نتائج البحث عن (اعْتَبِرْنَا)
1-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قرطس)
(قرطس): {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ....} [الأنعام: 7]القِرْطاس: كل أديم يُنْصَب للنضال (يتبارى الرماة في إصابته بسهامهم) ويسمّى الغَرَضَ، فإذا أصابه الرامي قيل قَرْطَسَ. والقرطاس - مثلثه: الصحيفة الثابتة التي يكتب فيها. ويقال فيها القَرْطَس - بالفتح والكسر كذلك.
° المعنى المحوري
رَقٌّ ينبسط ممتدًّا يُخْرق بسهم أو يُؤَثَّر فيه بما يشبه ذلك وهو الكتابة بقلم له سن دقيق يرسم فيه. وقد نشأت الكتابة نقشًا في الحجارة، وخَدْشًا في الطين، ورسمًا على العُسُب إلخ. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7]، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} [الأنعام: 91] أي صُحفًا. ومنه يقال للجارية البيضاء المديدة القامة (مبسوطتها) قِرْطاس وكذلك الناقة الفتية الشابة.
وإذا اعتبرنا:
أ) استعمال العرب للكلمة وشمول معناها لكثير يتحقق فيه نفس المعنى.
ب) تعبير (قرط) عن تدلي الشيء الدقيق لاصقًا بشيء (والتدلي انبساط مع التعلق وفيه مناسبة لمعنى القرطاس).
ج) تعبير (قر) عن ثبات في قاع (وهذا أيضًا يناسب إثبات السهم والكتابة في القرطاس).
د) وكذلك بالنظر إلى كلمة القُرْطاط والقُرْطان بالكسر والضم فيهما التي تعني الحِلْس للرَحْل، وهو كالثوب العريض يُغَطّي الظهر تحت الرحْل، ويتلقى العرق من البدن ويمتصه - وهذا وجه شبه لها بالقرطاس... من كل ذلك يتبين أن الكلمة ليست غريبة المعنى عن العربية، وأن زعم تعريبها عن
اليونانية كما في المعرب (تح د. ف عبد الرحيم 529) ضعيف، وقد ذكر هو أن الكلمة في السريانية أيضًا. وهذا يقرّب نسبتها إلى المشترك الجزري.
هـ) كذلك فإن استعمال القُدْموس بمعنى القديم والضخم العظيم وهو قريب من معنى (قَدُم)، والقِرْناس - بالكسر: شبه أنف يتقدم من الجبل وهو مناسب لمعنى القَرْن، والقَرْدَسة: الصلابة والشدة وهي مناسبة لمعنى (القرد) من ذلك وغيره يتبين أن لا غرابة في كلمة قرطاس، وأن دعوى التعريب رجم بالظن.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
2-المعجم الجغرافي للسعودية (القاع)
القاع: قال في كتاب «المناسك»: (ومن القاع إلى زبالة ثمانية عشر ميلا ونصف، وبالقاع مسجدان وقصر، وهو أحصن منازل الطريق بناء، وبه نخلة في وسطه، وبه بركة تعرف بالقصرى وبالسهابية، وإلى جانبها بركة تعرف بالمصفاة، وبركة تعرف بالعتيقة وبئر فتحها أربع أذرع، وطول رشائها ثمان وثمانون قامة، ليس في الطريق أطول منها. وعلى ثلاثة أميال ونصف من القاع قباب مبنية عن يسرة الطريق لخالصة، وعندها أزج يجتمع فيه ماء السماء. انتهى.وفي «معجم البلدان»: قاع منزل بطريق مكة، تدّعيه أسد وطيّء، منه يرحل إلى زبالة، ويوم القاع من أيام العرب، قال أبو أحمد: يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم، وفي هذا اليوم أسر أوس بن حجر، أسره بسطام بن قيس الشيبانيّ.
قال موزل: ومن المحتمل أن يكون القاع هو آبار الهيثم. انتهى.
وعلى هذا الأساس وضع راسمو خريطة درب زبيدة اسم القاع بجوار الهيثم، مع أن صاحب كتاب «المناسك» قد فرق بين الموضعين، فذكر أن الهيثم على ستة أميال من القاع، نحو زبالة، ولكننا إذا اعتبرنا المسافة التي حددها صاحب «المناسك» بين القاع وبين زبالة وهي ثمانية عشر ميلا ونصف (نحو 36 كيلا) وأن بينه وبين العقبة 20 ميلا (نحو 40 كيلا) فإننا نقبل رأي موزل، فتقدير المسافة بين الهيثم وبين العقبة وزبالة يكاد يتفق ـ أو يقارب ـ المسافة المحددة للقاع بالنسبة للموضعين المذكورين، وليس أمامنا سوى البحث عن محل للهيثم أقرب إلى زبالة من موضعه المعروف، فكيف هذا؟ ليس من المستبعد أن يكون اسم الهيثم أطلق في عصور متأخرة على موضع القاع لتقارب الموضعين، ثم جهل الموضع الصحيح للهيثم، وهذا يحدث في المواضع المتقاربة.
ويلاحظ أنّ موزل اعتبر في تحديد المسافات قول ابن خرداذبة الذي ذكر أن من العقبة إلى القاع 24 ميلا وقدرها موزل ب 8 و 40 كيلا) ومن القاع إلى زبالة 24 ميلا أيضا (8 و 40 كيلا) وهذا لا يتفق مع تحديد صاحب «المناسك» الذي قدرها بين القاع وزبالة بثمانية عشر ميلا ونصف، وقدر غيره المسافة بين القاع والعقبة بعشرين ميلا، وهذا يقل عما اعتمد موزل بنحو تسعة أميال ونصف (نحو 19 كيلا) بين العقبة وزبالة. فهو يحدد كل المسافة ب 6 و 81 كيلا وهي في الواقع أقل بنحو 20 كيلا. وقال موزل ـ في تعليقه على وصف طريق الكوفة الوارد في «رحلة ابن جبير» ـ: وتتألف الهيثمان في الحقيقة من محطتين: احداهما القاع، والثانية الهيثم.
وسنعود لبحث الموضوع في الكلام على الهيثم.
ويقع القاع ـ باعتباره في موضع الهيثم ـ شمال الجميمة الواقعة شرق بلدة رفحا، على مسافة تقرب من عشرين كيلا، والجميمة في المنتصف بينه وبين زبالة (القاع بقرب خط الطول: 36؟ ـ 43؟ وخط العرض 46؟ ـ 29؟). ويبعد القاع (الهيثم) عن العقبة 47 كيلا وعن زبالة 43 كيلا حسبما حدد موزل. والفرق بين هذا وما ورد عن المتقدمين يسير.
وقد يقال: لماذا لا يكون موقع القاع شمال موقع الهيثم؟ والجواب أن المسافة بين الهيثم المعروف الآن وبين العقبة تقارب المسافة بين الهيثم وبين زبالة، والزيادة ناشئة عن سير السيارة التي قسنا بها المسافة فهي لا تتطابق في السير مع الابل، وكلام صاحب «المناسك» ينص على أن الهيثم لا يبعد عن زبالة أكثر من؟؟ 2 ـ 1 12 ميلا (أي نحو 25 كيلا) وموقعه الآن 43 كيلا على ما حدد موزل.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
3-المعجم الجغرافي للسعودية (القبيبات)
القبيبات: بعد الجريسيّ (للمتجه إلى مكة) بخمسة أميال قباب يسرة الطريق، يقال لموضعها القبيبات كذا في كتاب «المناسك»وفي كتاب نصر: (القبيبات: بموحدتين ـ ماء في ديار تميم، بنجد، بين العذيب والمعيثة على جادّة الحاجّ).
وفي «معجم البلدان»: القبيبات بئر دون المغيثة بخمسة أميال بعد وادي السباع وهي بئر وحوض وماؤها قليل عذب، ورشاؤها نيف وأربعون قامة.
أما ابن خرداذبة فقد جعل القبيبات قبل القاع بينه وبين العقبة على 14 ميلا منها، وأورد لأعرابيّ:
«هل لنا من زماننا***بالقبيبات مرجع؟»
هذه الاقوال مختلفة أشد الاختلاف:
فصاحب «المناسك» يراها جنوب القاع بنحو أحد عشر ميلا، وقبل زبالة بنحو سبعة أميال ونصف.
وياقوت يراها بين المغيثة وبين وادي السباع، أي أقرب إلى النجف منها إلى القاع.
وابن خرداذبة يجعلها شمال القاع بينه وبين العقبة ولا مخرج من هذا الاختلاف إلا إذا اعتبرنا الاسم يطلق على مواضع، وكل قول ينطبق على موضع منها.
ويقع شمال زبالة على مسافة تقرب من المسافة التي حددها صاحب كتاب «المناسك» بركة وآثار قديمة بعد جزع الوادي في مرتفع من الأرض.
أما القبيبات الذي ذكر ابن خرداذبة فقد قال موزل عنها: من الممكن أن تتطابق هي وبركة الحمدي التي تبعد عن واقصة 24 كيلا وهو يقصد بركة (عثامين) ولكن هذه تقع شمال العقبة الواقعة شمال القاع. والواقع أن تعبيرات ابن خرداذبة يشوبها الغموض، فهو بعد أن يذكر الموضع، يرجع ويقول: والمتعشى في الموضع الفلاني، يقصد موضعا يقع قبله، ومن هنا يقع الغموض في تحديده.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
4-المعجم الجغرافي للسعودية (الهيثم)
الهيثم ـ بفتح الهاء واسكان المثناة التحتية، وفتح الثاء المثلثة وآخره ميم، ومن معاني الكلمة في اللغة: الرّمل الأحمر ـ: والهيثم.موضع ما بين القاع وزبالة بطريق مكة على ستة أميال من القاع، فيه
بركة وقصر لأمّ جعفر، ومنه إلى الجريسي ثم زبالة قال الطرمّاح يصف قداحا أجيلت فخرج لها صوت:
«خوار غزلان لوى هيثم ***تذكّرت فيقة آرامها»
كذا في «معجم البلدان» وديوان الطرماح» والفيقة اللبن يجتمع في الضرع بين الرضعتين أو الحلبتين.
وقال في كتاب «المناسك» في وصف طريق المصعد: (وعلى ستة أميال من القاع قبل المشرف يسرة الطريق بركة زبيدية وقباب ومسجد وهي الهيثم، ولها مصفاة). وسماه ابن بطوطة الهيشمين، وقد مرّ به سنة 727 وذكر أن فيه مصنعين (بركتين) ويرى موزل أن الهيثم هو ما كان يعرف باسم (القاع) ولكن هذا لا يتفق مع ما تقدم. وقد أشرت في الكلام على القاع إلى أنّ موقعه ـ إذ اعتبرنا تحديد المسافات من قبل المتقدمين صحيحة ـ هو موقع الهيثم الآن، وينبغي أن نبحث عن المكان الصحيح للهيثم الذي يقع بعد القاع نحو زبالة بستة أميال (13 كيلا) أي أنه قبل زبالة باثني عشر ميلا ونصف (نحو 27 كيلا) وأقرب موضع ينطبق عليه تحديد المسافة بالنسبة لزبالة هو بركة الثّليماء.
الواقعة شمال بركة الجميمة، غير بعيدة عنها. وعلى هذا تكون بركة الجميمة هي الجريسي، وهذا يتفق مع رأي موزل أعنى بالنسبة للجميمة، وهو يحدد المسافة بين الهيثم (القاع) وبين بركة الجميمة (الجريسى) ب 21 كيلا، وهذا قريب من الصواب، باعتبار الهيثم هو القاع وأن الهيثم هو ما يعرف الآن باسم الثّليماء وأنّ الجميمة هى بركة الجريسى (تقع بركة الثّليماء بقرب خط الطول 38؟ ـ 43؟ وخط العرض 38؟ ـ 29؟) وقال موزل ـ ما تعريبه في الكلام على بركة الهيثم: وإلى الجنوب الغربي من القلعة المهدمة كانت تقع بركة يبلغ طولها حوالى مئتي متر، وعرضها 150 مترا، تمتدّ من الشمال إلى الجنوب. وإلى الشمال الشرقي من القلعة فهناك بئران جافان، خلفهما بركتان واسعتان، كانت أبعدهما جنوبا ممتلئة بالحجارة، وإلى الشمال الغربي من القلعة القديمة يعلو حصن عامر، كان قد شيّده الأمير محمد بن رشيد. انتهى.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
5-المعجم المفصل في النحو العربي (التصغير الأصلي)
التّصغير الأصليّ1 ـ تعريفه: هو تغيير يطرأ على هيئة الاسم فتتغيّر صيغته ويصير على وزن: «فعيل»، مثل: «فليس»، أو «فعيعل»، مثل: «إصبع أصيبع»، أو «فعيعيل»، مثل: «سلطان سليطين» «قنيديل» و «دنينير» وتسمّى هذه الصيغ الثلاثة صيغ التّصغير لأنها مختصة به وليست جارية على الميزان الصرفيّ العام، فمثل: «أحمد» تصغيره «أحيمد» على وزن «أفيعل» في الميزان الصّرفي العام ولكنّها في صيغة التّصغير على وزن «فعيعل». ويسمّى التّصغير عند بعض النّحاة التّحقير.
2 ـ الغرض منه: أغراضه كثيرة ومعانيه كثيرة تختلف بين المعاني الحسنة وغيرها منها:
1 ـ التحقير فتقول في تحقير «بطل بطيل» و «رجل رجيل» و «كاتب كويتب».
2 ـ تقليل ذات الشيء، مثل: «نهر نهير» «طفل طفيل»، «ولد وليد»، «قلم قليم».
3 ـ تقليل عدد الذّات، مثل: «دريهمات» «وريقات»، «سويعات»، «أويقات».
4 ـ تقريب الزّمان، مثل: «قبل قبيل»، «بعد بعيد»، مثل: «استيقظ قبيل الصبح».
5 ـ تقريب المكان، مثل: «فويق» «تحيت» «قريب»، مثل: «بيتي قريب النّهر».
وقد يكون المكان مما يراد فيه المنزلة، مثل: «فضل المدير فويق فضل الأستاذ».
6 ـ التحبّب، مثل: يا بنيتي، يا بنيّ يا أخيّ.
7 ـ إظهار الرّحمة والشّفقة، مثل: «مسكين مسيكين».
8 ـ رفع الشّأن، مثل: «جاء وليد تحفظه ثلّة من الرجال العظام».
3 ـ شروط الاسم الذي يلحقه التصغير: لا يصغّر من الكلمات إلا الاسم، فلا يصغّر الفعل ولا الحرف. ويشترط في الاسم الذي يدخله التّصغير ثلاثة شروط هي:
أولا: أن يكون معربا، إذ لا تصغّر الأسماء المبنيّة كالضمائر وأسماء الشرط وأسماء الاستفهام... إلا ما ورد منها مصغرا مسموعا، وأشهر ما سمع مصغرا:
1 ـ المركّب المزجي عددا كان أم علما، مثل: «أحد عشر» و «أحيد عشر»، ومثل: «نفطويه نفيطويه».
2 ـ «ذا» و «تا» و «أولى» أو «أولاء» فقد سمع في تصغيرها «ذيّا» بفتح الذال الحرف الأول وقلب الألف الحرف الثاني «ياء» وتدغم هذه «الياء» بياء التصغير وتزاد بعدها ألف جديدة ومثلها: «تيّا» و «أوليّا»، الأصل «أولى»، بفتح اللّام وقلب الألف المقصورة «ياء» وإدغامها بياء التّصغير وزيادة الألف بعد «الياء المشدّدة» و «أوليّا» بالهمزة الممدودة بعد «ياء» التّصغير أو «اوليّاء» ومن المسموع أيضا تصغير «ذان» و «تان» على: «ذيّان وتيّان» مع أنهما معربان وتصغيرهما قياسي ولكنهما لم يصغّرا حسب ما يقتضيه التّصغير، ومن هنا الشّذوذ.
3 ـ الذي والتي والذين وسمع فيها عند التّصغير اللذيّا واللّتيا، بفتح اللام «اللّذيا» أو ضمّها اللّذيا، وإدغام «ياء» التّصغير بياء الكلمة، و «اللّذيّن» بضم الأول وفتح الثاني وإدغام ياء التصغير بياء الكلمة وكسرها بعد الإدغام، وهي للمذكر و «اللّتيّات» للمؤنث. فتقول: «جاء اللّذيان ودّعتهما»، و «رأيت اللّذيّين»، و «مررت باللّذيّين» و «جاءت اللّتيان» و «رأيت اللّتيين» و «مررت باللّتيّين»، «وجاء اللّذيين» و «رأيت اللّذيّين» و «مررت باللّذيّين».
4 ـ المنادى المبنيّ، فتقول في تصغير يا عبد: يا عبيد.
5 ـ صيغة «أفعل» في التّعجب فتقول في تصغير ما أحلى الربيع: «ما أحيلى الربيع».
ثانيا: ألّا يكون الاسم مصغرا في اللّفظ، مثل: «كميت، دريد، سويد» أعلام أشخاص، ومثل: «كعيت» اسم بلبل، أما إذا كان الاسم غير مصغّر ولكن مادّته وتكوينه الاشتقاقي جعلاه من صيغة التّصغير جاز تصغيره، مثل: «مهيمن» اسم فاعل من «هيمن» و «مسيطر» اسم فاعل من «سيطر» و «مبيطر» اسم فاعل من «بيطر» فتصغّر هذه الأسماء بحذف «الياء» وإحلال «ياء» التّصغير مكانها، فلا يتغيّر لفظها إنما نفرّق بينهما في جمع التّكسير للكثرة فنقول «مهامن» في الصورة الأصلية، ولا تجمع الصورة المصغّرة هذا الجمع بل تجمع جمع مذكر سالم، فتقول: «مهيمنون» و «مسيطرون» و «مبيطرون». ولو جمع المصغّر جمع تكسير بحذف يائه لاختلط الأمر أهو في الصورة الأصليّة: «مهامن» «مساطر»، «مباطر» أم في الصورة المصغّرة، لذلك يمتنع تصغير الاسم المصغّر وبالتالي جمعه مكسرا.
ثالثا: أن يكون المعنى قابلا للتّصغير فلا تصغّر أسماء الله والأنبياء والملائكة، ولا تصغّر لفظة «كل» لدلالتها على الشمول، ولا كلمة بعض لأنها تدلّ على التقليل، ولا أسماء الشّهور، لأن اسم الشّهر يدلّ على مدة معيّنة من الوقت لا تقبل الزيادة ولا النّقصان مثل: شهر «صفر» «رمضان»، «شباط»، ولا أيام الأسبوع مثل: «السبت» «الاثنين»... ولا الألفاظ المحكيّة، لأنها تقتضي ترديد اللّفظ كما هو في غير تغيير، وكذلك لا تصغر كلمة «غير» ولا «سوى» لأنهما تقتضيان المغايرة المطلقة، ولا كلمة «البارحة» لأنها تدل على اليوم الذي قبل يومنا فلا تحتمل التّصغير ولا كلمة «غد» لسبب عينه، فإنها تدل على يوم مقبل، ولا تصغّر الأسماء الدالّة على النّفي مثل: «غريب» و «ديّار» فتقول: «ما في البيت غريب ولا ديّار» أي: ليس فيه أحد، ولا تصغّر المشتقات التي تعمل عمل فعلها، لأنها تعمل بشرط عدم التّصغير لأنه يقرّبها من الأسماء ويبعدها من الأفعال إلا كلمة «رويدا» ولا يصغّر جمع التّكسير للكثيرة ولا المركّب الإسنادي، أمّا جمع القلّة فيجوز تصغيره فتقول في تصغير أجمال: «أجيمال» وفي قلم: «قليم» وفي صبية: «صبيّة» وفي أقمشة: «أقيمشة» ويصحّ تصغير اسم الجمع مثل: «شعب» «شعيب»، «قوم، قويم» رهط رهيط».
4 ـ حكم التصغير الأصلي: هذا الحكم يختلف باختلاف الاسم فقد يكون ثلاثيا، أو رباعيا، أو خماسيّا...
أـ حكم الاسم الثلاثي في التّصغير:
1 ـ إذا كان الاسم ثلاثيّا يضمّ أوّله، ويفتح ثانيه وتزاد بعده ياء ساكنة تسمّى ياء التّصغير ويبقى الثالث على الحركة التي تناسب العامل في الإعراب، فتقول في تصغير «حسن» في الجملة: «جاء حسن»: «جاء حسين» وسهيل مثله.
وصيغته «فعيل»، كقول الشاعر:
«وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ***وروّح رعيان ونوّم سمّر»
وفيه «قمير» تصغير «قمر» الاسم الثّلاثي، وبقي على رفعه، وصيغته «فعيل» ولا يعدّ من التّصغير في كلمة «زمّيل» لأن الحرف الثاني ساكن ومدغم في مثيله «والياء» السّاكنة رابعة، ومثل ذلك في كلمة «لغّيزى».
2 ـ أمّا إذا كان الثّلاثي الأصل متصلا «بتاء» التأنيث يصغّر كالثّلاثي على وزن «فعيل» فتقول في تصغير شجرة: «شجيرة» وفي تمرة: «تميرة».
وإن كان الثّلاثي قد حذف منه أحد أصوله وبقي على اثنين أعيد الحرف المحذوف عند التّصغير فتقول في الأعلام التالية: «كل»، «وبع»، «ويد» «أكيل» «وبييع» و «يديّ» إذ الأصل «أكل» و «بيع» و «يدي» أعلاما.
ويجري هذا الحكم على الاسم المحذوف أحد أصوله وعوّض منه بتاء التأنيث فإنه يرجع عند التّصغير فتقول في تصغير «عدة» و «سنة»: «وعيدة» و «سنيّة» أو «سنيهة» أعلاما. والأصل «وعد» و «سنو» أو «سنة» ومثل: تصغير بنت وأخت: «بنيّة» و «أخيّة» فيعاد المحذوف إذ الأصل: «بنيوة» و «أخيوة» حيث اجتمعت «الواو» و «الياء» في كلمة واحدة وبدون فاصل بينهما وسبقت إحداهما السّكون تقلب «الواو» «ياء» وتدغمان أمّا إذا كان الاسم على ثلاثة أحرف بعد حذف أحد حروفه الأصلية فلا يرجع المحذوف ويصغّر على وزن «فعيل» فتقول في تصغير «هاد»: هويد.
وإذا كان الاسم العلم في أصله موضوعا على حرفين وأريد تصغيره، فإمّا أن نضعّف الحرف الثاني وندخل الياء بين المثلين فتقول في «هل» علما «هليل» وفي «بل» «بليل» أو نضعف «الياء» في الآخر فتقول: «هليّ» و «بليّ».
3 ـ إذا كان الثّاني من الاسم العلم الذي يراد تصغيره حرف علّة فيجب تضعيفه فتقول في تصغير الأعلام «لو» و «كي» و «ما»: «لويو» فتصير بعد قلب «الواو» «ياء» لويّ. إذا اجتمعت «الواو» و «الياء» وسبقت إحداهما السّكون فقلبت «الواو» «ياء» وأدغم المثلان. كما تقول: «كييّ» بثلاث «ياءات»، الأولى منها هي الأصلية والثانية «ياء» التصغير والثالثة الزّائدة للتّضعيف، كما تقول: «مويّ» حيث انقلبت الألف في كلمة «ما» «واوا» لأنها مجهولة الأصل ثم تليها «ياء» التّصغير وقلبت «الألف» الثانية من المضعّفة للتّصغير «ياء» لوقوعها بعد «الياء» التي للتصغير وأدغمت فيها.
وتقول في تصغير كلمة «ماء»: «مويه» لأن الأصل: «موه» بدليل جمعها على «أمواه». فلما تحرّكت «الواو» في «موه» بالفتح وما قبلها مفتوح قلبت «ألفا» فصارت «ماه» ثم قلبت «الهاء» همزة بغير قياس فصارت «ماء» وفي التّصغير يرجع كل حرف إلى أصله.
4 ـ وإذا كان الثّلاثي للمؤنث وبدون تاء التّأنيث وأريد تصغيره ترجع تاء التأنيث منعا للبس، فتقول في تصغير «دار»: دويرة. إذ الألف أصلها «واو» وفي تصغير «أذن»: «أذينة» وفي تصغير «سنّ»: «سنينة» وفي كلمة «يد»: «يديّة» إذا الأصل: «يدي».
وإذا أوقعت زيادة تاء التّأنيث في اللبس فلا تزاد في التّصغير. ففي تصغير اسم الجنس «شجر» و «بقر»، تقول: «شجير» و «بقير»، ولا تقول «شجيرة» و «بقيرة» لأن ذلك يوقع في اللّبس بين أن يكون التّصغير لكلمة «شجرة» و «بقرة» أم لتصغير «شجر وبقر».
وكذلك يجب عدم زيادة «التاء» إذا كان الاسم في تصغيره دالّا على مذكّر ولو كان في أصله لمؤنّث فلو اعتبرنا الاسماء: «هند» و «دار» و «أذن» أعلام مذكر فتقول: «هنيد» و «دوير» و «أذين» بدون تاء التأنيث. من ذلك نقول: تزاد تاء التأنيث في الاسم الثّلاثي المؤنّث وقت تصغيره إذا لم يلتبس بغيره عند زيادتها لا فرق بين الثّلاثي الأصيل أو الثلاثي الطاريء فالثلاثي الأصيل كالأمثلة السابقة أمّا الثّلاثي الطاريء فمثل
تصغير كلمة «سماء»: تصغّر على «سميّة» علم لمؤنث. حيث ضمّ الحرف الأول من كلمة «سماء» وفتح الثاني وزدنا بعده «ياء» التّصغير فانقلبت «الألف» إلى «يا» وأدغمت في «ياء» التّصغير أمّا الهمزة المتطرّفة فرجعت إلى أصلها وهو «الواو» فانقلبت «الواو» «ياء» وفقا للقاعدة المذكورة سابقا من اجتماع «الواو» و «الياء» فصارت الكلمة «سميّي» فاجتمعت ثلاث ياءات: الأولى منها ياء التّصغير والثانية المنقلبة عن «الألف» والثالث المنقلبة عن «الواو» وهذا لا يقع في الكلام الفصيح فتحذف أولى الياءات لاجتماعها في الطّرف بعد عين الكلمة فصارت الكلمة «سميّ» ثم زيدت تاء التّأنيث فصارت «سميّة» إذ يجب فتح ما قبل تاء التأنيث دائما سواء أكانت في اسم مثل: «شجرة» أم في فعل مثل: «نامت» أم في حرف مثل: «ربّت».
وقد وردت سماعا كلمات مخالفة للقياس في التّذكير والتّأنيث فإنها تحفظ ولا يقاس عليها مثل تصغير كلمة رجل على: «رويجل»، وكلمة «مغرب» على: «مغيربان».
5 ـ وإذا كان الثّلاثي معتل العين وجب إعادة حرف العلة إلى أصله مثل: «باب» فتقول: «بويب»، «الألف» أصلها «واو» بدليل الجمع على «أبواب» ومثل: «ناب» تصغر على «نييب» لأن «الألف» أصلها «ياء» بدليل الجمع على «أنياب» ومثل: «عاب» أصلها «عيب» تصغير على وزن «فعيل» فتصير: «عييب» ومثلها ذام ذميم.
ب ـ حكم الاسم الربّاعي في التّصغير، وإذا كان الاسم الذي يراد تصغيره رباعيا حروفه كلها أصلية، أو فيها حروف زائدة فيصغّر بضم أوّله وفتح الثّاني وبعده تزاد «الياء» السّاكنة التي تسمّى «ياء» التّصغير، وكسر الحرف بعدها فتقول في تصغير «جعفر»: «جعيفر» وفي تصغير «بندق» «بنيدق» أي: يصغر الرّباعي على وزن «فعيعل».
أما إذا كان الحرف الثالث، حرف علّة فعند مجيء ياء التّصغير يجب قلبه «ياء» وتدغم في ياء التّصغير فتقول في تصغير «كتاب»: «كتيّب» فتقلب الألف «ياء» ومثل ذلك في: «سحاب» فتقول: «سحيّب» و «مقام»: مقيّم. وفي «صبور» «صبيّر» بقلب «الواو» «ياء» ومثل ذلك في عجوز: «عجيّز» وفي «بعوض» «بعيّض» وفي «سمير» «سميّر» حيث تدغم ياء التّصغير «بالياء» الأصليّة في الاسم ومثل ذلك في «وسيم»: «وسيّم» وفي «وليد» «وليّد» وفي «جميل» «جميّل» وفي «سعيد» «سعيّد» أمّا إذا تحرّكت الواو الأصلية الثالثة بعد ياء التّصغير فيجوز إبقاؤها، فتقول في تصغير «أسود»: «أسيّد» أو «أسيود».
ج ـ حكم الاسم الخماسي في التّصغير:
1 ـ إذا كان الاسم الذي يراد تصغيره فوق أربعة أحرف تحذف منه حروف الزّيادة الضّعيفة حتى يبقى على أربعة أحرف وعندئذ يصغّر على وزن «فعيعل»؛ فتقول في تصغير «سفرجل»: «سفيرج» بحذف «اللّام». وفي تصغير «فرزدق»: «فريزق» بحذف «الدال» أو «فريزد» بحذف «القاف» ومن حيزبون: «حزبين» وفي «مستنصر» «منيصر» بحذف الحرفين: «السّين والتاء» وفي «محرنجم» «حريجم» بحذف الحرفين «الميم والنون».
2 ـ وإذا كان الحرف الرّابع الأصليّ حرف لين يقلب «ياء» ويصغّر الاسم على وزن «فعيعيل» فتقول في تصغير «عصفور»: «عصيفير» وفي قنديل: «قنيديل» وفي «سلطان»: «سليطين».
وإذا حذف من الخماسي بعض حروفه الأصليّة
عند التّصغير على وزن «فعيعل» فيجوز زيادة «ياء» قبل الآخر عوضا عن المحذوف ويصير تصغيره على وزن «فعيعيل» فتقول في تصغير «فرزدق»: «فريزق» أو «فريزيق» أو «فريزيد» وفي «مستنصر»: «منيصر» أو «منيصير».
وردت أسماء فوق أربعة أحرف لا يحذف منها الحروف الضّعيفة منها:
1 ـ الأسماء المنتهية «بألف» ممدودة بعدها «همزة» فتبقى الألف والهمزة ويصغر الاسم على «فعيعل» فتقول في تصغير «قرفصاء»: «قريفصاء».
أمّا إذا كانت الألف مقصورة رابعة فتبقى وجوبا، فتقول في تصغير «كبرى»: «كبيرى» وإن كانت سادسة أو سابعة فتحذف وجوبا، فتقول في تصغير «لغّيزى»: «لغيغز» ويصحّ زيادة تاء التّأنيث فتقول: «لغيغزة» وتقول في تصغير «بردرايا»، اسم مكان: «بريدر» والأصل: «بريدراي» بحذف ألف التّأنيث ثم حذفت الألف والياء لأنهما زائدتان فصارت الكلمة: «بريدر» كما تحذف الألف المقصورة من كلمة «قرقرى» لأنه لم يسبقها حرف مدّ، فتقول في تصغيرها: «قريقر» أمّا إذا سبقها حرف مدّ، فيجوز أن تحذف أو أن تبقى أو أن يحذف المدّ، فتقول في تصغير «حبارى»، اسم طائر: «حبيرى» بقلب الألف «ياء» بعد ياء التصغير، وإبقاء الألف المقصورة في الآخر، أو تقول: «حبيّر» بحذف الألف المقصورة وحدها وبقاء حرف «الألف» مقلوبا «ياء». وتقول في تصغير «قريثى» نوع من التمر: «قريثى» بحذف «الياء» بعد ياء التّصغير وإبقاء الألف المقصورة ويجوز مدّها فتقول: قريثا» أو بحذف الألف المقصورة وإبقاء «الياء» بعد «ياء» التصغير فتقول: «قريّث».
2 ـ الاسم المنتهي بتاء التّأنيث إذا كانت خامسة فأكثر فيصغّر الاسم على «فعيعل» كأنّه رباعيّ وتبقى تاء التّأنيث فتقول في تصغير «جوهرة» «جويهرة» وفي تصغير «حنظلة»: «حنيظلة».
3 ـ الاسم المنتهي بياء النّسبة، فتبقى الياء ويصغّر كأنه رباعيّ على «فعيعل» فتقول في تصغير، «دمشقيّ»: «دميشقيّ» «أردني» «أريدنيّ».
4 ـ الاسم المنتهي بألف ونون زائدتين أو المثنى بألف ونون، فتبقى الألف والنون الزّائدتان في الاسم إذا كانتا فوق أربعة أحرف، فتقول في تصغير «زعفران» «زعيفران»، كما تبقى الألف والنون في المثنى، فتقول في تصغير «كتابان»: «كتيبان» وفي تصغير «مؤمنين» بالياء والنون في تثنية المنصوب أو المجرور «مؤيمنين» وفي «كتابين»: «كتيّبين».
5 ـ وتبقى أيضا علامتا جمع المذكّر السّالم أو جمع المؤنّث السّالم في التّصغير، فتقول في تصغير: «عبدون وعبدين»: «عبيدون وعبيدين» وفي تصغير «هندات»: هنيدات.
6 ـ ويبقى عجز المركب الإضافي والمركب المزجي فتقول في تصغير «ظهر الدين»: «ظهير الدين» وفي تصغير «أندرستان» اسم بلد فارسي: «أنيدرستان» ووردت أسماء لا يكسر فيها الحرف بعد ياء التّصغير في وزن «فعيعل» و «فعيعيل» بل يبقى على حركته قبل التّصغير من هذه الأسماء:
1 ـ الاسم الذي يكون فيه الحرف بعد «ياء» التّصغير متلوّا «بألف» مقصورة للتأنيث مثل: «كبرى» فتقول في تصغيرها: «كبيرى». أمّا إذا كانت الألف المقصورة للإلحاق فتحذف عند التّصغير، مثل:
«علقى» فتقول في تصغيرها، «عليقي» حيث تقلب الألف المقصورة «ياء» بعد الكسرة ثم تحذف «الياء» عند تنوين الاسم فتصير: «عليق».
2 ـ الاسم الذي يكون فيه الحرف بعد ياء التّصغير متّصلا مباشرة بألف التّأنيث الممدودة فلا يكسر بل يبقى على حركته الأصليّة مثل: «حمراء» تصغّر على «حميراء» أمّا إذا فصل بين الحرف الذي يلي ياء التّصغير وبين ألف التّأنيث الممدودة فيجب كسره، فتقول في تصغير «جخدباء» نوع من الجراد: «جخيدباء».
3 ـ الاسم الذي يكون فيه الحرف بعد ياء، التّصغير، متلوّا «بألف» أفعال «أي»: الاسم على وزن «أفعال» فيجب أن يفتح مثل: «أبطال» فتقول في التّصغير: «أبيطال» وفي أقوال: «أقيوال» وفي أفراس»: «أفيراس».
4 ـ الاسم الذي يكون فيه الحرف بعد «ياء» التصغير متلوّا «بألف» وهذا الاسم على وزن «فعلان» أو «فعلان» أو «فعلان» ولا يجمع على «فعالين» فيبقى هذا الحرف مفتوحا فتقول في تصغير: «فرحان»: «فريحان» وفي عثمان: «عثيمان» وفي «عمران»: «عميران» أمّا إذا كان الاسم ممّا يجمع على «فعالين» فيجب كسر الحرف الذي يلي «ياء» التّصغير، فتقول في تصغير: «سلطان» الذي يجمع على سلاطين: «سليطين» وفي «ريحان»: جمعه «رياحين» «رييحين» وفي «سرحان»: جمعه «سراحين»: «سريحين».
5 ـ الاسم الذي يكون فيه الحرف بعد ياء التّصغير، هو صدر المركب المزجي، فيبقى الحرف على حركته قبل التّصغير فتقول في تصغير «جعفرستان»: اسم بلد فارسي: «جعيفرستان».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
6-المعجم المفصل في النحو العربي (الملحق بصيغ منته الجموع)
الملحق بصيغ منته الجموع:1 ـ إذا كان الاسم المنقوص، أي: الاسم المعرب الذي آخره «ياء» لازمة، على صيغة منته الجموع ومجرّدا من «أل»، والإضافة، فالأغلب أن تحذف ياؤه ويأتي التنوين عوضا عنها، وهذا التنوين العوض، مثل: «في البرّيّة دواع للنشاط». فكلمة «دواع» مبتدأ مرفوع بالضّمة المقدّرة على «الياء» المحذوفة، والمعوّض عنها بالتنوين، ومثل: «سررت بأغان شعبيّة». فكلمة «أغان» اسم مجرور وعلامة جرّه الكسرة، المقدّرة على الياء المحذوفة والمعوّض منها بالتنوين. أما الكسرة التي قبل «الياء» فتبقى في حالتي الرّفع والجرّ، وتبقى «الياء» والكسرة قبلها في حالة النصب، مثل: «أجيبوا دواعي الاجتهاد يا أصدقاء». فكلمة «دواعي» مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة.
