نتائج البحث عن (الْمُطَهَّرُونَ)

1-العربية المعاصرة (مس)

مسَّ مَسَسْتُ، يمُسّ، امْسُسْ/مُسَّ، مَسًّا، فهو ماسّ، والمفعول مَمْسوس.

* مسَّ الشَّيءَ: لمَسَه.

مسَّ/مسَّ إلى مَسِسْتُ، يمَسّ، امْسَسْ/مَسَّ، مَسًّا ومَسيسًا، فهو ماسّ، والمفعول مَمْسوس.

* مسَّ الشَّيءَ: لمَسه بيده {لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [قرآن].

* مسَّ المرأةَ: جامعها {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [قرآن].

* مسَّه المرضُ وغيرُه: أصابه (مسَّه الكِبَرُ/الجنونُ/العذابُ- مسَّته نفحةٌ- مسّه بأذى/بسُوء- مستهم البأساءُ والضراءُ- {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [قرآن]: نزل به) (*) رَجُلٌ ممسوس: مجنون، أصابه مسّ من الجنون أو السّحر- مسَّه الخيرُ: عرض له- مسّه الشَّيطانُ/مُسّ فلانٌ: جُنَّ.

* مسَّتِ الحاجةُ إلى كذا: ألجأتِ إليه- بين الجارين رحم ماسّة: قرابة قريبة- هو في أمسّ الحاجة إلى كذا: أحوج، أشدّ الحاجة- هو في حاجة ماسّة للنصيحة: في حاجة مهمّة.

أمسَّ يُمِسّ، أمْسِسْ/أمِسَّ، إمساسًا، فهو مُمِسّ، والمفعول مُمَسّ.

* أمسَّه النَّارَ: جعله يلمسها (أمسَّ وجهَه الماءَ).

* أمسَّه شكواه: شكاها إليه.

تماسَّ يتماسّ، تَماسَسْ/تَماسَّ، تماسًّا، فهو متماسّ.

* تماسَّ الجسمان: تلامسا، لمس أحدُهما الآخرَ (تماسّ سلكا الكهرباء فأحدثا شرارة).

* تماسَّ الزَّوجان: وقع بينهما جماعٌ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [قرآن].

ماسَّ يماسّ، ماسِسْ/ماسَّ، مُماسَّةً ومِساسًا، فهو مُماسّ.

* ماسَّ الشَّخصُ وغيرُه الشَّيءَ: مسَّه، لامَسه ولقيه بجسمه (الأمواج تماسُّ الصّخورَ- {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} [قرآن]: لا تَماسَّني، أو لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ) (*) المُماسّ: خطّ أو منحنى أو سطح يلمس ولكن لا يتقاطع مع آخر، المستقيم الذي له نقطة مشتركة مع خطّ منحن.

تماسّ [مفرد]:

1 - مصدر تماسَّ (*) تماسّ كهربائيّ: اتِّصال بين موصلين يسمح بمرور التيَّار.

2 - [في الرياضة والتربية البدنية] خروج الكرة من حدودِ ميدان اللَّعِب.

* ضَرْبَة التَّماسّ: [في الرياضة والتربية البدنية] أن تُطْلق الكرُة باليدين ضدّ الفريق الذي يكون قد رمى بالكرة إلى ما وراء خطّي عرض الملعب.

* نُقْطة التَّماسّ: [في الهندسة] النقطة الوحيدة التي يلاقي فيها المستقيم المنحنى.

ماسّ [مفرد]:

1 - اسم فاعل من مسَّ ومسَّ/مسَّ إلى (*) ماسّ كهربائيّ.

2 - عاجل متأكِّد، ضروريّ، ملحّ (دَيْن ماسّ) (*) حاجة ماسَّة: مُهِمَّة أو مُلِحَّة- رحم ماسّة: قرابة قريبة.

مَساس [مفرد]:

1 - علاقة (كلام لا مَساس له بالموضوع- لا مَساسَ لك بالقضيّة).

2 - أمر بالمسِّ، ويقال بالنّهي (لا مَساس: لا تمسّ).

مَسّ [مفرد]:

1 - مصدر مسَّ ومسَّ/مسَّ إلى.

2 - عارض من جنون (رجلٌ به مَسّ- {لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [قرآن]).

3 - [في الطب] علاج يكون بمسّ الجلد أو الغشاء المخاطيّ بمادّة كاوية.

مَسيس [مفرد]: مصدر مسَّ/مسَّ إلى.

* مسيس الحاجة: أمَسُّها، إلجاؤُها واضطرارها (أُسَر الضَّحايا في مَسيس الحاجة إلى المساعدة- نحن في مسيس الحاجة إلى إنكار الذّات).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (مَسَّ)

[مَسَّ] الشيءَ -َ مَسًّا: لَمَسَهُ بيده.

وفي التنزيل العزيز: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 78-79].

يقال: مَسِسْتُ الشيءَ؛ ورُبَّما قيل: مِسْتُه، ومَسْتُه.

و - الماءُ الْجَسَدَ: أَصَابه، ويقال: مسَّهُ بالسَّوْط، ومَسَّه الكِبَرُ والمَرَضُ.

ومسَّ المرأَة: باضَعَها؛ وفي التنزيل العزيز: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47].

ومسَّه العذابُ، ومسَّتهم البأْساءُ والضَّراءُ، ومسَّت فلانًا مَوَاسُّ الخير والشر: عَرَضت له.

ومسَّه الشيطانُ: جُنَّ.

ومسَّت به رحِمُ فلانٍ: قَرُبَتْ.

و - الحاجةُ إلى كذا: ألجأت إليه.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-المعجم الاشتقاقي المؤصل (مسس مسمس)

(مسس- مسمس): {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174]

كلأ مَسُوس: نَامٍ في الراعية ناجعٌ، والمَسُوسُ: التِرْياق. وماءٌ مَسوس: عذْبٌ صَاف يَشفِي الغليل، وَجَد مَسًّا من نَصَب وهو أول ما يُحِسّ به من التعب. ووجد مَسّ الحمى أي رَسَّها وبَدْأَها قبل أن تأخذه وتظهر ومَسُّوا من الميضأة " (وهي المِطهَرة- وعاءٌ صغير لماء الوضوء) أي خُذُوا منها الماء وتوضئوا ".

° المعنى المحوري

سَرَيان في أثناء أو مخالطة دقيقة ذات أثَر (1) كهذا الكلأ

الناجع في الراعية وكما يخالط الماءُ الغُلّةَ والترياقُ الداءَ فيُشْفَيان. وكغمس اليد في المِطهرة لتناول قليل الماء. وكالذي يوجَد مِن مَسّ الحمى. والتعبُ يخالط البَدن ويَسْري فيه وهو ذو أثَرٍ قوي.

ومن هذه المخالطة الدقيقة القوية الأثر جاء "المسُّ: الجُنُون. رجل ممسوس به مَسٌّ من جنون. وقد مُسَّ: تُخُبِّطَ- للمفعول فيهما. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

وقولهم "رحم ماسَّة أي قرابة قوية "من الأصل أي أنها تسري في أعماقهم وأثنائهم كما يعَبَّر عن عمق الصداقة بين اثنين بأنهما متداخلان. وكذلك "حاجة ماسَّة أي مهمة "وقد "مسّت إليه الحاجة "من الأصل بمعنى وجود إحساس حادّ بالحاجة إلى الشيء يخالط المس أو الحال.

ومن المخالطة الدقيقة القوية الأثر استعمل في الإصابة بمكروه (حدّة) {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140]. وقد ورد المس بمعنى إيقاع الضُرّ ونحوه كالعذاب والنفحة منه، والنار، والسوء، والشَرّ، والضُر، والطائف الشيطاني، واللُغوب، والنَصَب في أكثر ما ورد في القرآن الكريم ما عدا {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] وهذه قد تفسَّر بالمقابلة، وكذلك ما في [الأنعام: 17] لكن هذا لا يعني الاختصاص وإنما يعني قوة الأثر كما في {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120]، فالتي تسوء الأعداء لا بد أنها نعمة كبيرة، أو قوة المخالطة- مع الدقة الخفاء ونحوه كما كُني بالمَسّ عن الجماع: "المسَيس: جماع الرجل المرأة. {لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]

وكذا ما في 237 منها، وما في الأحزاب: 49]، {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] {قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي على جهة تزوج - {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] أي ولا قُرِبْت على غير حد تزوج. وقد قالوا أيضًا إنه استعارة من المس باليد [ل 102/ 18، 103/ 20]. وسياق ما ورد منه في القرآن يقطع بأنه النكاح كما في الآيات السابقة، وفي {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3، 4].

ومن تلك المخالطة الدقيقة -ربما مع التجاوز عن قيد القوة "مَسَّ الشيءَ: لمَسه باليد. وماسَ الشيءُ الشيءَ: لَقِيَه بذاته. وتماسَ الجِرْمان: مَسّ أحدِّهما الآخر "- وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79] روى الفراء عن ابن عباس قال: "لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة الذين طُهِّروا من الشرك "اهـ ويقال "لا يَمَسَه "أي لا يجد طعمَه ونفعَه إلا المطَّهرون ممن آمن به. [معاني القرآن للفراء 3/ 129]، كما أعيد الضمير إلى القرآن. وفي المراد بالمس حينئذ ستة أقوال أولها المس باليد، وبالتطهير ثمانية أولها من الأحداث والأنجاس [ينظر قر 17/ 225 - 226]، {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} [طه: 97]، أي لا أَمَسّ ولا أُمَسّ- للمعلوم والمجهول، وَأُوِّل ذلك؛ بأن موسى أمرهم ألا يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه... [المعاني للفراء 2/ 190].

أما قولهم "ماء مَسُوس: أي زُعاقٌ يُخرِق كلَّ شيء بملوحته " (وهذا ضد تفسيره بالعَذْب) فهو ينطبق عليه الأصل لهذه الحدة التي في أثنائه- فيكون بمعنى مفعول- ولكنهم لم يوردوا له شاهدًا. فإن صح فالوجه ما ذكرنا -كما أنه يمكن نقل هذه الصيغة بهذا المعنى أو ذاك إلى تركيب (سوس).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


4-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الخبر للنهي)

الخبر للنّهي:

منه قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


5-موسوعة الفقه الكويتية (جنابة)

جَنَابَةٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَنَابَةُ لُغَةً: ضِدُّ الْقُرْبِ وَالْقَرَابَةِ، وَجَنَبَ الشَّيْءَ، وَتَجَنَّبَهُ، وَجَانَبَهُ، وَتَجَانَبَهُ، وَاجْتَنَبَهُ: بَعُدَ عَنْهُ، وَالْجَنَابَةُ فِي الْأَصْلِ: الْبُعْدُ، وَيُقَالُ: أَجْنَبَ الرَّجُلُ وَجَنُبَ- وِزَانُ قَرُبَ- فَهُوَ جُنُبٌ مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ جُنُبٌ؛ لِأَنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَقْرَبَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَطَهَّرْ، فَتَجَنَّبَهَا وَأَجْنَبَ عَنْهَا، أَيْ تَنَحَّى عَنْهَا، وَقِيلَ: لِمُجَانَبَتِهِ النَّاسَ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ.

وَالْجُنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدُ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْجَمْعُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ.

أَمَّا تَعْرِيفُهَا اصْطِلَاحًا فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: تُطْلَقُ الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَنْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ، وَعَلَى مَنْ جَامَعَ، وَسُمِّيَ جُنُبًا؛ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ الصَّلَاةَ وَالْمَسْجِدَ وَالْقِرَاءَةَ وَيَتَبَاعَدُ عَنْهَا وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْجَنَابَةُ شَرْعًا أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَقُومُ بِالْبَدَنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَدَثُ:

2- الْحَدَثُ لُغَةً: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا.

وَاصْطِلَاحًا: الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ الْحُكْمِيُّ الَّذِي يَحِلُّ فِي الْأَعْضَاءِ وَيُزِيلُ الطَّهَارَةَ، وَقِيلَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ.

فَالْحَدَثُ أَعَمُّ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.أَمَّا الْحَدَثُ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ.

ب- الْخَبَثُ:

3- الْخَبَثُ لُغَةً: النَّجَسُ.وَاصْطِلَاحًا: الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذَرَةُ شَرْعًا أَيِ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.

ج- النَّجَسُ:

4- النَّجَسُ: اسْمٌ لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ

ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَهُوَ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْحَقِيقِيِّ كَالْخَبَثِ، فَلَا يُقَالُ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِنَّهُ نَجَسٌ، فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

د- الطَّهَارَةُ:

5- الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ، وَاصْطِلَاحًا: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْجَنَابَةِ.

أَسْبَابُ الْجَنَابَةِ:

لِلْجَنَابَةِ سَبَبَانِ:

6- أَحَدُهُمَا: غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ، وَسَوَاءٌ أَحَصَلَ إِنْزَالٌ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِاتِّفَاقٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجِمَاعَ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ- جَنَابَةً، وَالْجَنَابَةُ تَحْصُلُ لِمَنْ وَقَعَ الْوَطْءُ مِنْهُ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ.

وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ لِغَيْرِ مُشْتَهًى كَمَيِّتَةٍ وَبَهِيمَةٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَحْدُثُ الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَ الْإِيلَاجِ إِنْزَالٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْلِ فِي فَرْجِ الْإِنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجْنُبُ الصَّغِيرُ بِإِيلَاجِهِ عَلَى الْوَصْفِ السَّابِقِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ تَجْنُبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهَا، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ غَيْرُ الْبَالِغِ مِمَّنْ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ وَبِنْتُ تِسْعٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ الْوَاطِئُ صَغِيرًا، أَوِ الْمَوْطُوءَةُ صَغِيرَةً وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ وَقَالَ: إِذَا أَتَى عَلَى الصَّبِيَّةِ تِسْعُ سِنِينَ وَمِثْلُهَا يُوطَأُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَسُئِلَ عَنِ الْغُلَامِ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ فَجَامَعَ الْمَرْأَةَ يَكُونُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْغُسْلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَأْثَمُ، وَلَا هِيَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ الطَّهَارَةُ لَهَا، لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَرِوَايَتِهَا لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ وَلِأَنَّهَا أَجَابَتْ بِفِعْلِهَا وَفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهَا: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاغْتَسَلْنَا» فَكَيْفَ تَكُونُ خَارِجَةً مِنْهُ.

وَبِقَوْلِ الْحَنَابِلَةِ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الصَّغِيرَ الْمُطِيقَ لَا يَجْنُبُ بِإِيلَاجِهِ أَوِ الْإِيلَاجِ فِيهِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ الْمُطِيقَةُ لَا تَجْنُبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهَا، وَيَجْنُبُ الْبَالِغُ بِإِيلَاجِهِ فِي الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ، وَتَجْنُبُ الْبَالِغَةُ بِإِيلَاجِ الصَّغِيرِ فِيهَا إِذَا أَنْزَلَتْ، وَالْقَوْلُ بِالْغُسْلِ عَلَى الصَّغِيرِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّأْثِيمَ بِتَرْكِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، وَهَكَذَا.وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي حَقِّهِ شَرْطًا كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ كَانَ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّهِ بَاقِيًا وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَيَسْتَوِي فِي حُصُولِ الْجَنَابَةِ بِالْإِيلَاجِ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ مَعَ نَائِمٍ، أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ مُكْرَهٍ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَفِيهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَغُسْلٌ).

7- الثَّانِي: خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ احْتِلَامٍ أَمِ اسْتِمْنَاءٍ، أَمْ نَظَرٍ، أَمْ فِكْرٍ، أَمْ تَقْبِيلٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

وَاشْتِرَاطُ الشَّهْوَةِ لِحُصُولِ الْجَنَابَةِ هُوَ مَا قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلِذَلِكَ لَا تَحْصُلُ الْجَنَابَةُ عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِهِ لِمَرَضٍ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُلُ عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ مُطْلَقًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ هُوَ بُرُوزُهُ إِلَى مَحَلِّ اسْتِنْجَائِهَا، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْهَا عِنْدَ جُلُوسِهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خِلَافًا لِسَنَدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ، وَقَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِكْرِ لَوْ أَنْزَلَتِ الْمَنِيَّ إِلَى فَرْجِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ فَرْجِهَا؛ لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُهُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَالْغُسْلِ، فَأَشْبَهَ إِحْلِيلَ الذَّكَرِ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بِكْرٍ وَثَيِّبٍ بَلْ هِيَ تَجْنُبُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْمَنِيُّ إِلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا.

قَالُوا: لِأَنَّ لَهُ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.

وَمَنْ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّهْوَةِ فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجِ الْمَنِيُّ فَلَا يُعْتَبَرُ جُنُبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ جُنُبًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تُبَاعِدُ الْمَاءَ عَنْ مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَكُونُ الْجَنَابَةُ مَوْجُودَةً فَيَجِبُ الْغُسْلُ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ تُرَاعَى فِيهِ الشَّهْوَةُ وَقَدْ حَصَلَتْ بِانْتِقَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَهَرَ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَابَةِ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ، بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَّقَ الِاغْتِسَالَ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَفَضْخِهِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ» «وَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ» فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى جُنُبًا لِمُجَانَبَتِهِ الْمَاءَ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ.وَكَلَامُ أَحْمَدَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْتَقَلَ لَزِمَ مِنْهُ الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ.

وَيُعْتَبَرُ جُنُبًا مَنِ انْتَقَلَ مَنِيُّهُ مِنْ مَحَلِّهِ بِشَهْوَةٍ وَخَرَجَ لَا عَنْ شَهْوَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ إِذْ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ هُوَ الِانْفِصَالُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ.

مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَنَابَة:

8- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ وَلَوْ بِدُونِ إِنْزَالٍ أَوْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ بِمَا يَأْتِي:

أ- بِالْغُسْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجِمَاعِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ».

وَالْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَنُسِخَ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ، وَالْآثَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الصَّحَابَةِ قَالُوهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمُ النَّسْخُ، قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ «الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ»

كَانَ رُخْصَةً أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ نَهَى عَنْهَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (غُسْلٌ).

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ.قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».

9- ب- التَّيَمُّمُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ هَلْ هُوَ رَافِعٌ لِلْجَنَابَةِ، أَوْ غَيْرُ رَافِعٍ لَهَا؟ وَمَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يُبَاحُ بِهِ مَا يُبَاحُ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» فَقَدْ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا، وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا» وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ، إِلاَّ أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إِلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ، وَلَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُكَلَّفِ، وَهُوَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ إِجْمَاعًا وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ ثَابِتَةً قَطْعًا، وَالْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ قَطْعًا كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ قَطْعًا.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ- أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، أَوْ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى ثُمَّ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ، فَلَمَّا حَضَرَ الْمَاءُ أَعْطَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- هَذَا الرَّجُلَ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: اغْتَسِلْ بِهِ».

وَحَدِيثُ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ وَصَلَّى بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ».

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَعْزُبُ فِي الْإِبِلِ وَتُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسُّهُ بَشَرَتَهُ».قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَدَثَ مَا ارْتَفَعَ، إِذْ لَوِ ارْتَفَعَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاغْتِسَالِ.

مَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ:

10- يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الصَّلَاةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ».

وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَيَشْمَلُ ذَلِكَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ.

11- وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ الطَّوَافَ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ» وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ شَرْطًا وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبَدَنَةُ تَجِبُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ: إِذَا طَافَ جُنُبًا، وَالثَّانِي: إِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ. 12- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا لِلْقُرْآنِ، أَمْ كَانَ جُزْءًا أَمْ وَرَقًا مَكْتُوبًا فِيهِ بَعْضُ السُّوَرِ، وَكَذَا مَسُّ جِلْدِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

13- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ كَذَلِكَ حَمْلُ الْقُرْآنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِأَمْتِعَةٍ، وَالْأَمْتِعَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلُهُ لِضَرُورَةٍ، كَخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ حَمْلَهُ بِعَلاَّقَةٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ حَمْلُ الْمُصْحَفِ بِعَلاَّقَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَأَبِي وَائِلٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَاسٍّ لَهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي رَحْلِهِ.

14- وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهَا مَاسًّا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ كَبَعْضِ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ حَرُمَ مَسُّهُ، وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ لَا يَحْرُمُ مَسُّهُ فِي الْأَصَحِّ.

وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ- غَيْرَ ابْنِ عَرَفَةَ- وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ مُصْحَفٍ.

15- وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ كَالْوَرَقَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا قُرْآنٌ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَالْبَلْوَى تَعُمُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ.

16- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ.

17- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلاَّ الْجَنَابَةُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ كُلِّ الْقُرْآنِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا: اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ تِلَاوَةُ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ كَالْأَدْعِيَةِ وَالذِّكْرِ الْبَحْتِ.

18- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثُ فِيهِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عُبُورَهُ، لِلِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ فِي قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}.وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْعُبُورَ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ.

19- وَيَحْرُمُ الِاعْتِكَافُ لِلْجُنُبِ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)

مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ:

20- يُبَاحُ لِلْجُنُبِ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ».

21- يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَوْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَطَأَ ثَانِيًا أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ».وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ أَوْ لِمُعَاوَدَةِ الْأَهْلِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ النَّوْمِ، فَهَلِ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِلنَّدْبِ؟ قَوْلَانِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ أَوْ مُعَاوَدَةَ الْأَهْلِ الْوُضُوءَ وَعَدَمَهُ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً» وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي النَّوْمِ ذَلِكَ- وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ.

لَكِنِ اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمَنْ كَانَ جُنُبًا أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَغْسِلُ كَفَّيْهِ.

22- يَصِحُّ مِنَ الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ بِأَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ «عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أِنْ كَانَ لِيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ثُمَّ يَصُومُ».

23- يَصِحُّ أَذَانُ الْجُنُبِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ).

24- تَجُوزُ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الذِّكْرِ، فَإِنْ خَطَبَ جُنُبًا وَاسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ فَلَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ بِدُونِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، خُطْبَةٌ).

أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الصَّوْمِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْحَاصِلَ قَدِ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلَكِنِ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ مَعَ الْكَفَّارَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ قَالَ لَا.قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ لَا.قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ لَا.قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعِرْقٍ فِيهَا تَمْرٌ- وَالْعِرْقُ: الْمِكْتَلُ- قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ أَنَا.قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ.فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

وَالْكَفَّارَةُ فِيمَا سَبَقَ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ نِسْيَانًا فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ.وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

26- أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْإِنْزَالِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.فَإِنْ كَانَ عَنِ احْتِلَامٍ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ».وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ تَعَمُّدٍ بِمُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ قُبْلَةٍ، أَوْ لَمْسٍ بِشَهْوَةٍ، أَوِ اسْتِمْنَاءٍ فَسَدَ الصَّوْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِفَسَادِ الصَّوْمِ يَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

أَمَّا الْجَنَابَةُ الَّتِي تَكُونُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فَلَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ».

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اعْتَادَ الْإِنْزَالَ بِالنَّظَرِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ دَاوَمَ الْفِكْرَ أَوِ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ الْإِنْزَالِ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يُدِمِ النَّظَرَ أَوِ الْفِكْرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ الْإِنْزَالَ فَقَوْلَانِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا.

أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الْحَجِّ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ بِجِمَاعٍ فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَاةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ نِسْيَانًا.

وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِقَوْلِ

النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ الْحَجُّ وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُوبِ بَدَنَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَشَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْسُدِ الْحَجُّ عِنْدَهُمَا وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، قِيلَ بَدَنَةٌ وَقِيلَ شَاةٌ.

وَلَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِالْجَنَابَةِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَأَنْ كَانَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَمْ بَعْدَهُ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْخِلَافِ هَلْ هِيَ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْلَ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ يَفْسُدُ بِالْجَنَابَةِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا وَذَلِكَ إِنْ وَقَعَتِ الْجَنَابَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي.

أ- إِذَا كَانَتْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.

ب- إِذَا كَانَتْ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ).وَلَكِنْ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ.

وَلَا يَفْسُدُ الْحَجُّ إِنْ وَقَعَ الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ.

أَوْ وَقَعَ الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَوْ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.وَإِذَا فَسَدَ الْحَجُّ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ.

وَالْعُمْرَةُ تَفْسُدُ بِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْمَذَاهِبِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بَعْدَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَلَا تَفْسُدُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ.

وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (حَجٌّ، عُمْرَةٌ، إِحْرَامٌ).

- رحمه الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (حائل)

حَائِلٌ

التَّعْرِيف:

1- الْحَائِلُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَالَتِ الْمَرْأَةُ حِيَالًا إِذَا لَمْ تَحْمِلْ.وَيُسْتَعْمَلُ وَصْفًا لِكُلِّ أُنْثَى لَمْ تَحْمِلْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.وَضِدُّ الْحَائِلِ: الْحَامِلُ.

وَالْحَائِلُ أَيْضًا: السَّاتِرُ وَالْحَاجِزُ، وَالْحَاجِبُ مِنْ حَالَ يَحُولُ حَيْلُولَةً بِمَعْنَى حَجَزَ وَمَنَعَ الِاتِّصَالَ، يُقَالُ: حَالَ النَّهْرُ بَيْنَنَا حَيْلُولَةً أَيْ حَجَزَ.وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

السُّتْرَة:

1- السُّتْرَةُ هِيَ مَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلَامَةً لِلصَّلَاةِ مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسُمِّيَتْ سُتْرَةً لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ تَحْجُبُهُ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَائِلِ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيّ:

أَوَّلًا- حُكْمُ الْحَائِلِ (بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَامِلِ):

3- الْحَوَائِلُ مِنَ النِّسَاءِ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَالْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ، وَإِذَا طُلِّقْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ- حِيَضٍ أَوْ أَطْهَارٍ- عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَمْ يَحِضْنَ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ. (ر: نِكَاحٌ، وَعِدَّةٌ).وَتَخْتَلِفُ الْحَامِلُ عَنِ الْحَائِلِ بِأَحْكَامٍ مُبَيَّنَةٍ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حَمْلٌ) (وَحَامِلٌ).

ثَانِيًا- حُكْمُ الْحَائِلِ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ:

4- مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لَمْسُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَعَكْسُهُ دُونَ حَائِلٍ.لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.

وَكَذَلِكَ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَائِلٍ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ».

وَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ حَلَقَةِ الدُّبُرِ عَلَى الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ».وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّمْسِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ، كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-.

كَذَلِكَ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَا هَلْ هُوَ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْكَ أَوْ بَضْعَةٌ مِنْكَ؟».وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ، وَلَمْسٌ).

ب- فِي الْغُسْلِ:

5- مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ إِيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتِ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ».فَإِذَا كَانَ الْإِيلَاجُ بِغَيْرِ حَائِلٍ وَجَبَ الْغُسْلُ اتِّفَاقًا.أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.أَمَّا إِذَا كَانَ بِحَائِلٍ فَفِيهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ، وَجَنَابَةٌ).

ج- فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ:

6- الْفَرْضُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.

أَمَّا غَيْرُ الْمُعَايِنِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهَا إِصَابَةُ الْعَيْنِ، ثُمَّ فَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتْ إِصَابَةُ الْعَيْنِ بِحَائِلٍ أَصْلِيٍّ، كَجَبَلٍ وَنَحْوِهِ اجْتَهَدَ إِلَى عَيْنِهَا، وَمَعَ حَائِلٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ كَالْمَنَازِلِ لَا بُدَّ مِنْ تَيَقُّنِهِ مُحَاذَاةَ الْقِبْلَةِ بِنَظَرٍ أَوْ خَبَرِ ثِقَةٍ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْحَائِلِ الْخِلْقِيِّ وَالْحَادِثِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ حَاضِرًا بِمَكَّةَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ خِلْقِيٌّ كَجَبَلٍ، أَوْ حَادِثٌ كَبِنَاءٍ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ إِذَا فَقَدَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ؛ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ج 4 ص 64، 65).

د- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْحَدَثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِلَا حَائِلٍ.قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.وَفِي كِتَابِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

وَاخْتَلَفُوا فِي مَسِّهِ بِحَائِلٍ، كَغِلَافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا.

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِحَائِلٍ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا، حَيْثُ يُعَدُّ مَاسًّا عُرْفًا.وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ وَإِنْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِسَادَةٍ إِلاَّ بِأَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ بِحَائِلٍ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ كَكِيسٍ وَكُمٍّ.لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ مَسِّهِ، وَمَعَ الْحَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ لِلْحَائِلِ دُونَ الْمُصْحَفِ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ فَقَالُوا: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إِلاَّ بِغِلَافٍ مُتَجَافٍ- أَيْ غَيْرِ مَخِيطٍ- أَوْ بِصُرَّةٍ.وَالْمُرَادُ بِالْغِلَافِ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَالْخَرِيطَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِالْمُصْحَفِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفَتْوَى.وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (مُصْحَفٌ).

هـ- الِاقْتِدَاءُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ:

8- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إِذَا حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ.وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الْحَائِلُ صَغِيرًا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.

وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمِثْلُهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ ج 6 ص 23، 24).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (حدث 2)

حَدَثٌ -2

الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ لَا الْوُضُوءُ.فَلَوْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ (أَيْ عَلِمَ سَبْقَهَا) وَشَكَّ فِي عُرُوضِ الْحَدَثِ بَعْدَهَا فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَلَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْآخِرَ مِنْهُمَا، مِثْلَ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ لَاحِقًا يَأْخُذُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الْحَدَثِ عَنْهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَأَخُّرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَأَخُّرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا قَبْلَهُمَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا قَبْلَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِشَكٍّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ، فَإِنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَأَحْدَثَ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَمْ لَا فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُسْتَنْكَحًا.قَالَ الْحَطَّابُ: هَذَا إِذَا شَكَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَمَّا إِذَا صَلَّى ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْدَث أَمْ لَا فَفِيهِ قَوْلَانِ.

وَذَكَرَ فِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ أَنَّ مَنْ شَكَّ أَثْنَاءَ صَلَاتِهِ هَلْ هُوَ عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لَا فَتَمَادَى عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ عَلَى وُضُوئِهِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الشَّكُّ الطَّارِئُ.أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَلَا يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ إِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ.

وَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِشَكٍّ فِي السَّابِقِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَا مُحَقَّقَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ مَشْكُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا أَوْ مَظْنُونًا وَالْآخَرُ مَشْكُوكًا أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا.

وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ- وَهُوَ أَوَّلُ مَا شَكَّ- غَسَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْحَدَثِ فِيهِ، وَإِنْ صَارَ الشَّكُّ فِي مِثْلِهِ عَادَةً لَهُ بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُ كَثِيرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْتَ أَحْدَثْتَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شَكٌّ) (وَوَسْوَسَةٌ).

حُكْمُ الْحَدَثِ:

21- الْحَدَثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ، أَوْ أَصْغَرَ فَيُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ، أَمَّا أَحْكَامُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَأَسْبَابُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ).

وَفِيمَا يَأْتِي أَحْكَامُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ:

أَوَّلًا: مَا لَا يَجُوزُ بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ:

أ- الصَّلَاةُ:

22- يَحْرُمُ بِالْمُحْدِثِ (حَيْثُ لَا عُذْرَ) الصَّلَاةُ بِأَنْوَاعِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ» وَهُوَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَفِي مَعْنَى الصَّلَاةِ سَجْدَتَا التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ.وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَبِوَجْهِهِ جِرَاحَةٌ- كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ- صَلَّى وُجُوبًا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ) هَذَا إِذَا كَانَ مُحْدِثًا قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ.

23- أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ، غَلَبَةً كَانَ الْحَدَثُ أَوْ نِسْيَانًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَذًّا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ إِمَامًا، لَكِنْ لَا يَسْرِي بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ الِاسْتِخْلَافَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ» وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ سَبَقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ تَوَضَّأَ وَبَنَى لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيمَا سَبَقَ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا يَتَعَمَّدُهُ.وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ، وَكَذَا إِذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إِلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنَ الْإِنَاءِ أَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ وَالِاغْتِرَافُ وَالِاسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ، وَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِمَامًا.

فَإِنَّ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِيهِ.ثُمَّ إِذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَوْ تَابَعَ إِمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَالْأَمْرُ فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتِ الْإِمَامَةُ إِلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِ.

اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ:

24- لِلْإِمَامِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمُ الصَّلَاةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَأَتَمَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِإِمَامَيْنِ مَعًا، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ.

وَلِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلَافٌ).

ب- الطَّوَافُ:

25- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الطَّوَافِ لِلْمُحْدِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا أَمْ وَاجِبًا أَمْ نَفْلًا، فِي نُسُكٍ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَعْتَبِرُونَ الطَّهَارَةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ عَدُّوا الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ.

قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً، فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمُ بِالْكَرَاهَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ).

ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

26- لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ وَأَنْتَ طَاهِرٌ» وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلَاوَتِهِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَر بِغَيْرِ لَمْسٍ.

وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْعِ مَسَّهُ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ كَمَا إِذَا كَانَ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ أَوْ فِي وِعَائِهِ وَعِلَاقَتِهِ، أَوْ لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ، أَوْ كَانَ حَمْلُهُ فِي حَالِ الْحَدَثِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَأَنْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ ضِمْنَ الْأَمْتِعَةِ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ وَفِي دَاخِلِهَا قُرْآنٌ.

وَلِتَفْصِيلِ كُلِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ).

27- وَيَجُوزُ مَسُّ وَحَمْلُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَرَسَائِلَ فِيهَا قُرْآنٌ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لِلتَّفْسِيرِ أَوْ يَكُونُ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي مَسِّهِ لِلْمُحْدِثِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ).

28- هَذَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَا يَأْتِي:

1- تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَصْدِ التِّلَاوَةِ. (ر: تِلَاوَةٌ).

2- الِاعْتِكَافُ: كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ).

3- الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا دُخُولُ الْمَسْجِدِ عُبُورًا أَوْ مُجْتَازًا، فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ».

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ).

وَيَحْرُمُ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ الصِّيَامُ. (ر: حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ).

ثَانِيًا- مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ:

29- يُرْفَعُ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ بِالْغُسْلِ، وَالْأَصْغَرُ بِالْغُسْلِ وَبِالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُمَا فِي مُصْطَلَحَيْ: (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ).

أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَكِنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلَاةُ بِهِ وَنَحْوُهَا لِلضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَيَرْفَعُ الْحَدَثَ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَيَجُوزُ بِهِ مَا يَجُوزُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مُطْلَقًا.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (حيض 3)

حَيْضٌ -3

(ب) إِدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ:

35- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْوَقْتِ الَّذِي تُدْرِكُ فِيهِ الْحَائِضُ الصَّلَاةَ إِنْ طَهُرَتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَانْقِطَاعِهِ قَبْلَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، وَانْقِطَاعِ دَمِ الْمُعْتَادَةِ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ.

فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ لِأَكْثَرَ الْحَيْضِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ تَحْرِيمَةٍ، وَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهَا الِاغْتِسَالُ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ هَذَا الْمِقْدَارُ فَلَا قَضَاءَ وَلَا أَدَاءَ.فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ.فَلَوْ كَانَتْ فِيهِ طَاهِرَةً وَجَبَتِ الصَّلَاةُ وَإِلاَّ فَلَا.

وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ قَبْلَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، أَوْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا- قَبْلَ تَمَامِ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ- أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ، وَالْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ.وَلَا بُدَّ هُنَا مِنْ بَقَاءِ قَدْرِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ التَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ حَيْضٌ، فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ يَسَعُهُ وَيَسَعُ التَّحْرِيمَةَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ زَمَانِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ التَّحْرِيمَةِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرَ الْمُدَّةِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ زَمَانَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الطُّهْرِ، لِئَلاَّ يَزِيدَ الْحَيْضُ عَنِ الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ بَعْدَهُ قَدْرَ التَّحْرِيمَةِ تَحَقَّقَ طُهْرُهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْغُسْلِ هُنَا الْغُسْلُ مَعَ مُقَدِّمَاتِهِ، كَالِاسْتِقَاءِ، وَخَلْعِ الثِّيَابِ، وَالتَّسَتُّرِ عَنِ الْأَعْيُنِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغُسْلُ الْفَرْضُ لَا الْمَسْنُونُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الطَّهَارَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ تُدْرِكُ الصَّلَاةَ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً تَامَّةً، وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، فَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ الطُّلُوعِ، أَوِ الْغُرُوبِ، أَوِ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَا تُدْرِكُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُدْرِكُ الظُّهْرَ وَالْمَغْرِبَ إِذَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِهِمَا الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ فَضْلَ رَكْعَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ، فَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّتِ الْمَغْرِبَ بَقِيَتْ رَكْعَةٌ لِلْعِشَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ وَقَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا فَقَطْ إِنْ لَمْ تَجْمَعْ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَضَاؤُهَا وَقَضَاءُ مَا قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةً لَزِمَهَا قَضَاءُ الصُّبْحِ فَقَطْ، لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُجْمَعُ إِلَيْهَا.وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَذَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ «تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا» لِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا فَوْقَ الْعُذْرِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ إِدْرَاكٌ.

(4) الصَّوْمُ:

36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ مُطْلَقًا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ مِنْهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ، وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَسَدَ صَوْمُهَا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَوْنُ الصَّوْمِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ.

كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَيْهَا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي الْحَيْضِ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ وَلَا تَخْلُو عَنْهُ ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فِي الشَّهْرِ غَالِبًا، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ فِيهِ خَطَرٌ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَنَحْوَهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ).

إِدْرَاكُ الصَّوْمِ:

لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ حِينَئِذٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لَهَا التَّمَادِي عَلَى تَعَاطِي الْمُفْطِرِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِمْسَاكُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَلْزَمُهَا الْإِمْسَاكُ.

كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَهُرَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي إِذَا انْقَطَعَ فِيهَا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ الِاغْتِسَالِ وَالتَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا إِلاَّ بِهَذَا، وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُهُمَا يَجْزِيهَا، لِأَنَّ الْعِشَاءَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهَا ضَرُورَةً.وَالْمُرَادُ بِالْغُسْلِ هُنَا مَا يَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهِ كَمَا فِي غُسْلِ الْحَائِضِ لِلصَّلَاةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الطُّهْرَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِلَحْظَةٍ وَجَبَ الصَّوْمُ، بِأَنْ رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ وَنَوَتِ الصَّوْمَ حِينَئِذٍ.وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُعْتَادَةَ الْقَصَّةِ لَا تَنْتَظِرُهَا هُنَا، بَلْ مَتَى رَأَتْ أَيَّ عَلَامَةٍ جُفُوفًا كَانَتْ أَوْ قَصَّةً، وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهَا حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ إِلاَّ بَعْدَ الْفَجْرِ، بَلْ إِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ أَصْلًا، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فَتْرَةً مُعَيَّنَةً كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ ارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ.

وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِهَا، ثُمَّ انْقَطَعَ لَيْلًا صَحَّ إِنْ تَمَّ لَهَا فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَكَذَا قَدْرُ الْعَادَةِ فِي الْأَصَحِّ.كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِمِثْلِ هَذَا، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ لَيْلًا صَحَّ.

(5) الْحَجُّ:

أ- أَغْسَالُ الْحَجِّ:

37- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ أَغْسَالِ الْحَجِّ لِلْحَائِضِ، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ: قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي».فَيُسَنُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْإِحْرَامِ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ.وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الِاغْتِسَالَ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوهُ لِلْحَائِضِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلطَّوَافِ، فَلِذَا لَا يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِضِ لِمَنْعِهَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ.

ب- الطَّوَافُ:

38- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلاَّ الطَّوَافَ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ».

ثُمَّ إِنَّ الْأَطْوِفَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِسُنِّيَّتِهِ.

فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِسُنِّيَّتِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَيْثُ بَقِيَ عُذْرُهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا تَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ.فَإِنْ طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَلَا يَصِحُّ طَوَافُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ طَاهِرَةٍ، وَتَأْثَمُ وَعَلَيْهَا بَدَنَةٌ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا طَوَافِ وَدَاعٍ، تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- حَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَنْصَرِفَ بِلَا وَدَاعٍ».وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ.فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا.فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَاكَ إِلاَّ قَدْ صَدَقْتَ.

وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ فَتَغْتَسِلُ وَتَطُوفُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَعَلَيْهَا دَمٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا طَهُرَتْ خَارِجَ مَكَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ).

أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:

39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ لِلْقُرْآنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ وَلَوْ دُونَ آيَةٍ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ لَا الْمُفْرَدَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ بَلْ قَصَدَتِ الثَّنَاءَ أَوِ الذِّكْرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ قَرَأَتِ الْفَاتِحَةَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ تُرِدِ الْقِرَاءَةَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَصَرَّحُوا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَسُورَةِ الْمَسَدِ، لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ نِيَّةُ الدُّعَاءِ فَيَحْرُمُ، وَقَدْ أَجَازُوا لِلْمُعَلِّمَةِ الْحَائِضِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَطِّعَ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ، لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ بِالْكَلِمَةِ قَارِئَةً.كَمَا أَجَازُوا لِلْحَائِضِ أَنْ تَتَهَجَّى بِالْقُرْآنِ حَرْفًا حَرْفًا، أَوْ كَلِمَةً كَلِمَةً مَعَ الْقَطْعِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهُوا لَهَا قِرَاءَةَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُنُوتِ، وَلَا سَائِرُ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، كَحَرْفٍ لِلْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَقَصَدَتْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهَا أَمْ لَا، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ إِجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ، وَجَوَازِ النَّظَر فِي الْمُصْحَفِ، وَإِمْرَارِ مَا فِيهِ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا تَحْرِيكُ لِسَانِهَا وَهَمْسُهَا بِحَيْثُ لَا تُسْمِعُ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ.وَيَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً، كَمَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَكْرِيرُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَتَحَيَّلْ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا.وَلَهَا تَهْجِيَةُ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ لَهُ، وَلَهَا التَّفَكُّرُ فِيهِ وَتَحْرِيكُ شَفَتَيْهَا بِهِ مَا لَمْ تُبَيِّنِ الْحُرُوفَ، وَلَهَا قِرَاءَةُ أَبْعَاضِ آيَةٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ سَكَتَتْ بَيْنَهَا سُكُوتًا طَوِيلًا.وَلَهَا قَوْلُ مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَلَمْ تَقْصِدْهُ، كَالْبَسْمَلَةِ، وَقَوْلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَآيَةِ الِاسْتِرْجَاعِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَآيَةِ الرُّكُوبِ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ، لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُنْسَبُ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَهَا أَنْ تَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا خَافَتْ نِسْيَانَهُ، بَلْ يَجِبُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ اسْتِرْسَالِ الدَّمِ مُطْلَقًا، كَانَتْ جُنُبًا أَمْ لَا، خَافَتِ النِّسْيَانَ أَمْ لَا.وَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا، فَلَا تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ جُنُبًا كَانَتْ أَمْ لَا، إِلاَّ أَنْ تَخَافَ النِّسْيَانَ.

هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّطَهُّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا جَازَ لَهَا الْقِرَاءَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ جُنُبًا قَبْلَ الْحَيْضِ.فَإِنْ كَانَتْ جَنْبًا قَبْلَهُ فَلَا تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ.

(ب) مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ:

40- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا، وَكَانَ فِيهِ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعَلِّمَةَ وَالْمُتَعَلِّمَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا مَسُّ الْمُصْحَفِ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ).

دُخُولُ الْمَسْجِدِ:

41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الِاعْتِكَافُ كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ عُبُورِهَا لِلْمَسْجِدِ دُونَ لُبْثٍ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، كَالْخَوْفِ مِنَ السَّبُعِ قِيَاسًا عَلَى الْجُنُبِ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وَاللِّصِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَطَشِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ إِنَّهَا حَائِضٌ فَقَالَ حَيْضَتُك لَيْسَتْ بِيَدِكِ»، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ تَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَدْخُلَ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ دُخُولِهَا الْمَسْجِدَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ لِلْمُكْثِ أَوْ لِلْعُبُورِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولَهَا لِلطَّوَافِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ إِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ، لِأَنَّ تَلْوِيثَهُ بِالنَّجَاسَةِ مُحَرَّمٌ، وَالْوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.فَإِنْ أَمِنَتْ تَلْوِيثَهُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ عُبُورِهَا الْمَسْجِدَ، وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ إِذَا عَبَرَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنَ الْحَاجَةِ الْمُرُورُ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِبُعْدِ بَيْتِهَا مِنْ طَرِيقٍ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ.قَالَ أَحْمَدُ- فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ- تَمُرُّ وَلَا تَقْعُدُ.

كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ الْحَائِضِ مُصَلَّى الْعِيدِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا مُصَلَّى الْجِنَازَةِ إِذْ لَيْسَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الْأَصَحِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُصَلَّى الْعِيدِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى»، وَأَجَازُوا مُصَلَّى الْجَنَائِزِ لَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ.

الِاسْتِمْتَاعُ بِالْحَائِضِ:

42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرَجِ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ» وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَنْ بِهِ شَبَقٌ لَا تَنْدَفِعُ شَهْوَتُهُ بِدُونِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَيَخَافُ تَشَقُّقَ أُنْثَيَيْهِ إِنْ لَمْ يَطَأْ، وَلَا يَجِدُ غَيْرَ الْحَائِضِ، بِأَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ أُخْرَى.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى حُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا.قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَمْلِكُ إِرْبَهُ» وَعَنْ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- نَحْوُهُ.وَفِي رِوَايَةٍ «كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حَائِضٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا إِزَارٌ» وَلِأَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَرِيمٌ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى.

وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ.

وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ.كَمَا مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ النَّظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالرُّكْبَةِ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا دُونَ الْإِزَارِ» وَمَحَلُّهُ الْعَوْرَةُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الرُّكْبَةُ.وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِمْتَاعَ بِالسُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حُكْمَ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ لِزَوْجِهَا، وَقَرَّرُوا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا مُبَاشَرَتُهَا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ سَتْرُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، قَالَ فِي النُّكَتِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ أَوْ يَخَافَ، وَصَوَّبَ الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ لِئَلاَّ يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ.

كَفَّارَةُ وَطْءِ الْحَائِضِ:

43- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَامِدِ الْمُخْتَارِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ.وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ نِصْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا كَفَّارَةً فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.

وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِهِ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ وَسَطِهِ.لِحَدِيثِ: «إِذَا وَاقَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِنْ كَانَ دَمًا أَحْمَر فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

وَطْءُ الْحَائِضِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ:

44- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ الْحَائِضِ حَتَّى تَطْهُرَ- يَنْقَطِعَ الدَّمُ- وَتَغْتَسِلَ.فَلَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ لِحِلِّ الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ: انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالْغُسْلَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَنْقَطِعَ دَمَهُنَّ. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ {فَأَتَوْهُنَّ}.وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي التَّيَمُّمُ لِعُذْرٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ حَتَّى يَحِلَّ وَطْؤُهَا.

وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ لِأَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لِأَقَلِّهِ، وَكَذَا بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لِتَمَامِ عَادَتِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ عَادَتِهَا.فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ فِي الْحَيْضِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِدُونِ غُسْلٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ لِمَا بَعْدَ الْغُسْلِ.

وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْلَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ لِتَمَامِ الْعَادَةِ فِي الْمُعْتَادَةِ بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ أَنْ تَصِيرَ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ مِقْدَارُ الْغُسْلِ وَالتَّحْرِيمَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَهُ وَلَوْ قَبْلَ الْغُسْلِ.

وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْلَ الْعَادَةِ وَفَوْقَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ، لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاجْتِنَابِ، فَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا الْمُعْتَادُ لَهَا عَشَرَةً فَحَاضَتْ ثَلَاثَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا مَا لَمْ تَمْضِ الْعَادَةُ.

طَلَاقُ الْحَائِضِ:

45- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ0 وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ» وَلِمُخَالِفَتِهِ قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشْرَعْنَ فِيهِ فِي الْعِدَّةِ، وَزَمَنُ الْحَيْضِ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ إِنَّ بَقِيَّةَ الْحَيْضِ لَا تُحْسَبُ مِنْهَا.

كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِالْمُرَاجَعَةِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَفِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ، «قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتُ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا.قَالَ: كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً» قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، رَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّهِ فَوَقَعَ كَطَلَاقِ الْحَامِلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ بَلْ هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ مُرَاجَعَتِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَتَهَا سُنَّةٌ.

وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامٍ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ فِي حُكْمِهَا.وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (طَلَاقٌ).

خُلْعُ الْحَائِضِ:

46- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَلِحَاجَتِهَا إِلَى الْخَلَاصِ بِالْمُفَارَقَةِ حَيْثُ افْتَدَتْ بِالْمَالِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى مَنْعِ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ).

مَا يَحِلُّ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ:

47- إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ لَمْ يَحِلَّ مِمَّا حَرُمَ غَيْرُ الصَّوْمِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمْ يُبَحْ غَيْرُهُمَا حَتَّى تَغْتَسِلَ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الصَّوْمُ وَالطَّلَاقُ بِالِانْقِطَاعِ دُونَ الْغُسْلِ، أَمَّا الصَّوْمُ فَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِالْحَيْضِ لَا بِالْحَدَثِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنَ الْجُنُبِ، وَقَدْ زَالَ، وَأَمَّا بِالطَّلَاقِ فَلِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ

أَحْكَامٌ عَامَّةٌ:

1- إِنْزَالُ وَرَفْعُ الْحَيْضِ بِالدَّوَاءِ:

48- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ شُرْبُ دَوَاءٍ مُبَاحٍ لِقَطْعِ الْحَيْضِ إِنْ أُمِنَ الضَّرَرُ، وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ.لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَلَدِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ مَخَافَةَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى نَفْسِهَا ضَرَرًا بِذَلِكَ فِي جِسْمِهَا.كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْرَبَ دَوَاءً مُبَاحًا لِحُصُولِ الْحَيْضِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا غَرَضٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا كَفِطْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَجُوزُ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى شَرِبَتْ دَوَاءً وَارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهَا بِالطَّهَارَةِ، وَأَمَّا إِنْ شَرِبَتْ دَوَاءً وَنَزَلَ الْحَيْضُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ النَّازِلَ غَيْرُ حَيْضٍ وَأَنَّهَا طَاهِرٌ.فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ حَيْضٍ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَيْضٌ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَتِ الْمَرْأَةُ دَوَاءً فَنَزَلَ الدَّمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ حَيْضٌ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ.

2- ادِّعَاءُ الْحَيْضِ:

49- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ قُبِلَ قَوْلُهَا وُجُوبًا، لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا حِينَئِذٍ وَإِنْ كَذَّبَهَا، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ مِمَّا إِذَا كَانَتْ عَفِيفَةً أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ فَاسِقَةً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَيْضِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا اتِّفَاقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ أَخْبَرَتْهُ بِالْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهَا إِنْ صَدَّقَهَا وَإِلاَّ فَلَا، وَإِذَا صَدَّقَهَا وَادَّعَتْ دَوَامَهُ صُدِّقَتْ.

3- مَا يَتَّفِقُ فِيهِ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ:

50- حُكْمُ النِّفَاسِ حُكْمُ الْحَيْضِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ:

1- الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ، لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ، وَالنِّفَاسُ لَيْسَ بِقُرْءٍ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ.

2- حُصُولُ الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ حَيْثُ إِنَّ الْبُلُوغَ يَحْصُلُ قَبْلَهُ بِالْحَمْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِمَا لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.

3- الْحَيْضُ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً، بِخِلَافِ النِّفَاسِ.

4- الْحَيْضُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ النِّفَاسِ.

5- احْتِسَابُ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ دُونَ النِّفَاسِ.

6- يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ الْفَصْلُ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّفَاسِ.

7- أَقَلُّ الْحَيْضِ مَحْدُودٌ، وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةٌ، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ، أَوْ سِتُّونَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (زبور)

زَبُور

التَّعْرِيفُ:

1- الزَّبُورُ: فَعُولٌ مِنَ الزَّبْرِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ، بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيِ: الْمَكْتُوبِ.وَجَمْعُهُ: زُبُرٌ.

وَالزَّبُورُ: كِتَابُ دَاوُدَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا أَنَّ التَّوْرَاةَ هِيَ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى- عليه الصلاة والسلام-، وَالْإِنْجِيلُ هُوَ الْمُنَزَّلُ عَلَى عِيسَى- عليه الصلاة والسلام-.وَالْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}.وَكَانَ مِائَةً وَخَمْسِينَ سُورَةً، لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ، وَلَا حَلَالٌ، وَلَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّمْجِيدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا: مَسُّ الزَّبُورِ لِلْمُحْدِثِ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَسُّ الْقُرْآنِ لِلْمُحْدِثِ، لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ فِيهِ أَكْثَرَ. (ر: مُصْحَف).

أَمَّا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ الْأُخْرَى، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يُكْرَهُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَشِيثٍ إِنْ وُجِدَتْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَالنَّصُّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُبَدَّلَ مِنْهَا- وَهُوَ الْغَالِبُ- لَا يُكْرَهُ مَسُّهُ عِنْدَهُمْ.

ثَانِيًا: وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالزَّبُورِ:

3- الْإِيمَانُ بِمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَالزَّبُورُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى دَاوُدَ- عليه الصلاة والسلام- كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، كَمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ عَلَى مَا أُنْزِلَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ((، لقوله تعالى: {قُولُواآمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَمُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

يَعْنِي لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضٍ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، بَلْ نَشْهَدُ لِجَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ وَأَنْبِيَاءَهُ بُعِثُوا بِالْحَقِّ وَالْهُدَى.

وَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ بِالزَّبُورِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا التَّحْرِيفُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (كتاب 1)

كِتَابٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْكِتَابُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَتَبَ، يُقَالُ: كَتَبَ الشَّيْءَ يَكْتُبُهُ كَتْبًا وَكِتَابًا وَكِتَابَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ مِنْهَا:

أ- أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا كُتِبَ مَجْمُوعًا، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.

ب- يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الشَّخْصُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ.

ج- يُطْلَقُ عَلَى الْمَكْتُوبِ وَعَلَى مَا كُتِبَ فِيهِ.

د- يُطْلَقُ عَلَى الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَشْمَلُ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.

هـ- يُطْلَقُ عَلَى الصُّحُفِ الْمَجْمُوعَةِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَسَائِلِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً مِنْ فَنٍّ أَوْ فُنُونٍ.

وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْمَعْنَى فَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِدْلَالِ: وَدَلِيلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْكِتَابُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مُخْتَصَرِ الْإِمَامِ الْقُدُورِيِّ.

وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى غَائِبٍ بِلَا حُكْمٍ لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ وَيُسَمَّى كِتَابَ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السِّجِلُّ:

2- مِنْ مَعَانِي السِّجِلِّ لُغَةً: كِتَابُ الْعَهْدِ وَنَحْوُهُ، وَكِتَابُ الْقَاضِي، وَالْجَمْعُ سِجِلاَّتٌ، وَأَسْجَلْتُ لِلرَّجُلِ إِسْجَالًا: كَتَبْتُ لَهُ كِتَابًا، وَسَجَّلَ الْقَاضِي: قَضَى وَحَكَمَ وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي السِّجِلِّ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ السِّجِلُّ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الَّذِي فِيهِ حُكْمُهُ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ وَفِي عُرْفِنَا: كِتَابٌ كَبِيرٌ تُضْبَطُ فِيهِ وَقَائِعُ النَّاسِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالسِّجِلُّ أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كِتَابٍ مَخْصُوصٍ.

ب- الدَّفْتَرُ:

3- الدَّفْتَرُ لُغَةً: جَرِيدَةُ الْحِسَابِ، وَالدَّفْتَرُ جَمَاعَةُ الصُّحُفِ الْمَضْمُومَةِ، وَالدَّفْتَرُ وَاحِدُ الدَّفَاتِرِ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّفْتَرِ وَالْكِتَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ وَالدَّفْتَرُ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكِتَابَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَلَا يُفِيدُ الدَّفْتَرُ ذَلِكَ، تَقُولُ: عِنْدِي دَفْتَرٌ بَيَاضٌ وَلَا تَقُولُ: عِنْدِي كِتَابٌ بَيَاضٌ.

ج- الرِّسَالَةُ:

4- فِي اللُّغَةِ: رِسَالَةٌ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- اسْمٌ مِنَ الرَّسَالَةِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- يُقَالُ رَسِلَ رَسَلًا وَرِسَالَةً مِنْ بَابِ تَعِبَ.يُقَالُ أَرْسَلْتُ رَسُولًا: بَعَثْتُهُ بِرِسَالَةٍ يُؤَدِّيهَا.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهَا تَارَةً بِمَعْنَى الرَّسُولِ وَتَارَةً بِمَعْنَى الْكِتَابِ.

وَعَلَى هَذَا فَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ نِسْبِيٌّ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ مِنْ أَحْكَامٍ:

تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْمَالَاتِهِ كَمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الْكِتَابُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ: أَيْ إِرْسَالِ كِتَابٍ إِلَى الْغَيْرِ بِشَأْنِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ أَوْ طَلَبِ شَيْءٍ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا:

كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ لَدَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الشُّرُوطِ وَاللُّزُومِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 49، 52، 53).

كِتَابُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ:

6- إِذَا كَتَبَ الزَّوْجُ إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهَا: يَا فُلَانَةُ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كَتَبَ: هِيَ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَصِلْ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ نَاوِيًا الطَّلَاقَ حِينَ الْكِتَابَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ فِي إِفْهَامِ الْمُرَادِ كَالْعِبَارَةِ وَقَدِ اقْتَرَنَتْ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْحِكَايَةَ وَتَجْرِبَةَ الْقَلَمِ وَالْمِدَادِ وَغَيْرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ مَا كَتَبَهُ حَالَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَصَرِيحٌ فَإِنْ قَالَ قَرَأْتُهُ حَاكِيًا مَا كَتَبْتُهُ بِلَا نِيَّةِ طَلَاقٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَتَبَ مُسْتَشِيرًا أَوْ مُتَرَدِّدًا وَأَخْرَجَ الْكِتَابَ عَازِمًا عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَيْهِ، بَلْ كَتَبَهُ مُتَرَدِّدًا أَوْ مُسْتَشِيرًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ، أَوْ أَخْرَجَهُ مُتَرَدِّدًا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.

وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى شَرْطِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، بِأَنْ كَتَبَ: إِذَا وَصَلَ كِتَابِي إِلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا الْكِتَابُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ (إِنْ)؛ لِأَنَّ (إِنْ) صَرِيحَةٌ فِي الشَّرْطِ فَلَا تَطْلُقُ إِلاَّ عِنْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ (إِذَا) فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَذَهَبَ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ وَالْخَرَشِيُّ إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مِثْلَ قَوْلِهِ لَهَا فِي كِتَابِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ (إِذَا) لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ فَيَنْجُزُ الطَّلَاقُ كَمَنْ أَجَّلَ الطَّلَاقَ بِمُسْتَقْبَلٍ.

وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنْ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ: إِذَا وَصَلَ لَكَ كِتَابِي فَفِي تَوَقُّفِهِ عَلَى الْوُصُولِ خِلَافٌ، وَقَوَّى الْقَوْلَ بِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْوُصُولِ، لِتَضَمُّنِ (إِذَا) مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ أَنَّ عَدَمَ التَّنْجِيزِ وَتَوَقُّفَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى وُصُولِ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ.

مَحْوُ مَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ انْمَحَى مَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْوُصُولِ أَوِ انْطَمَسَ مَا فِيهِ لِعَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ قِرَاءَةُ مَا فِيهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ الْكِتَابُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ الْكِتَابَةُ.

وَإِنْ ذَهَبَ مَوْضِعُ الطَّلَاقِ فَقَطْ وَانْمَحَقَ وَوَصَلَ بَاقِيهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهَا جَمِيعُ الْكِتَابِ وَلَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا.

وَإِنِ انْمَحَى مَا فِي الْكِتَابِ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ، أَوْ تَخَرَّقَ بَعْضُ مَا فِيهِ الْكِتَابَةُ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: مَا لَوْ ذَهَبَتْ سَوَابِقُهُ وَلَوَاحِقُهُ كَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَبَقِيَتْ مَقَاصِدُهُ، وَوَصَلَ الْكِتَابُ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ لِوُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا مَحَا مَا سِوَى كِتَابَةِ الطَّلَاقِ وَأَنْفَذَهُ فَوَصَلَ إِلَيْهَا لَا يَقَعُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ لَا تَكُونُ كِتَابًا، ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ.

8- وَلِلْمَذَاهِبِ فُرُوعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كَتَبَ فِي قِرْطَاسٍ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ نَسَخَهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ، أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِنَسْخِهِ وَلَمْ يُمْلِهِ عَلَيْهِ، فَأَتَاهَا الْكِتَابَانِ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ قَضَاءً، إِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا كِتَابَاهُ أَوْ بَرْهَنَتْ، وَفِي الدِّيَانَةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِأَيِّهِمَا أَتَاهَا وَيَبْطُلُ الْآخَرُ.

وَلَوِ اسْتَكْتَبَ مِنْ آخَرَ كِتَابًا بِطَلَاقِهَا وَقَرَأَهُ عَلَى الزَّوْجِ، فَأَخَذَهُ الزَّوْجُ وَخَتَمَهُ وَعَنْوَنَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهَا، فَأَتَاهَا وَقَعَ إِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ كِتَابُهُ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَالَ لِلرَّجُلِ ابْعَثْ بِهِ إِلَيْهَا، أَوْ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ نُسْخَةً وَابْعَثْ بِهَا إِلَيْهَا.

وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ، لَكِنَّهُ وَصَفَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَا تَطْلُقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً.وَكَذَا كُلُّ كِتَابٍ لَمْ يَكْتُبْهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يُمْلِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ.

وَمَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى زَيْنَبَ ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى امْرَأَةً تُدْعَى عَائِشَةَ، فَبَلَغَ زَيْنَبَ فَخَافَ مِنْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهَا: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي غَيْرِكِ وَغَيْرِ عَائِشَةَ طَالِقٌ، ثُمَّ مَحَا قَوْلَهُ: وَغَيْرِ عَائِشَةَ، وَبَعَثَ الْكِتَابَ إِلَى زَيْنَبَ لَمْ تَطْلُقْ عَائِشَةُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى كِتَابَةِ مَا مَحَاهُ؛ لِئَلاَّ يَظْهَرَ الْحَالُ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِطَلَاقِ عَائِشَةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ بِطَلَاقِهَا ثُمَّ أَنْكَرَ الْكِتَابَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ بِيَدِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إِنْ كَانَ مَوْصُولًا بِكِتَابَتِهِ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ ثُمَّ فَتَرَ فَتْرَةً، ثُمَّ كَتَبَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَى الْغَائِبِ كَالْمَلْفُوظِ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ وَالْخُلَاصَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ: إِذَا بَلَغَكِ نِصْفُ كِتَابِي هَذَا، فَبَلَغَهَا كُلُّهُ طَلُقَتْ، فَإِنِ ادَّعَتْ وُصُولَ كِتَابِهِ بِالطَّلَاقِ، فَأَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ خَطُّهُ لَمْ تُسْمَعْ إِلاَّ بِرُؤْيَةِ الشَّاهِدِ بِكِتَابِهِ وَحِفْظِهِ عِنْدَهُ لِوَقْتِ الشَّهَادَةِ.

