول جَبَل بِيَمِينِ المُصْعِدِ من المَدِينة إِلى مَكَّةَ حَرَسهما الله تَعالَى مُنْقاد من سَيَالَةَ إِلَى المُتَعَشَّى، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد للأَحْوصِ:
وكَيفَ تُرَجِّي الوَصْلَ منها وأَصبَحَت *** ذُرَا وَرِقان دُونَها وحَفِيرُ
هكذا قَيَّدَه أَبو عُبَيد البَكْرِيُّ وجَماعةٌ. ويُقال: إِنَّ الذي ذَكَره جَمِيلٌ هو هذا الجَبَل، وإِنما خَفَّفه بسُكُون الرَّاءِ. قال السُّهَيُليُّ في الرَّوْض: ووَقَع في نُسْخةِ أَبي بَحْرٍ سُفْيانَ بنِ العَاصِي الأَسَدِيّ «بفَتْح الرّاءِ».
ومَوْرَقُ، كمَقْعَد: اسمُ مَلِك الرُّوم. قالَ الأَعْشَى:
فأَصْبَحْتُ قد وَدَّعتُ ما كانَ قد مَضَى *** وقَبْلِيَ ما ماتَ ابنُ سَاسَان مَوْرَق
أَراد كِسْرَى بنَ ساسان.
ومَوْرَق: وَالِدُ طَرِيفٍ المَدَنيّ، هكَذا في العُباب.
وفي التَّبْصِير: المَدِينِيّ المُحَدِّث عن إِسْحاق بنِ يَحْيى بنِ طَلْحة وغَيْره، رَوَى الزُّبيرُ بنُ بَكَّار عن يَحْيى بنِ مُحمد عنه.
ومَوْرَقٌ شاذٌّ في القِياس لأَنَّ ما كانَ فَاؤُه حَرفَ عِلّة فإِنَّ المَفْعَلَ منه مَكْسُور العَيْن، مثلُ مَوْعِد ومَوْرِد. ولا نَظِيرَ لها سِوَى مَوْكَل ومَوْزَن ومَوْهَب ومَوْظَب ومَوْحَد كما في العُباب.
وفي القَوْس وَرْقَةٌ، بالفَتْح هكذا ضَبَطه كُراع، أَي: عَيْب وهو مَخْرَج الغُصْنِ إِذا كان خَفِيًّا. قالَ ابنُ الأَعرابيِّ: فإِذا زَادَتْ فهي الأُبْنَة، فإِذا زَادَت فهي السَّحْتَنَة.
وقال الأَصمَعِيُّ: الأَوْرَقُ من الإِبل: ما في لَوْنه بَياضٌ إِلى سَوادٍ.
والوُرْقَةُ: سَوادٌ في غُبْرة، وقيل: سَوادٌ وبَياض كدُخَان الرِّمْثِ يكونُ ذلك في أَنْواعِ البَهائمِ، وأَكثرُ ذلِك في الإِبِلِ. قال أَبو عُبَيدٍ: وهو من أَطْيَب الإِبِلِ لَحْمًا لا سَيْرًا وعَمَلًا أَي: لَيْس بمحمودٍ عندَهم في عَمَله وسَيْره.
وقال الأَصمَعيُّ: إِذا كان البَعِيرُ أَسْودَ يُخالِط سوادَه بَياضٌ كدُخان الرِّمْثِ فتِلك الوُرْقَة، فإِذا اشْتَدَّتْ وُرْقَتُه حتى يَذْهَب البَياض الذي هو فيه فهو أَدْهَم. ويقال: جَمَلٌ أَورَقُ، وناقةٌ وَرْقاءُ. وفي حَدِيث قَيْس: «على جَمَل أَوْرَق». وفي حَدِيث ابنِ الأَكْوعِ: «خَرجتُ أَنا ورَجُلٌ من قَوْمي وهو على نَاقَة وَرْقاءَ» وقال ابنُ الأَعرابيّ: قال أَبو نَصْر النُّعامِيّ: هَجِّر بحَمْراءَ، وأَسْرِ بوَرْقاءَ، وصَبِّح القومَ على صَهْباء قِيلَ له: ولِمَ ذلِك؟ قال: لأَنَّ الحَمراءَ أَصبرُ على الهَواجِر، والوَرْقاءَ أَصبَرُ على طُول السُّرَى، والصَّهْباء: أَشهَرُ وأَحسَنُ حين يُنْظَرُ إِليها.
ومن ذلِك قِيلَ: الرَّمادُ أَوْرَقُ.
ومن المَجاز: عَامٌ أَورَقُ، أَي: لا مَطَرَ فيه. قال جَنْدَلٌ:
إِن كانَ عَمِّي لكَرِيمَ المَصْدَقِ *** عَفًّا هَضُومًا في الزَّمانِ الأَوْرَقِ
والأَوْرَقُ: اللَّبَنُ الذي ثُلُثاه مَاءٌ، وثُلُثه لَبَنٌ. قال:
يَشْربهُ مَحْضًا ويَسْقِي عِيالَه *** سَجَاجًا كأَقْرابِ الثَّعالِبِ أَوْرَقَا
الجمع: الكُلِّ وُرْقٌ بالضّم.
والوَرْقاء: الذِّئْبَة، والذَّكَر أَورَقُ. ويُقال: هو من وُرْقِ الذّئاب، وقد شَبَّهُوا لَونَ الذّئبِ بلون دُخان الرِّمْثِ؛ لأَن الذّئبَ أَوْرَقُ. قال رُؤْبةُ:
فلا تَكُونِي يابنَةَ الأَشَمِّ *** وَرْقاءَ دَمَّى ذِئْبَها المُدَمِّي
وقالَ أَبو زَيْدٍ: هو الَّذي يَضْرِبُ لونُه إِلى الخُضْرةِ، قالَ: والذِّئاب إِذا رَأَتْ ذِئْبًا قد عُقِرَ وظَهَرَ دَمُه أَكَبَّتْ عليه فقَطَّعَتْه، وأُنُثْاه مَعَها. وقِيلَ: الذِّئْبُ إِذا دُمِّيَ أَكَلَتْه أُنْثاهُ، فيَقُولُ هذَا الرَّجل لامرأَتِه: لا تَكُونِي إِذا رَأَيْتِ الناسَ قد ظَلَمُوني مَعَهم عَلَيَّ، فتَكُونِي كذِئْبَة السَّوْءِ.
والوَرْقاءُ: الحَمَامَةُ. قال عُبَيْد بنُ أَيُّوبٍ العَنْبَرِيُّ:
أَإِن غَرَّدَت وَرْقاءُ في رَوْنَقِ الضُّحَى *** على فَنَنٍ رِئْدٍ تَحِنُّ وتَطْرَبُ
قالَ الحَسَنُ بنُ عبدِ الله بنِ مُحمّدِ بنِ يَحْيى الكاتِب الأَصبِهاني في كِتاب الحَمام المَنْسُوب [إِليه] الأَوْرَق: الَّذِي لونُه لَوْنُ الرَّمادِ فيه سَوادٌ. يُقالُ: أَورَق وَوَرْقاء، والجَمْع الوُرْقُ، قال:
وما هَاجَ هذَا الشَّوقَ غَيرُ حَمامةٍ *** من الوُرْقِ حَمَّاءِ الجَناح بَكُورِ
غَدَتْ حينَ ذَرَّ الشَّرْقُ ثم تَرنَّمت *** بلا سَحَلٍ جافٍ ولا بصَفِيرِ
وقال ذُو الرُّمَّةَ:
وماء تَجافَى الغَيثُ عنه فما بِه *** سَواءَ الصَّدَى والخضّف الوُرْق حاضِرُ
وردتُ اعتِسافًا والثُّريَّا كأَنَّها *** وراءَ السِّماكَيْنِ المَهَا واليَعافِرُ
ج: وَراقَى، وَوِراق، كصَحارَى وصِحار، والنِّسْبَةُ وَرْقاوِيّ كما في الصّحاح.
ومن أَمثالِهم: جاءَنا بأُمِّ الرُّبَيْقِ على أُرَيْق: إِذا جاءَ بالدَّاهِيَةِ المُنْكَرة، تَقدّم ذِكْرُه في: «أَرق». وهذا مَوضِع ذِكْره كما فَعَله الجوهَرِيُّ والأَزْهَرِيُّ، فإِنَّ أُريْقًا مُصَغَّرُ أَوْرَق على التَّرخِيم، كما صَغَّرُوا أَسْودَ على سُوَيد، وأُرَيْق في الأَصْل وُرَيْق.
وبُدَيْلُ بنُ وَرْقاءَ بنِ عَبدِ العُزَّى بن رَبِيعةَ الخُزاعِيّ: صَحابِيُّ رضي الله عنه، أَسْلَم هو وابْنُه عَبدُ الله وَحكِيمُ بنُ حِزام، وكانَ ابْنُه عَبدُ الله سَيِّدَ خُزاعةَ، قُتِل مع أَخِيه بصِفِّين، رضي الله عنهم.
وأَوْرَقَ الرجلُ: كَثُر مَالُه يَعْنِي به الماشِيَةَ ودَراهِمُه.
ومن المَجازِ: أَورَقَ الصائِدُ أَي: لم يَصِد. وفي المُحْكَم: أَخْطَأَ وخَابَ. ويُقال: أَوْرَقَ الحَابِلُ إِيراقًا، فهو مُورِقٌ: إِذا لم يَقَع في حِبالَتِه صَيْدٌ. وكذا أَوْرَق الطَّالِبُ للحاجَةِ: إِذا لم يَنَلْ وأَخفَقَ بمَعناه.
وأَوْرَقَ الغَازِي: إِذا لم يَغْنَم فهو مُورِقٌ، ومُخْفِقٌ، وهو مجاز.
ومُورَق، بالضَّمِّ وفَتْحِ الرَّاءِ، مُخَفَّفةً: موضع بفارِس ولو قالَ: كمُكْرَمٍ كان أَخْصَر.
ومُورِّق كمُحَدِّث ابن مُهَلِّبٍ يَروِي عن أَبي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعنه بِشْرُ بنُ غالبٍ.
وأَبو المُعْتَمِر مُورِّق بن مُشَمْرِخِ العِجْلِيّ من أَهْلِ البَصْرةِ، يَرْوِي عن أَبي ذَرٍّ، رضي الله عنه، وعنهُ أَهلُ العِراقِ، وكانَ من العُبّادِ الخُشْن، ماتَ في ولايةِ ابن هُبَيْرة سنة خَمْسٍ ومائة: تَابِعِيّانِ ذكرَ الأَخيرَ ابنُ حِبّان في الثّقاتِ. أَمّا الأَول فأَوْرَدَه الذّهَبِيُّ في ذَيْل الدِّيوان، وقالَ فيه: إِنَّه مَجْهُول.
ومُورِّق بن سُخَيْت: مُحدِّث ضَعِيفٌ، رَوَى عن أَبي هِلال، تَفرَّدَ بحَدِيثٍ، وفيه جَهالَة، كذا ذَكَره الذّهبِيُّ في الدّيوان.
وقال النَّضْر: ايراقَّ العِنَبُ يَوْرَاقُّ: إِذا لَوَّن فهو مُوراقّ، كذا نَصّ العُباب. وفي اللسان: اوراقَّ العِنَبُ يوْراقّ ايرِيقَاقًا: إِذا لَوَّنَ، قاله النَّضْرُ.
والوُرَيْقة كجُهَيْنة: موضع. قالَ ابنُ دُرَيدٍ: زَعَمُوا. والَّذِي في الجَمْهَرة كَسَفِينةٍ.
وتَوَرَّقَت النَّاقةُ: إِذا أَكَلت الوَرَقَ. ويُقال: إِذا رَعَت الرِّقةَ.
ويُقال: ما زِلتُ مِنك ولَك مُوارِقًا: أَي: قَرِيبًا لك مُدانِيًا منك.
ويُقال: اتَّجِرْ فإِنَّ التِّجارة مَوْرَقَةٌ للمَالِ، كمَجْلَبَة أَي: مُكَثِّرة ومَظِنّة للنّموِّ والبَرَكة.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه:
قالَ اللِّحْيانِيّ: وَرَقَت الشَّجَرُة وَرْقًا: أَلْقَتْ وَرَقَها.
ويُقال: رِقْ هذه الشّجرة وَرْقًا، أَي: خُذْ وَرَقَها، وقد وَرقتُها أَرِقُها وَرْقًا، فهي مَوْرُوقَة.
وفي الحَدِيث أَنّه قال لعَمّار: «أَنتَ طَيِّبُ الوَرَقِ» أَرادَ به نَسْلَه تَشْبِيهًا بوَرَقِ الشَّجر؛ لخُرُوجِها منها.
وما أَحْسَنَ وَرَاقَه وأَوراقَه؛ أَي لِبْسَته وشارَتَه، على التَّشْبِيه بالوَرَقِ.
واخْتَبَطَ منه وَرَقًا: أَصابَ منه خَيْرًا.
والوَرِيقَةُ: الشَّجرةُ الحَسَنةُ الوَرَقِ، عن أَبي عَمْروٍ.
وفَرْعٌ وَرِيقٌ: كَثِير الوَرَق. قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ رضي الله عنه يَصِف سَرْحَةً:
تَنَوَّطَ فيها دُخَّلُ الصَّيْفِ بالضُّحَى *** ذُرَى هَدَباتٍ فَرْعُهُنَّ وَرِيقُ
والوَرَق: الدُّنْيا.
وَرَق الشَّبابِ: نُضْرَتُه وحَدَاثَتُه، عن ابنِ الأَعرابيِّ.
وحُكِيَ في جَمْع الرِّقة: رِقاتٌ.
والمُسْتَورِقُ: الذي يَطْلب الوَرِق. قالَ أَبو النَّجْم:
أَقبلْت كالمُنْتَجِع المُسْتَورِق
وأَنشد ثَعْلب:
إِذا كَحَلْنَ عُيونًا غيرَ مُورِقَةٍ *** رَيَّشْن نَبْلًا لأَصْحاب الصِّبا صُيُدَا
قال: يَعْنِي غيرَ خائِبة.
وأَوْرَقَ الغَازِي: إِذا غَنِمَ، وهو من الأَضْداد، قال:
أَلم تَرَ أَنَّ الحَرْبَ تُعْوِجُ أَهلَها *** مِرارًا وأَحْيانًا تُفِيدُ وتُورِقُ
والأَوْرَقُ: الأَسمَرُ من النّاسِ. ومنه حَدِيثُ المُلاعَنَة: «إِن جاءَتْ به أَوْرَقَ جَعْدًا جُمالِيًّا» قالَ أَبو عُبَيْد: ومِنْ أَمثالِهم: «إِنَّه لأَشْأَمُ من وَرْقاءَ». وهي مَشْؤومة يعني النّاقَة.
ورُبَّما نَفَرَتْ فذَهَبت في الأَرْضِ. وقال أَبو حَنِيفَةَ: نَصْلٌ أَوْرَقُ: بُرِدَ أَو جُلِيَ، ثم لُوِّح بعدَ ذلك عَلَى الجَمْر حَتَّى اخضَرَّ، قال العَجَّاج:
عليه وُرْقان القِرانِ النُّصَّلِ
وَوَرَقة الوَتَرِ: جُلَيْدة تُوضَع على حَزِّه، عن ابن الأَعرابِيِّ.
والوَرْقاءُ: شُجَيْرَة تَسمُو فوقَ القامةِ، لها وَرقٌ مُدوَّر واسعٌ دقيقٌ ناعِمٌ تأْكُلُه الماشِيَةُ كلُّها، وهي غَبْراءُ السّاقِ، خَضْراءُ الوَرَقِ، لها زَمَعٌ شُعْرٍ فيه حَبٌّ أَغبَرُ مثلُ الشَّهْدانَج، تَرْعاه الطَّيرُ، وهو سُهْلِيّ يَنْبتُ في الأَودِيَةِ، وفي جَنَباتَها، وفي القِيعانِ، وهي مَرْعىً.
والوِراقُ، بالكَسْرِ: موضع. قال الزِّبْرِقان:
وعَبدٍ من ذَوِي قَيْسٍ أَتانِي *** وأَهلِي بالتَّهائِمِ فالوِراقِ
وثَنّاهُ ابنُ مُقبِل فقالَ:
رآها فُؤادِي أُمَّ خِشْف خَلالَها *** بقُورِ الوِراقَيْنِ السَّرَاءُ المُصَنِّفُ
قالَ الجَوْهَريُّ: النِّسْبةُ إِلى وَرْقاءَ ـ اسم رَجُل ـ: وَرْقاوِيّ، أَبدَلُوا من هَمْزةِ التّأْنِيثِ واوًا.
والوَرَّاق، ككَتّان: قَريَتان بالقُرب من مِصْر على شاطئِ النيلِ.
والوَرَق، مُحَرَّكة: قَرْية من أَعْمال الغربِيَّة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
279-تاج العروس (نبك)
[نبك]: النَّبَكَةُ محرَّكةً وتُسَكَّنُ وهذه عن الفرَّاءِ ذَكَرَها في نَوادِرِه أكَمَةٌ مُحَدَّدَةُ الرأسِ ورُبَّما كانَتْ حَمْراءَ ولا تَخْلو من الحجارَةِ، أو أرضٌ فيها صَعودٌ وهَبوطٌ أو هي التَّلُّ الصَّغيرُ عن أَبي عَمْرٍو، ويُقالُ في جَمْعه: نَبَكٌ محرَّكةً ونَبْكٌ بالسكونِ ونِباكٌ بالكسرِ قالَ رُؤْبَةُ:في مذهبٍ بينَ الجبالِ والنبكْ
ويقالُ أَيْضًا في جَمْعِ نبك نُبُوكٌ بالضمِ، وقالَ شَمِرٌ، فيمَا قَرَأَه الأَزْهَرِيُّ بخطِّه هي رَوابٍ من طينٍ واحِدَتُها نَبَكَة.
وقالَ ابنُ شُمَيْلٍ: النَّبْكَةُ مِثْل الفَلْكَةِ غَيْر أَنَّ الفَلْكَةَ أَعْلاها مُدوَّر مُجْتمع، والنَّبْكة رأْسُها محدَّدٌ كأَنَّه سِنَانُ رُمحٍ وهما مُصْعِدَتانِ. وقالَ الأَصْمَعِيُّ: النَّبْكُ ما ارْتَفَع من الأَرْضِ.
قالَ الأَزْهَرِيُّ: والذي سَمِعْتُه من العَرَبِ في النَّبَكَةِ وشاهَدْتُهم يُومِئون إِليها كلّ رَابية من رَوَابي الرِّمالِ كانَتْ مُسَلَّكَة الرأْسِ ومحَدَّدته. وقال ابن عَبَّادٍ: انْتَبَكَ ارْتَفَعَ وانْتَبَكَ القَومُ أي انْطَوَوْا على شَرٍّ كاحْتَبَكُوا والنَّبْكُ بالفتحِ: قرية بوادِي الذَّخائرِ بين حِمْص ودِمَشْقَ شديدةُ البردِ، أَخْبَرَني بذلك مَنْ شاهَدَه، ومنه قَوْلُ العامَّةِ: بَين الفارة والنَّبك بنات الملوك تَبْكِي أي من شدَّةِ البَرْدِ. ونُبَاكُ: كغُرابٍ فَرَسُ السَّفَّاحِ بنِ خالِدٍ قالَهُ أبو النَّدَى، قالَ: وفيه يقولُ:
وإني لن يُفَارِقني نُبَاكُ *** تَخالُ الشدّ والتقريبَ دِينا
وقالَ أَيْضًا: فَرَسُ كُلَيْبِ بنِ رَبيعَةَ بن الحارِثِ بن جُشَم بن بَكْرٍ التَّغْلَبِيَّيْنِ ونُبَاكُ: موضع ومنه قول الأَعشى:
وقَدْ مَلأَتْ بكرٌ ومن لَفّ لَفّها *** نُبَاكًا فقوّا فالرجا فالنَّوَاعِصا
أو هو بهاءٍ عن ابنِ دُرَيْدٍ. قالَ نَصْر: هو مَوْضِعٌ يمانٍ أو تهامٍ، ويُرْوَى باللامِ أَيْضًا كما سَيَأْتي. والنُّبوكُ بالضم موضع عن ابنِ دُرَيْدٍ: وقال نَصْرُ هي: أَرْضٌ جَرْعاءُ بأَحْساءِ هَجَرَ. ومَكانٌ نابِكٌ مُرْتَفِعٌ ويقالُ: هضَابٌ نَوَابِكٌ قالَ ذُو الرِّمَّةِ:
وقد خَنَّقَ الآلُ الشِّغافَ وغَرَّقَتْ *** جَوارِيه جُذْعانَ الهِضَابِ النَّوابِكِ
وتَنْبُوكُ: موضع أَوْرَدَه الصَّاغَانيُّ في التاءِ مع الكافِ. وقال ابنُ سِيْدَه: وإنّمَا قَضَيْنا على تائهِ بالزِّيادةِ وإنْ لم يقضَ على التّاءِ إذا كانت أَوّلًا بالزيادَةِ إلَّا بدَلِيلٍ لأَنَّها لو كانت أَصْلًا لكانَ وزْنُ الحرفِ فَعْلولًا وهذا البناءُ خارجٌ عن كلامِهم إلَّا ما حَكَاه سِيْبَوَيْه من قولِهم: بنُو صَعْفُوقٍ قال رُؤْبَةُ:
بشِعْبِ تَنْبُوكَ وشِعْبِ العَوْثَبِ
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:
نَبَكَةُ الشَّجرةِ محرَّكةً جُرْثُومَتُها. والنَّبَكُ: بالفتحِ موضِعٌ بَيْن ضجوة ومضيق جبة من منازِلِ حاجِّ مِصْرَ وقد ذَكَرَه الأبوصيرى في همزيته ولم يَعْرِفْه الشيْخُ ابنُ حجر المَكِّي شارِحُها، وضَبَطَه شمسُ الدِّين بن الظهير الطرابلسي الحَنَفِي في مَنَاسِكِه بالتَّحْريك.
وأَبو القاسِمِ نَصْرُ بن علِيٍّ التُّنْبُوكيُّ بالضمِ الوَاعِظ سَمِعَ منه الحَسَنُ بنُ شهابٍ العُكْبُرِيّ هكذا ضَبَطَه الحافِظُ وقد مرَّ شيْءٌ من ذلك في فصلِ التاءِ مع الكافِ فراجِعْه.
وقال نَصْرُ: تَنْبُوك: بالفتحِ ناحيةٌ بين أَرَّجَان وشِيْراز.
قُلْتُ: وإِليها نُسِبَ أبو القَاسِمِ المذكور.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
280-تاج العروس (هلك)
[هلك]: هَلَكَ كضَرَبَ ومَنَعَ وعَلِمَ وعلى الثاني قِرَاءَةُ الحَسَنِ وأَبي حَيْوَةِ وابنِ أَبي إسْحق. ويَهْلَكُ الحَرْثُ والنَّسْلُ بفتحِ الياءِ واللَّامِ ورفعِ الثاءِ واللَّامِ كما في العُبَابِ، وفي كتابِ الشَّواذِ لابنِ جني: رَوَاه هرُون عن الحَسَنِ وابنِ أَبي إِسْحق قال ابنُ مجاهِدٍ: هو غلَطٌ لعَمْرِي أَنَّ ذلك تَرْكٌ لِمَا عليه أَهْل اللغةِ، ولكنْ قد جاءَ له نَظِيْر أَعْنِي قَوْلَنا: هَلَكَ يَهْلَكُ فَعَلَ يَفْعَلُ وهو ما حَكَاه صاحِبُ الكتابِ من قولِهم أَبَى يَأْبَى، وحَكَى غيرُه: قَنَطَ يَقْنَطُ، وسَلَا يَسْلى وجَبَا المَاءَ يَجْبَاه، ورَكَنَ يَرْكَنُ وقَلَا يَقْلى، وغَسَى الليل يَغْسى، وكانَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله يذْهبُ في هذا إلى أَنَّها لغاتٌ تَدَاخَلَتْ، وذلك أَنَّه قَدْ يقالُ: قَنَطَ وقنط ورَكَنَ وركن وسَلَا وسلى فتداخلت مُضَارِعَاتُها. وأَيْضًا فإنَّ في آخرِها أَلفًا وهي أَلفُ سَلَا وَقَلا وغَسَى وأَبَى فضَارَعَتِ الهَمْزة نحو قَرَأَ وهَدَأَ وبَعد، فإذا كانَ الحَسَنُ وابنُ أَبي إسْحق إمامَيْن في الثِّقةِ واللّغةِ فلا وَجْه لمنْعِ ما قَرَأ به ولا سِيَّما وله نظِير في السماعِ.وقد يجوزُ أنْ يكونَ يَهْلكُ جاءَ على هَلِكَ بمنزلَةِ عَطِبَ غيْرَ أنَّه اسْتَغْنى عن ماضِيهِ بهَلَكَ انتهى. هُلْكًا بالضم وهَلاكًا بالفتحِ وتُهْلُوكًا، وهذه عن ابنِ بَرِّي، وهُلوكًا بضمهما، وهذه نَقَلَها الجَوْهَرِيّ مع الثانيةِ. وقال شيْخُنا: لو قالَ بضمِّهنَّ وأَسْقط بالضمِّ الأَوَّل لكانَ أَخْصَر وأَوْجَزَ مع الجَرْي على قاعِدَتِه المأْلُوفةِ، فعُدُولُه عنها لغيرِ نكتةٍ غيرُ صَوابٍ.
قلْتُ: العُذْرُ في ذلك تخلُّلُ لفظِ هَلاك وهو بالفتحِ، نعم لو أَخَّرَ لفظَ هَلاكٍ بَعْد قَوْلِه بضمِّهما كان كما قالَهُ شيخُنا فتأمَّلْ. ومَهْلِكَةً كذا في النسخِ والصَّواب مهلكًا كما هو نصُّ الصِّحاحِ والعُبَابِ. وتَهْلِكَةً مُثَلَّثَتَيِ اللَّامِ واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيّ على تَثْليثِ لامِ مَهْلَك، وأَمَّا التَّهْلُكَة بضمِ اللامِ فنَقَل عن اليَزِيدِيّ أنَّه من نوادِرِ المصَادِرِ وليْسَتْ ممَّا يجْرِي على القِياسِ، وأنْشَدَ ابنُ بَرِّي شاهِدًا على التُّهْلوكِ قَوْل أَبي نُخَيْلة لشَبِيبِ بن شَبَّةَ:
شَبِيبُ عادَى اللهُ من يَجْفُوكا *** وسَبَّبَ اللهُ له تُهْلوكا
وقَرَأَ الخلِيْلُ قَوْلَه تعَالَى: ولا تُلْقُوا بأَيْدِيَكُم إلى التَّهْلِكةِ بكسرِ اللامِ، وقَوْلُه: ماتَ تَفْسِيرٌ لقَوْلِه هَلَكَ ولم يقيِّدْه بشيْءٍ لأَنَّه الأَكْثَرُ في اسْتِعْمالِهم، واخْتِصاصُه بميتَةِ السُّوءِ عرْفٌ طارِئٌ لا يُعْتَدُّ به بدليلِ ما لا يُحْصَى من الآي والأَحادِيثِ. قال شيْخُنا: ولطروِّ هذا العُرْف قالَ الشَّهابُ في شرحِ الشفاء: إنَّه يُمْنَعُ إطْلاقُه في حقِّ الأَنْبياءِ، عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولا يعتدُّ بأَصْلِ اللغةِ القدِيمةِ كما لا يَخْفَى عمَّن له مَسَاس بالقَوَاعدِ الشَّرْعيَّةِ والله أَعْلم. وأهْلَكَهُ غيرُه واسْتَهْلَكَهُ وهَلَّكَهُ تَهْلِيكًا وأَنْشَدَ ثَعْلب:
قالت سُلَيْمَى هَلِّكُوا يَسارا
وقَوْلُ النبيِّ، صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجلُ هَلَكَ الناسُ فهو أَهْلَكَهم؛ يُرْوَى برفعِ الكافِ وفَتْحِها فمن رَفَعَ الكافَ أَرَادَ أَنَّ الغالِيْن الذين يُؤْيِسُون الناسَ من رَحْمةِ اللهِ تعَالَى يقُولُون هَلَكَ الناسُ أَي اسْتَوجَبُوا النارَ والخُلودَ فيها لسوءِ أَعْمَالِهم، فإذا قالَ الرجلُ ذلك فهو أَهْلَكهم، وقيلَ: هو أَنْسَاهُم للهِ تعَالَى؛ ومَنْ رَوَى بفتحِ الكافِ أَرَاد فهو الذي يُوجِبُ لَهُم ذلك لا اللهُ تعَالَى. وقوْلُه، صلى الله عليه وسلم؛ «ما خالَطتِ الصَّدقةُ مالًا إلَّا أَهْلَكَتْه»؛ حضٌّ على تَعْجيلِ الزَّكاةِ من قَبْلِ أَنْ تخْتَلِطَ بالمالِ فتَذْهبَ به؛ ويقالُ: أَرَادَ تحْذِيرَ العُمَّال اخْتِزَال شيْءٍ منها وخلْطَهم إِيَّاه بأَمْوالِهم. وفي التَّنْزيلِ: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمّا ظَلَمُوا}. وهَلَكَهُ يَهْلِكُهُ هَلْكًا بمعْنَى أَهْلَكَهُ لازِمٌ مُتَعَدٍ قال أَبو عُبَيْدَة: أَخْبَرَني رُؤْبَةُ أنَّه يقالُ: هَلَكْتَنِي بمعْنَى أَهْلَكْتَنِي، قالَ: وليْسَتْ بلُغَتِي. قالَ أَبُو عُبَيْدة: وهي لغةُ تَمِيم، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للعجَّاجِ:
ومَهْمَهٍ هالِكِ مَنْ تَعَرَّجا *** هائلةٍ أَهْوالُه مَنْ أَدْلَجا
أَي مُهْلِك، كما يقالُ: ليلٌ غاضٍ أَي مُغْضٍ. ويقالُ: هالِكُ المُتَعَرِّجين أي مَنْ تَعَرَّجَ فيه هَلَكَ. ورجُلٌ هالِكٌ مِن قومٍ هَلْكَى قال الخلِيْلُ: إنّما قالُوا هَلْكَى وزَمْنَى ومَرْضَى لأَنَّها أَشْياءٌ ضُرِبُوا بها، وأُدْخِلُوا فيها وهم لها كارِهُون؛ ويُجْمَعُ أَيْضًا على هُلَّكٍ وهُلَّاكٍ كسُكَّرٍ ورُمَّانٍ قال جَمِيْلٌ:
أَبِيتُ مع الهُلَّاكِ ضَيْفًا لأَهْلِها *** وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعُون ذَوو فَضْلِ
وقال أَبو طالِبٍ:
يطيف به الهُلّاكُ من آل هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ
وهَوالِكَ أَيْضًا. ومِنه المَثَلُ: فلانٌ هالِكٌ من الهَوَالِكِ وأَنْشَدَ أَبُو عَمْروٍ لابنِ جذْلِ الطِّعانِ:
تَجَاوَزْتُ هِنْدًا رَغْبَةً عن قِتالِه *** إِلى مالِكٍ أَعْشُو إِلى ذكْرِ مالكِ
فأَيْقَنْتُ أَنِّي ثائِرُ ابن مُكَدَّمٍ *** غَداةَ إِذٍ أَو هالِكٌ في الهَوالِكِ
قالَ: وهذا شاذٌّ على ما فسِّرَ في فَوَارِس؛ قال ابنُ بَرِّي: يجوزُ أَنْ يُرِيدَ هَالِك في الأُمَمِ الهَوالِكِ فيكونَ جَمْع هَالِكَةَ على القِياسِ، وإِنَّما جازَ فَوَارِس لأَنَّه مخصوصٌ بالرجالِ فلا لُبْس فيه، قال: وصوابُ إِنْشادِ البيتِ.
فأَيْقَنْتُ أَنِّي عند ذلك ثائِرٌ
والهَلَكَةُ محرَّكَةً والهَلْكاءُ بالفتحِ الهَلاكُ ومنه قولُهم: هي هَلَكَةٌ هَلْكاءُ وهو تَوْكيدٌ لها، كما يقالُ هَمَجٌ هامجٌ.
وقال أَبُو عُبَيْد: يقالُ وَقَعَ فلانٌ في الهَلَكَةِ الهَلْكَى والسَّوْأَةِ السَّوْأَى. وقولُهم: لأَذْهَبَنَّ فإِمَّا هَلْكٌ وإمَّا مَلْكٌ بفَتْحِهِما وبضَمِّهِما ومرَّ في «م ل ك» أنه يُثَلَّثُ أي إمَّا أنْ أهْلِكَ وإمَّا أنْ أمْلِكَ نَقَلَه ابنُ السِّكِّيت. واسْتَهْلَكَ المالَ أَنْفَقَهُ وأَنْفَذَهُ أَنْشَدَ سِيْبَوَيْه:
تقولُ إذا أَهْلَكْتُ مالًا للَذَّةٍ *** فُكَيْهَةُ هَشَّيْءٌ بكَفَّيْكَ لائِقُ
قال سِيْبَوَيْه: يريدُ هل شيْء فأَدْغم اللَّامَ في الشِّين، وليسَ لك بواجبٍ كوُجُوبِ إِدْغام الشَّمَّ والشَّرابَ ولا جَمِيْعهم يدغم هل شيْء. وأهْلَكَهُ باعَهُ. وفي بعضِ أَخْبارِ هُذَيْل: أَنَّ حَبيبًا الهُذَليَّ قال لمَعْقِلِ بنِ خُوَيْلِدٍ: ارجِعْ إِلى قومِك، قالَ: كيفَ أَصْنَعُ بإِبلي؟ قالَ: أَهْلِكْها أَي بعْها.
ومن المجازِ: المَهْلَكَةُ ويُثَلَّثُ المَفازَةُ لأَنَّها تُهْلَكُ الأَرْواحُ فيها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقال غيْرُه: لأَنَّها تَحْمِلُ على الهَلَاكِ. وفي حدِيثِ التوْبَةِ: «وتَرْكُها مَهْلَكَة» بفتحِ اللام وكسرِها أَيْضًا، والجَمْعُ المَهَالِكُ. والهَلَكونُ كحلَزونٍ وتُكْسَرُ الهاءُ أَيْضًا، وهذه عن ابنِ بُزُرْجَ. الأَرْضُ الجَدْبَةُ وإن كانَ فيها ماءٌ وقال ابنُ بُزُرْجَ: يقالُ هذه أرضٌ هَلَكينٌ أي جَدْبَةٌ كذا ذَكَرَه ابنُ فارِس. وأرضٌ هَلَكونٌ إذا لم تُمْطَرْ مُنْذُ دَهْر هكذا في النسخِ، ونصُّ ابن بَزُرْج: هذه أَرْضٌ آرِمَةٌ هَلَكُون وأَرْضٌ هَلَكُون إذا لم يكنْ فيها شيْءٌ.
ويقالُ تَرَكَها آرِمَةً هَلَكِين إذا لم يصبْها الغَيْثُ منذ دَهْرٍ طويلٍ. يقالُ: مررْتُ بأَرْضٍ هَلَكِينَ بفتحِ الهاءِ واللامِ ومن المجازِ: الهَلَكُ محرَّكةً السِّنونَ الجَدْبَةُ لأَنها تَهْلك عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ لأَسْوَد بن يَعْفُرَ:
قالت له أُمُّ صَمْعا إِذ تُؤَامِرُه *** أَلا تَرَى لِذَوِي الأَمْوالِ والهَلَكِ؟
الواحِدَةُ بهاءٍ كالهَلَكاتِ محرَّكةً أَيْضًا. والهَلَكُ: ما بين كُلِّ أَرْضٍ إلى التي تَحْتَها إلى الأَرْضِ السابِعَةِ. والهَلَكُ: جيفَةُ الشيءِ الهالِكِ، نَقَلَه اللَّيْثُ وأَنْشَدَ قَوْلَ امْرِئ القَيْس الآتي قَرِيبًا. وقيلَ: الهَلَكُ: ما بين أَعْلَى الجَبَلِ وأَسْفَلِهِ ومنه اسْتُعِيرَ بمعْنَى هواءُ ما بين كلِّ شَيْئَيْنِ وكلُّه من الهَلَاكِ. وقيلَ: هو المَهْواةُ بَيْن الجَبَلَين. وقيلَ: مَشْرَفَةُ المَهْواةِ من جَوِّ السُّكاكِ؛ فأَمَّا قَوْل الشاعِرِ:
الموتُ تأْتي لميقاتٍ خَواطِفُه *** وليس يُعْجِزُهُ هَلْكٌ ولا لُوح
فإِنَّه سكَّنَ للضَّرُورَةِ، وهو مذْهَبٌ كُوفيٌّ، وقد حَجَرَ عليه سِيْبَوَيْه إلَّا في المكْسُورِ والمضْمُوم، وقالَ ذُو الرِّمَّة يصِفُ امرْأَةً جَيْدَاءَ:
تَرَى قُرْطَها في واضِحِ اللَّيْثِ مُشْرِفًا *** على هَلَكٍ في نَفْنَفٍ يَتَطَوَّحُ
والهَلَكُ: أَيْضًا الشيءُ الذي يَهْوِي ويَسْقُطُ وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لامْرِئ القَيْس:
رَأَتْ هَلَكًا بنِجَافِ الغَبِيطِ *** فكادَتْ تَجُدُّ لذاك الهِجَارَا
وأَنْشَدَهُ غيرُه شاهِدًا على المَهْواة بَيْن الجَبَلَين وقَبْلَهُ:
أَرَى ناقَةَ القَيْسِ قد أَصْبَحَتْ *** على الأَيْنِ ذَاتَ هِبابٍ نِوارا
قَولُه: هِباب: أي نَشَاط، ونِوارًا: أي نِفارًا، وتجُدُّ: تَقْطَعُ الحَبْلَ نُفورًا من المَهْواةِ، ويُرْوى: تجُدُّ الحُقِيّ الهِجارَا، والهِجَارُ: حبْلٌ يشَدُّ به رسغُ البَعِيرِ. ومن مجازِ المجازِ: الهَلوكُ كصَبورٍ المرأَةُ الفاجِرَةُ الشَبِقَةُ المُتَساقِطَةُ على الرِّجالِ مأْخُوذٌ من تَهَالَكَتْ في مَشْيِها إذا تَكَسَّرَتْ، أو لأَنَّها تَتَهالَكُ أي تَتَمَايلُ وتَتَثَّنَّى عند جماعِها، ولا يُوصَفُ الرجلُ الزَّاني بذلك فلا يقالُ رجلٌ هَلُوكٌ؛ وقالَ بعضُهم: الهَلُوكُ: الحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ لِزَوْجِها. ومنه حدِيثُ مازِنٍ: «إِني مُولَعٌ بالخمرِ والهَلوكِ من النِّسَاءِ». وكأَنَّه ضِدٌّ.