2 ـ إذا كان الاسم المنقوص على صيغة منته
الجموع مقترنا بـ «أل» أو مضافا وجب أن تبقى «الياء» ساكنة في حالتي الرّفع والجرّ، ومفتوحة في حالة النصب، مثل: الأغاني الشّعبيّة جميلة.
فكلمة «الأغاني» مبتدأ مرفوع بالضمة المقدّرة على «الياء» للثقل، ومثل: «ليست الثواني سوى جزء من حياة الإنسان» «الثواني» اسم «ليس» مرفوع بالضمة المقدرة... «للثواني أهميّة كبرى في حياة المرء» «الثواني»: اسم مجرور بالكسرة المقدّرة على الياء للثقل. ومثل: «سمعت الأغاني الشعبية» فكلمة «الأغاني» مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة، ومثل: «يميّز المحسن دواعي الخير فيسعى لتنفيذه». فكلمة «دواعي» منصوبة بالفتحة الظّاهرة. فالاسم المنقوص إذن والذي على صيغة منته الجموع يشبه الاسم المفرد المنقوص من حيث حذف «الياء» في حالتي الرفع والجرّ عند تجردها من «أل» والإضافة، وتبقى معهما «الياء» في حالة النصب، ويرفعان بالضّمة المقدرة على «الياء» المحذوفة، ويقبلان التّنوين رفعا وجرا. إلا أن التنوين يظهر في الاسم المفرد في حالة النصب أيضا، وتنوينه في الحالات الثلاث، هو تنوين أمكنية لا تنوين عوض، بمعنى أن الاسم المفرد المنقوص ليس ممنوعا من الصرف. أمّا التنوين في المنقوص الذي على صيغة منته الجموع فهو تنوين عوض عن «الياء» المحذوفة؛ ولا يلحقه هذا التنوين في حالة النّصب. أمّا في حالة الجر فالاسم المنقوص المفرد يجرّ بكسرة مقدّرة على «الياء» المحذوفة.
وفي صيغة الجمع في الاسم المنقوص يجر الاسم بفتحة مقدرة على «الياء» المحذوفة لأنه ممنوع من الصرف. أما «الياء» التي تحذف في صيغة منته الجموع فهي محذوفة للخفّة، وفي المفرد، فإنها تحذف منعا من التقاء ساكنين، مثل: «جاء قاض» كلمة «قاض» أصلها «قاضي» وتلفظ «قاضين» ولما كانت الضمة ثقيلة على «الياء» فإنها تحذف فتلفظ الكلمة «داعين» فتحذف «الياء» للتخلص من التقاء الساكنين الناجمين عن «الياء» الساكنة و «النون» الساكنة التي ترمز إلى التنوين فصارت الكلمة «داعن» وتكتب «داع». أمّا في المنقوص من صيغة منته الجموع، مثل: «للرحلات دواع» فكلمة «دواع» أصلها: «دواعين» فحذف «الياء» جرى قبل أن يمنع الاسم من الصرف، واستثقلت الضمّة على «الياء» فحذفت فصارت الكلمة: «دواعين». ولما التقى ساكنان «الياء» ونون المرموز بها إلى التنوين حذفت «الياء» منعا من التقاء ساكنين فصارت الكلمة «دواعن» فحذف التّنوين لأن الكلمة ممنوعة من الصرف، وحل محلّه تنوين آخر هو تنوين العوض عن «الياء» المحذوفة، وليمنع رجوعها عند النطق. أما إذا اعتبرنا أن حذف «ياء» المنقوص من صيغة منته الجموع متأخر عن منع الاسم من الصّرف فإننا نقول: «دواع» أصلها: «دواعي» وتلفظ «دواعين». فحذف التنوين لأنه ممنوع من الصرف فصارت «دواعي» ثم حذفت «الياء» طلبا للخفة وجاء تنوين العوض عن «الياء» المحذوفة.
3 ـ كان هذا الحذف في الاسم المنقوص بنوعيه للياء هو الأغلب لكن بعض العرب لا يحذف «الياء» في صيغة منته الجموع بل يقلب الكسرة التي قبل «الياء» فتحة وعندئذ يجب قلب «الياء» «ألفا»، لأنها ساكنة وقبلها فتحة، بشرط أن يكون المفرد من صيغة منته الجموع على وزن «فعلاء»، لمؤنث ليس له مذكر، مثل: «صحراء»، «صحارى» فتقول «صحارى» في
حالات الرّفع والنّصب والجرّ مثل: «إن صحارى واسعة تمتد في إقليم الحجاز»، و «ويحيط بإقليم الحجاز صحارى واسعة» و «في صحارى من إقليم الحجاز ظهر البترول بشكل وافر» ففي الحالات الثلاثة: النّصب في الأولى، والرّفع في الثانية، والجرّ في الثالثة، استعملت كلمة «صحارى» بلفظ واحد وفيها كلها كانت الكلمة «صحارى» ممنوعة من الصرف.
4 ـ في بعض لغات القبائل العربية تبقى «ياء» المنقوص في حالتي الرّفع والجرّ ساكنة، كما تبقى «الياء» في حالة النّصب، وتظهر عليها الفتحة.
5 ـ صيغة منته الجموع تكون دائما جمع تكسير، أو منقولة عنه، ولا تكون لمفرد أصالة وشذّ عن هذا القياس كلمة «سراويل» بمعنى: الإزار المفرد، وهي كلمة أعجمية الأصل وهي اسم مؤنث في جميع استعمالاتها، مثل: «خاطت لي أمي سراويل قصيرة». ومثل: «أعجبتني سراويل قصيرة».
6 ـ إذا كان الاسم على صيغة منته الجموع فلا يدخله تنوين الأمكنيّة ولا تنوين التّنكير، سواء أكان اسما محضا، أو علما. مثل: «حضر مواكب» فكلمة «مواكب» اسم شخص على وزن «فواعل» تمنع من الصّرف لأنها شبيهة بوزن من صيغ منته الجموع، رغم أنها اسم يدل على مفرد لا على جمع تكسير.
7 ـ إن الاسم المنتهي بياء مشدّدة، مثل: «كراسيّ»، «قماريّ» يكون ممنوعا من الصرف فإذا نسب إليه تحذف فيه «الياء» المشدّدة الموجودة في المفرد، وفي الجمع على السّواء، وتحل محلها «ياء» أخرى مشدّدة، هي «ياء» النسب، ويكون الاسم بهذه «الياء» غير ممنوع من الصرف.
8 ـ تسمّى صيغة منته الجموع بهذه التّسمية لأنه لا يجوز أن يجمع بعدها مرة أخرى بعكس الجموع الأخرى التي تجمع بعد جمعها، مثل: «أسد»، «أسود»، «آساد»...
9 ـ يشمل الحكم المنطبق على صيغ منته الجموع ملحقات بهذا الجمع، أي: كل اسم كان على إحدى أوزان صيغ منته الجموع ويدلّ على مفرد سواء أكان هذا الاسم عربيا مرتجلا أصيلا، أي: وضع أول أمره علما ولم يستعمل من قبل في معنى آخر، مثل: «هوازن» اسم قبيلة عربية، أم غير عربي، مثل: «شراحيل» وسواء أكان أعجميا غير اسم علم، مثل: «سراويل» بصيغة الجمع ولكنها اسم مفرد لمؤنث، أو علما مرتجلا منقولا في العصور الحديثة، مثل «بهادر» اسم علم لمهندس هندي و «أعانيب» اسم قرية مصرية، ومثلها كلمة «صنافير». وكل من هذه الأسماء، أي: التي تدل على مفرد وهي على صيغة منته الجموع، تكون ممنوعة من الصرف لأنها تشبه الوزن مما يكون ممنوعا من الصرف.
الممنوع من الصرف لعلّتين: العلتان اللّتان تكونان سببين في منع الاسم من الصرف لا بدّ أن تكون إحداهما معنويّة والأخرى لفظيّة، كما أن الممنوع من الصرف لعلّتين معا يكون إمّا وصفا، أي: واحدا من الأسماء المشتقّة التالية: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، أفعل التفضيل، اسم الزّمان، اسم المكان، اسم الآلة... وإمّا أن يكون علما.
الوصف الممنوع من الصرف لعلّتين: يمتنع
الوصف من الصرف، مع إحدى العلل الثلاث التالية:
1 ـ يمنع من الصرف للوصفية ولزيادة الألف والنون، أي: إذا كان على وزن «فعلان» بشرط أن تكون وصفيته أصيلة، وأن يكون تأنيثه بغير تاء التأنيث، إمّا لأنه لا مؤنث له لاختصاصه بالمذكر، مثل: «لحيان» أي: طويل اللحية «وعطشان»، «وغضبان»، «وسكران»، ومؤنثها: «عطشى» و «غضبى» و «سكرى» وإمّا لأن علامة تأنيثه الشائعة ليست «تاء» التأنيث. فإن كان الغالب في تأنيثه وجود تاء التأنيث صرف. وذلك لأن المعاجم العربيّة تأتي، لبعض الأوصاف التي على وزن فعلان»، والممنوعة من الصرف، بمؤنث على وزن «فعلانة»، مثل: «عطشان، عطشانة»، «غضبان، غضبانة»، «فرحان، فرحانة»، «سكران، سكرانة» وقد أحصى النحاة ما جاء على وزن «فعلان» ويؤنث بالتاء فكان ثلاثة عشر وصفا وهي: «ندمان»، «نصران»، لواحد النصارى، «مصّان»، للئيم، «أليان» لكبير الألية، «حبلان» لعظيم البطن، «سيفان» للطويل، «دخنان» لليوم المظلم «صوجان» لليابس الظّهر، «صيحان» لليوم الذي لا غيم فيه، «سخنان» لليوم الحار، «موتان» للبليد «علّان» للكثير النسيان، «فشوان» للدقيق الضعيف.
كل هذه الأوصاف التي يغلب تأنيثها بالتاء لا تمنع من الصرف، فتقول: سيفانة، مصّانة... وكذلك لا يمنع من الصرف المشتق الذي ليس أصيلا، مثل: «صفوان» في قولهم: «بئس رجل صفوان قلبه» والأصل: صفوان: بمعنى الحجر.
أمّا إذا زالت الوصفية، وصار الاسم علما منتهيا بألف ونون زائدتين يمنع من الصّرف لأنه خضع لعلّتين هما: العلميّة وزيادة الألف والنون، مثل: «صفوان»، «غضبان»، «عطشان»، أعلام على رجال.
2 ـ يمنع من الصرف للوصفية ووزن «أفعل»، سواء أكان هذا الوزن خاصا بالفعل مثل: «أجمل، أشرق»، أم على وزن مشترك بين الأسماء والأفعال ولكن الغلبة للفعل، أو لدلالته على معنى في الفعل دون الاسم، مثل: «أحيمد»، «أفيضل»، تصغير «أحمد وأفضل» فهما على وزن «أبيطر» الغالب عليه الفعل والهمزة في أولهما ليست للمتكلم مع أنها تدل على المتكلم في الفعل «أبيطر». فلذلك تكون الصفتان «أحيمر وأفيضل» ممنوعتين من الصرف لغلبة وزن الفعل بعكس مثل: «بطل» و «جدل» بمعنى: الصّلب الشّديد، و «ندس» بمعنى: القوي السّمع فإنها أوصاف أصلية على وزن الفعل، وغير ممنوعة من الصّرف لأن وزنها مشترك بين الأسماء والأفعال، ولكن لا يتغلب فيها وزن الفعل.
أما إذا كان مؤنث «أفعل» بالتاء، مثل: «هذا رجل أرمل»، فكلمة «أرمل» هي وصف على وزن «أفعل» ومؤنثه «بالتاء» «أرملة»، فلا يمنع من الصّرف، وكذلك لا يمنع من الصرف الاسم الذي تكون وصفيته طارئة، أي: ليست أصيلة، مثل: «هذا رجل أرنب» فكلمة «أرنب» على وزن «أفعل» ومؤنثه ليس «بالتاء»، فلا يمنع من الصرف لأنّ وصفيته طارئة سبقتها الاسميّة الأصلية للحيوان «الأرنب» ومثل: «درست مدّة ساعات أربع» فكلمة أربع على وزن «أفعل» لكنها غير ممنوعة من الصرف لأن مؤنثها «بالتاء» ووصفيتها طارئة لأن الأصل فيها أن تكون العدد المعروف، ومثل: «أجدل» للصقر، و «أخيل» لطائر ذي خال وهو النقطة السوداء غالبا المخالفة في لونها سائر
الجسم، «أفعى» للحية، كلّ هذه الأسماء غير ممنوعة من الصرف لأن وصفيتها طارئة، وقد تمنع من الصرف لملاحظة الوصفية فيها: فالأجدل يلحظ فيه القوة، لأنه مشتق من «الجدل» أي: القوة، و «الأخيل» يلحظ فيه التلوّن، «والأفعى» يلحظ فيها الإيذاء، لكن من الأفضل أن تكون هذه الأسماء غير ممنوعة من الصرف لغلبة الاسميّة عليها ومثل:
«كأنّ العقيليّين يوم لقيتهم ***فراخ القطا لاقين أجدل بازيا»
وكقول الشاعر:
«ذريني وعلّمي بالأمور وشيمتي ***فما طائري يوما عليك بأخيلا»
وهناك ألفاظ هي أوصاف أصليّة وانتقلت الى الاسميّة الخالية من الوصفيّة والعلميّة فهي ممنوعة من الصرف بحسب أصلها، لا بحسب اسميتها، مثل: «أدهم» للقيد الحديديّ فهو اسم على وزن «أفعل» ممنوع من الصرف بحسب وصفيّته الأصليّة، أي: السّواد، ثم انتقل من الوصف حتى صار اسما للقيد، ومثل: «أرقم» فإنه وصف للشيء المرقوم، أي: المنقّط، ثم صار اسما للثعبان المنقّط، ومثل: «أسود» انتقل من وصفيته الدّالّة على اللون الى اسم للثعبان المنقّط بالأبيض والأسود، ومثل: «أبطح» أي: مرتم على وجهه، فترك هذه الوصفية الى أن صار اسما للمكان الواسع الذي يجري فيه الماء بين الحصى الدّقيق، ومثل: «أبرق» صفة للشيء اللّامع البرّاق، ثم صار اسما للأرض الخشنة المليئة بالحجارة والرّمل والطين كلّ هذه الأسماء ممنوعة من الصرف بحسب وصفيتها الأولى ولكن يجوز صرفها لزوال وصفيتها ولانتقالها الى الاسمية الطارئة، ومن الأفضل أن تبقى ممنوعة من الصرف، فالوصفية الأصليّة إذن تبقى ممنوعة من الصرف، أما الوصفية الطارئة، أو الوصفية الأصلية التي زالت بسبب الاسمية يجوز صرفها أو منعها من الصرف. فإذا كانت هذه الاسماء مما زالت عنها الوصفية وانتقلت الى العلمية تمنع من الصرف لعلّتين العلميّة ووزن الفعل، مثل: «أبطح» علم الرجل، «أبرق»، «أرقم»... أعلام...
3 ـ ويمنع الوصف من الصّرف إذا كان معدولا عن لفظ آخره، أي: إذا تحوّل الاسم من حالة لفظية الى أخرى مع بقاء المعنى الأصلي بشرط ألا يكون التحويل لقلب، أو لتخفيف، أو لإلحاق، أو لزيادة معنى. فليس من اللّفظ المعدول كلمة «أيس» مقلوب «يئس» ولا «فخذ» تخفيف «فخذ» ولا «كوثر» بزيادة «الواو» لإلحاق وزنه بـ «جعفر» ولا «رجيل» تصغير «رجل» ويفيد معنى: التّحقير، إنّما يكون العدل في موضعين، الأول: في الأعداد العشرة الأولى معدولة على وزن «فعال» أو «مفعل»، مثل: «أحاد وموحد، ثناء ومثنى»، «ثلاث ومثلث»، «رباع ومربع»، «خماس ومخمس»، «سداس ومسدس»، «سباع، ومسبع»، «ثمان ومثمن»، «تساع ومتسع» «عشار ومعشر» فكلّ لفظ من هذه الألفاظ معدول عن لفظ العدد الأصلي المكرر مرتين للتوكيد فكلمة «ثناء» في المثل: «قابلت الأولاد ثناء» معدولة عن العدد الأصلي المكرر للتوكيد: اثنين اثنين، فعدلنا عن الكلمتين واستعضنا عنهما بواحدة تؤدّي معناهما، وهي «ثناء» ومثلها «مثنّى» وهما ممنوعتان من الصرف مع أنهما غير ذلك، والأغلب في هذه الأعداد المعدولة أن تكون حالا، مثل: «سار الطلاب ثناء». «ثناء» حال منصوب بالفتحة، أو
نعتا، مثل: «طارت في الجو طيورا ثلاث أو رباع...» «ثلاث» و «رباع» نعت «طيورا» منصوب بالفتحة، أو تكون خبرا لمبتدأ، مثل: «أصابع الكفّ خماس» و «عيون الوجه ثناء» وقد تكون مضافة لكنها لا تكون مقرونة بـ «أل» أبدا وكقوله تعالى: {ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} وإذا تكرّر اللّفظ المعدول فيكون اللفظ الثاني توكيدا للأول فتقول: سار الطلاب مثنى مثنى، ثلاث ثلاث، رباع رباع... «ومثنى» الثانية و «ثلاث» الثانية و «رباع» الثانية كل منها توكيد للأولى الواقعة حالا. ومن العرب من يجيز صرفها فيعتبرها أسماء مجردة من الوصفية، إذن هي غير ممنوعة من الصرف.
والموضع الثاني للوصف المعدول هو كلمة «أخر»، جمع مؤنث، مفرده «أخرى»، والمذكر منه هو كلمة «آخر» على وزن «أفعل» بمعنى «أفعل التفضيل». مجرد من «أل» والأضافة، ويجب أن يكون مفردا مذكرا في جميع حالاته، مثل: «صافحت زينب ونساء أخر» فكان الأصل أن تقول ونساء «آخر» لكن العرب عدلوا عن لفظ «آخر» إلى لفظ «أخر» بصيغة الجمع ومنعوه من الصرف.
ملاحظة: قد تكون «أخرى» بمعنى «آخرة» التي تقابلها «أولى»، فتجمع على «أخر» فهذا الجمع يكون غير ممنوع من الصرف لأنه غير معدول، ومذكر «أخرى» «آخر» يقابله «أوّل» بدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى} أي: الآخرة وبدليل قوله تعالى: {ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}. فليست «أخرى» بمعنى «أفعل التفضيل» لذلك يصح أن يعطف عليها مثلها فتقول: مررت برجل وآخر وآخر، ومررت بسيّدة وأخرى وأخرى.
العلم الممنوع من الصرف لعلّتين: يمنع العلم من الصرف لعلميّته ولإحدى العلل التالية:
الأولى: إذا كان العلم مركبا تركيبا مزجيا، أي: امتزجت فيه الكلمتان فاتصلت الثانية بنهاية الأولى حتى صارتا كالكلمة الواحدة، وتظهر على آخر الثانية علامات الإعراب أو البناء، وقد تكون نهاية الأوى حرفا ساكنا، مثل: «بور سعيد»، «نيويورك» «جردنسيتي» اسم حيّ في القاهرة على الساحل الشرقي للنّيل، أو قد يكون الحرف مفتوحا، مثل: «طبرستان»، اسم مدينة فارسية، «خالويه»، اسم عالم نحوي، و «سيبويه» اسم إمام نحاة الطبقة الرّابعة البصرية، وتتألف هذه الكلمة من «سيب» ومعناها التفاح و «ويه» معناه رائحة. فمعنى الكلمة الإجمالي رائحة التفاح، وقد تعرب هاتان الكلمتان الأخيرتان وقد تكونان مبنيّتين، ومثل: حضر موت، بلد في اليمن و «بعلبك» اسم بلد في لبنان، مركّبة من «بعل» اسم صنم و «بك» اسم رجل اشتهر بعبادة هذا الصنم ففي كل هذه الأسماء المركّبة، يبقى فيها الجزء الأول من الاسم على حاله من الحركة والسكون وتظهر علامات الإعراب على آخر الكلمة الثانية، فترفع بالضمة، وتنصب وتجر بالفتحة، مع امتناع التنوين في حالات الإعراب الثلاث، أي: تعرب إعراب الممنوع من الصّرف، بشرط أن تكون مجردة من «أل» والإضافة، مثل: «سافر أخي من بعلبكّ قاصدا بور سعيد»، «استقل الوزير طائرة إلى نيويورك» و «بور سعيد مدينة في مصر لها مرفأ على قناة السويس». فكلمة «بعلبك»: اسم مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لأنه ممنوع من الصرف لعلّتين العلمية والتركيب المزجي. و «بور سعيد» مفعول به لاسم الفاعل منصوب بالفتحة.
«نيويورك» اسم مجرور بالفتحة... و «بور سعيد» مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
ومن العرب من يجعل الكلمة الأولى مضافة فتجري عليها حركات الإعراب الثلاث والكلمة الثانية، مضافا إليه، ممنوعة من الصّرف ان استحقّت المنع، وإلا فهي غير ممنوعة من الصّرف، أما إضافتها فتكون من الإضافة اللّفظيّة لأن كلّ كلمة من الكلمتين بمنزلة حرف من حروف الكلمة الواحدة، مثل: «بيروت» وفائدة هذه الإضافة، تخفيف التّركيب والتّنبيه إلى شدّة الامتزاج، مثل: «هذه بور سعيد» فكلمة «بور» خبر المبتدأ «هذه» مرفوع بالضمة وهو مضاف «سعيد» مضاف إليه مجرور بالكسرة لأنه غير ممنوع من الصرف، ومثل: «زرت رام هرمز» «رام» مفعول به منصوب وهو مضاف «هرمز» مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف.
ومن العرب من يبني الكلمتين على الفتح رفعا ونصبا وجرّا، كبناء «خمسة عشر» فتقول: «زرت بور سعيد»، و «بور سعيد مدينة على الساحل الشمالي من مصر». «بور سعيد» الأولى مفعول به مبني على فتح الجزأين في محل نصب. والثانية: مبتدأ مبني على فتح الجزأين في محل رفع.
وإذا فقد العلم المركب تركيبا مزجيا أحد هذين الشّرطين أو فقدهما معا فيعرب إعراب الاسم المنصرف وينّون، مثل: «هذا خال». «خال» فقد التركيب المزجي والعلميّة «فاعل» مرفوع بتنوين الضم، ومثل: «زارنا سيبويه من العلماء» فكلمة سيبويه» فقدت العلمية ونوّنت تنوين تنكير، وإذا كان العلم مركبا تركيبا إضافيا وجب أن يعرب جزؤه الأول ويضاف الى الثاني الذي يكون منصرفا أو ممنوعا من الصرف حسب الأحكام التي تنطبق عليه مثل: «جاء عبد القادر» «عبد»: فاعل مرفوع بالضّمّة وهو مضاف: «القادر» مضاف إليه مجرور بالكسرة، ومثل: «رأيت عبد القادر» و «مررت بعبد القادر» أمّا إذ كان العدد مركّبا تركيبا إسناديا فهو معرب لا مبني ويبقى على ما هو عليه من دون تغيير، مثل: «زرت جاد الله» فكلمة «جاد الله» مركّب إسناديّ علم لرجل. وتعرب مفعولا به منصوبا بالفتحة المقدّرة على الآخر منع من ظهورها التّركيب الإسناديّ أو الحكاية.
أمّا إذا كان المركّب المزجي من العدد فيبنى على فتح الجزأين، أمّا العدد «اثنا عشر» فإنه يعرب إعراب المثنى، ومن النحاة من يجيز إضافة صدر العدد المركب إلى عجزه. وإن كان العلم من العدد المركب بقي على بناء جزأيه، أو إعرابه إعراب الممنوع من الصرف، أو إضافة صدره إلى عجزه.
أمّا إذا كان المركّب حالا، مثل: «أنت جاري بيت بيت»، أو ظرفا، مثل: «أزورك كلّ يوم صباح مساء» فيجوز فيه الإضافة، أو البناء للتّركيب.
الثانية: ويمنع العلم من الصرف إذا كان منتهيا بألف ونون زائدتين، سواء أكان علما لانسان، مثل: «عمران»، «قحطان»، «غطفان»، أو علما لشهور عربية، مثل: «شعبان، رمضان»، أو علما لبلد، مثل: «عمّان» اسم بلد في الأردن، و «رغدان» اسم قصرفي «عمّان»، و «عمان» اسم
سلظنة مستقلة في الجزيرة العربيّة عاصمتها «مسقط». وعلامة زيادة الألف والنون هي أن يتقدّمها ثلاثة أحرف أصول، مثل: «بدران» أما إذا تقدمهما حرف واحد، مثل: «خان»، «بان»، اسم جبل بالحجاز، والألف والنون فيهما أصليّان فلا يمنع من الصرف، وكذلك إذا كانت النون وحدها أصلية، مثل: أمان» «لسان»، «ضمان»، أمّا إذا تقدمهما حرفان ثانيهما مضاعف، وكانا صالحين للأصالة أو للزيادة، أو أحدهما صالح للأصالة وللزيادة جاز في الاسم المشتمل عليهما الصرف أو المنع من الصّرف، مثل: «جاء حسّان» فكلمة «حسّان» يجوز أن تكون مشتقة من «الحسّ» فالحرفان زائدان، فيمنع من الصرف، أو أن تكون الألف وحدها زائدة والنون أصلية باعتبارها مشتقّة من «الحسن» فلا يمنع من الصرف ومثلها كلمة «عفّان» مشتقة إما من العفة، «فالألف والنون» زائدتان فيمنع من الصرف أو من «العفن» فالألف وحدها زائدة فلا يمنع، ومثل: «حيّان» مشتقة إما من «الحياة» فيمنع من الصرف، أو من «الحين» فلا يمنع، ومثل: «غسّان» مشتقّة إما من «الغسّ» أي: دخول البلاد فيمنع من الصرف، أو من «الغسن» بمعنى «المضغ» فلا يمنع، ومثل: «ودّان» من «الودّ» فتمنع من الصرف، أو من «الودن» أي: نقع الشيء في الماء، فلا يمنع من الصرف.
ويضيف الصرفيّون: إن علامة زيادة الألف والنون سقوطهما في بعض التصريفات مثل الأعلام: «سعدان»، «فرحان»، «حمدان» حيث يمكن التلفظ بها: «سعد» «وفرح وحمد» بشرط أن يكون قبلهما أكثر من حرفين، مثل: «مروان»، «عثمان»، أما إذا كان قبلهما حرفان ثانيهما مضعّف جاز اعتبار الحرف المضعف أصيلا فتكون الألف والنون زائدتين، أو عدم اعتباره أصيلا فتكون «النون» أصيلة، مثل: «حسان»، «عفّان»... وفي بعض لغات العرب تبدل «النون» «لاما» مثل: كلمة «أصيل» في التصغير يقولون: «أصيلان» شذوذا وبإبدال «النون» «لاما» والأصل: «أصيلال» فإذا استعمل هذا اللفظ علما لرجل منع من الصرف، لأنه أجري حكم الحرف المبدل منه على المبدل أمّا إذا أبدل الحرف الأصلي «نونا» مثل: «حنّان» النون فيها بدل الهمزة في «الحنّاء» وسمي رجل باسم «حنّان» لم يمنع من الصّرف.
وإذا كان العلم ممنوعا من الصرف بزيادة الألف والنون، ففقدهما أو فقد علة منهما وجب تنوينه، مثل: «بدران» علم لرجل ممنوع من الصرف للعلميّة وزيادة الألف والنون، فإذا لم يعد اسما علما لرجل، مثل: «ناد بدرانا من المجموعة المسماة بهذا الاسم». فقد العلم «بدران» علميته ولحقه تنوين التنكير، وإذا فقد زيادة الألف والنون فبقي على «بدر» علم لرجل، أو فقد العلمية والزيادة فتقول: «بدر» بمعنى «قمر»، لم يعد الاسم ممنوعا من الصرف.
الثالثة: يمنع العلم من الصّرف إذا كان مؤنثا سواء أكان تأنيثه لفظيا أي: وجود تاء التأنيث لمؤنث لفظي، مثل: «معاوية»، «عنترة»، «طلحة»، أو لمؤنث معنوي، مثل: زينب أي بغير التاء، و «دلال»، «جمال»، أو لمؤنث لفظي ومعنوي، مثل: «فاطمة»، و «بثينة»، «عبلة»، «ميّة»، أو لاسم ثلاثي منته بالتاء، مثل: «أمة»، «هبة»، أو غير ثلاثي، مثل: «عزيزة»، «خديجة»... أو ساكن الوسط، مثل: «هرت» أو متحرك الوسط،
مثل: «هبة». فكل هذه الأعلام المختومة بتاء التأنيث ممنوعة من الصرف دائما.
وإذا كانت الأسماء أعلاما غير منتهية بتاء التأنيث تمنع أيضا من الصّرف كالمؤنث المعنويّ مثل: «دلال»، «جمال»، «زينب». وكذلك إذا كان غير مختوم بتاء التّأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف ولكنّه علم لمؤنث، يمنع من الصّرف، مثل: «هذه قمر» «جاءت أمل» و «زرت تحف» وكذلك يمنع من الصرف العلم الأعجمي المؤنث غير المختوم بتاء التأنيث، وغير زائد على ثلاثة أحرف، وغير محرّك الوسط، مثل: «رام» علم فتاة، «جور» اسم بلد و «موك» اسم قصر و «سيب» علم فاكهة. وكذلك يمنع من الصرف العلم الذي نقل من علم المذكر إلى علم مؤنث، مثل: «سعد»، «صخر»، «قيس» أعلام نساء، أما إذا كان علم المؤنث ثلاثيا ساكن الوسط، غير أعجمي، ولا منقول عن مذكّر فيجوز أن يكون ممنوعا من الصرف، أو غير ذلك، مثل: «هند»، «دعد»، «ميّ»، «جمل» أو إذا كان العلم المؤنث ثنائيا، مثل: «يد».
الرابعة: يمنع العلم من الصّرف إذا كان أعجميا علما في اللغة الأجنبيّة، مثل: «إبراهيم»، «يعقوب»، «إسماعيل»، أو غير علم في اللغة الأجنبية ونقلها العرب أعلاما إلى لغتهم ثم اتخذوا منها أسماء غير أعلام، مثل: «فرفج» كلمة فارسيّة معناها: عريض الجناح ومثل: «طسّوج» ومعناها الفارسي: الناحية. وكلمة: «فنزج» أي: الرّقص، وكلمة «ساذج» ومعناها: غضّ طري.
فكلّ هذه الأسماء ممنوعة من الصرف للعلميّة والعجمة ويمنع العلم من الصرف للعلمية والعجمة وبشرط آخر هو أن يكون فوق ثلاثة أحرف مثل: «يعقوب»، «إسماعيل». فإذا كان العلم الأعجمي ثلاثيا لا يكون ممنوعا من الصرف مثل: «نوح»، «هود»، «لوط» أسماء أعلام، ومثل: «شتر» اسم قلعة. ولا يمنع من الصرف أيضا الرّباعي المصغّر لأنه في الأصل ثلاثي.
ولا يمنع من الصرف الاسم غير العلم الأعجمي الذي نقله العرب إلى لغتهم نكرة أول الأمر ثم جعلوه علما بعد ذلك، مثل: «ديباج» و «لجام» و «فيروز» وعلى هذا الأساس فإن العلم الأعجمي الذي نقله العرب علما إلى لغتهم يكون ممنوعا من الصرف؛ ولكن من الأفضل عدم اشتراط العلميّة في اللغات الأجنبية ليكون الاسم ممنوعا من الصرف لأنه من الصّعب الاهتداء إلى أصل كل علم أجنبي، ثم معرفة ما إذا كان علما في لغته الأصلية، أم غير علم.
ومن الأعلام المنقولة إلى العربية: «مرقص»، «جوزيف»، «فكتور»، «ريمون»، فهي ممنوعة من الصرف للعلميّة والعجمة.
ولمعرفة عجميّة العلم علامات كثيرة منها: أن يكون وزنه خارجا عن الأوزان العربيّة مثل: «إبراهيم»، «إسماعيل»...، أو أن يكون رباعيا فصاعدا مع خلوّه من أحرف الذّلاقة التي تجمع بقولك: «لرب منف»، أو أن يكون مبدوءا «بنون» بعدها «راء»، مثل: «نرجس»، أو أن تكون الأئمة الثقات قد نصّت على العجمية... أو أن يجتمع في الاسم من أنواع الحروف ما لا يجتمع في الكلمة العربية الصحيحة، مثل: «قجقجة» اسم لعبة، فقد اجتمعت «القاف» والجيم بغير فاصل بينهما، ومثل: «الصولجان» إذ اجتمعت الصاد والجيم، ومثل: «سكرّجة»، حيث اجتمعت الكاف والجيم، ومثل: «مهندز» فقد أتت «الزاي» بعد «الدّال». لذلك نرى أن كل أسماء
الأنبياء ممنوعة من الصرف، مثل: «يونس»، «زكريا»، «يحيى»، «عيسى»، «آدم»، «إدريس»... ما عدا أسماء الأنبياء التالية: «محمد»، «صالح»، «شعيب»، «هود»، «لوط»، «نوح»، «شيث» فإنها غير ممنوعة من الصّرف وكل أسماء الملائكة ممنوعة من الصرف، مثل: «جبريل»، «ميكائيل»، «عزرائيل»... إلا الأسماء التّالية: مالكا، منكرا، نكيرا فإنها غير ممنوعة من الصّرف.
وأما كلمة «رضوان» علم لملك من الملائكة فهي ممنوعة من الصرف لأنها منتهية بالألف والنون الزائدتين، وأمّا كلمة «موسى» علم لنبي، فإنها يجوز أن تمنع من الصرف أو لا تمنع إذا لم تكن اسما للنّبي، بل اسما لأداة الحلاقة؛ فيصرف إذا كان مشتقا من «أوسيت رأسه» أي: حلقته، فالرأس يكون «موسى» وزن «معطى»، ويكون ممنوعا من الصّرف إذا كان مأخوذا من الفعل «ماس» مضارعه «يميس» فهو «موسى» على وزن «فعلى» والأصل «ميسى» إذ قلبت «الياء» «واوا» لأنها ساكنة بعد ضمّة. وأما كلمة «موسى» علم لنبي فقط فهي ممنوعة من الصّرف. وكلمة «إبليس» ممنوعة من الصّرف للعلمية والعجمة، أما إذا اعتبرنا أصلها العربي فهي مشتقة من «الإبلاس» أي: الإبعاد، فتكون أيضا ممنوعة من الصّرف للعلمية وشبه العجمة، لأن العرب لم تسمّ به مع أنه لها نظير في الوزن العربي، مثل: إكليل، إقليم...
الخامسة: يمنع العلم من الصّرف إذا كان على وزن الفعل، ماضيا كان، أو مضارعا، أو أمرا، ويكون ذلك وفقا لما يأتي:
1 ـ إذا كان العلم على وزن خاص إمّا بالماضي المعلوم، مثل: «صرّح»، أو المجهول مثل: «كرّم»، «عوقب»، أو المبدوء بهمزة وصل مثل: «انتفع»، أو المبني للمطاوعة مثل: «تبيّن»، «تمزّق»، فهو مبدوء بتاء زائدة للمطاوعة، أو المبدوء بها لغير المطاوعة، مثل: «تسابق»، «تقاتل». فإذا صار وزن هذه الأفعال أعلاما وجب اعتبارها ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل، ووجب أن تكون همزة الوصل همزة قطع أمّا إذا نقل الفعل مع فاعله إلى العلميّة لم يكن ممنوعا من الصرف بل يدخل في حكم العلم المركب الإسنادي، أي: من قبيل الجملة المحكيّة، مثل: «زرت ظهر الحقّ» أو أن يكون على وزن خاص بالمضارع، مثل: «يدحرج» أو بالأمر، مثل: «دحرج». وتخرج الصيغة عن اختصاصها بالفعل ولو لم يستعملها العرب إلّا قليلا، مثل: وزن «فعّل» فقالوا «خضّم» علم رجل تميميّ و «شمّر» علم لفرس، أو بصيغة المجهول، مثل: «دئل» علم قبيلة، أو بصيغة المضارع، مثل: «ينجلب» علم لخرزة و «تبشّر» علم لطائر و «تعزّ» علم لمدينة في اليمن. أو أن يكون لها نظير في لغة العجم، مثل: «زند» علم لفتاة و «طسج» علم لنبات، و «بقّم» علم لصبغ و «يجقّب» علم لفنّان رسّام.