وَإِنْ كَتَبَ: إِذَا قَرَأْتِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ قَارِئَةٌ، فَقَرَأَتْهُ طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ تَقْتَضِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اشْتِرَاطُ اللَّفْظِ بِهِ إِذِ الْقِرَاءَةُ تُعْطِي ذَلِكَ، لَكِنْ نَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ طَالَعَتِ الْكِتَابَ وَفَهِمَتْ مَا فِيهِ طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ.

وَالشَّرْطُ الثَّانِيَ: اشْتِرَاطُ قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْكِتَابِ، وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِقِرَاءَةِ الْمَقَاصِدِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَحُكْمُ قِرَاءَةِ بَعْضِ الْكِتَابِ كَوُصُولِ بَعْضِهِ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ فَلَا تَطْلُقُ فِي الْأَصَحِّ لِعَدَمِ قِرَاءَتِهَا مَعَ إِمْكَانِهَا الْقِرَاءَةَ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِطْلَاعُهَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَقُرِئَ عَلَيْهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْقَارِئَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ حَالَهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عَلَى الْأَقْرَبِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا.

وَلَوْ عَلَّقَ بِوُصُولِ الْكِتَابِ، ثُمَّ عَلَّقَ بِوُصُولِ الطَّلَاقِ، وَوَصَلَ، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا أَتَاكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهَا: إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي عَلَّقْتُهُ دِينَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يَخْرُجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.

وَإِذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ (أَيْ أَخَذَ الْمِدَادَ مِنَ الدَّوَاةِ بِالْقَلَمِ) فَكَتَبَ: إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَانَ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ لِلطَّلَاقِ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ، بَلْ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ طَلُقَتْ لِلْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقُلْنَا: إِنَّ الْمُطْلَقَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ اسْتِمْدَادًا لِحَاجَةٍ أَوْ عَادَةٍ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ النَّفَسُ أَوْ شَيْءٌ يُسْكِتُهُ فَسَكَتَ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِشَرْطٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى.

وَإِنِ اسْتَمَدَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَادَةٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ سَكَتَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا.

وَإِنْ قَالَ: إِنَّنِي كَتَبْتُهُ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ الشَّرْطِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَدِينُ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ الشَّهَادَةَ لِإِثْبَاتِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَلَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالطَّلَاقِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي امْرَأَةٍ أَتَاهَا كِتَابُ زَوْجِهَا بِخَطِّهِ وَخَاتَمِهِ بِالطَّلَاقِ: لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا شُهُودٌ عُدُولٌ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ شَهِدَ حَامِلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا، إِلاَّ شَاهِدَانِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ حَامِلِ الْكِتَابِ وَحْدَهُ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُثْبِتَةَ لِلْحُقُوقِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَكِتَابِ الْقَاضِي، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكِتَابَ يَثْبُتُ عِنْدَهَا بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَقِّهَا فِي الْعِدَّةِ وَجَوَازِ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا.

وَهَذَا مَعْنًى يُخْتَصُّ بِهِ، لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ، فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِسَمَاعِهَا لِلشَّهَادَةِ.

وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشَبَّهُ بِهِ وَيُزَوَّرُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ، وَلَوِ اكْتُفِيَ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لَاكْتُفِيَ بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يُشَاهِدَاهُ يَكْتُبُهُ، ثُمَّ لَا يَغِيبُ عَنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْلَى، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ الْكِتَابِ لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِيبُ فِيهَا، وَقَدْ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهَا، بَلْ مَتَى أَتَاهَا بِكِتَابٍ وَقَرَأَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي كَانَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ.

الْكِتَابُ الَّذِي يُعْتَبَرُ إِيجَابًا أَوْ قَبُولًا فِي الْعُقُودِ:

9- جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا فِي بَابِ الْبَيْعِ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصُورَةُ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكْتُبَ: أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي مِنْكَ بِكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ قَالَ: قَبِلْتُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ انْعَقَدَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 13).

رَدُّ جَوَابِ الْكِتَابِ:

10- رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: «إِنِّي لأَرَى لِرَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلَامِ»، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي مَوْقُوفًا، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ اسْتِحْبَابًا، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْوُجُوبِ مَا فِي الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَرَدِّ جَوَابِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

أَمَّا إِنْ أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إِلَى سُوءِ ظَنٍّ وَإِيقَاعِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ الْوُجُوبُ.

وَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ جَوَابِ مَا قَصَدَهُ الْكَاتِبُ، وَإِلاَّ كَانَ الرَّدُّ كَعَدَمِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ كِتَابُ التَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلَامِ مِنَ الْحَاضِرِ.

كَيْفِيَّةُ الْبَدْءِ فِي الْكِتَابِ:

11- يُسْتَحَبُّ ابْتِدَاءُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اقْتِدَاءً بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أَشْرَفُهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ لِمَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ أَبُو بَكْرٍ التُّونِسِيُّ مِنْ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ كُلِّ مِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَشْهَدُ لَهُ خَبَرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ» وَعَمَلًا بِخَبَرِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» أَيْ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ أَوْ مَقْطُوعُهَا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى كَتْبِ ( (فِي أَوَّلِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَعَلَى خَتْمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيبَةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الرَّسْمُ، وَبِهِ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا كِتَابٍ لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا فَهُوَ أَغْلَفُ.

وَبَعْدَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْكِتَابِ الْمُرْسَلِ إِلَى الْغَيْرِ يُكْتَبُ إِلَى فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ لِفُلَانٍ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لِأَبِي جَعْفَرٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: نَكْتُبُ: إِلَى أَبِي فُلَانٍ وَلَا نَكْتُبُ: لِأَبِي فُلَانٍ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إِذَا كَتَبَ لِأَبِي فُلَانٍ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عِنْوَانَ الْكِتَابِ: إِلَى أَبِي فُلَانٍ وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ يُكْتَبَ لِأَبِي فُلَانٍ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَكَتْبُهُ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِنْوَانِ وَصَدْرِ الْكِتَابِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ، كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ - رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ لِغِلْمَانِهِ وَوَلَدِهِ: إِذَا كَتَبْتُمْ إِلَى فُلَانٍ فَلَا تَبْدَءُوا بِي وَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ إِلاَّ إِلَى وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، وَإِمَامٍ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ» وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ فَيَبْدَءُونَ بِأَنْفُسِهِمْ.

وَفِي الْقُرْطُبِيِّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ إِذَا كَتَبُوا بَدَءُوا بِعُظَمَائِهِمْ، فَلَا يَبْدَأُ الرَّجُلُ إِلاَّ بِنَفْسِهِ»، قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ: وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ وَفَعَلُوهُ لِمَصْلَحَةٍ رَأَوْا فِي ذَلِكَ، أَوْ نَسْخِ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ.

فَالْأَحْسَنُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ ثُمَّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِنَفْسِهِ تُعَدُّ مِنْهُ اسْتِخْفَافًا بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِ.

ثَانِيًا: الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَالْعَهْدِ:

12- أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَوْثِيقِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَقَدْ وَثَّقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- فَبَاعَ وَكَتَبَ وَمِنْ ذَلِكَ: «هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ».

وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَوْثِيقٌ ف 12).

ثَالِثًا: الْكِتَابُ بِمَعْنَى كُتُبِ الْعِلْمِ:

13- يَأْتِي الْكِتَابُ بِمَعْنَى كُتُبِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ شَرْعِيَّةً أَمْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بِقَوْلِهِ: الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَسَائِلِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً مِنْ فَنٍّ أَوْ فُنُونٍ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ.

وَيَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:

الِاسْتِنْجَاءُ بِالْكُتُبِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمُحْتَرَمٍ كَالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَكُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ؛ لِحُرْمَةِ الْحُرُوفِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَتِهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُتُبِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا بِكُتُبِ السَّحَرِ وَالْفَلْسَفَةِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِذَا عُلِمَ تَبَدُّلُهُمَا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَذِهِ الْكُتُبِ لِحُرْمَةِ الْحُرُوفِ- أَيْ لِشَرَفِهَا- قَالَ إِبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ: مَحَلُّ كَوْنِ الْحُرُوفِ لَهَا حُرْمَةٌ إِذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً بِالْعَرَبِيِّ، وَإِلاَّ فَلَا حُرْمَةَ لَهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ بِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ عَلِيٌّ الأَجْهُورِيُّ: الْحُرُوفُ لَهَا حُرْمَةٌ سَوَاءٌ كُتِبَتْ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ بِغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِالْمَكْتُوبِ وَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ بَاطِلًا كَالسِّحْرِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْحُرُوفِ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كُتِبَتْ فِي أَثْنَاءِ مَا تَجِبُ إِهَانَتُهُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَ تَحْرِيفِهِمَا، فَيَجُوزُ إِحْرَاقُهَا وَإِتْلَافُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِهَانَتُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ إِهَانَةٌ لِمَكَانِ مَا فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَإِنَّ حُرْمَةَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُبَدَّلُ عَلَى وَجْهٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْكُتُبِ كَكُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَكَذَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِذَا عُلِمَ تَبَدُّلُهُمَا وَخُلُوُّهُمَا عَنِ اسْمٍ مُعَظَّمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَلُوا عِنْدَنَا أَنَّ لِلْحُرُوفِ حُرْمَةً وَلَوْ مُقَطَّعَةً، وَذَكَرَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ قُرْآنٌ أُنْزِلَتْ عَلَى هُودٍ - عليه السلام-، وَمُفَادُهُ الْحُرْمَةُ بِالْمَكْتُوبِ مُطْلَقًا.

مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَبِالنِّسْبَةِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَمَسَّهَا غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَا تِلَاوَتُهُ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا بِالْمَسِّ كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ.

وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَنْعِ مَسِّ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ فِي السِّرَاجِ عَنِ الْإِيضَاحِ: لَا يَجُوزُ مَسُّ مَوْضِعِ الْقُرْآنِ مِنْهَا، أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِهَا، وَالثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ فِي التَّفْسِيرِ دُونَ غَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَحْوَطُ لِظُهُورِ الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ الْمَسُّ وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ جَازَ مَسُّهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ مَسُّ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ.

16- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي مَسِّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ- غَيْرِ الْقُرْآنِ- كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ.

فَأَجَازَ مَسَّهَا لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّهَا وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُبَدَّلَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنْ ظَنَّ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ.

وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَالَ الشَّيْخُ إِسْمَاعِيلُ: وَفِي الْمُبْتَغَى.وَلَا يَجُوزُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ.وَعَلَّلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ ذَلِكَ بِاشْتِرَاكِ سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فِي وُجُوبِ التَّعْظِيمِ، لَكِنَّهُ قَالَ: نَعَمْ، يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا لَمْ يُبَدَّلْ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسُّ، فَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسِّ، قَالَ فِي النَّهْرِ: وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِلْقُرْآنِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْمَنْعِ بِهِ.

17- وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ وَالرَّسَائِلِ الَّتِي فِيهَا قُرْآنٌ.

فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّهَا وَيَحْمِلَهَا وَلَوْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، بِدَلِيلِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ كِتَابًا وَفِيهِ آيَةٌ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ اسْمُ مُصْحَفٍ وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.

وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ الْأَحَادِيثِ وَالْفِقْهِ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ ابْنِ عَابِدِينَ الْقَوْلَ بِقَصْرِ الْكَرَاهَةِ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحْدَهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ التَّطَهُّرُ لِحَمْلِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَسِّهَا.

تَوَسُّدُ الْكُتُبِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا:

18- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمُصْحَفَ تَحْتَ رَأْسِهِ إِلاَّ لِلْحِفْظِ أَيْ حِفْظِهِ مِنْ سَارِقٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَلِ التَّفْسِيرُ وَالْكُتُبُ الشَّرْعِيَّةُ كَذَلِكَ؟ أَقُولُ: الظَّاهِرُ نَعَمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ تَوَسُّدُ الْقُرْآنِ وَإِنْ خَافَ سَرِقَتَهُ، نَعَمْ، إِنْ خَافَ عَلَى الْمُصْحَفِ مِنْ تَلَفٍ نَحْوِ حَرْقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ كَافِرٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّدَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ تَوَسُّدُ كُتُبِ عِلْمٍ مُحْتَرَمٍ إِلاَّ لِخَوْفٍ مِنْ نَحْوِ سَرِقَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَسُّدُهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ وَالْوَزْنُ بِهِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِذَالٌ لَهُ، قَالَ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ التَّحْرِيمَ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ، وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، لَكِنْ جَاءَ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُكْرَهُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ.

أَمَّا كُتُبُ الْعِلْمِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ حَرُمَ تَوَسُّدُهَا وَالْوَزْنُ بِهَا وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قُرْآنٌ كُرِهَ ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَرِقَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَسَّدَهَا لِلْحَاجَةِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ وَقَدْ سَأَلَهُ: أَيَضَعُ الرَّجُلُ الْكُتُبَ تَحْتَ رَأْسِهِ؟ قَالَ: أَيُّ كُتُبٍ؟ قُلْتُ: كُتُبُ الْحَدِيثِ، قَالَ: إِذَا خَافَ أَنْ تُسْرَقَ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا أَنْ تُتَّخَذَ وِسَادَةً فَلَا.

كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْكُتُبِ فَوْقَ بَعْضِهَا:

19- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ كَيْفِيَّةَ تَرْتِيبِ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ الْأَوْلَوِيَّةُ عِنْدَ وَضْعِهَا فَوْقَ بَعْضِهَا.فَقَالُوا: تُوضَعُ كُتُبُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ كُتُبُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا كَكُتُبِ ابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ شَاهِينَ لِأَفْضَلِيَّتِهِ، لِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا لِمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الرُّؤْيَا، ثُمَّ كُتُبُ الْكَلَامِ، ثُمَّ كُتُبُ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَدِلَّتِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، بِخِلَافِ عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالسَّمْعِيَّاتِ مِنْهُ فَقَطْ، ثُمَّ كُتُبُ الْأَخْبَارِ وَالْمَوَاعِظِ، ثُمَّ التَّفْسِيرُ، ثُمَّ الْمُصْحَفُ فَوْقَ الْجَمِيعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (لمس)

لَمْسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- اللَّمْسُ لُغَةً: الْجَسُّ وَالْإِدْرَاكُ بِظَاهِرِ الْبَشَرَةِ كَالْمَسِّ، وَيُكْنَى بِهِ وَبِالْمُلَامَسَةِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَقُرِئَ: {لَمَسْتُمْ} وَ {لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} حَمْلًا عَلَى الْمَسِّ وَعَلَى الْجِمَاعِ، وَقِيلَ: اللَّمْسُ: الْمَسُّ بِالْيَدِ.

وَاللَّمْسُ اصْطِلَاحًا هُوَ: مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ لِطَلَبِ مَعْنًى فِيهِ كَحَرَارَةٍ أَوْ بِرَوْدَةٍ أَوْ صَلَابَةٍ أَوْ رَخَاوَةٍ أَوْ عِلْمِ حَقِيقَةٍ، كَأَنْ يَلْمِسَ لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ لَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَسُّ:

2- مِنْ مَعَانِي الْمَسِّ فِي اللُّغَةِ: اللَّمْسُ وَالْجُنُونُ، وَيُكْنَى بِهِ عَنِ النِّكَاحِ.

وَالْمَسُّ فِي الِاصْطِلَاحِ: مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لآِخَرَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ: أَنَّ الْمَسَّ الْتِقَاءُ الْجِسْمَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ لِقَصْدِ مَعْنًى أَوْ لَا، وَاللَّمْسُ هُوَ الْمَسُّ لِطَلَبِ مَعْنًى.

فَاللَّمْسُ أَخَصُّ مِنَ الْمَسِّ.

ب- الْمُبَاشَرَةُ:

3- الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِفْضَاءُ بِالْبَشَرَتَيْنِ، يُقَالُ: بَاشَرَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ: تَمَتَّعَ بِبَشَرَتِهَا، وَبَاشَرَ الْأَمْرَ تَوَلاَّهُ بِبَشَرَتِهِ وَهِيَ يَدُهُ.

قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ مُلَامَسَتُهَا، وَكَنَّى بِهَا عَنِ الْجِمَاعِ فِي قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

وَيُرَادَفُ اللَّمْسُ الْمُبَاشَرَةَ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّمْسِ:

لَمْسُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ.

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ لَمْسَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُلَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ.ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرُ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَهَلْ تُشْتَرَطُ مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا؟ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يَلْتَذُّ بِهِ عَادَةً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ سَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَحْرَمًا أَمْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعَرٍ أَمْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا يُحِسُّ اللاَّمِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ أَمْ كَانَ كَثِيفًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ بَيْنَ الرِّجَالِ أَمْ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاللَّمْسُ بِلَذَّةٍ نَاقِضٌ.

وَالنَّقْضُ بِاللَّمْسِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ اللاَّمِسُ بَالِغًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مِمَّنْ يُشْتَهَى عَادَةً، وَأَنْ يَقْصِدَ اللاَّمِسُ اللَّذَّةَ أَوْ يَجِدَهَا.

وَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ، وَلَوْ حَدَثَ إِنْعَاظٌ مَا لَمْ يُمْذِ بِالْفِعْلِ، وَلَا بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ رَجُلٍ مُلْتَحٍ، إِذِ الشَّأْنُ عَدَمُ التَّلَذُّذِ بِهِ عَادَةً إِذَا كَمَلَتْ لِحْيَتُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا الْتَقَتْ بَشَرَتَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تُشْتَهَى، انْتَقَضَ وُضُوءُ اللاَّمِسِ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ اللاَّمِسُ الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ أَمْ لَا، تَعْقُبُهُ لَذَّةٌ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَمْ حَصَلَ سَهْوًا أَوِ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ اسْتَدَامَ اللَّمْسَ أَمْ فَارَقَ بِمُجَرَّدِ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ، وَسَوَاءٌ لَمَسَ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْمُوسُ أَوِ الْمَلْمُوسُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ أَشَلَّ، زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهَلْ يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَلْمُوسِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَ (لَمَسْتُمْ) لَمْ يُنْقَضِ الْمَلْمُوسُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْمِسْ، وَمَنْ قَرَأَ (لَامَسْتُمْ) نَقَضَهُ لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَصَحِّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَصَحَّحَ الرُّويَانِيُّ- وَالشَّاشِيُّ عَدَمَ الِانْتِقَاضِ، وَصَحَّحَ الْأَكْثَرُونَ الِانْتِقَاضَ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَا يَنْقُضُهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ.

وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُلِ الطِّفْلَةَ وَلَا الْمَرْأَةِ الطِّفْلَ، أَيْ مَنْ دُونَ سَبْعٍ.

وَلَا يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النَّاقِضُ بِالْيَدِ بَلْ أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ لَاقَى شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهَا مَعَ الشَّهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَصْلِيًّا أَوْ زَائِدًا.

وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَلَا ظُفُرُهَا وَلَا سِنُّهَا وَلَا يَنْقُضُ لَمْسُهَا لِشَعَرِهِ وَلَا سِنِّهِ وَلَا ظُفُرِهِ.

أَثَرُ لَمْسِ الْفَرْجِ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ

5- لَمْسُ الْفَرْجِ لَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَيُنْتَقَضُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: فَرْجٌ ف 40).

لَمْسُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ لِلْمُصْحَفِ

6- يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: جَنَابَةٌ ف 10 وَحَدَثٌ ف 26، وَمُصْحَفٌ).

لَمْسُ الصَّائِمِ لِلْمَرْأَةِ

7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا تَعَمَّدَ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عِنْدَ حُصُولِ الْإِنْزَالِ (وَالتَّفْصِيلُ فِي صَوْمٌ ف 41).

لَمْسُ الْمُحْرِمِ لِلْمَرْأَةِ وَأَثَرُهُ عَلَى النُّسُكِ

8- إِذَا لَمَسَ الْمُحْرِمُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ مَنِيًّا أَمْ لَمْ يُنْزِلْ، وَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا إِنْ أَنْزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَنْزَلَ مَنِيًّا فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُجَامِعِ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِحْرَامٌ ف 176).

اللَّمْسُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِلْعِلَاجِ

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ لَمْسِ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرِيضَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَلْمِسَ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَلَمْسِهِ، وَيُجِيزُونَ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَلْمِسَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَلَمْسِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عَوْرَةٌ ف 15، 18).