ومن المجازِ: الرَّجُلُ السَّريعُ الإِنْزالِ عند الجماع، فكأَنَّه يَرْمي نَفْسَه لذلك عن ابن عَبَّادٍ. وقَوْلُهم: افْعَلْ ذلك إمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ بالضَّمَّاتِ مَمْنوعَةً من الصَّرْفِ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، وقد تُصْرَفُ لُغَة نَقَلَها الفرَّاءُ؛ وقد قيلَ: إما هَلَكَتْ هُلُكُهُ بالإضافةِ أي على ما خَيَّلَتْ أي على كلِّ حالٍ وخَيَّلَتْ أي أَرَتْ وشَبَّهَتْ. وحَكَى الفرَّاءُ عَن الكِسائِيِّ اما هَلَكَهُ هُلُكَ جَعَلَهُ اسمًا وأضافَ إليه ولم يَجِزْ هُلَكَ وأَرَادَ: هي هَلَكَةُ هُلَكَ يا هذا كما في العُبَابِ.
وَوَقَعَ في مُسْنَدِ الإِمَام أحمدَ بن حَنْبلٍ رضي الله عنه في حديثِ الدَّجَّالِ وذَكَرَ صفَتَه فقال: «أَعْور جعد أَزْهر هجان أَقْمر كان رأْسُه أصلة أَشْبه الناس بعَبْد العُزى بن قطن» فإمَّا هَلَكَ الهُلُكُ فإنَّ رَبَّكُم ليسَ بأَعْوَرَ» هكذا رَوَى بأَلْ، ورَوَاه غيرُه: ولكنْ الهُلْكُ كلُّ الهُلْكِ أي لكنْ الهَلَاكُ كلُّ الهَلاكِ للدَّجَّال أنَّ الناسَ يَعْلمون أنَّ الله سُبْحانَه مُنَزَّهٌ عن العَوَرِ وعن جَميعِ الآفَاتِ فإذا ادَّعى الرُّبوبيَّةَ ولَبَّس عليهم بأَشْياء ليْسَتْ في البشرِ فإنَّه لا يقدِرُ على إِزالةِ العَوَرِ الذي يسجل عليه بالبشر، ويُرْوَى فإما هَلَكَتْ هُلَّكُ كسُكَّرٍ أي فإنْ هَلَكَ به ناسٌ جاهِلُون فضَلُّوا فاعْلَمُوا أنَّ الله ليس بأَعْوَرَ. قالَ الصَّاغَانيُّ: ولو رُوِيَ: فإِمَّا هَلَكَت هُلُك على قولِ العربِ افْعَلْ ذلك إِما هَلَكَتْ هُلَّكُ لكانَ وَجْهًا قريبًا ومُجْراه مُجْرَى قَوْلِهم افْعَلْ ذلك على ما خَيَّلَتْ أي على كلِّ حالٍ.
وهُلُكٌ: صفةٌ مُفْردَةٌ نحو قولِكَ امْرَأَةٌ عُطُلٌ وناقَةٌ سُرُحٌ بمعْنَى هالِكَةٍ والهَالِكَةُ نَفْسه، والمَعْنَى افْعَلْه فإنْ هلكت نفسك.
قُلْتُ: وهذا الذي وجهه فقد رُوِي أَيْضًا هكذا وفسَّرَه بما سَبَقَ ابنُ الأَثِيرِ في النِّهايةِ وغيرُه. وقيلَ في تفْسِيرِ الحدِيثِ: إِن شَبَّه عَلَيْكُم بكلِّ معنىً وعلى كلِّ حالٍ فلا يُشَبِّهَنَّ عَلَيْكُم أنَّ ربَّكُم ليس بأَعْور. التَّهْلُكَةُ بضمِ اللامِ كلُّ ما أي كلُّ شيْءٍ تصيرُ عاقِبَتُه إلى الهَلاكِ وبه فسِّرَت الآيةُ أَيْضًا. وقالَ الكِسَائِيُّ: يقالُ وَقَعَ فلانٌ في وادِي تُهُلِّكَ بضمِ التاءِ والهاءِ وكسرِ اللَّامِ المُشَدَّدَةِ مَمْنوعًا من الصَّرْفِ، والذي في العُبَابِ والصِّحاحِ: بضمِ التاءِ والهاءِ واللامِ مشَدَّدَة فلم يصَرِّحا أنَّ اللامَ مكْسُورةٌ أي في الباطِلِ والهَلَاكِ مِثْل تُخُيِّبَ وتُضُلِّلَ كأَنَّهم سَمَّوْه بالفِعْلِ وهو مجازٌ. ومن المجازِ: الإِهْتِلاكُ والإنْهلاكُ رَمْيُكَ نَفْسَكَ في تَهْلُكَةٍ ومنه القَطاةُ تَهْتَلِكُ من خوفِ البَازِي أي تَرْمي بنفْسِها في المَهَالِك قال زُهْيرٌ:
يركضن عند الذُنَابَى وهي جاهدة *** يكادُ يَخْطَفُها طَوْرًا وتَهْتَلكُ
وقالَ اللَّيْثُ: المُهْتَلَكُ: الهَالِكُ من لا هَمَّ له إلَّا أنْ يَتَضَيَّفَهُ الناسُ يَظَلُّ نهارَه فإذا جاءَ الليلُ أَسرعَ إِلى من يَكْفُله خَوْفَ الهَلاكِ لا يَتَمَالَك دونَه وأَنْشَدَ لأَبي خِراشٍ:
إِلى بَيْتِه يأْوِي الغريبُ إِذا شَتا *** ومُهْتَلِكٌ بالي الدَّريسَيْنِ عائِلُ
وقال ابنُ فارِسَ: المُهْتَلِكُ الذي يَهْتَلِك أَبدًا إِلى مَنْ يَكْفُله وهو مجازٌ. ومن المجازِ: الهُلَّاكُ كرُمَّانٍ الذين يَنْتابونَ النَّاسَ ابْتِغاءَ مَعْروفِهِمْ لسوءِ حالِهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هم الصَّعاليكُ؛ وقيلَ؛ هم المُنْتَجِعونَ الذين ضَلُّوا الطَّريقَ وأَنْشَدَ ثَعْلب لجَمِيلٍ:
أَبيتُ مع الهُلَّاكِ ضَيْفًا لأَهْلِها *** وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعُون ذَوو فَضْلِ
كالمُهْتَلِكِينَ أَنْشَدَ ثَعْلب للمُتَنَخَّل الهُذَليِّ:
لو أَنَّه جاءَني جَوْعانُ مُهْتَلِكٌ *** من بُؤَّس الناسِ عنه الخَيْرُ مَحْجُوزُ
والهالِكِيُّ الحَدَّادُ وقيلَ: الصَّيْقَلُ لأَنَّ أَوَّلَ من عَمِلَ الحَديدَ الهالِكُ بنُ عَمْروِ بنِ أَسَدٍ بنِ خُزَيْمَةَ قالَهُ ابنُ الكَلْبِي. قالَ لَبِيْدٌ رَضِيَ الله تعَالَى عنه:
جُنوحَ الهالِكِيِّ على يَدَيْهِ *** مُكِيًّا يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ
أي صَدَأَها. قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولذلك يقالُ لبَنِي أَسَدٍ القُيون ومن المجازِ: تَهَالَكَ على الفِراشِ أو المتَاعِ إذا تَساقَطَ عليه، وفي العُبَابِ: سَقَطَ، قالَ ذُو الرِّمَّةِ:
كان على فيها إذا ردّ روحها *** إلى الرأس روحَ العاشِقِ المتهالِكِ
وفي الحدِيثِ: «فتهالَكْتُ عليه فسأَلتُه»؛ أَي سَقَطْتُ عليه ورَمَيْتُ بنفْسِي فوقَه. ومن المجازِ: تَهَالَكَتِ المرأةُ في مِشْيَتِها إذا تَمَايَلَتْ. وفي الأَسَاسِ: تَفَيَّأَتْ وتَكَسَّرَتْ. ومنه الهَلُوكُ للفَاجِرَةِ. وفي العُبَابِ: تَفَكَّكَتْ للرِّجالِ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الهالِكَةُ النَّفْسُ الشَّرِهَةُ وقد هَلَكَ الرجُلُ يَهْلِكُ هَلاكًا إذا شَرِه ومنه قَوْلُه أَنْشَدَه الكِسَائي في نوادِرِه:
جَلَّلْتُه السَّيْفَ إِذ مَالَتْ كِوَارَتُهُ *** تحْتَ العَجَاجِ ولم أَهْلِكْ إِلى اللَّبَنِ
أَي: لم أَشْرَهْ، وهو مجازٌ. ويقالُ: فلانٌ هِلْكَةٌ بالكسرِ مِنَ الهِلَكِ كعِنَبِ أي ساقِطَةٌ مِنَ السَّواقِطِ أي هالِكٌ.
والهَيْلَكونُ كحَيْزَبونٍ المِنْجَلُ الذي لا أَسْنانَ له نَقَلَه الصَّاغَانيُّ، وكأَنَّه إِذا لم يكنْ له أَسْنانٌ يهلك ما يحصد به، ولذلِكَ سُمِّي والهالوكُ سَمُّ الفأرِ وأَيْضًا نَوْعٌ من الطَّراثيثِ إذا طَلَعَ في الزَّرعِ يضْعفُه ويفْسدُه فيَصْفَرُّ لونُه ويَتَساقَطُ، هكذا يسمُّونَه بمِصْرَ ويَتَشَاءَمون به، وأَكْثَرُ ضَرَرهِ على الفولِ والعَدسِ.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:
هَلَكَ يَهْلِكُ هَلْكًا بالفتحِ عن أَبي عُبَيْدٍ، وهَلَكَه محرَّكةً عن الصَّاغَانيّ. واسْتَعْمل أبو حَنِيْفة: الهَلَكَة في جُفُوفِ النباتِ. والهُلَّاكُ: الفُقَراءُ والصَّعاليك، وبه فسرَ قَوْل زِيادِ بنِ مُنْقِذ:
تَرَى الأَرَامِلَ والهُلَّاكَ تَتْبَعُه *** يَسْتَنُّ منه عليهم وابِلٌ رَذِمُ
ومفَازَةٌ هالِكٌ: أي مُهْلِكَة، مَنْ تعرَّض فيها هَلَكَ.
والهُلْكُ: بالضمِ الاسمُ من الهَلَاكِ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وقَوْلُه تعَالَى: {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، أي لوقتِ هَلاكِهم أَجَلًا، ومن قَرَأَ لمَهْلَكِهم فمعْنَاه لإِهْلاكِهم.
والمَهَالِكُ: الحُروبُ وهو مجازٌ. ومنه حدِيث أُمِّ زَرْعٍ: «وهو إِمامُ القَوْم في المَهَالِك»، أَرَادت أَنّه لِثِقَته بشجَاعَتِه يتقدَّمُ في الحُروبِ ولا يتخلَّفُ، وقيلَ: إِنَّه لعلْمِه بالطُّرُقِ يتقدَّمُ القومَ فيهدِيَهم وهم على أَثَرِه.
والهَلاكُ: الجَهْد المُهْلِكُ. وهَلاكٌ مُهْتَلِكٌ: على المُبالغَةِ قالَ رُؤْبَةُ:
من السِّنينَ والهَلاكِ المُهْتَلِكْ
وفي العُبَابِ: المُتَهَلِّك. وهالِكُ أَهْلٍ: الذي يَهْلِكُ في أَهْلِه قال الأَعْشَى:
وهالِك أَهْلٍ يَعودُونه *** وآخَرُ في قَفْرةٍ لم يُجَنْ
وفي العُبَابِ: يَجْنونَه بدل يَعودُونه. ومرَّ يَهْتَلِكُ في عَدْوِه ويَتَهَالَكُ أي يَجدُّ، وهو مجازٌ، ومنه: القَطاةُ تَهْتَلِكُ أي تَجدُّ في طيرانِها. وفي حدِيثِ عَرَّامٍ: كُنْتُ أَتَهَلَّكُ في مفازَةٍ أي أَدُورُ فيها شِبْهَ المُتَحَيِّرِ، وكذلك اهْتَلَكَ قالَ:
كأَنَّها قَطْرَةٌ جادَ السَّحابُ بها *** بين السَّماءِ وبين الأَرْضِ تَهْتَلِكُ
واسْتَهْلَكَ الرَّجلُ في كذا إذا جَهَدَ نَفْسَه واهْتَلَكَ معه وقالَ الرَّاعِي:
لهنَّ حديثٌ فاتِنٌ يَتْرُك الفَتى *** خفيفَ الحَشا مُسْتَهْلِكُ الرِّبْح طامِعا
أي يَجْهَدُ قَلْبَه في أَثَرِها. ويقالُ: أَنَا مُتَهَالِك في مَوَدَّتِك ومسْتَهْلِك، وتَهَالَكْتُ في هذا الأَمْرِ واسْتَهْلَكْت فيه كُنْتُ مجدًّا فيه مُتَعَجِّلًا وطريقٌ مُسْتَهْلِكُ الوِرْد أي يُجْهِدُ من سَلَكَه؛ قال الحُطَيْئة يصفُ الطَّريقَ:
مُسْتَهْلِكُ الوِرْدِ كالأُسْتِيِّ قد جعَلَتْ *** أَيدي المَطِيِّ به عادِيَّةً رُكُبا
الأُسْتِيُّ يعْنِي به السَّدَى شبَّه شَرَكَ الطَّريقِ بسَدَى الثَّوْبِ.
وفي العُبَابِ: عادِيَّةً رُغُبا. وقالَ: أَي يَهْلِكُ هذا الطَّريقُ مَنْ طَلَبَ الماءَ لبُعْدِه أي هو طريقٌ ممتَدّ كسَدَى الثوبِ.
وتَهَالَكَ على الشيْءِ اشْتَدَّ حرْصَه عليه.
والهَلْكَى: الشَّرِهُونَ من النِّساءِ والرِّجالِ. وهو هالِكٌ وهي هالِكَةٌ. ويقالُ للمُزاحِمِ على الموائِدِ: المُتَهالِكُ والمُلاهسُ فإِذا أَكَل بيدٍ ومَنَعَ بيدٍ فهو جَرْدَبانُ. والهالِكَةُ من السَّحابِ الذي يَصُوبُ المَطَرَ ثم يُقْلِعُ فلا يكون له مَطَر، عن شَمِرٍ.
والهَلَكُ: محرَّكَةً الجُرْفُ وبه فسِّرَ قَوْلُ ذِي الرِّمَّةِ السَّابِقِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
281-تاج العروس (حفل)
[حفل]: حَفَلَ الماءُ وكذا اللَّبَنُ في الضَّرْعِ يَحْفِلُ بالكسرِ حَفْلًا وحُفولًا وحَفيلًا اجْتَمَعَ كتَحَفَّلَ واحْتَفَلَ وحَفَّلَهُ هو تَحْفِيلًا وحَفَلَهُ حَفْلًا وحَفَلَ الوادِي بالسَّيْلِ جاءَ بِمِلْءِ جَنْبَيْه.وفي الصِّحَاحِ: شُعْبَة حافِلٌ ووَادٍ حافِلٌ إِذا كَثُر سَيْلُهما كاحْتَفَلَ قالَ صَخْرُ الغَيِّ:
أَبا المُثَلَّم أَقْصِرْ قبل فاقِرَة *** إِذا تُصِيبُ سَمَاءَ الأَنفِ تَحْتَفِلُ
معْنَاهُ تأْخذُ مُعْظَمَه.
وحَفَلَتِ السَّماءُ حَفْلًا اشْتَدَّ مَطَرُها وقيلَ: جَدَّ وَقْعُها، يَعْنُون بالسَّماءِ حينئذٍ المَطَر لأَنَّ السماءَ لا تَقَعُ، كما في المُحْكَمِ.
وحَفَلَ الدَّمْعُ حَفْلًا كَثُرَ، وفي بعضِ النسخِ: نُثِرَ، والأُوْلَى الصوابُ ومِثْلُه في المُحْكَمِ.
وحَفَلَ القَوْمُ حَفْلًا اجْتَمعوا زَادَ الجَوْهَرِيُّ: واحْتَشَدُوا، كاحْتَفَلُوا.
وتَحَفَّلَ تَحَفُّلًا تَزَيَّنَ وتَحَلَّى، يقالُ للمَرْأَةِ: تَحَفَّلِي لزَوْجِك أَي تَزَيَّنِي لتَحُظَيْ عندَه.
وتَحَفَّلَ المَجْلِسُ كَثُرَ أَهلُهُ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه.
وضَرْعٌ حافِلٌ كثيرٌ لَبَنُهُ، وفي الصِّحاحِ: مُمْتَلِيءٌ لَبَنًا، الجمع: حُفَّلٌ كرُكَّعٍ.
وناقَةٌ حافِلَةٌ وحَفولٌ، وشاةٌ حافِلٌ وهُنَّ حُفَّلٌ.
ودَعاهُمْ الحَفَلَى محرَّكةً والأَحْفَلَى لُغَةٌ في الجيمِ كما في المُحْكَمِ والمُحِيطِ، زَادَ ابنُ سِيْدَه: والجيمِ أَكْثرُ أَي بجمَاعَتِهم. وجَمْعٌ حَفْلٌ وحَفِيلٌ أَي كثيرٌ، وحَفْلٌ في الأَصْلِ مَصْدرٌ كما في العُبَابِ.
وجاؤُا بِحَفيلَتِهِمْ أَي بأَجْمَعِهم كما في المُحْكَمِ. ووَقَعَ في العُبَابِ: بِحَفِلَتِهِم.
والمَحْفِلُ: كمَجْلِسٍ المُجْتَمَعُ، وفي التَّهْذِيبِ: المَحْفَلُ: المَجْلِسُ، والمُجْتَمَعُ في غيرِ مَجْلِسٍ أَيْضًا، وقالَ المَنَاوِيُّ: المُحْفِلُ: المَوْضِعُ الذي فيه جَمْعٌ من الحَفْلِ وهو الجَمْعُ.
وقالَ شيْخُنا: أَكْثَرُ أَهْلِ اللغَةِ أَنَّ المَحْفِلَ والمَجْلِسَ مُتَرَادِفان، وقد فَرَّقَ بينهما الآمدِيّ في المُوَازَنَةِ بأَنَّ المَحْفِلَ يُشْترط فيه كَثْرَةٌ بِخِلافِ المَجْلِسِ فتأَمَّل. قالَ شيْخُنا وعنْدِي أَنَّ إِطْلاقَ المَجْلِسِ على القَوْمِ من قَبِيلِ المجازِ، كما يُومِئُ إِليه كَلامُ الزَّمَخْشَرِيّ. كالمُحْتَفَلِ بفتحِ الفاءِ وهو مُجْتَمَعُ القَوْمِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والإِحْتِفالُ الوُضوحُ عن كُراعٍ، وأَيْضًا: المُبالَغَةُ كالحَفِيلِ كأَميرٍ كَما في المُحْكَمِ. والإِحْتِفالُ: حُسْنُ القِيامِ بالأُمورِ عن ابنِ دُرَيْدٍ.
ورجُلٌ حَفيلٌ في أَمْرِه وذو حَفْلٍ وذو حَفْلَةٍ أَي مُبالِغ فيما أَخَذَ فيه من الأُمورِ وأَنْشَدَ شَمِرٌ:
يا وَرْسُ ذاتَ الجِدِّ والحَفِيل
وأَخَذَ للأَمرِ حَفْلَتَه جَدَّ فيه، نَقَلَه الصَّاغَانيُّ.
وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الحُفالَةُ والحُثَالَةُ من الناسِ مَن لا خَيْرَ فيه، قالَ: وهو أَيْضًا الرَّذْلُ من كلِّ شيءٍ، ومنه الحدِيثُ: «يذْهَبُ الصَّالِحُون أَسلافًا الأَوَّلُ فالأَوَّل حتى لا يَبْقَى إِلَّا حُفالَة كحُفالَةِ التَّمْرِ والشَّعيرِ»، ويُرْوَى: حُثالَة لا يُبَالي اللهُ بهم. والحُفالَةُ أَيْضًا ما رَقَّ من عَكَرِ الدُّهْنِ والطِّيْبِ، والحُفَالَةُ: رُغْوَةُ اللَّبَنِ عن ابنِ سِيْدَه.
والتَّحْفيلُ التَّزْيينُ وقد حَفَلَه فتَحَفَّلَ.
والتَّحْفيلُ: تَصْريَةُ الشاةِ أَو البَقَرَةِ أَو الناقَةِ، وهو أَنْ لا يحلبنَ أَيامًا ليَجْتَمِعَ اللّبَنُ في ضَرْعِها للبَيْعِ.
والشاةُ مُحَفَّلة ومُصَرَّاة. وقد نَهَى صلى الله عليه وسلم عن التَّصْرِيةِ والتَّحْفِيلِ وذلِكَ أَنَّه إِذا احْتَلَبَها المُشْتَرِي حَسِبَها غَزِيرَةً فزَادَ في ثمنِها فإِذا حَلَبَها بعْدَ ذلِكَ وَجَدَها ناقِصَة اللَّبَنِ عمَّا احْتَلَبَها أَيَّام تَحْفِيلها.
وما حَفَلَهُ وما حَفَلَ به يَحْفِلُهِ بالكسرِ حَفْلًا وما احْتَفَلَ به أَي ما بالَى به، كما في المُحْكَمِ، ويقالُ لا تَحْفِلْ به، قالَ الكُمَيْتُ:
أَهْذِي بظَبْيَةَ لو تُساعِفُ دَارُها *** كَلَفًا وأَحْفِل صُرْمَها وأُبالي
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْبَرني أَعْرَابيُّ من أَهْلِ اليَمَنِ أَنَّ الحِفْوَلَ كخِرْوَع شَجَرٌ مِثْلُ صِغَارِ شَجَرِ الرُّمَّانِ في القَدْرِ، وله وَرَقٌ مُدَوَّر مُفَلْطَحٌ رِقاقٌ خُضْرٌ وثَمَرُهُ كإِجَّاصَةٍ صَغيرَةٍ فيه مَرارةٌ ويُؤْكَلُ، وله عُجْمةٌ غيرُ شَديدَةٍ نُسَمِّيها الحَفَصَ.
وقالَ الفرَّاءُ: الحَوْفَلَةُ القَنْفاءُ وهي الكَمَرَةُ الضَّخْمةُ مأْخوذٌ من الحَفْلِ.
وحَوْفَلَ الرجُلُ انْتَفَخَتْ حَوْفَلَتُه، نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
والحُفَالُ كغُرابٍ الجمعُ العَظيمُ واللَّبَنُ المُجْتَمِعُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وهو مُحافِظٌ على حَسَبِه مُحافِلٌ أَي يَصونَهُ، نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
واحْتَفَلَ الطَّريقُ بانَ وظَهَرَ، عن الأَصْمَعِيِّ، ومنه قَوْلُ لَبِيدٍ رَضِيَ الله تعالَى عنه يَصِفُ طَرِيقًا:
تَرْزُم الشارِفُ من عِرْفانِه *** كُلَّما لاحَ بنَجْدٍ واحْتَفَلْ
وقالَ الرَّاعِي يَصِفُ طَرِيقًا:
في لاحِبٍ بعَزَازِ الأَرضِ مُحْتَفِلٍ *** هادٍ إِذا غَرَّهُ الأَكَم الحَدَابيرُ
أَي هذا الطَّريق ظاهِرٌ في الصَّلابَةِ أَيْضًا. وقالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: احْتَفَلَ الفَرَسُ إِذا أَظْهَرَ لفارِسِه أَنَّه بَلَغَ أَقْصَى حُضْرِهِ وفيه بَقِيَّةٌ، يقالُ: فَرَسٌ مُحْتَفَلٌ.
وذاتُ الحَفَائِل موضع وحَفَائِل ويُضَمُّ موضع أَو وادٍ قالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
تَأَبَّط نَعْلَيْه وشقَّ فَرِيرَه *** وقالَ أَلَيْسَ الناس دونَ جَفَائِلِ
قالَ ابنُ جنيّ: من ضمَّ الحاء هَمَزَ الياءَ البَتَّة، ومن فَتَحَ احْتَمل الهَمْز والياء جميعًا، وقَوْلُه: ذات الحَفَائِل فإِنَّه زَادَ اللامَ على حَدِّ زِيادَتِها في قَوْلِه: بنات الأَوبَر.
والحَفَيْلَلُ: كسَمَيْدَعٍ شَجَرٌ كما في المُحْكَمِ.
* وممّا يُسْتَدْركُ عَلَيْه:
حَفَلَتِ المرْأَةُ: جَمَعَتْ اللَّبَنَ في ثَدْيَيْها، ومنه قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ الله تعالَى عنها: «لله أُمُّ حَفَلَتْ له ودَرَّتْ عليه».
وحَفَلَ الشيءَ حَفْلًا: جَلاهُ فاحْتَفَلَ وتَحَفَّلَ قالَ بِشْرٌ:
رأَى دُرَّةً بيضاءَ يَحْفِل لَوْنَها *** سُخَامٌ كغِرْبان البَرِير مُقَصَّبُ
يعني يَزيدُ لَوْنُها بياضًا لسَوَادِه.
والحُفُولُ من النِّساءِ الجَمِيلَةُ، عن ابنِ عَبَّادٍ، والجَمْعُ حَفَائِلٌ، وقيلَ: حَوَافِلٌ.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: حِفْلُ الطَّعام بالكسرِ حُثَالَتُه.
ومُحْتَفَلُ لَحْمِ الفخِذِ والسَّاقِ: أَكْثَرُه لَحْمًا، ومنه قَوْلُ المُتَنَخِّل الهُذَليُّ يَصِفُ سَيفًا:
أَبْيَضُ كالرَّجْع رَسُوبٌ إِذا *** ما ثاخَ في مُحْتَفِل يَخْتَلِي
نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
واحْتفَلَ: تَزَيَّنَ، ومنه رُقْيَة النَّمْلَة: العَرُوس تَحْتَفِل وتَقْتَال وتَكْتَحِلُ، وكلُّ شيءٍ تَفْتَعِل غيرَ أَنَّها لا تَعْصِي الرَّجُلَ، وقد جاءَ ذِكْرُها
في الحدِيثِ: قالَ صلى الله عليه وسلم، لأَسْماء بنْت عُمَيْس على حَفْصَةَ رُقْيَة النَّمْلَة.
والحَفْلُ اجْتِمَاع الماءِ في مَحْفِلِه؛ ومَحْفِلُه مُجْتَمَعُه.
ومَدَامِعُ حُفَّل: كَثِيرةٌ قالَ كُثَيِّر:
إِذا قلْت أَسْلُو غارَتِ العَيْنُ بالبُكى *** غِرَاءً ومَدَّتْها مَدامعُ حُفَّلُ
وكان حفيلة ما أَعْطَى دِرْهمًا أَي مَبْلَغ ما أَعْطى.
والحُفَالُ: كغُرابٍ بَقِيَّةُ التَّفَارِيقِ والأَقمَاع من الزَّبيبِ والحشَفِ.
وحُفالَةُ الطَّعامِ ما يَخْرُجُ منه فيُرْمَى به.
والمُحَافِلُ: المُكاثِرُ المُطَاولُ قال مُلَيْح:
فإني لأَقْرِي الهَمَّ حين يَنُوبُني *** بُعَيْدَ الكَرَى منه ضَرِيرٌ مُحَافِلُ
ومُحْتَفَلُ الأَمْرِ: مُعْظَمُه.
والحفَائِليُّ: لَقَبُ القاضِي أَبي عَبْدِ الله مُحمَّد ابن القاضِي أَبي محمَّدٍ عَبْد الله ابن القاضِي الأَصَم عليّ بن عَبْدِ الله بنِ أَبي عَقامة، إِليه انْتَهَتْ رِياسَةُ مَذْهبِ الشَّافِعِيّ في اليَمَنِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
282-تاج العروس (شكل)
[شكل]: الشَّكْلُ: الشَّبَهُ.قالَ أَبُو عَمْرٍو: يقالُ في فلانٍ شَكْلٌ من أَبيهِ وشَبَهٌ.
والشَّكْلُ أَيْضًا: المِثْلُ، تقولُ: هذا على شَكْل هذا أَي على مِثالِه. وفلانٌ شَكْلُ فلانٍ أَي مِثْلُه في حَالاتِه.
قالَ اللهُ تعالى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ}؛ أَي عَذَابٌ آخَرُ من شَكْلِه؛ أَي من مِثْلِ ذلِكَ الأَوّل، قالَهُ الزَّجَّاجُ؛ وقَرَأَ مُجاهدُ: وأُخَرُ من شَكْلِه أَي وأَنْوَاعٌ أُخَرُ من شَكْلِه لأَنَّ معْنَى قَوْله {أَزْواجٌ} أَنْواعٌ.
وقالَ الرَّاغِبُ: أَي مثلٌ له في الهَيْئةِ وتَعاطِي الفِعْل.
ويُكْسَرُ وبه قَرَأَ مُجاهدُ: من شِكْلِه بالكسرِ.
والشكْلُ أَيْضًا: ما يُوافِقُكَ ويَصْلُحُ لَكَ، تَقولُ: هذا من هَوايَ ومن شَكْلِي، وليْسَ شَكْله من شَكْلِي.
والشَّكْلُ: واحدُ الأَشْكالِ للأُمورِ والحَوَائجِ المُخْتَلِفَةِ فيمَا يُتَكَلَّفُ منها ويُهْتَمُّ لها، قالَهُ اللّيْثُ، وأَنْشَدَ:
وتَخْلُجُ الأَشْكالُ دُونَ الأَشْكال
والأَشْكالُ أَيْضًا: الأُمُورُ المُشْكِلَةُ المُلْتَبِسَةُ.
والشَّكْلُ أَيْضًا: صُورَةُ الشَّيءِ المَحْسوسَةُ والمُتَوَهَّمَةُ.
وقالَ ابنُ الكمالِ: الشَّكْلُ هَيْئَةٌ حاصِلَةٌ للجِسْمِ بسببِ إِحَاطَة حَدٍّ واحِدٍ بالمقْدَارِ كما في الكُرَةِ، أَو حُدودٍ كما في المُضَلَّعات من مُربَّع ومُسَدَّس، الجمع: أَشْكالٌ وشُكولٌ قالَ الرَّاغِبُ: الشَّكْلُ في الحَقِيقةِ الانس الذي بَيْن المُتَمَاثِلَيْن في الطَّرِيقةِ، ومنه قيلَ: الناسُ أَشْكالٌ، قالَ الرَّاعِي يمدْحُ عَبْد المَلِكِ بن مَرْوَان:
فأَبوكَ جَالَدَ بالمَدِينَةِ وَحْدَهُ *** قَوْمًا هُمُ تَركَوُا الجميعَ شُكُولًا
وأَنُشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ:
فلا تَطلُبَا لي أَيِّمًا إِن طَلَبْتُما *** فإِنَّ الأَيَامَى ليس لي بشُكُولِ
والشَّكْلُ: نباتٌ مُتَلَوِّنٌ أَصْفَرُ وأَحْمَرُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.
والشَّكْلُ في العَرُوضِ: الجَمْعُ بَيْن الخَبْنِ والكَفِّ وبَيْتُه:
لِمَنِ الدِّيارُ غَيَّرَهُنَّ *** كُلُّ دَاني المُزْنِ جَوْنِ الرَّبَابِ
كما في العُبَابِ.
والشَّاكِلَةُ: الشَّكْلُ، يقالُ: هذا على شاكِلَةِ أَبيهِ أَي شَبَهُه.
والشَّاكِلَةُ: النَّاحِيةُ والجِهةُ، وبه فُسِّرَتِ الآيةُ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ}، عن الأَخْفَشِ.
وأَيْضًا: النِّيَّةُ، قالَ قَتَادَة في تَفْسِيرِ الآية: أَي على جانِبِه وعلى ما يَنْوِي.
وأَيْضًا: الطَّريقَةُ والجَدِيْلةُ، وبه فُسِّرَتِ الآيةُ.
وأَيْضًا: المَذْهَبُ والخَلِيْقَةُ، وبه فُسِّرَتِ الآيةُ عن ابنِ عَرَفَة.
وقالَ الرَّاغِبُ في تَفْسِيرِ الآيةِ: أَي على سَجِيّتِه التي قَيَّدَته، وذلِكَ أَنَّ سُلْطَانَ السَّجِيَّة على الإِنْسانِ قاهِرٌ بحسبِ ما يثبت في الذَّرِيعَةِ إِلى مَكَارمِ الشَّرِيعَة، وهذا كما قالَ عليهالسلام: «كُلٌ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له».
والشَّاكِلَةُ: البياضُ ما بَيْن الأُذُنِ والصُّدْغِ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.
وقالَ قُطْرب: ما بَيْن العِذَارِ والأُذُنِ، ومنه الحدِيثُ: «تَفَقَّدوا في الطُّهورِ الشاكِلَةَ».
والشَّاكِلَةُ. من الفَرَسِ: الجِلْدُ الذي بَيْن عُرْضِ الخاصِرَة والثَّفِنَةِ، وهو مَوْصِلُ الفَخِذِ من السَّاقِ.
وقيلَ: الشَّاكِلَتَان: ظاهِرُ الطَّفْطَفَتَيْن من لَدُنْ مَبْلَغ القُصَيْرَي إِلى حَرْف الحَرْقَفَةِ من جانِبَي البَطْنِ.
وقيلَ: الشَّاكِلَةُ الخاصِرَةُ وهي الطَّفْطَفة، ومنه: أَصَابَ شاكِلَةَ الرَّمِيَّةِ أَي خاصِرَتها.
وتَشَكَّلَ الشَّيءُ: تَصَوَّرَ.
وشَكَّلَهُ تَشْكِيلًا: صَوَّرَهُ.
وشَكَّلَ. المرأَةُ شَعَرَها: أَي ضَفَرَتْ خُصْلَتَيْنِ من مُقَدَّمِ رأْسِها عن يمينِ وشمالٍ ثم شَدَّتْ بها سائِرَ ذَوَائِبِها، والصَّوابُ أَنَّه من حَدِّ نَصَرَكما قيَّدَه ابنُ القَطَّاع.
وأْشْكَلَ الأَمرُ: الْتَبَسَ واخْتَلَطَ، ويقالُ: أَشْكَلَتْ عليَّ الأَخْبَارُ وأَحْكَلَتْ بمعْنىً واحِدٍ.
وقالَ شَمِرٌ: الشُّكْلَةُ: الحُمْرَةُ تُخْلَطُ بالبَياضِ.
وهذا شيءٌ أَشْكَلُ، ومنه قيلَ للأَمْرِ المُشْتَبِه: مُشْكِلٌ.
قالَ الرَّاغِبُ: الإِشْكَالُ في الأَمْرِ اسْتِعَارَة كالاشْتِبَاه من الشَّبَهِ كشَكَلَ وشَكَّلَ شَكْلًا وتَشْكِيلًا.
وأَشْكَلَ النَّخْلُ: طَابَ رُطَبُه وأَدْرَكَ، عن الكِسَائي. وفي الأَسَاسِ: أَشْكَلَ النَّخْلُ: طَابَ بُسرُه وحَلَا وأَشْبَهَ أَنْ يُصِيرَ رُطَبًا.
وأَمورٌ أَشْكالٌ أَي مُلْتَبِسَةٌ مَعَ بعضِها مُخْتَلِفَةٌ.
والأَشْكَلَةُ، بفتحِ الهَمْزَةِ والكافِ. اللَّبْسُ؛ وأَيْضًا: الحاجَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، زَادَ الرَّاغِبُ: التي تُقَيَّدُ الإِنْسانَ، كالشَّكْلاءِ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه والصَّاغانيُّ.
والأَشْكَلُ من سائِرِ الأَشْياءِ: ما فيه حُمْرَةٌ وبياضٌ مُخْتَلِطٌ أَو ما فيه بياضٌ يَضْرِبَ إلى الحُمْرَةِ والكُدْرَةِ.
وقيلَ: الأَشْكَلُ عنْدَ العَرَبِ اللَّوْنَان المُخْتَلِطَان.
ودَمٌ أَشْكَلُ: فيه بياضٌ وحُمْرَةٌ مُخْتَلِطَان؛ قالَ جَرِيرُ:
فما زَالَتِ القَتْلى تَمُورُ دِماؤُها *** بدِجْلَة حَتَّى ماءُ دِجْلَة أَشْكَلُ
والأَشْكَلُ: السِّدْرُ الجَبَلِيُّ؛ قالَ العجَّاجُ:
مَعْجَ المَرَامِي عن قِياسِ الأَشْكَلِ
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْبَرَني بعضُ العَرَبِ أَنَّ الأَشْكَلَ شَجَرٌ مِثْل شَجَرِ العُنَّاب في شَوْكِه وعَقَف أَغْصانِه، غيرَ أَنَّه أَصْغَر وَرَقًا وأَكْثَرُ أَفْنانًا، وهو صُلْبٌ جِدًّا وله نُبَيْقَةٌ حامِضَةٌ شدِيدَةُ الحُمُوضَةِ، مَنَابتُه شَوَاهقُ الجبالِ تُتَّخَذُ منه القِسِيُّ؛ الواحِدَةُ بهاءٍ، قالَ:
أَو وَجْبَة من جَناةِ أَشْكَلَةٍ *** إنْ لم يُرِغْها بالقَوْسِ لم يَنَل
يعْنِي سِدْرَة جَبَلِيَّة.
والأَشْكَلُ من الإِبِلِ والغَنَمِ: ما يَخْلِطُ سَوادَهُ حُمْرَةٌ أَو غُبْرَةٌ كأَنَّه قد أَشْكَلَ عَلَيْك لَونُه.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الضَّبُع فيها غُبْرةٌ وشُكْلَة لَوْنَانِ فيه سَوادٌ وصُفْرةٌ سَمِجَةٌ.
واسمُ اللَّوْنِ الشُّكْلَةُ، بالضمِ، ومنه الشُّكْلَةُ في العَيْنِ وهي كالشُّهْلَةِ.
ويقالُ: فيه شُكْلَةٌ من سُمْرةٍ وشُكْلَةٌ من سَوادٍ.
وعَيْنٌ شَكْلاءُ: بَيِّنَةُ الشَّكَلِ؛ ورجُلٌ أَشْكَلُ العَيْنِ، وقد أَشْكَلَتْ.
وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشُّكْلَةُ كهَيْئةِ الحُمْرةِ تكونُ في بياضِ العَيْنِ، فإذا كانَتْ في سَوادِ العَيْنِ فهي شُهْلَةٌ؛ وأَنْشَدَ:
ولا عَيْبَ فيها غَيْر شُكْلَة عَيْنِها *** كذاك عِتَاقُ الطَّيْرِ شُكْلٌ عُيُونُها
عِتَاقُ الطَّيْرِ: هي الصُّقُورُ والبُزَاةُ ولا تُوصَفُ بالحُمْرةِ، ولكنْ تُوصَفُ بزُرْقةِ العَيْنِ وشُهْلتِها. قالَ: ويُرْوَى هذا البَيْت: غَيْرَ شُهْلَةِ عَيْنِها.
وقيلَ: الشُّكْلَةُ في العَيْنِ الصُّفْرةُ التي تُخَالِط بياضَ العَيْنِ التي حَوْلَ الحَدَقَةِ على صِفَةِ عَيْنِ الصَّقْرِ، ثم قالَ: ولَكِنّا لم نَسْمَعْ الشُّكْلَةَ إلّا في الحُمْرةِ ولم نَسْمَعْها في الصُّفْرةِ.
وفي الحدِيثِ: كانَ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم، ضَلِيعَ الفَمِ أَشْكَلَ العَيْنِ مَنْهُوسَ العَقِبَيْن؛ قالَ ابنُ الأَثيرِ: أَي في بياضِها شيءٌ من حُمْرةٍ وهو مَحْمودٌ مَحْبوبٌ.