2 ـ إذا كان العلم على وزن مشترك بين الاسم والفعل ويغلب عليه وزن الفعل، مثل: «إثمد» وزن «إفعل» معناه الكحل، ومثل: «أبلم» وزن: «أفعل» مثل: «أكتب» ومثل: «إصبع» وزن «إفعل» مثل: «اجلس» أو «إصبع» وزن «إفعل» مثل: «إسمع» فالعلم على هذه الأوزان يكون ممنوعا من الصرف للعلميّة ووزن الفعل. والغالب هو وزن الفعل.
3 ـ إذا كان العلم على وزن مشترك بين الاسم والفعل ويغلب فيه وزن الفعل ولكنّه يشتمل على زيادة لها معنى في الفعل، ولا معنى لها في الاسم، مثل: «أحمد، يزيد، تدمر»، فإنها على وزن: أفهم، يدرس، تنصر، ومثل: «أفكل» على وزن «أفهم» بمعنى: الرعشة و «تتفل» اسم ثعلب على وزن: «تكتب» فالهمزة في الأسماء لا معنى لها وفي الفعل تدلّ على المتكلّم، و «التاء» في الاسم لا معنى لها وفي الفعل تدل على المخاطبة، أو على المؤنّثة الغائبة. فالعلم على هذه الأوزان ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل.
وإذا كان العلم على وزن يشترك فيه الاسم والفعل على السواء دون تغليب لوزن الفعل فلا يمنع من الصّرف مثل: «شجر» على وزن ضرب وجعفر ـ دحرج وإذا كان العلم على وزن الفعل، فلا يمنع من الصّرف إلا إذا كان العلم ملازما لصورة ثابتة، وصيغة وزنه من الفعل ثابتة، مثل: «امرىء» فتتغيّر صورتها إذ في الرفع نقول: «امرؤ» وفي النصب «امرءا» وفي الجر «امرىء» على وزن «انصر» في الرفع، و «اسمع» في النصب، و «اجلس» في الجر، فهي لا تمنع من الصرف وكذلك كلمة: «قفل» على وزن «ردّ» وكلمة «ديك» على وزن «قيل» فالكلمتان غير ممنوعتين من الصّرف لأن وزن الفعل غير أصليّ، فالفعل المجهول «ردّ» أصلها «ردد» و «قيل» أصلها «قول». فإذا صارت الكلمتان «قفل» و «ديك» علمين لا يمنعان من الصرف. وأما كلمة «ألبب» جمع «لبّ» بمعنى: «عقل»، فإنّها على وزن المضارع «أكتب». فإذا صارت علما لا تمنع من الصرف لأنها مخالفة لوزن الفعل إذ أن المضارع الذي عينه ولامه من جنس واحد يغلب فيه إدغامها، مثل: «أعدّ» أصلها: «أعدد».
وإذا كان العلم ممنوعا من الصرف لأنه على وزن الفعل وزالت إحدى العلّتين أو زالتا معا، وجب تنوينه تنوين تنكير، مثل: «جاء أحمد» من المجموعة المسماة بهذا الاسم فكلمة «أحمد» فاعل مرفوع بتنوين الضم، ومثل: «عليّ» فإنها كلمة هي علم لرجل لكنه على غير وزن الفعل فلا تمنع من الصرف، ومثل: «سحاب»، «جماد» أي الشيء الجامد، فغير ممنوعين من الصّرف لعدم العلمية ولعدم وزن الفعل. وقد تزول العلميّة ويبقى الاسم ممنوعا من الصرف حين يكون العلم وصفا قبل العلمية، مثل: «أصفر»، «أكرم» فيمنعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل وقد اختفت الوصفية، إذا اعتبرا علمين.
السادسة: ويمنع العلم من الصرف مع اتصاله بألف الإلحاق المقصورة، مثل: «علقى» علم لنبات و «أرطى» علم لشجر فوزنهما «جعفر» وهما ممنوعتان من الصّرف للعلمية وزيادة ألف الإلحاق، مما جعلهما على وزن «فعلى» و «جعفر» وذلك لأن زيادة ألف الإلحاق المقصورة شبيهة بألف التأنيث، إلا أن وجود ألف التأنيث وحده كاف لمنع الاسم من الصّرف، أمّا ألف الإلحاق فلا بدّ لها من سبب آخر هو العلميّة لتمنع الاسم من الصّرف. وقد يكون الاسم الذي لحقته الألف المقصورة على وزن «فعلى» مثل: «عزهى» من قولك: «ولد عزهى» أي: لا يلهو فتكون ممنوعة من الصّرف. ولا يكون الاسم على وزن «فعلى» بالألف المقصورة. أمّا الاسم المنتهي بألف ممدوة مثل: «علباء» فلا تمنع من الصرف. ولا تكون ألف الإلحاق المقصورة إلا بوزن خاص بألف التأنيث وكلاهما زائد، ويجوز
في الاسم المختوم بالألف المقصورة أن تلحقه تاء التأنيث مع التنوين إذا كان غير علم، فتقول: «هذه أرطاة»، أو علقاة. أما كلمة «تترى» فقد تمنع من الصرف باعتبار الألف للتأنيث، أو لا تمنع باعتبار الألف للإلحاق. وإذا فقد العلم المتصل بالألف المقصورة الزائدة هاتين العلتين أو إحداهما دخله تنوين التنكير، مثل: «في الأرض الجبليّة أرطى كثيرة». حيث نوّنت «أرطى» تنوين تنكير وفقدت علميتها وصارت غير ممنوعة من الصّرف.
سابعا: ويمنع العلم من الصرف إذا كان معدولا من اسم آخر ويكون ذلك في صور:
1 ـ في ألفاظ التّوكيد المعنوي جمعا على وزن «فعل»، مثل: «جمع» و «كتع» فتقول في كتع الجلد، أي: تجمعه، و «بصع» من بصع العرق بمعنى: تجمعه، ومثل: «بتع» من البتع، أي: طول العنق مع قوة تماسك أجزائه، فتقول: تعلّمت من الصديقات كلّهنّ جمع أو كتع، أو بصع أو بتع، فهذه الألفاظ كلّها ممنوعة من الصّرف وهي توكيد بعد كلمة «كلّهنّ» مجرورة بالفتحة بدلا من الكسرة. وهي المؤنث للألفاظ المذكرة: «أجمع»، «أكتع»، «أبصع»، «أبتع» وهذه الألفاظ المذكّرة تجمع جمع مذكر سالما على، «أجمعون»، «أكتعون»، «أبصعون»، «أبتعون» ومن حقّ الألفاظ المؤنّثة المقابلة لها أن تجمع جمع مؤنث سالما، لكن العرب عدلت عن جمع التّصحيح السّالم وجمعتها جمع تكسير لا يناسبها ومنعت هذا الجمع من الصّرف للعلميّة والعدل.
2 ـ في ما كان علما مفردا مذكّرا على وزن «فعل»، يمنع من الصّرف للعلمية وليس معها علّة أخرى فلجأ النّحاة إلى العدل، أي: إن الاسم ممنوع من الصرف لأنه معدول عن كلمة أخرى على وزن «فاعل» ولما أراد العرب أن يدلوا على هذا العدول فمنعوا العلم من الصرف. وقد أحصى النحاة الأعلام المفردة المذكّرة التي على وزن «فعل» فعدّوا خمسة عشر علما هي: عمر، مضر، زفر، زحل، جمح، مزح، عصم، دلف، هذل، ثعل، جثم، قثم، جحى، هبل، بلع. وأما أدد، علم لجد قبيلة عربية، فهو منصرف لأنه لم يسمع إلّا كذلك، و «طوى» اسم واد في الشام فيجوز منعه من الصّرف لعلّتين العلمية والتأنيث باعتباره علم على واد. كما يجوز عدم منعه من الصّرف باعتباره علم سمع صرفه أما إذا كان وزن «فعل» يدل على الجمع فيجب أن يكون غير ممنوع من الصرف، مثل: «غرف وقرب» جمع: «غرفة» و «قربة»، ومثل: «صرد» اسم جنس لنوع من الغربان و «نفز» اسم جنس لنوع من البلابل.
3 ـ كلمة «سحر» أي: الثلث الأخير من اللّيل. بشرط أن تكون ظرف زمان وأن يراد بها سحر يوم معيّن مع تجريدها من «أل» والإضافة، مثل: استيقظ الطفل يوم الخميس سحر باكيا.
فكلمة «سحر» ظرف منصوب على الظرفيّة وممنوع من التنوين للعلمية والعدل، وفي ذلك قال النحاة: إنّ كلمة «سحر» معدولة عن كلمة «السحر» المقرونة بـ «أل» التعريف، وأريد بها وقت معيّن فالأصل أن تكون معرّفة بـ «أل» فلما قصد التعريف بها دون «أل» منعت من الصرف إشارة إلى هذا العدول. أما إذا كان لفظ «سحر» غير ظرف زمان، أي إذا كان اسما محضا معناه: الوقت المعيّن وجب تعريفه بـ «أل» والإضافة، ولا يكون علما، مثل: «أفضل أوقات النشاط الذهنيّ
السحر». أمّا إذا كان لفظ «سحر» ظرفا مبهما لا يدل على سحر يوم معيّن وجب أن يكون غير ممنوع من الصّرف، «يبدأ الحصّادون عملهم في سحر». أمّا إذا كان لفظ «سحر» ظرفا معينا لكنّه مقترن بـ «أل» أو مضاف وجب أن يكون منصرفا أيضا، مثل: استغرقت الرّحلة المدرسيّة من السّحر إلى المساء من يوم الأحد. ومثل «سحر» الكلمة «رجب» ومثلها أيضا كلمة «صفر» اسمان لشهرين من الشهور العربيّة، فإذا أريد بهما الشهران المعروفان فهما ممنوعان من الصّرف، وإلا فهما غير ممنوعين من الصرف. والأصل فيهما «الرجب» و «الصّفر».
4 ـ كلمة «أمس» تكون ممنوعة من الصّرف إذا أريد بها اليوم الذي قبل يومنا مباشرة، ومجرّدة من «أل» والإضافة، وغير مصغّرة، ولا مجموعة جمع تكسير وغير ظرف، مثل: «مضى أمس ونحن على خير ما يرام». «أمس»: فاعل مرفوع بالضّمة بغير تنوين، ومثل: «أمضيت أمس في دراسة الأدب».
«أمس» مفعول به منصوب بغير تنوين، ومثل: «ما رأيته مذ أمس»، «أمس» مضاف إليه مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لأنه ممنوع من الصّرف.
والعدول ناتج عن تجرّده من علامة التعريف المعروفة، أي: عن كلمة «الأمس». ومن العرب من يمنعه من الصّرف في حالة الرفع فقط ويبنيه على الكسر في حالتي النّصب والجرّ، مثل: «مضى أمس»، و «قضيت أمس» و «ما رأيته مذ أمس» «أمس» فاعل «مضى» مرفوع بالضمة بدون تنوين. و «أمس» مفعول به مبني على الكسر في محل نصب، و «أمس» الأخيرة مضاف إليه مبنيّ على الكسر في محل جر. ومثل:
«اليوم أعلم ما يجيء به ***ومضى بفضل قضائه أمس »
وفي «أمس» لغة أخرى هي البناء على الكسر، إذا كانت مستوفية الشروط السابقة عينها، ويقولون: إن السبب في بنائها هو تضمنّها معنى الحرف «في» وعندئذ لا تدخل في باب الممنوع من الصّرف، فتقول: «مضى أمس». «أمس»: فاعل مبني على الكسر في محل رفع، ومثل: «قضيت أمس». «أمس»: مفعول به مبنيّ على الكسر في محل نصب، ومثل: «ما رأيته مذ أمس». «أمس»: مضاف إليه مبني على الكسر في محل جر.
وإن أريد بكلمة «أمس» يوما مبهما من الأيّام الماضية وجب أن يكون غير ممنوع من الصرف فتقول: «مضى أمس» و «قضيت أمسا» و «ما رأيته مذ أمس» وتكون كلمة «أمس» غير ممنوعة من الصّرف أيضا، إذا كانت مقرونة بـ «أل»، مثل: «كان الأمس جميلا» و «أحببت الأمس الجميل»، «بالأمس كنّا في نزهة». أو إذا كانت مصغّرة، مثل: كان أميس جميلا، و «أحببت الأميس الجميل» و «كنّا في نزهة في أميس» أو إذا كانت جمع تكسير، مثل: «كانت أموس جميلة» «أحببت أموسا جميلة» «سررت بأموس جميلة».
وإذا كانت كلمة «أمس» ظرفا مجردا من «أل» والإضافة بني على الكسر، مثل: «زرتك أمس».
«أمس»: ظرف زمان مبنيّ على الكسر في محل نصب على الظرفيّة.
5 ـ العلم المؤنث على وزن «فعال» غير المختوم بالرّاء، مثل: «رقاش»، «حذام» «قطام»، مثل: «قطام فتاة جميلة»، «قطام»: مبتدأ مرفوع بالضّمة بدون تنوين ومثل: «أحببت قطام الفتاة الجميلة». «قطام»: مفعول به منصوب بالفتحة بغير تنوين ومثل: «ضرب المثل بقطام
الفتاة الجميلة» «قطام» اسم مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لأنه ممنوع من الصّرف. هذا على رأي بعض التميميين.
أما الحجازيّون، فيبنون العلم على وزن «فعال» على الكسر سواء أكان مختوما بالرّاء، مثل: «وبار» علم لقبيلة عربية، أم غير مختوم بالرّاء، مثل: «حذام» فتقول: «وبار قبيلة عربية عريقة». «وبار» مبتدأ مبنيّ على الكسر في محل رفع، ومثل: «ساعد الزمان وبار في القضاء على الأعداء»؛ «وبار»: مفعول به مبنيّ على الكسر في محل نصب، ومثل: «قضى أدد من وبار وتره» «وبار» اسم مبنيّ على الكسر في محل جر بحرف الجر «من». وفي هذا المثل كلمة «أدد» فاعل مرفوع بتنوين الضم؛ لأن هذه الكلمة لم تسمع إلا غير ممنوعة من الصرف.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
7-المعجم المفصل في النحو العربي (لا النافية للجنس)
لا النافية للجنساصطلاحا: هي حرف يدلّ على نفي الحكم عن جنس اسمها نصّا، أي: التّنصيص على استغراق النّفي لأفراد الجنس كلّه، وتسمّى أيضا لا التّبرئة لأنّها تبريء المبتدأ عن اتّصافه بالخبر، والنّفي بها قد يكون مطلق الزّمن، أي: لا يقع على زمن معيّن، وإنّما يراد منه مجرّد النّفي للنسبة بين معموليها. وقد يراد بها النّفي في زمن معيّن حين تدلّ على ذلك قرينة كقوله تعالى: {لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ...} فالزّمن المعنيّ هو الحاضر، تدل عليه كلمة «اليوم»، وقد يفيد نفي المستقبل، كقوله تعالى: {لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} فكلمة يومئذ تدل على المستقبل، أو تفيد نفي الزمن الماضي، مثل: «تعزّ فلا حبيبين دام عزّهما». وفي هذا النّفي العام تميّز «لا» النافية للجنس من «لا» المشبّهة بـ «ليس» والتى تسمى: «لا النافية للوحدة». والتي لا تفيد نصّا نفي الحكم عن أفراد الجنس كلّه، وإنّما تحتمل نفيه عن الواحد فقط وعن الجنس كلّه، فتقول: «لا كتاب على الطاولة» «كتاب» اسم «لا» المشبّهة بـ «ليس» مرفوع، وهو يحتمل أن يكون النفي للكتاب الواحد أو للكتب جميعا. أما «لا» النافية للجنس فيقع فيها النفي على كل أفراد الجنس فتقول: «لا كتاب على الطّاولة». «كتاب» اسم «لا» مبني على الفتح ويقع هذا النفي على كل كتاب، ولا يخرج واحد عن دائرته.
عملها: «لا» النافية للجنس هي إحدى النّواسخ، وتعمل عمل «إنّ»، أي: تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الأوّل اسما لها وترفع الثاني خبرا لها.
شروط عملها: يشترط في إعمال «لا» النافية للجنس عمل «إنّ» شروط عدّة منها:
1 ـ أن تكون نافية للجنس نفيا تامّا عامّا، لا على سبيل الاحتمال.
2 ـ أن يكون اسمها وخبرها نكرتين، ويدخل في حكم النّكرة أمران: الأول، شبه الجملة بنوعيه: الظّرف والجار والمجرور، وذلك إما على اعتبار شبه الجملة نفسه هو الخبر، أو أن متعلّقه نكرة محذوفة هي الخبر، مثل: «لا خير في لذّة تعقب ندما» وكقول الشاعر:
«لا خير في وعد إذا كان كاذبا***ولا خير في قول إذا لم يحسن فعل»
حيث أتى خبر لا النافية للجنس في الشطرين شبه جملة «في وعد» و «في قول» فهو إما واقع خبر «لا» النافية للجنس، أو هو متعلق بمحذوف خبر «لا» النافية للجنس تقديره موجود، أو كائن.
والثاني: هو الجملة الفعليّة، لأنها في حكم النّكرة، كقول الشاعر:
«تعزّ فلا إلفين بالعيش متّعا***ولكن لورّاد المنون تتابع»
فإن لم يكونا نكرتين لا تعمل «لا» النافية للجنس عمل «إن» ولا عمل «ليس» مثل:
«لا القوم قومي، ولا الأعوان أعواني ***إذا ونى يوم تحصيل العلا واني»
حيث أتى الاسم بعد «لا» معرفة لذلك أهملت ووجب تكرارها، وكذلك تهمل إذا لم يكن خبرها نكرة، فالخبر في البيت هو «قومي» معرفة وكذلك «القوم» معرفة فالاسم معرفة والخبر معرفة أيضا، ومثل: «لا كتاب هذا أو لا دفتر». «كتاب» نكرة، «هذا» معرفة لذلك بطل عمل «لا» النافية للجنس ووجب تكرارها.
3 ـ ألّا تتوسط بين عامل ومعموله أي: أن لا تقع «لا» النافية للجنس بين حرف الجر والاسم المجرور، مثل: «سافرت بلا كتب» حيث بطل عمل «لا» لأنها وقعت بعد حرف الجر وقبل الاسم المجرور بحرف الجر، وكقول الشاعر:
«متاركة السّفيه بلا جواب ***أشدّ على السّفيه من الجواب»
حيث توسّطت «لا» بين حرف الجر والاسم المجرور، فإما أن تكون «لا» اسما بمعنى: «غير» مجرورا بالكسرة المقدّرة على الألف للتعذّر وتكون هي مضافا و «جواب» مضافا إليه، أو تكون «لا»: حرف نفي مهمل لا عمل له في ما
بعده، ويكون الاسم «جواب» مجرورا بحرف الجر «الباء».
4 ـ ألّا يفصل بينها وبين اسمها فاصل، فلا يجوز أن يتقدّم الخبر، ولو كان شبه جملة، على الاسم، فإن تقدّم فإنها لا تعمل مطلقا، وتبقى نافية للجنس معنى، بشرط دخولها على النّكرتين بعد الفاصل، مثل: «لا لكسلان محبّة ولا احترام». حيث بطل عمل «لا» لأنه تقدّم شبه الجملة «لكسلان» الواقع خبرها على اسمها. والأصل: «لا محبّة لكسلان».
5 ـ ألّا ينتقض خبرها بـ «إلّا»، كقول الشاعر:
«يحشر النّاس لا بنين ولا آ***باء إلّا وقد عنتهم شؤون»
حيث انتقض الخبر بـ «إلّا» فبطل عملها. وفي هذا البيت احتمالان لإعراب «لا» بعد «إلّا»؛ فإذا اعتبرنا «لا» النافية للجنس باطل عملها لانتقاض خبرها بـ «إلّا» فتكون «بنين» مبتدأ ويجب أن تكون «بنون» لأنها مرفوعة «بالواو» وملحقة بجمع المذكّر السّالم، «والواو» الحاليّة وبعدها جملة «عنتهم شؤون» في محل نصب حال، وخبر المبتدأ محذوف، أما إذا اعتبرنا «لا» عاملة عمل «إنّ» رغم دخول «إلا» على خبرها، فتكون «الواو» زائدة وجملة «قد عنتهم شؤون» هي خبر «لا».
وتزاد هذه «الواو» أيضا في خبر كان إذا سبقته «إلّا».
ومنهم من لا يقرّ بالشرط الأخير أي: بانتقاض الخبر بـ «إلّا» فيعملها عمل «إنّ».
أحكام اسم «لا» النافية للجنس: يكون اسمها على ثلاثة أنواع: مفرد، أي: لا مضاف ولا مشبه بالمضاف، ومضاف، وتكون إضافته إمّا إلى نكرة، أو إلى معرفة بشرط ألا يكتسب منها تعريفا بسبب توغّله في الإبهام، ومشبّه بالمضاف، وهو الذي يأتي بعده ما يكمل معناه الذي يكون إما مرفوعا، أو منصوبا، أو من الأسماء المعطوف عليها وليست علما، وإما جارا ومجرورا متعلّقين به. والمشبّه بالمضاف يجب أن يكون معربا ومنوّنا إلا إذا وجد مانع. ومنهم من يقول بعدم تنوينه، كقوله تعالى: {وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ} ومنهم من يعتبر أن الجار والمجرور هو الخبر، ومنهم من يقول: إن الخبر محذوف يتعلق به الجار والمجرور، وتقدير الكلام: لا جدال حاصل في الحجّ.
أحكام اسم «لا» المفرد. إذا كان اسم «لا» مفردا فيبنى على الفتح، مثل: «لا عالم مكروه».
«عالم» اسم لا مفرد فهو مبني على الفتح، «مكروه»: خبر «لا» مرفوع، ومثل: «لا قوم للئيم» «قوم» هو اسم جمع لأنه يدل على جمع في المعنى. وليس له مفرد من لفظه، بل له مفرد من معناه. وهو مبنيّ على الفتح لأنه وقع اسم «لا» النافية للجنس وهو معامل معاملة المفرد لا المضاف ولا المشبّه بالمضاف. ومثل: «لا علماء مكروهون». «علماء»: جمع تكسير. وهو اسم «لا» مبني على الفتح في محل نصب؛ أو يبنى على ما ينوب عن الفتحة، مثل: «لا تلميذين متخاصمان» «تلميذين»: اسم «لا» مبني على «الياء» لأنه مثنى، ومثل: «لا حارسين منبوذون» «حارسين»: «اسم «لا» مبني على «الياء» لأنه جمع مذكر سالم، «منبوذون»: خبر «لا» مرفوع «بالواو» لأنه جمع مذكّر سالم، ومثل: «لا فتيات كسولات» «فتيات» اسم «لا» مبنيّ على الكسرة بدلا من الفتحة لأنه جمع مؤنّث سالم. ومنهم من يبنيه على الفتح، كقول الشاعر:
«إنّ الشباب الذي مجد عواقبه ***فيه نلذّ ولا لذّات للشّيب»
حيث أتى اسم «لا» وهو «لذّات» مبنيّ على الكسرة بدلا من الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، وقد يكون مبنيّا على الفتح مباشرة. ففي الأمثلة السّابقة كلّها، اسم «لا» المفرد هو مبني في محل نصب دائما: أي مبني لفظا منصوب محلّا. وقد يبنى على الضمّ في محل نصب، وذلك إذا كان الاسم هو كلمة «غير» بشرط أن تكون مضافة مسبوقة بـ «لا»، وأن يكون المضاف إليه محذوفا ونوي معناه، مثل: «صاحبت ثلاث فتيات لا غير». فتكون «لا» النافية للجنس «غير» اسم «لا» مبني على الضّم في محل نصب وخبر «لا» محذوف، وكذلك المضاف إليه، والتقدير: لا غيرهنّ صاحبت، أو تعرب بوجه آخر فنقول: «غير»: اسم «لا» مبني على الفتح المقدّر منع من ظهوره الضّمّة العارضة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
8-المعجم المفصل في النحو العربي (ما الحجازية)
ما الحجازيّةاصطلاحا: هي عند أهل الحجاز تعمل عمل «ليس» أي: تدخل على المبتدأ والخبر فترفع الأول وتسميه اسمها وتنصب الثاني وتسميه خبرها، وذلك بشروط:
1 ـ ألّا يتقدم خبرها على اسمها فإذا تقدم الخبر على الاسم فلا تعمل، كقول الشاعر:
«وما خذّل قومي فأخضع للعدى ***ولكن إذا أدعوهم فهم هم»
حيث بطل عمل «ما» الحجازيّة فلا تعمل عمل «ليس» لأن الخبر «خذّل» تقدم على الاسم، «خذّل»: خبر مقدم. «قومي»: مبتدأ مؤخر، مرفوع بالضّمة المقدّرة على ما قبل ياء المتكلم... «وياء» المتكلم: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالإضافة. أمّا قول الشاعر التّالي، ففيه خلاف:
«فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ***إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر»
فمنهم من قال بنصب «مثلهم» خبر «ما» رغم تقدمه على اسمها، ومنهم من أنكر ذلك فرفعه، على أنه خبر مقدّم. «بشر»: مبتدأ مؤخر.
2 ـ ألا يتقدّم معمول خبرها على اسمها، وإلّا فتهمل. أمّا إذا كان معمول الخبر شبه جملة، أي: ظرفا أو جارا ومجرورا فيجوز أن تعمل، فتقول: «ما بك أنا مسرورا» «أنا» ضمير منفصل مبنيّ على السّكون في محل رفع اسم «ما» «مسرورا»: خبر «ما» منصوب. فعملت «ما» رغم تقدّم الجار والمجرور «بك» الذي هو معمول الخبر على الاسم، أمّا إذا تقدّم معمول الخبر على الخبر نفسه دون الاسم، فلا يبطل عملها مثل «ما أنا رأيك معاندا» «رأيك» مفعول به للخبر «معاندا» تقدّم معمول الخبر على الخبر نفسه فلم يبطل عمل «ما». وأمّا قول الشاعر:
«وقالوا تعرّفها المنازل من منى ***وما كلّ من وافى منى أنا عارف»
ففيه خلاف. إذا اعتبرنا «كلّ» مفعول به لاسم الفاعل «عارف»، فيبطل عمل «ما» لتقدم معمول الخبر على الاسم. ومنهم من يعتبر ورود «كلّ» بالرّفع وتعرب «كلّ» اسم «ما» مرفوعا، والجملة الاسميّة «أنا عارف» خبرها.
3 ـ أن لا تزاد بعدها «إن» فيبطل عملها، كقول الشاعر:
«بني غدانة ما إن أنتم ذهب ***ولا صريف ولكن أنتم الخزف»
حيث بطل عمل «ما» لدخول «إن» بعدها، «أنتم» ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. «ذهب» خبر المبتدأ.
4 ـ ألا ينتقض نفيها بـ «إلّا» فيبطل عملها، مثل: «ما أنا إلا مسرور بك». «ما» بطل عملها لانتقاض خبرها بـ «إلّا» «أنا»: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. «إلا» أداة حصر. «مسرور»: خبر المبتدأ مرفوع. «بك»: جار ومجرور متعلق بـ «مسرور».
وكقوله تعالى: {وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} حيث بطل عمل ما لانتقاض الخبر بـ «إلّا» وكقوله تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وأمّا قول الشاعر:
«وما الدهر إلا منجنونا بأهله ***وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا»
فليس من «باب» «ما» المشبهة بـ «ليس» المسماة «ما» الحجازية إنما هو من باب المفعول المطلق المحذوف عامله، والتقدير: وما الدّهر إلا دولابا يدور دوران منجنون بأهله. فتارة يرتفع الدولاب وتارة ينخفض.
5 ـ ألا تتكرّر فيبطل عملها. ومعناه لأنها إذا تكرّرت فيحصل نفي النفي، ونفي النفي إثبات، مثل: «ما ما الحرب قائمة».
6 ـ قد تزاد «الباء» في خبرها كزيادتها في خبر «ليس» كقوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
9-المعجم المفصل في النحو العربي (ملاحظات)
ملاحظات:1 ـ إذا وقع بعد «الواو» جملة فليس ما بعدها مفعولا معه، مثل: «أقبل أخي والناس حوله».
2 ـ إذا كان الفعل ممّا لا يحصل إلّا من متعدّد فليس في الجملة مفعول معه، مثل: «تشارك سمير وخليل».
3 ـ إذا كانت «الواو» لغير المعيّة فليس في الجملة مفعول معه، مثل: «عرفت صديقي وعدويّ».
4 ـ إذا أفادت المصاحبة والخبر محذوف فليس في الجملة مفعول معه، مثل: «الطالب واجتهاده».
5 ـ إذا كان بعد «الواو» فعل فليس في الجملة مفعول معه، مثل: «لا تقرأ وتنام».
أحكام العامل: للاسم الواقع بعد «الواو» بالنّسبة للعامل أربع حالات:
1 ـ النّصب، وعامل النّصب إمّا الفعل أو ما يشبهه، كاسم الفاعل، مثل: «أنا سائر والطريق» أو اسم المفعول، مثل: «الكتاب متروك والطالب»، والمصدر، مثل: «الرجل فرح والقائد»، واسم الفعل، مثل: «رويد والغاضب».
وقد وردت أساليب مسموعة عن العرب لا يقاس عليها يأتي فيها المفعول معه بعد «ما» أو «كيف» الاستفهاميّتين دون أن يسبقه فعل، مثل: «ما أنت والرياضة» «كيف أنت والسباحة؟» «الرياضة»: مفعول معه عامله «ما» الاستفهامية، وقد يتأوّل فعل مكان «ما» فتقول: «ما تكون والرّياضة» ومثل ذلك: «كيف أنت والسّباحة». والتّقدير: كيف تكون والسّباحة.
2 ـ لا يجوز أن يتقدّم المفعول معه على عامله مطلقا ولا يجوز أن يتوسّط بينه وبين الاسم المشارك له، فلا يصحّ القول: والطريق سرت...
3 ـ لا يجوز أن يفصل فاصل بين «واو» المعيّة والمفعول معه، ولو كان الفاصل شبه جملة أي: ظرفا أو جارا ومجرورا، ولا يصحّ حذف واو المعيّة.
4 ـ إذا أتى بعد المفعول معه تابع وجب أن يراعى عند المطابقة الاسم الذي قبل «الواو» وحده، مثل: «كنت وزميلا كالأخ».
أحكام الاسم بعد «الواو»: للاسم الواقع بعد الواو بالنّسبة لإعرابه أربع حالات هي:
1 ـ جواز العطف أو النصب على أنه مفعول به والعطف أرجح، مثل: «أشفق المعلم والمدير على الطالب». فالعطف هنا أرجح لأنه أقوى في المشاركة.
2 ـ جواز الأمرين والنّصب على المعيّة أرجح، وذلك للفرار من عيب لفظي، مثل: جئت والمعلم. فكلمة «المعلم» يجوز فيها الرّفع عطفا على ضمير الرّفع المتّصل في «جئت» كما يجوز فيها النّصب على المعيّة وهذا أرجح، لأنّ العطف على ضمير الرّفع المتّصل يجب أن يسبقه توكيد بضمير رفع منفصل. فتقول: «جئت أنا والمعلم». أو عيب معنويّ مثل: «لا ترض بالرّفعة والذّلّ». فالمراد ليس النّهي عن أحد الأمرين إنما النّهي عن الأوّل مجتمعا مع الثّاني.
3 ـ وجوب العطف وامتناع المعيّة، حين يكون الفعل لا يأتي إلّا من متعدّد، مثل: «تشارك خليل وسمير». وهذا يقتضي الاشتراك المعنويّ الحقيقيّ، أو حين يوجد ما يفسد المعنى، مثل: «أطلّ القمر وسمير قبله». ففساد المعنى يأتي من كلمة «قبله».
4 ـ امتناع العطف ووجوب النّصب إما على المعيّة منعا من فساد لفظي، مثل: «نظرت لك وطائرا» لأن العطف على الضّمير المجرور يوجب إعادة حرف الجرّ، كقول الشاعر:
«فما لي وللأيّام لا درّ درّها***تشرّق بي طورا وطورا تغرّب»
فقد أعيد حرف الجرّ اللام بعد حرف العطف «الواو». أو منعا من فساد معنويّ، مثل: سافرت والليل، إذ لا يصحّ أن يتسلّط العامل «سافرت» على الاسم الذي بعد «الواو»، أو النّصب على غير المعيّة بتقدير فعل محذوف، مثل قول الشاعر:
«علفتها تبنا وماء باردا***حتّى شتت همّالة عيناها»
إذ لا يجوز أن تعطف «ماء» على «تبنا». أمّا إذا اعتبرنا «علفتها» بمعنى قدّمت لها فيمكن أن نجري العطف بين «تبنا» و «ماء» ولا يجوز أن تكون «ماء» مفعولا معه لأنه لا يحصل في الوقت الذي يحصل فيه علف التبن إذ أن شرط المفعول معه أن يشارك ما قبله في الزّمن. أمّا إذا اعتبرنا المعنى من باب عطف الجمل فيصحّ العطف والتّقدير: علفتها تبنا وأشربتها ماء. ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
«فكونوا أنتم وبني أبيكم ***مكان الكليتين من الطّحال»
فإن الاسم بعد «الواو» منصوب على أنه مفعول معه، ولم يعطفه «بالواو» على الضّمير المتّصل بـ «كونوا» وعلى «أنتم» المؤكّدة لـ «واو» الجماعة.
ومثال النّصب على غير المعية، قول الشاعر:
«تراه كأنّ الله يجدع أنفه ***وعينيه إن مولاه كان له وفر»
والتقدير: ويفقأ عينيه، لأن الجدع خاصّ بالأنف لغة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
10-المعجم المفصّل في الإعراب-إعراب إميل بديع يعقوب (إعراب ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)
إعراب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}ومن: الواو حرف استئناف مبني على الفتح. من: حرف جرّ مبنيّ على السكون وقد حرّك بالفتح منعا من التقاء ساكنين. الناس: اسم مجرور بالكسرة الظاهرة، والجار والمجرور متعلقان بخبر مقدّم محذوف. من: نكرة موصوفة مبنيّة في محل رفع مبتدأ مؤخّر. وجملة «ومن الناس من يقول» استئنافية لا محل لها من الإعراب. يقول: فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة. والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره: هو: وجملة «يقول» في محل رفع نعت «من». آمنّا: فعل ماضى مبنيّ على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرّك. «نا»: ضمير متّصل مبنيّ على السكون في محلّ رفع فاعل. وجملة «آمنّا» في محل نصب مقول القول. بالله: الباء حرف جرّ مبنيّ على الكسر. «الله»: لفظ الجلالة مجرور بالكسرة الظاهرة. والجار والمجرور متعلقان بـ «آمنّا». وباليوم: الواو حرف عطف مبنيّ على الفتح. الباء حرف جرّ مبنيّ على الكسر. «اليوم»: اسم مجرور بالكسرة الظاهرة. والجار والمجرور متعلقان بـ «آمنّا». الآخرة: نعت «اليوم» مجرور بالكسرة الظاهرة. وما: الواو حاليّة، حرف جر مبنيّ على الفتح. «ما»: حرف نفي مبنيّ على السكون وهي تعمل عند أهل الحجاز فترفع المبتدأ وتنصب الخبر. وتهمل عند بني تميم. هم: ضمير منفصل مبنيّ على السكون في محل رفع اسم «ما» (عند أهل الحجاز)، أو في رفع مبتدأ (عند أهل تميم). بمؤمنين: الباء حرف جر زائد للتأكيد مبنيّ على الكسر. «مؤمنين»: اسم مجرور لفظا بالياء لأنّه جمع مذكّر سالم منصوب محلّا على أنه خبر «ما» الحجازيّة، أو مرفوع محلّا على أنّه خبر المبتدأ (عند أهل تميم) وجملة «وما هم بمؤمنين» في محل نصب حال، أو استئنافية إذا اعتبرنا الواو حرفا استئنافيا.
المعجم المفصّل في الإعراب-إعراب إميل بديع يعقوب
11-موسوعة الفقه الكويتية (إقالة)
إِقَالَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.
وَمِنْهُ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ.
وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَيْعُ:
2- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْإِقَالَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.وَمِنْهَا أَنَّ الْإِقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمَا: أَقِلْنِي، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِأَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً، وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الْإِيجَابِ.