قِيَامُ اللَّمْسِ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ

10- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ الْمَبِيعِ بِاللَّمْسِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ لَا يَصِحُّ بِدُونِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ اللَّمْسَ وَسِيلَةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَبِيعِ.

أَثَرُ اللَّمْسِ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ هَلْ يَحِلُّ لَهُ الزَّوَاجُ بِأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا؟ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ لَمْسَ أَجْنَبِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَ لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا لَا يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ كَمَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِاللَّمْسِ بَيْنَ كَوْنِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مُخْطِئًا.

الرَّجْعَةُ بِاللَّمْسِ

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ وَسَائِرِ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ بِاللَّمْسِ الرَّجْعَةَ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَدِمَ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِاللَّمْسِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ.

لَمْسُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْمُظَاهِرَ مِنْهَا

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى حُرْمَةِ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنْ تَقْبِيلٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِبَاحَةَ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَلَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ لَمْسُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْمُظَاهِرَ مِنْهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا وَلَا مُبَاشَرَتُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: ظِهَارٌ ف 22).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (مس)

مَس

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَسُّ فِي اللُّغَةِ: مِنْ مَسِسْتُهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَفِي لُغَةٍ مَسَسْتُهُ مَسًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ: أَفْضَيْتُ إِلَيْهِ بِيَدِي مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ هَكَذَا قَيَّدُوهُ- وَالِاسْمُ: الْمَسِيسُ مِثْلُ كَرِيمٍ.

وَمَسَّ امْرَأَتَهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ مَسًّا وَمَسِيسًا: كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمَاسَّهَا مُمَاسَّةً.وَتَمَاسَّا: مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ، وَالْمَسُّ: مَسْكُ الشَّيْءِ بِيَدِكَ.

وَالْمَسُّ: الْجُنُونُ، وَرَجُلٌ مَمْسُوسٌ: بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْمَسُّ مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لآِخَرَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللَّمْسُ:

2- اللَّمْسُ لُغَةً: الْجَسُّ مِنْ بَابَيْ قَتَلَ وَضَرَبَ أَفْضَى إِلَيْهِ بِالْيَدِ.

وَاللَّمْسُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ لِطَلَبِ مَعْنًى فِيهِ كَحَرَارَةِ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ صَلَابَةٍ أَوْ رَخَاوَةٍ أَوْ عِلْمِ حَقِيقَةٍ لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ لَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ هِيَ أَنَّ اللَّمْسَ أَخَصُّ مِنَ الْمَسِّ.

ج- الْمُبَاشَرَةُ

3- الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ بَاشَرَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ: تَمَتَّعَ بِبَشَرَتِهَا وَبَاشَرَ الْأَمْرَ: تَوَلاَّهُ بِبَشَرَتِهِ وَهِيَ يَدُهُ وَبَاشَرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ: أَيْ جَامَعَهَا وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُبَاشَرَةُ أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ مَعَ الِانْتِشَارِ وَلَوْ بِلَا بَلَلٍ.

وَالْمَسُّ أَعَمُّ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسِّ:

مَسُّ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ الْمُصْحَفَ

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ طَهَارَةً كَامِلَةً مِنَ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ أَيْ مَسَّ الْمَكْتُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ آيَةً عَلَى نُقُودِ دِرْهَمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ جِدَارٍ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، كَمَا يَحْرُمُ مَسُّ غِلَافِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ.

وَلَا يَحْرُمُ مَسُّ الْغِلَافِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الْقُرْآنِ كَالْكِيسِ وَالصُّنْدُوقِ، وَيَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِنَحْوِ عُودٍ أَوْ قَلَمٍ أَوْ غِلَافٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَيُكْرَهُ لَمْسُهُ بِالْكُمِّ وَالْحَائِلِ كَالْخَرِيطَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْخَرِيطَةِ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا تَحْرُمُ كِتَابَةُ آيَةٍ عَلَى وَرَقَةٍ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مَسُّ الْمَكْتُوبِ بِالْيَدِ، أَمَّا الْقَلَمُ فَهُوَ وَاسِطَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَالثَّوْبِ الْمُنْفَصِلِ الَّذِي يَمَسُّ بِهِ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ الْمُفْتَى بِهِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِغِلَافٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ بِصُرَّةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ، سَوَاءٌ كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا مَعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً، وَيُمْنَعُ غَيْرُ الطَّاهِرِ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ كُرْسِيٍّ تَحْتَهُ، وَيَحْرُمُ الْمَسُّ وَلَوْ كَانَ الْمَسُّ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ، وَإِنْ قَصَدَ حَمْلَ الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْتِعَةِ حَرُمَ الْحَمْلُ، وَإِنْ قَصَدَ الْأَمْتِعَةَ بِالْحَمْلِ جَازَ.

وَيَجُوزُ الْمَسُّ وَالْحَمْلُ لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ بَالِغٍ وَإِنْ كَانَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْمَانِعِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ سَوَاءٌ حَمَلَهُ بِعَلاَّقَتِهِ أَوْ فِي كُمِّهِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُ بِعَلاَّقَتِهِ وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْمَذْهَبِ وَضَعِيفٌ وَسَوَاءٌ مَسَّ نَفْسَ الْأَسْطُرِ أَوْ مَا بَيْنَهَا أَوِ الْحَوَاشِيَ أَوِ الْجِلْدَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ.

وَفِي مَسِّ الْجِلْدِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا شَاذًّا بَعِيدًا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مَسُّ الْجِلْدِ وَلَا الْحَوَاشِي وَلَا مَا بَيْنَ الْأَسْطُرِ وَلَا يَحْرُمُ إِلاَّ نَفْسُ الْمَكْتُوبِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ.

وَفِي مَسِّ الْعَلاَّقَةِ وَالْخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ إِذَا كَانَ الْمُصْحَفُ فِيهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا يَحْرُمُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ لِأَنَّهُ مُتَّخَذٌ لِلْمُصْحَفِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَالْجِلْدِ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي مَسِّ الصُّنْدُوقِ.

وَأَمَّا حَمْلُ الصُّنْدُوقِ وَفِيهِ الْمُصْحَفُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ.

وَكَذَا يَحْرُمُ تَحْرِيكُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

وَأَمَّا إِذَا تَصَفَّحَ أَوْرَاقَهُ بِعُودٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا يَجُوزُ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَرَجَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ لِأَنَّهُ حَمَلَ الْوَرَقَةَ وَهِيَ بَعْضُ الْمُصْحَفِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَحْرُمُ مَسُّ كِتَابَتِهِ وَجِلْدِهِ وَبَعْضِهِ وَحَوَاشِيهِ لِشُمُولِ اسْمِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ آيَةً مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ مَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جَسَدِهِ فَأَشْبَهَ يَدَهُ، وَيَجُوزُ مَسُّهُ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ، وَحَمْلُهُ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِعَاءٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَقْصُودًا بِالْحَمْلِ، وَكِتَابَتِهِ وَلَوْ لِذِمِّيِّ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ، وَحَمْلُهُ بِحِرْزٍ سَاتِرٍ طَاهِرٍ، وَإِنِ احْتَاجَ الْمُحْدِثُ إِلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، تَيَمَّمَ وَجَازَ مَسُّهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ.

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ.وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِالتَّنْزِيلِ.وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَيْدِينَا فَلَا يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلاَّ بِصَارِفٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ مَسِّهِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا الْحَدَثُ، وَكِتَابُ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- رضي الله عنه-: «أَنْ لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ».

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ بِغَيْرِ مَسٍّ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ، حَدَثٌ، ف 26، 27).

وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْدِثِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمَّا التَّرْجَمَاتُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّهَا عَلَى أَقْوَالٍ.

تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَةٌ ف 7).

مَسُّ الصَّبِيِّ الْمُصْحَفَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْقُرْآنِ أَوْ لَوْحٍ فِيهِ قُرْآنٌ لِلضَّرُورَةِ مِنْ أَجْلِ التَّعَلُّمِ وَالْحِفْظِ وَلِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالطَّهَارَةِ وَلَكِنْ أُمِرُوا بِهِ تَخَلُّقًا وَاعْتِيَادًا.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسُّ الصِّبْيَانِ لِلْمَصَاحِفِ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَائِزًا، وَقِيلَ: إِنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ الْكَامِلَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُمْنَعُ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ مِنْ مَسٍّ وَحَمْلِ مُصْحَفٍ أَوْ لَوْحٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أُبِيحَ حَمْلُ الصِّبْيَانِ الْأَلْوَاحَ لِلضَّرُورَةِ لِلْحَاجَةِ وَعُسْرِ الْوُضُوءِ لَهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَفِي مَسِّ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ أَلْوَاحَهُمُ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ فَلَوِ اشْتَرَطْنَا الطَّهَارَةَ أَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِهِ، قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَفِي مَسِّ الصِّبْيَانِ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ وَجْهٌ.

قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ مَسُّ صَبِيٍّ لَوْحًا كُتِبَ فِيهِ قُرْآنٌ، قَالَ ابْنُ رَزِينٍ وَهُوَ أَظْهَرُ.

كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ

6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْدِثِ الْكِتَابَةُ وَمَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يُفْرَشُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَكَذَا عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْجُدْرَانِ لِمَا يُخَافُ مِنْ سُقُوطِ الْكِتَابَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كَتْبُهُ عَلَى الرَّاجِحِ أَيْ لَيْسَ لِلنَّاسِخِ أَنْ يَكْتُبَ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ مُحْدِثًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَإِذَا كَتَبَ الْمُحْدِثُ أَوِ الْجُنُبُ مُصْحَفًا نُظِرَ إِنْ حَمَلَهُ أَوْ مَسَّهُ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ حَرُمَ، وَإِلاَّ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ وَلَا مَاسٍّ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ يَحْرُمُ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُونَ الْمُحْدِثِ.

وَإِذَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي لَوْحٍ فَلَهُ حُكْمُ الْمُصْحَفِ فَيَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَالِغِ الْمُحْدِثِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِلدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمُصْحَفِ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَ عَلَى اللَّوْحِ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ كُتِبَ لِلدِّرَاسَةِ حَرُمَ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ وَيُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ وَالثِّيَابِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَإِذَا كَتَبَ قُرْآنًا عَلَى حَلْوَى فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ.وَإِنْ كَانَ عَلَى خَشَبَةٍ كُرِهَ إِحْرَاقُهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي الْإِنْصَافِ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.

وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ.وَقِيلَ: هُوَ كَالتَّقْلِيبِ بِالْعُودِ.وَقِيلَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ التَّقْلِيبُ بِالْعُودِ.وَلِلْمَجْدِ احْتِمَالٌ بِالْجَوَازِ لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَلَا بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا لِلْمُحْدِثِ وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَا تِلَاوَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا، خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ الْقَائِلِ بِمَنْعِ مَسِّ تِلْكَ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَوَالِيَةٌ مَعَ قَصْدِ الْآيَاتِ بِالْمَسِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِحُرْمَةِ حَمْلِ التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَحِلُّ مَسُّهُ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لِإِخْلَالِهِ بِالتَّعْظِيمِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصْحَفٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بِجَوَازِ مَسِّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِدَلِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ»،، وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا قَالَ فِيهِ آيَةً»، وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَنِ، وَلَا بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا كُتُبُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ جَوَازَ مَسِّهَا وَحَمْلِهَا مَعَ الْحَدَثِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ: يُكْرَهُ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ آخَرُونَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ جَازَ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلاَّ بِطَهَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِجَوَازِ مَسِّ كُتُبِ الْحَدِيثِ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ»، وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ لِلنُّقُودِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ وَفِيهِ آيَةُ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} » وَلَمْ يَأْمُرْ حَامِلَهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُقْصَدُ بِإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِيهَا قِرَاءَتُهُ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْقُرْآنِ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْهَا مَشَقَّةً أَشْبَهَتْ أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: لَا يَجُوزُ مَسُّ الدَّرَاهِمِ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صُرَّةٍ فَلَا بَأْسَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ شَيْءٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ لَوْحٍ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ آيَةً تَامَّةً، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ يُكْرَهُ لَهُمْ مَسُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عِنْدَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ فِيهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَرَقَ.

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ الْكَافِرِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِذَا اغْتَسَلَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ فِي الْجُمْلَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا مَانِعَ مِنْ مَسِّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْأُخْرَى الْمُبَدَّلَةِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا بُدِّلَ مِنْهَا، وَمَا بُدِّلَ مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُبَدَّلَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَحَمْلُهُمَا وَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي: قَالَا- وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا-: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ وَلَا يَحْرُمُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَهُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ إِنْ وُجِدَتْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: يَجُوزُ مَسُّ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَتُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

مَسُّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ مَسِّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ بِمَعْنَى اسْتِعْمَالِهِ بِأَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 74 وَمَا بَعْدَهَا).

الْمَسُّ وَالْإِنْزَالُ لِلصَّائِمِ

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى فَسَادِ الصَّوْمِ بِالْإِنْزَالِ بِالْمَسِّ

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِنْزَالِ عَنِ الْمَسِّ وَلَا يَفْسُدُ بِالْإِنْزَالِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مَسَّ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَسَلِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: قَوْلُ أَشْهَبَ- وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ- لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُنْزِلَ، وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَيُكَفِّرُ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالنَّظَرِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ أَمْذَى مِنْ مَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.وَقَالَ أَشْهَبُ: وَالْمَسُّ بِالْيَدِ أَيْسَرُ مِنْهَا، وَالْقُبْلَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَبَثِ بِالْفَرْجِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَقَالَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: إِنْ أَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ وَيَقْضِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ الْمَسُّ فِي الصِّيَامِ لِأَنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ إِذْ لَوْ أَنْزَلَ بِهِ أَفْطَرَ وَفَسَدَ صَوْمُهُ وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ مُضَاجَعَةٍ بِلَا حَائِلٍ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا مَسَّ أَوْ قَبَّلَ فَأَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ.هَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَوْ هَاجَتْ شَهْوَتُهُ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى وَلَمْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَمْنَى فَسَدَ صَوْمُهُ، هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.وَوَجْهٌ فِي الْفُرُوعِ احْتِمَالًا بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ.

أَثَرُ الْمَسِّ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ أَوِ الْمَوْتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْمَسِّ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ).

أَثَرُ الْمَسِّ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا وَيَجُوزُ لَهَا الزَّوَاجُ بِأُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ قَبَّلَهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.

أَمَّا الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِهِ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَسَّ وَالْمُبَاشَرَةَ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالتَّقْبِيلَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لَا يُحَرِّمُ أُصُولَ مَنْ مَسَّهَا أَوْ قَبَّلَهَا وَلَا فُرُوعَهَا، زَوْجَةً كَانَتْ أَمْ أَجْنَبِيَّةً لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُصُولُهَا وَلَا فُرُوعُهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهَا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ، وَمَنْ مَسَّ أَوْ قَبَّلَ أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِهَا، وَإِنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ ثُمَّ شَرَطَ الْحُرْمَةَ بِالنَّظَرِ أَوِ الْمَسِّ أَنْ لَا يُنْزِلَ، فَإِنْ أَنْزَلَ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الشَّهْوَةَ حَالَ الْمَسِّ، فَلَوْ مَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَسِّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسَّ بِالْإِنْزَالِ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْوَطْءِ، وَالْمَسُّ الْمُفْضِي إِلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالْإِنْزَالِ هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ تَبِينَ بِالْإِنْزَالِ فَإِنْ أَنْزَلَ لَمْ تَثْبُتْ وَإِلاَّ ثَبَتَتْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} قَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ.

أَثَرُ الْمَسِّ فِي الظِّهَارِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنْ مَسٍّ أَوْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ تَقْبِيلٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.

دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَالتَّمَاسُّ يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ وَلِأَنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ (مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}

الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} فَلَا يَحْرُمُ مَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيلِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلَا يُخِلُّ بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.

مَسُّ الذَّكَرِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ

18- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَنَّ مَسَّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْقُضُ مَسُّهُ إِلاَّ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَلَا يَنْقُضُ بِظَهْرِ الْكَفِّ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَفِّ لَيْسَ بِآلَةِ الْمَسِّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَسَّهُ بِفَخِذِهِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ بَطْنِ الْكَفِّ وَظَاهِرِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرَاجَعُ (مُصْطَلَحُ وُضُوءٌ).

مَسُّ الْأَجْنَبِيِّ أَوِ الْأَجْنَبِيَّةِ

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجُوزِ وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ»،، وَلِأَنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مَسُّ وَجْهِ أَجْنَبِيَّةٍ وَإِنْ حَلَّ نَظَرُهُ بِنَحْوِ خِطْبَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ، وَلَا لِسَيِّدَةِ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ عَبْدِهَا وَعَكْسُهُ وَإِنْ حَلَّ النَّظَرُ.

مَسُّ الْمَرْأَةِ لِلْعِلَاجِ

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرِيضَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَمَسَّ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ، وَمَسِّهِ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ وَلَا طَبِيبٌ مُسْلِمٌ جَازَ لِلطَّبِيبِ الذِّمِّيِّ ذَلِكَ، وَتُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ الْكَافِرَةُ مَعَ وُجُودِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ لِأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ وَمَسَّهَا أَخَفُّ مِنَ الرَّجُلِ.

وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَمَسَّ مِنَ الْمَرِيضِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَمَسِّهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ وَقَدِ اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا لِذَلِكَ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُبَاحَانِ أَيِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلَاجٍ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ بِحَضْرَةِ مَانِعِ خَلْوَةٍ كَمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ لِحِلِّ خَلْوَةِ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ، وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَأْمَنَ الِافْتِنَانَ وَلَا يَكْشِفَ إِلاَّ قَدْرَ الْحَاجَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ: يَحْرُمُ النَّظَرُ دُونَ الْمَسِّ كَأَنْ أَمْكَنَ لِطَبِيبٍ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ بِالْمَسِّ فَقَطْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلِطَبِيبٍ نَظَرُ وَمَسُّ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَلَمْسِهِ نَصَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرْجِهَا وَبَاطِنِهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَلِيَكُنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ، وَيَسْتُرُ مِنْهَا مَا عَدَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لِأَنَّهَا عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّحْرِيمِ، وَكَالطَّبِيبِ مَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ أَوْ مَرِيضَةٍ فِي وُضُوءٍ وَاسْتِنْجَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَتَخْلِيصِهَا مِنْ غَرَقٍ وَحَرْقٍ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَا لَوْ حَلَقَ عَانَةَ مَنْ لَا يُحْسِنُ حَلْقَ عَانَتِهِ، وَكَذَا لِمَعْرِفَةِ بَكَارَةٍ وَثُيُوبَةٍ وَبُلُوغٍ، وَأَمَّا الْمَسُّ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَمَسِّ يَدِهَا لِيَعْرِفَ مَرَضَهَا فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بِحَالٍ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (مصحف 1)

مُصْحَفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُصْحَفُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ الْمِصْحَفُ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ لُغَةً: اسْمٌ لِكُلِّ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ ضُمَّتْ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُصْحَفُ مُصْحَفًا لِأَنَّهُ أُصْحِفَ، أَيْ جُعِلَ جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَالْمُصْحَفُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَيَصْدُقُ الْمُصْحَفُ عَلَى مَا كَانَ حَاوِيًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُسَمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا وَلَوْ قَلِيلًا كَحِزْبٍ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَشْمَلُ مَا كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقُرْآنُ:

2- الْقُرْآنُ لُغَةً: الْقِرَاءَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمِّدٍ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتَرًا.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ: أَنَّ الْمُصْحَفَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَالْجِلْدِ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَكْتُوبِ فِيهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصْحَفِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمُصْحَفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

لَمْسُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْمُصْحَفِ

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمِّدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ إِلاَّ دَاوُدَ.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، فَلَا يَجُوزُ لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، إِلاَّ مَا يَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

وَبِمَا فِي كِتَابِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- رضي الله عنه- إِلَى أَهْلِ الْيُمْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

لَمْسُ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ لِلْمُصْحَفِ

4- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَنْ غَيْرِ دَاوُدَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلًا غَرِيبًا بِعَدِمِ حُرْمَةِ مَسِّهِ مُطْلَقًا.

وَلَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلاَّ إِذَا أَتَمَّ طَهَارَتَهُ، فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِالْعُضْوِ الَّذِي تَمَّ غَسْلُهُ.

مَسُّ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ لِلْمُصْحَفِ بِغَيْرِ بَاطِنِ الْيَدِ

5- يُسَوِّي عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِبَاطِنِ الْيَدِ، وَبَيْنَ مَسِّهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَاقَى شَيْئًا، فَقَدْ مَسَّهُ إِلاَّ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا، فَقَدْ قَالَا: يَجُوزُ مَسُّهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ وَبِغَيْرِ الْيَدِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ الْيَدُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُمْنَعُ مَسُّهُ بِأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَلَا يُمْنَعُ مَسُّهُ بِغَيْرِهَا، وَنُقِلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الزَّاهِدِيَّ أَنَّ الْمَنْعَ أَصَحُّ.

مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ وَرَقِهِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرُ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَوَاشِي الَّتِي لَا كِتَابَةَ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ، وَالْبَيَاضِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ صَحَائِفَ خَالِيَةٍ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ وَحَرِيمٌ لَهُ، وَحَرِيمُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

حَمْلُ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبُهُ لِأَوْرَاقِهِ وَكِتَابَتُهُ لَهُ

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الْجُنُبُ أَوِ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ بِعِلَاقَةٍ، أَوْ مَعَ حَائِلٍ غَيْرِ تَابِعٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَاسًّا لَهُ فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي مَتَاعِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمَسِّ وَلَا مَسَّ هُنَا، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ حَمَلَهُ بِغِلَافِ غَيْرِ مَخِيطٍ بِهِ، أَوْ فِي خَرِيطَةٍ- وَهِيَ الْكِيسُ- أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُكْرَهْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ خَرَّجَهَا الْقَاضِي عَنْ أَحَمْدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَا يَحْمِلْهُ غَيْرُ الطَّاهِرِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَكُرْسِيِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ فِي غِلَافٍ أَوْ بِعِلَاقَةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ وَمَسُّ خَرِيطَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِمَا مُصْحَفٌ، أَيْ إِنْ أُعِدَّا لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَسُّ أَوْ حَمْلُ صُنْدُوقٍ أُعِدَّ لِلْأَمْتِعَةِ وَفِيهِ مُصْحَفٌ.

وَلَوْ قَلَّبَ غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِعُودٍ فِي يَدِهِ جَازَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسٍّ وَلَا حَمْلٍ، قَالَ: وَبَهْ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ التَّتَائِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ.

وَنُقِلَ عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ الْمُحْدِثُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِالْيَدِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَاسًّا بِالْقَلَمِ.

وَفِي تَقْلِيبِ الْقَارِئِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلَافٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَنْعُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَابِعٌ لِلَابِسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَضَعَ عَلَى يَدِهِ مِنْدِيلًا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ حَائِلٍ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمُصْحَفِ وَلَا هُوَ مِنْ مُلَابَسِ الْمَاسِّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَلَوِ اسْتَخْدَمَ لِذَلِكَ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَهَا.

عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَمْلُهُ لِخَوْفِ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ خِيفَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ كَافِرٍ أَوْ خِيفَ ضَيَاعُهُ أَوْ سَرِقَتُهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ إِرَادَةِ حَمْلِهِ التَّيَمُّمُ أَيْ حَيْثُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.

مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ

أ- الصَّغِيرُ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، قَالُوا: لِمَا فِي مَنْعِ الصِّبْيَانِ مِنْ مَسِّهِ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَجِ، لِمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعَلُّمُهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ أَرْسَخُ وَأَثْبَتُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا بَأْسَ لِلْكَبِيرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُصْحَفَ إِلَى صَبِيٍّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، كَالْبَالِغِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمُحْدِثُ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ مِنْ مَسِّ وَلَا مِنْ حَمْلِ لَوْحٍ وَلَا مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالُوا: وَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا.

أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَهِكَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَمْكِينُهُ مِنْ مَسِّهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْأَلْوَاحُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ مَسُّ الصَّبِيِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ.

وَأَمَّا مَسُّ الصَّبِيِّ اللَّوْحَ أَوْ حَمْلُهُ فَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

ب- الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُمَا:

9- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، أَوْ تُعَلِّمُهُ حَالَ التَّعْلِيمِ مَسَّ الْمُصْحَفِ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ أَوِ اللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، لِأَنَّ رَفْعَ حَدَثِهِ بِيَدِهِ وَلَا يَشُقُّ، كَالْوُضُوءِ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ رَفْعَ حَدَثِهَا لَيْسَ بِيَدِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُنُبَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، صَغِيرًا كَانَ أَوْ بَالِغًا يَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ وَالْحَمْلُ حَالَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُصْحَفِ لِلْمُطَالَعَةِ، أَوْ كَانَتْ لِلتَّذَكُّرِ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَنَحْوَهَا مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى الْجَوَازِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلِحِ (مَسٌّ ف 7).

مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمُصْحَفَ الْمَكْتُوبَ بِحُرُوفٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَكُتُبَ تَرْجَمَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ

11- الْمُصْحَفُ إِنْ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ بِحُرُوفِ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ فَهُوَ مُصْحَفٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُصْحَفِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَوْ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ:

تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا قِرَاءَتُهُ بِهَا، وَلَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي الْمَسِّ وَالْحَمْلِ.

أَمَّا تَرْجَمَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ فَلَيْسَتْ قُرْآنًا، بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا صَرَّحَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ، عِنْدَ مَنْ لَا يَمْنَعُ مَسَّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ.

صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنِ الِاتِّصَالِ بِالنَّجَاسَاتِ

12- يَحْرُمُ تَنْجِيسُ الْمُصْحَفِ، فَمَنْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي النَّجَاسَاتِ أَوِ الْقَاذُورَاتِ مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ وَضْعُ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَجِسٍ، وَمَسُّهَا بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَلَوْ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْمُصْحَفِ إِنْ تَنَجَّسَ وَلَوْ أَدَّى غَسْلُهُ إِلَى تَلَفِهِ، وَلَوْ كَانَ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ كِتَابَتُهُ بِشَيْءِ نَجِسٍ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِعُضْوٍ نَجِسٍ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ مَعَ الْحَدَثِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى عُضْوٍ وَمَسَّهُ بِعُضْوٍ آخَرَ طَاهِرٍ فَلَا يَحْرُمُ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يَتَنَجَّسُ بِبَوْلِ حَيَوَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ فِي وَرَقٍ نَجِسٍ أَوْ بِمِدَادٍ نَجِسٍ.

دُخُولُ الْخَلَاءِ بِمُصْحَفٍ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ- وَلَا يَحْرُمُ- أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ وَمَعَهُ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ مَكْرُوهٌ وَإِنْ حَرُمَ مِنْ حَيْثُ الْحَدَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ»، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُولُ الْخَلَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ كَنِيفًا أَوْ غَيْرَهُ بِمُصْحَفٍ، كَامِلٍ أَوْ بَعْضِ مُصْحَفٍ، قَالُوا: لَكِنْ إِنْ دَخَلَهُ بِمَا فِيهِ بَعْضٌ مِنَ الْآيَاتِ لَا بَالَ لَهُ- أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ- فَالْحُكْمُ الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ.

قَالُوا: وَإِنْ خَافَ ضَيَاعَهُ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ مَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي سَاتِرٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الرَّائِحَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي وَضْعُهُ فِي جَيْبِهِ، لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَّسِعٌ.

جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الصَّلَاةِ

14- يُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي لِأَنَّهُ يُلْهِيهِ، قَالَ أَحَمْدُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا حَتَّى الْمُصْحَفَ، لَكِنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَمُّدُ جَعْلِهِ فِي الْقِبْلَةِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَاكَ مَوْضِعَهُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ عَادَةً.

وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَهُ لِيَقْرَأَ مِنْهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيمَا يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِهَا، وَالْمُصْحَفُ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، وَاسْتِقْبَالُ أَهْلُ الْكِتَابِ مَصَاحِفَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهَا لَا لِعِبَادَتِهَا، وَمِنْ هُنَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمُصْحَفِ.

الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

15- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَرَأَ بِالنَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا، أَيْ قَلِيلًا كَانَ مَا قَرَأَهُ أَوْ كَثِيرًا، إِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِلاَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَحَّحَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْكَافِي تَبَعًا لِتَصْحِيحِ السَّرَخْسِيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ إِلاَّ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُصَلِّي مِنَ الْمُصْحَفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لِكَثْرَةِ الشَّغْلِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ فِي النَّفْلِ إِنْ قَرَأَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ قَرَأَ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي النَّفْلِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي مَوْلًى لَهَا اسْمُهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَيُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَيُكْرَهُ لِلْحَافِظِ حَتَّى فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ يُشْغَلُ عَنِ الْخُشُوعِ وَعَنِ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لَا يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ مُسْتَحَبَّةٌ لِاشْتِغَالِ الْبَصَرِ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَفْضِيلِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ عَلَى الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَ الْقِرَاءَةِ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَحُضُورُ قَلْبِهِ فِي الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَهُوَ أَفَضْلُ فِي حَقِّهِ.

اتِّبَاعُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ بِرَسْمِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، لِكَوْنِهِ قَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ.

سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: أَرَأَيْتَ مَنِ اسْتُكْتِبَ مُصْحَفًا الْيَوْمَ، أَتَرَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكْتَبُ عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ، أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَتْ فِيهِ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ الدَّانِيُّ: يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الزَّائِدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ قَالَ: وَلَا مُخَالِفَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ مُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي وَاوٍ أَوْ يَاءٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْهِجَاءِ الَّذِي كَتَبُوا بِهِ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عِلْمًا وَأَصْدَقَ لِسَانًا وَأَعْظَمَ أَمَانَةً مِنَّا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ هُنَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتِ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ إِذَا قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، كَبَعْضِ مَا رُوِيَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.

وَصَحَّحَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الصَّحِيحَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُوَافِقَ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَلَوِ احْتِمَالًا.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْقُولٌ عَنْ عِزِّ الدِّينِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ قَوْلَهُ: لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ الْآنَ عَلَى الرُّسُومِ الْأُولَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ لِئَلاَّ يُوقَعَ فِي تَغْيِيرِ الْجُهَّالِ.وَتَعَقَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ، وَشَيْءٍ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاةً لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ، وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ.

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

آدَابُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

17- اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ، وَتَحْسِينَ كِتَابَتِهَا وَتَجْوِيدَهَا، وَالتَّأَنُّقَ فِيهَا.

وَاسْتَحَبُّوا تَبْيِينَ الْحُرُوفِ وَإِيضَاحَهَا وَتَفْخِيمَهَا، وَالتَّفْرِيجَ بَيْنَ السُّطُورِ، وَتَحْقِيقَ الْخَطِّ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أَنْ تُمَدَّ الْبَاءُ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى الْمِيمِ حَتَّى تُكْتَبَ السِّينُ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقْصًا.

وَنُقِلَتْ: كَرَاهَةُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِخَطِّ دَقِيقٍ، وَتَصْغِيرِ حَجْمِ الْمُصْحَفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنهما-.

وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْمُصْحَفُ بِمِدَادٍ نَجِسٍ أَوْ فِي وَرَقٍ أَوْ شَيْءٍ نَجِسٍ.

وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ كَرِهُوا كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَ الْبُرْزُلِيُّ وَالْعَدَوِيُّ وَالْأُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ التَّدَبُّرِ.

إِصْلَاحُ مَا قَدْ يَقَعُ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ

18- يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ مَا قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ فِي كِتَابَتِهَا وَاجِبٌ، وَإِنْ تَرَكَ إِصْلَاحَهُ أَثِمَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ لَيْسَ لَهُ بَلْ كَانَ عَارِيَّةً عِنْدَهُ، فَعَلَيْهِ إِصْلَاحُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَا مَالِكِهِ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَحَلُّ الْجَوَازِ إِذَا كَانَ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ وَإِلاَّ فَلَا.

النَّقْطُ وَالشَّكْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ

19- نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَةُ إِدْخَالِ شَيْءٍ مِنَ النَّقْطِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَرُوا بِتَجْرِيدِ الْمُصْحَفِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِشَيْءِ، وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ نَقْطَ الْمَصَاحِفِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ النَّقْطَ وَالْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ.

وَكَانَ الْمُصْحَفُ الْعُثْمَانِيُّ خَالِيًا مِنَ النَّقْطِ حَتَّى إِنَّ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالِثَاءَ مَثَلًا كَانَتْ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى.

وَالنَّقْطُ كَانَ أَوَّلًا لِبَيَانِ إِعْرَابِ الْحُرُوفِ، أَيْ حَرَكَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ عَلَامَاتُ الشَّكْلِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَاسْتُخْدِمَ النَّقْطُ لِتَمْيِيزِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ.

وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ، قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا بَأْسَ بِشَكْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالنَّقْطِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، أَمَّا الْأُمَّهَاتُ فَلَا.

وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيُّ: لَا يُشْكَلُ إِلاَّ مَا يُشْكِلُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقْطُ الْمُصْحَفِ وَشَكْلُهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ صِيَانَةٌ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ: وَأَمَّا كَرَاهَةُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ النَّقْطَ فَإِنَّمَا كَرِهَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَوْفًا مِنَ التَّغْيِيرِ فِيهِ، وَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَا مَنْعَ.

وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ مُنْذُ أَمَدٍ طَوِيلٍ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيِّ.

التَّعْشِيرُ وَالتَّحْزِيبُ وَالْعَلَامَاتُ الْأُخْرَى فِي الْمَصَاحِفِ

20- التَّعْشِيرُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ عَشْرِ آيَاتٍ، وَالتَّخْمِيسُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ خَمْسٍ، وَالتَّحْزِيبُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ مُبْتَدَإِ كُلِّ حِزْبٍ.

وَمِنْ أَوَّلِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ جَعْلُ ثَلَاثِ نِقَاطٍ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ النُّقَطَ الثَّلَاثَ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا النُّقَطُ عِنْدَ آخِرِ الْآيِ، ثُمَّ الْفَوَاتِحُ وَالْخَوَاتِمُ، أَيْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَخَوَاتِمُهَا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ (انْظُرْ: تَعْشِيرٌ ف 3)، وَرَخَّصَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى إِدْخَالِ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ لِنَفْعِهَا لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَأُدْخِلَتْ أَيْضًا عَلَامَاتُ السَّجَدَاتِ وَالْوُقُوفِ وَأَسْمَاءُ السُّوَرِ وَعَدَدُ الْأَجْزَاءِ وَعَدَدُ الْآيَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِوَضْعٍ يُمَيِّزُهَا عَمَّا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

21- اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَبَيَّنَ الْخَطَّ جَازَ.

تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ جِلْدُهُ مِنْ خَارِجٍ لَا كِتَابَتُهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازُوا أَيْضًا كِتَابَتَهُ فِي الْحَرِيرِ وَتَحْلِيَتَهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَحْرِيمِهِ بِالذَّهَبِ فِي مَصَاحِفِ الرِّجَالِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْلِيَتِهِ بِشَيْءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ سَوَاءٌ حَلاَّهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.

بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَشِرَاؤُهُ

23- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَشِرَائِهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، لِمَا فِي تَدَاوُلِهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنَ الِابْتِذَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهِيَةُ بَيْعِهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يُشَدِّدُونَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى إِجَازَةِ بَيْعِهَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَبَدَلَ عَمَلِ يَدِ الْكَاتِبِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْوَرَقَ وَعَمَلَ يَدَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ- وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَرِهُوا الْبَيْعَ- وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ وَيَصِحُّ- وَأَجَازُوا الشِّرَاءَ وَالِاسْتِبْدَالَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ وَلَا تَبِعْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ ابْتِذَالًا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ، فَفِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِلْمَالِ فِي سَبِيلِ اقْتِنَائِهِ وَذَلِكَ إِكْرَامٌ، قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ كَرَاهَةُ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ وَرِبَاعِهَا، وَشِرَاءِ أَرْضِ السَّوَادِ، لَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْبَائِعِ.

إِجَارَةُ الْمُصْحَفِ

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ أَكْثَرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ النُّقُوشِ أَوِ التَّصَاوِيرِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ كَرْمًا لِيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِجَارَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَنَوْا تَحْرِيمَ إِجَارَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، قَالُوا: وَلِمَا فِي إِجَارَتِهِ مِنَ الِابْتِذَالِ لَهُ.

وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَقَدْ مَنَعَ إِجَارَتَهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ كَالثَّمَنِ لِلْقُرْآنِ، أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَالْخَطِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، قَالُوا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِإِجَارَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِلاَّ كُرِهَتْ.

وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الْإِعَارَةُ فِيهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا.

رَهْنُ الْمُصْحَفِ

25- الْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَلِذَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ رَهْنُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَقْفُ الْمُصْحَفِ

26- يَجُوزُ وَقْفُ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِوَقْفِ الْمَصَاحِفِ، وَإِلَى قَوْلِهِ هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ بِجِوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِهَا كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ غَيْرِ آلَاتِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ إِنْ وَقَفَهُ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَجُوزُ، وَيَقْرَأُ بِهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ بِعَيْنِهِ.

إِرْثُ الْمُصْحَفِ

27- يُورَّثُ الْمُصْحَفُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ يُورَّثُ عَنْ مَالِكِهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدً الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُورَّثُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدَانِ أَحَدُهُمَا قَارِئٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ قَارِئٍ، يُعْطَى الْمُصْحَفُ لِلْقَارِئِ.

الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمُصْحَفِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ آخُذَهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ لِاعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقْتَنَى الْمُصْحَفُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَجْلِ أَوْرَاقِهِ أَوْ جِلْدِهِ.

وَيَسْرِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا عَلَى الْمُصْحَفِ مِنَ الْحِلْيَةِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لَهُ، وَلِلتَّابِعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ، كَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يُقْطَعُ بِهَا، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقَلَ عَنِ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 1)

وُضُوءٌ-1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوَضَاءَةِ: أَيِ الْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ، وَقَدْ وَضُؤَ- مِنْ بَابِ كَرُمَ- وَضَاءَةً، مِثْلُ ضَخُمَ ضَخَامَةً: حَسُنَ وَنَظُفَ، وَوَضَّأَهُ: جَعَلَهُ يَتَوَضَّأُ، وَتَوَضَّأَ: غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ وَنَظَّفَهَا، وَتَوَضَّأَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ: أَدْرَكَا حَدَّ الْبُلُوغِ.

وَالْمِيضَأَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَمِنْهُ، وَالْمِطْهَرَةُ: يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.

وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَاءُ يُتَوَضَّأُ بِهِ.

وَقِيلَ: الْوُضُوءُ بِالْفَتْحِ- مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَوْ هُمَا لُغَتَانِ قَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَاءُ.

وَالْوُضُوءُ شَرْعًا: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتِ مِنْهَا: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ هُوَ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ طِهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ- وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ- عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ، أَوْ هُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ مُفْتَتَحًا بِالنِّيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، (وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَالرَّأْسُ، وَالرِّجْلَانِ)، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الشَّرْعِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً مَعَ بَاقِي الْفُرُوضِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَسَلَ، يُقَالُ: غَسَلَ يَغْسِلُهُ غَسْلًا: أَزَالَ عَنْهُ الْوَسَخَ وَنَظَّفَهُ بِالْمَاءِ، وَيُضَمُّ- أَيْ تُضَمُّ الْغَيْنُ- أَوْ: بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَضْمُومَ وَالْمَفْتُوحَ بِمَعْنًى، وَعَزَاهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ.

وَمِنْ مَعَانِي الْغُسْلِ- بِالضَّمِّ- فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الطِّهَارَةِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ.

وَالْغُسْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَالْغُسْلَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ.

ب- الطَّهَارَةُ:

3- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ النَّقَاءُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّنَسِ.يُقَالُ: طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ: غَسَلُهُ بِهِ، وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ، وَالْكَفُّ عَنِ الْإِثْمِ.

وَالطَّهَارَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ- أَكْبَرَ كَانَ أَوْ أَصْغَرَ، أَيْ زَوَالُ الْوَصْفِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ النَّجَسِ أَوِ ارْتِفَاعُ حُكْمِ ذَلِكَ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ.

ج- التَّيَمُّمُ:

4- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَيَمُّمًا وَتَأَمَّمْتُ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَةٌ وَرَفْعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَيَكُونُ مِنْ أَيٍّ مِنَ الْحَدَثَيْنِ: الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الصَّعِيدُ الطَّاهِرُ.

الْوُضُوءُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «ثُمَّ دَعَا- أَيِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَمَا ثَبَتَ لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَثْبُتُ لِأُمَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- لَمَّا مَرَّ عَلَى الْجَبَّارِ وَمَعَهُ سَارَّةُ.أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْجَبَّارِ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ لَمَّا رَمَوْهُ بِالْمَرْأَةِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: هَذَا الرَّاعِي.

وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَوْ أَثَرُ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بَيَاضُ مَحَلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».

مَكَانُ فَرْضِ الْوُضُوءِ وَزَمَانُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا لِلْمَكَانِ لَا لِلزَّمَانِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الِافْتِرَاضِ بِلَا وُضُوءٍ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَطْعًا، وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إِلاَّ بِوُضُوءٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ وُقُوعُ صَلَاةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِدُونِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» أَيْ بِالْمَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وُضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْوُضُوءَ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ: تَقْرِيرُ حُكْمِهِ الثَّابِتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ تَابِعًا لِلصَّلَاةِ احْتُمِلَ أَنْ لَا تَهْتَمَّ الْأُمَّةُ بِشَأْنِهِ، وَأَنْ يَتَسَاهَلُوا فِي شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ بِطُولِ الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَانْتِقَاصِ النَّاقِلِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ الْبَاقِي فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ لِسَانٍ.