وقيلَ: أَي كانَ طَويلَ شَقِّ العَيْنِ، هكذا فَسَّرَه سِمَاكُ بنُ حَرْبٍ ورَوَى عنه شعْبَة.
قالَ ابنُ سِيْدَه: وهذا نادِرٌ.
وقالَ شَيْخُنا: هو تَفْسيرٌ غَرِيبٌ نَقَلَه التَّرْمذيّ في الشَّمَائِلِ عن الأَصْمَعِيِّ وتَعَقَّبَه القاضِي عِيَاض في المشارِقِ وتلميذُه في المطالِعِ، وابنُ الأَثيرِ في النِّهايةِ، والزَّمَخْشَرِيُّ في الفائِقِ وغيرُهم. وأَطْبَقَ أَئِمَّةُ الحدِيثِ على أَنَّه وَهْمٌ مَحْضٌ وأَنَّه لو ثَبَتَ لُغَةً لا يصحُّ في وَصْفِه صلى الله عليه وسلم، لأَنَّ طُولَ شَقِّ العَيْنِ ذَمٌّ مَحْضٌ، فكيفَ وهو غيرُ ثابِتٍ عن العَرَبِ ولا نَقَلَه أَحَدٌ من أَئِمَّةِ الأَدَبِ وأَنّه من المصنِّفِ لمن أَعْجَبِ العَجَبِ.
وشَكَلَ العِنَبُ: أَيْنَعَ بَعْضُهُ أَو اسْوَدَّ وأَخَذَ في النُّضْجِ كتَشَكَّلَ، وشَكَّلَ تَشْكِيلًا كما في المُحْكَمِ.
وشَكَلَ الأَمْرُ: الْتَبَسَ، وهذا قد تقدَّمَ فهو تِكْرَارٌ.
ومن المجازِ: شَكَلَ الكِتابَ شَكْلًا: إذا أَعْجَمَهُ، كقَوْلِكَ: قَيَّدَهُ من شكَالِ الدَّابَّةِ.
وقالَ أَبُو حاتِمٍ: شَكَلَ الكِتابَ فهو مَشْكُولٌ إذا قَيَّدَه بالإِعْرابِ وأَعْجَمَهُ إذا نَقَطَه، كأَشْكَلَهُ كأَنَّه أَزَالَ عنه الإشْكالَ والالْتِبَاسَ، فالهَمْزَةُ حيْنَئِذٍ للسَلبِ. قال الجَوْهَرِي: وهذا نَقَلْته من كتابٍ من غيرِ سماعٍ.
وشَكَلَ الدَّابَّةَ يَشْكُلُها شَكْلًا: شَدَّ قَوائِمَها بحَبْلٍ كشَكَّلَها تَشْكِيلًا؛ واسمُ ذلِكَ الحَبْل الشِّكالُ، ككِتابٍ، وهو العِقَالُ، الجمع: شُكُلٌ ككُتُبٍ، ويخفَّفُ.
وفَرَسٌ مَشْكُولٌ: قُيِّدَ بالشِّكَالِ؛ قالَ الرَّاعِي:
مُتَوَضّحَ الأَقْرَابِ فيهِ شَهُوبَةٌ *** نَهِشَ اليدينِ تَخَالُهُ مَشْكُولًا
وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الشِّكالُ في الرَّحْلِ: خَيْطٌ يوضَعُ بين التَّصْديرِ والحَقَبِ، لكَيْلَا يَدْنو الحَقَبَ من الثِّيلِ، وهو الزِّوارُ، أَيْضًا عن أَبِي عَمْرٍو. وأَيْضًا: وِثاقٌ بين الحَقَبِ والبِطانِ؛ وكذلِكَ الوِثاقُ بين اليَدِ والرِّجْلِ.
ومن المجازِ: الشِّكالُ في الخَيْلِ أَنْ تكونَ ثَلاثُ قَوائِمَ منه مُحَجَّلَةً والواحِدَةُ مُطْلَقَةً؛ شبِّه بالشِّكَالِ وهو العِقَالُ؛ لأَنَّ الشِّكالَ إنَّما يكونُ في ثَلاثِ قَوائِمَ؛ وقيلَ عَكْسُهُ أَيْضًا، وهو أَنَّ ثَلاثَ قَوائِمَ منه مُطْلَقَة والواحِدَة مُحَجَّلَة، ولا يكونُ الشِّكالُ إلَّا في الرَّجْلِ.
والفَرَسُ مَشْكولٌ، وهو مَكْرُوهٌ، لأَنَّه كالمَشْكولِ صُورَةً تَفَاؤُلًا، ويمكنُ أَنْ يكونَ جَرَّب ذلِكَ الجِنْس فلم تكُنْ فيه نَجَابَة؛ وقيلَ: إذا كانَ مَعَ ذلِكَ أَغَرَّ زالَتِ الكَرَاهَةُ لزَوَالِ شبه الشِّكَالِ.
وقالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشِّكَالُ أَنْ يكونَ بياضُ التّحْجِيلِ في رِجْلٍ واحِدَةٍ ويَدٍ من خِلافٍ، قَلَّ البياضُ أَو كَثُرَ.
والمَشْكُولُ من العَرُوضِ: ما حُذِفَ ثانيهِ وسابِعُه نَحْو حَذْفُك أَلِفَ فَاعِلاتُنْ والنونَ منها، سُمِّي بذلِكَ لأَنَّك حَذَفْت من طَرَفِه الآخِر ومن أَوّلِه فصارَ بمَنْزِلَةِ الدابَّةِ التي شُكِلَتْ يَدُه ورِجْلُه، كما في المُحْكَمِ.
والشَّكْلاءُ من النِّعاجِ: البَيْضاءُ الشَّاكِلَةِ وسائِرُها أَسْودُ، وهي بَيِّنَةُ الشَّكَلِ.
والشَّكْلاءُ: الحاجَةُ كالأَشْكَلَةِ وهذا قد تقَدَّمَ ذِكرُهما فهو تِكْرَارٌ.
والشَّواكِلُ: الطُّرُقُ المُتَشَعِّبَةُ عن الطَّريقِ الأَعْظَمِ.
يقالُ: هذا طَريقٌ ذو شَوَاكِل أَي تَتَشَعَّبُ منه طُرقٌ جماعة وهو جَمْعُ شاكِلَة.
يقالُ: اسْتَوَى في شَاكِلَتَيْ الطَّريقِ، وهما جانبَاهُ؛ وطَريقٌ ظاهِرُ الشَّواكِلِ وهو مجازٌ.
والشِّكْلُ، بالكسرِ والفتحِ، غُنْجُ المرأَةِ ودَلُّها وغَزَلُها.
يقالُ: امْرَأَةٌ ذاتُ شِكْلٍ، وهو ما تَتَحَسَّن به من الغُنْجِ وحُسْن الدَّلّ.
وقد شَكِلَتْ، كفَرِحَتْ، شَكَلًا فهي شَكِلَةٌ، كفَرِحَةٍ.
ويقالُ: امْرَأَةٌ شَكِلَةٌ مُشْكِلَةٌ حَسَنَةُ الشِّكْلِ.
وشَكْلَةٌ: اسمُ امرَأَةٍ وهي جارِيَةُ المَهْدِي وإِليها نُسِبَ إبراهيمُ بنُ شَكْلَةَ وهو من أَوْلادِ المَهْدِي.
وشُكْلٌ، بالضمِ، جَمْعُ العَيْنِ الشَّكْلاءِ التي كهَيْئةِ الشَّهْلاءِ.
وأَيْضًا جَمْعُ الأَشْكَلِ من المِياهِ الذي قد خَالَطَه الدَّمُ وهو مجازٌ.
وأَيْضًا: جَمْعُ الأَشْكَلِ مِنَ الكِبَاشِ وغيرِها الذي خَالَطَ سَوَادَه حُمْرَةٌ أَو غُبْرَة. وشَكَلٌ، محرَّكةً، أَبُو بَطْنٍ.
قلْتُ: هما بَطْنَان أَحَدُهما في بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَة وهو شَكَلُ بنُ كَعْبِ بنِ الحريش؛ والثاني في كَلْب وهو شَكَلُ بنُ يَرْبوعِ بنِ الحارِثِ.
وشَكَلُ بنُ حُمَيْدٍ العَبْسِيُّ الكوفيُّ صَحابِيٌّ مَشْهورٌ أَخْرَجَ له التَّرْمذيُّ في الدُّعاءِ وغَيْرِه، وابنُه شُتَيْرُ بنُ شَكَلٍ مُحَدِّثٌ بل تابِعِيٌّ رَوَى عن أَبيهِ وعن عليٍّ وابنِ مَسْعودٍ، وعنه الشَّعبِيُّ وأَهْلُ الكُوْفَة، مَاتَ في وِلايَةِ ابنِ الزُّبَيْرِ؛ قالَهُ ابنُ حَبَّانٍ.
والشَّوْكَلُ: الرَّجَّالَةُ، عن الزجاجيِّ.
وقالَ الفرَّاءُ: الشَّوْكَلَةُ أَو المَيْمَنَةُ أَو المَيْسَرَةُ عن الزَّجَّاجيِّ.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الشَّوْكَلَةُ النَّاحِيَةُ؛ وأَيْضًا: العَوْسَجَةُ.
ومن المجازِ: الشَّكِيلُ: كأَمِيرٍ، الزَّبَدُ المُخْتَلِطُ بالدَّمِ يَظْهَرُ على شَكيمِ اللِّجامِ، نَقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ.
والأَشْكَالُ: حَلْيٌ من لُؤْلُؤٍ أَو فِضَّةٍ يُشْبِه بعضُه بعضًا ويشاكل يُقَرَّطُ به النِّساءُ. وقيلَ: كانَتْ الجَوَارِي تُعَلِّقُه في شُعُورِهنَّ، قالَ ذو الرُّمَّةِ:
إذا خَرَجْنَ طَفَلَ الآصَالِ *** يَرْكُضْنَ رَيْطًا وعِتَاقَ الخَالِ
سَمِعْتَ مِن صَلاصِلِ الأَشْكَالِ *** والشَّذْرِ والفَرَائِدِ الغَوالِي
أَدْبًا على لَبَّاتِها الحَوَالِي *** هَزَّ السَّنَى في لَيْلَة الشَّمَالِ
يَرْكُضْنَ: يَطَأْنَ؛ والخَالُ: بُرْدٌ مُوَشَّى؛ والأَدْبُ: العَجَبُ.
الواحِدُ شَكْلٌ.
والمُشَاكَلَةُ: المُوافَقَةُ. يقالُ: هذا أَمْرٌ لا يُشَاكِلُكَ أَي لا يُوافِقُكَ كالتَّشاكُلِ عن ابنِ دُرَيْدٍ.
وقالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ المُشَاكَلَةِ من الشكْلِ وهو تَقْييدُ الدابَّةِ.
وقالَ أَبُو عَمْرٍو: يقالُ فيه أَشْكَلَةٌ من أَبيهِ وشُكْلَةٌ، بالضمِ، وشاكِلٌ أَي شَبَهٌ منه.
وهذا أَشْكَلُ به أَي أَشْبَهُ.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الشَّكْلُ: المَذْهَبُ والقَصْدُ.
والشَّوكلاءُ: الحاجَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.
وفيه شُكْلَةٌ من دَمٍ، بالضمِ؛ أَي شيءٌ يَسِيرٌ.
والمُشْكِلُ، كمُحْسِنٍ، الدَّاخِلُ في أَشْكَالِه أَي أَمْثالِه وأَشْبَاهِه، من قَوْلِهم: أَشْكَلَ صَارَ ذا شَكْلٍ، والجَمْعُ مشْكِلاتٌ.
وهو يفكُّ المَشَاكِلَ: الأُمورُ المُلْتَبِسَةِ.
ونباتُ الأَشْكَلِ: مِثْلُ شَجَرِ الشَّرْيان عن أَبي حَنِيفَةَ.
وقالَ الزَّجَّاجُ شَكَلَ عليَّ الأَمْرُ أَي أَشْكَلَ.
والشَّكْلاءُ: المُدَاهَنَةُ.
وأَشْكَلَ المَرِيضُ وشَكَلَ كما تَقُولُ: تَمَاثَلَ.
وتَشَكَّلَتِ المَرْأَةُ: تَدَلَّلَتْ.
وشَكَلَ الأَسَدُ اللَّبْوَة: ضَرَبَها، عن ابنِ القَطَّاعِ.
وأَصَابَ شَاكِلَةَ الصَّوابِ، وهو يَرْمِي بَرَأْيِه الشَّوَاكِل، وهو مجازٌ.
وأَبُو الفَضْل العَبَّاسُ بنُ يُوسُف الشَّكْلِيُّ، بالكسرِ، مُحَدِّثٌ.
وشَكْلانٌ، بالفتحِ، قَرْيةٌ بمرو، منها أَبُو عصمة أَحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مُحَّمدٍ الشَّكْلانيُّ مُحَدِّثٌ مَاتَ سَنَة 451.
والمُشَكَّلُ، كمُعَظَّمٍ، صاحِبُ الهَيْئةِ والشَّكْل الحَسَنِ.
وعبدُ الرَّحمن بنُ أَبي حَمَّار شُكَيْلٌ، كزُبَيْرٍ، المُقْرِئُ شيْخٌ لعُثْمَان بنِ أَبي شِيْبَة؛ وأَحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمن بنِ الشُّكَيْلِ اليَمَنِيُّ مَاتَ سَنَة 654. وبَنُو الأَشْكَلِ: بَطْنٌ من العَرَبِ مَسْكَنُهم بيت حجر من الزَّيْدِيَّة بوادِي سرور من اليَمَنِ.
وأَبُو شُكَيْلٍ، كزُبَيْرٍ، إبراهيمُ بنُ عليِّ بنِ سالِمٍ الخَزْرَجِيُّ مَاتَ بتريم سَنَة 661.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
283-تاج العروس (طبل)
[طبل]: الطَّبْلُ الذي يُضْرَبُ به مَعْرُوفٌ يكونُ ذا وَجْهٍ وذا وَجْهَيْنِ، وجَمْعُه أطْبالٌ وطُبولٌ، قد خالَفَ هنا اصْطِلاحه نسْيَانًا.وصاحِبُه طَبَّال، كشَدَّادٍ، وحِرْفَتُه: الطِبِّالَةُ، ككِتابَةٍ وقد طَبَلَ، كنَصَرَ.
وطَبَّلَ تَطْبِيلًا، والأُوْلَى عن اللَّيْثِ والطَّبْلُ: الخَلْقُ، يقالُ: ما أَدْرِي أَيُّ الطَّبْل هو أَي أَيُّ الخَلْقِ، نَقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ والجَوْهَرِيُّ، قالَ:
قد عَلِمُوا أَنَّا خِيارُ الطَّبْل *** وأَنَّنا أَهْلُ النَّدَى والفَضْلِ
وما أَدْرِي أَيُّ الطَّبْل هو، وأَيُّ الطَّبْن هو؛ أَي أَيُّ النَّاسِ، قالَ لَبِيدُ:
ثم جَرَيْتُ لانْطِلاقِ رِسْلي *** سَيَعْلمون مَنْ خِيارُ الطَّبْلِ
والطَّبْلُ: ثَوْبٌ يمانٍ موشًى فيه كهَيْئةِ الطُّبُولِ.
وفي التَّهْذِيبِ: ثَوْبٌ عليه صُورةُ الطَّبْلِ تُسَمَّى به الطَّبْلِيَّة.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: ضَرْبٌ من الثِّيابِ، قالَ البَعِيث:
وأَبْقى طَوالُ الدَّهْرِ من عَرَصاتِها *** بَقِيَّةَ أَرْمامٍ كأَرْدِيَة الطَّبْل
أَو ثَوْبٌ مِصْرِيٌّ.
وفي الأَسَاسِ: بَرَزُوا في أَرْدِيَة الطَّبْل، وهي بُرودٌ تَلْبَسُها أُمراءُ مِصْرَ.
وفي العَيْنِ: تُحْمَلُ من مِصْر، صَانَها اللهُ تعالَى، قالَ أَبو النَّجْمِ:
مِنْ ذِكْرِ أَيَّامٍ ورَسْمٍ ضاحِي *** كالطَّبْلِ في مُخْتَلَف الرِّياحِ
والطَّبْلُ: الخَرَاجُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.
وفي الأَسَاسِ: أَدَّى أَهْلُ مِصْرَ طَبْلًا من الخَراجِ وطَبْلَيْن وطُبُولًا؛ أَي نَجْمًا سُمِّي بطَبْلِ البَنْدار.
ومنه هو يُحِبُّ الطَّبلِيَّةَ أَي دَراهِمَ الخَراجِ بِلا تَعَبٍ.
والطُّوبالَةُ، بالضمِ: النَّعْجَةُ، كما في المُحْكَمِ والصِّحاحِ، الجمع: طُوبالاتٌ قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولا يقالُ للكَبْشِ طُوبالٌ، قالَ طَرَفَةُ:
نَعاني حَنانةُ طُوبالةً *** تُسَتُّ يَبِيسًا من العِشْرِقِ
نعاني: أَخْبرني بالمَوْتِ، وحَنانةُ: اسمُ رَاعٍ، ونَصَبَ طُوبالَة على الشَّتْمِ كأَنَّه قالَ: أَعْنِي طُوبالَةَ.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الطَّبْلَةُ: شيءٌ من خَشَبٍ تَتّخذُه النِّساءُ.
والطَّبْلُ: الرَّبْعة للطِّيبِ، وأَيْضًا: سَلَّةُ الطَّعامِ وهو كالخِوَانِ ويقالُ أَيْضًا الطَّبْليَّة والجَمْعُ الطَّبَالَى.
والطَّبالَةُ: النَّعْجَةُ: وأَرْضٌ خارِجَ مِصْرَ تُعْرَفُ بذلِكَ.
ومن المجازِ: هو طَبْلٌ ذُو وَجْهَيْن للنكِد المُرَائي.
وفلانٌ يَضْرِبُ الطَّبْل تَحْتَ الكِساءِ.
وطَبَلَيه، محرَّكةً، والعامَّةُ تقولُ طبلوهه قَرْيَةٌ من أَعْمالِ مِصْرَ من المَنُوفِيَّة، وقد دَخَلْتها ومنها الإِمامُ ناصِرُ الدِّيْن أَبُو النَّصْر مَنْصورُ الطَّبْلاوِيُّ الشافِعِيُّ أَحَدُ المُبَرَّزِين في المَعْقولِ والمَنْقولِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
284-تاج العروس (غزل)
[غزل]: غَزَلَتِ المرْأَةُ القُطْنَ والكتَّانَ وغيَرهما تَغْزِلُه، من حَدِّ ضَرَبَ، غَزْلًا واغْتَزَلَتْه أَيْضًا: فهو غَزْلٌ، بالفتح؛ أَي مَغْزولٌ، قالَ اللهُ تعالَى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها}، وهو مُذَكَّر جَمْعُه غُزُولٌ.قالَ ابنُ سِيْدَه: وسَمَّى ابنُ سِيْدَه ما تَنْسجُه العَنْكَبوتُ غَزْلًا.
ونِسْوَةٌ غُزَّلٌ، كرُكَّعٍ، وغَوازِلُ، قالَ جَنْدلُ بنُ المُثَنَّى الحارِثيُّ:
كأَنَّه بالصَّحْصَحانِ الأَنْجَلِ *** فُطْنٌ سُخامٌ بأَيادي غُزَّلِ
على أَنَّ المغُزَّلَ قد يكونُ هنا الرجالَ لأنَّ فُعَّلًا في جَمْعِ فاعلٍ من المُذَكَّرِ أَكْثَر منه في جَمْعِ فاعِلَةٍ.
والمَغْزَلُ، مُثَلَّثَةُ المِيمِ، تميمٌ تكسرُ المِيمَ، وقَيْس تضمُّها، والأخِيرَةُ أَقلُّها والأَصْل الضَّم: ما يُغْزَلُ به، نَقَلَ ثَعْلب اللُّغات الثَّلاثَة، وكذا ابنُ مالِكٍ، وأَنْكَرَ الفرَّاءُ الضَّم في كتابِه البهيّ كما في العُبَابِ.
وأَغْزَلَ: أَدارَه.
قلْتُ: ونَصُّ الفرَّاء في كتابه البهيِّ: وقد اسْتَثْقَلَت العَرَب الضَّمة في حروفٍ وكَسَرت مِيْمها، وأَصْلها الضَّم، من ذلِكَ مِصْحَف ومِخْدَع ومِجْسَد ومِطْرَف ومِغْزَل، لأَنَّها في المعْنَى أُخِذَت من أُصْحِف أَي جُمِعَت فيه الصّحفُ، وكذلِكَ المِغْزَل إنَّما هو مِن أُغْزِل أَي فُتِلَ وأُدِير فهو مُغْزَل.
وفي كتابٍ لقَوْمٍ مِن اليهودِ: «عليكم كذا وكذا ورُبْع المغْزل» أَي رُبع ما غَزَلَ نِساؤُكم.
قالَ ابنُ الأثيرِ: هو بالكسرِ الآلَةُ، وبالفتحِ مَوْضِعِ الغَزْل، وبالضمِّ ما يُجْعل فيه الغَزْل، وقيلَ: هو حُكْم خص به هؤلاء.
والمُغَيْزِلُ: حَبْلٌ دقيقٌ.
قالَ ابنُ سِيْدَه: أَرَاه شُبِّه بالمِغْزل لدِقَّتِه، قالَ: حَكَى ذلِكَ الحِرْمازِيّ وأَنْشَدَ:
وقالَ اللَّواتي كنَّ فيها يَلُمْنَني: *** لعلَّ الهوى يومَ المُغَيْزِل قاتِلُهْ
ومُغازَلَةُ النِّساءِ: مُحادَثَتُهُنَّ ومُراوَدَتهُنَّ، والاسمُ الغَزَلُ، محرَّكةً، وقد غَزِلَ غَزلًا، وغازَلَها مُغازَلَةً.
وقالَ ابنُ سِيْدَه: الغَزَلُ اللهو مع النِّساءِ كالمَغْزَلِ، كمَقْعَدٍ، وأَنْشَدَ:
تقول لِيَ العَبْرَى المُصابُ حَلِيلُها *** أَ يا مالكٌ هل في الطَّعائِن مَغْزَلُ؟
قالَ شيْخُنا: ظاهِرُه أَنَّ الغَزَلَ هو مُحادَثَةُ النِّساءِ ولعلَّه من معانِيهِ، والمَعْروفُ عنْدَ أَئمَّةِ الأَدَبِ وأَهْلِ اللّسانِ أَنَّ الغَزَلَ والنَّسِيبَ هو مدحُ الأَعْضاءِ الظاهِرَةِ من المحْبوبِ، أَو ذِكْر أَيَّامِ الوصلِ والهجرِ أَو نَحْو ذلِكَ كما في عمْدَةِ ابن رشيقٍ.
وبسَّطه بعض البَسْط الشيخُ ابن هشَامٍ في أَوائِلِ شرْحِ الكعبيةِ، انتَهَى.
قلْتُ نَصُّ ابن رشيقٍ في العَمْدَةِ: والنَّسيبُ والتَّغَزلُ والتَشْبيبُ كُلُّها بمعنًى واحِدٍ.
وقالَ عبدُ اللَّطيف البَغْدادِيُّ في شرْحِ نقْدِ الشِّعرِ لقدامَةَ: يقالُ فلانٌ يُشبِّبُ بفلانَةٍ أَي ينسبُ بها، ولتَشَابههما لا يُفَرقُ اللُّغويّون بَيْنهما وليسَ ذلِكَ إِليهم.
قالَ العلَّامةُ عبدُ القادِرِ بنُ عُمَر البَغْدادِيّ في حاشِيَتِه على شرْحِ ابنِ هشَامٍ على الكَعْبية: إِنَّ التَّشْبيبَ إِنَّما هو ذِكْرُ صفاتِ المرْأَةِ وهو القسم الأَوّل من النَّسيبِ فلا يُطْلَق التَّشْبيبُ على ذِكْرِ صفاتِ النَّاسِب ولا على غيرِه من القسْمَيْن الباقِيَيْن، والتَّغَزُّل بمعْنَى النَّسيبِ في الأَقسامِ الأَرْبعةِ فيقالُ لكلِّ منهما تَغَزُّلٌ كما يقالُ له نَسيبٌ، والتَّغَزّلُ ذِكْرُ الغَزَل، فالغَزَل غَيْر التَّغَزل والنَّسِيْب.
وقالَ عبدُ اللّطِيف البَغْدادِيّ في شرْحِه على نقْدِ الشّعرِ لقدامَةَ: اعلم أَنَّ النَّسيبَ والتَّشْبيبَ والغَزَلَ ثَلاثَتُها مُتَقارِبَة ولهذا يعسرُ الفَرْقُ بَيْنها حتى يظنّ بها أَنَّها واحِدٌ.
ونحن نُوضِحُ لَكَ الفَرْق فنقولُ إِنَّ الغَزَلَ هو الأَفْعالُ والأَحْوالُ والأَقوالُ الجارِيَة بَيْن المحبِّ والمَحْبوبِ نَفْسها، وأَمَّا التَّشْبيبُ فهو الإِشَادَةُ بذكْرِ المَحْبوبِ وصِفَاته وإِشْهار ذلِكَ والتَّصْريح به، وأَمَّا النَّسِيبُ فهو ذِكْر الثَّلاثَة أَعْنِي حالَ النَّاسِب والمَنْسُوب به. والأُمور الجارِيَة بَيْنهما، فالتَّشْبيب دَاخِلٌ في النَّسِيبِ والنَّسِيبُ ذِكْر الغَزَل.
قالَ قدامَةُ: والغَزَلُ إِنَّما هو التَّصَابي والاسْتِهْتار بمودَّات النِّساءِ، ويقالُ في الإِنْسانِ إِنَّه غزلٌ إِذا كان متشكلًا بالصَّبْوة التي تَلِيقُ بالنَّساءِ وتُجانِس مُوَافَقَاتِهِن بالوَجْدِ الذي يجده بهن إِلى أَن يَملنَ إِليه والذي يُميلهنّ إليه هو الشمائلُ الحلوةُ والمعاطفُ الظريفةُ والحركاتُ اللطيفةُ والكلامُ المستعذَبُ والمزحُ المُسْتَغْربُ.
قالَ الشارِحُ المَذْكُور: يَنْبَغي أَن يفْهَمَ أَنَّ الغَزَل يُطْلقُ تارَةً على الاسْتعدادِ بنَحْو هذه الحَال والتَّخْلُّق بهذه الخَلِيقةِ، ويُطْلقُ تارةً أُخْرى على الانْفِعالِ بهذه الحالِ كما يقالُ: الغَضْبانُ على المُسْتعدِّ للغَضَبِ السَّريع الانْفِعَال به على مَن انْفَعَل له وخَرَجَ به إِلى الفعْلِ، فقوْلُه: الغَزَلُ إِنَّما هو التَّصابي يُريدُ به التَّخَلُّق والانْفِعَال، وقوْلُه إِذا كان متشكلًا بالصَّبْوة يُريدُ به الاسْتِعْداد، انتَهَى.
والتَّغَزُّلُ: التَّكَلُّفُ له أَي للغَزَلِ، وقد يكونُ بمعْنَى ذِكْر الغَزَلِ، فالغَزَلُ غيرُ التَّغَزُّلِ كما تقدَّمَ قَرِيبًا.
والغَزِلُ، ككَتِفٍ: المُتَغَزِّلُ بِهنَّ على النَّسَبِ أَي ذو غَزَلٍ، فالمُرادُ بالتَّغَزُّلِ هنا ذِكْرُ الغَزَلِ لا تَكَلُّفُه، وقد ذُكِرَ تَحْقِيقُه في قوْلِ قدامَةَ قَرِيبًا، وقد غَزِلَ، كفَرِحَ، غَزلًا.
والغَزِلُ: الضَّعيفُ عن الأَشْياءِ الفاتِرُ فيها، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، قالَ: ومنه رجُلٌ غَزِلٌ لصاحِبِ النِّساءِ لضَعْفِه عن غيرِ ذلِكَ.
والأَغْزل مِن الحُمَّى ما كانتْ، هكذا في سائِرِ النسخِ، والصَّوابُ كما في اللّسانِ: والعَرَبُ تقولُ: أَغْزَلُ من الحُمَّى يُرِيدُون أَنَّها مُعْتادةٌ للعَليلِ مُتَكَرِّرةً عليه فكأَنَّها عاشِقَةٌ له.
وغازَلَ الأَربعينَ: دَنَا منها، عن ثَعْلَب.
والغَزالُ، كسَحابٍ، من الظِّباءِ الشادِنُ، وقيلَ: الأُنْثَى، حينَ يَتَحَرَّكُ ويَمْشِي، وتشبَّهُ به الجارِيَة في التَّشبيبِ فيُذكَّر النَّعْت والفعْل على تَذْكيرِ التَّشبيهِ، وقيلَ: هو بعد الطَّلى، أو هو غَزالٌ مِن حينَ يولدُ إِلى أَن يَبْلُغَ أَشُدَّ الإِحضارِ، وذلِكَ حينَ يَقْرُن قَوائِمه فيَضَعُها معًا ويَرْفَعُها معًا، الجمع: غِزْلَةٌ وغِزْلانٌ بكسرِهِما، كغِلْمة وغِلْمان، والأُنْثَى بالهاءِ.
قالَ شيْخُنا: وظاهِرُه بوَهمٍ أَنَّ الغَزَالَ خاصٌّ بالذّكورِ وأَنَّه لا يقالُ في الأُنْثى، وإِنما يقالُ لها ظبْيَةٌ، وهو الذي جَزَمَ به طائفَةٌ مِن فقهاءِ اللّغَةِ، ومالَ إِليه الحَرِيريُّ والصَّفديّ وغيرُهما وصَحَّحوه، والصَّوابُ خِلافُه، فإِنَّهم قالوا في الذَّكَر غَزَالٌ، وفي الأُنْثَى غَزَالَةُ، كما نَقَلَه الفيومي في المِصْباحِ وغيرُ واحِدٍ من الائمَّةِ فلا اعْتِدَادِ بمَا زَعَموه.
وإِن قيلَ إِنَّ كَلامَ المصنِّفِ رُبَّما يُوهمُ ما زَعَموه فلا الْتِفات إِليه واللهُ أَعْلَمُ.
وظَبْيَةٌ مُغْزِلٌ، كمُحْسِنٍ. ذاتُ غَزالٍ، وقد أَغْزَلَت.
وغَزِلَ الكَلْبُ، كفَرِحَ: فَتَرَ وهو أَنْ يَطْلُبَه حتى إِذا أَدْرَكَهُ وثَغا من فَرَقِه انْصَرَفَ منه ولَهِيَ عنه، كذا في الصِّحاحِ.
وقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: فإِذا أَحَسَّ بالكَلْبِ خَرِقَ ولَصِقَ بالأَرْضِ ولَهِيَ عنه الكَلْبُ وانْصَرَفَ فيقالُ: غَزِلَ واللهِ كلبُكَ. والغَزَالَةُ، كسَحابةٍ: الشمسُ سُمِّيَت لأَنَّها تَمُدُّ حِبالًا كأَنَّها تَغْزِلُ أو الشَّمْسُ عند طُلوعها، يقالُ طَلَعت الغَزَالَةُ ولا يقالُ غابَتْ الغَزالَةُ، ويقالُ: غابت الجَوْنةُ، لأَنَّها اسمٌ للشمسِ عند غُرُوبِها، أَو هي الشمسُ عندَ ارْتِفاعِها، وفي المحْكَمِ: إِذا ارْتَفَعَ النَّهارُ، أَو هي عَيْنُ الشَّمْسِ.
وأَيْضًا: اسمُ امْرأَة شَبِيب الخارِجِيّ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في الشجاعَةِ، نُقِلَ أَنَّها هجمت على الكوفة في ثلاثِيْن فارِسًا وفيها ثَلاثُون أَلْف مُقاتِلٍ فصَلَّت الصُّبْحَ وقَرَأَتْ فيها سُورَةَ البَقَرَةِ، ثم هَرَبَ الحجَّاجُ ومَنْ معه، وقصَّتُها في كامِلِ المبرِّدِ وهي المُرادَةُ في قوْلِهِ:
هَلَّا بَرَزْتَ إِلى الغَزالَة في الوَغَى *** إِذ كان قَلْبُك في جَناحَيْ طائِر
نَقَلَه شَيْخُنا.
قلْتُ: والرِّوايةُ:
هَلَّا كَرَرْتَ على غَزَالَة... *** بل كانَ قلْبُك...
ومِثْلُه قَوْلُ الآخَر:
أَقامَت غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأَهْلِ العِراقَيْن حَوْلًا قَمِيطا
وقد تُحْذَفُ لامُها أَي لام المَعْرفةِ لأَنَّها للمح الأَصْلِ، قالَهُ شيْخُنا.
وقالَ أَبو نصْرٍ: الغَزالَةُ عُشْبَةٌ مِنِ السُّطَّاحِ تَتَفَرَّشُ على الأَرْضِ بورَقٍ أَخْضَر لا شَوْك فيه ولا أَفْنان، حُلْوة يَخْرجُ من وسَطِها قَضْيبٌ طويلٌ يُقْشَرُ فيُؤْكَل، ولها نورٌ أَصْفر مِن أَسْفَل القَضِيبِ إِلى أَعْلاه وهي مَرْعىً يَأْكُلُها كلُّ شيءٍ ومَنابِتُها السُّهول.
والغَزالَةُ: فَرَسُ مُحَطِّمِ بنِ الأَرْقَمِ الخولانيُّ.
وغَزالَةُ الضُّحَى وغَزالاتُه: أَوَّلُهُ. وفي الصِّحاحِ والعُبَابِ: أَوّلُها. يقالُ: أَتَيْتُه غَزَالة الضُّحَى وغَزَالاتِ الصُّحَى، قالَ:
يا حَبَّذا أَيامَ غَيْلانَ السُّرى *** ودَعْوَةُ القوم أَلا هل مِنْ فنًى
يَسُوق بالقومِ غَزَالاتِ الضُّحَى؟
ويقالُ جَاءَنا فلانٌ في غَزالَةِ الضُّحَى، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ لذي الرُّمَّةِ:
فأَشْرفتُ الغَزالةَ رأْسَ حُزْوى *** أُراقِبُهم وما أَغْنى قِبالا
هكذا في نسخِ الصِّحاحِ، والصَّوابُ في الرِّوايَةِ على ما حَقَّقه أَبو سَهْل وأَبو زَكَريا:
فأَشْرفْتُ الغَزالَةَ رأْسَ حوضي
قالَ الجوْهَرِيُّ: ونَصَب الغَزالَة على الظَّرْفِ.
قالَ الصَّاغانيُّ: أَي وَقْت الضُّحَى.
وقالَ ابنُ خَالَوَيْه: الغَزالَةُ في بيتِ ذي الرُّمَّةِ الشمسُ، وتَقْديرُه عنْدَه فأَشْرفتُ طُلوعَ الغَزالةِ، ورأْسَ حَزْوى مَفْعول أَشْرفتُ، على معْنَى عَلَوْت أَي علَوْت رأْس حَزْوى طلوعَ الشمسِ.
أَو بُعَيْدَ ما تَنْبَسِطُ الشَّمسُ وتَضْحَى أَو أَوَّلُها أَي الضُّحَى إلى مَدِّ النَّهارِ الأكْبر: مُضِيِّ نَحْو خُمُس النَّهارِ.
وغَزالُ شَعْبان: دُوَيْبَة، وهو ضَرْبٌ من الجَنَادِب.
وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: دَمُ الغَزالِ نَباتٌ كالطُّرْخونِ حرِّيفٌ، يُؤْكَلُ وهو أَخْضَر، وله عِرْق أَحْمر مِثْل عُرُوق الأَرْطاة تُخَطِّطُ الجَوارِي بمائِهِ مَسَكًا في أَيْديهنَّ حُمْرًا، قالَ: هكذا أَخْبَرني بعضُ بني أَسدٍ. وغَزالُ، كسَحابٍ: عَقَبَةٌ، وفي الرَّوضِ للسَّهيليّ: اسمُ طَريق، وهو غيرُ مَصْروفٍ.
قلْتُ: ومنه قَوْلُ سُويدُ بنُ عُمَيْر الهُذَليُّ:
أَقْرَرْتَ لمَّا أَن رأَيْتَ عَدِيَّنا *** ونَسِيتَ ما قدَّمْتَ يومَ غَزالِ
والغُزَيِّلُ، كرُبَيِّعٍ: جَدُّ المَكْشُوح والِدُقَيْس، والمَكْشُوحُ اسْمُه هُبِيْرَةُ بنُ عبدِ يَغوثَ. ودارَةُ الغُزَيِّلِ لبَلْحَارِثِ بنِ رَبيعَةَ وقد ذكرت في الدَّارَات.
والمَغازِلُ: عُمُدُ النَّوْرَجِ الذي يُداسُ به الكُدْسُ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ.
وسَمَّوا غَزالًا وغَزالةً، كسَحابٍ وسَحابَة.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
في المَثَلِ: هو أَغْزَلُ من امرِئِ القَيْسِ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وفي العُبَابِ: وقوْلُهم: أَغْزَلُ من عَنْكَبوتٍ هو من النَّسجِ. وقوْلُهم: أَغْزَلُ مِن فرعل، هو مِن الغَزْل بمعْنَى الخَرِق مِثْل خَرق الكَلْب، وقيلَ فرعلُ رجُلٌ من القُدَماءِ وهو بمعْنَى أَغْزَل من امرِئِ القَيْسِ.
والتَّغازُلُ نَقَلَه الجوْهَرِيُّ وهو تَفاعُلٌ من الغَزلِ.
وفَيْفا غزالٍ، وقَرْنُ غَزالٍ: مَوْضِعان، قالَ كُثَيِّرُ:
أُنادِيْك ما حَجَّ الحَجِيجُ وكَبَّرَت *** بفَيْفا غَزالٍ رُفْقَة وأَهَلَّت
وقد ذُكِرَ في ف ي ف.
وعبدُ القادِرِ بنُ مُغَيْزلٍ أَخَذَ عن السَّخاويّ والسيوطي.
ومنيةُ الغَزالِ، كسَحابٍ: قَرْيةٌ بِمِصْرَ مِن أَعْمالِ المنوفية وقد رَأَيْتُها.
وغَزالَةُ، كسَحابَةٍ: قَرْيةٌ من قُرَى طُوس، قيلَ: وإليها نُسِبَ الإِمامُ أَبو حامِدٍ الغَزاليُّ كما صَرَّحَ به النَّوويُّ في التِّبْيان. وقالَ ابنُ الأَثيرِ: إنَّ الغَزَالي مُخَفَّفًا خِلافُ المَشْهور وصَوَّب فيه التَّشْديد وهو مَنْسوبٌ إلى الغَزَّال بائِع الغَزْل أَو الغزال على عادَةِ أَهْلِ خَوَارِزْم وجرْجَان كالعصاريّ إلى العَصّار، وبَسَّط ذلِكَ السبكيُّ وابنُ خَلَّكان وابنُ شُهْبَة.