ب- الْفَسْخُ:
3- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا آخَرُونَ بَيْعًا.
حُكْمُ الْإِقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:
4- الْإِقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ».وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا...».وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا، لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ.
رُكْنُ الْإِقَالَةِ:
5- رُكْنُ الْإِقَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا.فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْلِ أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ.وَيَأْتِي الْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ السُّؤَالُ، أَوْ قَبَضَ الْآخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لِأَنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهَا.
الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْإِقَالَةُ:
6- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَمَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي.وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ وَالْآخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقِلْنِي: فَقَالَ، أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُكَ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
وَمَعَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْإِقَالَةَ حُكْمَهُ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَجْرِي فِي الْإِقَالَةِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ «الْمُصَالَحَةِ» وَتَصِحُّ بِلَفْظِ «الْبَيْعِ» وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاطَاةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَجْزَأَ.خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ لَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِقَالَةُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ.شُرُوطُ الْإِقَالَةِ:
7- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ مَا يَلِي:
أ- رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لِأَنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لَازِمٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.
ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.
ج- أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ.
د- بَقَاءُ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ.
هـ- تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا بَيْعٌ، لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ.و- أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ إِقَالَتُهُ.
حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:
8- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الْإِقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْإِقَالَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالْإِزَالَةِ، فَلَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ فِيهَا نَقْلَ مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ، فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ لَا يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِمَا.
آثَارُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي: أَوَّلًا- الْإِقَالَةُ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:
9- إِذَا تَقَايَلَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولًا أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ وَالْأَجَلِ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً، لِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لَا رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ.وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى، لَا بِمَا يُدْفَعُ بَدَلًا عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا- وَقَدْ رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ- رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لَا بِمَا دَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلَافِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا.ثَانِيًا- الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالْإِقَالَةِ:
10- يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا.وَعَنْ زُفَرَ: هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ.فَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُلِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الْإِقَالَةُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ بِالْإِقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالْإِقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مِنَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الشَّفِيعُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ.
إِقَالَةُ الْوَكِيلِ:
11- مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الْإِقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إِذَا تَمَّتْ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.فَإِنْ أَقَالَ بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ، إِذْ تُعْتَبَرُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ.وَبِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيلَ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا.وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالْإِبْرَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.وَالْمُرَادُ بِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ: الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَيْنِ.وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا.وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي حَقِّ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَهُمُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ.هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِقَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ.أَمَّا حُكْمُ الْإِقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ.وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لَا تَصِحُّ.
مَحَلُّ الْإِقَالَةِ:
12- مَحَلُّ الْإِقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الْآتِيَةِ: الْبَيْعِ- الْمُضَارَبَةِ- الشَّرِكَةِ- الْإِجَارَةِ- الرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ- الصُّلْحِ.وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الْإِقَالَةُ فَهِيَ الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْلُ الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ.
أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِقَالَةِ:
13- إِذَا اعْتَبَرْنَا الْإِقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.فَفِي الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِلُ الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ.وَكَذَا إِذَا شَرَطَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الْأَقَلِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ.وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ.وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الْإِقَالَةَ فَسْخًا، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ فَكَذَلِكَ.
الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:
14- الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ.فَلَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، مَضَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ.وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا.فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ، مَا دَامَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِلُّ الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلَا تَصْلُحُ الْإِقَالَةُ إِذْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.عَلَى اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ، فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ.وَهَلَاكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّهُ فِي الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بَلْ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الْإِقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهِمَا.
إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ:
15- إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْإِقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الْإِقَالَةُ وَعَادَ الْبَيْعُ.وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ الْأُولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.
مَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ:
16- مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَبْطُلُ فِيهَا الْإِقَالَةُ بَعْدَ وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَحَلُّهُ، بِخِلَافِ هَلَاكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ.وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ هَالِكًا.لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
ب- تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ.كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، بِخِلَافِ الْحَنَابِلَةِ.
اخْتِلَافُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:
17- قَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى الْإِقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا.فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ.وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلَا الْعَقْدَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ نَقْدِهِ
(وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ الْإِقَالَةَ.فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْإِقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (التزام 1)
الْتِزَامٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الِالْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا أَيْ: ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَهُ، وَالِالْتِزَامُ: الِاعْتِنَاقُ.
وَالِالْتِزَامُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ جَرَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَاتُ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ تَدُلُّ تَعْبِيرَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ الِالْتِزَامَ عَامٌّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ.وَهُوَ مَا اعْتَبَرَهُ الْحَطَّابُ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا، فَقَدْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) وَالْعَارِيَّةُ وَالْعُمْرَى وَالْعَرِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْإِرْفَاقُ وَالْإِخْدَامُ وَالْإِسْكَانُ وَالنَّذْرُ.
قَالَ الْحَطَّابُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيرِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الِالْتِزَامِ: وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَقْدُ وَالْعَهْدُ:
2- مِنْ مَعَانِي الْعَقْدِ لُغَةً: الْعَهْدُ، وَيُقَالُ: عَهِدْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي كَذَا وَكَذَا، وَتَأْوِيلُهُ: أَلْزَمْتُهُ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتَ عَاقَدْتُهُ أَوْ عَقَدْتُ عَلَيْهِ، فَتَأْوِيلُهُ: أَنَّكَ أَلْزَمْتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِيثَاقٍ، وَتَعَاقَدَ الْقَوْمُ: تَعَاهَدُوا.
وَفِي الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَقْدُ الْتِزَامًا.
3- أَمَّا الْعَهْدُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَالُ عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الْأَمَانُ، وَالْمَوْثِقُ، وَالذِّمَّةُ.
وَالْعَهْدُ: كُلُّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ، وَالْعَهْدُ: الْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ.
وَبِذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعَهْدُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الِالْتِزَامِ أَيْضًا.
ب- التَّصَرُّفُ:
4- يُقَالُ صَرَفَ الشَّيْءَ: إِذَا أَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ كَأَنَّهُ يَصْرِفُهُ عَنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ، وَمِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأُمُورِ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ التَّصَرُّفُ أَعَمَّ مِنَ الِالْتِزَامِ، إِذْ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا لَيْسَ فِيهِ الْتِزَامٌ.
ج- الْإِلْزَامُ:
5- الْإِلْزَامُ: الْإِثْبَاتُ وَالْإِدَامَةُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ وَغَيْرَهُ.
فَالْإِلْزَامُ سَبَبُ الِالْتِزَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا، أَمْ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ.
يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ: إِلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْإِنْسَانِ.وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالْأَمْرِ وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.
د- اللُّزُومُ:
6- اللُّزُومُ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ.فَاللُّزُومُ يَصْدُقُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِالْتِزَامِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَعَلَى مَا يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ.أَمَّا الِالْتِزَامُ فَهُوَ أَمْرٌ يُقَرِّرُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً.
هـ- الْحَقُّ:
7- الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَحَقَّ الْأَمْرُ أَيْ ثَبَتَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا، وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ وَثَبَتَ.
وَالْحَقُّ اصْطِلَاحًا: هُوَ مَوْضُوعُ الِالْتِزَامِ، أَيْ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ تُجَاهَ اللَّهِ، أَوْ تُجَاهَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.
و- الْوَعْدُ:
8- الْوَعْدُ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَالْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.وَالْوَعْدُ: الْعَهْدُ.
وَالْعِدَةُ لَيْسَ فِيهَا إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا الْآنَ، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِدَةِ: هُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ.وَالظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ: الْوَعْدُ، مِثْلُ: أَنَا أَفْعَلُ، إِلاَّ أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ.وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ سَأَلَك مَدِينٌ أَنْ تُؤَخِّرَهُ إِلَى أَجَلِ كَذَا، فَقُلْتَ: أَنَا أُؤَخِّرُكَ، فَهُوَ عِدَةٌ، وَلَوْ قُلْتَ: قَدْ أَخَّرْتُكَ، فَهُوَ الْتِزَامٌ.
أَسْبَابُ الِالْتِزَامِ:
9- مِنْ تَعْرِيفِ الِالْتِزَامِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَمِنِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ وَعِبَارَاتِهِمْ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَبَبَ الِالْتِزَامِ هُوَ تَصَرُّفَاتُ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةُ الَّتِي يُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْحَقُّ تُجَاهَ شَخْصٍ، كَالِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يُبْرِمُهَا، وَمِنْهَا الْعُقُودُ وَالْعُهُودُ الَّتِي يَتَعَهَّدُ بِهَا، وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَعْقِدُهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا.أَمْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ، كَنَذْرِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَثَلًا.
وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي.
التَّصَرُّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ:
10- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ تَتَنَاوَلُ الْعُقُودَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ (أَيْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) أَوِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ (أَيْ بِالْإِيجَابِ فَقَطْ) وَهَذِهِ قَدْ تُسَمَّى عُقُودًا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ.
وَالتَّصَرُّفُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَتِّبَ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ.أَمَّا التَّصَرُّفُ الَّذِي يُرَتِّبُ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الطَّرَفِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْجِعَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَالضَّمَانِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي بَعْضِهَا.
وَيَدْخُلُ فِيمَا يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ: الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ.فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَتَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِهَا.
11- وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الِالْتِزَامَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ:
أ- فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ.
ب- جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْعَقْدُ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ وَعَدَمِهِ إِلَى ضَرْبَيْنِ:
الْأَوَّلُ: عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ، مِثْلُ عَقْدِ النَّذْرِ
وَالْيَمِينِ وَالْوَقْفِ، إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْقَبُولُ فِيهِ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إِذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: عَقْدٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَالْحَوَالَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهِبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ وَالْجِعَالَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ.
ج- وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ
د- فِي الْقَوَاعِدِ لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ التَّابِعَةُ لَهَا هِيَ الْتِزَامُ أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْغَلَّةِ الْمَعْمُولِ عَلَى تَحْصِيلِهَا.
وَفِيهِ كَذَلِكَ: الْتِزَامُ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: بِنَذْرٍ فِي الذِّمَمِ وَالْأَعْيَانِ.
الثَّانِي: الْتِزَامُ الدُّيُونِ بِالضَّمَانِ.
الثَّالِثُ: ضَمَانُ الدَّرْكِ.
الرَّابِعُ: ضَمَانُ الْوَجْهِ.
الْخَامِسُ: ضَمَانُ مَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَاتِ.
هـ- مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَطَّابُ فِي الِالْتِزَامَاتِ: (1) إِذَا قَالَ لَهُ: إِنْ بِعْتَنِي سِلْعَتَكَ بِكَذَا فَقَدِ الْتَزَمْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، فَالشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ.
(2) إِذَا قَالَ لَهُ: إِنْ أَسْكَنْتَنِي دَارَكَ سَنَةً، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ، بِأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَمِنْهَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَقِيقِيَّةَ لِلِالْتِزَامَاتِ: هِيَ تَصَرُّفَاتُ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةَ مَصَادِرَ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الْتِزَامًا، بَلْ هِيَ إِلْزَامٌ أَوْ لُزُومٌ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا يَتَرَتَّبُ بِالِالْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ أَوِ الْمُبَاشَرَةِ.وَبَيَانُهَا كَمَا يَلِي:
(1) الْفِعْلُ الضَّارُّ أَوِ (الْفِعْلُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ):
12- الْفِعْلُ الضَّارُّ الَّذِي يُصِيبُ الْجِسْمَ أَوِ الْمَالَ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ أَوِ الضَّمَانَ.
وَالْأَضْرَارُ مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْأَطْرَافِ، وَمِنْهَا التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ، أَوْ بِالسَّرِقَةِ، أَوْ بِالتَّجَاوُزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَتَجَاوُزِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْحَجَّامِ، وَالطَّبِيبِ، وَالْمُنْتَفِعِ بِالطَّرِيقِ، وَمِنْهَا
التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدَائِعِ وَالرُّهُونِ.
فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَصِيرُ الْفَاعِلُ مُلْزَمًا بِضَمَانِ فِعْلِهِ، وَعَلَيْهِ الْعِوَضُ فِي الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ، وَفِي الْقِيَمِيِّ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ مِنَ الْإِتْلَافَاتِ مَا لَا ضَمَانَ فِيهِ، كَمَنْ صَالَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ مَا فِيهِ الضَّمَانُ، كَالْمُضْطَرِّ الَّذِي يَأْكُلُ مَالَ غَيْرِهِ، فَفِيهِ الضَّمَانُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّ التَّعَدِّيَ مَضْمُونٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَفِعْلُ الْمُبَاحِ سَاقِطٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ.
وَالْأَصْلُ فِي مَنْعِ الضَّرَرِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: « لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ » وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَأَبْوَابِهَا.
(2) الْفِعْلُ النَّافِعُ أَوِ (الْإِثْرَاءُ بِلَا سَبَبٍ):
13- قَدْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِفِعْلٍ نَافِعٍ لِغَيْرِهِ، فَيَصِيرُ دَائِنًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِمَا قَامَ بِهِ أَوْ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ (الْإِثْرَاءُ بِلَا سَبَبٍ) وَهُمْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ أَحْدَثَ لَهُ مَنْفَعَةً فَقَدِ افْتَقَرَ الْمُؤَدِّي وَأَثْرَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِلَا سَبَبٍ، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الْمُثْرَى مُلْزَمًا بِأَدَاءِ أَوْ ضَمَانِ مَا أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَوْ قَامَ بِهِ.
وَلَيْسَتْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَإِنْفَاقِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ أَوِ اللُّقَطَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالْبَهَائِمِ إِذَا امْتَنَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ، وَإِنْفَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ أَوِ امْتِنَاعِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ: بِنَاءُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ السُّفْلَ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ لِاضْطِرَارِهِ لِذَلِكَ، وَبِنَاءُ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ، وَدَفْعُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ..وَهَكَذَا.
فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَكُونُ الْمُنْتَفِعُ مُلْزَمًا بِمَا أَدَّى عَنْهُ، وَيَكُونُ لِمَنْ أَنْفَقَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي بَيَانِ مَتَى يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَمَتَى لَا يَحِقُّ، إِذِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: أَنَّ مَنْ دَفَعَ دَيْنًا عَنْ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا دَفَعَ.
وَالْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي قَوَاعِدِ ابْنِ رَجَبٍ هِيَ فِيمَنْ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَتُنْظَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ وَاللُّقَطَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، وَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَوْ أَوْصَل نَفْعًا لِغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ نَفَذَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، أَوْ مَالٌ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَفِعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ.
(3) الشَّرْعُ:
14- يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَكَالِيفِهِ.
جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: الْإِسْلَامُ: الْتِزَامُ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-.
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ مَا يُلْزِمُهُ بِهِ الشَّارِعُ نَتِيجَةَ ارْتِبَاطَاتٍ وَعَلَاقَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِلْزَامُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أَقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وَمِنْ ذَلِكَ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَذَلِكَ لِوُفُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْوَلِيِّ وَعَدَمِ حُسْنِ تَصَرُّفِ الْقَاصِرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ بِقَبُولِ الْمِيرَاثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِهِ.
يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: اللُّزُومُ هُنَا بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْقَبُولِ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً.
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ: الشُّرُوعُ، فَمَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ أَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِإِتْمَامِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِفَسَادِهَا، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ.
هَذِهِ هِيَ الْمَصَادِرُ الثَّلَاثَةُ (الْفِعْلُ الضَّارُّ- وَالْفِعْلُ النَّافِعُ- وَالشَّرْعُ) الَّتِي عَدَّهَا الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ مِنْ مَصَادِرِ الِالْتِزَامِ، إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ، وَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ الِالْتِزَامِ، كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْكَاسَانِيِّ.
15- وَالْفُقَهَاءُ عَبَّرُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهَا الْتِزَامٌ، أَمَّا مَا كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ فَالتَّعْبِيرُ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ أَوِ اللُّزُومِ.ذَلِكَ أَنَّ الِالْتِزَامَ الْحَقِيقِيَّ.هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْتَزَمَ بِهِ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَالْغَصْبُ وَالنَّهْبُ، لِأَنَّ مَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَجَلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
إِلاَّ إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ تُنْشِئُ الْتِزَامَاتٍ حُكْمًا وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ رَدُّ مَصَادِرِ كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ إِلَى الشَّرْعِ، فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ حُدُودًا لِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ، مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهَا.
لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَسْبَابًا مُبَاشِرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةَ سَبَبَ الْتِزَامَاتِهِ.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ إِذْ يَقُولُ: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِتْلَافًا وَيُسَمَّى ضَمَانًا، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدُّيُونِ وَالْعَوَارِي وَالْوَدَائِعِ، وَاجِبَةٌ بِالِالْتِزَامِ.
وَيَقُولُ: حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَالِيَّةُ تَجِبُ بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِ مِنِ الْتِزَامٍ أَوْ إِتْلَافٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلِالْتِزَامِ:
16- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَاتٍ وَضَمَانِ مُتْلَفَاتٍ وَالْقِيَامِ بِالنَّفَقَاتِ وَأَعْمَالِ الْوِلَايَةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ.إِذْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ الْحُرِّيَّةُ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِهِ أَمْرًا، مَا دَامَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّ حَقًّا لِغَيْرِهِ.وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.
فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَبَذْلِ الْمَعُونَةِ بَيْعًا أَوْ قَرْضًا أَوْ إِعَارَةً لِلْمُضْطَرِّ لِذَلِكَ.وَكَوُجُوبِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ غَيْرَهُ، وَخَافَ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تَهْلِكَ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، إِذَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، لِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ بِهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ».
وَيَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِعَارَةُ الْجَارِيَةِ لِخِدْمَةِ رَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِخَمْرٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَا نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا، إِذَا أَعَانَ عَلَى مَكْرُوهٍ، كَمَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
أَرْكَانُ الِالْتِزَامِ:
17- رُكْنُ الِالْتِزَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ فَقَطْ وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الْمُلْتَزِمُ (بِكَسْرِ الزَّايِ) وَالْمُلْتَزَمُ لَهُ، وَالْمُلْتَزَمُ بِهِ، أَيْ مَحَلُّ الِالْتِزَامِ.
أَوَّلًا: الصِّيغَةُ:
18- تَتَكَوَّنُ الصِّيغَةُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَالْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَالنِّكَاحِ وَكَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا الِالْتِزَامَاتُ بِالتَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَفِيهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ.
وَمِنَ الِالْتِزَامَاتِ مَا يَتِمُّ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ بِاتِّفَاقٍ، كَالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ.
وَصِيغَةُ الِالْتِزَامِ (الْإِيجَابُ) تَكُونُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا الْتَزَمَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الِالْتِزَامُ بِالْفِعْلِ كَالشُّرُوعِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ، وَكَمَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْلِ.
كَذَلِكَ يَكُونُ الِالْتِزَامُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِي بَيْتٍ لَهَا، فَسَكَنَ الزَّوْجُ مَعَهَا، فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ بِالْكِرَاءِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ أَغْلَبَ الِالْتِزَامَاتِ قَدْ مُيِّزَتْ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، فَالِالْتِزَامُ بِتَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِهِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالِالْتِزَامُ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِهِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَسُمِّيَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ ضَمَانًا، وَنَقْلُهُ حَوَالَةً، وَالتَّنَازُلُ عَنْهُ إِبْرَاءً، وَالْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ- نَذْرًا وَهَكَذَا.
وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا خَاصَّةً تُعْتَبَرُ صَرِيحَةً فِي الِالْتِزَامِ وَهِيَ: الْتَزَمْتُ، أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي.وَمِنْهَا أَيْضًا لَفْظُ (عَلَيَّ) أَوْ (إِلَيَّ)، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَوْ إِلَيَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، لِأَنَّهَا صِيغَةُ الِالْتِزَامِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ شَرْطُ الصِّيغَةِ فِي الْإِقْرَارِ لَفْظٌ
أَوْ كِتَابَةٌ مِنْ نَاطِقٍ أَوْ إِشَارَةٌ مِنْ أَخْرَسَ تُشْعِرُ بِالِالْتِزَامِ بِحَقٍّ، مِثْلَ: لِزَيْدٍ هَذَا الثَّوْبُ وَ « عَلَيَّ » وَ « فِي ذِمَّتِي » لِلْمَدِينِ الْمُلْتَزِمِ وَ « مَعِي » وَ « عِنْدِي » لِلْعَيْنِ
ثَانِيًا: الْمُلْتَزِمُ:
19- الْمُلْتَزِمُ هُوَ مَنِ الْتَزَمَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَتَسْلِيمِ شَيْءٍ، أَوْ أَدَاءِ دَيْنٍ، أَوِ الْقِيَامِ بِعَمَلٍ.وَالِالْتِزَامَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
فَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.
وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ.وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
ثَالِثًا: الْمُلْتَزَمُ لَهُ:
20- الْمُلْتَزَمُ لَهُ الدَّائِنُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ: فَإِنْ كَانَ الِالْتِزَامُ تَعَاقُدِيًّا، وَكَانَ الْمُلْتَزَمُ لَهُ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ، أَيْ أَهْلِيَّةُ التَّعَاقُدِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُقُودِ، وَإِلاَّ تَمَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.
وَإِذَا كَانَ الِالْتِزَامُ بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، أَوْ يَمْلِكُ النَّاسُ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِالْتِزَامُ لِلْحَمْلِ، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ، فَتَصِحُّ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ وَالْهِبَةُ لَهُ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ، وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ، وَإِلاَّ صُرِفَ لِوَرَثَتِهِ وَإِلاَّ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
كَمَا أَنَّ كَفَالَةَ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ جَائِزَةٌ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ « أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لَا، فَتَأَخَّرَ، فَقِيلَ: لِمَ لَا تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ، فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- ».
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِالْتِزَامُ لِلْمَجْهُولِ، فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُجَاهِدِينَ: « مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ »، وَعِنْدَئِذٍ مَنْ يَقْتُلُ عَدُوًّا يَسْتَحِقُّ أَسْلَابَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ سَمِعُوا مَقَالَةَ الْإِمَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: مَنْ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِي فَهُوَ مُبَاحٌ فَتَنَاوَلَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءُ سِقَايَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ
رَابِعًا: مَحَلُّ الِالْتِزَامِ (الْمُلْتَزَمُ بِهِ):
21- الِالْتِزَامُ هُوَ إِيجَابُ الْفِعْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالِالْتِزَامِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالِالْتِزَامِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَتَمْكِينِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْهِبَةِ، وَالْمِسْكِينِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فِي عَقْدِ الِاسْتِصْنَاعِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَفِعْلِ الْمَنْذُورِ، وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ...وَكَذَا.
وَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ تَرِدُ عَلَى شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً أَوْ عَمَلًا، أَوْ حَقًّا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِمَحَلِّ الِالْتِزَامِ أَوْ مَوْضُوعِهِ.
وَلِكُلِّ مَحَلٍّ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ حَسَبَ طَبِيعَةِ التَّصَرُّفِ الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالشُّرُوطُ قَدْ تَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إِلَى آخَرَ، فَمَا يَجُوزُ الِالْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ قَدْ لَا يَجُوزُ الِالْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْمَالُ الشُّرُوطِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مَعَ مُرَاعَاةِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفَاصِيلِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- انْتِفَاءُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ:
22- يُشْتَرَطُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الِالْتِزَامُ انْتِفَاءُ الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ- بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، مَعْلُومَ الصِّفَةِ، مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَانْتِفَاءُ الْغَرَرِ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَنْفَعَةً وَعَمَلًا وَأُجْرَةً.
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا بِالنِّسْبَةِ لِوُجُودِ مَحَلِّ الِالْتِزَامِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ، فَإِنَّهَا أُجِيزَتِ اسْتِحْسَانًا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْعَمَلِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ.
وَيُرَاعَى كَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ.
وَإِذَا كَانَ شَرْطُ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ تَبَرُّعَاتٍ كَالْهِبَةِ بِلَا عِوَضٍ وَالْإِعَارَةِ، وَتَوْثِيقَاتٍ كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهَا.
فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجِيزُ الِالْتِزَامَ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ وَبِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ.وَأَكْثَرُهُمْ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
23- وَمِنَ الْعَسِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَتَبُّعُ كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَدَى انْطِبَاقِ شَرْطِ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفٍ.
وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِبَعْضِ نُصُوصِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُلْقِي ضَوْءًا عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي التَّفْصِيلَاتِ إِلَى مَوَاضِعِهَا:
(1) فِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ: مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ، وَقَاعِدَةِ: مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي « نَهْيِهِ - عليه الصلاة والسلام- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ ».وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ- وَهُوَ مَالِكٌ- بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ.
24- فَالطَّرَفَانِ: أَحَدُهُمَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.
وَثَانِيهِمَا مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ، بَلْ إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَاتِ فِيهِ.أَمَّا الْإِحْسَانُ الصِّرْفُ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ، فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا.
وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ.ثُمَّ إِنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ: يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الشَّرْعِ، بَلْ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
25- وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا- وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ- يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِيهِ.فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ (وَهِيَ الْجِهَازُ)، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ، وَأُلْحِقَ الْخُلْعُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْغَرَرُ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِطْلَاقَهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ لِلْمُعَاوَضَةِ، بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْهِبَةِ.فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَالْفِقْهُ مَعَ مَالِكٍ - رحمه الله-.
وَفِي الْفُرُوقِ كَذَلِكَ: اتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْعَبْدِ: إِنِ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ وَاشْتَرَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَوَافَقْنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالنَّذْرِ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ: إِنْ مَلَكْتُ دِينَارًا فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَجَمِيعُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ.
أَوَّلًا: الْقِيَاسُ عَلَى النَّذْرِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِجَامِعِ الِالْتِزَامِ بِالْمَعْدُومِ.
وَثَانِيًا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَقْدَانِ عَقَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِمَا.
وَثَالِثًا: قَوْلُهُ - عليه الصلاة والسلام-: « الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ » وَهَذَانِ شَرْطَانِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (البيع الباطل)
الْبَيْعُ الْبَاطِلُالتَّعْرِيفُ:
1- الْبَيْعُ لُغَةً مِنَ الْأَضْدَادِ مِثْلُ الشِّرَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الْأَعْيَانِ، لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا، لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.وَالْبَاطِلُ مِنْ بَطَلَ الشَّيْءُ: فَسَدَ أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْبَيْعُ اصْطِلَاحًا: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ.
وَالْبَيْعُ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ فِي الْجُمْلَةِ- هُوَ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُثْمِرْ وَلَمْ تَحْصُلْ بِهِ فَائِدَتُهُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَيْعُ الصَّحِيحُ:
2- هُوَ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلَا مِنَ الْمَوَانِعِ.أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَيْعِ الْبَاطِلِ.
ب- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3- الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ.
وَيُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ.
أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَلَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَاطِلِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ فَقَطْ يُبَايِنُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا.وَأَيْضًا حُكْمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُهُ أَصْلًا، وَتَبَايُنُ الْحُكْمَيْنِ دَلِيلُ تَبَايُنِهِمَا.
ج- الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ:
4- هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لَازِمٍ، كَالْبَيْعِ عَقِبَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، إِذْ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاطِلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْبُطْلَانِ حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَالْعَقْدِ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ رُشْدُ الصَّبِيِّ.
فَقَدْ قِيلَ: يَشْتَرِي الْوَلِيُّ شَيْئًا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطِّفْلَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَى بُطْلَانِهِ، كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ.
أَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِأَنْ كَانَ بَاطِلًا فِي مَذْهَبٍ وَغَيْرَ بَاطِلٍ فِي مَذْهَبٍ آخَرَ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ بَاطِلًا فِي حَقِّهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَحَرَّى قَصْدَ الشَّارِعِ بِبَذْلِ الْجُهْدِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَلِيلٍ يُرْشِدُهُ، بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ خِلَافُ مَا رَآهُ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُعَاقَبُ، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا.
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا.
وَالْمُقَلِّدُ كَذَلِكَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنْهُ، مَا دَامَ مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ تَقْلِيدًا سَائِغًا.وَالْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَخَذَ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ وَأَغْلَبِهِمْ صَوَابًا فِي قَلْبِهِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَتَبُّعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ طُرُقٌ إِلَى اللَّهِ.
أَسْبَابُ بُطْلَانِ الْبَيْعِ:
6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ، فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الْأَثَرَ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ.
وَأَسْبَابُ فَسَادِ الْبَيْعِ هِيَ أَسْبَابُ بُطْلَانِهِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ لِلْفِعْلِ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
أ- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ أَوِ الْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ قَدْ خَرَجَ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَشَرْعِيَّتِهِ.
ب- قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَالْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
ج- أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ فَفَهِمُوا فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَقَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَ «نَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَالِ رُكْنِ الْبَيْعِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الرُّكْنُ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَلَا وُجُودَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِمَّا لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.
أَمَّا اخْتِلَالُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ يَكُونُ فَاسِدًا.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصَلِهِ: النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَايِرُونَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، رَغْمَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ.
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: فَرَّقَ الْأَصْحَابُ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، فَقَالُوا: إِنْ رَجَعَ الْخَلَلُ إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ أَوْ صِفَتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ.
7- بَعْدَ هَذَا التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، هُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، كَالْبَيْعِ الَّذِي حَدَثَ خَلَلٌ فِي رُكْنِهِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَهَذِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهَا.
وَهُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ مَا رَجَعَ الْخَلَلُ فِيهَا لِغَيْرِ مَا سَبَقَ.
فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلًا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَالْبَيْعُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَبَيْعِ النَّجْشِ، وَهَكَذَا.
وَيَرْجِعُ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْبُيُوعِ بِالْبُطْلَانِ أَوْ عَدَمِهِ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ الْبَاطِلِ مِنْ أَحْكَامٍ:
8- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ.
وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ قَضَاءً، حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِبُطْلَانِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- التَّرَادُّ:
9- إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ وَحَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ، حُكْمُهَا الرَّدُّ، أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَثْمُونَ
وَرَدُّ الْمَبِيعِ يَكُونُ مَعَ نَمَائِهِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا.
صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الذَّاتِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُعْتَبَرُ فَوْتًا يَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ
ب- التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ:
10- إِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا بَاطِلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَيَكُونُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ لِعَدَمِ نُفُوذِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ مُفَوِّتًا، وَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ.
ج- الضَّمَانُ:
11- إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةِ فِي الْمُتَقَوَّمِ.
وَالْقِيمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقَدَّرُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ فِي الْمُتَقَوَّمِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ تَلِفَ بِبَلَدِ قَبْضِهِ فِيهِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةُ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَالِ زِيَادَتِهَا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ تَلَفِهَا.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ- وَلَوْ كَانَ الْخِلَافُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ- بَلْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ- ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَعُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي، لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ فِي الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إِذْنُهُ بِالْقَبْضِ.
د- تَجَزُّؤُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ:
12- الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ: أَنْ يَشْتَمِلَ الْبَيْعُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ.وَأَدْخَلَ الْفُقَهَاءُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،
وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَعَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، وَبِيعَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- عَدَا ابْنَ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى الْإِسْنَوِيُّ فِي كِتَابِ الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْلُ الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ فِي الْكُلِّ لِبُطْلَانِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُلِّ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ عَيَّنَ ابْتِدَاءً لِكُلِّ شِقٍّ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ وَتَبْطُلُ الْأُخْرَى.
وَهَذِهِ إِحْدَى صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا، وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيُوقَفُ اللُّزُومُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازُ ذَلِكَ بَقَاءً.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجْرِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ.
وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ، وَهِيَ: أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الْأُخْرَى بِأَلْفٍ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي بُطْلَانِهِ خِلَافًا.
هـ- تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ:
13- تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ.
الْأُولَى: إِذَا ارْتَفَعَ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ، فَهَلْ يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ صَحِيحًا؟
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ تُؤَدِّي إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَلْ يَتَحَوَّلُ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى: فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ، بَلْ مَعْدُومًا.
وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اللَّبَنَ، أَوِ الدَّقِيقَ، أَوِ الْعَصِيرَ، لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا، فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ.
14- أَمَّا الْجُمْهُورُ (وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ) فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ».
وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ، كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجَلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ بَاعَ بِشَرْطِ ضَمَانِ دَرْكِهِ إِلاَّ مِنْ زَيْدٍ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ زَيْدٍ مِنْ ضَمَانِ دَرْكِهِ يَدُلُّ عَلَى حَقٍّ لَهُ فِي الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، ثُمَّ إِنْ ضَمِنَ دَرْكَهُ مِنْهُ أَيْضًا لَمْ يُعَدَّ الْبَيْعُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَبَيْعِ الثُّنْيَا (بَيْعُ الْوَفَاءِ) - وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ- وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُخِلُّ بِقَدْرِ الثَّمَنِ كَبَيْعٍ وَشَرْطٍ سَلَفًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِنْ حُذِفَ شَرْطُ السَّلَفِ، وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، إِلاَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا، وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ وَهِيَ:
(1) مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
(2) شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
(3) شَرْطُ النَّقْدِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلَا يَصِحُّ.
أَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهَذَا يُوجِبُ الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِدَيْنِ إِمْضَاؤُهُ.
15- وَمَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا سَبَقَ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ: هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ أَمْ لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ؟ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلَالِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ بِهِ؟ كَمَنْ بَاعَ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقَّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَدَعُ الزِّقَّ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ.وَهُوَ: هَلْ هَذَا الْفَسَادُ حُكْمِيٌّ (تَعَبُّدِيٌّ) أَوْ مَعْقُولٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: حُكْمِيٌّ، لَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولًا، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ.
وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ أَكْثَرُهُ حُكْمِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوِ ارْتَفَعَ الْغَرَرُ.
16- أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ تَحَوُّلُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي قَاعِدَةِ (الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا).
يَقُولُ السُّيُوطِيُّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.وَمِنْ ذَلِكَ: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ.
قَالَ: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ وَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَوَّلُ إِلَى إِقَالَةٍ صَحِيحَةٍ، إِذْ يَشْتَمِلُ الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِ عَنَاصِرِ الْإِقَالَةِ.
وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ.
وَفِي دُرَرِ الْحُكَّامِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، وَلِذَا يَجْرِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ.
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ بَاعَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
وَهَكَذَا يَجْرِي حُكْمُ تَحَوُّلِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ضِمْنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (بيع التلجئة)
بَيْعُ التَّلْجِئَةِالتَّعْرِيفُ:
1- يُعَرِّفُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ يُنْشِئُهُ لِضَرُورَةِ أَمْرٍ فَيَصِيرُ كَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ.
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَنْ يُظْهِرَا بَيْعًا لَمْ يُرِيدَاهُ بَاطِنًا بَلْ خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ (وَنَحْوِهِ) دَفْعًا لَهُ.
وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْأَمَانَةِ وَصُورَتُهُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ، إِمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا أَظْهَرَاهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا، ثُمَّ يَعْقِدُ الْبَيْعَ.
وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ الَّتِي أُضِيفَ هَذَا الْبَيْعُ إِلَيْهَا فَتَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِرَارِ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَيَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ أَوِ الْمُلْجِئُ، وَمَعْنَاهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنْ يُهَدِّدَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- بَيْعُ الْوَفَاءِ:
2- صُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ رَدَّ عَلَيْهِ الْعَيْنَ فَيَتَّفِقُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي عَدَمِ إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ يَئُولُ إِلَى رَهْنٍ أَوْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ ظَاهِرٍ، أَمَّا بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْبَيْعِ مُضْمِرٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعٌ أَصْلًا.
هَذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْوَفَاءِ: أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ إِمَّا خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا أَظْهَرَاهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا، وَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَحْضَرَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ، فَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ رَهْنٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ قَرْضٌ إِلَى أَجَلٍ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَاشْتِرَاطُ التَّلْجِئَةِ فِيهِ تُفْسِدُهُ.