وَمِنَ الْفَائِدَةِ كَذَلِكَ تَأَتِّي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، كَالنِّيَّةِ، وَالدَّلْكِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَقَدْرِ الْمَسْمُوحِ، وَنَقْضِهِ بِالْمَسِّ، وَكَذَلِكَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يُصَلُّونَ إِلاَّ بِالْوُضُوءِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ أَوِ النَّظَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، كَمَا دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.

وَكَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ- إِلاَّ مَعَ الْحَدَثِ- وَصَارَ يُؤَدَّى بِهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِهِ. (ر: شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3).

مَشْرُوعِيَّةُ الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ، أَوْ هِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ- مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.وَإِنَّمَا أَضْمَرَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَأَجْمَعَ أَهِلُ السِّيَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ- عليه السلام-، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ.

مُنْكِرُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

8- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ يَكْفُرُ، لِإِنْكَارِهِ النَّصَّ الْقَطْعِيَّ، وَهُوَ آيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وَلِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

تَرَكَ الْوُضُوءَ عَمْدًا ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا:

9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِالدِّينِ يَكْفُرُ- كَالصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ عَمْدًا-.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ يُقْتَلُ بِهَا كَالصَّلَاةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا، اسْتُتِيبَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ- جَاحِدًا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ- دُعِيَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِلَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوُضُوءِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يُتَوَضَّأُ لِأَجْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ فَرْضًا:

أ- الصَّلَاةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةً مِنْ غَيْرِ طَهُورٍ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ.

(ر: جَنَائِز ف22)

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ.

(ر: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ ف3)

ب- الطَّوَافُ

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِلطَّوَافِ فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ وَاجِبٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْآنِفِ الذِّكْرِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ الطَّوَافُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّتِهِ عَلَيْهَا، وَزَادُوا: إِذَا طَافَ الطَّائِفُ الْفَرْضَ مُحْدِثًا وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وَإِذَا طَافَ الْوَاجِبَ كَالْوَدَاعِ أَوِ النَّفْلَ مُحْدِثًا فَصَدَقَةٌ، وَجُنُبًا فَدَمٌ.

ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

(ر: مُصْحَف ف 4- 11) ثَانِيًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ سُنَّةً:

13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ الْبَغَوِيِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ».

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ النُّوَّمَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

ثَالِثًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ مَنْدُوبًا:

ضَابِطُ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ: كُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ مَا يُفْعَلُ بِهِ بَلْ مِنْ كَمَالَاتِ مَا يُفْعَلُ بِهِ.

يَكُونُ الْوُضُوءُ مَنْدُوبًا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ.

ب- ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:

15- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

(ر: ذِكْر ف 28).

ج- الْأَذَانُ:

5 ام- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ: الْوُضُوءُ لِلْأَذَانِ.

(ر: أَذَان ف33).

د- الْإِقَامَةُ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوُضُوءِ لِلْإِقَامَةِ. (ر: إِقَامَة ف 11).

هـ- الْخُطْبَةُ:

17- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عَقِبَ الْخُطْبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ.

(ر: خُطْبَة ف11)

و- دِرَاسَةُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:

18- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الشَّبِيبِيِّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

ز- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

19- يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَمُبَاهَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالْوَاقِفِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَيْنِ.

ح- زِيَارَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَعْظِيمًا لِحَضْرَتِهِ وَدُخُولِ مَسْجِدِهِ.

ط- الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.

(ر: تَجْدِيد ف2) ي- وُضُوءُ الْجُنُبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ».

وَلِحَدِيثِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَلِحَدِيثِ «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ وَعِنْدَ النَّوْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».

أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَوِيُّ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ يَدَيْهِ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ مُعَاوَدَةِ الْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ مِنَ الْأَذَى إِذَا أَرَادَ الْأَكْلَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ فَرْجِهِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فَفِي وُضُوئِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوء.

ك- الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ:

23- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا أَحْدَثَ لِيَكُونَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.

ل- الْوُضُوءُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا إِذَا مَسَّ امْرَأَةً مُشْتَهَاةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ فَرْجَهُ بِبَطْنِ كَفِّهِ لِتَكُونَ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِفْسَادِ.

(ر: مُرَاعَاة الْخِلَاف فِقْرَة 2- 4)

رَابِعًا: مَا يُبَاحُ لَهُ الْوُضُوءُ:

25- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ الْمُبَاحَ هُوَ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ، وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوُضُوءُ الْمُبَاحُ هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَا يُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ: إِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِبَّاتِ.

وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ فِي هَذَا كُلِّهِ الِاسْتِحْبَابَ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ.

وَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدَهُ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ.

خَامِسًا: الْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ:

26- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُجَدَّدُ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ.

انْظُرِ الْمُصْطَلَحَ (تَجْدِيد ف2)

فَضِيلَةُ الْوُضُوءِ:

27- وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ وَسُقُوطِ الْخَطَايَا بِهِ، مِنْهَا:

مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ».

وَرَوَى «عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، «وَفِي رِوَايَةٍ»: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».

شُرُوطُ الْوُضُوءِ:

28- شُرُوطُ الْوُضُوءِ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

وَالْمُرَادُ بِشُرُوطِ الْوُجُوبِ: هِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَتِ الطَّهَارَةُ عَلَى الشَّخْصِ.

وَشُرُوطُ الصِّحَّةِ هِيَ مَا لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ إِلاَّ بِهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ.

أَوَّلًا: شُرُوطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

أ- الْعَقْلُ:

29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِذْ لَا خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ.

ب- الْبُلُوغُ:

30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَاصِرِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ وُضُوؤُهُ.

ج- الْإِسْلَامُ:

31- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، إِذْ لَا يُخَاطَبُ كَافِرٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

كَمَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ مَعًا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

د- انْقِطَاعُ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ انْقِطَاعَ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

هـ- وُجُودُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي:

33- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي.

فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ تَنْفِيهِ حُكْمًا، فَلَا قُدْرَةَ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْكَافِي لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَيْرُهُ كَالْعَدَمِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَالْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ ظَنًّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ.

و- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ، وَلَا عَلَى مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَرِجْلَاهُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.

ز- وُجُودُ الْحَدَثِ:

35- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وُجُودَ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ.

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِي مُوجِبِهِ أَوْجُهًا:

أَحَدُهَا: الْحَدَثُ مَعَ الِانْقِطَاعِ فَيَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا.

ثَانِيهَا: الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

ثَالِثُهَا: هُمَا مَعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الِانْتِصَارِ: يَجِبُ بِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ.قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ.

أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ ف 14).

ح- ضِيقُ الْوَقْتِ:

36- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ ضِيقَ الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ مُضَيَّقًا حِينَئِذٍ وَمُوَسَّعًا فِي ابْتِدَائِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مُوَسَّعٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَارَ الْوُجُوبُ فِيهِمَا مُضَيَّقًا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَتَذَكُّرَ الْفَائِتَةِ.

وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إِذَنْ وَوُجُوبِ الشَّرْطِ بِوُجُوبِ الْمَشْرُوطِ.

ط- بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

37- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ بُلُوغَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُكَلَّفِ.

ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْوُضُوءِ:

أ- عُمُومُ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ:

38- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ عُمُومَ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، أَيْ بِأَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَغْرِزِ إِبْرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنَ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ أَنْ يَغْسِلَ مَعَ الْمَغْسُولِ جُزْءًا يَتَّصِلُ بِالْمَغْسُولِ وَيُحِيطُ بِهِ، لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِيعَابُ الْمَغْسُولِ.

ب- زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ:

39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ لِجِرْمِهِ الْحَائِلِ كَشَمْعٍ وَشَحْمٍ وَعَجِينٍ وَطِينٍ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِزَالَةَ مَانِعِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعُضْوِ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ تَغَيُّرًا مُضِرًّا.قَالَ فِي الْإِمْدَادِ: وَمِنْهُ الطِّيبُ الَّذِي يُحَسَّنُ بِهِ الشَّعْرُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَشَّفُ وَيَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِلْبَاطِنِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.

ج- انْقِطَاعُ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ:

40- يَرَى الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ انْقِطَاعَ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ بِظُهُورِ بَوْلٍ وَسَيَلَانٍ نَاقِضٍ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ.

د- الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ:

41- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- ضِمْنَ شُرُوطِ الْوُضُوءِ- مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُمَيِّزَ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مِنْ سُنَنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فَرْضًا وَسُنَّةً وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَرْضٌ.

وَالْمُضِرُّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فُرُوضًا وَسُنَنًا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ.

وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلَا بُدَ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ.

هـ- عَدَمُ الصَّارِفِ عَنِ الْوُضُوءِ:

42- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ عَدَمَ صَارِفٍ عَنِ الْوُضُوءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِدَوَامِ النِّيَّةِ حُكْمًا: بِأَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ لِلنِّيَّةِ كَرِدَّةٍ أَوْ قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوْ قَطْعٍ لِلنِّيَّةِ.

و- جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ:

43- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ جَرْيَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقَالُوا: لَا يَمْنَعُ مَنْ عَدَّ هَذَا شَرْطًا كَوْنَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَفْهُومِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّضْحَ.

ز- النِّيَّةُ:

44- عَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ النِّيَّةَ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أَيْ لَا عَمَلَ جَائِزٌ وَلَا فَاضِلٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى الثَّوَابِ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَلَا ثَوَابَ فِي غَيْرِ مَنْوِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَةِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلاَّ مِنَ الشَّارِعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ.

ح- إِبَاحَةُ الْمَاءِ:

45- يَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ إِبَاحَةَ الْمَاءِ لِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ مُحَرَّمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَتُكْرَهُ.

شُرُوطُ الْوُضُوءِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ:

46- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِوُضُوءِ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- وَهُوَ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ- دَخَلَ الْوَقْتُ وَلَوْ ظَنًّا؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ التَّحَفُّظِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّحَفُّظِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5)، (وَاسْتِحَاضَة ف 30 وَمَا بَعْدَهَا)

أَسْبَابُ الْوُضُوءِ:

47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}.) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَلَوْلَاهُ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْوُضُوءِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.

وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- نُقِلَ عَنِ الْفُرُوعِ- أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ.

فُرُوضُ الْوُضُوءِ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَغَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسِ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّ النِّيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ (وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ) وَالتَّرْتِيبِ وَالدَّلْكِ مِنْ فَرَائِضِهِ.

وَنُوَضِّحُ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ فِيمَا يَلِي

أَوَّلًا: الْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:

الْفَرْضُ الْأَوَّلُ: غَسْلُ الْوَجْهِ:

49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.).

وَلِمَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رضي الله عنه- دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا».

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ فِي الْوُضُوءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-المعجم الغني (مَسَّ)

مَسَّ- [مسس]، (فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، مَسَسْتُ، أَمَسُّ، مَسَّ، المصدر: مَسٌّ، مَسِيسٌ.

1- "مَسَّ جِلْدَهُ": لَمَسَهُ بِيَدِهِ. {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 78]:

2- "مَسَّهُ الْمَرَضُ": أَصَابَهُ. "مَسَّهُ الكِبَرُ" "مَسَّهُ بِأَذًى" "مَنْ مَسَّ كَرَامَتَهُ فَكَأَنَّهُ طَعَنَهُ فِي الصَّمِيمِ". (نجيب محفوظ) "الحُرُّ حُرٌّ وَإِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ".

3- "مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَعْزِيزِ الصُّفُوفِ": دَعَتْ إلى، دَفَعَتْ إلى.

4- "مَسَّ الْمَرْأَةَ": جَامَعَهَا. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47]:

5- "مَسَّ مِنْهُ": أَخَذَ.

6- "مَسَّهُ الخَيْرُ": عَرَضَ لَهُ. {إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20، 21] "مَسَّهُ العَذَابُ".

7- "مَسَّهُ الشَّيْطَانُ": جُنَّ.

8- "مَسَّهُ بِالسَّوْطِ": ضَرَبَهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


16-المعجم الغني (مُطَهَّرٌ)

مُطَهَّرٌ(مُطَهَّرَةٌ )- الجمع: (مُطَهَّرُونَ، مُطَهَّرَاتٌ ). [طهر]، (اسم مفعول مِن: طَهَّرَ)، "مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ نَجَاسَةٍ": نَقِيٌّ. {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


17-لغة الفقهاء (المس)

المس: بالفتح والتشديد مصدر: مس الشيء: لمسه بيده، ومنه {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.

[*] اللمس: وهو وضع البشرة على البشرة بغير حائل... Touching

[*] كناية عن الجماع، ومنه {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}... Sexual intercourse, Sexual touching

[*] الجنون الناشئ عن أذى الشيطان للإنسان، لأمن عاهة... Insanity

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


18-تاج العروس (طهر)

[طهر]: الطُّهْرُ، بالضّمِّ: نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، كالطَّهَارَةِ، بالفَتْح.

طَهرَ، كنَصَرَ وكَرُمَ طُهْرًا وطَهَارَةً، المصدَرَانِ عن سِيبَويْه.

وفي الصّحاح: طَهَرَ وطَهُرَ، بالضمّ طَهَارَةً فيهما فهُوَ طَاهِرٌ وطَهِرٌ، ككَتِفٍ، الأَخيرُ عن ابنِ الأَعرَابِيّ، وأَنشد:

أَضَعْتُ المالَ للأَحْسَابِ حَتَّى *** خَرَجْتُ مُبَرَّأً طَهِرَ الثِّيَابِ

قال ابنُ جِنِّي: جاءَ طاهِرٌ على طَهُرَ، كما جاءَ شاعِرٌ على شَعُرَ، ثم استَغْنَوْا بالفاعِلٍ عن فَعيلٍ، وهو في أَنْفُسِهم وعلى بالٍ من تَصَوُّرِهِم، يَدُلُّكَ على ذلك تكسيرُهم شاعِرًا على شُعَرَاءَ، لَمَّا كان فاعِلٌ هنا واقِعًا موقع فَعِيلٍ كُسِّرَ تَكْسِيرَه؛ ليكون ذلك أَمارةً ودَليلًا على إِرادتِه وأَنّه مُغْنٍ عنه، وبَدَلٌ منه.

وقالَ ابنُ سِيدَه: قال أَبو الحَسَن: ليس كما ذكرَ؛ لأَنّ طَهِيرًا قد جاءَ في شِعْر أَبي ذُؤَيْب قال:

فإِنّ بَنِي لِحْيَانَ إِمّا ذَكَرْتَهُم *** نَثَاهُمْ إِذا أَخْنَى الزَّمَانُ طَهِيرُ

قال: كذا رواه الأَصمعِيّ بالطّاءِ، ويُرْوَى ظَهِير، بالظَّاءِ المعجمة.

الجمع: الطَّاهِرِ أَطْهَارٌ وطَهَارَى الأَخيرةُ نادِرَةٌ، وثِيَابٌ طَهَارَى على غَيْرِ قيَاس، كأَنَّهُم جَمعوا طَهْرَانَ، قال امرُؤُ القَيْسِ:

ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ *** وأَوجُهُهُم عندَ المَشاهد غُرَّانُ

وجمْعُ الطَّهِرِ طَهِرُونَ، ولا يُكسَّرُ.

والأَطْهَارُ: أَيّامُ طُهْرِ المَرْأَةِ، والطُّهْرُ: نَقِيضُ الحَيْضِ.

والمَرْأَةُ طاهِرٌ من الحَيْضِ، وطاهِرَةٌ من النَّجَاسَةِ ومن العُيُوبِ، وفي الثَّاني مَجَاز، ورجلٌ طاهِرٌ ورِجَالٌ طاهِرُونَ، ونساءٌ طاهِرَاتٌ.

وفي المحكم: طَهَرَتْ وطَهِرَتْ وطَهُرَتْ، وهي طاهِرٌ ـ قلْت: ونقلَ البَدْرُ القَرَافِيُّ أَيضًا تَثليثَ الهاءِ عن الأَسْنَوِيّ ـ: انْقَطَعَ دَمُهَا ورأَت الطُّهْرَ واغْتَسَلَتْ من الحَيْضِ وغَيْرِه، والفتح أَكثرُ عند ثعلب.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: طَهَرَت المرأَةُ هو الكلام، ويجوز طَهُرَتْ، كتَطَهَّرَت، قال ابنُ الأَعْرَابِيّ: وتَطَهَّرَتْ واطَّهَّرَت: اغتَسَلَتْ، فإِذا انْقَطَع عنها الدَّمُ قيل: طَهُرَت، فهي طاهِرٌ بلا هاءٍ، وذلك إِذا طَهُرَت من المَحِيضِ.

وروى الأَزهريّ عن أَبي العَبّاس أَنه قال في قوله عزّ وجلّ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} وقُرِئَ «حَتَّى يَطَّهَّرْنَ» قال أَبو العَبّاس: والقراءَة حتى يَطَّهَّرْنَ؛ لأَنّ من قَرَأَ «يَطْهُرْنَ» أَرادَ انقِطَاعَ الدَّمِ، {فَإِذا تَطَهَّرْنَ}: اغْتَسَلْنَ، فصيَّر معناهما مختلفًا، والوَجْهُ أَنْ تكونَ الكَلِمَتَانِ بمعنًى واحدٍ، يريدُ بهما جميعًا الغُسْلَ، ولا يَحلّ المَسِيسُ إِلّا بالاغْتِسَالِ، ويُصَدِّق ذلك قراءَةُ ابنِ مَسْعُود «حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ».

وقال المصنّف في البَصَائِر: طَهَرَ، وطَهُرَ، واطَّهَّرَ، وتَطَهَّرَ بمعنىً، وطَهَرَت المَرْأَةُ طُهْرًا، وطَهَارَةً وطُهُورًا وطَهُورًا وطَهُرَت، والفَتْح أَقْيَسُ.

والطَّهَارَةُ ضَرْبان: جُسْمَانِيَّةٌ ونَفْسَانِيَّة، وحُمِلَ عليهمَا أَكثَرُ الآيات.

وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أَي استعمِلُوا الماءَ أَو ما يَقُومَ مَقَامَه.

وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ} فدلَّ باللَّفْظَيْنِ على عَدَمِ جَوازِ وَطْئهنّ إِلّا بعدَ الطّهَارَةِ والتَّطْهِيرِ، ويُؤَكّد ذلك قِرَاءَةُ من قَرَأَ «حتَّى يَطَّهَّرْنَ»؛ أَي يفْعَلْنَ الطَّهَارَةَ التي هي الغُسْلُ. انتهى.

وفي اللسان: وأَما قوله تعالى: {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فإِن معناه الاسْتِنْجَاءُ بالماءِ، نَزَلَتْ في الأَنصارِ، وكانوا إِذا أَحْدَثُوا أَتْبَعُوا الحِجَارَةَ بالماءِ، فأَثْنَى الله تَعَالَى عليهم بذلك.

وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} يعني من الحَيْضِ والبَوْلِ والغَائِطِ. قال أَبو إِسْحَاقَ: معناه أَنَّهُنّ لا يَحْتَجْنَ إِلى ما تَحْتَاج إِليه نِسَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا بعدَ الأَكلِ والشُّربِ ولا يَحِضْنَ ولا يَحْتَجْنَ إِلى ما يُتَطَهَّر به، وهنَّ مع ذلك طاهِرَاتٌ طَهَارةَ الأَخْلَاقِ والعِفّةِ، فمُطَهَّرَةً تَجْمَع الطَّهَارَةَ كلَّهَا؛ لأَنّ مُطَهَّرَةً أَبلغُ في الكلامِ من طاهِرَةٍ. وقوله عزّ وجلّ: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ} قال أَبو إِسحاق: معناه طَهِّروه من تَعْلِيقِ الأَصنام عليه.

قلْت: وقيل: المرادُ به الحَثُّ على تَطْهِيرِ القَلْبِ لدُخولِ السّكينةِ فيه المَذكورة في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال الأَزهريّ: معناه أَي {طَهِّرا بَيْتِيَ} يعنِي من المَعَاصِي والأَفْعَالِ المُحَرَّمةِ.

وقوله تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} من الأَدْناسِ والباطل.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} يعني به تَطْهيرَ النَّفْس.

وقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَي يُخْرِجُك من جُمْلَتهم، ويُنَزِّهُك أَن تَفعَلَ بفِعْلهم.

وقيل في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعنِي به تَطْهِيرَ النَّفْسِ؛ أَي أَنَّه لا يَبْلُغُ حَقَائِقَ مَعرِفَتِه إِلّا من يُطَهِّرُ نَفْسَه من دَرَنِ الفَسَاد والجَهالاتِ والمُخَالفاتِ.

وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أَي أَن يَهْدِيَهم.

وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قالوا ذلك تَهَكُّمًا حيثُ قال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، ومعنى أَطْهَرُ لكم: أَحَلُّ لَكُم.

وطَهَّرَهُ بالماءِ تَطْهِيرًا: غَسَلَه بهِ، فهو مُطَهّر والاسمُ الطُّهْرَةُ بالضَّمِّ.