ويقالُ: هو غَزِيلُها، فَعِيلٌ بمعْنَى مُفاعلٍ كحدِيثٍ وكَليمٍ.
وتقولُ: صاحِبُ الغَزَل أَضَلّ من ساقِ مِغْزل، وضَلالَه أَنَّه يَكْسو الناسَ وهو عَرْيان، كما في الأَسَاسِ.
ومن المجازِ: مِن أَنْفاس الصّبا إذا غازَلَت رِياضَ الرُّبا.
وهو يُغازلُ رَغَدًا من العَيْشِ.
وأَبو غَزالَةَ شاعِرٌ جاهِليُّ من تجيب، واسْمُه رَبيعَةُ بنُ عبدِ اللهِ وأُمُّه غَزالَةُ بنْتُ قنان من إِياد.
والغَزَالُ كسَحَابٍ: لَقَبُ يَعْقوب بنِ المُبَارَكِ الكُوفيّ.
ويَحْيَى بنُ حكيمٍ الغَزَال شاعِرٌ أَنْدَلُسِيٌّ مجيدٌ، مَاتَ سَنَة 350.
وعبدُ الواحِدِ بنِ أَحْمدَ بنِ غَزَال مُقْرِئٌ.
ومحمدُ بنُ الحُسَيْن بنِ عَيْن الغَزَال كَتَبَ عنه أَبو الطاهِرِ بنُ أَبي الصَّقْر، وخالدُ بنُ محمدِ بنِ عُبَيْد الدِّمياطيّ بن عَيْن الغَزَال عن بكْرِ بنِ سَهْل وغيرِه.
ومحمدُ بنُ عليِّ بن دَاود بنِ غَزَال حافِظٌ مُكْثِرٌ. وأَبو عبدِ الرَّحمن غَزَالُ بنُ أَبي بكْرِ بنِ بُنْدَار الخَبَّاز عن ثابِتِ بنِ بُنْدَار. وأَبو البَدْر محمدُ بنُ غَزَال الوَاسِطِيُّ محدِّثٌ.
وبالتَّشْديدِ: أَحْمدُ بنُ أَيّوب المَرُوزيُّ الغَزَّالُ، ومقاتلُ ابن يَحْيَى السُّلميُّ الغَزَّال، وأَحْمدُ بنُ هَارُون البُخَاريُّ الغَزَّال مُحدِّثون. وأَمُّ غزالةَ، مُشَدَّدًا: حصْنٌ من أَعْمالِ ماردة بالأَنْدَلُس، قالَهُ ياقوتُ.
وأَحْمدُ بنُ محمدِ بنِ محمدِ بنِ نَصْرِ اللهِ بنِ المُغَيْزل الحَمَويُّ سَمِعَ من ابنِ رواحَةَ، مَاتَ سَنَة 687.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
285-تاج العروس (فل فلل فلفل)
[فلل]: فَلَّهُ يَفُلُّه فَلًّا وفَلَّلَهُ تَفْلِيلًا: ثَلَمَهُ؛ فَتَفَلَّلَ وانْفَلَّ وافْتَلَّ، الأَخِيرَان مُطاوِعا فَلَّهُ؛ وتَفَلَّلَ مُطاوِعُ فَلَّلَهُ.ولذا قالَ شيْخُنا: فيه تَخْلِيطُ بالنِّسْبَةِ لقَواعِدِ الصَّرْفيِّين، ويحملُ كَلامه على اللفِّ والنّشْر المُشَوَّش، انْتَهَى.
وقالَ بعضُ الأَغْفالِ:
لو تَنطِح الكُنادِرَ العُضُلَّا *** فَضَّت شُؤُونَ رأْسِه فافْتَلَّا
وفي حَدِيْث أُمِّ زَرْعٍ: «شَجَّكِ أَو فَلَّكِ أَو جَمَع كُلًّا لَكِ»، أَرادَتْ بالفَلِّ الكَسْرَ والضَّرْبَ، تقولُ: إنَّها معه بينَ شَجِّ رأْسٍ أَو كَسْرِ عُضْوٍ أَو جَمْع بَيْنهما؛ وقيلَ: أَرادَتْ بالفَلِّ الخُصُومَةَ.
وفَلَّ القومَ يفُلُّهم فَلًّا: هَزَمَهُم فانْفَلُّوا وتَفَلَّلوا؛ أَي انْهَزَمُوا.
وقَوْمٌ فَلٌّ: مُنْهزِمونَ، يَسْتَوِي فيه الواحِدُ والجَمْعُ.
قالَ ابنُ بَرِّي: ومنه قَوْلُ الجعْدِيِّ:
وأَراهُ لم يُغادِر غير فَل
أَي المَفْلُول.
وفي قَصِيد كَعْبٍ:
إِن يترك القِرْن إِلَّا وهو مَفْلولُ
أَي مَهْزومٌ، الجمع: فُلولٌ، بالضمِّ، وأَفْلالٌ، هكذا في النسخِ، والصَّوابُ: فُلَّالٌ، كرُمَّانٍ.
ففي المُحْكَمِ: قالَ أَبو الحَسَنِ: لا يخلو مِنْ أَنْ يكونَ اسْمَ جَمْع أَو مَصْدرًا، فإنْ كانَ اسْمَ جَمْع فقِياسُ واحِدِه أَنْ يكونَ فالًّا كشارِبٍ وشَرْبٍ، ويكونَ فالٌّ فاعِلًا بمعْنَى مَفْعولٍ لأَنَّه هو الذي فُلَّ، ولا يلزمُ أَنْ يكونَ فُلولٌ جَمْعَ فَلٍّ بلْ هو جَمْعُ فالٍّ لأنَّ جَمْعَ الجَمْعِ نادِرٌ؛ وأَمَّا فُلَّالٌ فجَمْعُ فالٍّ لا مَحالَةَ، لأَنَّ فَعْلًا ليسَ ممَّا يُكَسَّر على فُعَّال، فتأَمَّل. وسَيْفٌ فَليلٌ ومَفْلولٌ وأفلُّ ومُنْفَلٌّ: أَي مُنْثَلِمٌ؛ قالَ عَنْتَرَةَ:
وسَيْفي كالعَقِيقةِ وهو كِمْعِي *** سِلاحِي لا أَفَلَّ ولا فُطارا
وسَيْفٌ أَفَلُّ بَيِّنُ الفَلَل: ذو فُلُولٍ؛ وفُلولُهُ: ثُلَمُهُ وهي كُسورٌ في حَدّهِ واحِدُها فَلٌّ.
وقد قيلَ: الفُلُولُ مَصْدَرٌ والأَوَّلُ أَصحّ، قالَ النابِغَةُ الذُّبيانيُّ:
بهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكَتائِبِ
وفي حدِيْث سَيْف الزُّبَيْر: «فيه فَلَّة فُلَّها يومَ بَدْرٍ»؛ الفَلَّةُ الثَّلْمَةُ في السَّيْفِ.
والفَليلُ: نابُ البعيرِ المنكسِرُ، وفي الصِّحاحِ: إِذا انْثَلَمَ.
والفَلِيلُ: الجماعَةُ كالفَلِّ، والجَمْعُ فُلولٌ؛ قالَ أَعْشَى باهِلَةَ:
فجاشَتِ النَّفْسُ لمَّا جاءَ فَلُّهُم *** ورَاكِب جاءَ مِن تَثْلِيث مُعْتَمِر
أَي جَماعَتُهم المُنْهزِمُونَ.
والفَليلُ: الشَّعَرُ المُجْتَمِعُ كالفَليلَةِ.
قالَ ابنُ سِيْدَه: فإمَّا أَنْ يكونَ مِن بابِ سَلَّة وسَلٍّ، وإمَّا أنْ يكونَ مِن الجَمْعِ الذي لا يفارِقُ واحِدَه إلَّا بالهاءِ؛ قالَ الكُمَيْت:
ومُطَّرِدِ الدِّماء وحيث يُلْقى *** من الشَّعَر المضَفَّر كالفَلِيلِ
والجَمْعُ فَلائِلُ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لابنِ مُقْبِلٍ:
تَحَدَّرَ رَشَحًْا لِيتُه وفَلائِلُه
وفي حديْثِ مُعاوِيَة: أَنَّه صَعِدَ على المنْبَرِ وفي يدِهِ فَلِيلَة وطَرِيدَة؛ الفَلِيلَةُ: الكُبَّةُ مِن الشَّعَر.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكان المُرادُ الكُبَّة مِن الدمقس.
والفَليلُ: اللِّيفُ، هُذَليَّةٌ.
والفَلُّ ما نَدَرَ عن الشَّيءِ كسُحالةِ الذَّهبِ وبُرادَةِ الحديدِ وشَررِ النَّارِ؛ وفي بعضِ النسخِ: وشَرارِ الناسِ، وهو غَلَطٌ، والجَمْعُ فُلُولٌ.
والفَلُّ. الأَرضُ الجَدْبَةُ، ويُكْسَرُ؛ أَو هي التي تُمْطَرُ ولا تُنْبِتُ، عن أَبي عُبَيْدَةَ. أَو ما أَخْطأَها المَطَرُ أَعْوامًا، أَو ما لم تُمْطَرُ بين أَرضَيْن مَمْطورَتَيْنِ، وهي الخَطِيطَةُ، وقد رَدَّه أَبو عُبَيْدَةَ وصَوَّبَ: أَنَّها التي تَمْطَرُ ولا تُنْبِتُ. وقيلَ: هي التي لم يُصِبْها مَطَرٌ. أَو هي الأَرْضُ القَفْرَةُ لا شيءَ بها، وفَلاةٌ منها، والجَمْعُ كالواحِدِ، وقد تُكَسَّرُ على أَفْلالٍ؛ قالَ الرَّاجزُ:
مَرْتُ الصَّحارِي ذُو سُهُوبٍ أَفْلالْ
وأَفْلَلْنا: وطِئْناها.
وقالَ الفرَّاءُ: أَفَلَّ الرجُلُ صارَ بأَرْضٍ فلٍّ لم يُصِبْه مَطَرٌ؛ وأَنْشَدَ:
أَفَلَّ وأَقْوَى فهو طاوٍ كأَنَّما *** يُجاوِبُ أَعْلى صَوتِهِ صوتُ مِعْوَل
والفِلُّ، بالكسْرِ: الأَرْضُ لا نباتَ بها ولم تُمْطرْ؛ قال عبدُ اللهِ بنُ رواحَةَ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه:
شَهِدْت فلم أَكذِب بأَنَّ محمدًا *** رسولُ الذي فوقَ السَّموات من عَلُ
وأَنَّ أَبا يَحْيَى ويَحْيَى كِلَيهما *** له عَمَلٌ في دِينِه مُتَقبَّلٌ
وأَنَّ التي بالجِزْع من بَطْن نخلةٍ *** ومَنْ دانَها فِلٌّ من الخيرِ مَعْزِلُ
أَي خالٍ، من الخيْرِ، ويُرْوَى: ومن دونها؛ أَي الصَّنَم المَنْصوبُ حوْلَ العُزَّى.
قالَ الصَّاغانيُّ: وتُرْوَى القِطْعَةُ التي منها هذه الأَبْيات لحسَّانٍ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، هي مَوْجودَةٌ في أَشْعارِهِما.
وقالَ أَبو صالِحٍ مَسْعودُ بنُ قَيْدٍ، واسْمُ قيدٍ عُثْمان، يَصِفُ إِبلًا:
حَرَّقَها حَمْضُ بلادٍ فِلِّ *** وغَتْمُ نَجْم غير مُسْتَقِلِّ
فما تكادُ نِيبُها تُوَلِّي
الغَتْم: شدَّةُ الحرِّ الذي يأْخُذُ بالنَّفَسِ.
والفلُّ: ما رَقَّ من الشَّعَرِ.
واسْتَفَلَّ الشَّيءُ: أَخَذَ منه أَدْنَى جُزْءٍ كعُشْرِه.
وقيلَ: الاسْتِفْلالُ أَنْ يُصِيبَ مِنَ الموْضِعِ العَسِرِ شَيئًا قَليلًا مِن موْضِعِ طلَبِ حقٍّ أَو صِلَةٍ فلا يَسْتَفِلّ إلَّا شيئًا يَسِيرًا.
وأَفلَّ الرَّجُلُ: ذَهَبَ مالهُ، مِن الأَرْضِ الفَلِّ.
وفَلَّ عنه عَقْلُه يَفِلُّ: ذَهَبَ ثم عادَ.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: الفُلَّى، كرُبَّى: الكَتيبَةُ المُنْهزِمةُ وكذلِكَ الفُرَّى.
والفُلْفُلُ، كهُدْهُدٍ وزِبْرِجٍ؛ ونَسَبَ الصَّاغانيُّ الكسْرَ للعامَّةِ، ومَنَعَه صاحِبُ المِصْباحِ أَيْضًا وصَوَّبوا كَلامَه؛ حَبٌّ هِنْدِيٌّ مَعْروفٌ، وهو مُعَرَّبُ پِلْپِلْ بالكسْرِ؛ لا يَنْبُتُ بأَرْضِ العَرَبِ، وقد كَثُرَ مَجِيئُه في كَلامِهم.
قالَ أَبو حَنيفَةَ: أَخْبَرني مَنْ رأَى شجرَةً فقالَ: مِثْلُ شَجَرِ الرُّمَّان سواء؛ زادَ دَاودُ الحَكِيمُ: وأَرْفَع؛ وبينَ الوَرَقَتَيْن منه شِمْراخانِ مَنْظومانِ، والشِّمْراخُ في طولِ الإِصْبَعِ وهو أَخْضَر؛ فيُجْتَنَى ثم يُشَرُّ في الظِّل فيَسْودُّ ويَنْكمِش، وله شَوْكٌ كشَوك الرُّمَّان، وإذا كانَ رطْبًا رُبِّب بالماءِ والملْحِ حتى يُدْرَك ثم يُؤْكَلْ كما تُؤْكَلُ البُقولُ المُرَبَّبة على المَوائِدِ فيكونُ هاضُومًا، واحِدَتُه فُلْفُلَةٌ.
وقالَ دَاودُ الحَكِيمُ في التَذْكرةِ. وَرَقُه رَقِيقٌ أَحْمَر ممَّا يَلي الشَّجرَةَ أَخْضَر مِن الجهَةِ الأُخْرَى، وعُودُهُ سبطٌ وهو أَبْيضُ وأَسْودٌ، والأبْيضُ أصْلَحُ في الاسْتِعْمالِ، وكِلاهُما إمَّا بُستانيٌّ أَو بَريٌّ، وثَمرتُه عَناقِيدُ كالعِنَبِ حارٌّ يابِسٌ نافِعٌ لقَلْع البَلْغَمِ اللّزِجِ مَضْغًا بالزِّفْتِ، ويَجْلُو الصَّوتَ، ولتَسْخينِ العَصَبِ والعَضَلاتِ تَسْخِينًا لا يُوازيهِ غيرُه، وللمَغَصِ والنَّفْخِ واسْتِعْمالُه في اللّعوقِ للسُّعالِ البارِدِ وأَوْجاعِ الصَّدْرِ وضيقِ النفسِ، ويَنْفَعُ في الأَكْحالِ فيَجْلُو الظُّلْمةَ والبَياضَ، ويُذْكى ويُقَوِّي الحفْظَ، ولا شيءَ مِثْلُه في تَحْميرِ الأَلْوانِ. ومِن المَشْهورِ أَنَّ قَلِيلَه يَعْقِلُ البَطْنَ وكَثيرَهُ يُطْلِق ويُجَفِّفُ الرُّطُوبات ويُدِرُّ البَوْلَ، ويُبَدِّدُ المَنِيَّ بعدَ الجماعِ، ويُفْسِدُ الزَّرْعَ بقُوَّةٍ، وقد جاءَ في قوْلِ امْرئِ القَيْسِ:
تَرَى بعرَ الصيرار في عَرَصاتِها *** وقِيعَانِها كأَنَّه حَبُّ فُلْفُلِ
وقالَ المُرَقِّشُ الأَكْبر، وقيلَ: الأَصْغَر:
فكأَنَّ حَبَّةَ فُلفُلٍ في جفنه *** ما بَين مَضْجِعِها إلى إمسَائِها
وأَمَّا الدارَفُلْفُلَ وهو شجرُ الفُلْفُلِ أَوَّلَ ما يُثْمِرُ؛ قالَ شيْخُنا: صرَّحَ جماعَةٌ بأَنَّ شَجَرَ دارفُلْفُل غيرَ شَجَرِ الفُلْفُلِ؛ فيزيدُ في الباءَةِ ويُحْدِرُ الطعامَ؛ أَي يَهْضمُه ويُزيلُ المَغَصَ والنَّفخَ، ويَنْفَعُ من نَهْشِ الهَوامِّ طِلاءً بالدُّهْنِ.
قلْتُ: ويُعرَفُ الدارفُلْفُل بمِصْرَ بعِرْقِ الذَّهَبِ، وبالفارِسِيَّة پلپل دراز.
والفُلْفُلُ، كهُدْهُدٍ: الخادِمُ الكَيِّسُ؛ زادَ منلا عليّ في نامُوسِه: وكزِبْرِجٍ أَيْضًا مِثْلُ ذلِكَ، بل هو الأَكْثَر في اسْتِعْمالِه.
قالَ شيْخُنا: كذا قالَ وفيه تأَمُّل. والفُلْفُلُ: اللّيف.
وفُلْفُلٌ: اسْمُ رجُلٍ.
وتَفَلْفَلَ الرَّجُلُ: قارَبَ بين الخُطا [وتَبَخْتَرَ] *، وبه فُسِّرَ الحَديْثُ عن أَبي عبدِ الرّحمن السُّلميِّ قالَ: «خَرَجَ علينا عليٌّ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وهو يَتَفَلْفَلُ» وكان كَيِّسَ الفِعْل، ورَوَى عَبْد خَيْرٍ أَنَّه خَرَجَ وهو يَتَفَلْفَلُ فسَأَلْته عن الوِترِ، فقالَ: نعم ساعَة الوِترِ هذه؛ هكذا فَسَّره النَّضْرُ.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: تَفَلْفَلَ شاصَ فاهُ بالسِّواكِ، وبه فُسِّر الحَديْثُ وفَسَّره النَّضْرُ أَيْضًا هكذا.
ونَقَلَ ابنُ الأثيرِ عن الخطَّابيِّ يقالُ: جاءَ فلانٌ مُتَفَلْفِلًا إذا جاءَ والمِسْواك في فِيهِ يَشُوصُه.
وقالَ القتيبيُّ: لا أَعْرفُ يَتَفَلْفَل بمعْنَى يَسْتاكُ، قالَ: ولعلَّه يَتَتَفَّلُ لأنَّ من اسْتَاكَ تَفَل، كفَلْفَلَ فيهما؛ عن النَّضْرِ.
وتَفَلْفَل: قادِمَتا الضَّرْعِ إذا اسْوَدَّتْ حَلَمَتاهُما؛ ووُجِدَ في بعضِ نسخِ الصِّحاحِ: حَلَمَتاها؛ قالَ ابنُ مُقْبِلٍ يَصِفُ ناقَةً:
فمرَّتْ على أَظْرابِ هِرٍّ عَشِيَّةً *** لها تَوْأَبانِيَّانِ لم يَتَفَلْفَلا
التَّوْأَبانِيَّان: قادِمَتا الضَّرْع.
وقالَ ابنُ شُمَيْلٍ: الفِلِّيَّةُ، بالكسْرِ كالعِلِّيةِ: الأَرْضُ التي لم يُصِبْها مَطَرُ عامِها حتى يُصيبَها المَطَرُ من العامِ القابِلِ، الجمع: الفَلالِيُّ.
وثَوْبٌ مُفَلْفَلٌ، بالفتحِ؛ أَي على صيغَةِ المَفْعولِ: مُوَشًّى دارَاتُ وَشْيه كصَعارِيرِ الفُلْفُل؛ أَي تَحْكي اسْتدارَتَه وصِغَرَه.
وشَرابٌ مُفَلْفَلٌ يَلْذَعُ لَذْعَةً، قالَ:
كأَنَّ مَكاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً *** صُبِحْنَ سُلافًا من رَحيقٍ مُفَلْفَل
ذَكَّر على إِرادَةِ الشرَّابِ.
وقيلَ: خَمْرٌ مُفَلْفَلٌ أُلْقِي فيه الفُلْفُلُ فهو يَحْذِي اللِّسانَ؛ وطَعامٌ مُفَلْفَلٌ كَذلِكَ.
وشَعَرٌ مُفَلْفَلٌ: شديدُ الجُعودَةِ، كشَعَرِ الأَسْودِ.
وأَديمٌ مُفَلْفَلٌ: نَهَكَهُ الدِّباغُ فظَهَرَ فيه مِثْل الفُلْفُلِ.
والأَفَلُّ: سَيْفُ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ الطَّائيِّ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وفيه يقولُ:
إنِّي لأَبْذلُ طارِفي وتِلادِي *** إلَّا الأَفلَّ وشِكَّتي والجَرْوَلا
وفِلْفِلانُ، بالكسْرِ: قرية بأَصْبَهان منها: أَبو يَغْقوب إسْحقُ بنُ إسْمعيل بنِ السَّكَنِ عن إسْحقَ بن سَلْمان الرَّازيِّ صاحِب جَرِيرٍ، وعنه أَبو محمدٍ بنُ فارِسَ.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الفَلُّ: الخُصومَةُ والنِّزاعُ والشّقاقُ، وبه فُسِّر أَيْضًا حديث أُمِّ زَرْع كما تَقَدَّم، والمعْنى كَسْرك بخُصومَتِه.
والتَفْلِيلُ: تَفَلُّلٌ في حَدِّ السِّكِّيْن وفي غُرُوبِ الأَسْنانِ وفي السَّيْفِ.
وفي حَديْث عائِشَةَ تَصِفُ أَبَاها، رضِيَ اللهُ تعالَى - عنهما: ولا فَلُّوا له صَفاةً؛ أَي كَسَروا له حَجَرًا، كَنَتْ به عن قُوَّتِه في الدِّيْن واسْتَفَلَّ غَرْبَه: أَي كَسَرَه.
وتَفَلَّلَتْ مَضَارِبَه: تَكَسَّرَتْ.
والفلُّ: ثَوْبٌ مِن مشاقةِ الكنَّانِ.
وانْفَلَّ سِنُّه: انْثَلَمَ؛ قالَ:
عُجَيِّز عارِضُها مُنْفَلُّ *** طَعامُها اللُّهْنةُ أَو أَقَلُّ
وقَوْمٌ فِلالٌ، بالكسْرِ: مُنْهَزِمُونَ، نَقَلَه الجوْهرِيُّ.
وأَفَلَّتِ الأَرْضُ: صارَتْ فَلًّا، عن أَبي حَنيفَةَ، وأَنْشَدَ:
وكم عسَفت من مَنْهَل مُتَخاطئٍ *** أَفَلَّ وأَقْوى فالجِمَام طَوامِي
والفَلِيلُ: العُرْفُ، وبه فَسَّرَ السّهيليُّ في الرَّوْضِ قوْلَ ساعِدَة بن جُؤَيَّة:
وغُودِرَ ثاوِيًا وتَأَوَّبَتْه *** مُذرَّعةٌ أُمَيْمُ لها فَلِيلُ
نَقَلَه شيْخُنا: وأَمَّا السُّكَّريُّ فإنّه فَسَّرَه بالشّعرِ المَكْبوبِ.
وتَفَلْفَلَ شَعَرُ الأَسْودِ: اشْتَدَّتْ جُعُودَتُه، كما في المُحْكَمِ، ورُبَّما سُمِّي ثَمَرُ البَرْوَقِ فُلْفُلًا تَشْبِيهًا بهذا الفُلْفُل؛ قالَ:
وانْتَفَضَ البَرْوَقُ سُودًا فُلْفُلُه
وأَهْلُ اليَمَنِ يسمّونَ ثَمَرَ الغافِ فُلْفُلًا.
وفَلْفَلَ وتَفَلْفَلَ: مَشَى مُتَبَخْتِرًا.
وفُلَّانٌ، كرُمَّانٍ: ناحِيَةٌ ببِلادِ السّودانِ.
وفِيلالُ، بالكسْرِ: اسْمُ سجلماسة لمَدينَةٍ في الغَرْبِ.
وفُلْفُلُ الماءِ: نَبْتٌ يُجاوِرُ الماءَ سبطٌ ناعِمُ الوَرَقِ، له حَبٌّ في عَناقِيد.
وفلافلُ السّودانِ: حَبٌّ مُسْتديرٌ أَمْلَسُ في غلف ذي أَبْيات مِثْل الصَّنوبرِ.
وفُلْفُلُ القرودِ: حَبُّ الليمِ.
وفُلْفُلُ الصَّقالبَةِ: فنجكشت.
والفُلُّ بالضمِّ: عبارَةٌ عن ياسَمِيْن مُضاعَف إمَّا بالتَّرْكيبِ أَو يَشقُّ أَصْلُه ويُوضَعُ فيه اليَاسَمِيْن، وهو زَهْرٌ نقيُّ البَياضِ، والتَّدلّكُ بوَرَقِه يُطيِّبُ البَدَنَ.
وفلفلَةُ بنُ عبدِ اللهِ الجُعْفيُّ تابِعيٌّ يَرْوِي عن ابنِ مَسْعودٍ، وعنه القاسِمُ بنُ حَسَّان، ثِقَةٌ.
وفي المَثَلِ: مَنْ قل ذلّ ومَن أَمر فلّ. وغَدَا فِلًّا مِن الطَّعامِ، بالكسْرِ: أَي خالِيًا.
والفَلِيلَةُ: شَعَرُ زبرة الأَسَدِ؛ قالَ مالِكُ بنُ نويرَةَ:
يا لهف مِن عرناء ذات قَلِيلَة *** جاءَت إليَّ على ثَلاثٍ تَخْمَعُ
والفُلفيلَةُ، بالضمِّ: نَهْرٌ صغيرٌ ينشقُّ مِن النِّيْل.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
286-تاج العروس (قل قلل قلقل)
[قلل]: القُلُّ، بالضَّمِّ، والقِلَّةُ بالكسرِ: ضِدُّ الكَثْرَةِ والكُثْرِ، وفيه لَفَ ونَشْر غيرُ مُرَتَّب.قالَ شيْخُنا: وأَجازَ البرهان الحلبيُّ في شرْحِ الشفاءِ الكَسْرَ في القلِّ والكثْرِ، ونَقَلَه الشَّهابُ في إِعْجازِ القُرْآن.
قلْتُ: ونَقَلَه ابنُ سِيْدَه أَيْضًا، ومنه قَوْلُهم: الحَمدُ لله على القُلِّ والكُثْرِ، بالوَجْهَيْن.
وفي الحدِيْثِ: «الرِّبا وإِن كَثُر فهو إِلى قُلٍّ أَي إِلى قِلَّة؛ وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد للبيدٍ:
كلُّ بَني حُرَّةٍ مَصِيرُهُمْ *** قُلٌّ وإِن أَكثرتْ من العَدَدِ
وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ لخالدِ بنِ عَلْقمَةَ الدَّارميّ:
قد يَقْصُر القُلُّ الفَتى دُونَ هَمِّه *** وقد كان لولا القُلُّ طَلَّاعَ أَنْجُدِ
وقد قَلَّ يَقِلُّ قِلَّةً وقُلًّا، فهو قليلٌ كأَميرٍ وغُرابٍ وسَحابٍ، الأَخيرَةُ عن ابنِ جنيِّ.
وأَقَلَّهُ: جَعَلَهُ قليلًا كقَلَّلَهُ. وقيلَ: أَقَلَّ الشيءَ: صادَفَه قَليلًا؛ وأَيْضًا: أَتَى بقَلِيلٍ، وكذلِكَ قَلَّلَه.
والقُلُّ، بالضَّمِّ: القَلِيلُ.
قالَ شيْخُنا: حَكَى فيه الفتحَ القاضِي زَكَريا في حَواشِي البَيْضاوِي أَثْناء يضل به كَثيرًا.
ويقالُ: ماله قُلٌّ ولا كُثْرٌ.
والقُلُّ من الشَّيء: أَقَلُّهُ.
والقَلِيلُ مِن الرِّجالِ، كأَميرٍ: القَصيرُ الجثَّةِ النحيفُ الدَّقيقُ، وهي بهاءٍ، كذلِكَ: ونِسْوَةٌ قَلائِلُ وقومٌ قَليلونَ وأَقِلّاءُ وقُلُلٌ بضمَّتينِ كسَرِيرٍ وسُرُر، وقُلُلونَ جَمْعُ السَّلامَة؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} وقالَ تعالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، يكونُ ذلِكَ في قِلَّةِ العَدَدِ. وأَيْضًا في دِقَّةِ الجُثّةِ والنَّحافَةِ.
والإِقْلالُ: الافْتِقارُ وقِلَّةُ الجِدَةِ؛ وقد أَقَلّ صَارَ مُقِلًّا أَي فَقِيرًا بعْدَ الاكْثارِ.
ورجُلٌ مُقِلُّ وأَقَلُّ: فَقيرٌ وفيه بَقِيَّةٌ، وضِدُّه المثْرِي؛ ومنه قوْلُهم: هذا جُهْد المُقلّ.
وقالَلْتُ له الماءَ إِذا خِفْتَ العَطَشَ فأَرَدْتَ أَن يُسْتَقَلَّ ماؤُكَ، وفي نسخةٍ: أَن تستقِلَّ ماءَكَ. ويقالُ: هو قُلُّ بنُ قُلٍّ، بضَمِّهِما، وكذا ضُلُّ بنُ ضُلٍّ أَيْضًا إِذا كان لا يُعْرَفُ هو ولا أَبوهُ.
قالَ سِيْبَوَيْه: ويقالُ قُلُّ رَجُلٍ يقولُ ذلِكَ إِلَّا زيدٌ، بالضَّمِّ؛ أَي بضمِ القافِ؛ وأَقَلُّ رَجُلٍ يقولُ ذلِكَ إِلَّا زيدٌ، مَعْناهُما: ما رجُلٌ يقولُه إِلَّا هو، فالقلَّةُ فيه بمعْنَى النَّفي المَحْض.
وقالَ ابنُ جنيِّ: لمَّا ضارَعَ المُبْتدَأُ حَرْفَ النَّفْي بَقَّوْا المُبْتدأ بِلا خَبَرِ.
ويقالُ: رجُلٌ قُلٌّ بالضَّمِّ: أَي فَرْدٌ لا أَحَدَ له.
وقَدِمَ علينا قُلُلٌ من النَّاسِ بضمَّتين أَي ناسٌ مُتَفَرِّقونَ من قَبائِلَ شَتَّى أَو غيرِ شَتَّى فإِذا اجتمعوا جَمْعًا فهم قُلَلٌ كصُرَدٍ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه.
والقِلَّةُ، بالكسرِ: الرِّعْدَةُ مُطْلقًا، أَو مِن غَضَبٍ وطمعٍ ونَحْوه تَأْخذُ الإِنسانَ كالقِلِّ كما سَيَأْتي وهو مجازٌ.
وقالَ الفَرَّاءُ: القَلَّة، بالفتحِ، النَّهْضَةُ من عِلَّةٍ أَو فَقْرٍ.
والقُلَّة، بالضَّمِّ: أَعْلَى الرَّأْسِ والسَّنامِ والجَبَلِ [أو كُلِّ شَيءٍ] *، وعَمَّمَه بعضُهم قالَ: قُلَّة كلِّ شيءٍ: رأْسُه وأَعْلاه، وأَنْشَدَ سِيْبَوَيْه في القُلَّة بمعْنَى رأْسِ الإنسانِ:
عَجائب تُبْدِي الشَّيْبَ في قُلَّةِ الطِّفْل
والجَمْعُ قُلَلٌ؛ قالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ فِراخَ النَّعامَةِ ويشبِّه رُؤُوسَها بالبَنادِقِ:
أَشداقُها كصُدُوع النّبْع في قُلَلٍ *** مثل الدَّحارِيج لم يَنْبُت لها زَغَبُ
والقُلَّةُ أَيْضًا: الجماعَةُ منَّا إِذا اجْتمعوا جَمْعًا، والجَمْعُ كالجَمْعِ.
والقُلَّةُ: الحُبُّ العَظيمُ؛ أَو الجَرَّةُ العَظيمةُ؛ أَو الجَرَّةُ عامَّةً؛ أَو الجَرَّةُ الكبيرَةُ من الفَخَّارِ.
وقيلَ: هو الكوزُ الصَّغيرُ، وهذا هو المَعْرُوف الآنَ بمِصْر ونَواحِيها، فهو ضِدٌّ، الجمع: قُلَلٌ وقِلالٌ، كصُرَدٍ وجِبالٍ؛ قالَ جميلُ بنُ معمرٍ:
فظَلِلْنا بنِعمة واتَّكَأْنا *** وشَرِبْنا الحَلالَ من قُلَلِهْ
وقالَ حسَّان، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه:
وأَقْفَر من حُضَّارِه وِرْدُ أَهْلِهِ *** وقد كان يُسقَى من قِلالٍ وحَنْتَم
وفي الحدِيْث: «إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل خَبَثًا»؛ قالَ أَبو عُبَيْد: يعْني هذه الحِبَاب العِظَام، وهي مَعْروفَة بالحِجَازِ وقد تكونُ بِالشأمِ.
وفي صفَةِ سِدْرَةِ المُنْتَهَى: «ونَبِقُها كقِلالِ هَجَر»، وهَجَر: قَرْيةٌ قُرْبَ المدِينَةِ وليْسَتْ هَجَر البَحْرَيْن، وكانت تُعْمَل بها القِلالُ.
ورَوَى شَمِرٌ عن ابنِ جُرَيْج: أَخْبَرَني مَن رَأَى قِلالَ هَجَر تَسَع القُلَّة منها الفَرَق؛ قالَ عبدُ الرَّزَّاق: الفَرَق أَرْبَعة أَصْوُعِ بصَاعِ النبيِّ، صلَّى اللهُ تعالَى عليه وسلَّم.
ورُوِي عن عيسَى بن يونُس قالَ: القُلَّة يُؤْتى بها مِن ناحِيَة اليَمَن تَسَع يها خَمْس جِرَارٍ أَو سِتًّا.
قالَ أَحْمدُ بنُ حَنْبل: قَدْر كلّ قُلَّة قِرْبتان.
وقالَ إِسحاقُ: القُلَّة نَحْو أَرْبَعِين دَلْوًا أَكْثر ما قِيلَ في القُلَّتَيْن.
وقالَ الأَزْهرِيُّ: وقِلالُ هَجَر والأَحْساء ونَواحِيها مَعْروفَة تأْخُذ القُلَّة منها مَزَادة كَبيرَة مِن الماءِ، وتملأُ الرَّاويةُ قُلَّتَيْن، وكانوا يُسَمُّونها الخُرُوس؛ قالَ: وأَرَاها سُمِّيت قِلالًا لأَنَّها تُقَلُّ أَي تُرْفَعُ إِذا مُلِئَت وتُحْمَل.
والقُلَّةُ من السَّيفِ: قَبيعَتُه؛ ومنه سَيفٌ مُقَلَّل إِذا كانت له قبِيعة.
واسْتَقَلَّه: حَمَلَه ورَفَعَه كقَلَّه وأَقَلَّهُ، الثانِيةُ عن ابنِ الأَعْرابيِّ.
وفي الصِّحاحِ: أَقَلَّ الجَرَّة: أَطَاقَ حَمْلَها. وفي العُبَابِ: قَوْلُه تعالَى: {أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا}؛ أَي حَمَلَت الرِّيحُ سَحابًا ثِقالًا بالماءِ.
ومن المجازِ: استَقَلَّ الطَّائِرُ في طَيَرانِه أَي نَهَضَ للطَّيَران وارْتَفَعَ في الهَواءِ.
ومن المجازِ: استَقَلَّ النباتُ إِذا أَنافَ.
ومن المجازِ: استَقَلَّ القومُ: ذَهَبُوا واحْتَمَلوا سَائِرِين وارْتَحَلوا، وكذا اسْتَقَلّوا عن دِيارِهم، واسْتَقَلّت خِيامُهم، واسْتَقَلّوا في مَسِيرِهم.
واستَقَلَّ الشَّيءَ؛ عَدَّهُ قَلِيلًا، أَو رَآه كذلِكَ، كتَقالَّهُ؛ ومنه الحدِيْث: «فلمَّا أَخبروا كأَنَّهم تَقَالُّوها».
ومن المجازِ: استقَلَّ الرجُلُ أَي غَضِبَ.
وفي الأَساسِ: استَقَلَّ فلانٌ غَضَبًا إِذا شَخَصَ مِن محلِّه لفَرْطِ غَضَبِه.
والقِلُّ، بالكسرِ: النَّواةُ التي تَنْبُتُ مُنْفَرِدَةً ضَعيفَةً، نَقَلَه الصَّغانيَّ.
والقِلُّ: شبْهُ الرِّعْدَةِ، كما في الصِّحاحِ؛ أَو إِذا كانت غَضَبًا أَو طَمَعًا ونَحْوه يأْخُذ الإنسانَ، كالقِلَّةِ، وقد تقدَّم ذِكْرُها؛ الجمع: كعِنَبٍ.
والقِلالُ، ككِتابٍ: الخُشُبُ المَنْصوبَةُ للتَّعْريشِ، حَكَاه أَبو حَنيفَة، وأَنْشَدَ:
من خَمر غانَةَ ساقِطًا أَفنانُها *** رفَع النَّبيطُ كُرُومَها بقِلال
أَرادَ بالقِلالِ أَعْمِدة تُرْفَع بها الكُرُوم مِن الأَرْضِ، ويُرْوى بظِلالِ.
وقد أَقَلَّتْه الرِّعْدَةُ واسْتَقَلَّتْه واستَقَلَّ أَيْضًا، كما في الصِّحاحِ؛ قالَ الشاعِرُ:
وأَدْنَيْتنِي حتى إِذا ما جَعَلْتنِي *** على الخَصْرِ أَو أَدْنى اسْتَقَلَّك راجِفُ
وأَخَذَ بِقِلِّيلَتِه وقِلِّيلاهُ مُشَدَّدتينِ مَكْسورَتَيْنِ، وإِقْليلاهُ، مَكْسورَةً أَي بجُمْلَته.
ويقالُ: ارْتَحَلوا بِقِلِّيَّتِهم أَي بجَماعَتِهم لم يَدَعوا وراءَهُم شَيئًا.
ويقالُ: أَكلَ الضَّبَّ بقِلِّيَّتِهِ أَي بِعِظامِهِ وجِلْدِه، عن ابنِ سِيْدَه.
والقَلْقالُ: المِسْفارُ، عن أَبي عُبَيْد؛ أَي الكثيرُ السَّفَرِ، وهو مجازٌ. وقد قَلْقَلَ في الأرْضِ قَلْقَلَةً وقِلْقالًا، عن اللّحْيانيّ.
والقُلْقُلُ، كهُدْهُدٍ: الخَفيفُ في السَّفَرِ؛ وذَكَرَه المصنِّفُ ثانِيًا فيمَا بعْدُ.
وقالَ أبو الهَيْثم: رجُلٌ قُلْقُل بُلْبُل إذا كانَ خَفِيفًا ظَريفًا، والجَمْع قَلاقِل وبَلابِل.