ب- بَيْعُ الْمُكْرَهِ:
3- الْمُرَادُ بِبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَمْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، إِذِ الْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ.وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجَدُ مِنَ الْمُكْرَهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْمُكْرَهِ: أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بَيْعٌ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ حَقِيقِيٌّ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِهِ فَسَادًا وَوَقْفًا.
ج- بَيْعُ الْهَازِلِ:
4- الْهَازِلُ فِي الْبَيْعِ: هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الْبَيْعِ لَا عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ.
وَالْهَزْلُ: هُوَ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، لَا الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا وُضِعَ لَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْهَازِلِ: أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْإِكْرَاهَ إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ هُوَ بَيْعُ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ تَلَفَّظَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُرِيدُ الْبَيْعَ، وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ الْهَازِلِ.
إِذِ الْهَزْلُ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَى بِهِ وَلَا يُنَافِي الرِّضَى بِالْمُبَاشَرَةِ وَاخْتِيَارَهَا، فَصَارَ بِمَعْنَى خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ.
التَّلْجِئَةُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ:
5- تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي النِّكَاحِ، كَمَا إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الِاسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ، وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَتَجْرِي التَّلْجِئَةُ أَيْضًا فِي التَّحْبِيسِ (الْوَقْفُ) وَالطَّلَاقِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ كُلِّ تَطَوُّعٍ.
أَقْسَامُ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ:
6- بَيْعُ التَّلْجِئَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَقِسْمٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ.وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّلْجِئَةَ إِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إِنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ.وَإِنْ كَانَتْ فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ التَّلْجِئَةُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ.
وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي إِنْشَائِهِ:
7- وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ لِأَمْرٍ أَلْجَأَهُمَا إِلَيْهِ: عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْبَيْعَ وَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ.نَحْوُ أَنْ يَخَافَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ، فَيَقُولَ لآِخَرَ: إِنِّي أُظْهِرُ أَنِّي بِعْتُ مِنْكَ دَارِي، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْجِئَةٌ، فَتَبَايَعَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَالْبُطْلَانُ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا، حَيْثُ تَوَاطَآ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِالْبُطْلَانِ: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَكَلَّمَا بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا عَلَى قَصْدِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ يُعْدَمُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ.وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الْحَالِ عَلَى أَنَّهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيْعِ لَا يُرِيدَانِ الْبَيْعَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْعَقْدِ تَبَايَعْنَا هَذَا تَلْجِئَةٌ.
ثَانِيهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي أَظْهَرَاهُ، وَلِأَنَّ مَا شَرَطَاهُ فِي السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا بِشَرَائِطِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ، كَمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَا شَرْطًا فَاسِدًا عِنْدَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بَاعَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
ثَالِثُهُمَا: وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ (غَيْرُ لَازِمٍ) وَيَلْزَمُ إِنْ أَجَازَاهُ مَعًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ (التَّوَاطُؤُ) مَنَعَتِ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ.
وَفِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ لَمْ يُوجَدِ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا، فَلَمْ يَنْعَقِدِ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَتَوَقَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ.
8- هَذَا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ رَغْبَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ التَّلْجِئَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ مِنَ التَّلْجِئَةِ إِذَا طَلَبَ الثَّمَنَ.
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلْجِئَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرْطَ بِالْبَيِّنَةِ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ فَلَا تُؤَثِّرُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لِأَنَّهَا- وَإِنْ صَحَّتْ- لَا تُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ الظَّاهِرِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى التَّلْجِئَةِ، ثُمَّ قَالَا عِنْدَ الْبَيْعِ: كُلُّ شَرْطٍ كَانَ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ، تَبْطُلُ التَّلْجِئَةُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ زَائِدٌ، فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ، وَمَتَى سَقَطَ صَارَ الْعَقْدُ جَائِزًا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ.
9- التَّلْجِئَةُ إِذَا كَانَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ، بِأَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِبَيْعٍ لَمْ يَكُنْ، فَأَقَرَّا بِذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ، وَلَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ هِيَ بِثُبُوتِ الْمُخْبَرِ بِهِ حَالَ وُجُودِ الْإِخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا كَانَ الْإِخْبَارُ صِدْقًا وَإِلاَّ فَيَكُونُ كَذِبًا، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَاهُنَا- وَهُوَ الْبَيْعُ- لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، لِأَنَّهَا تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْبَدَلِ:
وَهُوَ أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
10- الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ.
وَمِثَالُهُ أَنْ يَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ، ثُمَّ يَتَبَايَعَا فِي الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ، فَهَلِ الْعِبْرَةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيْعِ بِالظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالظَّاهِرِ، أَيْ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ.
ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو يُوسُفَ.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْبَاطِنِ، أَيْ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ سِرًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي مَهْرِ السِّرِّ وَمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ: هُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، وَمَا ذَكَرَاهُ سِرًّا لَمْ يَذْكُرَاهُ حَالَةَ الْعَقْدِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ السَّابِقَ مُلْغًى، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ ثُمَّ عَقَدَا بِلَا شَرْطٍ صَحَّ الْعَقْدُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ ثَمَنُ السِّرِّ: هُوَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ، فَكَأَنَّهُمَا هَزَلَا بِهَا.أَيْ فَلَا تُضَمُّ إِلَى الثَّمَنِ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ هُوَ الثَّمَنَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ بَيْعِ الْهَازِلِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ- فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ- فَتُضَمُّ إِلَى الثَّمَنِ.
هَذَا، وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هَلْ هُوَ ثَمَنُ السِّرِّ أَوِ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ، أَنَّ مَحَلَّهُ إِنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ: إِنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ الْمُعْلَنَيْنِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفَانِ.
11- الضَّرْبُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ فِيهِ التَّلْجِئَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يُظْهِرَا الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَهَلْ يَبْطُلُ هَذَا الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ؟ ذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَبْطُلُ قِيَاسًا، وَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، أَيْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ.
وَمَحَلُّهُ- كَمَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ- إِنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ: إِنَّ الثَّمَنَ الْمُعْلَنَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ مِائَةُ دِينَارٍ.
وَوَجْهُ بُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزَلَا بِهِ، فَسَقَطَ وَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ.
وَوَجْهُ صِحَّتِهِ اسْتِحْسَانًا: هُوَ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلًا بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ إِلاَّ بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ، فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرَطَاهُ فِي الْبَاطِنِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ، كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا، بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ فِي السِّرِّ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ وَزِيَادَةٌ، فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ.
12- هَذَا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَيْضًا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَلَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ، أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَتَعَاقَدَا أَيْضًا فِي السِّرِّ بِثَمَنٍ، ثُمَّ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: إِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ، فَشُرُوعُهُمَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إِبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ، فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّيَ عِنْدَهُ.وَإِنْ قَالَا: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَا الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلَا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي، فَبَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ.وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَكَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَكِنْ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا حَيْثُ هَزَلَا بِهَا.
13- وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ، وَلَا أَثَرَ لِلِاتِّفَاقِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ مُلْغًى، فَصَارَ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ تَبَايَعَا بِلَا شَرْطٍ.
14- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ: أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى ثَمَنٍ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بِثَمَنٍ آخَرَ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّمَنَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَالنِّكَاحِ.
15- وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا فِي كُتُبِهِمْ بِبَيْعِ التَّلْجِئَةِ كَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا بَيْعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَضْغُوطِ وَبَيْعَ الْهَازِلِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ مَهْرٍ لِلسِّرِّ وَمَهْرٍ لِلْعَلَانِيَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَهْرِ السِّرِّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْعَلَنِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِلْأُبَّهَةِ وَالْفَخْرِ.فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ وَاتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ عُمِلَ بِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا حَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ إِنِ ادَّعَتِ الرُّجُوعَ عَنْ صَدَاقِ السِّرِّ الْقَلِيلِ إِلَى صَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ الْكَثِيرِ، فَإِنْ حَلَفَ عُمِلَ بِصَدَاقِ السِّرِّ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى الرُّجُوعِ وَعُمِلَ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ، فَإِنْ نَكَلَتْ عُمِلَ بِصَدَاقِ السِّرِّ.
16- هَذَا، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ: أَنَّ الِاسْتِرْعَاءَ فِي الْبُيُوعِ لَا يَجُوزُ، مِثْلُ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ، وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ، إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِخَافَةَ، فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْبَيْعِ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ يَخَافُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ حَتَّى بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، مَا دَامَ شُهُودُ الِاسْتِرْعَاءِ قَدْ عَرَفُوا الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَسَبَبَ الْإِخَافَةِ.
أَثَرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي:
17- لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْعَ التَّلْجِئَةِ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَإِنْ جَاءَ مُدَّعِي التَّلْجِئَةِ بِبَيِّنَةٍ قُبِلَتْ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ التَّلْجِئَةِ بِبَيِّنَةٍ.وَلَوْ قَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّلْجِئَةِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ خِلَافَ الظَّاهِرِ.
وَلَوْ تَبَايَعَا فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنِ اعْتَرَفَا بِبِنَائِهِ عَلَى التَّلْجِئَةِ، فَالْبَيْعُ فِي الْعَلَانِيَةِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا هَزَلَا بِهِ، وَإِلاَّ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ بَيْعِ السِّرِّ وَبُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمُعْلَنِ، وَهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ الثَّانِي وَبُطْلَانِ الِاتِّفَاقِ الْمُسْبَقِ فِي السِّرِّ، فَلَا تَرِدُ هَذِهِ التَّفْصِيلَاتُ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَتُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلَافُ فِيهَا فِي مَبَاحِثِ الْبَيْعِ وَالدَّعْوَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (تصحيح 1)
تَصْحِيحٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- التَّصْحِيحُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَحَّحَ، يُقَالُ: صَحَّحْتُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ تَصْحِيحًا: إِذَا أَصْلَحْتَ خَطَأَهُ، وَصَحَّحْتَهُ فَصَحَّ.
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، إِذَا اسْتَوْفَى شَرَائِطَ الصِّحَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُحَدِّثُونَ.
وَيُطْلَقُ التَّصْحِيحُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى كِتَابَةِ (صَحَّ) عَلَى كَلَامٍ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ بِأَنْ كُرِّرَ لَفْظٌ مَثَلًا لَا يُخِلُّ تَرْكُهُ.
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ: إِزَالَةُ الْكُسُورِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ.
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ أَوْ حَذْفُ مَا يُفْسِدُ الْعِبَادَةَ أَوِ الْعَقْدَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّعْدِيلُ:
2- التَّعْدِيلُ: مَصْدَرُ عَدَّلَ، يُقَالُ: عَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَعْدِيلًا فَاعْتَدَلَ: إِذَا سَوَّيْتَهُ فَاسْتَوَى.وَمِنْهُ قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ.وَعَدَّلْتُ الشَّاهِدَ: نَسَبْتَهُ إِلَى الْعَدَالَةِ.وَتَعْدِيلُ الشَّيْءِ: تَقْوِيمُهُ.
ب- التَّصْوِيبُ:
3- التَّصْوِيبُ: مَصْدَرُ صَوَّبَ مِنَ الصَّوَابِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ، وَالتَّصْوِيبُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ التَّصْحِيحَ، وَصَوَّبْتَ قَوْلَهُ: قُلْتَ: إِنَّهُ صَوَابٌ.
ج- التَّهْذِيبُ:
4- التَّهْذِيبُ كَالتَّنْقِيَةِ، يُقَالُ: هَذَّبَ الشَّيْءَ، إِذَا نَقَّاهُ وَأَخْلَصَهُ.وَقِيلَ: أَصْلَحَهُ.
د- الْإِصْلَاحُ:
5- الْإِصْلَاحُ ضِدُّ الْإِفْسَادِ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ، وَأَصْلَحَ الدَّابَّةَ: أَحْسَنَ إِلَيْهَا.
هـ- التَّحْرِيرُ:
6- تَحْرِيرُ الْكِتَابَةِ: إِقَامَةُ حُرُوفِهَا وَإِصْلَاحُ السَّقْطِ وَتَحْرِيرُ الْحِسَابِ: إِثْبَاتُهُ مُسْتَوِيًا لَا غَلَتَ فِيهِ، وَلَا سَقْطَ وَلَا مَحْوَ.وَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ: عِتْقُهَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7- تَصْحِيحُ الْفَسَادِ وَالْخَطَأِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا مَتَى عَرَفَهُ الْإِنْسَانُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ: كَمَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُ هَذَا الْخَطَأِ بِالِاتِّجَاهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَإِلاَّ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ.أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ: كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، فَيَجِبُ إِسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ وَجَبَ فَسْخُ الْبَيْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْحِيحِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلًا: تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ:
8- تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ لِتَوَافُرِ شُرُوطٍ خَاصَّةٍ اشْتَرَطَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ.وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُحَدِّثُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ الَّذِي يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلَا يَكُونُ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.فَإِذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ حُكِمَ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شُذُوذًا.وَالْحُكْمُ بِتَوَاتُرِ الْحَدِيثِ حُكْمٌ بِصِحَّتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: يُحْكَمُ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ إِذَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ- لَمَّا حَكَى عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَحَّحَ حَدِيثَ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَ مِثْلَ إِسْنَادِهِ- لَكِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدِي صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرايِينِيُّ: تُعْرَفُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ
نَكِيرٍ مِنْهُمْ.وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ فُورَكٍ.
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اشْتَرَطَ غَيْرَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، كَاشْتِرَاطِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ رَاوِي الْحَدِيثِ مَشْهُورًا بِالطَّلَبِ (أَيْ طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَتَبُّعِ رِوَايَاتِهِ) وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، وَكَاشْتِرَاطِ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهَ الرَّاوِي، وَكَاشْتِرَاطِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ الْعِلْمَ بِمَعَانِي الْحَدِيثِ، حَيْثُ يُرْوَى بِالْمَعْنَى، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، لَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الضَّبْطِ، وَكَاشْتِرَاطِ الْبُخَارِيِّ ثُبُوتَ السَّمَاعِ لِكُلِّ رَاوٍ مِنْ شَيْخِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِمْكَانِ اللِّقَاءِ وَالْمُعَاصَرَةِ.
أَثَرُ عَمَلِ الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ فِي التَّصْحِيحِ:
9- قَالَ النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: عَمَلُ الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لَيْسَ حُكْمًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا بِتَعْدِيلِ رُوَاتِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْخَبَرَ.وَصَحَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَالِكِ الِاحْتِيَاطِ (أَيْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، بَلْ لِلِاحْتِيَاطِ).وَفَرَّقَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ.
كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَالِمِ لِلْحَدِيثِ لَا تُعْتَبَرُ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ وَلَا فِي رُوَاتِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ مِنْ مُعَارِضٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ حَدِيثَ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نَافِعٍ رَاوِيهِ.
وَمِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَيْضًا- كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ- مُوَافَقَةُ الْإِجْمَاعِ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ غَيْرَهُ.وَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ.
تَصْحِيحُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ:
10- يَرَى الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ التَّصْحِيحُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَحِّحَ، بَلْ يَقْتَصِرُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ السَّابِقُونَ، كَمَا يَرَى عَدَمَ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ صَحِيحًا بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمْ لِمَا أَهْمَلُوهُ لِشِدَّةِ فَحْصِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ.
وَقَدْ خَالَفَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ ابْنَ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ.
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحَادِيثَ لَمْ يُعْرَفْ تَصْحِيحُهُمَا عَنِ الْأَقْدَمِينَ.
ثَانِيًا: تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ:
11- الْفُقَهَاءُ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ- وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ- لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ».وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا.
وَفِي بَابِ الرَّهْنِ قَالَ: لَوْ بَطَلَ الْعَقْدُ لَمَا عَادَ صَحِيحًا.
وَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِلُّ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَهِيَ:
أ- مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
ب- شَرْطُ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ فَسْخُهُ وَإِنْ أَسْقَطَ لِجَوَازِ كَوْنِ إِسْقَاطِهِ أَخْذًا بِهِ.
ج- مَنْ بَاعَ أَمَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ فَهِيَ حُرَّةٌ، أَوْ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَثَلًا، فَيُفْسَخُ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ يَمِينٌ.
د- شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ.
وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ شَرْطًا خَامِسًا وَهُوَ:
هـ- شَرْطُ النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ) فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلَا يَصِحُّ.
وَفِي الْإِجَارَةِ جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمَحَلُّ الْفَسَادِ إِنْ لَمْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، فَإِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ صَحَّتْ.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ.فَيَقُولُ: هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ؟ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلَالِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنَ بِهِ، كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَدَّعِ الزِّقَّ.وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ.هُوَ: هَلْ هَذَا الْفَسَادُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، لَمْ يَرْتَفِعِ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولًا، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ أَكْثَرُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَارْتَفَعَ الْغَرَرُ.
12- وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ- خِلَافًا لِزُفَرَ- تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَيَقُولُونَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ، بَلْ كَانَ مَعْدُومًا.
وَعِنْدَ زُفَرَ: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
لَكِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا.يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ- وَهُوَ الْبَدَلُ أَوِ الْمُبْدَلُ- لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا إِذَا بَاعَ عَبْدًا بأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بَلْ فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، أَوْ لَمْ يُذْكُرِ الْوَقْتُ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْلَ حُلُولِهِ وَقَبْلَ فَسْخِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الْأَجَلِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ فِي التَّسْلِيمِ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعَ بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ- كَمَا إِذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ- أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا عَلَى التَّقْدِيرِ بَيْعُ مَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا.فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ.
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: إِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ.وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَالزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْرُ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَامْتِنَاعُ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ، فَإِذَا فَصَّلَهَا وَسَلَّمَهَا جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ: إِذَا رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ رَهَنَ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الْأَرْضِ، أَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوْ رَهَنَ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ.وَلَوْ جُذَّ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَسُلِّمَ مُنْفَصِلًا جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا آخَرَ:
13- هَذَا، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إِذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ لِتَوَافُرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي قَاعِدَةِ (هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا).وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ:
14- فِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةً.
وَفِي الِاخْتِيَارِ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ..فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِذَا عَقَدَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا عِنْدَهُمَا، لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَاتَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ يُجْعَلُ عِنَانًا إِذَا أَمْكَنَ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ أَيْضًا: عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، إِنْ شُرِطَ فِيهِ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ رِبْحٍ لَا يُمْلَكُ إِلاَّ بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَمَّا شُرِطَ لَهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ عُرْفًا وَشَرْعًا.
وَجَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: مَنْ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَعْلَمَ الْمُحَالَ، صَحَّ عَقْدُ الْحَوَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ تَصِحَّ، وَتَنْقَلِبُ حَمَالَةً أَيْ كَفَالَةً.
وَفِي أَشْبَاهِ السُّيُوطِيِّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ.التَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ.إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَسَدَ وَلَا تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: عِتْقٌ بِعِوَضٍ، صَحَّ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى.وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ قَالَ: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ.
ثَالِثًا- تَصْحِيحُ الْعِبَادَةِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُفْسِدُهَا:
15- مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ أَوْ تَلَافِيهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهَا، وَهِيَ تُعْتَبَرُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي التَّفْصِيلِ فِيهَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَبَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَالْجَهْلِ، وَمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ.
فَإِذَا طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَفَسَدَتْ فِعْلًا- عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ مُفْسِدًا- فَلَا مَجَالَ لِتَصْحِيحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَيَلْزَمُ إِعَادَتُهَا إِنِ اتَّسَعَ وَقْتُهَا، أَوْ قَضَاؤُهَا إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِعَادَةٌ- قَضَاءٌ).
وَالْكَلَامُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَةِ الْمُفْسِدِ أَوْ تَلَافِيهِ لِتَصِحَّ الْعِبَادَةُ، مِثْلُ طُرُوءِ النَّجَاسَةِ أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى: أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُفْسِدَهَا لَوِ اسْتَمَرَّ وَأَمْكَنَ تَلَافِيهِ وَإِزَالَتُهُ وَجَبَ فِعْلُ ذَلِكَ لِتَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ.
وَنَظَرًا لِتَعَذُّرِ حَصْرِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ ذَلِكَ:
16- مَنِ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، وَبَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا، وَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَ أَهْلِ قُبَاءَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (اسْتِقْبَالٌ- قِبْلَةٌ- صَلَاةٌ).
17- مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ- وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- فَأَزَالَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟.قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا».
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نَجَاسَةٌ- صَلَاةٌ).
18- مَنِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- بِأَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ سُتْرَتَهُ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ- فَإِنْ أَعَادَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ.
وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لِعَدَمِ وُجُودِ سُتْرَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ سُتْرَةً قَرِيبَةً مِنْهُ سَتَرَ بِهَا مَا وَجَبَ سَتْرُهُ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا عَلِمُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَوْرَةٌ- صَلَاةٌ).
19- إِنْ خَفَّ فِي الصَّلَاةِ مَعْذُورٌ بِعُذْرٍ مُسَوِّغٍ لِلِاسْتِنَادِ أَوِ الْجُلُوسِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ انْتَقَلَ لِلْأَعْلَى، كَمُسْتَنِدٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَجَالِسٍ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ انْتَقَلَ وُجُوبًا، فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عُذْرٌ- صَلَاةٌ).
20- مَنْ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ بِنَجَسٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ طَرَحَهُ أَوْ غَسَلَهُمَا، وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَوَافِهِ إِنْ لَمْ يُطِلْ، وَإِلاَّ بَطَلَ طَوَافُهُ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (طَوَافٌ).
21- هَذَا، وَمِنْ تَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: بُطْلَانُ الْخُصُوصِ لَا يُبْطِلُ الْعُمُومَ.
جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: لَوْ تَحَرَّمَ بِالْفَرْضِ مُنْفَرِدًا فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ، فَصَحَّحَ النَّفَلَ مَعَ إِبْطَالِ الْفَرْضِ.
وَإِذَا تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ظَانًّا دُخُولَهُ بَطَلَ خُصُوصُ كَوْنِهَا ظُهْرًا، وَيَبْقَى عُمُومُ كَوْنِهَا نَفْلًا فِي الْأَصَحِّ.
وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَفِي انْعِقَادِهِ عُمْرَةً قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.وَحَكَاهُ فِي الْمُهَذَّبِ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ: لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْلِ.
22- وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَكَادُ تَكُونُ مُطَّرِدَةً فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: مَنْ أَتَى بِمَا يُفْسِدُ الْفَرْضَ فِي الصَّلَاةِ- كَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا عُذْرٍ- انْقَلَبَ فَرْضُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ كَقَطْعِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، فَتَبْقَى نِيَّةُ الصَّلَاةِ.وَيَنْقَلِبُ نَفْلًا كَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُ النَّفَلَ.
23- وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ.
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ.
وَإِذَا فَسَدَتِ الْفَرْضِيَّةُ لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: حُكْمُ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ، إِذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إِنْ وَصَلَ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ.
رَابِعًا- تَصْحِيحُ الْمَسَائِلِ فِي الْمِيرَاثِ:
24- تَصْحِيحُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ: أَنْ تُؤْخَذَ السِّهَامُ مِنْ أَقَلِّ عَدَدٍ يُمْكِنُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ الْكَسْرُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدُونِ الضَّرْبِ- كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِقَامَةِ- أَوْ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِ الرُّءُوسِ- كَمَا فِي صُورَةِ الْمُوَافَقَةِ- أَوْ فِي كُلِّ الرُّءُوسِ- كَمَا فِي صُورَةِ الْمُبَايَنَةِ.
مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْفَرْضِيَّةِ:
25- لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْفَرْضِيَّةِ قَوَاعِدُ يُكْتَفَى مِنْهَا بِمَا أَوْرَدَهُ عَنْهَا شَارِحُ السِّرَاجِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى سَبْعَةِ أُصُولٍ:
ثَلَاثَةٍ مِنْهَا بَيْنَ السِّهَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَخَارِجِهَا وَبَيْنَ الرُّءُوسِ مِنَ الْوَرَثَةِ.وَأَرْبَعَةٍ مِنْهَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ.
أَمَّا الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ:
26- فَأَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ سِهَامُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مُنْقَسِمَةً عَلَيْهِمْ بِلَا كَسْرٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الضَّرْبِ، كَأَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ.فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَعْنِي أَرْبَعَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ، فَاسْتَقَامَتِ السِّهَامُ عَلَى رُءُوسِ الْوَرَثَةِ بِلَا انْكِسَارٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّصْحِيحِ، إِذِ التَّصْحِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ بِقِسْمَتِهَا عَلَى الرُّءُوسِ.
27- وَالثَّانِي مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ:
أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً بِكَسْرٍ مِنَ الْكُسُورِ، فَيُضْرَبُ وَفْقَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ- أَيْ عَدَدِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ، وَهُمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ- فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا وَعَوْلِهَا مَعًا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَأَبَوَيْنِ وَعَشْرِ بَنَاتٍ، أَوْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَسِتِّ بَنَاتٍ.
فَالْأَوَّلُ: مِثَالُ مَا لَيْسَ فِيهَا عَوْلٌ.إِذْ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ.السُّدُسَانِ وَهُمَا اثْنَانِ لِلْأَبَوَيْنِ وَيَسْتَقِيمَانِ عَلَيْهِمَا، وَالثُّلُثَانِ وَهُمَا أَرْبَعَةٌ لِلْبَنَاتِ الْعَشَرَةِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَشَرَةِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَإِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ لَهُمَا هُوَ الِاثْنَانِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ أَعْنِي الْعَشَرَةَ إِلَى نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَضَرَبْنَاهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ ثَلَاثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ عَشْرَةً، لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ، مِنْهُ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.
وَالثَّانِي: مِثَالُ مَا فِيهَا عَوْلٌ.فَإِنَّ أَصْلَهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِاجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالسُّدُسَيْنِ وَالثُّلُثَيْنِ.فَلِلزَّوْجِ رُبُعُهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ سُدُسَاهَا وَهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ السِّتِّ ثُلُثَاهَا وَهُمَا ثَمَانِيَةٌ.فَقَدْ عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْبَنَاتِ- أَعْنِي الثَّمَانِيَةَ- عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ فَقَطْ.لَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ السِّهَامِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ تَوَافُقٌ بِالنِّصْفِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ إِلَى نِصْفِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَاهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَحَصَلَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَاسْتَقَامَتْ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ،
وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ ثَمَانِيَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَحَصَلَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.
28- وَالثَّالِثُ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ:
أَنْ تَنْكَسِرَ السِّهَامُ أَيْضًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً، بَلْ مُبَايَنَةً، فَيُضْرَبُ حِينَئِذٍ عَدَدُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا مَعَ عَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَزَوْجٍ وَخَمْسِ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ: النِّصْفُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِلزَّوْجِ، وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لِلْأَخَوَاتِ، فَقَدْ عَالَتْ إِلَى سَبْعَةٍ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْأَخَوَاتِ فَقَطْ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةً، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَصَارَ الْحَاصِلُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلْأَخَوَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.
وَمِثَالُ غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْعَائِلَةِ: زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ.فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا نِصْفُهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْأَخَوَاتِ لأُِمٍّ ثُلُثُهَا وَهُوَ اثْنَانِ، وَلَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، بَلْ بَيْنَهُمَا تَبَايُنُ، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِ الْأَخَوَاتِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْجَدَّةِ فِي الْمَضْرُوبِ أَيْضًا فَكَانَ ثَلَاثَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْأَخَوَاتِ لأُِمٍّ فِي الْمَضْرُوبِ فَصَارَ سِتَّةً، فَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَيْنِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَيْهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا- مِمَّنْ يَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ- يَنْبَغِي أَنْ يُضَعَّفَ عَدَدُ الذُّكُورِ، وَيُضَمَّ إِلَى عَدَدِ الْإِنَاثِ، ثُمَّ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ.أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ، وَالْبَاقِي ثَلَاثَةٌ، لِلْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيُجْعَلُ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ خَمْسَةً بِأَنْ يُنَزَّلَ الِابْنُ مَنْزِلَةَ بِنْتَيْنِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ الثَّلَاثَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ، فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَتَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ.
وَأَمَّا الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ:
29- فَأَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ انْكِسَارُ السِّهَامِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ مُمَاثَلَةٌ، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُضْرَبَ أَحَدُ الْأَعْدَادِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَحْصُلُ مَا تَصِحُّ بِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ.مِثْلُ: سِتُّ بَنَاتٍ، وَثَلَاثُ جَدَّاتٍ: أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ مَثَلًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ، وَثَلَاثَةِ أَعْمَامٍ.الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ: لِلْبَنَاتِ السِّتِّ الثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ.وَلِلْجَدَّاتِ الثَّلَاثِ السُّدُسُ وَهُوَ وَاحِدٌ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ.وَلِلْأَعْمَامِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ أَيْضًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ.ثُمَّ نَسَبْنَا هَذِهِ الْأَعْدَادَ الْمَأْخُوذَةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَوَجَدْنَاهَا مُتَمَاثِلَةً، فَضَرَبْنَا أَحَدَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ- أَعْنِي السِّتَّةَ- فَصَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ الْمَسْأَلَةُ.وَكَانَ لِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ سِهَامٍ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ، فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.وَلِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةٍ فَكَانَ ثَلَاثَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدٌ.وَلِلْأَعْمَامِ وَاحِدٌ أَيْضًا ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي الثَّلَاثَةِ، وَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَلَوْ فَرَضْنَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَمًّا وَاحِدًا بَدَلَ الْأَعْمَامِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ الِانْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَانَ وَفْقُ عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ مُمَاثِلًا لِعَدَدِ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، فَيُضْرَبُ الثَّلَاثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَصِحُّ السِّهَامُ عَلَى الْكُلِّ كَمَا مَرَّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (زيوف)
زُيُوفٌالتَّعْرِيفُ:
1- الزُّيُوفُ لُغَةً: النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ، وَهِيَ جَمْعُ زَيْفٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، ثُمَّ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، فَيُقَالُ: دِرْهَمٌ زَيْفٌ، وَدَرَاهِمُ زُيُوفٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: زَائِفَةٌ.قَالَ بَعْضُهُمْ: الزُّيُوفُ هِيَ الْمَطْلِيَّةُ بِالزِّئْبَقِ الْمَعْقُودِ بِمُزَاوَجَةِ الْكِبْرِيتِ وَتُسَكُّ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ لِتَلْتَبِسَ بِهَا.وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ بَاعَ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَتْ زُيُوفًا وَقَسِّيَّةً.أَيْ رَدِيئَةً.
وَالتَّزْيِيفُ لُغَةً: إِظْهَارُ زَيْفِ الدَّرَاهِمِ.
وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ أَصْبَحَ لِلزُّيُوفِ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ مَعْنًى آخَرَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجِيَادُ:
2- الْجِيَادُ لُغَةً: جَمِيعُ جَيِّدَةٍ، وَالدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ وَتُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا التَّضَادُّ.
ب- النَّبَهْرَجَةُ:
3- التَّبَهْرُجُ وَالْبَهْرَجُ: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَدِرْهَمٌ نُبَهْرَجٌ، أَوْ بَهْرَجٌ، أَوْ مُبَهْرَجٌ أَيْ رَدِيءُ الْفِضَّةِ، وَهُوَ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَقِيلَ هُوَ: مَا ضُرِبَ فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ.
ج- السَّتُّوقَةُ:
4- وَهِيَ صُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِالْفِضَّةِ نُحَاسُهَا أَكْثَرُ مِنْ فِضَّتِهَا.
د- الْفُلُوسُ:
5- الْفُلُوسُ جَمْعُ فَلْسٍ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مَضْرُوبَةٌ مِنَ النُّحَاسِ يُتَعَامَلُ بِهَا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا:
6- يَجُوزُ التَّعَامُلُ بِدَرَاهِمَ زُيُوفٍ أَيْ «مَغْشُوشَةٍ» وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَ غِشِّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهَا قِيمَةٌ إِنِ انْفَرَدَتِ الْفِضَّةُ أَمْ لَا، اسْتُهْلِكَتْ فِيهَا أَمْ لَا، وَلَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَاطُهَا بِالنُّحَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَضْرِبْ نُقُودًا وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، - رضي الله عنهم-، وَكَانُوا إِذَا زَافَتْ عَلَيْهِمْ أَتَوْا بِهَا إِلَى السُّوقِ وَقَالُوا: مَنْ يَبِيعُنَا بِهَذِهِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي دَرَاهِمَ يُقَالُ لَهَا: الْمُسَيَّبِيَّةُ عَامَّتُهَا مِنْ نُحَاسٍ، إِلاَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْفِضَّةِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَغْرِيرَ فِيهِ وَلَا يُمْنَعُ النَّاسُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ عَلَى التَّعَامُلِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ.
ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ:
7- يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ نُقُودٍ زَائِفَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْأَفْرَادِ اتِّخَاذُهَا، أَوْ إِمْسَاكُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَامَلُ بِهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهَا فَيَظُنُّهَا جَيِّدَةً وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ زُيُوفٌ فَلَا يُمْسِكُهَا بَلْ يَسْبِكُهَا وَيَصُوغُهَا، وَلَا يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ، إِلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ، وَيُعَامِلَ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَكُونُ تَغْرِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِدْخَالًا لِلضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَقُولُ إِنَّهَا حَرَامٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزُّيُوفَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- يَكْسِرُ الزُّيُوفَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ زَائِفٍ بِدِرْهَمٍ جَيِّدٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَلَا بِعَرَضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى إِدْخَالِ الْغِشِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُرِيقُ اللَّبَنَ الْمَشُوبَ بِالْمَاءِ، تَأْدِيبًا لِصَاحِبِهِ، فَإِجَازَةُ شِرَائِهِ إِجَازَةٌ لِغِشِّهِ وَإِفْسَادٌ لِأَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَقَدْ نَهَى عُمَرُ- رضي الله عنه- عَنْ بَيْعِ نُفَايَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَتْ زُيُوفًا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ- وَهُوَ الْفِضَّةُ- مَجْهُولٌ، فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ، وَاللَّبَنُ الْمَشُوبُ بِالْمَاءِ.
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيُعَلِّلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنْعَ بَيْعِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ بِأَنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ مَعَ وَحْدَةِ الْجِنْسِ فِي الْعِوَضَيْنِ.
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ مُسْتَهْلَكٌ مَغْمُورٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ قَالَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ، وَالزُّيُوفِ، وَالنَّبَهْرَجَةِ، وَالْمُزَيَّفَةِ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّ مَا يَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدِّرْهَمِ مُطْلَقًا، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِاسْمِ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْغِشَّ وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، أَوْ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ- وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ- تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَلَا تَجِبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ أَيِ النُّحَاسَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرْنَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا الْقِيمَةَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَلَيْسَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزُّيُوفِ مِنَ النُّقُودِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهَا نِصَابًا.فَإِذَا بَلَغَ خَالِصُهَا النِّصَابَ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ.
وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).
بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ:
9- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ مُتَفَاضِلًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ...مِثْلًا بِمِثْلٍ».
وَعَنْ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا»، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- عَنِ الدَّرَاهِمِ تَكُونُ مَعِي لَا تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي أَيْ رَدِيئَةً، فَأَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي وَأَهْضِمُ مِنْهَا؟ أَيْ أُنْقِصُ مِنَ الْبَدَلِ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْ دَرَاهِمَكَ بِدَنَانِيرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِكَ؛ وَلِأَنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا.
وَلَا مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ فَرْقِ الْجَوْدَةِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ «جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا سَوَاءٌ».
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ بِالدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ حَتَّى تُكْسَرَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَغُشَّ غَيْرَهُ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَالْخِلَافُ فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ كَغَيْرِهِ، وَإِلاَّ جَازَ قَطْعًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (رِبًا)، (صَرْفٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (صيغة)
صِيغَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّيغَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ الشَّيْءَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً، وَصُغْتُهُ أَصُوغُهُ صِيَاغَةً وَصِيغَةً، وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنُ الصِّيغَةِ، أَيْ حَسَنُ الْعَمَلِ.وَصِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا.وَصِيغَةُ الْكَلِمَةِ: هَيْئَتُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ تَرْتِيبِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا، وَالْجَمْعُ صِيَغٌ، قَالُوا: اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْكَلَامِ، أَيْ: تَرَاكِيبُهُ وَعِبَارَاتُهُ.