والقِلْقِلُ، كزِبْرِجٍ: نَبْتٌ له حَبٌّ أَسْوَدُ؛ وفي نُسخَةِ شيْخِنا: حَبٌّ سودٌ، وخَطَّأَ المصَنِّف؛ حَسَنُ الشَّمّ محرِّكٌ للباءَةِ جِدًّا لا سِيَّما مَدْقوقًا بسِمْسِمٍ مَعْجونًا بعَسَلٍ.
وقالَ دَاود الحَكِيم: يقربُ شجرُه مِن الرُّمَّان عودُه أَحْمر وفُرُوعُه تمتدُّ كَثيرًا ويَحْمِل حَبًّا مُسْتديرًا في حَجْمِ الفُلْفُل وأَكْبَر يَسِيرًا؛ ويقالُ إنَّه حَبُّ السمْنَةِ يسمنُ ويهيِّجُ الباءَةَ كيفَ اسْتُعْمِل، وأَجْودُه ما اسْتُعْمِل محمَّصًا؛ انتَهَى قالَ الراجزُ.
أَنْعَتُ أَعْيارًا بأَعْلَى قُنَّهْ *** أَكَلْنَ حَبَّ قِلْقِلٍ فَهُنَّهْ
لهنَّ من حُبّ السِّفادِرَنَّهْ
وقالَ أَبو حَنيفَةَ: هو نَبْتٌ يَنْبتُ في الجَلَدِ وغَلْظ السَّهْل ولا يَكادُ ينبُتُ في الجِبالِ، وله سِنْف أُفَيْطِحُ ينبُت في حَبَّات كأَنهنَّ العدَس، فاذا يَبِسَ فانْتَفَخ وهبَّت له الرِّيحُ سَمِعْت تَقَلقُلَه كأنَّه جَرَس، وله وَرَق أَغْبَرُ أَطْلس كأَنَّه وَرَق القَصَب، ويقالُ له: القُلْقُلانُ والقُلاقِلُ بضمِّهِما؛ هذا قَوْل أَبي حَنيفَةَ، فإنّه قالَ: كلُّ ذلِكَ نَبْتٌ واحِدٌ؛ وذَكَرَ عن الأَعْرابِ القُدُم أَنَّه شجرٌ أَخْضَر ينهَضُ على ساقٍ، ومَنابتُه الآكَام دُوْن الرِّياض، وله حبٌّ كحبِّ اللُّوبياء طيِّب يُؤْكَل، والسائمةُ حَرِيصَة عليه؛ وأَنْشَدَ:
كأَنَّ صوتَ حَلْيِها إذا انْجَفَلْ *** هَزُّ رِياحٍ قُلْقُلانًا قد ذَبَلْ
وقالَ اللَّيْثُ: القِلْقِلُ شجرٌ له حبٌّ عِظامٌ ويُؤْكَل، وأَنْشَدَ.
أَبْعارُها بالصَّيْفِ حَبُّ القِلْقِل
وقالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وساقَتْ حَصادَ القُلْقُلان كأَنَّما *** هو الخَشْلُ أَعْرافُ الرِّياح الزَّعازِع
أَو هُما نَبْتانِ آخَرانِ، فقالَ بعضُهم: القُلاقِلُ بَقْلة بَرِّيَّة يُشْبِه حَبُّها حبَّ السِّمْسِم ولها أَكَمامَ كأَكْمامِها، قالَ الرَّاجِزُ:
بالصمد ذي القلاقل
وعِرْقُ هذا الشَّجرِ هو المُغاثُ؛ ومنه المَثَلُ:
دَقَّك بالمِنْحازِ حبَّ القِلْقِل
والعامَّةُ تقولُه بالفاءِ وهو غَلَطٌ.
وفي الصِّحاحِ: قالَ الأصْمَعِيُّ: هو تَصْحيفٌ إنما هو بالقافِ، وهو أَصْلَب ما يكونُ مِن الحُبُوب، حَكَاه أَبو عُبَيْد.
قالَ ابنُ بَرِّي: الذي رَوَاه سِيْبَوَيْه حبّ الفُلْفُلِ بالفاءِ، قالَ وكذا رَوَاه عليُّ بنُ حَمْزة، وأَنْشَدَ:
وقد أَرَاني في الزمانِ الأَوَّلِ *** أَدُقَّ في جارِ اسْتِها بِمعْوَلِ
دَقَّك بالمِنْجازِ حبَّ الفُلْفُلِ
والقُلْقُلانيُّ، بالضَّمِّ، طائِرٌ كالفاخِتَةِ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وقَلْقَلَ قَلْقَلَةً: صَوَّتَ وهو حكايَةٌ.
وقَلْقَلَ الشَّيءَ قَلْقَلَةً وقِلْقالًا، بالكسرِ ويُفْتَحُ، عن كراعٍ وهي نادِرَةٌ؛ أَي حَرّكَهُ؛ أَو بالفَتْحِ: الاسمُ، وبالكسرِ: المَصْدَرُ كالزِّلْزال والزَّلْزال.
وقالَ اللَّحْيانيُّ: قَلْقَلَ في الأَرْضِ قَلْقَلَة وقِلْقالًا: ضَرَبَ فيها، فهو قَلْقالٌ، وقد تقدَّمَ.
والقُلْقُلُ والقُلاقِلُ، بضمِّهِما، الرجُلُ الخَفيفُ في السَّفرِ، المِعْوانُ السَّريعُ التَّقَلْقُلِ أَي التحرُّكِ والاضْطِرَاب في الحاجَةِ.
وحُروفُ القَلْقَلَةِ: جطد قب؛ قالَ سِيْبَوَيْه: وإمَّا سُمِّيت بذلِكَ للصَّوت الذي يَحْدثُ عنها عنْدَ الوَقْف لأنَّك لا تَسْتَطِيع أَنْ تقِفَ عنْدَه إلَّا معه لشدَّةِ ضَغْطِ الحَرْف؛ ووُجِدَ في بعضِ النسخِ: قحط دب، وفي أُخْرى: قطب جد؛ وكلُّ ذلِكَ صَحِيحٌ.
والقِلِّيَّةُ، بالكسرِ وشَدِّ اللَّامِ: شِبْهُ الصَّوْمَعَةِ؛ ومنه كتابُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، لنَصَارَى الشامِ لمَّا صالَحَهُم أَن لا يحْدِثوا كَنِيسةً ولا قِلّيَّة.
والقِلُّ: الحائِطُ القَصيرُ. وبهاءٍ: النَّهْضَةُ مِن عِلَّةٍ أَو فَقْرٍ، وهذا قد تقدَّمَ للمصنِّفِ، وهو قَوْل الفرَّاء.
والقُلَّى، كُربَّى: الجارِيَةُ القَصيرَةُ.
وتَقالّتِ الشَّمسُ: تَرَحَّلَتْ. وفي الحدِيْث: «حتى تَقالَّتِ الشمسُ» أَي اسْتَقَلَّت في السَّماءِ وارْتَفَعَت وتعَالَتْ.
ولَقُلَّ ما جِئْتُكَ، بضمِ القافِ: لُغَةٌ في الفَتْح، نَقَلَه الفرَّاءُ.
قالَ بعضُ النَّحَويِّين: قَلَّ مِن قوْلِك قَلَّما فِعْلٌ لا فَاعِل له، لأنَّ ما أَزَالَتْه عن حُكْمِه في تَقَاضِيه الفاعِلِ، وأَصارَتْه إلى حُكْم الحَرْفِ المُتَقاضِي للفِعْل لا الاسْمِ نَحْو لولا وهلَّا جَميعًا، وذلِكَ في التَّخْضيضِ، وإِن في الشَّرْط وحَرْف الاسْتِفْهام؛ ولذلِكَ ذَهَبَ سِيْبَوَيْه في قوْل الشاعِرِ:
صَدَدْت فأَطْولت الصُّدودَ وقَلَّما *** وِصالُ على طُولِ الصُّدودِ يَدُومُ
إلى أَن وِصالٌ يَرْتفِع بفِعْل مُضْمَر يَدُلُّ عليه يَدُومُ، حتى كأَنَّه قالَ: وقَلَّما يَدُوم وِصالٌ، فلمَّا أَضْمر يَدُوم فسَّره فيمَا بَعْدُ بقوْلِه يَدُومُ، فَجَرَى ذلِكَ في ارْتِفاعِه بالفِعْل المُضْمَر لا بالابْتِدَاء مجْرَى قوْلك: أَوِصالٌ يَدُومُ أَو هلَّا وِصالٌ يُدُومُ؟ وقالَ أَبو زَيْدٍ: قالَلْتُ له إذا قَلَّلْتُ عَطاءَهُ.
ويقالُ: سَيْفٌ مُقَلَّلٌ، كمُعَظَّمٍ: له قَبيعَةٌ؛ قالَ عَمْرُو بنُ هِميل الهُذَليُّ:
وكُنَّا إذا ما الحربُ ضُرِّس نابُها *** نُقَوِّمُها بالمَشْرَفيِّ المُقَلَّل
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
تَقَلَّل الشيءَ: رَآه قَلِيلًا. وفي الحدِيْث: «أَنَّه كان يُقِلُّ اللَّغْوَ» أَي لا يَلْغُو أَصْلًا فالقِلَّةُ للنَّفْي المَحْض.
وقوْلُهم: لم يترُك قَليلًا ولا كَثيرًا؛ قالَ أَبو عُبَيْد يَبْدَأُون بالأَدْوَن كقَوْلِهم القَمَران، والعُمَران، ورَبِيعة ومُضَر، وسُلَيم وعامِر، كما في الصِّحاحِ.
والقُلُّ مِن الرِّجال: الخَسيسُ الدَّنيءُ.
وقومٌ أقِلَّةٌ: خِسَاسٌ، وهو مجازٌ، وأَنْشَدَ بنُ بَرِّي للأَعْشَى:
فأَرْضَوْهُ إنْ أَعْطَوْه مِنِّي ظُلامَةً *** وما كُنْتُ قُلًّا قبلَ ذلك أَزْيَبا
وقَلَّلَه في عَيْنِه: أَرَاه قَلِيلًا؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}.
ويقالُ: فَعَل ذلِكَ مِن أَثْرَى وأَقَلَّ أَي مِن بَيْن الناسِ كُلّهم.
وقِلالَةُ الجَبَلِ، بالكسرِ: كقُلَّته؛ قالَ ابنُ أَحْمر:
ما أُمُّ غَفْرٍ في القِلالةِ لم *** يَمْسَسْ حَشاها قبله غَفْرُ
واسْتقَلَّت السَّماء: ارْتَفَعَتْ؛ نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
والاسْتِقلالُ: الاسْتِبْدادُ، ويقالُ: هو مُسْتقلٌّ بنفْسِهِ أَي ضَابِط أَمْرَه وهو لا يَسْتَقلُّ بهذا أَي لا يطيقُه.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: يقالُ ما كانَ مِن ذلك قَلِيلةٌ ولا كَثِيرةٌ، وما أَخَذْت منه قَلِيلةً ولا كَثِيرة بمعْنى لم آخُذ منه شيئًا، وإنَّما تَدْخل الهاءُ في النَّفْي.
وقَلَّ الشيءُ إذا عَلا، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.
وبَنُوقُلٍّ بالضمِ: بَطْنٌ.
وتَقَلْقَل في البِلادِ إذا تَقَلَّب فيها. وفي الحدِيْث: «خَرَجَ علينا عليّ وهو يَتَقَلْقَل» أي يخفُّ ويُسْرعُ؛ ويُرْوَى بالفاءِ، وقد تقدَّمَ.
وفَرَسٌ قُلْقُل وقُلاقِلٌ: جوادٌ سَريعٌ.
ونَفْسُه تَقَلْقَل في صدْرِه أَي تَتَحَرَّك بصَوْت شَدِيدٍ.
وتَقَلْقَل المِسْمارُ في مَكانِه إذا قَلِق.
والقُلْقُةُ، بالضمِ: ضَرْبٌ مِن الحَشَراتِ، كما في العُبَابِ.
ورجُلٌ طَويلُ القُلَّة أَي القَامَة.
وهو يَقلُّ عن كذا أَي يَصْغُرُ.
وقَلْقَلَ الحزنُ دَمْعَه، أَسَالَه، وهو مجازٌ.
والقُلَقيل مُصَغَّرًا: قطْعَةٌ مِن الطِّيْن.
وأبو سعْدٍ قُلْقُلُ بنُ عليِّ القزْوينيُّ، كهُدْهُدٍ، حدَّثَ بهَمَذان عن إسْمعيل الصفَّار. وكزبْرِجٍ، إبراهيمُ بنُ عليٍّ بنِ قِلْقِلٍ الفَقِيهُ الزُّبَيْديُّ، كان في صدْرِ المائَةِ السابعةِ ذَكَرَه الجنديّ في تاريخِ اليَمَنِ.
ومحل القلقل: غَرْبي زبيد.
وقَلَّين بالفتحِ وشَدِّ اللامِ المَكْسورَة: قَرْيةٌ بمِصْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
287-تاج العروس (كهبل)
[كهبل]: الكَنَهْبَلُ، وتُضَمُّ باؤُه، لُغَتان ذَكَرَهما الجَوْهَرِيُّ: ضَرْبٌ مِن الشَّجَرِ.وقِيلَ: شَجَرٌ عِظامٌ، وهو مِن العِضَاه، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، قالَ: ولا أَعْرِف في الأَسْماءِ مِثْله.
قالَ سِيْبَوَيْه: أَمَّا كَنَهْبُل فالنُّون فيه زائِدَةٌ لأَنَّه ليسَ في الكَلامِ على مِثالِ سَفَرْجُلٍ، فهذا بِمَنْزِلَةِ ما يُشْتَقُّ ممَّا ليسَ فيه نون، فكَنَهْبُل بمَنْزِلَةِ عَرَنْتُنٍ، بنَوْهُ بناءَه حينَ زادُوا النُّونَ، ولو كانَتْ مِن نَفْسِ الحَرْفِ لَمْ يَفْعلوا ذلِكَ؛ قالَ امرُؤُ القَيْسِ يصِفُ مطرًا وسَيْلًا:
فأَضْحَى يَسُحُّ الماءَ من كُلِّ فِيقةٍ *** يَكُبُّ على الأَذْقانِ دَوْحَ الكَنَهْبُلِ
وقالَ أَبو حَنيفَةَ: أَخْبرني أَعْرَابيٌّ مِن أَهْلِ السَّراة قالَ: الكَنَهْبَلُ صِنْف مِن الطَّلْحِ قِصَار الشَّوْك، وأَنْشَدَني لعليّ صليحة وصليحةُ امْرَأَةٌ كان يَهْواها ويقُولُ فيها فنُسِبَ إِليها كما قيلَ كُثَيِّر عزَّة:
لو أَنَّ ما بي يا صُلَيْح بفادر *** تَرْعى الكَنَهْبَل في ظلالِ عراعر
كالكَهْبَلِ، كجَعْفَرٍ، وهذا ممَّا يُؤَيِّدُ زِيادَة النّون.
والكَنَهْبُلُ: الشَّعيرُ الضَّخْمُ السُّنْبُلَةِ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، قالَ: وهي شَعِيرةٌ يمانِيَّةٌ حَمْراء السُّنْبُلةِ صَغِيرة الحَبِّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
288-تاج العروس (مقل)
[مقل]: المَقْلُ: النَّظَرُ؛ مَقَلَه بعيْنِه يَمْقُلُه مَقْلًا: نَظَرَ إليه؛ قالَ القطاميُّ:ولقد يَرُوعُ قُلوبَهُنَّ تَكَلُّمِي *** ويَرُوعُني مَقْلُ الصِّوارِ المُرْشق
ويقالُ: ما مَقَلَتْه عيْنِي منذُ اليوم.
وحَكَى اللّحْيانيُّ: ما مَقَلَتْ عيْنِي مِثْلَه مَقْلًا أي ما أَبْصَرَتْ ولا نَظَرَتْ، وهو فَعَلَتْ مِن المُقْلةِ.
والمَقْلُ: الغَمْسُ؛ مَقَلَه في الماءِ مَقْلًا: غَمَسَه وغَطَّه؛ ومنه حدِيْث الذُّبابِ: «فامْقُلوه»؛ قالَ أَبو عُبَيْدة: أَي فاغْمِسُوه في الطعامِ أَو الشَّرابِ.
والمَقْلُ: الغَوْصُ في الماءِ؛ وقد مَقَلَ فيه يَمْقُلُ مَقْلًا: غَاصَ.
والمَقْلُ: ضَرْبٌ من الرَّضاعِ.
قالَ الأزْهرِيُّ: وكأَنَّه مَقْلوبُ المَلْقِ.
والمَقْلُ: أَسْفَلُ البِئْرِ، يقالُ: نزحتُ الركيَّةَ حتى بلغتُ مَقْلَها.
والمَقْلُ: أَنْ يَخافَ الرَّجُلُ على الفَصِيلِ من شرْبِهِ اللَّبَنَ فَيَسْقِيَهُ في كَفِّه قليلًا قليلًا.
قالَ شَمِرٌ: قالَ بعضُهم لا يُعْرَف المَقْل الغَمْس، ولكنَّ المَقْلِ أَن يُمْقَل الفَصِيلُ الماءَ إذا آذَاهُ حَرُّ اللّبَنِ فيُوجَر الماءُ فيكونُ دواءً.
والرجُلُ يُمْرضُ فلا يَسْمع فيقالُ: امْقُلوه الماءَ واللّبَنَ أَو شيئًا مِن الدَّواءِ، فهذا المَقْل الصَّحِيح.
وقالَ أَبو عُبَيْد: إذا لم يَرْضَع الفَصِيلُ أُخِذ لسانُه ثم صُبَّ الماءُ في حَلْقِه، وهو المَقْل، ورُبَّما خَرَجَ على لسانِهِ قُروحٌ فلا يقْدِرُ على الرَّضاعِ حتى يُمْقَل.
والمُقْلُ، بالضم: الكُنْدُرُ الذي يَتَدَخَّنُ به اليَهودُ وحَبُّه يُجْعَل في الدَّواءِ، قالَهُ اللّيْثُ؛ وهو صَمْغُ شجرةٍ شائِكَةٍ كشَجَرِ اللبَان، ومنه هِنْدِيٌّ وعَرَبيٌّ وصِقِلِّيٌّ.
وقالَ أَبو حَنيفَةَ: هو الذي يُسَمَّى الكُور، أَحْمرُ طَيِّبُ الرَّائِحةِ؛ أَخْبَرني بعضُ أَصْحاب عُمَان أَنَّه لا يَعْلَمُه نَبَتَ شَجَرُة إلّا بجَبَلٍ مِن جِبالِ عُمَان يُدْعَى قَهْوَان مُطِلٌّ على البَحْرِ؛ والكُلُّ نافِعٌ للسُّعالِ ونَهْشِ الهَوامِّ والبَواسيرِ وتَنْقِيَةِ الرَّحِمِ وتَسْهيلِ الوِلادَةِ وإِنْزال المَشِيمَةِ وحَصاةِ الكُلْيَةِ والرياحِ الغليظةِ مُدِرٌّ باهِيٌّ مُسَمِّنٌ مُحَلِّلٌ للأَوْرامِ.
والمُقْلُ المَكِّيُّ: ثَمَرُ شَجَرِ الدَّوْمِ الشَّبِيه بالنَّخْلةِ في حَالاتِها يُنْضَجُ ويُؤْكَلُ خَشِنٌ قابِضٌ بارِدٌ مُقَوٍّ للمَعِدَةِ.
والمُقْلَةُ، بالضَّمِّ: شَحْمَةُ العَيْنِ التي تَجْمَعُ البياضَ والسَّوادَ، وفي بعضِ نسخِ الصِّحاحِ: تَجْمَعُ السَّوادَ والبياضَ، أَو هي السَّوادُ والبياضُ الذي يَدُورُ كلّه في العَيْنِ، أَو هي الحَدَقَةُ، عن كراعٍ: وقيلَ: هي العَينُ كلُّها، وإنَّما سُمِّيَت مُقْلَة لأَنَّها ترْمِي بالنَّظرَ. والمَقْلُ: الرَّمْيُ. والحَدَقَةُ: السَّوادُ دُوْن البياضِ.
قالَ ابنَ سِيْدَه: وأَعْرف ذلِكَ في الإنْسانِ، وقد يُسْتَعْمل في الناقَةِ، أَنْشَدَ ثَعْلَب:
من المُنْطِياتِ المَوْكِبَ المَعْجَ بعدَما *** يُرَى في فُرُوعِ المُقْلَتَيْنِ نُضُوبُ
الجمع: مُقَلٌ، كصُرَدٍ. ومِن سَجَعاتِ الأساسِ: فلانٌ كلَّما دَوَّر القَلَم نَوَّر المُقَل، وحلَّى العُقول وحَلَّ العُقَل.
والمَقْلَةُ، بالفتحِ: حَصاةُ القَسْمِ، بفتحِ القافِ وسكونِ السِّيْن، تُوضَعُ في الإناءِ؛ وفي الصِّحاحِ: التي تُلْقَى في الماءِ ليُعْرَف قدْرُ ما يُسْقَى كلُّ واحِدٍ منهم، وذلِكَ عندَ قلَّةِ الماءِ في المَفاوِزِ.
وفي المحْكَمِ: إذا عُدِمَ الماءُ في السَّفَرِ ثم يُصَبُّ عليه مِن الماءِ قدْرُ ما يَغْمُرُ الحَصاةَ فَيُعْطَى كُلٌّ منهم سَهْمَه، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ ليَزِيد بنِ طُعْمة الخَطْمِيّ؛ وفي العُبَابِ: الجعْفَيّ، قالَ: وقد وَجَدْته في شعْرِ الكُمَيْت وهو بَيْتٌ يَتِيمٌ:
قَذَفُوا سيِّدَهم في وَرْطةٍ *** قَذْفَك المَقْلةَ وسْطَ المُعْتَرَكْ
ومَقَلَها مَقْلًا: أَلْقاها في الإناءِ وصَبَّ عليها ما يغْمرُها مِن الماءِ.
وقوْلُه: هذا خَيْرٌ إلى آخِرِه، مَأْخوذٌ من حدِيْث عبدِ اللهِ بنِ مَسْعود، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه أَنَّه قالَ في مَسْح الحَصَا في الصَّلاة مَرَّةً: «وتَرْكُها خَيْرٌ من مائَةِ ناقَةٍ لمُقْلَةٍ»، بالضمِ.
قالَ أَبو عُبَيْد: أَي تَرْكُها خَيْرٌ من مائَةِ ناقَةٍ تَخْتارُها بعَيْنِكَ ونَظَرِكَ كما تُريدُ، قالَ: وقالَ الأَوزاعيّ: ولا يُريدُ أَنَّه يَقْتنيها؛ ويُرْوَى مِن حدِيْث ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ تعالَى: عنهما: «كلّها أَسْودُ المُقْلَةِ»؛ أَي كلُّ واحِدٍ منها أَسودُ العَيْن.
وتَماقَلَا إذا تَغاطَّا في الماءِ؛ ومنه حدِيْث عبد الرَّحْمن وعاصِم: «يَتَماقَلان في البَحْرِ»، ويُرْوَى: يَتمَاقَسان.
وامْتَقَلَ: غاصَ في الماءِ مِرارًا.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: قالَ أَبو دُوَاد: سَمِعْت أَبا العَزّاف يقولُ: سخِّن جَبِينك بالمُقْلةِ؛ شبَّه عَيْن الشمسِ بالمُقْلةِ.
ورجُلٌ مُقَلَةٌ، كهُمَزَةٍ: يكثرُ المَقْلَ.
ومَاقَلَه مَمَاقَلَةً: غامَسَهُ وانْغَمَس بالماءِ حتى جَاءَ بالمَقْلِ معه أَي بالحَصَا والتُّرابِ.
ومقلَةُ الرَّكيَّةِ: أَسْفَلُها.
وحَكَى ابنُ بَرِّي عن عليِّ بنِ حَمْزة: يقالُ في حَصاةِ القَسْم مَقْلة ومُقْلة، بالفتحِ والضمِ، شبِّهَتْ بمُقْلَةِ العَيْن لأنَّها في وسطِ بياضِ العَيْنِ، وأَنْشَدَ بَيْت الخَطْمِيّ هكذا؛ ومنه حدِيْث عليٍّ: «لم يَبْقَ منها إلَّا جُرْعة كجُرْعَةِ المَقْلَةِ»، هي حَصاةُ القَسْم، وهي بالضمِ واحدَةُ المُقْل الثّمَر المَعْروفُ، وهي لصِغَرِها لا تَسَعُ إلَّا الشَّيء اليَسِيْر من الماءِ.
ومَقَلَ الشيءَ في الشيءِ مَقْلًا: غَمَّه.
وفي حدِيث لُقْمان الحَكِيم؛ أَرَأَيْت الحَبَّة التي تكونُ في مَقْل البَحْر أَي في مَغاصِ البَحْر، أَرَادَ في موضِعِ المَغاصِ مِن البَحْرِ.
وأَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ هلالِ الوَزِير الكَاتِب يُعْرَفُ بابنِ مقْلَةَ مَشْهورٌ.
ومِن سَجَعاتِ الأساسِ: في خَطِّه خطّ لكلِّ مُقْلة كأَنَّه خَطُّ ابنِ مُقْلة؛ وتَرْجمتُه مُسْتوفَاة في تارِيخِ ابنِ خَلَّكان وغيرِه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
289-تاج العروس (نرجل)
[نرجل]: النارَجيلُ، بفتحِ الرَّاءِ: أَهْمَلَه الجوْهَرِيُّ.وهو جَوْزُ الهِنْدِ، واحِدَتُه بهاءٍ، وقد يُهْمَزُ، نَقَلَه اللَّيْثُ، قالَ: وعامَّةُ أَهْلِ اليمنِ لا يَهْمزُونَ.
وقالَ أَبو حَنيفَةَ: أَخْبَرني الخَبِير أَنَّ تَخْلَتَه طَويْلَةٌ مِثْل النَّخْلةِ سواء إلَّا أَنَّها لا تكونُ غَلْباء نَميدُ بِمُرْتَقيها حتى تُدْنِيَهُ من الأرضِ لِينًا، قالَ: ويكونُ في القِنْوِ الكريم منها ثَلاثونَ نارَجِيلَةً، انتهَى، ولها لبَنٌ يُسَمَّى الإطْراقَ قد ذُكِرَ في حَرْف القافِ، قالُوا: وخاصِيَّة الزَّنِجِ منها إسْهالُ الدِّيدانِ، والطَّرِيُّ باهِيٌّ جدًّا كيفَ اسْتُعْمِل خاصَّةً باللَّبَنِ، وهناك شيءٌ على هَيْئَةِ هذا النارَجِيل ينْبُتُ في الشّعوبِ والجَزائرِ في البَحْرِ يُعْرفُ بنارَجِيلِ البَحْرِ، ذُكِرَ له خواصٌّ كثيرَةٌ منها تَخْلِيص المَفْلُوج، وتَحْريكُ البَاء؛ وقد رأَيْت لبعضِ المتَأَخِّرين مِن الأطِبَّاء فيه تأْلِيفًا مُسْتقلًا، والمِثْقالُ منه بنصْفِ دِينار في مِصْرَ القاهِرَة، حَرَسَها اللهُ تعالَى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
290-تاج العروس (أشم)
[أَشم]: أَشِمَ بي على فُلانٍ، كَفَرِحَ: أَهْمَلَه الجوْهَرِيُّ وصاحِبُ اللِّسانِ.وفي المُحيطِ: أَي أَلَمَّ بي عليه، لُغَةٌ في أَزِمَ.
وأَشْمومُ بالضَّمِّ: قَرْيَتانِ بِمِصْرَ، يقالُ لإحْدَاهما أُشْموم طَناح، وهي قُرْبَ دِمْياط، وهي مَدِينَة الدَّقْهَليَّة، والأُخْرى: أُشْموم الجُرَيْسَات بالمنوفية.
* قلْتُ: مِن الأُوْلَى شهابُ الدِّيْن أَحْمدُ الأُشْموميُّ النَّحوِيُّ مَاتَ سَنَة بضْع وثَمَانمائة.
قالَ الحافِظُ: ونُسِبَ إليها من المُتَقَدِّمِيْن: الشموميُّ بِلا أَلِفٍ.
* ومِمَّا يُسْتدركُ عليه:
آشامُ، بالمدِّ، صقعٌ في آخِرِ بِلادِ الهِنْدِ بَيْنه وبينَ دهلي مسافَةُ ثَمَانِيَة أَشْهر تَقْريبًا أَسْلَموا في آخِرِ التسعمائة، رأَيْت منهم رَجُلًا بمكَّةَ وهو الذي أَخْبَرني والعهْدَة عليه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
291-تاج العروس (بطم)
[بطم]: البُطْمُ، بالضَّمِّ، وأَجَازَ ابنُ الأَعْرَابيِّ فيه التَّثْقِيل؛ أَي بضمَّتَيْنِ، الحَبَّةُ الخَضْراءُ عنْدَ أَهْلِ العالِيَةِ ومِثْلُه عن الأَصْمَعِيِّ، أَو شَجَرُها، كما قالَهُ أَبو حَنيفَةَ، قالَ: وما أَخْبَرَني أَحَدٌ أَنَّه يَنْبُتُ بأَرْضِ العَرَبِ إلَّا أَنَّهم زَعَمُوا أَنَّ الضِّرْوَ قَرِيْبُ الشَّبَهِ منه.قالَ الأَطبَّاءُ: ثَمَرُهُ مُسَخِّنٌ مُدِرُّ باهِيُّ نافِعٌ للسُّعالِ واللَّقْوَةِ والكُلْيَةِ وتَغْلِيفُ الشَّعَرِ بوَرَقِه الجافِّ المَنْخول يُنْبِتُه ويُحَسِّنُه.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
البُطَيْمَةُ، كجُهَيْنَةُ: بُقْعةٌ مَعْروفَةٌ، قالَ عَدِيُّ بنُ الرِّقاعِ:
وعُونٍ يُباكِرْنَ البُطَيْمَةَ مَوْقِعا *** حَزأْنَ فما يَشْرَبْنَ إلَّا النَّقائِعا
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
292-تاج العروس (زقم)
[زقم]: الزَّقْمُ: مِثْلُ اللَّقْمِ، قالَهُ أَبو عَمْرو. وزادَ غيرُه: الشَّديدُ.والتَّزَقُّمُ: التَّلَقُّمُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وأَزْقمهُ الشَّيءَ فازْدَقَمَهُ: أَي أَبْلَعَهُ فابْتَلَعَهُ؛ نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
والزَّقُّومُ، كتَنُّورٍ: الزُّبْدُ بالتَّمرِ، في لُغَة أَفْريقِيَةَ.
وفي الصِّحاحِ: اسمُ طَعامٍ لهم فيه زُبْدٌ وتَمْرٌ؛ والزَّقْمُ: أَكْلُه.
والزَّقُّومُ: شجرةٌ بَجَهنَّمَ، قالَ اللهُ تعالَى في صفَتِها {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
قالَ ابنُ سِيْدَه: وبَلَغَنا أَنَّه لمَّا أُنْزلَتْ آيَةُ الزَّقُّومِ لم يَعْرفْه قُرَيْش، فقالَ أَبو جَهْل: إنَّ هذا الشَّجَر ما ينبُتُ في بِلادِنا فمَنَ منكم يَعْرف الزَّقُّومَ؟ فقالَ رجُلٌ قَدِمَ عليهم مِن أفْريقِيَةَ: الزَّقُّومُ بلُغةِ أَفْريقِيَةَ: الزُّبْدُ بالتَّمرِ؛ فقالَ أَبو جَهْل: يا جارِيَة هاتِي لنا زُبْدًا وتَمْرًا نُزْدَقمُهْ، فجعَلُوا يأْكُلُون منه ويقُولونَ: أَفبهذا يخوِّفُنا محمدٌ في الآخِرَةِ؟ فبيَّن اللهُ تبارَكَ وتعالَى ذلِكَ في آيةٍ أُخْرى.
وفي رُؤُوسِ الشَّياطِيْن ثلاثَةُ أَوْجُهٍ محلُّها في التَّفاسيرِ. والزَّقُّومُ: نَباتٌ بالبادِيَةِ له زَهْرٌ ياسَمينيُّ الشَّكلِ.
وقالَ أَبو حنيفَةَ: أَخْبرني أَعْرابيُّ مِن أَزْدِ السَّراةِ قالَ: الزَّقُّومُ شجرةٌ غَبْراءُ صغيرَةُ الورقِ مُدَوَّرَتُها لا شوْكَ لها، ذَفِرَةٌ مُرَّةٌ، لها كَعابرُ في سُوقِها كثيرَةٌ، ولها وُرَيْدٌ ضَعيفٌ جِدًّا يَجْرُسُه النَّحْل، ونَوْرَتُها بَيضاءُ، ورأْسُ ورقِها قبيحٌ جدًّا.
والزَّقُّومُ: طَعامُ أَهْلِ النَّارِ، عن ابنِ سِيْدَه.
والزَّقُّومُ أَيْضًا: شجرةٌ بأَرِيحاءَ من الغَوْرِ، لها ثَمَرٌ كالتَّمرِ حُلْوٌ عَفِصٌ ولِنَواهُ دُهْنٌ عظيمُ المنافِعِ، عجيبُ الفعْلِ في تَحْليلِ الرِّياحِ البارِدَةِ وأَمْراضِ البَلْغَمِ وأَوْجاعِ المَفاصِلِ والنِقْرِسِ وعِرْقِ النَّسا والرِّيحِ اللَّاحِجَةِ في حُقِّ الوَرِكِ، يُشْرَبُ منه زِنَةُ سَبْعَةِ دراهِمَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَو خمسةَ أَيَّامٍ، ورُبَّما أَقامَ الزَّمْنَى والمُقْعَدينَ؛ ويقالُ: إِنَّ أَصْلَهُ الإهْليلَجُ الكابُلِيُّ نَقَلَتْهُ بَنُو أُمَيَّةَ مِن أَرضِ الهِنْدِ وزَرَعَتْهُ بأَريحاءَ، ولمَّا تَمَادَى الزَّمَنُ غَيَّرَتْهُ أَرضُ أَريحاءَ عن طَبْعِ الإهْليلَجِ.
والزَّقْمَةُ: الطَّاعونُ؛ عن ثَعْلَب.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
تَزَقَّمَ اللّقْمَةَ: ابْتَلَعَها.
والتَّزَقُّمُ: كثرَةُ شُرْبِ اللَّبَنِ؛ والاسمُ: الزَّقَمُ.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: تَزَقَّمَ فلانٌ اللبَنَ إذا أَفْرَطَ في شرْبِه.
وزقمَ تَزْقِيمًا: أَكلَ الزَّقُّومَ، كزقمَهُ زقمًا.
وقالَ ثَعْلب: الزَّقُّومُ: كلُّ طعامِ يَقْتلُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
293-تاج العروس (عظلم)
[عظلم]: العِظْلِمُ، كزِبْرِجٍ: اللَّيْلُ المُظْلِمُ على التَّشْبيهِ، قالَهُ الجوْهَرِيُّ.وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي:
وِلَيْل عِظْلِم عَرَّضْتُ نَفْسِي *** وِكُنْتُ مُشَيَّعًا رَحْبَ الذِّراعِ
وِالعِظْلِمُ: عُصارَةُ شَجَرٍ لَوْنُه كالنِّيلِ أَخْضر إِلى الكُدْرةِ، قَالَهُ الأَزْهَرِيُّ. أَو نَبْتٌ يُصْبَغُ به فارِسِيَّتُه نقل، كما في الصِّحاحِ.
وقالَ أَبو حنيفَةَ: العِظْلِمُ شُجَيْرَةٌ مِن الرِّبَّةِ تَنْبُتُ أَخيرًا وتَدُومُ خُضْرتُها.
وقالَ مُرَّةُ: أَخْبَرَني أَعْرابيٌّ مِن السَّراةِ قالَ: العِظْلِمَةُ شَجَرَةٌ ترْتَفِعُ على ساقٍ نحْو الذِّراعِ، ولها فُروعٌ في أَطْرافِها كنَوْرِ الكُزْبَرةِ، وهي شَجَرَةٌ غَبْراءُ.
أَو هو الوَسْمَةُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وقالَ أَبو حنيفَةَ: أَخْبرني بعضُ الأَعْرابِ أَنَّ العِظْلِمَ هو الوَسْمَةُ الذكَرُ.
وِتَعَظْلَمَ اللّيْلُ: أَظْلَمَ واسْوَدَّ جِدًّا؛ أَي صارَ كالعِظْلِمِ.
وِالعَظْلَمَةُ: الظُّلْمَةُ.
وِالعِظْلامُ، بالكسْرِ: القَتَرَةُ والغَبَرَةُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
العَظْلَمُ، كجَعْفَرٍ: لُغَةٌ في العِظْلِمِ، بالكسْرِ، نَقَلَه شيْخُنا وقالَ: هو الخَطْمِيُّ.
وقيلَ: صِبْغٌ أَحْمرُ.
وفي المَثَلِ: بَيْضاءُ لا يُدْجِي سَنَاها العِظْلِمُ؛ أَي لا يسوِّدُ بَياضَها العِظْلِمُ، يُضْرَبُ للمَشْهورِ لا يُخْفيه شيءٌ، كما في مَجْمَع الأَمْثال للمَيْدانيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
294-تاج العروس (تن تنن تنتن)
[تنن]: التِّنُّ، بالكسْرِ: المِثْلُ والقِرْنُ.وفي الصِّحاحِ: الحِتْنُ.
يقالُ: فلانٌ تِنٌّ فلانٍ، وهُما تِنَّان.
قالَ ابنُ السِّكِّيت: أَي هُما مُسْتَوِيان في عَقْلٍ أَو ضَعْف أَو شِدَّةٍ، أَو مُروءَةٍ. قالَ الأزْهرِيُّ: ويُقالُ صِبْوةٌ أَتنانٌ.
وقالَ ابنُ الأعْرابيّ: وهُما أَسْنانُ أَتْنانُ إذا كانَ سِنُّهما واحِدًا؛ كالتَّنينِ كأميرٍ. يقالُ: ما هُما تنينان بل تِنّينَان.
وأَتَنَّ اتْنانًا: بَعُدَ.
وأَتَنَّ المَرَضُ الصَّبيَّ: إذا قَصَعَهُ فلا يَشِبُّ؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
وقالَ أَبو زيْدٍ: إذا قَصَعَهُ فلا يَلْحق بأتْنانِه أَي أَتْرابِه.
وطَلْحَةُ بنُ إبراهيمَ بنِ تَنَّةَ البَصْرِيُّ، كجَنَّةٍ، محدِّثٌ.
والتِّنِّينُ، كسِكِّيتٍ: حَيَّةٌ عَظيمَةٌ يَزْعمونَ أَنَّ السَّحابَ يَحْملُها فيرْمِيها على يأْجوجَ ومَأْجوجَ فيَأْكلُونَها؛ كما في الأساسِ.
وقالَ اللَّيْثُ: هكذا.