وَاصْطِلَاحًا: لَمْ نَعْرِفْ لِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفًا جَامِعًا لِلصِّيغَةِ يَشْمَلُ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي تُعْرِبُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ تَصَرُّفِهِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِبَارَةُ:
2- فِي اللُّغَةِ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَالِاسْمُ الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ أَيْ يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ أَيِ الْبَيَانِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عِبَارَةٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
ب- اللَّفْظُ:
3- فِي اللُّغَةِ: اللَّفْظُ أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، وَلَفَظَ بِالشَّيْءِ يَلْفِظُ: تَكَلَّمَ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- الصِّيغَةُ: رُكْنٌ فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا فِي إِنْشَائِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ أَحْكَامِ
تَنَوُّعِ الصِّيغَةِ بِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ
5- لَمَّا كَانَتِ الصِّيغَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى نَوْعِ الِالْتِزَامِ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الِالْتِزَامَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- بَعْضُ الِالْتِزَامَاتِ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِثْبَات 10) مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة).
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا صِيَغُ الْأَيْمَانِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان)، وَمُصْطَلَحَ: (لِعَان).
وَمِنْ ذَلِكَ صِيغَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ السَّلَمَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إِلاَّ شَيْئَيْنِ: النِّكَاحَ وَالسَّلَمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَوَاج (نِكَاح) (وَسَلَم).
6- ب- هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِعَارَةِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ- غَيْرُ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ- لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْتِزَامِ الدَّيْنِ ضَمَانٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَقْلِهِ حَوَالَةٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُلِ عَنْهُ إِبْرَاءٌ وَهَكَذَا.
وَمِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَابِ الْبَيْعِ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: رَضِيتُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ أَوْ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِثَوْبِكَ هَذَا، فَرَضِيَ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْحَطَّابِ: لَيْسَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ بَلْ هِيَ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ.
دَلَالَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لَكِنْ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ، فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ- هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْحَطَّابِ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ وَعْدًا.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِدَلَالَةِ (بِعْنِي) عَلَى الرِّضَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ إِيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُولُ: إِنْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الطَّلَبِ فَقَالَ بِعْنِي ثَوْبَكَ فَقَالَ بِعْتُكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ.
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد).
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ:
8- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ
وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَقْد).
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
9- أ- أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ، إِذْ مِنَ Cالْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ..وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
وَيَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَصِحُّ إِيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اللَّفْظُ، إِذِ الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لَاغٍ، وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ.
وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ خِلَافًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ.
أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِلِ وَاللاَّعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقٍ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا فَإِنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ Cوَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ إِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ.
أَمَّا عُقُودُ الْهَازِلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِلِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (عَقْد- هَزْل).
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَيَنْزِلُ كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ، عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الرِّدَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى Cنَفْسِهِ.وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إِسْلَامِهِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ، فَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ وَالْعُقُودُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
أَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ أَوِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَقْد- سُكْر).
ج- أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى Cإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ
10- حِينَ تُطْلَقُ الصِّيغَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَمَّا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ، إِذْ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَلِي:
أ- الْكِتَابَةُ:
11- الْكِتَابَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ هِيَ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْكِتَابَةُ الَّتِي لَا تُقْرَأُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ تَصَرُّفٍ.
وَإِنَّمَا تَصِحُّ التَّصَرُّفَاتُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ لِأَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فَنَزَلَتِ الْكِتَابَةُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّC- صلى الله عليه وسلم- بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِتَابَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ مُطْلَقًا، قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّكَاحَ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (تَعْبِير، وَخَرَس).
ب- الْإِشَارَةُ:
12- مِمَّا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْإِشَارَةُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالدَّعَاوَى وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ، قَالَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي (الْأَسَالِيبِ) وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعُ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ أَشَارَ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا خَرِسَ اعْتَدَّ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ الضَّرُورَةُ، وَأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ وَهَلْ تُقْبَلُ كَنُطْقِهِ أَمْ لَا؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ (إِشَارَة- ف 5) Cجـ- الْفِعْلُ:
13- قَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعَاطِي فِي الْعُقُودِ فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْإِقَالَةَ وَالْإِجَارَةَ بِالتَّعَاطِي.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَعَاطِي- ف 3.)
أَثَرُ الْعُرْفِ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ:
14- لِلْعُرْفِ أَثَرٌ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَمُرَاعَاةُ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى الْعُرْفِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَالَّتِي بُنِيَتْ أَسَاسًا عَلَى الْأَعْرَافِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، مِثْلُ: مُوجَبَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَلَفَ: لَا رَكِبْتُ دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسُ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ، وَيُفْتَى كُلُّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ رَأْسًا فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا.وَإِذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْلِ الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِلَ مِنْهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَصْلًا كَامِلًا فِي كِتَابِهِ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ تَحْتَ عِنْوَانٍ: «فَصْلٌ فِي تَنْزِيلِ دَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا»، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، وَافَقَتْ لُغَةَ Cالْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لَا
وَيَقُولُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: «.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَعَادَةُ النَّاسِ تُؤَثِّرُ فِي تَعْرِيفِ مُرَادِهِمْ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ».
وَنَظِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ.
أَثَرُ الصِّيغَةِ:
15- أَثَرُ الصِّيغَةِ: هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلصِّيغَةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الصِّيغَةِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعَ الْغَيْرِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَصُلْحٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ ارْتِبَاطٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ كَالنَّذْرِ وَالذِّكْرِ، أَوِ التَّعْبِيرِ عَمَّا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لَدَى الْغَيْرِ مِنْ حُقُوقٍ كَالْإِقْرَارَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصِّيغَةُ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ لِلْحَالِّ مَعَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ.
وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ.وَفِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.وَفِي النِّكَاحِ يَثْبُتُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ وَحِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ.
كَمَا يَجِبُ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الْوَفَاءُ وَالْبِرُّ..وَهَكَذَا.
وَالصِّيغَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا كَانَتْ هِيَ الْأَسَاسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي صُدُورِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ لَمَّا وَضَعَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يَعْنِي: لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلاَّ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لِشَرِيكِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا»
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، مِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْحَاكِمُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، وَلَا يَنْقُلُ الْبَاطِنَ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حِلِّ عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ، كُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ».فَلَا يُحِلُّ مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلَطَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ Cلِأَنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا التَّفْصِيلَ.
وَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
16- أَنْ تَظْهَرَ مُطَابَقَةُ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَالِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..
الْقِسْمُ الثَّانِي:
17- مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، هَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَالسَّكْرَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنًى يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
18- مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ غَيْرِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا.
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: إِذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلَامَهُ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلَا يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِلِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي Cوَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَلِ الِاعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلَافِهَا؟ أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلَالًا تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً أُخْرَى بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ، وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً، وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتَحْرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَنْوِيَ أَنَّهَا لَهُ فَتَحِلَّ لَهُ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُوَضِّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ الْقَصْدُ دُونَ اللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ يَقُولُ:
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلاَّ لَمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلَا تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِنْ كَانَ هَازِلًا، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ، وَلِهَذَا يُصَارُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 1)
عَقْد -1التَّعْرِيفُ:
1- الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: عَقَدَ الْحَبْلَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ: شَدَّهُ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْحَبْلَ: إِذَا جَمَعَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَرَبَطَ بَيْنَهُمَا.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: قِيلَ: عَقَدْتُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَّدْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَوْكِيدٌ، وَعَاقَدْتُهُ عَلَى كَذَا، وَعَقَدْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى: عَاهَدْتُهُ، وَمَعْقِدُ الشَّيْءِ مِثْلُ مَجْلِسٍ: مَوْضِعُ عَقْدِهِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إِحْكَامُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَالْجَمْعُ عُقُودٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أَيْ: أَحْكَامَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أ- الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَعْقِدُهُ (يَعْزِمُهُ) الشَّخْصُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ، كَمَا يَقُولُ الْجَصَّاصُ وَعَلَى ذَلِكَ فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَقْدًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ؛ لِأَنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا شَرَطَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ عَقْدٌ، وَكَذَلِكَ النُّذُورُ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ قَوْلُ الْأَلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حَيْثُ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَمَا يَعْقِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
ب- الْمَعْنَى الْخَاصُّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَتَيْنِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَحَلِّ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ الِالْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا.
وَمَوْضُوعُ الْبَحْثِ هُنَا الْعَقْدُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الِالْتِزَامُ:
2- أَصْلُ الِالْتِزَامِ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا؛ أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، يُقَالُ: لَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَ، وَالِالْتِزَامُ الِاعْتِنَاقُ.
وَالِالْتِزَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: إِنَّهُ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ...وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ.
وَالِالْتِزَامُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.
ب- التَّصَرُّفُ.
3- التَّصَرُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَلُّبُ فِي الْأُمُورِ، وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَيَشْمَلُ التَّصَرُّفَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالتَّصَرُّفُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ.
ج- الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ:
4- الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَالُ: عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الْأَمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ.
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَقْدِ بِالْإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِالْإِطْلَاقِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا الْوَعْدُ فَيَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.
وَالْوَعْدُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
أَرْكَانُ الْعَقْدِ:
5- أَرْكَانُ الشَّيْءِ: أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَجَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الرُّكْنُ هُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجَدُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عَاقِدٌ وَصِيغَةٌ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) وَمَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ (الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ).
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْعَقْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ، لَا مِنَ الْأَرْكَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ.
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَلِّ شُرُوطٌ لَا بُدَّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَوَافُرِهَا، نَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً- صِيغَةُ الْعَقْدِ:
6- صِيغَةُ الْعَقْدِ: كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ وَيَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِـ (الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ).
وَتَخْتَلِفُ الصِّيغَةُ فِي الْعَقْدِ حَسْبَ اخْتِلَافِ الْعُقُودِ.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَصْلُحُ لِلصِّيغَةِ كُلُّ لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ، مِثْلِ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، أَوْ: أَعْطَيْتُكَ، أَوْ: مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، وَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوْ: قَبِلْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ يَكْفِي كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، مِثْلُ قَوْلِ الْمُحِيلِ: أَحَلْتُكَ وَأَتْبَعْتُكَ، وَقَوْلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ: رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، وَنَحْوَهَا.
وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَعْطَيْتُهَا لَكَ رَهْنًا، وَقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ.
فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ لَفْظٌ خَاصٌّ، وَلَا صِيغَةٌ خَاصَّةٌ.
7- وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظٍ اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ الْإِنْكَاحِ، دُونَ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ.
وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا يَصِحُّ إِيجَابٌ إِلاَّ بِلَفْظِ أَنْكَحْتُ أَوْ زَوَّجْتُ..وَلَا يَصِحُّ قَبُولٌ لِمَنْ يُحْسِنُهَا إِلاَّ بِقَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ أَوْ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ رَضِيتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَبِلْتُ، فَقَطْ، أَوْ: تَزَوَّجْتُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَوَهَبْتُ وَنَحْوِهَا، إِذَا قُرِنَ بِالْمَهْرِ وَدَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الزَّوَاجِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (نِكَاح وَصِيغَة).
الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
8- الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ، وَالْقَبُولُ: مَا صَدَرَ ثَانِيًا عَنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَالًّا عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَوَّلِيَّةُ الصُّدُورِ فِي الْإِيجَابِ وَثَانَوِيَّتُهُ فِي الْقَبُولِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ.
وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِيجَابَ: مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ كَالْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالْقَبُولُ: هُوَ مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَصِيرُ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ صَدَرَ أَوَّلاً، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ الْمُمَلِّكَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُتَمَلِّكُ هُوَ الْقَابِلُ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَا صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا Bوَسَائِلُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ كَمَا يَحْصُلَانِ بِالْأَلْفَاظِ، كَذَلِكَ يَحْصُلَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعَاطَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ بَعْضِ هَذِهِ الْوَسَائِلِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- الْعَقْدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّيْنِ.
10- الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْأَلْفَاظِ هُوَ الْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إِذَا كَانَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ كَمَا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمَا، كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ كَصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلاً، كَقَوْلِهِ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْبَيْعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ.
أَمَّا صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الْحَالَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَإِلاَّ فَلَا، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ أَبْذُلُهُ أَوْ أُعْطِيكَهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ مِنْكَ أَوْ آخُذُهُ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْآخَرُ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَعَ نِيَّةِ الْإِيجَابِ لِلْحَالِ- فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَنْعَقِدْ.
وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صِيغَة ف 7).
اعْتِبَارُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.
11- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ- كَمَا يَقُولُ فِي الدُّرَرِ- أَنَّهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا يُنْظَرُ لِلْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ، بَلْ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلَا الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَمَا الْأَلْفَاظُ إِلاَّ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُقُودِ، فَطَبَّقُوهَا فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يُطَبِّقُوهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَسْبَ اخْتِلَافِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَبَّقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ، وَلَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ..وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ عَلَيْهِ كَانَ إِبْرَاءً لِلْمَعْنَى، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى الصَّحِيحِ..وَلَوْ رَاجَعَهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِلْمَعْنَى، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا بِكَذَا، فَقَالَ: أَخَذْتُ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ ذِكْرِ الْبَدَلِ، وَبِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَالِاشْتِرَاءِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنَافِعِ، وَبِلَفْظِ الْعَارِيَّةِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْحَالِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَعَكْسِهِ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَا رِبِ كُلَّ الرِّبْحِ كَانَ الْمَالُ قَرْضًا، وَلَوْ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا.
ثُمَّ قَالَ: وَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ:
مِنْهَا: لَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْبَيْعِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا الْعَارِيَّةُ بِالْإِجَارَةِ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَا الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ تُرَاعَى Bفِيهِمَا الْأَلْفَاظُ لَا الْمَعْنَى فَقَطْ.
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي طَبَّقَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْقَاعِدَةَ فِيهَا عَقْدُ بَيْعِ الْوَفَاءِ.فَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بَيْعَ الْوَفَاءِ بِكَذَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ، لَا يُفِيدُ تَمْلِيكَ عَيْنِ الدَّارِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، بَلِ الْمَقْصُودَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، وَإِبْقَاءُ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ دُونَ الْبَيْعِ اعْتِبَارًا لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعِيدَ الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.
وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ.كَمَا لَا يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 7).
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، وَقَدْ تَوَسَّعُوا بِالْأَخْذِ بِالْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْعُقُودِ حَتَّى أَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْمُعَاطَاةِ وَقَالُوا: كُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَشَدَّدُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاشْتَرَطُوا فِيهِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ لَفْظَ النِّكَاحِ أَوِ الزَّوَاجِ، وَقَالُوا: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالنِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ النِّكَاحَ صَحَّ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِتَرْجِيحِ الْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ كَأَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلْ ذَكَرُوا فِي الْأَخْذِ بِهِ خِلَافًا، قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ، فَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ، فَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ.
وَالثَّانِي- وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ- أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَلَمًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: إِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَلْ يَكُونُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى أَوْ هِبَةً بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ؟ الْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ.
وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوِ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعًا عَلَى الْأَظْهَرِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالثَّانِي: لَا، اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ.
وَمِنْهَا: الْخِلَافُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ضَابِطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ:
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ تَهَافَتَ اللَّفْظُ حُكِمَ بِالْفَسَادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَبِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوِ الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِاشْتِهَارِ الصِّيغَةِ فِي بَيْعِ الذِّمَمِ، وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بَيْعًا..وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، بَلْ كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ، كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا، فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَوَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَجَّحُوا الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ مَعَ بَعْضِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ وَالْخِلَافِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الْأَلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا بَلْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْغَضَبِ أَوِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) فَكَيْفَ Bيَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلَافُهَا؟.
وَيَقُولُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلَافَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ.
وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لِأَجْلِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ دُونَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ ذَكَرُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ أَوِ الْأَلْفَاظِ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا وَصَلَ بِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، أَوْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ هَلْ هُوَ اللَّفْظُ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقَرْضِ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، أَوْ لِي، فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي، وَنَقَلَ ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، فَرَاعَى الْحُكْمَ دُونَ اللَّفْظِ.
وَمِنْهَا: لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ حَالًّا فَهَلْ يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا؟ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلَافِهِ.
وَهَكَذَا نَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مَعَ أَخْذِهِمْ بِهَا كَأَصْلٍ.
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ.
12- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى Bالْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشُّبْرَامِلْسِيُّ يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالْأَيْمَانَ وَالنُّذُورَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ.
وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِي بَيَانِ اسْتِعْمَالِ صِيَغِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّلُ الْإِشْهَادَ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا الِانْعِقَادُ كَالْخُلْعِ لِحُصُولِ التَّرَاضِي مَعَ جَرَيَانِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رضي الله عنه- وَفِيهِ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : بِعْنِي جَمَلَكَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ».
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عَدِمَتْ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَافَرَتِ الْقَرَائِنُ Bوَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي دُخُولِ الْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ: يَخْتَلِفُ الْأَصْحَابُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ، فَقَالَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ: لَا كِنَايَةٌ إِلاَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ لَا كِنَايَاتٌ فِيهَا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلاً إِلاَّ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قَالَ: الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُسْتَقْبَلُ كِنَايَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَتَلْزَمُ، أَوْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْقُرْطُبِيِّ: الْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ، وَفِي الْحَطَّابِ أَيْضًا: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْبَيْعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: لَوْ قَالَ: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- قَالَ: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ».
فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا- وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ هُوَ الصَّحِيحَ - ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
ب- الْعَقْدُ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ.
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِهِمَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْعُقُودِ وَفَصَّلُوا فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ.قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ.وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الْبَيْعِ: يَصِحُّ بِقَوْلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ كِتَابَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَوْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَكِتَابَةٍ مِنَ الْآخَرِ.
أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ أَمْ غَائِبَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا تَكْفِي فِي النِّكَاحِ الْإِشَارَةُ وَلَا الْكِتَابَةُ إِلاَّ لِضَرُورَةِ خَرَسٍ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفُسِخَ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْوَلِيِّ أَوِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ، بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ، فَلَوْ قَالَ لِغَائِبٍ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَالَ: قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا.
وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ فَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةِ حَاضِرٍ، فَلَوْ كَتَبَ: تَزَوَّجْتُكِ، فَكَتَبَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَتْ: قَبِلْتُ، أَمَّا كِتَابَةُ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطٍ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ نَقَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَوْ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطِبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ Bنَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُلْ بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَبِإِسْمَاعِهِمُ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا يَكُونُونَ قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا انْتَفَيَا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَامِلِ: هَذَا الْخِلَافَ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي، لَا يُشْتَرَطُ إِعْلَامُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.
14- وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ- عُمُومًا- أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً؛ أَيْ تَبْقَى صُورَتُهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْوَرَقِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَتُقْرَأُ وَتُفْهَمُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَرْسُومَةٍ بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ عَقْدٍ.
وَوَجْهُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِتَابَةِ هُوَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بَلْ رُبَّمَا تَكُونُ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ حَثَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.
ج- الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ.
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْإِشَارَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ النَّفْرَاوِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلَامِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا
وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ بِالْعَقْدِ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ.وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ، فَقَالَ Bجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ الْإِشَارَةِ فِي الْعُقُودِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.
وَهَلْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرْطٌ لِلْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِشَارَة).
د- الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي (الْمُعَاطَاةِ).
16- التَّعَاطِي مَصْدَرُ تَعَاطَى، مِنَ الْعَطْوِ بِمَعْنَى التَّنَاوُلِ، وَصُورَتُهُ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ الْآخَرُ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَكَمَا يَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَعَقْدُ الزَّوَاجِ لَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي.
أَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَنْعَقِدَ بِالْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ لَهَا دَلَالَةٌ بِأَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّعَاطِي يَنْطَوِي عَلَى دَلَالَةٍ تُشْبِهُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ حَسْبَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ إِذَا وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّضَا، وَهَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ جَوَازِ الْعُقُودِ بِالتَّعَاطِي، وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الْعَقْدَ بِالتَّعَاطِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الِانْعِقَادَ بِهَا فِي كُلِّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (ناض)
نَاضّالتَّعْرِيفُ:
1- النَّاضُّ- فِي اللُّغَةِ- اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ الْفِعْلِ نَضَّ، يُقَالُ: نَضَّ الْمَاءُ: سَالَ، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَاءِ: مَا لَهُ مَادَّةٌ وَبَقَاءٌ، وَنَضَّ الثَّمَنُ: حَصَلَ وَتَعَجَّلَ، وَالنَّضُّ: الدِّرْهَمُ الصَّامِتُ، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَتَاعِ: مَا تَحَوَّلَ وَرِقًا أَوْ عَيْنًا، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ نَضًّا وَنَاضًّا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ نَاضًّا إِذَا تَحَوَّلَ عَيْنًا بَعْدَ مَا كَانَ مَتَاعًا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَا نَضَّ بِيَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، أَيْ مَا حَصَلَ، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: «كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ نَاضِّ الْمَالِ» وَهُوَ مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، عَيْنًا أَوْ وَرِقًا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاضِّ مِنْ أَحْكَامٍ:
اشْتِرَاطُ النَّضُوضِ لِوُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ:
2- يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا كَانَ التَّاجِرُ مُدِيرًا- وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي كَأَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ- أَنْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ قَلَّ كَدِرْهَمٍ لَا أَقَلَّ، فَإِذَا نَضَّ لَهُ دِرْهَمٌ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ يُقَوِّمُ عُرُوضَ تِجَارَتِهِ، وَيُخْرِجُ عَمَّا قَوَّمَهُ عَيْنًا لَا عَرَضًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنِضَّ لَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ.
وَذَكَرَ أَشْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنِضَّ لَهُ نِصَابٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّهُ يُزَكِّي وَلَوْ لَمْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ.
فَإِنْ لَمْ يَنِضَّ لِلتَّاجِرِ شَيْءٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، قَالَ سَحْنُونٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا كَانَ يُدِيرُ مَالَهُ لِلتِّجَارَةِ لَا يَنِضُّ لَهُ شَيْءٌ، فَاشْتَرَى بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُ حِنْطَةً، فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُهُ الَّذِي يُقَوَّمُ فِيهِ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ حِنْطَةً فَقَالَ: أَنَا أُؤَدِّي إِلَى الْمَسَاكِينِ رُبْعَ عُشْرِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ كَيْلًا وَلَا أُقَوِّمُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ يُدِيرُ مَالَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا يَنِضُّ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ فَهَذَا لَا يُقَوِّمُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا زَكَاةَ وَلَا يُقَوِّمُ حَتَّى يَنِضَّ لَهُ بَعْضُ مَالِهِ، قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ كَانَ يَبِيعُ بِالْعَيْنِ وَالْعَرَضِ فَذَلِكَ الَّذِي يُقَوِّمُ.
وَفِي الْحَطَّابِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِالنَّضُوضِ، وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ، قَالَ الرَّجْرَاجِيُّ فِي الْمُدِيرِ إِذَا كَانَ يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ ذَرِيعَةً لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبِ، وَيُؤْخَذُ بِزَكَاةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ كَانَ يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ وَلَا يَنِضُّ لَهُ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ عَيْنٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ.
وَالتَّاجِرُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَكَانَ مُدِيرًا وَقَدْ نَضَّ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَلَوْ دِرْهَمًا فَقِيلَ: إِنَّهُ يُقَوِّمُ عُرُوضَهُ وَدُيُونَهُ وَيُزَكِّيهَا مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ لِحَوْلٍ مِنْ إِسْلَامِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِثَمَنِ مَا بَاعَ بِهِ مِنْ عُرُوضِ الْإِدَارَةِ حَوْلًا بَعْدَ قَبْضِهِ إِذَا كَانَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ كَالْفَائِدَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَوَّاقِ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِ الْقِرَاضِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ كَانَ الْعَامِلُ حَاضِرًا مَعَ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَا جَمِيعًا مُدِيرَيْنِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنِضَّ الْمَالُ وَيَتَفَاصَلَا، وَإِنْ أَقَامَ الْمَالُ بِيَدِهِ أَحْوَالًا.
وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ مُدِيرًا يَكْفِي النَّضُوضُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ أَدَارَ الْعَامِلُ فَقَطْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ اللَّقَانِيُّ: يُشْتَرَطُ النَّضُوضُ فِيمَنْ لَهُ الْحُكْمُ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ النَّضُوضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ضَمِّ رِبْحِ التِّجَارَةِ إِلَى الْأَصْلِ أَوْ عَدَمِ ضَمِّهِ.
قَالُوا: يَضُمُّ رِبْحَ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَنِضَّ، فَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ آخِرِ الْحَوْلِ وَلَوْ بِلَحْظَةٍ ثَلَاثَمِائَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْجَمِيعَ آخِرَ الْحَوْلِ، سَوَاءٌ أَحَصَلَ الرِّبْحُ بِزِيَادَةٍ فِي نَفْسِ الْعَرَضِ كَسَمْنِ الْحَيَوَانِ أَمْ بِارْتِفَاعِ الْأَسْوَاقِ.
أَمَّا إِذَا نَضَّ- أَيْ صَارَ الْكُلُّ نَاضًّا- دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نِصَابٌ، وَأَمْسَكَهُ إِلَى آخِرِ الْحَوْلِ، أَوِ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا قَبْلَ تَمَامِهِ فَيُفْرِدُ الرِّبْحَ بِحَوْلِهِ وَيُزَكِّي الْأَصْلَ بِحَوْلِهِ، وَهَذَا فِي الْأَظْهَرِ، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ نَاضًّا بِالْبَيْعِ أَوْ بِإِتْلَافِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، أَوِ اشْتَرَى بِهَا عَرَضًا، وَهُوَ يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةٍ فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْ مِائَتَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى أَخْرَجَ عَنِ الْمِائَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ يُزَكِّي الرِّبْحَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ، كَمَا يُزَكِّي النِّتَاجَ بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ.
هَذَا إِذَا كَانَ النَّاضُّ مَنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاضُّ الْمَبِيعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ كَبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ فَيَضُمُّ الرِّبْحَ إِلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا هُوَ مِنِ الْجِنْسِ.
وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دُونَ نِصَابٍ: كَأَنِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ حَوْلِ الشِّرَاءِ، وَاعْتَبَرْنَا النِّصَابَ آخِرَ الْحَوْلِ فَقَطْ زَكَّاهُمَا إِنْ ضَمَمْنَا الرِّبْحَ النَّاضَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ، وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ الرِّبْحَ إِلَى الْأَصْلِ- وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ- فَإِنَّهُ يُزَكِّي مِائَةً وَالرِّبْحَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَزَكَّى مِائَةَ الْأَصْلِ قَبْلَهَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النَّضُوضَ لَا يَقْطَعُهُ؛ لِكَوْنِهِ نِصَابًا.
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ أَوْ فِي طَرَفَيْهِ فَابْتِدَاءُ حَوْلِ الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ بَاعَ وَنَضَّ فَإِذَا تَمَّ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ.
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الشَّرِكَةِ:
3- الشَّرِكَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخُ الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ لِفَسْخِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ مَالُ الشَّرِكَةِ نَاضًّا، أَيْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَإِذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا فَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ، وَتَبْقَى قَائِمَةٌ إِلَى أَنْ يَنِضَّ الْمَالُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةِ الْعَقْدِ ف 56، 57).
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ:
4- إِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ نَاضًّا- أَيْ صَارَ عَيْنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ- فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ نَاضٍّ بِأَنْ كَانَ عُرُوضًا مَثَلًا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ جَازَ.
وَإِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ تَنْضِيضَهُ فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ نَضُوضَ الْمَالِ فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْأَصْلَحِ مِنْ تَعْجِيلِ التَّنْضِيضِ أَوْ تَأْخِيرِهِ فَيَحْكُمُ بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى نَضُوضِهِ جَازَ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَيَكْفِي مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَاسْتَظْهَرَ الْعَدَوِيُّ كِفَايَةَ وَاحِدٍ عَارِفٍ يَرْضَيَانِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ تَنْضِيضُ رَأْسِ الْمَالِ إِنْ كَانَ عِنْدَ الْفَسْخِ عَرَضًا وَطَلَبَ الْمَالِكُ تَنْضِيضَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَمْ لَا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَ الْفَسْخِ نَاضًّا لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فَكَالْعُرُوضِ.
فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ التَّنْضِيضَ لَمْ يَجِبْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَحَظُّهُ فِي التَّنْضِيضِ فَيَجِبُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ التَّنْضِيضُ إِذَا لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ وَالْمَالُ عَرَضٌ فَرَضِيَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَالِهِ مِنَ الْعَرَضِ فَلَهُ ذَلِكَ، فَيُقَوَّمُ الْعَرَضُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ حِصَّةَ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مِنَ الْعَامِلِ الْبَيْعَ، وَقَدْ صَدَّقَهُ عَلَى الرِّبْحِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَظٍّ يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِي بَيْعِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةً عَلَى قَطْعِ رِبْحِ عَامِلٍ، كَشِرَائِهِ خَزًّا فِي الصَّيْفِ لِيَرْبَحَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي رِبْحِهِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَفَعَ السِّعْرُ بَعْدَ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمَالِكِ وَدَفْعِهِ حِصَّةَ الْعَامِلِ لَمْ يُطَالِبْهُ الْعَامِلُ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوِ ارْتَفَعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِأَجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَالِ بِأَخْذِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ وَطَلَبَ الْبَيْعَ أَوْ طَلَبَ الْبَيْعَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْمُضَارِبَ بَيْعُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِلِ رَدَّ الْمَالِ نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ، وَإِنْ نَضَّ الْعَامِلُ رَأْسَ الْمَالِ جَمِيعَهُ وَطَلَبَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَنِضَّ الْبَاقِي لَزِمَ الْعَامِلَ أَنْ يَنِضَّ لَهُ الْبَاقِيَ كَرَأْسِ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ فَصَارَ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ بِأَنْ كَانَ دَنَانِيرَ فَصَارَ دَرَاهِمَ فَكَعَرَضٍ إِنْ رَضِيَهُ رَبُّ الْمَالِ وَإِلاَّ لَزِمَ الْعَامِلَ إِعَادَتُهُ كَمَا كَانَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَجْهَيْنِ إِذَا طَلَبَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيْعَ وَأَبَى الْعَامِلُ.
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الْمَالِ نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ زَالَ تَصَرُّفُهُ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَالِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ إِذَا اشْتَرَى مَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ قَبْلَ رَدِّهِ.
وَإِنْ طَلَبَ الْعَامِلُ الْبَيْعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَالِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أُجْبِرَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ وَلَا يَظْهَرُ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ رَضِيَهُ مَالِكُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ.
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي إِتْمَامِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ انْفِسَاخِهَا:
5- مِمَّا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَامِلِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَا جُنُونُ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَيَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ جُنُونِهِ كَالْوَكَالَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَالُ عَرَضًا أَوْ نَاضًّا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، فَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، إِلاَّ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إِذَا كَانَ مَتَاعًا فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا.
وَنَقَلَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إِذَا مَاتَ وَالْمَالُ عُرُوضٌ بَاعَهَا وَصِيُّهُ، وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمَالُ نَقْدٌ تَبْطُلُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا تَبْطُلُ فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا تَبْطُلُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ فَلَهُ بَيْعُهُ بِعَرَضٍ وَنَقْدٍ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَقَارِضَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ.
قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنْ مَاتَ الْعَامِلُ قَبْلَ النَّضُوضِ فَلِوَارِثِهِ الْأَمِينِ أَنْ يُكَمِّلَهُ عَلَى حُكْمٍ مَا كَانَ مُوَرِّثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ أَمِينًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمِينٍ كَالْأَوَّلِ فِي الْأَمَانَةِ وَالثِّقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَرَثَةُ بِأَمِينٍ سَلَّمُوا الْمَالَ لِرَبِّهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ أَوْ جُنَّ وَالْمَالُ عَرَضٌ فَلِلْعَامِلِ التَّنْضِيضُ وَالتَّقَاضِي بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَرَثَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْجُنُونِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الْعَاقِدِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَامِلُ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ لَا يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ دُونَ إِذْنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِمْ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنِ الْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ تَوَلاَّهُ أَمِينٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَلَا يُقَرِّرُ وَرَثَةُ الْمَالِكِ الْعَامِلَ عَلَى الْقِرَاضِ، كَمَا لَا يُقَرِّرُ الْمَالِكُ وَرَثَةَ الْعَامِلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعَرَضِ، فَإِنْ نَضَّ الْمَالُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ تَقْرِيرُ الْجَمِيعِ، فَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ الْوَرَثَةُ- أَيْ وَرَثَةُ الْمَالِكِ لِلْعَامِلِ- قَرَّرْنَاكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِ، أَوْ يَقُولَ الْمَالِكُ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ: قَرَرْتُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مُوَرِّثُكُمْ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِمْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ التَّقْرِيرُ لِإِنْشَاءِ عَقْدٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ السَّابِقِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَأَيُّ الْمُتَقَارِضَيْنِ مَاتَ أَوْ جُنَّ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَانْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ كَالتَّوْكِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الْجُنُونُ بِرَبِّ الْمَالِ فَأَرَادَ الْوَارِثُ أَوْ وَلِيُّهُ إِتْمَامَهُ وَالْمَالُ نَاضٌّ جَازَ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ رَأْسَ الْمَالِ، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ مُشَاعَةً، وَهَذِهِ الْإِشَاعَةُ لَا تَمْنَعُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ هُوَ الْعَامِلُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا وَأَرَادُوا إِتْمَامَهُ: فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِيَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ، فَظَاهِرُ هَذَا بَقَاءُ الْعَامِلِ عَلَى قِرَاضِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إِتْمَامٌ لِلْقِرَاضِ لَا ابْتِدَاءٌ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاضَ إِنَّمَا مُنِعَ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ إِلَى رَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ غَيْرُ الْعُرُوضِ وَحُكْمَهُ بَاقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ وَيُقَسِّمَ الْبَاقِيَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ قِرَاضٍ عَلَى عُرُوضٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْيَسُ، لِأَنَّ الْمَالَ لَوْ كَانَ نَاضًّا كَانَ ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ رَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا بِخَسَارَةٍ أَوْ تَلَفٍ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ حَالَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاضِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ هَاهُنَا وَبِنَاءَهُمَا عَلَى الْقِرَاضِ لَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ وَحِصَّتُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ الْعُرُوضُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَالُ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ بِلَا خِلَافٍ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْقِرَاضِ.
فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْعَامِلُ أَوْ جُنَّ وَأَرَادَ ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ مَعَ وَارِثِهِ أَوْ وَلِيِّهِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا جَازَ كَمَا قُلْنَا فِيمَا إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا لَمْ يَجُزِ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ عَلَى الْعُرُوضِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعُرُوضُ وَيُجْعَلَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعَمَلُ قَدْ مَاتَ أَوْ جُنَّ وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ أَصْلًا يَبْنِي عَلَيْهِ وَارِثُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا جَازَ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ فِيهِ إِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ شِرَاءٌ وَلَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِنَّمَا رَضِيَ بِاجْتِهَادِ مُوَرِّثِهِ.