وقالَ أَبو حَامِد الصُّوفيُّ: أَخْبَرني شيْخٌ مِن ثِقاتِ الغُزاةِ أَنَّه كانَ نازِلًا على سِيف بَحْرِ الشأمِ، فنَظَرَ هو وجماعَةُ العَسْكر إلى سَحابَةٍ انْقَسَمَتْ في البَحْرِ ثم ارْتَفَعَت، ونَظَرْنا إلى ذَنَبِ التِّنِّينِ يَضْطربُ في هَيْدب السَّحابَةِ، وهَبَّت بها الريحُ ونحنُ نَنْظر إليها إلى أَنْ غابَتْ عن أَبْصارِنا.
وقالَ اللَّيْثُ: التِّنِّينُ نَجْمٌ مِن نُجومِ السَّماءِ وليسَ بكَوْكَبٍ، ولكنَّه بَياضٌ خَفِيٌّ في السَّماءِ يكونُ جَسَدُه في سِتَّةِ بُروجٍ، وذَنَبُه في البُرْجِ السَّابِعِ دَقيقٌ أَسْوَدُ، فيه التِواءٌ وهو يَتَنَقَّلُ تَنَقُّلَ الكَواكِبِ الجَوارِي، وفارِسِيَّتُه في حسابِ النجومِ هُشْتُنْبُر، وهو مِن النُّحوسِ، ا ه، ما قالَهُ اللَّيْث.
ونَقَلَ الأزْهرِيُّ هكذا.
وقالَ غَيرُهُ: التِّنِّينُ كَواكِبُ على صُورَةِ التِّنِّين، منها العوَّاءُ والرّبع والذَّنَبان والثَّواني، هكذا ذَكَرَه العُلَماءُ بصُورِ الكَوكبِ.
وقَوْلُ الجوْهرِيِّ: موضِعٌ في السَّماءِ وَهَمٌ.
* قُلْتُ: لا وَهَم، فإنَّ قَوْل اللَّيْثِ المتقدِّمَ شاهِدٌ لكَلامِهِ، ثم إنَّ الجَوْهرِيَّ جَرَى على تَعارِيفِ العَرَبِ وأَهْل اللّغَةِ وَهُم مُصرِّحونَ بما قالَ، فتأمَّل.
والتِّنِّينُ: لَقَبُ أَبي إسْحاق إبراهيمَ بنِ المَهْدِيِّ بنِ المَنْصور أَميرِ المُؤمِنين، لُقِّبَ بذلِكَ لِسَمَنِهِ وسَوادِهِ، وكانَتْ أُمُّه شكلةً سَوْداءَ، وُلِدَ سَنَة 162، وتُوفي سَنَة 228 بسرَّ مَنْ رَأَى.
* قُلْتُ: وهو المُلَقَّبُ بالمُبارَكِ ويُعْرَفُ بابنِ شكْلَةَ، بُويعَ له بالخِلافَةِ في أَيَّامِ المَأْمون، ثم ظَفِرَ به وعَفَى عنه، وكان أَفْصَحَ بَني العبَّاس وأَجْودَهُمّ.
والتِّنِّينُ: سَيْفُ القَيْلِ شُرَحْبيلَ بنِ عَمْرٍو، على التَّشْبيهِ.
والتَّينانُ، بالكسْرِ: الذِّئبُ؛ قالَ الأخْطلُ:
يَعْتَقْنَه عند تِينانٍ يُدَمِّنُه *** بادِي العُواءِ ضَئيلُ الشَّخْصِ مُكتَسِبُ
وقيلَ: جاءَ الأخْطَل بحَرْفَيْن لم يَجِئ بهما غيرُهُ، وهُما التِّينانُ للذِّئْبِ والعَيْثُومُ أُنْثى الفِيَلةِ.
وأَيْضًا: مِثالُ الشَّيءِ.
ويقالُ: تانَّ بينهُمَا متانةً: إذا قايَسَ.
ويقالُ: تَنْتَنَ الرَّجُلُ: إذا تَرَكَ أصدقاءَهُ وصاحَبَ غيرَهُم؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
محمدُ بنُ أَحْمدَ بنِ الحُسَيْن بنِ التُّنيّ، بالضمِّ، مُحدِّثٌ، ماتَ سَنَة 590، ذَكَرَه ابنُ نقْطَةَ.
وأَبُو نَصْرٍ محمدُ بنُ عُمَرَ بنِ محمدٍ المَعْروفُ بابنِ تانَةَ الأصْبهانيُّ، ذَكَرَه ابنُ السَّمعانيُّ.
والتَّنُّ، بالكسْرِ والفتْحِ: الصَّبِيُّ الذي أَقْصَعَهُ المَرَضُ.
والتَّنُّ، بالكسْرِ: الشخْصُ؛ وأَيْضًا: المِثالُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
295-تاج العروس (كين)
[كين]: كانَ يَكِينُ كَيْنًا: خَضَعَ وذَلَّ.واكْتَانَ: حَزِنَ؛ قيلَ: هو افْتَعَلَ مِنَ الكَيْنِ، وقيلَ: مِن الكَوْنِ.
والكَيْنُ: لَحْمُ باطِنِ الفَرْجِ، والرَّكَبُ ظاهِرُه؛ قالَ جريرٌ:
غَمَزَ ابنُ مُرَّةَ يا فَرَزْدَقُ كَيْنُها *** غَمْز الطَّبِيبِ نَغانِغَ المَعْذُورِ
يعْنِي عِمْرانَ بن مُرَّةَ الفَزَارِيّ، وكانَ أَسَرَ جِعْثِنَ أُخْت الفَرَزْدقِ يَوْمَ السِّيدان.
أَو غُدَدٌ فيه كأَطْرافِ النَّوى.
وقالَ اللَّحْيانيُّ: الكَيْنُ البَظْرُ؛ وأَنْشَدَ:
يَكْوينَ أَطرافَ الأُيورِ بالكَيْنِ *** إذا وَجَدْنَ حَرَّةً تَنَزَّيْن
الجمع: كُيُونٌ.
ورَوَى ثَعْلَب عن ابنِ الأَعْرابيِّ: الكَيْنَةُ النَّبِقَةُ.
وأَيْضًا: الكَفالَةُ.
وأَيْضًا: بالكسْرِ، الشِّدَّةُ المُذِلَّةُ.
وأَيْضًا: الحالةُ، ومنه قوْلُهم: باتَ فُلانٌ بكَيْنَةِ سُوءٍ؛ أَي بحالَةِ سُوءٍ؛ ومنهم مَنْ ذَكَرَه في كون.
وكأيِّنْ ككَعَيِّنْ، وكائِنْ ككاعِنْ، لُغَتانِ بمَعْنَى كَمْ في الاسْتِفهامِ والخَبَرِ مُرَكَّبٌ من كافِ التَّشْبيهِ، وأيِّ المُنَوَّنَةِ، ولهذا جازَ الوَقْفُ عليها بالنُّونِ ورُسِمَ في المَصْحَفِ العُثْمانيِّ نُونًا وتُوَافِقُ كَمْ في خَمْسَةِ أُمُورٍ: في الإِبْهامِ والافْتِقارِ إلى التَّمْييزِ والبِناءِ ولُزومِ التَّصْدِيرِ وإفادَةِ التّكْثيرِ تارَةً والاسْتِفهامِ أُخْرى، وهو نادِرٌ.
وقالوا في كَمْ إنَّها على نَوْعَيْنِ: خَبَريَّة بمعنى كثير اسْتِفْهَامِيَّة بمَعْنَى: أيّ عَدَدٍ.
ويَشْترِكَانِ في خَمْسَةِ أُمُورٍ: الاسْتِفْهامُ والابْهَامُ والافْتِقارُ إلى التّمييزِ والبِناءِ ولُزومِ التّصْديرِ وإفادة التكثير.
قالَ أُبيُّ بنُ كَعْبٍ لابنِ مَسْعودٍ، هكذا في النُّسخِ والصَّوابُ لزر بنِ حُبَيْش: كائن تَقْرَأُ، ونَصّ الحدِيثِ: تَعُدُّ سورةَ الأَحْزابِ؛ أَي كم تَعُدُّها آيةً؛ قالَ: ثلاثًا وسبعين.
وتُخالِفُها في خَمْسَةِ أُمُورٍ:
1. أَنَّها مُرَكَّبَةٌ وكَمْ بَسِيطَةٌ على الصّحِيحِ.
2. أَنَّ مُمَيِّزَها مَجْرُورٌ بمِنْ غالِبًا حتى زَعَمَ ابنُ عْصُفورٍ لُزُومَه؛ ومنه قوْلُ ذي الرُّمَّة:
وكائِنْ ذَعَرْنا من مَهاةٍ ورامِحِ *** بلادُ العِدَا ليْسَتْ له ببِلادِ
3. أنَّها لا تَقَعُ اسْتِفْهامِيَّةً عنْدَ الجُمْهورِ.
4. أَنَّها لا تَقَعُ مَجْرُورَةً خِلافًا لمَنْ جَوَّزَ بكأَيِّنْ تَبِيعُ هذا.
5. أَنَّ خَبَرَها لا يَقَعُ مُفْرِدًا.
وقالوا في الفَرْقِ بينَ كَمِ الخَبَريَّة والاسْتِفْهامِيَّة أَيْضًا بخَمْسَةِ أُمُورٍ:
أَحدُها: أنَّ الكَلامَ مع الخَبَريَّةِ مُحْتَمل للتَّصْديقِ والتَّكْذيبِ بخِلافِه مع الاسْتِفْهاميَّةِ.
الثاني: أَنّ المُتَكلِّمَ مع الخَبَريَّةِ لا يَسْتَدْعِي جَوابًا بخِلافِ الاسْتِفْهاميَّةِ. الثالث: أَنَّ الاسمَ المُبْدلَ من الخَبَرِيَّةِ لا يَقْتَرِنُ بالهَمْزَةِ بِخِلافِ المُبْدَل مِنَ الاسْتِفْهامِيَّةِ.
الرابع: أَنَّ تَمْييزَ الخَبَريَّةِ مُفْردٌ ومَجْموعٌ، ولا يكونُ تَمْييزُ الاسْتِفْهاميَّة إلَّا مُفْردًا.
الخامسُ: أَنَّ تَمْييزَ الخَبَرِيَّةِ واجِبُ الخَفْضِ وتَمْييزَ الاسْتِفْهامِيَّةِ مَنْصوبٌ ولا يُجَرُّ خِلافًا لِبَعْضِهم.
وقالَ ابنُ بَرِّي: ظاهِرُ كَلامِ الجوْهرِيِّ أَنَّ كائِنَ عنْدَه مِثْلُ بائِع وسَائِر ونَحْو ذلِكَ ممَّا وَزْنه فاعِل، وذلِكَ غَلَطٌ، وإنَّما الأصْلُ فيها كأَيٍّ، الكافُ للتَّشْبيهِ دَخَلَتْ على أَيٍّ، ثم قُدِّمَتِ الياءُ المُشدَّدَةُ ثم خُفِّفَتْ فصارَ كَيْيءٍ ثم أُبْدِلَتِ الياءُ أَلِفًا فقالوا كاءٍ كما قالوا في طَيِّئٍ طاءٍ.
وقالَ الأزْهرِيُّ: أَخْبَرَني المُنْذري عن أَبي الهَيْثَمِ أَنَّه قالَ كأَيِّن بمعْنَى كَمْ، وكَمْ بمعْنَى الكَثْرَةِ، وتَعْمَلُ عَمَلَ رُبَّ في معْنَى القِلَّةِ، قالَ: وفي كأيِّن ثلاثُ لُغاتٍ: كأَيِّنْ بِوَزْن كَعَيِّنْ الأصْل أَيٌّ أُدْخِلَتْ عليها كافُ التّشْبيه.
وكائِنْ بوَزْن كاعِنْ.
واللّغَةُ الثالثة: كاينْ بوَزْن مايِنْ، لا هَمْز فيه؛ وأَنْشَدَ:
كايِنْ رَأَيْتُ وَهايا صَدْعِ أَعْظُمِه *** ورُبَّهُ عَطِبٌ أَنْقَذْتُ مِلْعَطَبِ
قالَ: ومن قالَ كَأْي لم يَمُدَّها ولم يحرِّكْ هَمْزَتَها التي هي أَوَّل أَيٍّ، فكأَنَّها لُغَةٌ، وكلُّها بمعْنَى كَمْ.
وقالَ الزَجَّاجُ: في كائِنْ لُغَتانِ جَيِّدتانِ يُقْرَأُ كَأَيٍّ بتَشْديدِ الياءِ، ويُقْرأُ وكائِنْ على وَزْنِ فاعِلٍ، قالَ: وأَكْثَرُ ما جاءَ في الشِّعْرِ على هذه اللّغَةِ، وقَرَأَ ابنُ كثيرٍ وكائِنُ بوَزْنِ كاعِنُ، وقَرَأَ سائِرُ القُرّاءِ {وَكَأَيِّنْ}، الهَمْزَةُ بينَ الكافِ والياءِ، قالَ: وفيها لُغاتٌ أَشْهَرُها كأَيٍّ بالتَّشْديدِ.
والمُكْتانُ: الكَفِيلُ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.
وقالَ أَبو سعيدٍ: يقالُ: أَكانَهُ اللهُ إكانَةً. خَضَّعَهُ وأَدْخَلَ عليه الذُّلَّ حتى اسْتَكَانَ؛ وأَنْشَدَ:
لعَمْرُك ما يَشْفي جِراحٌ تُكينُه *** ولكِنْ شِفائي أَن تَئِيمَ حَلائِلُهُ
واكْتانَ الرَّجُلُ: حَزِنَ وهو يُسِرُّهُ في جَوْفِه، اشْتُقَّ من الكَيْنِ لأنَّه في أَسْفَل مَوْضِعٍ وأَذَلِّه، كما في الأساسِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
296-تاج العروس (أمه)
[أمه]: أَمِهَ، كفَرِحَ، أَمْهًا: نَسِيَ، ومنه قِراءَةُ ابنِ عباسٍ: وادَّكَرَ بعد أَمَهٍ، وقالَ الشاعِرُ:أَمِهْتُ وكنتُ لا أَنْسَى حَدِيثًا *** كذاك الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ
قالَ الجوْهرِيُّ: وأَمَّا في حدِيثِ الزّهْري: أَمِهَ بمعْنَى أَقَرَّ واعْتَرَفَ، فهي لُغَةٌ غَيْرُ مَشْهورَةٍ.
* قُلْتُ: والحدِيثُ المَذْكُورُ: «من امْتُحِنَ في حَدِّ فأَمِهَ ثم تَبَرَّأَ فليْسَتْ عليه عُقُوبَة، فإن عُوقِبَ فأَمِهَ فليسَ عليه حَدٌّ إلَّا أَنْ يَأْمَه مِن غيرِ عُقُوبَةٍ».
قالَ أَبو عُبيدٍ: ولم أَسْمَعْ الأَمَهَ بمعْنَى الإِقْرارِ في غيرِ هذا الحدِيثِ. وفَسَّرَ أَبو عُبيدٍ قِراءَةَ ابن عبَّاسٍ بالإِقْرارِ، قالَ: ومَعْناهُ أَنْ يُعاقَبَ ليُقِرَّ فإِقْرارُه باطِلٌ.
وأَمَهَ، كنَصَرَ: عَهِدَ. يقالُ: أَمَهْتُ إِليه في أَمرٍ فأَمَهَ إِليَّ؛ أَي عَهِدْتُ إِليه فعَهِدَ إِليَّ؛ عن أَبي عُبَيدٍ.
والأمِيهَةُ، كسَفِينَةٍ: جُدَرِيُّ الغَنَمِ.
وفي الصِّحاحِ: بَئْرٌ يَخْرُجُ بالغَنَم كالحَصْبَةِ والجُدَرِيِّ؛ وقد أُمِهَتْ، كعُنِيَ تُومَهُ، وأَمِهَتْ مِثَالُ عَلِمَ؛ وعلى الأُولى اقْتَصَرَ الجوْهرِيُّ وجَماعَةٌ، أَمْهًا، بالفتْحِ عن ابنِ الأَعْرابيِّ، وأَمِيهَةً، كسَفِينَةٍ عن أَبي عُبيدَةَ.
وقالَ ابنُ سِيدَه: هو خَطَأٌ لأَنَّ الأمِيهَةَ اسمٌ لا مَصْدَرٌ إذ ليْسَتْ فَعِيلَة من أبْنِيَةِ المَصادِرِ. فهي أمِيهَةٌ ومَأْموهَةٌ ومُؤَمَّهَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ، وهذه عن الفرَّاءِ وأَنْشَدَ لرُؤْبَة:
تُمسي به الأُدْمان كالمؤمَّه
وعلى الأَولَيَيْن اقْتَصَرَ ابنُ سِيدَه، والجَوْهرِيِّ على الثانِيَةِ.
وقالَ الجوْهرِيُّ: يقالُ في الدّعاءِ: آهَةً وأَمِيهَةً؛ وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرابيِّ:
طَبِيخُ نُحازٍ أَو طَبِيخُ أَمِيهَةٍ *** دَقِيقُ العِظام سَيِّئُ القِشْمِ أَمْلَطُ
قالَ الأَزْهرِيُّ: الآهَةُ: التَّأْوُّهُ؛ والأَمِيهَةُ: الجُدَرِيُّ.
وقالَ ابنُ سِيدَه يقولُ: كانتْ أُمُّهُ حامِلَةً به وبها سُعالٌ أَو جُدَرِيُّ، فجاءَتْ به ضاوِيًا.
وقالَ الفرَّاءُ: أُمِهَ الرَّجُلُ، كعِنِيَ، فهو مَأْمُوهٌ، وهو الذي ليسَ معه عَقْلُه.
والأُمَّهَةُ، كقُبَّرَةٍ، لُغَةٌ في الأُمِّ، كما في المُحْكَم.
وفي الصحاح أَصْلُ قَوْلهم أُمُّ.
وقالَ أَبو بكْرٍ: الهاءُ في أُمَّهَة أَصْلِيَّة، وهي فُعَّلَة بمنْزِلَة تُرَّهَةٍ وأُبَّهَةٍ.
* قُلْتُ: فإِذًا قَوْل شيْخِنا إنَّهم أَجْمَعوا على زِيادَةِ هائِه فلا معْنًى لوُرودِه هنا ولا لدَعْوى أنه لُغَةٌ مَحلُّ نَظَر.
أَو هي لِمَنْ يَعْقِلُ؛ والأُمُّ لمَا لا يَعْقِلُ، والجَمْعُ أُمَّهاتٌ وأُمَّاتٌ؛ قالَ قُصَيٌّ:
أُمَّهَتي خِنْدِفُ والْياسُ أَبي
وقالَ زهيرٌ فيمَا لا يَعْقِل:
وإلَّا فأنا بالشَّرَيَّةِ فاللِّوَى *** نُعَقِّرُ أُمَّاتِ الرِّباعِ ونَيْسِرُ
وقد جاءَتْ الأُمَّهَةُ فيمَا لا يَعْقِل؛ كلُّ ذلِكَ عن ابنِ جنِّي.
وقالَ الأَزْهرِيُّ: يقالُ في جَمْعِ الأُمِّ مِن غيرِ الآدَمِيِّين أُمَّاتٌ، وأَمَّا بَناتُ آدَمَ فأُمَّهاتٌ. والقُرْآنُ نَزَلَ بأُمَّهاتٍ، وهو أَوْضَحُ دَلِيلٍ على أَنَّ الواحِدَةُ أُمَّهَةٌ.
قالَ: وزِيدَتِ الهاءُ في أُمَّهاتٍ لتكونَ فرْقًا بينَ بَناتِ آدَمَ وسائِرِ الحيوانِ، قالَ: وهذا القَوْلُ أَصحُّ القَوْلَيْن.
وتَأَمَّهَ أُمَّا: اتَّخَذَها، كأَنَّه مِن الأُمَّهَةِ.
قالَ ابنُ سِيدَه: وهذا يُقَوِّي كون الهاء أَصْلًا، لأَنَّ تَأَمَّهْتُ تَفَعَّلْتُ بمنْزِلَةِ تَفَوَّهْتُ وتَنَبَّهْتُ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الأَمَهُ، بالفتْحِ: النِّسيانُ؛ رُوِي ذلِكَ عن أَبي عبيدَةَ.
قالَ الأَزْهرِيُّ: وليسَ ذلكَ بصَحيحٍ.
قالَ: وكانَ أَبو الهَيْثم فيمَا أَخْبَرني عنه المُنْذرِي يقْرَأُ: بعد أَمَهٍ، قالَ: وهو خَطَأٌ.
وقالَ ابنُ بَرِّي: أُمَّهَةُ الشَّبابِ: كِبْرُه وتِيهُهُ.
* قُلْتُ: وكأَنَّ مَيمَه بدلٌ من باءِ أُبَّهَةٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
297-تاج العروس (سته)
[سته]: السَّتْهُ، بالفتْحِ عن ابنِ دُرَيْدٍ، وقالَ: هو الأصْلُ، ويُحَرَّكُ عن الجوْهرِيّ وقالَ: وهو الأصْلُ؛ الإِسْتُ، وهو مِن المَحْذوفِ المُجْتَلَبَةِ له أَلِفُ الوَصْلِ، الجمع: أَسْتاهٌ.قالَ الجوْهرِيُّ: وأَصْلُها سَتَهٌ على فَعَل، بالتّحْرِيكِ، يدلُّ على ذلِكَ أَنَّ جَمْعَه أَسْتاهٌ، مِثْلُ جَمَلٍ وأَجْمالٍ، ولا يَجوزُ أَنْ يكونَ مِثْلُ جِذْعٍ وقُفْلٍ اللذين يُجْمَعانِ أَيْضًا على أَفْعال، لأنَّك إِذا رَدَدْتَ الهاءَ التي هي لامُ الفِعْلِ وحَذَفْتَ العَيْن قُلْتَ سَهٌ، بالفتْحِ، انتَهَى؛ وقالَ عامِرَ بنُ عُقَيْلٍ السَّعْديُّ:
رِقابٌ كالمَواجِنِ خاظِياتٌ *** وأَسْتاهٌ على الأَكْوارِ كُومُ
والسَّهُ، ويُضَمُّ مُخَفَّفَةً: العَجُزُ أَو حَلْقَةُ الدُّبُرِ؛ ومنه الحدِيثُ: «إنَّما العَيْنُ وِكاءُ السَّهِ»؛ أَي إذا نامَ انْحلَّ وِكاؤُها، كنى بهذا اللَّفْظِ عن الحَدَثِ وخُرُوجِ الرِّيحِ، وهو مِن أَحْسَنِ الكِنايَاتِ وألْطَفِها؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ لأَوْس:
شَأَتْكَ قُعَيْنٌ غَثُّها وسَمِينُها *** وأَنْتَ السَّهُ السُّفْلَى إِذا دُعِيَتْ نَصْرُ
يقولُ: أَنْتَ فيهم بمنْزِلَةِ الاسْتِ من الناسِ.
والسَّتَهُ، محرّكةً: عِظَمُها.
والأَسْتَهُ والسُّتاهِيُّ، كغُرابيِّ: العَظِيمُها الكَبيرُ العَجُزِ، الجمع: ككُتُبٍ وسُتْهانٌ، كعُثْمانٍ.
وأَيْضًا: طالِبُها أَو المُلازِمُ لها، كالسَّتِهِ، ككَتِفٍ، كما قالوا: رجُلٌ حَرِحٌ لمُلازِمِ الأَحْراحِ؛ عن ابنِ بَرِّي. والسُّتْهُمُ، كزُرْقُمِ، والميمُ زائِدَةٌ وله نَظائِرُ مَرَّ بعضُها.
وسَتَهَهُ، كمَنَعَهُ، سَتْهًا: تَبِعَهُ من خَلْفِه لا يُفارِقُه لأَنَّه تَلا اسْتَه.
وأَيْضًا: ضَرَبَ اسْتَهُ.
والسُّتَيْهِيُّ؛ هكذا في النسخِ بضمِّ السِّيْن وفتْحِ التاءِ والصَّوابُ السَّيْتَهِيُّ كحَيْدَريِّ، كما هو نَصُّ الفرَّاءِ بخطِّ الصَّاغاني؛ مَنْ يَمْشِي آخِرَ القَوْم أَبدًا يَتخلَّفُ عنهم فيَنْظُر في أَسْتاهِهِم؛ نَقَلَهُ ابنُ بَرِّي؛ وأَنْشَدَ للعامِرِيَّة:
لقد رأَيتُ رجلًا دُهْرِيًّا *** يَمْشِي ورَاءَ القومِ سَيْتَهِيَّا
ومِن المجازِ: كانَ ذلكَ على اسْتِ الدَّهْرِ؛ أَي على وَجْهِهِ؛ كما في الأساسِ.
وقيلَ: على أَوَّلِه.
وقالَ أَبو عبيدَةَ: كانَ ذلكَ على اسْتِ الدَّهْرِ وأُسِ الدّهْرِ؛ أَي على قِدَمِ الدَّهْرِ؛ وأَنْشَدَ الإِيادِيُّ لأَبي نُخَيْلَة:
ما زالَ مجنونًا على اسْتِ الدَّهْرِ *** ذا حُمُقٍ يَنْمِي وعَقْل يَحْرِي
أَي لم يزلْ مَجْنونًا دَهْرَهُ كُلّه.
ويقالُ: ما زالَ فلانٌ على اسْتِ الدَّهْرِ مَجْنونًا؛ أَي لم يزلْ يُعْرفُ بالجُنُونِ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ عن أَبي زيْدٍ.
ومِن أَمْثالِهم.
يا بنَ اسْتِها.
قالَ الزَّمَخْشريُّ: كِنايَةٌ عن إِحْماضِ أَبيهِ أُمَّهُ.
وقالَ الأَزْهرِيُّ: قرأْتُ بخطِّ شَمِرٍ: العَرَبُ تسمِّي بَني الأَمَةِ بَني اسْتِها؛ قالَ وأَقْرَأَنا ابنُ الأعْرابيِّ للأَعْشى:
أَسَفَهًا أَوْعَدْتَ يا بنَ أَسْتِهَا *** لَسْتَ على الأعْداءِ بالقادِرِ
ويقالُ: يا بنَ اسْتِها، يريدُ اسْتَ أَمه يَعْني أَنَّه وُلِدَ مِن اسْتِها. ويقولونَ أَيْضًا: يا بنَ اسْتِها إِذا أَحْمَضَتْ حِمارَها.
ومِن أَمْثالِهِم: تَرَكْتُه باسْتِ الأرضِ؛ أَي عَديمًا فَقِيرًا لا شيءَ له.
ومِن أَمْثالِهم، ما رُوِي عن أَبي زيْدٍ: تقولُ العَرَبُ: ما لَكَ اسْتٌ مع اسْتِكَ، إِذا لم يكنْ له عَدَدٌ ولا ثَرْوةٌ من مالٍ ولا عُدَّة من رِجالٍ، فاسْتُه لا يُفارِقُه، وليسَ له مَعَها أُخْرى مِن رِجالٍ ومالٍ؛ نَقَلَه الصَّاغانيُّ عن أَبي زيْدٍ.
وفي الأَساسِ: أَي ما لَكَ عَوْنٌ.
ومِن أَمْثالِهم: لَقِيتُ منه اسْتَ الكَلْبَةِ؛ أَي ما كَرِهْتُه؛ كما في الأساسِ.
ويَقُولونَ: أَنْتُمْ أَضْيَقُ أَسْتاهًا من أَنْ تَفْعَلُوه؛ قالَ الزَّمَخْشريُّ: كِنايَةٌ عن العَجْزِ.
وقالَ غَيْرُهُ: يقالُ للرَّجُلِ يُسْتذلُّ ويُسْتَضْعفُ: اسْتُ أُمِّك أَضْيَقُ واسْتُكَ أَضْيَقُ من أَنْ تَفْعَلَ كذا وكذا.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
من لُغاتِ الاسْتِ: سَت، بلا هَمْزٍ في أَوَّلِه ولا هاءٍ في آخِرِه، ذَكَرَه أَبو حيَّان في شرْحِ التّسْهيلِ، وبه رُوِي الحدِيثُ أَيْضًا؛ قالَ ابنُ رُمَيْضٍ العَنْبرِيّ:
يَسِيلُ على الحاذَيْنِ والسَّتِ حَيْضُها *** كما صَبَّ فوقَ الرُّجْمَةِ الدَّمَ ناسِكُ
وقالَ ابنُ خَالَوَيْه: فيها ثلاثُ لُغاتٍ: سَهٌ وسَتٌ واسْتٌ.
وأَمَّا ما ذَكَرَه المصنِّفُ مِن ضَمِّ سِينِ السّه فغَرِيبٌ لم أَرَه لأَحدٍ.
ويقالُ للرَّجُلِ الذي يُسْتَذلُّ: أَنْتَ الاسْتُ السُّفَلى وأَنْتَ السَّهُ السُّفْلَى.
ويقالُ لأَزاذلِ الناسِ: هؤلاء الأَسْتاهِ، ولأَفاضِلِهم: هؤلاءِ الأعْيانُ والوُجُوهُ.
وإِذا نَسَبْتَ إِلى الاسْتِ قُلْتَ: سَتَهِيٌّ، بالتَّحْرِيكِ، واستِيٌّ بالكسْرِ، وسَتِهٌ ككَتِفٍ على النّسَبِ، كما في الصِّحاحِ.
وامْرأَةٌ سَتْهاءُ وسُتْهُمةٌ: عَظيمَةُ العَجْزِ.
وإِذا صَغَّرْتها رَدَدْتَها إلى الأصْلِ فقُلْتَ: سُتَيْهَةٌ.
ورجُلٌ مُسْتَهٌ، كمُكْرَمٍ: ضَخْمُ الأَلْيَتَيْنِ؛ ومنه حدِيثُ المُلاعَنَةِ: «إِنْ جاءَتْ به أَسته جَعْدًا».
قالَ الأزْهرِيُّ: ورأَيْت رجُلًا ضَخْم الأَرْدافِ كانَ يقالُ له: أَبو الأسْتاهِ.
ويقالُ: أُسْتِه فهو مُسْتَهٌ، كما يقالُ: أُسْمِنَ فهو مُسْمَنٌ.
ومِن الأمْثالِ في الاسْتِ: قالَ أَبو زَيْدٍ: يقالُ إِذا حدَّثَ الرَّجلُ الرَّجلَ فخلَّطَ فيه أَحادِيثَ الضَّبُع اسْتَها، وذلكَ أَنَّها تُمرّغُ في التُّرابِ ثم تُقْعِي فَتَتَغَنَّى بما لا يفْهَمُه أَحدٌ فذلكَ أَحادِيثها اسْتَها.
والعَرَبُ تَضَعُ الاسْتَ مَقامَ الأصْلِ فتَقُولُ: ما لَكَ في هذا الأمْرِ اسْتٌ ولا فَمٌ؛ أَي أَصْلٌ ولا فَرْعٌ؛ قالَ جريرٌ:
فما لَكُمُ اسْتٌ في العُلالا ولا فَمُ
ويَقولُونَ في علْمِ الرَّجُلِ بما يَلِيه غَيْره: اسْتُ البائِنِ أَعْلَمُ؛ والبائِنُ: الحالِبُ الذي لا يَلِي العُلْبة والذي يَلِي العُلْبة يقالُ له المُعَلِّي.
ويقالُ للقَوْمِ إِذا اسْتُذِلُّوا واسْتُضْعِفَ بهم: باسْتِ بَني فلانٍ؛ ومنه قَوْلُ الحُطَيْئة:
فبِاسْتِ بَني عَبْسٍ وأَسْتاهِ طيِّئٍ *** وباسْتِ بَني دُودَانَ حاشَى بَني نَصْرِ
نَقَلَه الجوْهرِيُّ؛ قالَ: وأَمَّا قَوْله: قيلَ هو الأَخْطَل، وقيلَ: عتبةُ بنُ الوغلِ في كعْبِ بنِ جُعَيْل:
وأَنتَ مكانُك من وائلٍ *** مَكانَ القُرادِ من اسْتِ الجَملْ
فهو مجازٌ لأَنَّهم لا يَقُولُونَ في الكَلامِ اسْتُ الجَمَلِ، وإِنَّما يَقولُونَ عجزُ الجَمَل.
وقالَ المُؤَرِّج: دَخَلَ رجُلٌ على سُلَيْمان بنِ عبْدِ الملِكِ وعلى رأسِه وَصِيفَةٌ رُوقَةٌ فأَحَدَّ النَّظَرَ إليها، فقالَ له سُلَيْمانُ: أَتُعْجِبُك؟ فقالَ: بارَكَ اللهُ لأَميرِ المُؤْمِنِين فيها؛ فقالَ: أَخْبرني بسَبْعَةِ أَمْثالٍ قِيلَتْ في الاسْتِ وهي لكَ، فقالَ الرجلُ: اسْتُ البائِنِ أَعْلَمُ، فقالَ: واحِدٌ، فقالَ: صَرَّ عليه الغَزْوُ اسْتَهُ، قالَ: اثْنان، قالَ: اسْتٌ لم تُعَوَّدِ المِجْمَر، قالَ: ثلاثَةٌ، قالَ: اسْتُ المَسْؤُولِ أَضْيَقُ، قالَ: أَرْبَعَةٌ، قالَ: الحُرُّ يُعْطِي والعَبْدُ تَألَمُ اسْتُهُ، قالَ: خَمْسَة، قالَ الرجلُ: اسْتِي أَخْبَثِيٌّ، قالَ: سِتَّة، قالَ: لا ماءَكِ أَبْقَيْتِ ولا هَنَكِ أَنْقَيْتِ، قالَ سُلَيْمانُ: ليسَ هذا في هذا، قالَ: بَلَى أَخَذْتُ الجارَ بالجارِ، قالَ: خُذْها لا بارَكَ اللهُ لك فيها!.
قَوْلُه: صَرَّ عليه الغَزْوُ اسْتَهُ لأنَّه لا يَقْدر أَنْ يُجامِعَ إذا غَزَا.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
298-تاج العروس (جلو)
[جلو]: وجَلَا القَوْمُ عن المَوْضِعِ، وفي الصِّحاحِ: عن أوطانِهم؛ زادَ ابنُ سِيدَه: ومنه جَلْوًا وجَلاءً وأَجْلَوْا: أَي تَفَرَّقُوا.وفي الصِّحاحِ: الجَلاءُ الخُروجُ من البَلَدِ، وقد جَلَوْا.
أَو جَلا مِن الخَوْفِ، وأَجْلَى من الجَدْبِ، هكذا فَرقَ أَبو زيْدٍ بينهما. ويقالُ: جَلاهُ الجَدْبُ يتعدَّى ولا يتعدَّى.
قالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: جَلاهُ عن وَطَنِه فَجَلا؛ أَي طَرَدَه فهَرَبَ. وأَجْلاهُ يتعدَّى ولا يتعدَّى، كِلاهُما بالأَلِفِ.
يقالُ: أَجْلَيت عن البَلَدِ وأَجْلَيْتهم أَنا وأَجلَوا عن القَتِيلِ، لا غَيْر، انْفَرَجُوا؛ كما في الصِّحاحِ.
ومن الثُّلاثي المُتَعدِّي حدِيثُ الحَوْض: «فيُجْلَوْن عنه؛ أَي يُنْفَوْن ويُطْرَدُونَ، هكذا رُوِي؛ والرِّوايَةُ الصَّحيحةُ بالحاءِ المُهْملَةِ والهَمْز.
ومن اللَّازِمِ قوْلُه تعالى: {وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ}، ومِن الرباعي المُتَعدِّي: قَوْلُهم: أَجْلاهُم السُّلْطانُ؛ أَي أَخْرَجَهم.
وقالَ الرّاغبُ: أَبْرَزَهُم فَجَلوْا وأَجْلَوْا.
ومِن كلامِ العَرَبِ: فإِمَّا حَرْبٌ مُجْلِيةٌ وإمَّا سِلْمٌ مُخْزِيَةٌ؛ أَي حَرْبٌ تُخْرجكم من دِيارِكُم أَو سِلْم تُخْزِيكم وتُذِلُّكم.
واجْتَلاهُ: كأَجْلاهُ.
وقالَ أَبو حنيفَةَ: جَلَا النَّحْلَ يَجْلُوها جَلاءَ: دَخَّنَ عليها ليَشْتار العَسَلَ، ومنه قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ يَصِفُ النحْلَ والعاسِلَ:
فلمَّا جَلَاها بالأُيامِ تَحَيَّرَتْ *** ثُباتٍ عليها ذُلُّها واكْتِآبُها
والأُيامُ: الدُّخانُ.
وجَلا الصَّيقلُ السَّيفَ والمِرْآةَ ونحوَهُما جَلْوًا، بالفتْح، وجِلاءَ، بالكسْرِ، صَقَلَهُما؛ واقْتَصَرَ الجوْهرِيُّ على السَّيْفِ وعلى المَصْدرِ الأَخيرِ.
ومِن المجازِ: جَلا الهَمَّ عنه جَلْوًا: أَذْهَبَهُ؛ نَقَلَه الجوْهرِيُّ ولم يَذْكُر المَصْدرَ.
ومِن المجازِ: جَلَا فُلانًا الأَمْرَ؛ أَي كَشَفَهُ عنه وأَظْهَرَه؛ ومنه جَلَا الله عنه المَرَضَ؛ كجَلَّاهُ، بالتَّشْديد؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {وَالنَّهارِ إِذا جَلّاها}.
قالَ الفرَّاءُ: إذا جَلَّى الظُّلْمةَ فجازَتِ الكِنايَةُ عن الظُّلْمَةِ ولم تذكر في أَوَّلِه لأَنَّ معْناها مَعْروف، أَلَا تَرى أَنَّك تقولُ: أَصْبَحتْ باردةً وأَمْسَتْ عَرِيَّةً وهَبَّتْ شمالًا؛ فكنّ مُؤَنَّثاتٍ لم يَجْرِ لهنَّ ذكْر لأنَّ معْناهنَّ مَعْروفٌ.
وقالَ الزجَّاجُ إذا بيَّنَ الشمسَ لأنَّها تبين إذا انْبَسَطَ.
وجَلَّى عنه وقَدِ انْجَلَى الهمّ والأَمْر وتَجَلَّى. يقالُ: انْجَلَتْ عنه الهُمُوم كما تَنْجلي الظُّلْمةُ.
وفي حديثِ الكُسوف: حتى تَجَلَّتِ الشَّمْسُ؛ أَي انْكَشَفَتْ وخَرَجَتْ من الكسوفِ.
وقالَ الرّاغبُ: التَّجَلِّي قد يكونُ بالَّذاتِ نَحْوَ: {وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى}؛ وقد يكونُ بالأَمْرِ والفِعْلِ نَحْو {فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}.
* قلت: قال الزجَّاجُ: أَي ظَهَرَ وبانَ، قالَ: وهذا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وقالَ الحَسَنُ: تَجَلَّى بالنُّورِ العَرْش.
وجَلَا بثَوْبِه جَلْوًا: رَمَى به؛ عن الزجَّاج.
وجَلَا: إذا عَلَا؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.
وجَلَا العَرُوسَ على بَعْلِها جَلْوَةً، ويُثَلَّثُ، واقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ على الكسْرِ، وجِلاءَ، ككِتابٍ، نَقَلَه الجوْهرِيُّ عن أَبي نَصْر، وكَذلِكَ اجْتَلَاها: أَي عَرَضَها عليه مَجْلُوَّةً، وقد جُلِيَتْ على زَوْجِها.
وفي الصِّحاحِ: جَلَوْتُ العَرُوسَ جِلاءً وجَلْوَةً واجْتَلَيْتُها: نَظَرْتُ إليها مَجْلُوَّةً.
وجَلَاها وجَلَّاها زَوْجُها وَصِيفةً أَو غيرَها: أَعْطاها إِيَّاها في ذلك الوَقْتِ؛ التّخْفيفُ عن الأصمعيّ.
وجِلْوَتُها، بالكسْرِ: ما أَعْطاها مِن غُرَّةٍ أَو دَراهِمَ؛ ومن التَّشْديدْ حَديثُ ابنِ سِيْرِين: كَرِهَ أَنْ يَجْلِيَ امْرَأَتَه شيئًا ثم لا يَفِيَ به.
ويقالُ: ما جِلْوَتُها؛ فيقالُ: كذا وكذا. واجْتَلاهُ: نَظَرَ إليه؛ ومنه اجْتِلاء الزَّوْج العَرُوس.
والجَلاءُ، كسَماءِ: الأَمْرُ الجَلِيُّ البَيِّنُ الواضِحُ؛ تقولُ منه: جَلَا لي الخَبرُ أَي وَضَح؛ هكذا ضَبَطَهُ الجوْهرِيُّ وأَنْشَدَ لزهيرٍ:
فإنَّ الحقَّ مَقْطَعُه ثَلاثٌ *** يَمِينٌ أَو نِفارٌ أَو جَلاءُ
قالَ يُريدُ الإقْرارَ.
* قُلْتُ: وضَبَطَه الأزْهريُّ بكسْرِ الجيمِ، وأَرادَ به البَيِّنةَ والشُّهودَ من المُجالاةِ، وقد تقدَّمَ بيانُه في قطع.
ومِن المجازِ: أَقَمْتُ عنْدَه جَلاءَ يَوْمٍ؛ أَي بياضَه؛ عن الزجَّاجِ؛ قالَ الشاعِرُ:
ما ليَ إنْ أَقْصَيْتَنِي من مَقْعدِ *** ولا بهَذِي الأرْضِ من تَجَلُّدِ
إلَّا جَلاءَ اليومِ أَو ضُحَى غَدِ
والجِلاءُ، بالكسْرِ: الكُحْلُ، وكتابَتُه بالألِفِ عن ابنِ السِّكِّيت. وفي حدِيثِ أُمِّ سَلمة: «أَنَّها كَرِهَتْ للمُعِدِّ أَنْ تَكْتَحِلَ بالجِلاءِ»، هو الإثْمدُ.
أَو كُحْلٌ خاصٌّ يَجْلُو البَصَرَ؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ لبعضِ الهُذَلِيِّين، هو أَبو المُثَلِّم:
وأَكْحُلْكَ بالصابِ أَو بالجَلاء *** ففَتِّحْ لذلك أَو غَمِّض
وجَلَّى ببَصَرِهِ تَجْلِيةً: إذا رَمَى به كما يَنْظُرُ الصَّقْر إلى الصَّيْدِ؛ قالَ لبيدٌ:
فانْتَضَلْنا وابن سَلْمَى قاعِدٌ *** كعَتِيقِ الطيرِ يُغْضِي ويُجَلّ
أَي ويُجَلِّي.
وجَلَّى البازِيُّ تَجْلِيَةً وتَجَلِّيًا بتشديد الياء: رَفَعَ رأْسَه ثم نَظَرَ وذلكَ إذا آنسَ الصَّيْدَ؛ قالَ ذو الرُّمَّة:
نَظَرْتُ كما جَلَّى على رأْسِ رَهْوَةٍ *** من الطيرِ أَقْنَى ينفُضُ الطَّلَّ أَوْرَقُ
وقالَ ابنُ حَمْزة: التَّجلِّي في الصَّقْر أَنْ يُغْمِض عَيْنَه ثم يَفْتَحها ليكونَ أَبْصَر له، فالتَّجلِّي هو النَّظَر؛ وأَنْشَدَ لرُؤْبَة:
جَلَّى بصيرُ العَيْنِ لم يُكَلِّلِ *** فانقَضَّ يَهْوي من بَعيدِ المَخْتَلِ
قالَ ابنُ بَرِّي: ويقَوِّي قَوْلَ ابنِ حَمْزة بيتُ لبيدٍ المُتَقدِّم.
والجَلا، بالفتْحِ مَقْصُورَةً: انْحِسارُ مُقَدَّمِ الشَّعَرِ؛ كتابَتُه بالأَلفِ مِثْل الجَلَه؛ أَو هو أَنْ يَبْلغَ انْحِسارُ الشَّعَرِ نِصْفَ الرَّأْسِ، أَو هو دُونَ الصَّلَعِ؛ وقد جَلِيَ، كرَضِيَ، جَلَا، والنَّعْتُ أَجْلَى وجَلْواءُ. وفي صفَتِه صلى الله عليه وسلم: «أَنَّه أَجْلَى الجَبْهةِ؛ وقد جاءَ ذلِكَ في صفَةِ الدجَّالِ أيْضًا.
وقالَ أَبو عبيدٍ: إذا انْحَسَرَ الشَّعَرُ عن نصفِ الرأْسِ ونحوِهِ فهو أَجْلَى، وأَنْشَدَ:
مع الجَلا ولائِحِ القَتِيرِ
وجَبْهَةٌ جَلْواءُ واسِعَةٌ.
وسَماءٌ جَلْواءُ: مُصْحِيَةٌ، كجَهْواء؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن الكِسائي. وكَذلِكَ لَيْلَةٌ جَلْواءُ إذا كانتْ مُصْحِيَةٌ مُضِيئَةٌ.
وقيل: الأَجْلَى الحَسَنُ الوجهِ الأنْزعُ.
ومِن المجازِ: ابنُ جَلَا الوَاضِحُ الأَمْرِ؛ قالَ سُحَيْم بنُ وَثِيل الرّياحِي:
أَنا ابنُ جَلا وطَلَّاعُ الثَّنايا *** مَتى أَضَعُ العِمامَةَ تَعْرِفُوني
وقدِ اسْتَشْهَدَ الحجَّاجُ بقوْلِه هذا وأَرادَ: أَي أَنا الظاهِرُ الذي لا أَخْفى وكلُّ أَحدٍ يَعْرِفُني. يقالُ ذلكَ للرَّجُلِ إذا كانَ على الشرف بمكانٍ لا يَخْفى؛ ومِثْلُه قَوْلُ القُلاخ:
أَنا القُلاخُ بنُ جَنابِ بنِ جَلا *** أَخو خَناسِيرَ أَقُودُ الجَمَلا
وقالَ سِيْبَوَيْه: جَلا فِعْل ماضٍ، كأنَّه بمعْنَى جَلا الأُمورَ أَي أَوْضَحَها وكَشَفَها.
وفي الصِّحاحِ: قالَ عيسَى بنُ عُمَر إذا سُمِّي الرجلُ بقَتَلَ أَو ضَرَبَ ونحوِهِما لا يُصْرَف واسْتَدَلّ بهذا البيتِ.
وقالَ غيرُهُ: يَحْتَمِل هذا البيت وَجْهًا آخَرَ، وهو أنّه لم يُنوِّنه لأنَّه أَرادَ الحِكايَةَ، كأنَّه قالَ: أَنا ابنُ الذي يقالُ له جَلا الأُمور وكَشَفَها فلذلِكَ لم يَصْرِفْه.
وقالَ ابنُ بَرِّي: قوْلُه لم يُنوِّنْه لأنَّه فِعْلٌ وفاعِلٌ.
كابنِ أَجْلَى؛ ومنه قوْلُ العجَّاج:
لاقَوْا بهِ الحجاجَ والإِصْحارَا *** به ابن أَجْلَى وافَقَ الإسْفارَا
به أَي بذلك المَكانِ، وقوْلُه الإصْحارَ: أَي وَجَدُوه مُصْحِرًا. ووَجَدُوا به ابنَ أَجْلَى كما تقولُ: لَقِيْت به الأسَدَ.
وابنُ جَلا: رجُلٌ معروف مَعْروفٌ من بَني لَيْث كان صاحِبَ فتْكٍ يَطْلعُ في الغاراتِ مِن ثَنِيَّةِ الجَبَلِ على أَهْلِها، سُمِّي بذلِكَ لوُضُوح أَمْرِه.
وأَجْلَى يَعْدُو: أَي أَسْرَعَ بعضَ الإِسْراعِ.
وأَجْلَى: موضع بينَ فلجة ومَطْلعِ الشمسِ فيه هُضَيْباتٌ حُمْر وهي تُنْبِتُ النّصِيَّ والصِّلِّيانَ، والصَّوابُ فيه أَجَلَى، كجَمَزَى بالتحريكِ، وقد تقدَّمَ له في اجل، وهناك مَوْضِعه وتقَدَّمَ الشاهِدُ فيه.
وجَلْوَى، كسَكْرَى: قرية.
وجَلْوَى: أَفْراسٌ، منها: فَرَسُ خُفاف بنِ نُدْبة؛ قالَ:
وقَفْتُ لها جَلْوَى وقد قامَ صُحْبتي *** لأَبْنِيَ مَجْدًا أَو لأَثْأَرَ هالِكا
وأَيْضًا فَرَسُ قِرْواشِ بنِ عَوْفٍ وهي الكُبْرى، قالَهُ الأصْمعيُّ.
وأَيْضًا فَرَسٌ لبَني عامِرِ بنِ الحارِثِ.
وقالَ ابنُ الكَلْبي في أَنسابِ الخليلِ: جَلْوَى فَرَسٌ كانتْ لبَني ثَعْلَبة بن يَرْبُوع، وهو ابنُ ذي العِقال، قالَ: وله حدِيثٌ طويلٌ في حرْبِ غَطَفان.
وأَيْضًا فَرَسُ عبْدِ الرحمنِ بنِ صَفْوان بنِ قدامَةَ، وقتيبَةَ ابنِ مُسْلم وهي الصُّغْرى، والصّراع بنِ قَيْسِ بنِ عدِيِّ.
والجَلِيُّ، كغَنِيِّ: الواضِحُ من الأُمورِ، وهو ضِدُّ الخَفِيِّ. ويقالُ: خَبَرٌ جَلِيٌّ، وقياسٌ جَلِيٌّ؛ ولم يُسْمَع فيه جالٍ، قالَهُ الرّاغبُ.
ويقالُ: فَعَلْتُه من أَجْلاكَ، بالفتْحِ ويُكْسَرُ: أَي من أَجْلِكَ.
والجالِيَةُ: الذين جَلَوْا عن أَوْطانِهم: يقالُ: فلانٌ اسْتُعْمِل على الجالِيَة؛ أَي على جِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ كما في الصِّحاحِ.
وإنَّما سُمّوا بذلِكَ لأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، رِضَي الله تعالى عنه، أَجْلاهُمْ عن جَزِيرَةِ العَرَبِ لمَا تقدَّمَ مِن أَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيهم فسُمُّوا جالِيَةً ولَزِمَهم هذا الاسمُ أَيْنَ حَلُّوا، ثم لَزِمَ كلّ مَنْ لَزِمَتْه الجِزْيَةُ من أَهْلِ الكِتابِ بكلِّ بلَدٍ وإن لم يُجْلَوْا عن أَوْطانِهم.
ويقالُ: ما جِلاؤُهُ، بالكسْرِ: أَي بماذا يُخاطَبُ مِن الأسْماءِ والألْقابِ الحَسَنةِ فيعظُم به.
واجْلَوْلَى: خَرَجَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.
ومحمدُ بنُ الحَسَنِ بنِ جَلْوانَ الخليليُّ البُخارِيُّ عن صالحِ جَزَرَةَ؛ ضَبَطَه الحافِظُ بالكسْرِ.
وجَلْوانُ بنُ سَمُرَةَ بنِ مَاهان بنِ خاقانِ بنِ عُمَر بنِ عبْدِ العَزيزِ بنِ مَرْوان الأُمويُّ البُخارِيُّ الرحَّالُ سَمِعَ أَبا بكْرِ ابنِ المُقْرِئ، وعنه ابْنُه جعيد؛ ويُكْسَرُ ضَبَطَه الحافِظُ بالفتْحِ، وفي الأوَّل بالكسْرِ؛ وكذا الصَّاغانيُّ.
وظاهِرُ سِياقِ المصنِّفِ يَقْتضِي أَنَّ الكسْرَ في الثاني، فلو قالَ محمدُ بنُ جَلْوانَ ويُكْسَر وجِلْوان بنُ سَمُرَة، مُحدِّثانِ لأصابَ المحزَّ.
وابنُ الجَلَّا، مُشَدَّدَةً مَقْصورَةً: مِن كبارِ الصُّوفيةُ، هو أَبو عبدِ اللهِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى بنِ الجَلَّا البَغْداديُّ نَزَلَ الشامَ وسَكَنَ الرَّمْلة وصَحِبَ ذا النّونِ المِصْري وأَبا تُرابٍ النَّخْشبيّ، تُوفي سَنَة 306.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الجَالَةُ: مثْلُ الجالِيَةِ، نَقَلَه الجوْهرِيُّ.
واجْتَلى النَّحْل اجْتِلاءً مثْلُ جَلَاها، وبه يُرْوَى قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ السابق:
فلمَّا اجْتَلاها بالأُيامِ تَحَيَّرَتْ
وجَلْوَةُ النَّحْل: طَرْدُها بالدُّخانِ.
وجَلا: إذا اكْتَحَل؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.
وجَلا له الخَبَرُ: وَضُحَ.
والجِلاءُ، بالكسْرِ: الإقْرارُ؛ وبه رُوِي قَوْلُ زُهيرٍ السابق.
والجَلِيَّةُ الخَبَرُ اليَقِين. يقالُ: أَخْبرني عن جَلِيَّةِ الأمْرِ أَي عن حقِيقَتِه؛ قالَ النابغَةُ:
وآبَ مُضِلُّوه بغيرِ جَلِيَّةٍ *** وغُودِرَ بالجَوْلانِ جَرْمٌ ونائِلُ
أَي جاءَ دافِنُوه بخَبرِ ما عايَنُوه.
وقالَ ابنُ بَرِّي: الجليَّةُ البَصيرَةُ، يقالُ عينٌ جَلِيَّةٌ؛ قالَ أَبو دُوَاد:
بَلْ تَأَمَّلْ وأَنتَ أَبْصَرُ منِّي *** قَصْدَ دَيْرِ السَّوادِ عَيْنٌ جَلِيَّةْ
وهو يُجَلِّي عن نفْسِه: أَي يُعَبِّر عن ضَمِيرِه.
والجِلِّيان، كصِلِّيان: الإظْهارُ والكَشْفُ.
واجْتَلى السَّيْف لنَفْسِه؛ ومنه قَوْلُ لبيدٍ:
تَجْتَلِي نُقَبَ النِّصالِ
ويَجوزُ في الكُحْلِ الجَلَا والجِلَا، بالفتْحِ والكسْر مَقْصورًا، فالفتْحُ والقَصْر عن النحَّاس وابنِ وَلَّاد وبهما رَوَيا قَوْلَ الهُذَليّ السابق، وضَبَطَه المُهلّبيُّ كسَحابٍ وبه رَوَى البَيْتَ المَذْكُورَ.
وجَلَتِ المَاشِطَةُ العَرُوسَ: زَيَّنَتْها.
وجَلَا الجَبينَ يَجْلَى جَلًا: لُغَةٌ في جَلِيَ، كرَضِيَ؛ عن أَبي عبيدٍ.
والمَجالِي: ما يُرَى من الرأْسِ إذا اسْتَقْبَلْت الوَجْه؛ قالَ أَبو محمدٍ الفَقْعسيُّ، واسْمُه عبدُ اللهِ بنُ رِبْعيّ:
قالتْ سُلَيْمى إنني لا أَبْغِيهْ *** أَراهُ شيْخًا ذَرِئَتْ مَجالِيهْ
يُقْلي الغَواني والغَوانِي تَقْلِيهْ
قالَ الفرَّاءُ: الواحِدُ مَجْليٌّ واشْتِقاقُه من الجَلا، وهو ابْتِداءُ الصَّلَعِ إذا ذَهَبَ شَعَرُ رأْسِه إلى نصْفِه.
وقالَ الأصْمعيُّ: جالَيْتُه بالأَمْرِ وجالَحْتُه إذا جاهرْته، وأَنْشَدَ:
مُجالحَة ليس المُجالاة كالدَّمَسْ
وتَجَالَيْنا: انْكَشَفَ حالُ كلِّ واحِدٍ منَّا لصاحِبِه.
واجْتَلَيْتُ العِمَامَةَ عن رأْسِي: إذا رَفْعَتها مع طَيِّها عن جَبِينك؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
وابنُ أَجْلَى: الأَسَدُ، وأَيْضًا الصُّبْح، وبه فُسِّرَ قَوْلُ العجَّاجِ.
وأَجْلَى عنه الهَمَّ: إذا فَرَّجَ عنه؛ نَقَلَه الليْثُ.
وجُلَيُّ، كسُمِيِّ: ابنُ أَحْمس بنِ ضبيعَةَ بنِ نزارٍ، بَطْنٌ مِن العَرَبِ مِن ولدِهِ جماعَةُ عُلماء شُعَراء؛ قالَ المُتَلَمس:
يكونُ نَذِيرٌ من وَرَائِي جُنَّةٌ *** ويَنْصُرُني منْهُمْ جُلَيِّ وأَحْمَسُ
والتَّجَلِّي عنْدَ الصُّوفيةِ ما يَنْكَشفُ للقُلوبِ مِن أَنْوارِ الغيوبِ وهو ذاتيٌّ وصفاتي، ولهم في ذلك تَفاصِيلُ ليسَ محلّها هنا.
والجاليةُ: قَرْيَةٌ بالدقهلية بالقُرْبِ مِن المَنْصورَةِ، ومنها الشيخُ شَهابُ الدِّيْن أَحمدُ بنِ محمدٍ الجاليُّ الشافِعِيُّ المُدرِّسُ بالجامِعِ الكبيرِ بالمَنْصورَةِ، وهو مِن أَقْرانِ مَشايخِنا.
وجُوَيْليُّ، مُصَغّرًا: اسمٌ.
وجِلاوَةُ، بالكسْرِ: قَبيلَةٌ، منهم: أَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ عبدِ الصَّمدِ المالِكِيُّ الجِلاوِيُّ أَحَدُ الفُضَلاءِ بمِصْرَ، ماتَ سَنَة 782؛ ضَبَطَه الحافِظُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
299-تاج العروس (رأي)
[رأي]: ي الرُّؤيَةُ، بالضَّمِّ: إدْراكُ المَرْئي، وذلكَ أَضْرُب بحَسَبِ قُوَى النَّفْس: الأوَّل: النَّظَرُ بالعَيْنِ التي هي الحاسَّة وما يَجْرِي مجْراها، ومِن الأخيرِ قوْلُه تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}، فإنَّه ممَّا أُجْرِي مجْرَى الرُّؤْيَة بالحاسَّةِ، فإنَّ الحاسَّةَ لا تَصحُّ على اللهِ تعالى، وعلى ذلكَ قَوْله: {يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}.والثَّاني: بالوَهْمِ والتَّخَيّل نَحْو: أَرَى أَنَّ زيْدًا مُنْطَلقٌ.
والثَّالث: بالتّفَكّر نحو: {إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ}.
والرَّابع: بالقَلْبِ؛ أَي بالعَقْل، وعلى ذلك قوْلُه تعالى: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}، وعلى ذلكَ قوْلُه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}.
قالَ الجوهريُّ: الرُّؤيَةُ بالعَيْنِ يتعدَّى إلى مَفْعولٍ واحدٍ، وبمعْنَى العِلْم يتعدَّى إلى مَفْعولَيْن، يقالُ: رأَى زيْدًا عالِمًا.
وقالَ الرَّاغبُ: رأَى إذا عدَّي إلى مَفْعولَيْن اقْتَضَى معْنَى العِلْم، وإذا عدَّي بإلى اقْتَضَى معْنَى النَّظَرِ المُؤدَّي إلى الاعْتِبار.
وقَدْ رأَيْتُه أَراهُ رُؤيَةً، بالضَّمِّ، ورَأْيًا وراءَةً مِثَالُ رَاعَةٍ؛ وعلى هذه الثَّلاثةِ اقْتَصَرَ الجَوهريُّ.
ورَأْيَةً؛ قالَ ابنُ سِيدَه: وليسَتِ الهاءُ فيها للمرَّة الواحِدَةِ إنّما هو مَصْدَرٌ كرُؤيَةٍ إلَّا أَنْ تُريدَ المرَّةَ الواحِدَةَ فيكونُ رأَيْتُه رَأْيةً كضَرَبْتُه ضَرْبةً، وأمَّا إن لم تُرِدْ فرَأْيَة كرُؤية وليسَتِ الهاءُ للواحِدِ.
ورُؤيانًا، بالضَّمِّ، هكذا هو في النسخ.
والذي في المُحْكَم: ورَأَيْتُه رِئْيانًا: كرُؤيَةِ، هذه عن اللحْيانيّ وضَبَطَه بالكسْرةِ فانْظُرْه.
وارْتَأَيْتُه واسْتَرْأَيْتُه: كرَأَيْته أَعْنِي مِن رُؤيَةِ العَيْنِ.
وقالَ الكِسائيُّ: اجْتَمَعَتِ العَرَبُ على هَمْز ما كانَ مِن رَأَيْت واسْتَرْأَيْت وارْتَأَيْت في رُؤْيَةِ العَيْنِ، وبعضُهم يَتْرك الهَمْز وهو قلِيلٌ، والكلَامُ العالي الهَمْزُ، فإذا جئْتَ إلى الأَفْعال المُسْتَقْبَلةِ أَجْمَعَ مَنْ يَهْمُز ومَنْ لا على تَرْك الهَمْز، قالَ: وبه نَزَلَ القُرْآن نحو قَوْلِهِ تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى}؛ {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ}؛ {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ إلَّا تَيمَ الرّبابِ فإنَّهم يَهْمزُون مع حُرُوفِ المُضارعَةِ وهو الأصْل.
وحكَى ابنُ الأعرابيِّ: الحمدُ للهِ على رِيَّتكَ، كَنِيَّتِكَ؛ أَي رُؤيَتِكَ. قال ابنُ سِيدَه: وفيه صَنْعَةٌ وحَقِيقَتُها أنَّه أَرادَ رُؤيَتَك فأَبْدَلَ الهَمْزةَ واوًا إبدالًا صَحِيحًا فقالَ: رُوَيتِك، ثم أَدْغَمَ لأنَّ هذه الواوَ قد صارَتْ حرفَ علَّةٍ بما سُلِّط عليها مِن البَدَل فقالَ: رُيَّتِك ثم كَسَرَ الرَّاءَ لمجاوَرَةِ الياءِ فقال رِيَّتكَ.
والرَّآءُ، كشَدَّادٍ: الكثيرُ الرُّؤيَةِ؛ قالَ غَيْلانُ الربَعِيّ:
كأَنَّها وقد رَآها الرَّاءُ
والرُّؤيُّ، كصُلِيِّ، والرُّؤاءُ، بالضَّمِّ، والمَرْآةُ، بالفَتْحِ: المَنْظر.
ووَقَع في المُحْكَم أَوَّل الثَّلاثَة الرَّئيُ بالكَسْر مضبوطًا بخطّ يُوثَقُ به.
وفي الصِّحاحِ: المَرْآةُ على مَفْعَلة بفتْحِ العَيْن: المَنْظرُ الحَسَنُ، يقالُ: امْرآةٌ حَسَنةُ المَرْآةِ والمَرْآى كما تقولُ حَسَنَة المَنْظَرةِ والمَنْظَرِ؛ وفلانٌ حَسنٌ في مَرْآةِ العَيْن أَي في المَنْظرِ.
وفي المَثَلِ: تُخْبِرُ عن مَجْهولةٍ مَرْآتُه؛ أَي ظاهِرُه يدلُّ على باطِنِه. والرُّؤَاءُ، بالضمِّ: حُسْنُ المَنْظرِ؛ ا ه.
وقالَ ابنُ سِيدَه: أَو الأَوَّلانِ: حُسْنُ المَنْظَرِ، والثَّالِثُ مُطْلقًا حَسَنَ المَنْظرِ كانَ أَو قبيحًا.
وفي الصِّحاحِ: وقوْلُه تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا}؛ من هَمَزَه جَعَلَه من المَنْظرِ من رَأَيْت، وهو ما رأَتْهُ العَيْن مِن حالِ حَسَنَةٍ وكُسْوَةٍ ظاهِرَةٍ؛ وأَنْشَدَ أَبو عبيدَةَ لمحمدِ بنِ نُمَيرٍ الثَّقفي:
أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا *** بذي الرأي الجميلِ من الأَثاثِ
ومن لم يَهْمزْه إمَّا أنْ يكونَ على تَخْفيفِ الهَمْز أَو يكونَ مِن رَوِيَتْ أَلْوانهم وجُلُودهم رِيَّا: امْتَلأَتْ وحَسُنَتْ، ا ه.
وما له رُؤَاءٌ ولا شاهِدٌ؛ عن اللحْيانيّ لم يَزِدْ شيئًا.
والتَّرْئِيَةُ: البَهاءُ وحُسْنُ المَنْظرِ، اسمٌ لا مَصْدر؛ قالَ ابنُ مُقْبل:
أَمَّا الرُّؤَاءُ ففِينا حَدُّ تَرْئِيَةٍ *** مِثل الجِبالِ التي بالجِزْع منْ إضَمِ
واسْتَرآهُ: اسْتَدْعَى رُؤْيَتَهُ؛ كذا في المُحْكَم.
وأَرَيْتُه إيَّاهُ إراءَةً وإراءً، المَصْدرَانِ عن سِيْبَوَيْه، قالَ: الهاءُ للتَّعْويض، وتَرْكُها على أَن لا يعوَّض وَهْمٌ ممَّا يُعوِّضُونَ بَعْد الحذْفِ ولا يُعَوِّضون.
وَرَاءَيْتُهُ مُرَاءَةً ورِئَاءً، بالكسْرِ: أَرَيْتُه أَنِّي على خِلافِ ما أَنا عليه.
وفي الصِّحاح: يقالُ: رَاءَى فلانٌ الناسَ يُرائِيهم مُرَاءَاةً، ورَايَاهُم مُراياةً، على القَلْب، بمعْنَى، انتَهَى؛ ومنْه قوْلُه تعالى: {بَطَرًا وَرِئاءَ النّاسِ}؛ وقوْلُه تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ} يَعْني المُنافِقِيَّن إذا صلَّى المُؤمِنون صَلَّوا مَعَهم يرونهم أنَّهم على ما هم عليه.
وفي المِصْباح: الرّياءُ هو إظْهارُ العَمَلِ للناسِ ليَرَوه ويَظنُّوا به خَيْرًا، فالعَمَل لغيرِ اللهِ، نَعُوذُ باللهِ.
وقال الحرالي: الرّياءُ الفِعْلُ المَقْصودُ به رُؤية الخَلْق غَفْلَة عن الخالِقِ وعِمَايَة عنه؛ نَقَلَه المَناوي.
وفي الصِّحاحِ: وفلانٌ مُراءٍ وقوْمٌ مُراؤونَ، والاسمُ الرِّياءُ. يقالُ: فَعَلَ ذاكَ رياءً وسُمْعَةً.
كَرَأَّيْتُه تَرْئِيَةً؛ نَقَلَهُ الفرَّاء عن العَرَبِ، قالَ: وقَرَأ ابنُ عبَّاس: يرأون الناس.
ووَرَاءَيْتُهُ مُرَاءَاةً ورِئاءً؛ قابَلْتُه فَرَأَيْتُه؛ كذا في المُحْكَم.
والمِرْآةُ، كمِسْحاةٍ: ما تَرَاءَيْتَ فِيهِ.
وفي الصِّحاحِ: التي يَنْظُرُ فيها؛ وثلاثُ مراء والكَثيرُ مَرايا. وقالَ الرَّاغبُ: المِرْآةُ ما تَرى فيه صُوَر الأَشياءِ، وهي مِفْعَلة من رأَيْتُ نَحْوِ المِصْحَف من صحفت، وجَمْعُها مراء.
وقالَ الأزْهريُّ: جَمْعُها مَراءٍ، ومن حَوَّلَ الهَمْزةَ قالَ مَرايا.
ورَأَّيْتُه؛ أَي الرَّجُل، تَرْئِيَةً: عَرَضْتُها؛ أَي المِرْآةَ، عليه، أَو حَبَسْتُها له يَنْظُرُ فيها نَفْسَه.
وفي الصِّحاحِ: قالَ أَبو زيْدٍ: رَأَّيْتُ الرَّجُل تَرْئِيَةً إذا أَمْسَكْتَ له المِرْآةَ ليَنْظُر فيها.
وتَراءَيْتُ فيها؛ أَي المِرْآة بالمدِّ، وتَرَّأَيْتُ، بالتَّشْديدِ.
وفي الصِّحاحِ: فلانٌ يَتَرَاءَى أَي يَنْظُرُ إلى وَجْهِه في المِرْآةِ أَو في السَّيْفِ.
والرُّؤيا، بالضمِّ مَهْموزًا، وقد يُخفَّفُ، ما رَأَيْتَه في مَنامِكَ، وفيها لُغاتٌ يأْتي بيانُها في المُسْتدركاتِ.
وقالَ اللَّيْثُ: رأَيْتُ رُؤيا حَسَنةً، ولا تُجْمَع.
وقالَ الجَوهريُّ: رأَى في مَنامِه رُؤيا، على فُعْلى بِلا تَنْوِين، والجمع: رُؤًى بالتَّنْوين، كَهُدًى ورُعًى.
والرَّئِيُّ، كغَنِيِّ ويُكْسَرُ: جنّيُّ يَتَعرَّضُ للرَّجُلِ يُرِيه كهانَةً أَو طِبًّا يقالُ: مع فلانٍ رِئِيٌّ وضبطه بالكسْرِ.
وفي المُحْكَم: هو الجِنُّ يَراهُ الإِنْسانُ.
وقالَ اللحْيانيُّ: له رَئِيُّ؛ أَي جنِّيٌّ يُرَى فَيُحَبُّ ويُؤلَفُ؛ وفي حدِيثٍ: «قالَ لسَوادِ بنِ قارِبٍ أَنتَ الذي أَتاكَ رَئِيُّكَ بظُهورِ رَسُولِ اللهِ؟ قالَ: نعم».
قالَ ابنُ الأثيرِ: يقالُ للتَّابعِ مِن الجنِّ رَئِيٌّ ككَمِيِّ، وهو فَعِيلٌ أَو فَعُولٌ، سُمِّي به لأنّه يَتَراءَى لمتْبوعِه، أَو هو مِن الرَّأْي، مِن قوْلِهم: فلانٌ رَئِيُّ قوْمِهِ إذا كانَ صاحِبَ رأْيِهِم، وقد تُكْسَرُ راؤه لاتِّباعِها ما بَعْدها.
أَو المَكْسُورُ: للمَحْبُوبِ منهم، وبالفتْحِ لغيرِهِ.
والرَّئِيُّ أَيْضًا: الحيَّةُ العَظيمَةُ تَتَراءَى للإِنْسَانِ تَشْبِيهًا بالجِنِّيِّ، ومنه حدِيثُ أبي سعيدٍ الخَدْريّ: «فإذا رَئِيٌّ مثل نِحْيٍ»، يَعْني حَيَّةً عَظِيمةً كالزِّقِّ.
قالَ ابنُ الأثيرِ: سمَّاها بالرَّئِيِّ الجنِّيّ لأنَّهم يَزْعمونَ أنَّ الحيَّاتِ مِن مَسْخ الجِنِّ، ولهذا سَمّوه شَيْطانًا وجانًّا.
والرِّئِيُّ بالوَجْهَيْن: الثَّوْبُ يُنْشَرُ ليُباعَ؛ عن أبي عليِّ.
وتَرَاءَوْا: رَأَى بعضُهم بعضًا، وللاثْنَيْن تَرَاءَيا.
وقالَ الراغبُ في قوْلِه تعالى: {فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ}؛ أَي تَقارَبا وتَقابَلا بحيثُ صارَ كلُّ واحِدٍ بحيثُ يتَمَكَّن بِرُؤْيَةِ الآخِر ويتمَكَّنُ الآخَرُ من رُؤْيَتِه.
وتَراءَى النَّخْلُ: ظَهَرَتْ أَلْوانُ بُسْرِهِ؛ عن أَبي حنيفَةَ؛ وكُلُّه مِن رُؤْيَةِ العَيْن.
وتَراءَى لي وتَرَأَّى، على تَفاعَلَ وتَفَعَّل: تَصَدَّى لأَراهُ.
وفي الحدِيثِ: «لا تَرَاءَى نارُهُما»؛ كذا في النُّسخ ونَصّ الحدِيثِ: نارَاهُما؛ أَي لا يَتَجاوَرُ المُسْلِمُ والمُشْرِكُ بل يَتَباعَدُ عنه مَنْزلَةً بحيثُ لَوْ أَوْقَدَ نارًا ما رَآها.
وفي التَّهذيبِ: أَي لا يحلُّ لمُسْلِمٍ أنْ يَسْكُنَ بِلادَ المُشْرِكين فيكونُ معهم بقَدْرِ ما يَرَى كلٌّ منهما نارَ الآخَرِ؛ قالَهُ أَبو عبيدٍ.
وقالَ أَبو الهَيْثم: أَي لا يَتَّسِمُ المُسْلِم بسِمَةِ المُشْرِك ولا يَتَشَبَّه به في هَدْيه وشَكْلِه، ولا يَتَخَلَّقُ بأَخْلاقِه، من قوْلِك: ما نَارُ بَعِيرِكَ أَي ما سِمَتُه.
وفَسَّرَه ابنُ الأثيرِ بنَحْو ممَّا فَسَّره أَبو عبيدٍ، وزادَ فيه: ولكنَّه يَنْزلُ مع المُسْلمين في دارِهم وإنَّما كَرِه مُجاوَرَة المُشْرِكين لأنَّه لا عَهْدَ لهم ولا أَمانَ.
قالَ: وإسْنادُ التَّرائِي إلى النارَيْن مَجازٌ مِن قَوْلهم دارِي تَنْظُر إلى دارِ فلانٍ؛ أَي تُقابِلُها.
ويقالُ: هو منِّي مَرْأَى ومَسْمَعٌ، بالرَّفْع ويُنْصَبُ، وهو مِن الظُّروفِ المَخْصوصَةِ التي أُجْرِيَت مُجْرَى غَيْر المَخْصوصَة عنْدَ سِيْبَوَيْه، قالَ: هو مثل مَناطَ الثُّرَيَّا ودرج السُّيُول، أي هو منِّي بحيثُ أَراهُ وأَسْمَعُهُ.
وفي الصِّحاحِ: فلانٌ منِّي بمَرْأَى ومَسْمَع؛ أَي حيثُ أَراهُ وأَسْمَعُ قَوْلَه.
وهُم رِئاءُ أَلْفٍ، بالكسْرِ: أَي زهاؤهُ في رَأْي العَيْنِ؛ أَي فيمَا تَرى العَيْن.
ويقالُ: جاءَ حِينَ جَنَّ رُؤيٌ ورُؤيًا، مَضْمُومَتَيْنِ، ورَأْيَ ورَأْيًا، مَفْتُوحَتَيْنِ: أَي حِينَ اخْتَلَطَ الظَّلامُ فَلَمْ يَتَرَاءَوْا؛ كذا في المُحْكَم.
وارْتَأَيْنا في الأمْرِ وتَراءَيْنا هُ: أي: نَظَرْناهُ.
وقال الجوهريُّ: ارْتآهُ ارْتِئاءً، افْتَعَل من الرَّأْيِ والتَّدْبيرِ.
وقالَ ابنُ الأثيرِ: هو افْتَعَل مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ أَو مِن الرَّأْيِ، ومَعْنى ارْتَأَى فَكَّرَ وتأَنَّى، ا ه.
وأَنْشَدَ الأزْهريُّ:
أَلا أَيُّها المُرْتَئِي في الأمُورِ *** سيَجْلُو العَمَى عنكَ تِبْيانها
والرَّأْيُ: الاعْتِقادُ، اسمٌ لا مَصْدَرٌ كما في المُحْكَم.
وقالَ الَّراغبُ: هو اعْتِقادُ النَّفْسِ أَحَد النَّقِيضَيْن عن غلبةِ الظنِّ، وعلى هذا قوْلُه عزّ وجلّ: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}؛ أَي يظنُّونَهم بحَسَبِ مُقْتَضى مشاهَدَةِ العَيْنِ مَثِلَيهم.
الجمع: آراءٌ لم يكَسَّر على غَيْرِ ذلك.
وحكَى الجوهريُّ في جَمْعه: أَرآءٌ مَقْلُوبٌ.
وحكَى اللّحْيانيُّ في جَمْعه: أَرْيٌ كأَرْعٍ، ورُيٌّ بالضَّمِّ ورِيٌّ بالكسْرِ.
والذي في نَصّ المُحْكم عن اللّحْياني رُئي بالضم والكسر وصحيح عليه.
ورَئِيٌّ، كغَنِيِّ، قالَ الجوهريُّ: هو على فَعِيلٍ مثْل ضَأنٍ وضَئِينٍ.
قالَ ابنُ الأثيرِ: وقد تَكرَّر في الحديثِ: أَرَأَيْتَكَ وأَ رَأَيْتَكُما وأَ رَأَيْتَكُم، وهي كلمةٌ تَقُولُها العَرَبُ عنْدَ الاسْتِخْبارِ بمَعْنَى أَخْبِرْني وأَخْبِراني وأَخْبِروني، والتَّاءُ مَفْتُوحَةٌ أَبَداٌ، هذا نَصّ النهايةِ.
وقالَ الرَّاغبُ: يَجْرِي أَرَأَيْتَ بمجْرَى أَخْبِرْني فتَدْخُلُ عليه الكَافُ وتُتْرَكُ التاءُ على حالتِه في التَّثْنِية والجَمْع والتَّأْنِيثِ ويُسَلَّط التَّغْيير على الكافِ دُونَ التاءِ، قالَ تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ}؛ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}؛ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا}؛ كلُّ ذلكَ فيه مَعْنى التَّنْبيه.
* قُلْتُ: وللفرَّاء والزجَّاج وأبي إسْحق هنا كَلامٌ فيه تَحْقيقٌ انْظُرْه في التَّهْذيبِ تَرَكْتُه لطُولِه.
ثم قالَ ابنُ الأثيرِ: وكَذلِكَ تكرر أَلَمْ تَر إلَى كذا، أَلَمْ تَر إلَى فلانٍ، وهي كَلمةٌ تُقالُ عند التَّعَجُّبِ مِن الشَّيءِ، وعنْدَ تَنْبِيه المُخاطبِ كقوْلِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ}؛ أَي أَلَمْ تَعْجَب بفِعْلِهم ولا يَنْتَه شَأْنُهُم إليك.
وقالَ الراغبُ: إذا عُدِّي رَأَيْت بإلى اقْتَضَى مَعْنى النَّظَر المُؤَدِّي للاعْتِبارِ، وقد تقدَّمَ قرِيبًا.