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي تَعَدُّدِ الْمُضَارَبَةِ:
6- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ لَعَامَلِ الْقِرَاضِ مَالًا ثَانِيًا بَعْدَ الْمَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ يُضَارِبُ فِيهِ الْعَامِلُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْأَوَّلُ نَاضًّا أَيْ صَارَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ- وَذَلِكَ بِبَيْعِ السِّلَعِ الَّتِي اشْتَرَاهَا وَقَبَضَ ثَمَنَهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ- فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَالِ الثَّانِي بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْأَوَّلُ قَدْ نَضَّ مُسَاوِيًا، لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ وَلَا خَسَارَةٍ، بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا وَنَضَّ أَلْفًا، فَإِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ أَوْ خَسَارَةٍ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ قَدْ يَضِيعُ عَلَى الْعَامِلِ رِبْحُهُ، وَإِنْ نَضَّ بِخَسَارَةٍ قَدْ يُجْبِرُ الْقِرَاضُ الثَّانِي خَسَارَةَ الْأَوَّلِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ جُزْؤُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْعَامِلِ فِي الْمَالِ الثَّانِي كَالرِّبْحِ فِي الْمَالِ الْأَوَّلِ، كَالثُّلُثِ مِنْ رِبْحِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
فَإِنِ اخْتَلَفَ جُزْءُ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ فِي الثَّانِي عَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا لَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ ذَكَرَهُمَا خَلِيلٌ.
إِلاَّ أَنَّ الدَّرْدِيرَ وَالدُّسُوقِيَّ قَالَا: الْحَقُّ أَنَّهُ إِذَا نَضَّ الْأَوَّلُ بِمُسَاوٍ جَازَ الدَّفْعُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّفَقَ جُزْؤُهُمَا (أَيِ الرِّبْحُ) أَوِ اخْتَلَفَ إِنْ شَرَطَا الْخَلْطَ، وَإِلاَّ مُنِعَ مُطْلَقًا اتَّفَقَ جُزْؤُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْمُضَارِبِ أَلْفَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ لَمْ يَخْلِطْهُمَا الْمُضَارِبُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَقْدٍ فَكَانَا عَقْدَيْنِ، فَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ فِي الْخَلْطِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ جَازَ إِنْ كَانَ الْمَالُ الْأَوَّلُ قَدْ نَضَّ وَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ مُضَارَبَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَنِضَّهُ وَأَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ فَلَا يَجُوزُ الْخَلْطُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ اسْتَقَرَّ، فَكَانَ رِبْحُهُ وَخُسْرَانُهُ مُخْتَصًّا بِهِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (وصية 6)
وَصِيَّةٌ-6الْوَصَايَا وَطُرُقُ حِسَابِهَا:
الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْأَنْصِبَاءِ أَوْ بِالْأَجْزَاءِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَنْصِبَاءِ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: الْوَصِيَّةُ بِالْأَنْصِبَاءِ:
الْوَصِيَّةُ بِالْأَنْصِبَاءِ لَهَا صُوَرٌ:
أ- الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِ:
86- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ وَلِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ الْوَصِيَّةِ فَلَا أَثَرَ لِذِكْرِ الْوَارِثِ.إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ- وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ- إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَ ذَلِكَ الْوَارِثِ الْمُعَيَّنِ مَضْمُومًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ.فَإِذَا قَالَ مَثَلًا: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ التَّرِكَةِ إِذَا أَجَازَ الِابْنُ الْوَصِيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ أَوْ بَنُونَ فَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِمَا أَوْ بِمِثْلِ نَصِيبِهِمْ فَالْمُوصَى لَهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي أَوْ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ابْنٌ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إِنْ أَجَازَ الِابْنُ الْوَصِيَّةَ، وَإِلاَّ فَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ فَقَطْ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَعَهُ ابْنَانِ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ التَّرِكَةِ إِنْ أَجَازَا الْوَصِيَّةَ وَإِلاَّ فَالثُّلُثُ وَلَا كَلَامَ لَهُمَا، وَإِنْ زَادُوا فَلَهُ قَدْرُ نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا كَلَامَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الِابْنِ ذُو فَرْضٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَوِي الْفَرْضِ إِنْ أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ.
وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْفَائِقِ: إِذَا وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ فَالْمُخْتَارُ لَهُ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ غَيْرَ مُزَادٍ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي.
فَإِذَا وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ عَلَى الْمَذْهَبِ- عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- وَلَهُ النِّصْفُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَائِقِ وَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ.
ب- الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ:
87- إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْمِيرَاثِ كَالْبَنِينَ مَثَلًا فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ وَيُجْعَلُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ زَادَ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي الْمِيرَاثِ فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا يُزَادُ عَلَى فَرِيضَتِهِمْ، وَإِنَّمَا جُعِلَ لَهُ هَذَا لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ.
فَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَلَدِهِ وَلَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَتَرَكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَوْ تَرَكَ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ.أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ فِي الْمِيرَاثِ أَوْ مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ فَيُحَاسِبُهُمُ الْمُوصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ أَيْ يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْمُوصَى لَهُ الذَّكَرِ كَالْأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ رُؤُوسِ وَرَثَتِهِ ثَلَاثَةً فَلَهُ الثُّلُثُ، أَوْ أَرْبَعَةً فَلَهُ الرُّبُعُ، أَوْ خَمْسَةً فَلَهُ الْخُمُسُ، وَهَكَذَا، وَلَا نَظَرَ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَارِثٍ، بَلْ يُجْعَلُ الذَّكَرُ رَأْسًا وَالْأُنْثَى رَأْسًا كَذَلِكَ، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
ج- الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ:
88- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ كَانَ لَهُ ابْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.فَمَنْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الِابْنِ يَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِنِصْفِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمِثْلَ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَإِنْ أَجَازَ الِابْنُ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ النِّصْفَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ أَخَذَ الثُّلُثَ.
وَيُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَارِثٌ وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ الِابْنُ مِمَّنْ يَرِثُ، لِكَوْنِهِ رَقِيقًا أَوْ مُخَالِفًا لِدِينِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ أَصْلًا.
فَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَارِثٌ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.
أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَابْنُهُ مِمَّنْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ الِابْنَ لَا نَصِيبَ لَهُ فَمِثْلُهُ لَا شَيْءَ لَهُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا قَالَ الْمُوصِي: «لَوْ كَانَ يَرِثُ» فَيُعْطَى نَصِيبَهُ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْمُوصِي: لَوْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيُعْطَى نَصِيبَهُ حِينَئِذٍ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
د- الْوَصِيَّةُ بِنَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ:
89- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَوْصَى لِشَخْصٍ بِنَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالرُّويَانِيِّ إِلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنِ الْإِلْغَاءِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرٌ، وَالْوَصِيَّةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَالِ الْمُوصِي إِذْ لَيْسَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ التَّقْدِيرُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بَعْدُ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَرَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجْعَلُونَهَا وَصِيَّةً بِنِصْفِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ.
وَفِي الرَّأْيِ الْآخَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُجْعَلُ الْوَصِيَّةُ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي- وَهُوَ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْإِمَامِ الْبَغَوِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ أَبِيهِ، حَيْثُ إِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَقَعْ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِلْكِ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ، فَأَجَازَهُ زَيْدٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنٌ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَصِيَّةُ بِالْأَجْزَاءِ:
90- الْوَصِيَّةُ بِالْجُزْءِ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُزْءٍ مُبْهَمٍ، أَوْ تَكُونَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ.
أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مُبْهَمٍ كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَوْ شَيْءٍ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ قِسْطٍ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُمَا.
(ر: ف5 4، 55).
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فَلَهَا احْتِمَالَانِ:
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ:
الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكُونَ بِجُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا.
أ- الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ:
91- إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ: كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي وَرَثَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ طُرُقِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ.
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْمِيرَاثِ عَائِلَةً أَوْ غَيْرَ عَائِلَةٍ، وَيُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ.ثُمَّ إِنِ انْقَسَمَ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، فَمَخْرَجُ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ الرُّبُعِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْبَنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ فَلَكَ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَنْظُرَ فِي الْبَاقِي وَفِي مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ تَبَايَنَا ضَرَبْتَ مَسْأَلَةَ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ تَوَافَقَا ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ.ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مَعَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مُتَبَايِنَيْنِ.وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ فَفِي وَفْقِ الْبَاقِي.وَبِهَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ.
مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ لَا يَنْقَسِمَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: يُضْرَبُ ثَلَاثَةٌ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ تَبْلُغُ تِسْعَةٌ مِنْهَا الْقِسْمَةَ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي الثَّلَاثَةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مَضْرُوبٌ فِي الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: تَأْخُذُ مَخْرَجَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ سِهَامًا قَبْلَ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ زِدْتَ نِصْفَهَا، أَوْ بِالرُّبُعِ زِدْتَ ثُلُثَهَا أَوْ بِالْخُمُسِ زِدْتَ رُبُعَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الْعُشْرِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، يُطَّرَدُ ذَلِكَ فِي الْمَفْتُوحِ وَالْأَصَمِّ.فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ زِدْتَ الْعُشْرَ أَوْ بِجُزْءٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ زِدْتَ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ بِالنِّصْفِ زِدْتَ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ وَاحِدٌ، فَالْقِسْمَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ النِّصْفَ هُوَ أَكْثَرُ الْأَجْزَاءِ وَأَوَّلُهَا، وَمَا قَبْلَهُ هُوَ الْوَاحِدُ، فَجَعَلْنَا سِهَامَ الْفَرِيضَةِ كَالْوَاحِدِ وَزِدْنَا عَلَيْهَا مِثْلَهَا.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّا إِذَا صَحَّحْنَا الْفَرِيضَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَأَخْرَجْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا، وَوَجَدْنَا الْبَقِيَّةَ غَيْرَ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى الْفَرِيضَةِ نَظَرْنَا نِسْبَةَ الْجُزْءِ الَّذِي أَخْرَجْنَاهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ إِلَى بَقِيَّتِهَا، فَمَا كَانَ رَدَدْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ مَا نُسِبَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ النِّسْبَةُ، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ.
مِثَالُهُ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى تَحْمِلُ عَلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ جُزْءًا مَا قَبْلَ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ هَاهُنَا النِّصْفُ فَتَصِيرُ سِتَّةً، يَخْرُجُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ اثْنَيْنِ، تَبْقَى أَرْبَعَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا اعْتَبَرْنَا الْجُزْءَ الَّذِي أَخْرَجْنَاهُ مِنْ فَرِيضَةِ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّتِهَا وَجَدْنَاهُ نِصْفَ الْبَاقِي فَزِدْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ نِصْفَهَا.
وَقَدْ يَقَعُ فِي الْفَرِيضَةِ كَسْرٌ؛ بِسَبَبِ حَمْلِ الْجُزْءِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَتُضْرَبُ الْمَسْأَلَةُ وَالْكَسْرُ فِي مَخْرَجِ ذَلِكَ الْكَسْرِ وَمِنْهَا تَصِحُّ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَوْصَى بِالسُّدُسِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِذَا أَخْرَجْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ مَخْرَجِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ تَبْقَى خَمْسَةٌ، فَلَا تَنْقَسِمُ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَلَا تُوَافِقُ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: نَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي السِّتَّةِ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَكَذَا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي أَيْضًا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ الْكَسْرِ فِيهَا وَضَرْبِهَا وَضَرْبِهِ فِي مَخْرَجِهِ.
فَنَقُولُ عَلَى الْعِبَارَةِ الْأُولَى: إِذَا أَوْصَى بِالسُّدُسِ حَمَلْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ مِثْلَ خُمُسِهَا- وَخُمُسُ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ- فَتَنْكَسِرُ السِّهَامُ، فَنَضْرِبُ الْأَرْبَعَةَ وَالْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ فِي خَمْسَةٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ.وَكَذَلِكَ إِذَا نَسَبْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِهَا وَجَدْنَاهُ خُمُسَ الْبَقِيَّةِ فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ خُمُسَهَا، انْكَسَرَتِ السِّهَامُ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْخَمْسَةِ.
ب- الْوَصِيَّةُ بِجُزْأَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ:
92- مَنْ أَوْصَى بِجُزْأَيْنِ ضَرَبْتَ مَخْرَجَ أَحَدِهِمَا فِي مَخْرَجِ الْآخَرِ أَوْ فِي وَفْقِهِ إِنْ كَانَ، وَمَا اجْتَمَعَ فَهُوَ مَخْرَجُ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِذَا أَخْرَجْتَ جُزْءَ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ ثُمَّ قَسَمْتَ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَرِيضَةِ فَإِنِ انْقَسَمَ وَإِلاَّ ضَرَبْتَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الضَّرْبُ فِي عَدَدِ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فِي وَفْقٍ إِنْ كَانَ، وَمِنْهُ يَصِحُّ حِسَابُ الْوَصِيَّتَيْنِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْأَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى بِالسُّدُسِ وَلآِخَرَ بِالسُّبُعِ، فَمَخْرَجُ السُّدُسِ مِنْ سِتَّةٍ، وَالسُّبُعِ مِنْ سَبْعَةٍ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، تَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، يَخْرُجُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، تَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَلَا تُوَافِقُهَا، تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ تَبْلُغُ مِائَةً وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ، جُزْءُ الْوَصِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ، لِكُلِّ سَهْمٍ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَبَوَانِ وَأَوْصَى بِثُمُنِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِخُمُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْأَيْنِ أَرْبَعُونَ، لِزَيْدٍ خَمْسَةٌ وَلِعَمْرٍو ثَمَانِيَةٌ، وَيَبْقَى سَبْعٌ وَعِشْرُونَ تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةِ بَنِينَ.
وَأَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِنِصْفِ سُدُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ وَمَجْمُوعُ الْجُزْأَيْنِ أَرْبَعَةٌ، إِذَا أَخْرَجْنَاهَا يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ:
فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ- الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ-: لَا مُوَافَقَةَ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَتَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مِنْهَا تَصِحُّ.
وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي: الْخَارِجُ بِالْوَصِيَّتَيْنِ نِصْفُ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهِمَا، فَتَزِيدُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ نِصْفَهَا تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا تَكُونُ تِسْعَةً، لَكِنَّ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُمَا مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَحِصَّتَهُمَا مِنَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ، لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعَةٍ تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ.
وَلَوْ كَانَ الْبَنُونَ سِتَّةً وَالْوَصِيَّتَانِ بِحَالِهِمَا: فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى سِتَّةٍ، لَكِنْ تَوَافِقُ بِالنِّصْفِ فَتَضْرِبُ نِصْفَ نِصْفِ السِّتَّةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ تَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي كَمَا سَبَقَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِجُزْأَيْنِ كَثُمُنٍ وَتُسُعٍ أَخَذْتَهُمَا مِنْ مَخْرَجِهِمَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ لَا تَنْقَسِمُ فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي تِسْعَةٍ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، فَأَعْطَى لِصَاحِبِ الثُّمُنِ تِسْعَةً، وَلِصَاحِبِ التُّسْعِ ثَمَانِيَةً، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ تُدْفَعُ لِلْوَرَثَةِ.
وَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرَ مِنْ جُزْأَيْنِ كَثُمُنٍ وَتُسُعٍ وَعُشُرٍ تَأْخُذُ الْكُسُورَ مِنْ مَخْرَجِهَا الْجَامِعِ لَهَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهِيَ لَا تَنْقَسِمُ فَاضْرِبِ الثَّمَانِيَةَ فِي التِّسْعَةِ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ.ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي عَشْرٍ تَبْلُغُ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّمُنِ تِسْعِينَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّبْعِ ثَمَانِينَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْعُشْرِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَقْسِمُ الْبَاقِي- وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ- عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ.
هَذَا إِذَا انْقَسَمَ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمِ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ ضَرَبْتَ مَسْأَلَةَ الْوَرَثَةِ إِنْ بَايَنَهَا الْبَاقِي، أَوْ ضَرَبْتَ وَفْقَهَا إِنْ وَافَقَهَا الْبَاقِي فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي- الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِمَّا أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْمَالَ وَإِمَّا أَلاَّ تَسْتَغْرِقَهُ.
أَوَّلًا: الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِذَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْمَالِ:
93- إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِشَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ إِمَّا بِجُزْءٍ كَالنِّصْفِ، وَإِمَّا بِجُزْأَيْنِ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَمَدَارُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ:
فَمَنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلآِخَرَ بِثُلُثِهِ، وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِاجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَتَعُولُ بِسَهْمٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْلُ دَاخِلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ كَالْمَوَارِيثِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا الزَّائِدَةَ عَلَى الثُّلُثِ فَقْدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ بِتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ، وَيُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُمْ مِنْ تَجَاوُزِ وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ أَوْ لَا.وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا قَصَدَ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ فِي كُلِّ الْمَالِ قَصَدَ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَمْ تَجُزِ التَّسْوِيَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُلِ، لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَالِ أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُلِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ إِلاَّ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ مُلْغَاةٌ.
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَقَعَتْ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ نَفَاذُهَا بِحَالٍ فَتَبْطُلُ أَصْلًا؛ وَلَا يُعْتَبَرُ الْبَاطِلُ، وَالتَّفْضِيلُ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْخِلَافُ فِي مَسَائِلَ عِدَّةٍ مِنْهَا:
أ- إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ: لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ يَضْرِبُ بِالرُّبُعِ، وَالرُّبُعُ مِثْلُ نِصْفِ النِّصْفِ، فَيُجْعَلُ كُلُّ رُبُعٍ بَيْنَهُمَا، فَالنِّصْفُ يَكُونُ سَهْمَيْنِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَجُوزُ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ.
ب- لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلآِخَرَ بِنِصْفِهِ وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ وَرَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَصَايَا تَرْجِعُ إِلَى الثُّلُثِ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يُرَدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ.
ثَانِيًا: الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ جَاوَزَتِ الْمَالَ:
94- إِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْوَصَايَا الْمَالَ وَأُجِيزَتْ، قُسِمَ الْمَالُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، مِثْلُ الْعَوْلِ، وَتُجْعَلُ وَصَايَاهُمْ كَالْفُرُوضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ بِتَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ، هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِذْ لَا نَفَاذَ لَهَا فَيَبْطُلُ أَصْلًا.
فَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ فَإِنْ أَجَازُوا فَقَدْ عَالَتْ إِلَى أَرْبَعَةٍ: لِزَيْدٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ.
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَتَكُونُ قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَنْصِبَاءِ:
لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَنْصِبَاءِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
أ- الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ وَبِجُزْءٍ مُضَافٍ إِلَى جَمِيعِ الْمَالِ:
95- مِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا هَلَكَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَأَوْصَى لآِخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَوْ نَصِيبِ ابْنٍ ثَالِثٍ- لَوْ كَانَ- فَأَجَازَا الْوَصِيَّتَيْنِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلَاثًا، وَالْحِسَابُ مِنْ تِسْعَةٍ: فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَيَبْقَى سِتَّةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلَاثًا، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ أَيْضًا سَهْمَانِ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزَا يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ.
وَلَوْ أَجَازَ الِابْنَانِ الْوَصِيَّةَ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ دُونَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ- وَهُوَ السُّدُسُ- كَمَا لَوْ لَمْ تُوجَدِ الْإِجَازَةُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ فِي حَقِّهِ، وَاحْتَجْنَا إِلَى حِسَابٍ إِذَا رَفَعْنَا السُّدُسَ يَنْقَسِمُ الْبَاقِي مِنْهُ أَثْلَاثًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ السُّدُسُ ثَلَاثَةً، وَيَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ تُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ.
وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْوَصِيَّةَ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ دُونَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزِ الِابْنُ الْآخَرُ الْوَصِيَّتَيْنِ أَصْلًا، فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يُجِيزَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلَوْ أَجَازَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا سَهْمَانِ، مِنْ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ سَهْمٌ، فَإِذَا أَجَازَ أَحَدُهُمَا صَحَّتِ الْإِجَازَةُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُجِيزِ خَمْسَةٌ، وَلِلَّذِي لَمْ يُجِزْ سِتَّةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَزِدْ جُمْلَةُ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ عَلَى الثُّلُثِ اجْعَلِ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ، وَيُنْظَرُ هَلْ يَنْقَسِمُ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ: إِنِ انْقَسَمَ فَذَاكَ وَإِلاَّ فَلِلتَّصْحِيحِ طَرِيقَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ وَالْحِسَابُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا قُسِمَ الثُّلُثُ عَلَى نِسْبَةِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ.
مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِعُشْرِ الْمَالِ، فَمَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ وَزَيْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْءِ عَشَرَةٌ، يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْجُزْءِ تِسْعَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَلَا تُوَافِقُ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي عَشَرَةٍ تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، لِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَلِزَيْدٍ وَكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ، وَجُمْلَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا- وَهُوَ الْمَذْهَبُ- لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الْمَالِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَصِيٌّ آخَرُ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ.
وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُوصَى لَهُمَا بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَقَدْ رَجَعَتْ وَصِيَّتُهُمَا بِالرَّدِّ إِلَى نِصْفِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ.
وَالثَّانِي: لِصَاحِبِ النَّصِيبِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِابْنٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لأَخَذَ أَكْثَرَ مِنَ الِابْنِ؛ وَالْمُوصِي قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا: وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ التُّسُعَانِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثَ الْمَالِ، يَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ وَبَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ تِسْعَةً، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَانِ وَهِيَ تُسُعَانِ.
وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ.
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُوصَى بِهِ النِّصْفَ صَحَّتْ عَلَى الْأَوَّلِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَفِي الرَّدِّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَعَلَى الثَّانِي تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَفِي الرَّدِّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-تاج العروس (أين)
[أين]: الأَيْنُ: الإِعْياءُ والتَّعَبُ؛ قالَ كعْبٌ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه:فيها على الأَيْنِ إرْقالٌ وتَبْغيلُ
قالَ أَبو زيْدٍ: لا يُبْنى منه فِعْلٌ، وقد خُولِفَ فيه؛ كما في الصِّحاحِ.
وقالَ أَبو عُبَيْدَةَ: لا فِعْل له. وقالَ الليْثُ: لا يشتَقُّ منه فِعْل إلَّا في الشِّعْر.
وقالَ ابنُ الأعْرابيِّ: آنَ يَئِينُ أَيْنًا مِن الإِعْياءِ؛ وأَنْشَدَ:
إنَّا ورَبِّ القُلُص الضَّوامِرِ
قالَ: إنَّا أَي أَعْيَينا.
* قُلْتُ: ووَجَدْتُ في هامِشِ الصِّحاحِ ما نَصّه: قالَ الأَصْمعيُّ: يصرَّفُ الأَيْنِ، وأَبو زيْدٍ لا يصرِّفُه قالَ أَبو محمدٍ: لم يصرَّفِ الأَيْن إلَّا في بيتٍ واحِدٍ وهو:
قد قلت للصَّباحِ والهَواجِرِ *** إنَّا ورَبَّ القُلُص الضِّوامِرِ
الصّباحُ: التي يقالُ لها ارْتَحل فقد أَصْبَحْنا، والهَواجِرُ التي يقالُ له سِرْ فقدِ اشْتَدَّتِ الهاجِرَةُ إنَّا مِنَ الأَيْنِ.
والأَيْنُ: الحيَّةُ، مثْلُ الأَيْمِ، نونُه بَدَلٌ من اللامِ.
وقالَ ابنُ السِّكِّيتْ: الأَيْنُ والأَيْمُ الذَّكرُ مِن الحيَّاتِ.
وقالَ أَبو خَيْرَةَ: الأُيونُ والأُيومُ: جماعَةٌ.
والأَيْنُ: الرَّجلُ والحِمْلُ؛ عن اللحْيانيِّ.
والأَيْنُ: الحِينُ.
والأَيْنُ: مَصْدَرُ آنَ يَئِينُ؛ أَي حانَ. يقالُ: آنَ لكَ أَنْ تَفْعَلَ كذا يَئِينُ أيْنًا؛ عن أَبي زيْدٍ؛ أَي حانَ، مثْلُ أَنَى لكَ وهو مَقْلوبٌ منه؛ وأَنْشَدَ ابنُ السِّكِّيت:
أَلَمَّا يَئِنْ لي أَنْ تُجَلَّى عِمايَتي *** وأُقْصِرَ عن لَيْلى؟ بَلَى قد أَنى لِيا
فجمَعَ بينَ اللُّغَتَيْن؛ كذا في الصِّحاحِ.
وآنَ* أَيْنُكَ، ويُكْسَرُ، وعلى الفتْحِ اقْتَصَرَ الجوْهرِيُّ؛ ونَقَلَه ابنُ سِيْدَه.
وآنَ آنُكَ؛ أَي حانَ حِينُكَ.
وفي المُحْكَم: أَنَّ آنَ أَيْنًا لُغَةٌ في أَنى، وليسَ بمقْلُوب عنه لوُجودِ المَصْدرِ.
* قُلْتُ: وقد عَقَدَ له ابنُ جنِّي، رحِمَه اللهُ تعالَى، بابًا في الخَصائِصِ قالَ: بابٌ في الأَصْلَيْن يَتَقارَبَانِ في التَّرْكِيبِ بالتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وإن قصرَ أَحَدُهما عن تصرّف صاحِبِه كانَ أَوْسَعهما تصرُّفًا أَصْلًا لصاحِبِه، وذلِكَ كقوْلِهم: أَنى الشيءُ يأْنَى، وآنَ يَئِينُ، فآنَ مَقْلوبٌ عن أَنى لوُجودِ مَصْدَر أنى يأَنَى وهو الإِناءُ، ولا تَجِد لآنَ مَصْدرًا، كذا قالَهُ الأَصْمَعيُّ فأمَّا الأَيْنُ فليسَ مِن هذا في شيءٍ إنَّما الأَيْنُ الإِعْياءُ والتَّعَبُ، فلمَّا تقدَّمَ آنَ المَصْدَر الذي هو أَصْلٌ للفِعْل عُلِمَ أَنَّه مَقْلوبٌ عن أَنى يأْنَى إناءً؛ غَيْر أنَّ أَبا زيْدٍ، رحِمَه اللهُ حَكَى لآنَ مَصْدرًا وهو الأَيْنُ، فإن كانَ الأَمْرُ كذلِكَ فهُما إذًا مُتَساوِيان وليسَ أَحَدهما أَصْلًا لصاحِبِه، ا ه.
وجَزَمَ السّهيليّ في الرَّوْض بأَنَّ آنَ مَقْلوبٌ مِن أَنّى مُسْتدلَّا بقَوْلِهم: آناء اللّيْلِ واحِدُه أنى وأنى وانى.
فالنُّون قيل في كلِّ هذا وفيمَا صرف منه.
وقالَ البَكْرِيُّ، رحِمَه اللهُ تعالَى في شرْحِ أَمالِي القالِي: آنَ أنّى: حانَ، وآنَ أَصْلُه الواوُ، ولكنَّه مِن بابِ يَفْعل كوَلِيَ يَلِي، وجاءَ المَصْدرُ بالياءِ ليطردَ على فِعْلِه.
قالَ شيْخُنا، رحِمَه اللهُ تعالى: قَوْلُه كوَلِيَ يَلِي ودَعْوى كَوْنه واويًّا فيه نَظَرٌ ظاهِرٌ ومُخالفَةٌ للقِياسِ.
وأَيْنَ: سؤالٌ عن مكانٍ إذا قلْتَ: أَيْنَ زَيْدٌ فإنَّما تَسْأَلُ عن مكانِهِ؛ كما في الصِّحاحِ. وهي مُغْنيةٌ عن الكَلامِ الكَثيرِ والتَّطْويلِ، وذلِكَ أَنَّك إذا قلْتَ أَيْنَ بَيْتُك؟ أَغْناكَ ذلِكَ عن ذِكْرِ الأَماكِنِ كلِّها، وهو اسمٌ لأنَّكَ تقولُ مِن أَيْنَ.
قالَ اللِّحْيانيُّ: هي مُؤَنَّثَة وإنْ شِئْتَ ذكَّرْتَ.
وقالَ اللّيْثُ: الأيْنُ: وَقْتٌ مِن الأمْكِنَةِ، تقولُ: أَيْنَ فلانٌ فيكونُ مُنْتَصبًا في الحالاتِ كلِّها ما لم تَدْخُلْه الألِفُ واللامُ.
وقالَ الزجَّاجُ: أَيْنَ وكيفَ حَرْفانِ يُسْتَفْهَمُ بهما، وكانَ حقُّهما أَنْ يكونَا مَوْقوفَيْن، فحُرِّكا لاجْتِماعِ السَّاكِنَيْن، ونُصِبا ولم يُخْفَضا من أَجْلِ الياءِ، لأَنَّ الكَسْرَةَ على الياءِ تَثْقُل والفتْحةُ أَخَفُّ.
وقالَ الأَخْفَش في قوْلِه تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى}، في حَرْف ابنِ مَسْعودٍ أَينَ أَتَى.
وأَيَّانَ، ويُكْسَرُ، مَعْناهُ: أَيُّ حِينٍ، وهو سُؤالٌ عن زَمانٍ مِثْل مَتى. قالَ اللهُ تعالى: {أَيّانَ مُرْساها}.
والكَسْرُ: لُغَةٌ لبَني سُلَيْم، حَكَاها الفرَّاءُ، وبه قَرَأَ السُّلَميُّ: إيَّانَ يُبْعَثونَ؛ كذا في الصِّحاحِ؛ وقد حَكَاها الزجَّاجُ أَيضًا.
وفي المحتسبِ لابنِ جنِّي: يَنْبَغي أنْ يكونَ أَيَّانَ من لَفْظِ أَيّ لا مِن لَفْظِ أَي، لأَمْرَيْن: أَحَدُهما: أنَّ أَيْنَ مَكانٌ، وأَيَّانَ زَمانٌ، والآخر قلَّة فعال في الأَسْماءِ مع كثر فعلان، فلو سمّيت رَجُلًا بأَيَّان لم تَصْرفْه لأَنَّه كحمدان، ولسْنَا نَدَّعِي أَنَّ أَيا يحسنُ اشْتِقاقها، أَو الاشْتِقاقُ منها، لأَنَّها مَبْنيَّةٌ كالحَرْفِ، أَو أنَّها مع هذا اسم، وهي اخْتُ أَيَّان وقد جازَتْ فيها الإِمالَةُ التي لا حَظّ للْحُرُوفِ فيها، وإنَّما الإمالَةُ للأَفْعالِ وفي الأسْماءِ إذا كانتْ ضَرْبًا من التَّصَرّفِ، فالحَرْف لا تصرف فيه أَصْلًا، ومَعْنى أَي أنَّها بعضٌ من كلِّ، فهي تَصْلُحُ للأَزْمِنَةِ صَلاحها لغيرِها إذا كانَ التَّبْعِيضُ شامِلًا لذلِكَ كُلّه؛ قالَ أُمَيَّةُ:
والناسُ راثَ عليهم أمرُ يَوَمَهُم *** فكُلّهُمْ قائلٌ للدّينِ أَيّانا
فإن سميت بأَيَّانَ سَقَطَ الكَلامُ في حسن تَصْرِيفِها للحاقِها بالتّسْمِيةِ ببَقِيَّة الأَسْماءِ المُتَصرِّفَة.
وأَبو بكْرٍ أَحمدُ بنُ محمدِ بنِ أَبي القاسِم بنِ أَيَّانَ الدُّشْتِيُّ: مُحَدِّثٌ مُتَأَخِّرٌ، حدَّثَ عن أَبي القَاسِمِ بنِ رَواحَةَ، وسَمِعَ الكثيرَ بإفادَةِ خالِهِ محْمود الدُّشْتِي، قالَهُ الحافِظُ.
والآنُ: اسمُ الوَقْتِ الذي أَنْتَ فيه، فهُما عنْدَه مُتَرادِفان. وقالَ الأَنْدَلسِيُّ في شرْحِ المُفصَّل: الزَّمانُ ما لَهُ مقْدارٌ، ويَقْبَل التَّجزِئةَ.
والآنَ: لا مقْدَار له، وهو اسمُ الوَقْتِ الحاضِرِ المُتَوَسّط بينَ الماضِي والمُسْتَقْبلِ؛ قالَهُ الجوْهرِيُّ؛ وهو ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ وَقَعَ مَعْرِفَةً ولم تدْخُلْ عليه أَلْ للتَّعْرِيفِ، لأَنَّه ليسَ له ما يَشْرَكُهُ.
قالَ ابنُ جنِّي في قوْلِه تعالَى: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}؛ الذي يدلُّ على أنَّ اللامَ في الآنَ زائِدَةٌ أَنَّها لا تَخْلو إمَّا أَنْ تكونَ للتَّعْرِيفِ كما يظنُّ مُخالفُنا، أَو أَنْ تكونَ لغَيْرِ التّعْريفِ كما نقولُ، فالذي يدلُّ على أنَّها لغَيْرِ التَّعْريفِ أَنَّا اعْتَبَرْنا جَمِيعَ ما لامُه للتَّعْرِيفِ، فإذا إسقاطُ لامِه جَائِز فيه، وذلك نحو رَجُل والرَّجُل وغُلامَ والغُلام، ولم يقُولُوا افْعَلْه آنَ كما قالوا افْعَلْه الآنَ، فدلَّ هذا على أنَّ اللامَ ليْسَتْ فيه للتَّعْريفِ بل هي زائِدَة كما يُزادُ غيْرُها مِنَ الحُرُوفِ.
وقد أَطالَ الاحْتِجاج على زِيادَةِ اللام وأَنَّها ليْسَتْ للتَّعْرِيفِ بما هو مَذكُورٌ في الخَصائِصِ والمُحتسبِ.
وقالَ في آخِرِه: وهذا رأَيُ أَبي عليٍّ، رحِمَه اللهُ تعالى، وعنه أَخَذْتَه، وهو الصَّوابُ.
قالَ الجَوْهرِيُّ: ورُبَّما فَتَحُوا اللَّامَ وحَذَفُوا الهَمْزَتَيْنِ.
قالَ ابنُ بَرِّي: يعْنِي الهَمْزَة التي بَعْدَ اللامِ لنقْلِ حَرَكَتِها على اللامِ وحَذْفِها، ولمَّا تَحرَّكَتِ اللامُ سَقَطَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ الدَّاخِلَة على اللامِ كقوْلِهِ أَنْشَدَه الأَخْفَش:
وقد كُنْتَ تُحْفِي حُبَّ سَمْراءَ حِقْبَةً *** فَبُحْ لَانَ منْها بالذِي أَنْتَ بائِحُ
قالَ ابنُ بَرِّي: ومثْلُه قَوْل الآخر:
أَلَا يا هِنْدُ هِنْدَ بَني عُمَيْرٍ *** أَرَثَّ لَانَ وَصْلُكِ أَم جَديدُ؟
وقالَ أَبو المِنْهالِ:
حَدَبْدَبَى بَدَبْدَبَى منْكُمْ لانْ *** إنَّ بَنِي فَزارَةَ بنِ ذُبْيانْ
قد طرقَتْ ناقَتُهُمْ بإِنْسانْ *** مُشَنَّإِ سُبْحان رَبِّي الرحمنْ
أَنَا أَبو المِنْهالِ بَعْضَ الأَحْيانْ *** ليس عليَّ حَسَبي بضُؤْلانْ
وفي التَّهذِيبِ: قالَ الفَرَّاءُ: الآن حرفٌ بُنِيَ على الألِفِ واللامِ ولم يُخْلَعا منه، وتُرِك على مَذْهَب الصفةِ لأنَّه صفَةٌ في المعْنَى واللَّفْظِ، قالَ: وأَصْلُ الآنَ أَوَان حُذِفَ منها الأَلِفُ وغُيِّرتْ واوُها إلى الألفِ كما قالوا في الرَّاحِ الرّياح؛ فجعلَ الرَّاحَ والآنَ مَرَّةً على جَهَةِ فَعَلٍ، ومَرَّةً على جَهَةِ فَعالٍ، كما قالوا زَمَن وزَمَان، قالوا: وإن شِئْتَ جَعَلْتَ الآنَ أَصْلها مِن قوْلِكَ آنَ لكَ أَنْ تَفْعَل، أَدْخَلتَ عليها الألفَ واللامَ ثم تركْتَها على مَذْهَب فَعَلَ، فأَتاها النَّصبُ مِنْ نَصْبِ فَعَل؛ قالَ: وهو وَجْهٌ جَيِّد.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
قالَ أَبو عَمْرو: أَتَيْتُه آنِئةً بعْدَ آنِئةٍ بمعْنَى آوِنةٍ، ذكَرَه المصنِّفُ في أَوَنَ.
وقالَ ابنُ شُمَيْل: وهذا أَوانُ الآنَ تَعْلم، وما جئتا إلَّا أَوانَ الآنَ، بنَصْبِ الآنَ فيهما.