وحكَى اللّحْيانيُّ: هو مَرْآةٌ بكذا وأنْ يَفْعَل كذا كَمسْعاةٍ: أَي مَخْلَقَةٌ، وكذا الاثْنانِ والجَمْع والمُؤَنَّثُ. وأَنا أَرْأَى أَنْ أَفْعَل ذلكَ: أَي أَخْلَقُ وأَجْدَرُ بِه.
والرِّئَةُ، كعِدَةٍ: مَوْضِعُ النَّفَسِ والرِّيحِ من الحَيوانِ.
قالَ اللَّيْثُ: تُهْمَزُ ولا تُهْمَزُ.
وقالَ الرَّاغبُ: هو العُضْو المُنْتَشِر عن القَلْب.
وفي الصِّحاحِ: الرِّئَةُ السَّحْرُ، مَهْموزٌ، والهاءُ عِوَضٌ مِن الياءِ، الجمع: رِئاتٌ وَرِئُونَ، بكَسْرِهما على ما يَطَّرِد في هذا النَّحْو؛ قالَ الشَّاعِرُ:
فغِظْنَاهُمُ حتَّى أَتَى الغَيْظُ مِنْهُم *** قُلوبًا وأَكْبادًا لهُم ورِئِينَا
قالَ ابنُ سِيدَه: وإنَّما جازَ جَمْع هذا ونحْوه بالواوِ والنونِ لأنَّها أَسْماءٌ مَجْهودَةٌ مُنْتَقَصَة ولا يُكَسَّر هذا الضَّرْب في أَوَّلِيّته ولا في حَدِّ النِّسْبة.
ورَآهُ: أَصابَ رِئَتَه؛ نَقَلَهُ الجَوهرِيُّ وابنُ سِيدَه.
وقالَ الرَّاغبُ: ضَرَبَ رِئَتَه.
ورَأَى الرَّايَةَ: رَكَزَها في الأرْضِ؛ كأَرْآها، وهذه عن اللّحْياني، قال ابن سِيدَه: وهمزه عندي على غير قياس، وإنمَّا حكمه أرييتها ورَأَى الزَّنْدَ أَوْقَدُهُ فَرَأَى هو بنفسه أي وقد، وهذا المطاوعُ عن كُراعٍ.
ويقالُ: أَرَى اللهُ بفُلانٍ كذا وكذا: أَي أَرَى النَّاسَ به العَذابَ والهَلاكَ، ولا يقالُ ذلكَ إلَّا في الشَّرِّ؛ قالَهُ شَمِرٌ.
وقالَ الأَصْمعيُّ: يقالُ: رَأْسٌ مُرْأَى، كَمُضْنًى: طَويلُ الخَطْمِ فيه تَصْويبٌ؛ كذا في المُحْكَم وفي التَّهْذِيبِ:
كهَيْئةِ الإِبْرِيقِ وأَنْشَدا لذي الرُّمَّة:
وجَذْب البُرَى أَمْراسَ نَجْرانَ رُكِّبَتْ *** أَوَاخِيُّها بالمُرْأَياتِ الرَّواجِفِ
قال الأزْهريُّ: يَعْني أَوَاخِيَّ الأَمْراسِ، وهذا مَثَل.
وقالَ نَصِيرُ: رؤوس مُرْأَياتٌ كأَنَّها قَوارِيرُ قالَ ابنُ سِيدَه: وهذا لا أَعْرِف له فعْلًا ولا مادَّةً.
وفي التَّهذيبِ: اسْتَرْأَيْتُه في الرَّأْي: أَي اسْتَشَرْتُه؛ ورَاءَيْتُه، على فاعَلْته، وهو يُرائِيهِ؛ أَي شاوَرْتُه؛ قالَ عِمْرانُ ابنُ حطَّان:
فإن نَكُنْ نحن شاوَرْناكَ قُلْتَ لنا *** بالنُّصْحِ مِنْكَ لَنَا فِيمَا نُرائِيك
وأَرْأَى الرَّجُل إِرْآءً: صارَ ذا عقلٍ ورَأْىٍ وتَدْبيرٍ.
وقالَ الأَزْهريُّ: أَرْأَى إرْآءً تَبَيَّنَتْ آرَاؤُه، وهي الحَماقَةُ في وجْهِهِ، وهو ضِدٌّ وفيه نَظَرٌ.
وأَرْأَى نَظَرَ في المِرْآةِ.
وفي التَّهْذيبِ تَراءَى مِن المُرَاءَةِ وهي لُغَةٌ في رَأْرَأ.
قال: وأَرْأَى صارَ له رَئيٌّ مِن الجِنِّ، وهو التَّابعُ.
وأَرْأَى عَمِلَ صالحًا رئاءً وسُمْعَةً.
قالَ: وأَرْأَى: اشْتَكَى رِئَتَهُ.
وأَرْأَى: حَرَّكَ جَفْنَيْهِ، وفي التَّهْذيبِ: بعَيْنَيْه، عند النَّظَرِ تَحْرِيكًا كَثيرًا، وهو يُرْئِي بعَيْنِه، وهي لُغَةٌ في رَأْرأ.
وأَرْأَى تَبِعَ رَأْيَ بعضِ الفُقَهاءِ في الفقْهِ.
وأَرْأَى: كَثُرَتْ رُؤَاهُ زِنَة رُعاهُ، وهي أَحْلَامُه، جمعُ الرُّؤْيا.
وأَرْأَى البَعيرُ: انْتَكَبَ خَطْمُه على حَلْقِه قالَهُ النَّصْرُ، فهو مُرْأَى كمُضْنى، وهنَّ مُرْأَياتٌ، وقد تقدَّمَ شاهِدُه قريبًا.
وأَرْأَتِ الحامِلُ مِن، النَّاقَةِ والشَّاةِ، غَيْرِ الحافِرِ والسَّبُع: رُئيَ في ضَرْعِها الحَمْلُ واسْتُبِينَ؛ وكذا المَرْأَةُ وجَمِيعُ الحَوامِلِ، فهي مُرْءٍ ومُرْئِيَةٌ؛ نقلهُ ابنُ سِيدَه.
وقالَ اللّحيانيُّ: يقالُ إنَّه لخبيثٌ ولا تَرَ ما فلانٌ ولا تَرى ما فلانٌ، رفْعًا وجَزْمًا، وإذا قالوا: إنه لخبيثٌ ولَمْ تَرَ مَا فُلانٌ قالوه بالجَزْم، وفلانٌ كُلّه بالرَّفْع؛ وكذا وأ وَتَرَ ما عن ابن الأعرابيِّ؛ وكذا ولَوْ تَرَ ما ولَوْ تَرَى ما؛ كُلُّ ذلكَ بمعْنَى لا سِيَّما؛ حَكَاه كُلّه عن الكِسائي، كذا في التهْذِيبِ.
وذُو الرَّأْيِ: لَقَبُ العبَّاسِ بنِ عبْدِ المُطَّلبِ الهاشِمِيّ، رضي الله عنه.
وأَيْضًا لَقَبُ الحُبابِ بنِ المُنْذرِ الأنْصارِيّ لُقِّبَ به يَوْم السَّقِيفَة إذ قالَ: أنَا جُذْيلُها المُحكَّك وعُذيقُها المُرَجَّب.
وأَبو عُثْمانَ رَبيعَةُ بنُ أَبي عبْدِ الرحمنِ فروخ التَّيمِيّ مَوْلى آلِ المُنْكَدر صاحِبُ الرَّأْيِ والقائِلُ به، سَمِعَ أَنَسًا والسائِبَ بن يَزِيد، وهو شَيْخُ مالِكٍ والثَّوْرِي وشعْبَةَ، ماتَ سَنَة 136.
وهِلالُ الرَّأْي بنُ يَحْيَى بنِ مُسْلم البَصْريُّ مِن أعْيانِ الحَنَفِيَّة كَثيرُ الخَطَأ لا يُحْتج به.
وسُرَّ مَنْ رَأَى، بالضمِّ، وسَرَّ مَنْ رَأَى، وسَاءَ مَنْ رَأَى، وسَامَرَّا، عن ثَعْلَب وابنِ الأنْبارِي؛ وهي لُغاتٌ في المَدينَةِ التي بَناها المُعْتصمُ العبَّاسي، وقد ذُكِرَتْ في «س ر ر».
وأَصْحابُ الرَّأْي عنْدَ أَهْلِ الحدِيث هُم: أَصْحابُ القِياسِ لأَنَّهُمْ يقولُون برَأْيِهِم فيما لم يَجِدُوا فيه حَديثًا أَو أَثَرًا، أَو فيمَا أَشْكلَ عليهم مِن الحدِيثِ، قالَهُ ابنُ الأثير.
وأَمَّا عنْدَ غيرِهم فإنَّه يقالُ: فلانٌ من أَهْلِ الرَّأْي إذا كانَ يَرَى رَأْىَ الخوارِجِ ويقولُ بمَذْهَبِهم؛ ومنه حدِيثُ الأَزْرَق بنِ قَيْس: «وفِينا رجُلٌ له رَأْيٌ».
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: يقالُ: رَيْتَه على الحَذْفِ، أَنْشَدَ ثَعْلَب:
وَجْناء مُقَوَرَّة الأَقْرابِ يَحْسِبُها *** مَنْ لم يَكُنْ قَبْلُ رَاهَا رَأْيَةً جَمَلا
وأنا أَرَأُهُ والأَصْلُ أَرآهُ، حَذَفُوا الهَمْزةَ وأَلْقَوْا حَرَكَتَها على ما قَبْلَها.
قالَ سِيْبَوَيْه: كلُّ شيءٍ كانت أَوَّلَه زائِدَةٌ سِوَى أَلِف الوَصْل مِن رَأَيْت فقد اجْتَمَعَتِ العَرَبُ على تَخْفيفِ هَمْزه لكَثْرهِ اسْتِعْمالِهم إيَّاه، جَعَلُوا الهَمْزة تُعاقِب.
قالَ: وحَكَى أَبو الخطَّاب قَدْ أَرْآهم، فجِيءَ به على الأصْل قالَ:
أَحِنُّ إذا رَأَيْتُ جِبالَ نَجْدٍ *** ولا أَرْأَى إلى نَجْدٍ سَبِيلا
قالَ بعضُهم: ولا أَرَى على احْتِمالِ الزِّحافِ؛ وقالَ سُراقَةُ البارِقيّ:
أَرَى عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ *** كِلانا عالِمٌ بالتُّرَّهاتِ
ورَواهُ الأَخْفَش: ما لم تَرَياهُ، على التَّخْفيفِ الشائِع عن العَرَب في هذا الحَرْف.
ويقولُ أَهْلُ الحجازِ في الأَمْرِ مِن رَأَى: وَذلك، وللاثْنَيْن: رَيا، وللجَمْع: رَوْا ذلكَ، ولجماعَةِ النِّسْوةِ: رَيْنَ ذا كُنَّ.
وبَنُو تمِيمٍ يَهْمزُونَ في جميعِ ذلكَ على الأصْلِ.
وتَراءَيْنا الهِلالَ: تَكَلَّفْنا النَّظَرَ هل نَراهُ أَمْ لا.
وقيلَ: تَراءَيْنا نَظَرْنا؛ وقالَ أَبو ذُؤَيْب:
أَبَى اللهُ إلَّا أن يُقِيدَكَ بَعْدَما *** تَراءَيْتُموني من قَرِيبٍ ومَوْدِقِ
وفي الحدِيثِ: لا يَتَمَرْأَى أَحَدُكم في الماء؛ أَي لا يَنْظُرُ وَجْهَه فيه، وَزْنُه يَتَمفْعَل، حَكَاه سِيْبَوَيْه. وحَكَى الفارِسيُّ عن أَبي الحَسَن: رُيَّا لُغَةٌ في الرُّؤْيا، قالَ: وهذا على الإدْغام بَعْدَ التَّخْفيفِ البَدَليُّ؛ وحَكَى أَيْضًا رِيَّا أَتْبَع الياءَ الكَسْرَ.
وقالَ الأزْهريُّ: زَعَمَ الكِسائيُّ أنَّه سَمِعَ أَعْرابيًّا يقْرَأُ إنْ كُنْتُم للرُّيَّا تَعْبُرُونَ.
ورَأَيْتُ عَنْك رُؤًى حَسَنَةً: أَي حملتها.
وقالوا: رَأْيَ عَيْني زيدٌ فَعَلَ ذاكَ، وهو مِن نادِرِ المصادِرِ عنْدَ سِيْبَوَيَه، ونَظِيرُهُ سَمْعَ أُذُنِي، ولا نَظِير لهُما في المُتَعَدِّيات.
والتَّرِيَّةُ: الشَّيءُ الخفِيُّ اليَسِيرُ مِن الصُّفْرةِ والكُدْرةِ تَراها المَرْأَةُ بَعْد الاغْتِسالِ من الحيْضِ، فأَما ما كانَ في أَيَّامِ الحيْضِ فهو حَيْضٌ وليسَ بتَرِيَّة؛ ذَكَرَهُ الجوهريُّ.
وزادَ في المُحْكَم فقالَ: والتَّرْئِيَةُ والتريةُ، بالكسْرِ؛ قالَ: والفَتْح مِن التَّرِيَّة نادِرٌ، ثم قالَ: وقيلَ: التَّرِيَّةُ الخِرْقَةُ التي تَعْرِفُ بها حَيْضَتَها مِن طُهْرها، وهو مِن الرُّؤيَةِ.
ومِن المجازِ: رَأَى المَكانُ المَكانَ: إذا قابله حتى كأنَّه يَراهُ؛ قالَ ساعِدَةُ:
لمَّا رَأَى نَعْمانَ حَلَّ بكِرْفِئٍ *** عَكِرٍ كما لَبَجَ النُّزُولَ الأَرْكُبُ
وقرأ أبو عمرو: أَرْنَا مَنَاسِكَنا، وهو نادِرٌ لمَا يَلْحَقُ الفِعْلَ مِنَ الإِجْحافِ.
ودُورُ القَوْمِ مِنّا رِئاءٌ: أَي مُنْتَهَى البَصَرِ حيثُ نَراهُم.
وقوْلُهم: على وَجْهِه رَأْوَةُ الحُمْقِ إذا عَرَفْتَ الحُمْقَ فيه قبل أَنْ تَخْبُرَهُ؛ نقلَهُ الجَوْهريُّ والأزْهرِيُّ.
وإنَّ في وَجْهِه لَرُؤَاوَةً، كثُمامَةٍ: أَي نَظْرَةً ودَمامَةً؛ نقلَهُ الأزْهريُّ.
وأَرْأَتِ الشاةُ: إذا عَظُمَ ضَرْعُها، فهي مُرْءٍ؛ نقلَهُ الجَوهريُّ.
وقوْمٌ رِئاءٌ: يقابِلُ بعضُهم بعضًا.
وأَرَني الشَّيءَ: عاطنِيه.
ورُؤَيَّةُ، كسُمَيَّة مَهْموزة: تَصْغِير رِئَة.
وأَيْضًا: اسمُ أَرْضٍ، ويُرْوَى بَيْت الفَرَزْدق.
هل تَعْلَمون غَدَاةَ يُطْرَدُ سَبْيُكُم *** بالسَّفْحِ بينَ رُؤَيَّةٍ وطِحَالِ؟
ورَأَيْتُه رَأْي العَيْن: أَي حيثُ يَقَعُ عليه البَصَرُ.
والرِّيَّةُ، بالكسْرِ: الرُّؤْيَة؛ أَنْشَدَ أَبو الجرَّاح:
أَحَبُّ إلى قَلْبِي من الدِّيك رُيَّةَ
أَرادَ رُؤْيَةً.
وقالَ ابنُ الأعرابيِّ: أَرَيْتُه الشَّيءَ إِرايَةً.
وقد تقدَّمَ للمُصَنِّفِ أَرَيْتُه إِراءَةً وإراءً، كلاهُما عن سِيْبَوَيْه.
وباتَ يَرآها: يَظنُّ أنَّها كذا، وبه فُسِّر قَوْل الفَرَزْدق.
وتَراءَيْنا: تلاقَيْنا فرَأَيْتُه ورَآني، عن أَبي عبيدٍ.
وهو يَتَراءَى برَأْي فلانٍ: إذا كانَ يَرَى رَأْيَه ويَمِيلُ إليه ويَقْتَدِي به.
وقالَ الأصْمعيُّ: يقالُ لكلِّ ساكِنٍ لا يَتَحَرَّكُ ساجٍ وراهٍ ورَاءٍ. وأَرْأَى الرَّجُلُ: اسْوَدَّ ضَرْعُ شاتِهِ.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: بعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ أَي اعْجَلْ وكُنْ كأنِّي أَنْظُرُ إلَيْكَ، نَقَلَهُ الجوهريُّ.
وتقولُ مِن الرِّئاءِ: يَسْتَرْئي فلانٌ، كما تقولُ يَسْتَحْمِقُ ويَسْتَعْقِلُ، عن أَبي عَمْروٍ.
وتقولُ للمَرْأَةَ: أَنْتِ تَرِينَ، وللجماعَةِ أَنْتُنَّ ترين، وتقولُ: أنت تَرَيْنَنِي وإن شِئْتَ أَدْغَمْت وقُلْتَ تَرَيَنِّي بتَشْديدِ النّون.
ورَاءاهُ مُراءاةً، على فاعَلَهُ أَراهُ أنَّه كذا.
ورَأَى إذا بُني للمَفْعولِ تعدَّى إلى واحِدٍ تقولُ رُئِيَ زيْدٌ عاقلًا؛ أَي ظُنَّ.
ورَئِيُّ القْومِ، كغَنِيِّ: صاحِبُ رَأْيهم الذي يَرْجعُونَ إليه.
وسَودَةُ بنُ الحَكَم وأَبو مطيعٍ الحَكَمُ بنُ عبدِ اللهِ البَلخيُّ الرائيان مُحدِّثانِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
300-تاج العروس (غنى)
[غنى]: ي الغِنَى، كإِلَى: التَّزْوِيجُ، ومنه قوْلُهم: الغِنَى حِصْنٌ للعَزَبِ، نقلَهُ الأزْهرِي.والغِنَى: ضِدُّ الفَقْرِ، وهو على ضَرْبَيْن: أَحَدُهما: ارْتِفاعُ الحاجاتِ وليسَ ذلكَ إلَّا للهِ تعالى، والثاني: قلَّةُ الحاجاتِ، وهو المُشارُ إليه بقوْلِه تعالى: {وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى}، وإذا فُتِحَ مُدَّ، ومنه قولُ الشَّاعرِ:
سَيُغْنِيني الذي أَغْناكَ عني *** فلا فَقْرٌ يدُومُ ولا غِناءُ
يُرْوَى بفَتْحٍ وكسْرٍ، فمن كَسَرَ أَرادَ مَصْدَرَ غانَيْت غناءٌ، ومَنْ فَتَحَ أَرادَ الغِنَى نَفْسَه، وقيلَ: إنَّما وَجْهُه ولا غَناءَ لأنَّ الغَناءَ غيرُ خارِجٍ عن مَعْنى الغِنَى، قالَهُ ابنُ سِيدَه.
فلا عبْرَة بإنْكارِ شيْخنا على المصنِّف في إيرادِ المَفْتوحِ المَمْدُودِ بمعْنَى المَكْسُورِ المَقْصور.
غَنِيَ به، كرَضِيَ، غِنًى، بالكَسْرِ مَقْصورٌ، واسْتَغْنَى واغْتَنَى وتغَانَى وتَغَنَّى: كُلُّ ذلكَ بمعْنَى صارَ غَنِيَّا، فهو غَنِيٌّ ومُسْتَغْنٍ.
وشاهِدُ الاسْتِغْناءِ قوْلُه تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللهُ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وشاهِدُ التَّغَنِّي الحديثُ: «ليسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرْآنِ».
قالَ الأزْهرِي: قالَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَة: مَعْناه مَنْ لم يَسْتَغْنِ ولم يَذْهَبْ به إلى مَعْنَى الصَّوْت.
قالَ أَبو عُبيدٍ: هو فاشٍ في كَلامِ العَرَبِ، يقولون: تَغَنَّيْت تَغَنِّيًا وتَغانَيْتُ تَغانِيًا بمعْنَى اسْتَغْنَيْت، وقالَ الأَعْشى:
وكُنْتُ امْرَأً زَمَنًا بالعِراقِ *** عَفِيفَ المُناخِ طَوِيلَ التَّغَنْ
أَي الاسْتغْنَاء.
واسْتَغْنَى اللهَ تعالى: سَأَلَه أَنْ يُغْنِيَه، ومنه الدُّعاءُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْنِيك عن كلِّ حازِمٍ، وأَسْتَعِينُكَ.
وغَنَّاهُ اللهُ تعالى، هو بالتَّشْدِيدِ كما هو ضَبْطُ المُحْكم، وأَغْناهُ حتى غَنِيَ: صارَ ذا مالٍ، ومنه قوْلُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى}.
وقيلَ غَنَّاهُ في الدُّعاءِ وأَغْناهُ في الخَبَرِ، والاسْمُ الغُنْيَةُ، بالضمِّ والكَسْر، والغُنْوَةُ، هذه عن الكِسائي وقد مَرَّ، والغُنْيانُ مَضْمُومَتينِ.
والغَنِيُّ، على فَعِيلٍ: ذُو الوَفْرِ؛ أَي المَالِ الكَثِيرِ، والجَمْعُ أَغْنياءُ، وهو في القُرْآن والسُّنَّة كَثيرٌ مُفْردًا وجَمْعًا، كالغانِي، ومنه قولُ عَقِيل بن عَلْقمة:
أَرَى المالَ يَغْشى ذا الوُصُومِ فلا تُرى *** ويُدْعى من الأَشْرافِ ما كانَ غانِيا
وقالَ طَرَفَةُ:
فإنْ كنتَ عنها غانِيًا فاغْنَ وازْددِ
وما لَهُ عنه غِنًى، بالكسْر، ولا مَغْنًى ولا غُنْيَةٌ ولا غُنْيانٌ، مَضْمُومتينِ؛ أَي بُدٌّ.
والغانِيَةُ مِن النِّساءِ المرأةُ التي تُطْلَبُ هي؛ أَي يَطْلُبُها النَّاسُ، ولا تَطْلُبُ، أَو هي الغَنِيَّةُ بحُسْنِها وجَمالِها عن الزِّينةِ بالحَلْي والحُلَلِ، أَو التي غَنِيَتْ؛ أَي أَقامَتْ ببَيْتِ أَبَوَيْها ولم يَقَعْ عليها سِباءٌ، بهذه أَغْرَبُها، وهي عن ابنِ جنِّيٍّ أَو هي الشابّةُ العَفيفةُ ذاتُ زَوْجٍ ام لا، هذه أَرْبَعةُ أَقْوالٍ، ذَكَرهنَّ ابنُ سِيدَه.
وقالَ الأزْهرِي: وقيلَ: هي التي تعجبُ الرِّجالَ ويعجبُها الشُّبّانُ.
وقالَ الجَوْهرِي: هي التي غَنِيَتْ بزَوْجِها، وأَنْشَدَ لجميلٍ:
أُحبُّ الأَيامَى إذْ بُثَيْنَةُ أَيِّمٌ *** وأَحْبَبْتُ لمَّا أَن غَنِيتِ الغَوانِيا
قالَ: وقد تكونُ التي غَنِيَتْ بحُسْنِها وجَمالِها، واقْتَصَرَ على هذين القَوْلَيْن، الجمع: غَوانٍ، وقولُ الشَّاعرِ:
وأَخُو الغَوَانِ متى يَشَأْ يَصْرِمْنَهُ *** ويَعُدْنَ أَعْداءً بُعَيْدَ ودادِه
أَرادَ الغَوانِي فحَذَفَ تَشْبيهًا للامِ المَعْرِفةِ بالتَّنْوينِ من حيثُ كانَتْ هذه الأشْياءُ من خَواصِّ الأسْماءِ.
قالَ الجَوْهرِي: وأَمَّا قولُ ابنُ الرّقَيَّات:
لا بارَكَ اللهُ في الغَوانِي هَلْ *** يُصْبِحْنَ إلَّا لَهُنَّ مُطَّلَبُ؟
فإنَّما حرَّكَ الياءَ بالكَسْر للضَّرُورَةِ ورَدَّه إلى أَصْلِه، وجائِزٌ في الشِّعْرِ أَن يُرَدَّ إلى أصْلِه.
وقد غَنِيَتْ، كرَضِيَ غِنًى. ويقالُ: أَغْنَى عنه غَناءَ فُلانٍ، كسَحابٍ، ومَغْناهُ ومَغْناتَهُ، ويُضمَّانِ، أي نابَ عنه، كما في المُحْكم.
وفي التَّهذيبِ والصِّحاح: أَي أَجْزَأَ عنْكَ مُجْزَأَهُ وَمَجْزَأَهُ ومُجْزَاتَه.
وقالَ الرَّاغبُ: أَغْنَى عنه كذا إذا كَفَاهُ، ومنه قولُه تعالى: {ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ}، و {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ}.
وحَكَى الأزْهرِي: ما أَغْنَى فلان شيئًا بالعَيْن والغَيْن: أَي لم يَنْفَع في مُهمِّ ولم يَكْفَ مُؤْنَةً.
وقالَ أَيْضًا: الغَناءُ، كسَحابٍ: الإجْزاءُ. ورجُلٌ مُغْنٍ: أَي مُجْزٍ كافٍ وسَمِعْتُ بعضَهم يُؤَنِّبُ عَبْدَه ويقولُ: أَغْنِ عنِّي وَجْهَكَ بل شَرَّكَ؛ أَي اكْفِنِي شَرَّكَ وكُفَّ عنِّي شَرَّك، ومنه قولُه تعالى: {شَأْنٌ يُغْنِيهِ}؛ أَي يَكْفِيه شُغْلُ نَفْسِه عن شُغْلِ غيرِهِ.
ويقالُ: ما فيه غَناءُ ذاك: أَي إقامَتُه، والاضْطِلاعُ به، نقلَهُ ابنُ سِيدَه.
وغَنِيَ بالمَكانِ، كَرَضِيَ: أَقام به غِنًى.
وفي التَّهذيبِ، غَنِيَ القوْمُ في دارِهِم: إذا طالَ مُقامُهم فيها.
وقالَ الراغبُ: غَنِيَ في مَكانِ كذا، إذا طالَ مُقامُه مُسْتَغْنِيًا به عن غيرِهِ، ومنه قولُه تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}؛ أَي لم يُقِيموا فيها. وغَنِيَ: أَي عاشَ، نقلَهُ الجَوْهرِي.
وغَنِيَ: لَقِيَ، هكذا في النُّسخِ ولعلَّه بَقِيَ وسيَأْتي قرِيبًا ما يُحقِّقُه.
والمَغْنَى: المَنْزِلُ الذي غَنِيَ به أَهْلُه ثم ظَعَنُوا عنه.
قالَ الرَّاغبُ يكونُ للمَصْدرِ والمَكانِ، والجَمْعُ المغَانِي.
أَو عامٌّ؛ أَي في مُطْلقِ المَنْزلِ، وكأَنَّه اسْتِعْمالٌ ثانٍ.
وغَنِيتُ لكَ مِنِّي بالموَدَّةِ والبِرِّ: أَي بَقِيْتُ، نقلَهُ ابنُ سِيدَه، وهذا يُحقِّقُ ما تقدَّمَ من قوْلِه: وغَنِيَ بَقِيَ وقولُ الشَّاعِرِ:
غَنِيَتْ دارُنا تِهامَةَ في الدَّهَ *** رِ وفيها بَنُو مَعَدِّ حُلُولا
أَي كانَتْ، ومنه قولُ ابنِ مُقْبِل:
أَأُمَّ تَمِيمٍ إن تَرَيْنِي عَدُوُّكُم
وبَيْتِي فقد أَغْنى الحبيبَ المُصافِيا
أَي أَكونُ الحَبيبَ.
وقالَ الأزْهرِي: يقالُ للشيء إِذا فَنِيَ كأَنْ لم يَغْنَ بالأمْسِ؛ أَي كأَنْ لم يَكُنْ.
وغَنِيَتِ المرْأَةُ بزَوْجِها غُنْيانًا، بالضَّمِّ، وغِنَاءً: اسْتَغْنَتْ بهِ، ومنه اشْتِقاقُ الغانِيَةِ، وأَنْشَدَ الجَوْهرِي لقيْس ابن الخَطِيم:
أَجَدَّ بعَمْرة غُنْيانُها *** فتَهْجُرَ أَمْ شانُنا شانُها؟
والغِناءُ، ككِساءٍ، من الصَّوْتِ: ما طُرِّبَ به، قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْر:
وعَجِبْتُ به أَنَّى يكونُ غِناؤُها
وفي الصِّحاح: الغِناءُ، بالكسْرِ، من السماعِ.
وفي النِّهايةِ: هو رَفْعُ الصَّوْتِ وموالاته.
وفي المِصْباح: وقِياسُه الضَّم لأنَّه صَوْتٌ.
والغَناءُ، كسَماءٍ: رَمْلٌ بعَيْنِه، هكذا ضَبَطَه الأزْهرِي، وأَنْشَدَ لذي الرُّمَّة:
تَنَطَّقْنَ من رمْلِ الغَناءِ وعُلِّقَتْ *** بأَعْناقِ أُدْمانِ الظِّباءِ القَلائِدُ
أَي اتَّخَذْنَ من رَمْلِ الغَناءِ أَعْجازًا كالكُثْبانِ، وكأَنَّ أَعْناقَهُنَّ أعْناقُ الظِّباءِ. وهو في كتابِ المُحْكم بالكَسْر مع المدِّ مَضْبوطٌ بالقَلَمِ، وأَنْشَدَ للرَّاعي:
لها خُصُورٌ وأَعْجازٌ يَنُوءُ بها *** رَمْلُ الغِنَاءِ وأَعْلَى مَتْنِها رُودُ
وغَنَّاهُ الشِّعْرَ، وغَنَّى به تَغْنِيَةً وتَغَنَّى به بمعْنًى واحِدٍ، قالَ الشاعرُ:
تَغَنَّ بالشِّعْرِ إِمَّا كنتَ قائِلَه *** إنَّ الغِناءَ بهذا الشِّعْرِ مِضْمارُ
أَي: إنَّ التَّغَنِّي، فوَضَعَ الاسْمَ مَوْضِعَ المَصْدرِ. وعليه حُمِلَ قوْلُه صلى الله عليه وسلم: «ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ كَإِذْنِهِ لنَبيِّ أَن يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ»، قالَ الأزْهرِي: أَخْبَرنِي عبدُ الملِكِ البَغَوي عن الرَّبيعِ عن الشافِعِي أَنَّ مَعْناه تَحْزِينُ القِراءَةِ وتَرْقِيقُها، ويَشْهَدُ له الحديثُ الآخَرُ: «زَيِّنُوا القُرْآنَ بأصْوَاتِكُم»، وبه قالَ أَبو عُبيدٍ. وقالَ أَبُو العبَّاس: الذي حَصَّلْناه من حُفَّاظ اللغَةِ في هذا الحديثِ أَنَّه بمعْنَى الاسْتِغْناءِ، وبمعْنَى التَّطْرِيبِ.
وفي النهاية: قالَ ابنُ الأعْرابي كانتِ العَرَبُ تَتَغَنَّى بالرُّكْبانِ إذا رَكِبَتِ، وإذا جَلَسَتْ، فَأَحَبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أن يكونَ هِجِّيرَاهُم بالقُرآنِ مكانَ التَّغنِّي بالرُّكْبانِ.
وغَنَّى بالمرْأَةِ: تَغَزَّلَ بها؛ أَي ذَكَرَها في شِعْرِه، قالَ الشاعرُ:
ألا غَنِّنا بالزَّاهِرِيَّة إِنَّني *** على النَّأْي ممَّا أَن أُلِمَّ بها ذِكْرَا
وغَنَّى بزَيْدٍ: مَدَحَهُ، أَو هَجَاهُ، كتَغَنَّى فيهما؛ أَي في المدْحِ والهَجْوِ، ويُرْوَى أَنَّ بعضَ بَني كُلَيْب قالَ لجريرٍ: هذا غَسَّانُ السَّلِيطِي يَتغَنَّى بنا أَي يَهْجُونا، قالَ جريرٌ:
غَضِبْتُم علينا أَمْ تَغَنَّيْتُم بنا *** أَنِ اخْضَرَّ من بَطْنِ التِّلاعِ غَمِيرُها
قالَ ابنُ سِيدَه: وعنْدِي أنَّ الغَزَلَ والمَدْحَ والهِجاءَ إنَّما يقالُ في كلِّ واحِدٍ منها غَنَّيْت وتَغَنّيْت بَعْدَ أن يُلَحَّنَ فيُغَنَّى به.
وغَنَّى الحَمامُ: صَوَّتَ، قالَ القُطامي:
خلا أنها ليست تغنى حمامة *** على ساقها إلّا ادَّكرتَ ربابا
وبَيْنَهُم أُغْنِيَّةٌ كأُثْفِيَّةٍ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهرِي، ويُخَفَّفُ، عن ابنِ سِيدَه، قالَ: وليسَتْ بالقَوِيَّة إذ ليسَ في الكَلامِ أُفْعُله إلَّا أُسْنُمة، فيمَنْ رَواهُ بالضمِّ.
* قُلْت: الضمُّ في أُسْنُمة رُوِيَ عن ثَعْلب وابنِ الأعْرابي، وقد ذُكِرَ في محلِّه. ويُكْسَرانِ، نقلَهُ الصَّاغاني عن الفرَّاء: نَوْعٌ من الغِناءِ، يَتَغَنّونَ به، والجمْعُ الأغاني، وبه سَمَّى أَبو الفَرَج الأصْبَهاني كتابَهُ لاشْتِمالِه على تَلاحِين الغِناءِ، وهو كِتابٌ جليلٌ اسْتَفَدْتُ منه كثيرًا.
وتَغانَوْا: اسْتَغْنَى بعضُهم عن بعضٍ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِي للمُغِيرَة بنِ حَبْناء التَمِيمِي:
كِلانا غَنِيٌّ عن أَخيهِ حَياتَه *** ونَحْنُ إذا مُتْنا أَشَدُّ تَغانِيَا
والأَغْناءُ، بالفَتْح: إِمْلاكاتُ العَرائِس، نقلَهُ الأزْهرِي.
ومَكانُ كذا غَنًى من فُلانٍ، بالفَتْح مَقْصورٌ، ومَغْنًى منه: أَي مَئِنَّةٌ، منه.
وغَنِيٌّ، على فَعِيلٍ: حَيٌّ من غَطَفانَ، كذا في الصِّحاحِ، والنِّسْبَةُ إليه غَنَوِيٌّ، محرَّكةً.
قالَ شيْخنا: وقد اغْتَرَّ المصنِّفُ بالجَوْهرِي، والذي ذكَرَه أَئِمَّة الأنْسابِ أنَّه غَنِيُّ بنُ أَعْصر، وأَعْصر هو ابنُ سعْدِ بنِ قَيْسِ بنِ عَيْلان، وغَطَفانُ بنُ سعْدِ بنِ قَيْسِ بنِ عَيْلان، كما قالَه الجَوْهرِي نَفْسُه، فأَعْصر أَخُو غَطَفان، وباهِلَةُ وغَنِيُّ ابْنا أَعْصر، فليسَ غَنِيٌّ حيًّا من غَطَفان كما توهَّم المصنِّفُ تَقْليدًا.
* قُلْت: هو كما ذَكَر، فإنَّ سِياقَهم يدلُّ على أنَّ غَطَفانَ عَمُّ غَنِيٍّ، وقد يُجابُ عن الجَوْهرِي والمصنِّفِ أنَّه قد يُعْتَزى الرَّجُل إلى عَمِّه في النّسَبِ، وله شواهِدُ كَثِيرَةٌ في النّسَبِ مع تأمُّلٍ في ذلكَ.
وسَمَّوْا غُنَيَّةَ وغُنَيًّا، كسُمَيَّةَ وسُمَيِّ. أَمَّا الأوَّل فلم أَجِدْ له ذِكْرًا في الأسْماءِ، وضَبَطَه الصَّاغاني على فعِيلة. وأَمَّا الثَّاني فمُشْتركٌ بينَ أَسْماءِ الرِّجالِ والنِّساء، فمن الرِّجال: غُنَيُّ بنُ أَبي حازِمٍ الذُّهْلي سَمِعَ ابنَ عُمَر، وناصِرُ بنُ مَهْدي بنِ نَصْر بنِ غُنَيٍّ عن عَبْدان الطَّائي عن عليِّ بنِ شعيبٍ الدهَّان وعنه السَّلَفي ومِن النِّساء: غُنَيُّ بنْتُ شَيْبان زوْجُ مَخْزوم بنِ يَقَظَة، وغُنَيُّ بنْتُ مُنْقذِ بنِ عَمْرو، وغُنَيُّ بِنْتُ عَمْرِو بنِ جابِرٍ، وغُنَيُّ بنْتُ حَرَّاق.
وتغَنَّيتُ: اسْتَغْنَيْتُ، وهذا قد تقدَّمَ في أَوَّلِ سِياقِه فهو تِكْرارٌ.* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: تَغَنَّى الحَمامُ: مثْلُ غَنَّى، قالَ الشاعرُ فجَمَعَ بينَ اللغتينِ:
أَلا قاتَلَ اللهُ الحَمامَةَ غدْوَةً *** على الغُصْنِ ما ذا هَيَّجَتْ حينَ غَنَّتِ
تَغَنَّتْ بصَوْتٍ أَعْجميٍّ فهَيَّجَتْ *** هَوايَ الذي كانتْ ضُلوعي أَجَنَّتِ
وقيل: سُمِّي المُغَنَّي مُغَنِّيًا لأنَّه يَتَغَنَّن، وأُبْدِلَتِ النونُ الثانِيَة، كذا ذَكَرَه ابنُ هِشَام في النونِ المُفْردَةِ من المُغْنِي عنِ ابنِ يَعِيش، ونقلَهُ شيْخُنا، وعليه فموْضِعُه النُّون.
وغَنِيُّ بنُ الحارِثِ، على فَعِيلٍ، عن حاتِمِ الأصَمّ.
والغَنِيُّ في أَسْماءِ اللهِ تعالى الذي لا يَحْتاجُ إلى أَحَدٍ في شيءٍ.
والمُغْنِي: الذي يُغْنِي مَنْ يَشاءُ من عِبادِه.
وفي حديثِ الصَّدقَةِ: «ما كانَ عن ظَهْرِ غِنًى»؛ أَي ما فَضَل عن قُوتِ العِيالِ وكِفايتِهِمْ.
وغَنِيَّةُ بنْتُ رضى الجُذاميَّةُ، على فَعِيلةٍ، رَوَتْ عن عائِشَة، وعنها حَوْشَبُ بنُ عقيلٍ.
وحُمَيْدُ بنُ أَبي غنيَّة عن الشَّعْبِي، وابْنُه عبْدُ المَلِكِ وقد يُنْسَبُ إلى جدِّه عن أَبي إسْحاق السُّبَيْعي، وعنه ابْنُه يَحْيى، وثَلاثَتُهم ثِقات.
وغَنِيَّةُ بنتُ أَبي إهابِ بنِ عَزيزِ بنِ قيْسِ بنِ سُويدٍ الدَّارمي.
وغَنِيَّةُ بنْتُ سمعان العَدَوِيَّة، عن أمِّ حَبِيبَةَ، قَيَّدَها ابنُ نُقْطَة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م