وفي حدِيثِ ابنِ عُمَرَ، رضِيَ اللهُ عنهما: «ثم قالَ: اذْهَبْ بهذه تَلآنَ مَعَك».
قالَ أَبو عُبَيْدٍ: قالَ الأُمويُّ: يريدُ الآنَ وهي لُغَةٌ مَعْروفةٌ تُزادُ التاءُ في الآنَ وفي حِينٍ ويحذِفونَ الهَمْزَةَ الأُولى، يقالُ: تَلانَ وتَحينَ، وسَيَأْتي للمصنِّفِ، رحِمَه اللهُ في «ت ل ن»؛ وأَمَّا قوْلُ حُمَيْد بن ثور:
وأَسْماء ما أَسْماءُ لَيْلَة أَدْلَجَتْ *** إلَيَّ وأَصْحابي بأَيْنَ وأَيْنَما
فإنَّه جَعَلَ أَيْنَ علمًا للبُقْعة مجرَّدًا عن مَعْنَى الاسْتِفامِ، فمَنَعها الصَّرْف للتَّأْنِيثِ والتَّعْريفِ.
والأَيْنُ: شَجَرٌ حِجازِيٌّ؛ قالتِ الخَنْساءُ:
تَذَكَّرْتُ صَخْرًا أَنْ تَغَنَّتْ حَمامةٌ *** هَتُوفٌ على غُصنٍ من الأيْنِ تَسْجَعُ
وأَيُّونٌ، كتَنُّورٍ: قَرْيةٌ بالرَّيِّ، منها: سهلُ بنُ الحَسَنِ ابنِ محمدٍ الأَيونيُّ.
والأَيْنُ: ناحِيَةٌ مِن نواحِي المَدينَةِ متنزهة؛ عن نَصْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
22-تاج العروس (أوه)
[أوه]: أَوْهُ بسكونِ الواوِ والحَرَكاتِ الثلاثِ، كجَيْرِ وحيثُ وأَيْنَ، وعلى الأُولى اقْتَصَرَ الجوْهرِيُّ وأَنْشَدَ:فأَوْهِ لذِكْراها إِذا ما ذَكَرتُها *** ومن بُعْدِ أَرْضٍ بيننا وسماءِ
* قُلْتُ: هكذا أَنْشَدَه الفرَّاءُ في نوادِرِه.
قالَ ابنُ بَرِّي: ومثْلُ هذا البَيْت:
فأَوْهِ على زِيارَةِ أُمِّ عَمْروٍ *** فكيفَ مع العِدَا ومعَ الوُشاةِ؟
واللُّغةُ الثَّالثةُ ذَكَرَها ابنُ سِيدَه.
قالَ الجوْهرِيُّ: ورُبَّما قَلَبُوا الواوَ أَلِفًا فقالوا: آهِ من كذا، بكسْرِ الهاءِ.
* قُلْتُ: وبه يُرْوَى البَيْتُ المَذْكُور أَيْضًا؛ وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ:
آهِ من تَيَّاكِ آهَا *** تَرَكَتْ قلبي مُتاها
ورُبَّما قالوا: أَوِّهِ، بكسْرِ الهاءِ والواوِ المُشَدَّدَةِ.
وفي الصِّحاحِ: بسكونِ الهاءِ مع تَشْديدِ الواوِ، قالَ: ورُبَّما قالوا: أَوْ بحذْفِ الهاءِ أَي مع تَشْديدِ الواوِ بِلا مَدِّ، وبه يُرْوَى البَيْتُ المَذْكورُ أَيْضًا.
قالَ: وبعضُهم يقولُ: أَوَّهْ، بفتْحِ الواوِ المُشَدَّدَةِ ساكِنَة الهاءِ لتَطْويلِ الصَّوْتِ بالشِّكَايَةِ.
ووُجِدَ في بعضِ نسخِ الصِّحاحِ بخطِّ المصنِّفِ: وبعضُهم يقولُ آوَّهْ بالمدِّ والتَّشْديدِ وفتْحِ الواوِ ساكِنَة الهاءِ.
وما ذَكَرْناه أَوّلًا هو نَصُّ أَبي سَهْلٍ الهَرَويّ في نسختِه.
ويقولونَ: آوُوهُ، بضمِّ الواوِ؛ هذا ضَبْطٌ غيرُ كافٍ، والأولى ما ضَبَطَه ابنُ سِيدَه فقالَ بالمدِّ وبواوَيْنِ؛ نَقَلَه أَبو حاتِمٍ عن العَرَبِ.
وآهٍ بكسْرِ الهاءِ مُنَوَّنَةً، أي مع المدِّ وقد تقدَّمَ كَسْرُ الهاءِ من غيرِ تَنْوِينٍ وهُما لُغتانِ.
وقالَ ابنُ الأَنبارِي: آهِ مِن عذابِ اللهِ وآهٍ مِن عذابِ اللهِ.
وليسَ في سِياقِ المصنِّفِ ما يدلُّ على المدِّ كما قبْله وهو قُصُورٌ.
وقالَ الأَزْهرِيُّ: آهِ هو حِكَايةُ المُتَأَهِّة في صوْتِه، وقد يَفْعلُه الإنسانُ شَفَقةً وجَزَعًا.
وآوٍ، بكسْرِ الواوِ مُنَوَّنَةً وغيرَ مُنَوَّنَةٍ؛ أَي مع المدِّ غَيْر مُشَدَّدَةِ الواوِ.
وأَوَّتاهُ، بفتْحِ الهَمْزةِ والواوِ والمُثناةِ الفوقِيَّةِ.
ونَصُّ الجوْهرِيّ: ورُبَّما أَدْخلُوا فيه التاءَ فقالوا: أَوَّتاهُ، يُمَدُّ ولا يُمَدُّ.
وضَبْطُ المصنِّفِ فيه قُصُورٌ. وآوِيَّاهُ، بتَشْديدِ المُثناةِ التحتيةِ مع المدِّ، فهي ثلاثُ عَشَرَة لُغَةٍ، وإذا اعْتَبَرْنا المدَّ في أَوَّتاه وفي آوُوهٍ فهي خَمْسُ عَشَرَة لُغَةٍ.
وحُكِيَ أَيْضًا: آهًا بالمدِّ والتَّنْوينِ، وواهًا بالواوِ، وأَوُّوه بالقَصْرِ وتَشْديدِ الواوِ المَضْمومَةِ، وأَوَّاه كشَدَّادٍ، وهاه وآهَة، فهنَّ اثْنَتان وعِشْرُون لُغَة؛ كلُّ ذلِكَ كلمَةٌ تقالُ عند الشِّكايَةِ أَو التَّوَجُّعِ والتَّحَزُّنِ؛ وقد جاءَ في حدِيثِ أَبي سعِيدٍ: «أَوْهِ عَيْنُ الرِّبا»، ضَبَطُوه كجَيْرِ. وفي حدِيثٍ آخَر: «أَوَّهْ لفِراخِ محمدٍ من خليفَةٍ يُسْتَخْلفُ»، ضَبَطُوه بتَشْديدِ الواوِ وسكونِ الهاءِ.
آهَ الرَّجُلُ أَوْهًا وأَوَّهَ تَأْوِيهًا وتأَوَّهَ: قالَها، والاسْمُ منه الآهَةُ، بالمدِّ؛ قالَ المُثَقِّبُ العَبْدِيُّ:
إذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليلٍ *** تأَوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
ويُرْوَى أَهَّةَ، كما في الصِّحاحِ.
وقالَ ابنُ سِيدَه: وعنْدِي أَنَّه وضعَ الاسْم مَوْضِع المَصْدَرِ أَي تَأَوَّهُ تأَوُّهَ الرَّجُلِ، قيلَ: ويُرْوى:
تَهَوَّه هاهَةَ الرَّجُلِ الحزينِ
والأَوَّاهُ، كشَدَّادٍ: المُوقِنُ بالإِجابَةِ، أَو الدَّعَّاءُ؛ أَي كَثيرُ الدّعاءِ، وبه فُسِّر الحدِيثُ: «اللهُم اجْعَلْني مُخْبِتًا أَوَّاهًا مُنِيبًا».
أَو الرَّحيمُ الرَّقِيقُ القَلْبِ، وبه فُسِّرتِ الآيَةُ: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ}.
أَو الفقيهُ، أَو المُؤْمِنُ بالحَبَشِيَّةِ، وبكلِّ ذلكَ فُسِّرتِ الآيَةُ.
ويقولونَ في الدّعاءِ على الإِنسانِ: آهَةٌ وماهَةٌ.
حكَى اللّحْيانيُّ عن أَبي خالِدٍ قالَ: الآهَةُ: الحَصْبَةُ، والماهَةُ: الجُدَرِيُّ.
قالَ ابنُ سِيدَه: أَلفُ آهَةٍ واو لأنَّ العينَ واوًا أَكْثَر منها ياء.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
رجُلٌ أَوَّاهٌ: كثيرُ الحُزْنِ.
وقيلَ: هو الدّعَّاءُ إلى الخيْرِ.
وقيلَ: المُتَأَوَّهُ شَفَقًا وفَرَقًا.
وقيلَ: المُتَضَرِّعُ يَقِينًا؛ أَي إِيقانًا بالإِجابَةِ ولزومًا للطَّاعَةِ.
وقيلَ: هو المُسَبِّحُ.
وقيلَ: الكثيرُ الثَّناءِ. والمُتَأَوِّهُ: المُتَضَرِّعُ.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: ظبْيَةٌ مَوْؤُهَةٌ ومَأْووهَةً، وذلكَ أَنَّ الغَزالَ إِذا نَجا مِن الكلْبِ أَو السَّهْم وَقَفَ وَقْفةً، ثم قالَ: أَوْهِ، ثم عَدا.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
23-لسان العرب (أين)
أين: آنَ الشيءُ أَينًا: حانَ، لُغَةٌ فِي أَنى، وَلَيْسَ بِمَقْلُوبٍ عَنْهُ لِوُجُودِ المصدر؛ وقال:أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تُجَلَّى عمايَتي، ***وأُقْصِرَ عَنْ ليْلى؟ بَلى قَدْ أَنى لِيا
فجاء باللغتين جميعًا.
وقالوا: آنَ أَيْنُك وإينُك وَآنَ آنُك أَي حانَ حينُك، وآنَ لَكَ أَن تَفْعَلَ كَذَا يَئينُ أَيْنًا؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ، أَي حانَ، مِثْلَ أَنى لَكَ، قَالَ: وَهُوَ مقلوبٌ مِنْهُ.
وَقَالُوا: الْآنَ فَجَعَلُوهُ اسْمًا لِزَمَانِ الْحَالِ، ثُمَّ وَصَفُوا للتوسُّع فَقَالُوا: أَنا الآنَ أَفعل كَذَا وَكَذَا، والأَلف وَاللَّامَ فِيهِ زَائِدَةٌ لأَنَّ الاسمَ مَعْرِفَةٌ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةٌ بِلَامٍ أُخرى مقدَّرة غَيْرِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ.
ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ ابْنُ جِنِّي قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ}؛ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَن اللَّامَ فِي الْآنَ زَائِدَةٌ أَنها لَا تَخْلُو مِنْ أَن تكونَ لِلتَّعْرِيفِ كَمَا يظنُّ مخالفُنا، أَو تَكُونَ زَائِدَةٌ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنها لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ أَنَّا اعْتَبَرْنَا جميعَ مَا لامُه لِلتَّعْرِيفِ، فَإِذَا إسقاطُ لامِه جَائِزٌ فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْوَ رَجُلٍ وَالرَّجُلِ وَغُلَامٍ وَالْغُلَامِ، وَلَمْ يَقُولُوا افْعَلْه آنَ كَمَا قَالُوا افعَلْه الآنَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَن اللامَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلتَّعْرِيفِ بَلْ هِيَ زَائِدَةٌ كَمَا يُزاد غيرُها مِنَ الْحُرُوفِ، قَالَ: فَإِذَا ثَبتَ أَنها زائدةٌ فَقَدْ وَجَبَ النظرُ فِيمَا يُعَرَّف بِهِ الْآنَ فَلَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحد وُجُوهِ التَّعْرِيفِ الْخَمْسَةِ: إِمَّا لأَنه مِنَ الأَسماء المُضْمَرة أَو مِنَ الأَسماء الأَعلام، أَو مِنَ الأَسماء المُبْهَمة، أَو مِنَ الأَسماء الْمُضَافَةِ، أَوْ مِنَ الأَسماء المُعَرَّفة بِاللَّامِ، فمُحالٌ أَن تَكُونَ مِنَ الأَسماء الْمُضْمَرَةِ لأَنها مَعْرُوفَةٌ مَحْدُودَةٌ وَلَيْسَتِ الْآنَ كَذَلِكَ، ومُحالٌ أَن تَكُونَ مِنَ الأَسماء الأَعْلام لأَن تِلْكَ تخُصُّ الْوَاحِدَ بعَيْنه، وَالْآنَ تقعَ عَلَى كلِّ وقتٍ حَاضِرٍ لَا يَخُصُّ بعضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحدٌ إِنَّ الْآنَ مِنَ الأَسماء الأَعلام، ومُحالٌ أَيضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَسماء الإِشارة لأَن جَمِيعَ أَسماء الإِشارة لَا تَجِدُ فِي واحدٍ مِنْهَا لامَ التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ نَحْوَ هَذَا وَهَذِهِ وَذَلِكَ وَتِلْكَ وَهَؤُلَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وذهب أَبو إسحق إِلَى أَن الْآنَ إِنَّمَا تَعَرُّفه بالإِشارة، وأَنه إِنَّمَا بُنِيَ لِمَا كَانَتِ الأَلف واللام فيه لغير عهد مُتَقَدِّمٍ، إِنَّمَا تقولُ الْآنَ كَذَا وَكَذَا لِمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَكَ مَعَهُ ذِكْر الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، فأَما فَسَادُ كَوْنِهِ مِنْ أَسماء الإِشارة فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكرُه، وأَما مَا اعْتَلَّ بِهِ مِنْ أَنه إِنَّمَا بُنيَ لأَن الأَلف واللام فيه لغير عهدٍ متقَدِّمٍ ففاسدٌ أَيضًا، لأَنا قَدْ نَجِدُ الأَلف وَاللَّامَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَسماء عَلَى غَيْرِ تقدُّم عهْد، وَتِلْكَ الأَسماء مَعَ كَوْنِ اللَّامِ فِيهَا مَعارف، وَذَلِكَ قَوْلُكَ يَا أَيها الرجلُ، ونظَرْتُ إِلَى هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقَدْ بطلَ بِمَا ذكَرْنا أَن يَكُونَ الآنَ مِنَ الأَسماء الْمُشَارِ بِهَا، ومحالٌ أَيضًا أَن تَكُونَ مِنَ الأَسماء المتعَرِّفة بالإِضافة لأَننا لَا نُشَاهِدُ بَعْدَهُ اسْمًا هُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ، فَإِذَا بَطَلَت واسْتَحالت الأَوجه الأَربعة المقَدَّم ذكرُها لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَن يَكُونَ معرَّفًا بِاللَّامِ نَحْوَ الرَّجُلِ وَالْغُلَامِ، وَقَدْ دَلَّتِ الدلالةُ عَلَى أَن الْآنَ لَيْسَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي فِيهِ، لأَنه لَوْ كَانَ مَعرَّفًا بِهَا لجازَ سُقوطُها مِنْهُ، فلزومُ هَذِهِ اللَّامِ لِلْآنَ دليلٌ عَلَى أَنها لَيْسَتْ لِلتَّعْرِيفِ، وَإِذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ لَا محالَةَ، واستَحال أَن تكونَ اللَّامُ فِيهِ هِيَ الَّتِي عَرَّفَتْه، وَجَبَ أَن يَكُونَ مُعَرَّفًا بِلَامٍ أُخرى غَيْرِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْسِ فِي أَنه تَعَرَّف بِلَامٍ مُرَادَّةٍ، وَالْقَوْلُ فِيهِمَا واحدٌ، وَلِذَلِكَ بُنِيَا لتضمُّنهما مَعْنَى حَرْفِ التَّعْرِيفِ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا رأْيُ أَبي عَلِيٍّ وَعَنْهُ أَخَذْتُه، وَهُوَ الصوابُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا الْآنَ آنُكَ، كَذَا قرأْناه فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ بِنَصْبِ الآنَ ورفعِ آنُك، وَكَذَا الآنَ حدُّ الزمانَيْن، هَكَذَا قرأْناه أَيضًا بِالنَّصْبِ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: اللَّامُ فِي قَوْلِهِمُ الآنَ حَدُّ الزَّمَانَيْنِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِكَ الرجلُ أَفضلُ مِنَ المرأَةأَي هَذَا الجنسُ أَفضلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَكَذَلِكَ الْآنَ، إِذَا رَفَعَه جَعَلَه جنسَ هَذَا المُسْتَعْمَلِ فِي قَوْلِهِمْ كنتُ الْآنَ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَعْنَى كُنتُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْحَاضِرِ بعْضُه، وَقَدْ تَصَرَّمَتْ أَجزاءٌ مِنْهُ عِنْدَهُ، وبُنيت الْآنَ لتَضَمُّنها مَعْنَى الْحَرْفِ.
وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: أَتَيْتُه آئِنَةً بَعْدَ آئِنَةٍ بِمَعْنَى آوِنةٍ.
الْجَوْهَرِيُّ: الْآنَ اسمٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي أَنت فِيهِ، وَهُوَ ظَرْف غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، وَقَع مَعْرِفةً وَلِمَ تدخُل عَلَيْهِ الأَلفُ واللامُ لِلتَّعْرِيفِ، لأَنَّه لَيْس لَهُ مَا يَشْرَكُه، وربَّما فَتَحوا اللامَ وحَذَفوا الهمْزَتَيْنِ؛ وأَنشد الأَخفش:
وَقَدْ كُنْتَ تُخْفِي حُبَّ سَمْراءَ حِقْبَةً، ***فَبُحْ، لانَ منْها، بِالَّذِي أَنتَ بائِحُ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قولُه حَذَفوا الهمزَتَين يَعْنِي الهمزةَ الَّتِي بَعْد اللامِ نَقَلَ حَرَكَتَهَا عَلَى اللامِ وحَذَفها، ولمَّا تَحَرَّكَت اللامُ سَقَطَتْ همزةُ الوَصْلِ الداخلةُ على اللام؛ وقال جَرِيرٌ:
أَلانَ وَقَدْ نَزَعْت إِلَى نُمَيْرٍ، ***فَهَذَا حينَ صِرْت لَهُمْ عَذابا
قَالَ: ومثْلُ البيتِ الأَوَّل قولُ الآخَر:
أَلا يَا هِنْدُ، هِنْدَ بَني عُمَيْرٍ، ***أَرَثٌّ، لانَ، وَصْلُكِ أَم حَديدُ؟
وَقَالَ أَبو المِنْهالِ:
حَدَبْدَبَى بَدَبْدَبَى منْكُمْ، لانْ، ***إنَّ بَني فَزارَةَ بنِ ذُبيانْ
قَدْ طرقَتْ ناقَتُهُمْ بإنْسانْ ***مُشَنَّإٍ، سُبْحان رَبِّي الرحمنْ
أَنا أَبو المِنْهالِ بَعْضَ الأَحْيانْ، ***لَيْسَ عليَّ حَسَبي بِضُؤْلانْ
التَّهْذِيبُ: الْفَرَّاءُ الْآنَ حرفٌ بُنِيَ عَلَى الأَلف وَاللَّامِ وَلَمْ يُخْلَعا مِنْهُ، وتُرِك عَلَى مَذْهَب الصفةِ لأَنَّه صفةٌ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ كَمَا رأَيتهم فَعَلوا بِالَّذِي وَالَّذِينَ، فَتَرَكوهما عَلَى مَذْهَبِ الأَداةِ والأَلفُ واللامُ لَهُمَا غَيْرُ مفارِقَةٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فإِن الأُلاء يَعْلَمُونَكَ مِنْهُمْ، ***كَعِلْمِ مَظْنُولٍ مَا دُمْتَ أَشعرا
فأَدْخلَ الأَلف وَاللَّامَ عَلَى أُولاء، ثُمَّ تَرَكَها مَخْفُوضَةً فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَن تدخُلَها الأَلف وَاللَّامُ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:
وإنِّي حُبِسْتُ اليومَ والأَمْسِ قَبْلَه ***بِبابِكَ، حَتَّى كادَتِ الشمسُ تَغْربُ
فأَدخَلَ الأَلفَ وَاللَّامَ عَلَى أَمْسِ ثُمَّ تَرَكَهُ مَخْفُوضًا عَلَى جِهَةِ الأُلاء؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: " وجُنَّ الخازِبازِ بِهِ جُنونًا "فمثلُ الْآنَ بأَنها كَانَتْ مَنْصُوبَةً قَبْلَ أَن تُدْخِلَ عَلَيْهَا الأَلفَ وَاللَّامَ، ثُمَّ أَدْخَلْتَهما فَلَمْ يُغَيِّراها، قَالَ: وأَصلُ الْآنَ إِنَّمَا كَانَ أَوَان، فحُذِفَت مِنْهَا الأَلف وغُيِّرت واوُها إِلَى الأَلف كَمَا قَالُوا فِي الرَّاحِ الرَّياح؛ قَالَ أَنشد أَبو القَمْقام:
كأَنَّ مكاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً، ***نَشاوَى تَساقَوْا بالرَّياحِ المُفَلْفَلِ
فَجَعَلَ الرَّياحَ والأَوانَ مرَّة عَلَى جِهَةٍ فَعَلٍ، وَمَرَّةً عَلَى جِهَةِ فَعالٍ، كَمَا قَالُوا زَمَن وزَمان، قَالُوا: وَإِنْ شِئْتَ جعلتَ الْآنَ أَصلها مِنْ قولِه آنَ لَكَ أَن تفعلَ، أَدخَلْتَ عَلَيْهَا الأَلفَ وَاللَّامَ ثُمَّ تركتَها عَلَى مَذْهَبِ فَعَلَ، فأَتاها النصبُ مِنْ نَصْبِ فعَل، وهو وجهٌ جَيِّدٌ كَمَا قَالُوا: نَهى رسولُ اللَّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قِيلَ وقالَ "، فَكَانَتَا كَالِاسْمَيْنِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَلَوْ خَفَضْتَهما عَلَى أَنهما أُخْرِجتا مِنْ نِيَّةِ الْفِعْلِ إِلَى نِيَّةِ الأَسماء كَانَ صَوَابًا؛ قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: مِنْ شُبَّ إِلَى دُبَّ، وبعضٌ: مِنْ شُبٍّ إِلَى دُبٍّ، وَمَعْنَاهُ فعَل مُذْ كَانَ صَغِيرًا إِلَى أَن دَبّ كَبِيرًا.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْآنَ مبنيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، تَقُولُ نحنُ مِنَ الآنَ نَصِيرُ إِلَيْكَ، فَتُفْتَحُ الآنَ لأَنَّ الأَلفَ وَاللَّامَ إِنَّمَا يدخُلانِ لعَهْدٍ، والآنَ لَمْ تعْهَدْه قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، فَدَخَلَتِ الأَلف وَاللَّامُ للإِشارة إِلَى الْوَقْتِ، وَالْمَعْنَى نحنُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ نفعلُ؛ فَلَمَّا تضمَّنَت مَعْنًى هَذَا وجَب أَن تَكُونَ مَوْقُوفَةً، ففُتِحَت لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُمَا الأَلف وَالنُّونُ.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وأَنكر الزجاجُ مَا قَالَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الآنَ إِنَّمَا كَانَ فِي الأَصل آنَ، وأَن الأَلف وَاللَّامَ دَخَلَتَا عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ نَحْوَ قَوْلِكَ قَامَ، إِذَا سَمَّيْتَ بِهِ شَيْئًا، فجعلتَه مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ لَمْ تدخُلْه الأَلفُ وَاللَّامُ، وَذَكَرَ قولَ الْخَلِيلِ: الآنَ مبنيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ}؛ فِيهِ ثلاثُ لُغاتٍ: قالُوا الْآنَ"، بِالْهَمْزِ وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ، وَقَالُوا أَلانَ، مُتَحَرِّكَةُ اللَّامِ بِغَيْرِ هَمْزٍ وتُفْصَل، قَالُوا مِنْ لانَ، وَلُغَةٌ ثَالِثَةٌ قَالُوا لانَ جئتَ بِالْحَقِّ "، قَالَ: والآنَ منصوبةُ النُّونِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا حرفٌ خافضٌ كَقَوْلِكَ مِنَ الآنَ، وَذَكَرَ ابْنُ الأَنباري الْآنَ فَقَالَ: وانتصابُ الْآنَ بِالْمُضْمَرِ، وعلامةُ النَّصْبِ فِيهِ فتحُ النُّونِ، وأَصلُه الأَوانُ فأُسقِطَت الأَلف الَّتِي بَعُدَ الْوَاوِ وجُعِلَت الواوُ أَلفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَقِيلَ أَصله آنَ لَكَ أَن تفعلَ، فسُمِّي الوقتُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي وتُرِك آخرُه عَلَى الْفَتْحِ، قَالَ: وَيُقَالُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنا لَا أُكلِّمُك مِنَ الآنَ يَا هَذَا، وَعَلَى الْجَوَابِ الأَول مِنَ الآنِ؛ وأَنشد ابْنُ صَخْرٍ:
كأَنهما ملآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا، ***وَقَدْ مَرَّ للدارَين مِن بعدِنا عَصْرُ
وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: هَذَا أَوانُ الآنَ تَعْلم، وَمَا جئتُ إلَّا أَوانَ الآنَ أَي مَا جِئْتُ إِلَّا الْآنَ، بِنَصْبِ الْآنَ فِيهِمَا.
وسأَل رجلٌ ابنَ عُمَرَ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: أَنشُدك اللهَ هَلْ تعْلم أَنه فرَّ يَوْمَ أُحُد وَغَابَ عَنْ بدرٍ وَعَنْ بَيْعةِ الرِّضْوَانِ؟ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: أَما فِرارُه يَوْمَ أُحُد فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ؛ وأَما غَيْبَتُه عَنْ بدرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ بنتُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً وَذَكَرَ عُذْرَه فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: اذهبْ بِهَذِهِ تَلآنَ مَعَك؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: قَالَ الأُمَويّ قَوْلُهُ تَلآنَ يُرِيدُ الْآنَ، وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، يَزِيدُونَ التاءَ فِي الْآنِ وَفِي حينٍ وَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَةَ الأُولى، يُقَالُ: تَلآن وتَحين؛ قَالَ أَبو وَجْزَةَ:
العاطِفون تحينَ مَا مِنْ عاطِفٍ، ***والمُطْعِمونَ زمانَ مَا مِنْ مُطْعِم
وَقَالَ آخَرُ: وصَلَّيْنا كَمَا زَعَمَت تَلانا.
قَالَ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ والأَحمر وغيرُهما يَذْهَبُونَ إِلَى أَن الرِّوَايَةَ العاطفونَة فَيَقُولُ: جَعَلَ الْهَاءَ صِلَةً وَهُوَ وَسَطُ الْكَلَامِ، وَهَذَا لَيْسَ يُوجد إِلَّا عَلَى السَّكْتِ، قَالَ: فحَدَّثتُ بِهِ الأُمَويَّ فأَنكره، قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَا قَالَ الأُمَويُّ وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ احْتَجَّ بالكتاب فِي قَوْلِهِ: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، لأَن التَّاءَ منفصلةٌ مِنْ حِينٍ لأَنهم كَتَبُوا مِثْلَهَا مُنْفَصِلًا أَيضًا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يُفْصَل كقوله: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ، واللامُ مُنْفَصِلَةٌ مِنْ هَذَا.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَالنَّحْوِيُّونَ عَلَى أَن التَّاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلاتَ حِينَ فِي الأَصل هاءٌ، وَإِنَّمَا هِيَ وَلاهْ فَصَارَتْ تَاءً للمرورِ عَلَيْهَا كالتاءَاتِ المؤَنثة، وأَقاوِيلُهم مَذْكُورَةٌ فِي تَرْجَمَةٍ لَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ مَرَرْتُ بزيدِ اللَّانَ، ثقَّلَ اللامَ وَكَسَرَ الدَّالَّ وأَدْغم التَّنْوِينَ فِي اللَّامِ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: « أَما آنَ لِلرَّجُلِ أَن يَعْرف مَنزِله »أَي أَما حانَ وقرُبَ، تَقُولُ مِنْهُ: آنَ يَئينُ أَيْنًا، وَهُوَ مِثْلُ أَنَى يَأْني أَنًا، مقلوبٌ مِنْهُ.
وآنَ أَيْنًا: أَعيا.
أَبو زَيْدٍ: الأَيْنُ الإِعْياء وَالتَّعَبُ.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: لَا يُبْنى مِنْهُ فِعْلٌ وَقَدْ خُولِفَ فِيهِ، وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: لَا فِعْل لِلأَين الَّذِي هُوَ الإِعياء.
ابْنُ الأَعرابي: آنَ يَئِينُ أَيْنًا مِنَ الإِعياء؛ وأَنشد: " إنَّا ورَبِّ القُلُص الضَّوامِرِ "إِنَّا أَي أَعْيَينا.
اللَّيْثُ: وَلَا يشتَقُّ مِنْهُ فِعْل إلَّا فِي الشِّعْر؛ وَفِي قَصِيدِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: " فِيهَا عَلَى الأَيْنِ إِرْقالٌ وتَبْغيلُ "الأَيْنُ: الإِعياء وَالتَّعَبُ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: الأَيْنُ والأَيْمُ الذَّكَر مِنَ الْحَيَّاتِ، وَقِيلَ: الأَينُ الحيَّةُ مِثْلَ الأَيمِ، نُونُهُ بدلٌ مِنَ اللَّامِ.
قَالَ أَبو خَيْرَةَ: الأُيونُ والأُيومُ جَمَاعَةٌ.
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: والأَينُ والأَيم أَيضًا الرَّجُلُ والحِمل.
وأَيْنَ: سُؤَالٌ عَنْ مكانٍ، وَهِيَ مُغْنية عَنِ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ وَالتَّطْوِيلِ، وَذَلِكَ أَنك إِذَا قُلْتَ أَيْنَ بَيْتُك أَغناك ذَلِكَ عَنْ ذِكْر الأَماكن كُلِّهَا، وَهُوَ اسمٌ لأَنك تَقُولُ مِنْ أَينَ؛ قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هِيَ مُؤَنثة وَإِنْ شِئْتَ ذكَّرْت، وَكَذَلِكَ كلُّ مَا جَعَلَهُ الكتابُ اسْمًا مِنَ الأَدوات والصِّفات، التأْنيثُ فِيهِ أَعْرَفُ والتذكيرُ جائز؛ فأَما قَوْلُ حُمَيد بْنِ ثَوْرٍ الْهِلَالِيِّ:
وأَسماء، مَا أَسماءُ لَيْلَةَ أَدْلَجَتْ ***إِلَيَّ، وأَصحابي بأَيْنَ وأَيْنَما
فَإِنَّهُ جَعَلَ أَينَ عَلَمًا للبُقْعة مُجَرَّدًا مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، فمنَعَها الصَّرْفَ لِلتَّعْرِيفِ والتأْنيث كأُنَى، فتكونُ الفتحةُ فِي آخِرِ أَين عَلَى هَذَا فتحةَ الجرِّ وَإِعْرَابًا مِثْلَهَا فِي مررْتُ بأَحْمَدَ، وَتَكُونُ مَا عَلَى هَذَا زَائِدَةً وأَينَ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ، فَهَذَا وجهٌ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ ركَّب أَينَ مَعَ مَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ فَتَحَ الأُولى مِنْهَا كَفَتْحَةِ الْيَاءِ مِنْ حَيَّهَلْ لَمَّا ضُمَّ حَيَّ إِلَى هَلْ، والفتحةُ فِي النُّونِ عَلَى هَذَا حادثةٌ لِلتَّرْكِيبِ وَلَيْسَتْ بِالَّتِي كَانَتْ فِي أَيْنَ، وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ، لأَن حَرَكَةَ التَّرْكِيبِ خَلَفَتْها ونابَتْ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ فتحةُ التَّرْكِيبِ تؤَثر فِي حَرَكَةِ الإِعراب فتزيلُها إِلَيْهَا نَحْوَ قَوْلِكَ هَذِهِ خمسةٌ، فتُعْرِب ثُمَّ تَقُولُ هَذِهِ خمْسةَ عشَر فتخلُف فتحةُ التَّرْكِيبِ ضمةَ الإِعراب عَلَى قُوَّةِ حَرَكَةِ الإِعراب، كَانَ إبدالُ حَرَكَةِ الْبِنَاءِ مِنْ حَرَكَةِ الْبِنَاءِ أَحرى بِالْجَوَازِ وأَقرَبَ فِي الْقِيَاسِ.
الْجَوْهَرِيُّ: إِذَا قلتَ أَين زَيْدٌ فَإِنَّمَا تسأَلُ عَنْ مَكَانِهِ.
اللَّيْثُ: الأَينُ وقتٌ مِنَ الأَمْكِنة.
تَقُولُ: أَينَ فلانٌ فَيَكُونُ مُنْتَصِبًا فِي الْحَالَاتِ كُلِّهَا مَا لَمْ تَدْخُلْه الأَلف وَاللَّامُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَينَ وَكَيْفَ حَرْفَانِ يُسْتَفْهَم بِهِمَا، وَكَانَ حقُّهما أَن يَكُونَا مَوْقوفَين، فحُرِّكا لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ ونُصِبا وَلَمْ يُخْفَضا مِنْ أَجل الْيَاءِ، لأَن الْكَسْرَةَ مَعَ الْيَاءِ تَثْقُل والفتحةُ أَخفُّ.
وقال الأَخفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى}، فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَينَ أَتى "، قَالَ: وَتَقُولُ العرب جئتُك مِنْ أَينَ لَا تَعْلَم؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: أَما مَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ جئتُك مِنْ أَين لَا تعْلم فَإِنَّمَا هُوَ جَوَابُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ فَاسْتَفْهَمَ، كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ أَينَ الماءُ والعُشْب.
وَفِي حَدِيثِ خُطْبَةِ الْعِيدِ: « قَالَ أَبو سَعِيدٍ وَقَلْتُ أَيْنَ الابتداءُ بِالصَّلَاةِ» أَي أَينَ تذْهَب، ثُمَّ قَالَ: الابْتِداءُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَين الِابْتِدَاءُ بِالصَّلَاةِ أَي أَينَ يَذْهَبُ الإِبتداءُ بِالصَّلَاةِ، قَالَ: والأَول أَقوى.
وأَيّانَ: مَعْنَاهُ أَيُّ حينٍ، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ زمانٍ مِثْلَ مَتَى.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَيَّانَ مُرْساها}.
ابْنُ سِيدَهْ: أَيَّان بِمَعْنَى مَتى فَيَنْبَغِي أَن تَكُونَ شَرْطًا، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصحابنا فِي الظُّرُوفِ الْمَشْرُوطِ بِهَا نَحْوَ مَتى وأَينَ وأَيٌّ وحِينَ، هذا هُوَ الْوَجْهُ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَن يَكُونَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا صَحِيحًا كإِذا فِي غَالِبِ الأَمر؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ يَهْجُو امرأَة شبَّه حِرَها بفُوق السَّهْمِ:
نفاثِيّة أَيّانَ مَا شاءَ أَهلُها، ***رَوِي فُوقُها فِي الحُصِّ لَمْ يَتَغَيّب
وَحَكَى الزَّجَّاجُ فِيهِ إيَّانَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؛ أَي لَا يَعْلَمُونَ مَتَى البَعْث؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: قرأَ أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمي إيّانَ يُبْعَثون، بِكَسْرِ الأَلف، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ مَتَى إوانُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ أَوان.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَلَا يَجُوزُ أَن تقولَ أَيّانَ فَعَلْتَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}، لَا يَكُونُ إِلَّا اسْتِفْهَامًا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ.
والأَيْنُ: شجرٌ حِجَازِيٌّ، وَاحِدَتُهُ أَينةٌ؛ قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
تذَكَّرْتُ صَخْرًا، أَنْ تَغَنَّتْ حمامةٌ ***هَتُوفٌ عَلَى غُصنٍ مِنَ الأَيْنِ تَسْجَعُ
والأَواينُ: بَلَدٌ؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ خَالِدٍ الهُذليّ:
هَيْهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهم ***دُفاقٌ، ودارُ الآخَرينَ الأَوايِنُ
قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ وَاوًا.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م