المَطهَرَةُ، بالكسرِ والفَتْحِ: إِناءٌ يُتَطَهَّرُ بهِ ويُتَوضَّأُ، مثل سَطْل أَو رَكْوَة.

والمِطْهَرَةُ: الإِدَاوَةُ، على التشبيه بذلك، والجَمْع المَطَاهِرُ، قال الكُمَيْتُ ـ يَصف القَطا ـ:

يَحْمِلْنَ قُدّامَ الْجَآ *** جِى في أَسَاقٍ كالمَطَاهِرْ

قلْت: وقَبْلَه:

علق المُوَضَّعَة القَوَا *** ثِمِ بينَ ذِي زَغَبٍ وباثِرْ

كذا قَرأْتُ في كِتَاب الحَمَام الهُدَّى تأْليف الحَسَنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ محمّدِ بنِ يحيَى الكاتِبِ الأَصْبَهَانِيّ.

وقال الجَوْهَرِيّ: المِطْهَرَةُ والمَطْهَرَةُ: الإِداوَةُ، والفَتْحُ أَعلَى.

والمَطْهَرَة: بَيْتٌ يُتَطَهَّر فيهِ يَشْمَل الوُضُوءَ والغُسْلَ والاستِنْجاءَ.

والطَهُورُ، بالفَتْح لمَصْدَرُ، فيما حكى سِيبَويْه من قَوْلهم: تَطَهَّرْتُ طَهُورًا، وتَوَضَّأْتُ وَضُوءًا، ومثْله: وقَدْتُ وَقُودًا.

وقد يكونُ الطَّهُورُ: اسم ما يُتَطَهَّرُ بهِ، كالفُطُورِ السَّحُورِ والوَجُورِ، والسَّعُوطِ.

وقد يكون صِفَةً، كالرَّسُولِ، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابًا طَهُورًا}، تنبيهًا أَنَّه بخِلافِ ما ذُكِرَ في قوله: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ}، قاله المصنّفُ في البَصَائر.

أو الطَّهُورُ: هو الطّاهِرُ في نفْسِه لمُطَهِّرٌ لِغَيْرِه.

قال الأَزْهَرِيّ: وكلّ ما قِيلَ في قَوْله عزَّ وجَلَّ {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا} فإِنّ الطَّهُورَ في اللّغَةِ هو الطّاهِرُ المُطَهِّرُ؛ لأَنّه لا يكونُ طَهُورًا إِلّا وهو يُتَطَهَّرُ بهِ، كالوَضُوءِ: هو الماءُ الذي يُتَوَضَّأُ به، والنَّشُوقِ: ما يُسْتَنْشَقُ به، والفَطُور؛ ما يُفْطَر عليه من شَرَاب أَو طَعَام.

وسُئِلَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم عن ماء البحر فقال: «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتُه» أَي المُطَهِّر، أَراد أَنّه طاهِرٌ يُتَطَهَّرُ به.

وقال الشّافِعيّ، رضي ‌الله‌ عنه: كلُّ ماءٍ خلَقَه الله تعالى نازِلًا من السَّماءِ أَو نابِعًا من الأَرْضِ من عينٍ في الأَرضِ أَو بَحْرٍ، لا صَنْعَةَ فيه لآدَميّ غير الاستِقَاءِ، ولم يُغَيِّرْ لَونَه شيْ‌ءٌ يُخَالِطُه، ولم يَتَغَيَّرْ طَعْمُه منه، فهو طَهُورٌ، كما قال الله تعالى. وما عدا ذلك من ماءِ وَرْدٍ، أَو وَرَقِ شَجَرٍ، أَو ماءٍ يَسيلُ من كَرْمٍ فإِنّه وإِن كَانَ طاهِرًا فليس بطَهورٍ.

وفي التَّهْذِيب للنَّوَوِيِّ: الطَّهُورُ بالفَتْح: ما يُتَطَهَّرُ بهِ، وبالضَّمّ اسمُ الفِعْل، هذه اللغةُ المشهورةُ، وفي أُخرَى: بالفَتْح فيهما، واقتصر عليه جماعاتٌ من كِبَارِ أَئِمّة اللُّغَةِ، وحكَى صاحِبُ مَطَالِعِ الأَنوارِ الضّمَّ فيهما، وهو غَرِيبٌ شاذٌّ، انتهى.

قلْت: وفي الحديث: «لا يَقْبَلُ اللهُ صلاةً بغَيرِ طهُورٍ» قال ابنُ الأَثير: الطُّهُورُ، بالضَّمّ: التَّطَهُّرُ، وبالفَتْح: الماءُ الذي يُتَطَهَّرُ به كالوُضُوءِ والوَضُوءِ، والسُّحُورِ والسَّحُورِ. وقال سيبويه: والطَّهُورُ، بالفَتْح يَقَعُ على الماءِ والمَصْدَرِ مَعًا، قال: فَعَلَى هذا يجوزُ أَن يَكُونَ الحديثُ بفتح الطَّاءِ وضَمّها، والمراد بهما التَّطَهُّرُ.

والماءُ الطَّهُورُ، بالفَتْحِ، هو الذي يَرْفعُ الحَدَثَ ويُزِيل النَّجَس؛ لأَنّ فَعُولًا من أَبنِيَةِ المُبَالَغَةِ، فكأَنّه تَنَاهَى في الطَّهارةِ.

والماءُ الطَّاهِرُ غيرُ الطَّهُورِ: هو الذي لا يَرْفَعُ الحَدَث ولا يُزِيلُ النَّجَسَ، كالمَسْتَعْمَلِ في الوُضوءِ والغُسْلِ.

وفي التَّكْمِلَة: وما حُكِيَ عن ثَعْلَبٍ أَنَّ الطَّهُورَ: ما كانَ طاهِرًا في نفسِه مُطَهِّرًا لغيرِه، إِنْ كانَ هذَا زيادَة بَيَانٍ لنِهَايَتِه في الطَّهَارَةِ، فصَوَابٌ حَسَنٌ، وإِلَّا فليسَ فَعُول من التَّفْعِيلِ في شَيْ‌ءٍ، وقِياسُ هذا على ما هو مُشْتَقٌّ من الأَفْعَالِ المُتعدِّيةِ كقَطُوعٍ ومَنُوعٍ غيرُ سَدِيدٍ انتهى.

وقال المصنِّف في البَصَائِرِ: قال أَصحابُ الشافعيّ: الطَّهُورُ في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا} بمعنَى المُطَهِّر، قال بعضَهُم: هذا لا يَصحُّ من حيثُ اللَّفْظُ، لأَنّ فَعُولًا لا يُبْنَى من أَفْعَلَ وفَعَّلَ، أَجابَ بَعْضُهُم أَنّ ذلك اقتَضَى التَّطْهِيرَ من حيثُ المَعْنَى، وذلِكَ أَن الطَّاهِرَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لا تَتعدّاه الطَّهَارَةُ، كطَهَارةِ الثَّوْبٍ، فإِنَّه طاهِرٌ غيرُ مُطهَّرٍ بهِ، وضَرْبٌ تَتعدّاه فيَجْعَلُ غيرَه طاهرًا به، فوَصَفَ اللهُ الماءَ بأَنَّه طَهُورٌ تَنبِيهًا على هذا المَعْنَى، انتهى.

وقال ابنُ دُرَيْدٍ: يقولون طَهَرَه، كمَنَعَه وطَحَرَه، إِذا أَبْعَدَه، كما يَقُولون: مَدَحَه ومَدَهَه؛ أَي فالحَاءُ فيه بَدَلٌ من الهَاءِ.

وطِهْرَانُ، بالكسر: قرية، بأَصْبَهَانَ و: قرية أُخرَى بالرَّيِّ، على فرسخين منها، وإِلى إِحداهُمَا نُسِب محمّدُ بنِ حَمّاد الطِّهْرَانِيّ، وابنُه عبدُ الرَّحمنِ، وغيرُهما، وقد حَدَّثَا.

ومن المَجَاز: التَّطَهُّر: التَّنَزُّهُ. تطَهَّرَ من الإِثمِ، إِذَا تَنَزَّهَ.

والتَّطَهُّر: الكَفُّ عن الإِثْمِ وما لا يَجْمُلُ.

وهو طاهِرُ الأَثوابِ، والثِّيَابِ: نَزِهٌ مِنْ مَدَانِي الأَخْلَاقِ، وبه فُسِّر قولُه تعالى في مُؤمِنِي قَوْمِ لُوطٍ حِكَايَةً عن قولهم: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أَي يَتَنَزَّهُون عن إِتيانِ الذّكُور، وقيل: عن أَدْبَارِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ.

ورَجلٌ طَهِرُ الخُلُقِ، وطَاهِرُه، والأُنثَى طاهِرَةٌ.

وإِنّه لطَاهِرُ الثِّيَابِ؛ أَي ليس بذِي دَنَسٍ في الأَخْلاقِ، قال اللهُ تعالى: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} قيل: قلْبَك: وقيل: نَفْسَك، وقيل: معناه لا تَكُنْ غادِرًا فتُدَنّسَ ـ ثيابَك، قال ابنُ سِيدَه ويُقَال للغادِر: دَنِسُ الثِّيابِ، وقيل: معناه فَقَصِّرْ؛ فإِنّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرٌ؛ لأَن الثَّوْبَ إِذا انْجَرّ علَى الأَرْضِ لم يُؤْمَنْ أَن تُصِيبَه نَجَاسةٌ، وقِصَرُه يُبْعِدُه من النَّجَاسَةِ، وقيل: مَعْنَاه عَمَلَك فأَصْلِحْ. ورَوَى عِكْرِمَةُ عن ابنِ عبّاس في قوله: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ}: يقول: لا تَلْبَسْ ثيَابَكَ على مَعصِيَة ولا علَى فُجُورٍ وكُفْرٍ، وأَنشدَ قول غَيلانَ.

إِنّي بحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غادِرٍ *** لَبِسْتُ ولا منْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ

واطَّهَّرَ اطَّهُّرًا، أَصْلُه تَطَهَّرَ تَطَهُّرًا، أُدْغِمَت التّاءُ في الطّاءِ، واجْتُلِبَت أَلِفُ الوَصْلِ لئِلّا يُبْتَدَأَ بالساكن، فيَمْتَنِعَ، قاله الصاغانيّ.

وكزُبَيْرٍ: أَحْمَدُ بنُ حَسَنِ بنِ أَسماعِيلَ بن طُهَيْر المَوْصِلِيُّ المُحَدِثُ، سمِعَ يَحْيَى الثَّقَفيّ وغيرَه.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

عن اللِّحْيَانِيّ أَنّ الشاةَ تَقْذَى عَشْرًا ثم تَطْهُر، قال ابنُ سِيدَه. هكذا استعمَلَ اللِّحْيَانِيُّ الطُّهْرَ في الشَّاة، وهو طَرِيفٌ جِدًّا، لا أَدْرِي عن العَرَبِ حَكَاهُ أَم هو أَقْدَمَ عليه.

والطَّهَارَةُ بالفَتْحِ ـ اسمٌ يَقُوم مَقَامَ التَّطَهُّرِ بالماءِ ـ: الاسْتِنْجاءُ والوُضُوءُ، وبالضَّمّ: فَضْلُ ما تَطَهَّرْتَ به.

والسِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ.

ومن المَجَاز: التَّوْبَةُ طَهُورٌ للمُذْنِبِ، قال اللَّيْثُ: هي الَّتي تَكُونُ بإِقامَة الحُدُودِ نحو الرَّجْمِ وغيرِه، وقد طَهَّرَه الحَدُّ.

وقد طَهَّرَ فُلانٌ وَلَدَه، إِذا أَقامَ سُنَّةَ خِتَانِه، والخِتَانُ هو التَّطْهِيرُ، لا ما أَحدَثَه النَّصَارَى من صِبْغَةِ الأَولادِ.

ووَادِي طُهْرٍ، بالضَّمّ: من أَعظَم مَخالِيفِ صَنْعَاءَ، قال أَحمدُ بن مُوسَى حين رُفِع إِلى صَنْعَاءَ وصارَ إِلى نَقِيلِ السَّود:

إِذَا طَلَعْنَا نَقِيلَ السّوْدِ لاحَ لَنَا *** مِن أُفْقِ صَنْعَاءَ مُصْطافٌ ومُرْتَبَعُ

يا حَبَّذَا أَنتِ من صَنْعَاءَ من بَلَدٍ *** وحبّذَا وَادِياك الطُّهْرُ والضِّلَعُ

وَسَمَّوْا طاهِرًا ومُطَهَّرًا وطُهَيْرًا، مصغّرًا.

وأَحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن مُطَاهِرٍ، بالضّمّ صاحِبُ تارِيخِ طُلَيْطِلَةَ، روى عنه عليّ بنُ عبدِ الرحمن بن بقيّ.

والحَرِيمُ الطّاهِرِيّ: نُسِب إِلى بعضِ أَولادِ الأَميرِ طاهِرِ بنِ الحُسَيْنِ، وقد نُسِب إِليه جماعةٌ من المُحَدِّثين، أَوردَهم الحافِظُ في التَّبْصِيرِ، فراجعْه.

وأَطْهَار: موضعٌ من حائِل بين رَمْلَتَيْن بالقُرْبِ من جُرَاد.

وأَبو الحَسَن عليّ بنُ مُقَلّد بن عبدِ الله الأَطْهَرِيّ، نِسْبَة لِبَابِ الأَطْهَرِ: أَحَد العَلَوِيّةِ، كان حاجِبًا له، حَدَّثَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


19-لسان العرب (طهر)

طهر: الطُّهْرُ: نَقِيضُ الحَيْض.

والطُّهْر: نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَالْجَمْعُ أَطْهار.

وَقَدْ طَهَر يَطْهُر وطَهُرَ طُهْرًا وطَهارةً؛ المصدرانِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: طَهَر وطَهُر، بِالضَّمِّ، طَهارةً فِيهِمَا، وطَهَّرْته أَنا تَطْهِيرًا وتطَهَّرْت بِالْمَاءِ، وَرَجُلٌ طاهِر وطَهِرٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: وأَنشد:

أَضَعْتُ المالَ للأَحْساب، حَتَّى ***خَرجْت مُبَرّأً طَهِر الثِّيَابِ

قَالَ ابْنُ جِنِّي: جَاءَ طاهِرٌ عَلَى طَهُر كَمَا جَاءَ شاعرٌ عَلَى شَعُر، ثُمَّ استغنَوْا بِفَاعِلٍ عَنْ فَعِيل، وَهُوَ فِي أَنفسهم وَعَلَى بَالٍ مَنْ تَصَوَّرَهُمْ، يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ تسكيرُهم شَاعِرًا عَلَى شُعَراء، لَمّا كَانَ فاعلٌ هُنَا وَاقِعًا مَوْقِعَ فَعِيل كُسِّر تكسِيرَه لِيَكُونَ ذَلِكَ أَمارةً وَدَلِيلًا عَلَى إِرادته وأَنه مُغْنٍ عَنْهُ وبَدَلٌ مِنْهُ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ أَبو الْحَسَنِ: لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لأَن طَهِيرًا قَدْ جَاءَ فِي شِعْرِ أَبي ذُؤَيْبٍ؛ قَالَ:

فإِن بَنِي، لِحْيان إِمَّا ذَكَرْتُهُمْ، ***نَثاهُمْ، إِذا أَخْنَى اللِّئامُ، طَهِيرُ

قَالَ: كَذَا رَوَاهُ الأَصمعي بَالطَّاءِ وَيُرْوَى ظَهِيرُ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وسيُذكر فِي مَوْضِعِهِ، وَجَمْعُ الطاهرِ أَطْهار وطَهَارَى؛ الأَخيرة نَادِرَةٌ، وثيابٌ طَهارَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كأَنهم جَمَعُوا طَهْرانَ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقِيَّةٌ، ***وأَوْجهُهم، عِنْدَ المَشَاهِد، غُرّانُ

وَجَمْعُ الطَّهِر طهِرُونَ وَلَا يُكسّر.

والطُّهْر: نَقِيضُ الْحَيْضِ، والمرأَة طاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ وطاهِرةٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَمِنَ العُيوبِ، ورجلٌ طاهِرٌ وَرِجَالٌ طاهِرُون ونساءٌ طاهِراتٌ.

ابْنُ سِيدَهْ: طَهَرت المرأَة وطهُرت وطَهِرت اغْتَسَلَتْ مِنَ الْحَيْضِ وغيرِه، وَالْفَتْحُ أَكثر عِنْدَ ثَعْلَبٍ، واسمُ أَيام طُهْرها. وطَهُرت المرأَة، وَهِيَ طاهرٌ: انْقَطَعَ عَنْهَا الدمُ ورأَت

الطُّهْر، فإِذا اغْتَسَلَتْ قِيلَ: تَطَهَّرَت واطَّهَّرت؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَبي الْعَبَّاسِ أَنه قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}؛ وَقُرِئَ: حَتَّى يَطَّهَّرْن؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَالْقِرَاءَةُ يطَّهَّرن لأَن مَنْ قرأَ يَطْهُرن أَراد انْقِطَاعَ الدَّمِ، فإِذا تَطَهَّرْن اغْتَسَلْنَ"، فصَيَّر مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفًا، وَالْوَجْهُ أَن تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُريد بهما جَمِيعًا الْغُسْلَ وَلَا يَحِلُّ المَسِيسُ إِلا بِالِاغْتِسَالِ، ويُصَدِّق ذَلِكَ قراءةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَتَّى يَتَطَهَّرْن "؛ وقال ابْنُ الأَعرابي: طَهَرت المرأَةُ، هُوَ الْكَلَامُ، قَالَ: وَيَجُوزُ طَهُرت، فإِذا تَطَهَّرْن اغتسلْنَ، وَقَدْ تَطَهَّرت المرأَةُ وَاطَّهَرَتْ، فإِذا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قِيلَ: طَهُرت تَطْهُر، فَهِيَ طاهرٌ، بِلَا هَاءٍ، وَذَلِكَ إِذا طَهُرَت مِنَ المَحِيض.

وأَما قَوْلُهُ تعالى: {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}؛ فإِن مَعْنَاهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ، نَزَلَتْ فِي الأَنصار وَكَانُوا إِذا أَحْدَثوا أَتْبَعُوا الْحِجَارَةَ بِالْمَاءِ فأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}؛ أَي أَحَلُّ لَكُمْ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ}؛ يَعْنِي مِنَ الْحَيْضِ وَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ؛ قَالَ أَبو إِسحق: مَعْنَاهُ أَنهنّ لَا يَحْتَجْنَ إِلى مَا يَحْتاجُ إِليه نِساءُ أَهل الدُّنْيَا بَعْدَ الأَكل وَالشُّرْبِ، وَلَا يَحِضْن وَلَا يَحْتَجْنَ إِلى مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، وهُنَّ مَعَ ذَلِكَ طاهراتٌ طَهارَةَ الأَخْلاقِ والعِفَّة، فمُطَهَّرة تَجْمع الطهارةَ كُلَّهَا لأَن مُطَهَّرة أَبلغ فِي الْكَلَامِ مِنْ طَاهِرَةٍ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ}؛ قال أَبو إِسحق: مَعْنَاهُ طَهِّراهُ مِنْ تَعْلِيقِ الأَصْنام عَلَيْهِ؛ الأَزهري فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ"، يَعْنِي مِنَ الْمَعَاصِي والأَفعال المُحَرَّمة.

وَقَوْلُهُ تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}؛ مِنَ الأَدْناس وَالْبَاطِلِ.

وَاسْتَعْمَلَ اللِّحْيَانِيُّ الطُّهْرَ فِي الشَّاةِ فَقَالَ: إِن الشَّاةَ تَقْذَى عَشْرًا ثُمَّ تَطْهُر؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا طَريفٌ جِدًّا، لَا أَدْرِي عَنِ الْعَرَبِ حَكَاهُ أَمْ هُوَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ.

وتَطَهَّرت المرأَة: اغْتَسَلَتْ.

وطَهَّره بِالْمَاءِ: غَسَلَه، واسمُ الْمَاءِ الطَّهُور.

وكلُّ مَاءٍ نَظِيفٍ: طَهُورٌ، وَمَاءٌ طَهُور أَي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وكلُّ طَهورٍ طاهرٌ، وَلَيْسَ كلُّ طاهرٍ طَهورًا.

قَالَ الأَزهري: وَكُلُّ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا}؛ فإِن الطَّهُورَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطاهرُ المُطَهِّرُ، لأَنه لَا يَكُونُ طَهورًا إِلا وَهُوَ يُتَطهّر بِهِ، كالوَضُوء هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوضَّأُ بِهِ، والنَّشُوق مَا يُسْتَنْشق بِهِ، والفَطُور مَا يُفْطَر عَلَيْهِ منْ شَرَابٍ أَو طَعَامٍ.

وسُئِل رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى الله عليه وسلم، عن مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُور مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُه "؛ أَي المُطَهِّر، أَراد أَنه طَاهِرٌ يُطَهِّر.

وَقَالَ" الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كلُّ مَاءٍ خَلَقَه اللَّهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ أَو نَابِعًا مِنْ عَيْنٍ فِي الأَرض أَو بحْرٍ لَا صَنْعة فِيهِ لآدَميٍّ غَيْرَ الاسْتِقاء، وَلَمْ يُغَيِّر لَوْنَه شيءٌ يخالِطُه وَلَمْ يَتَغَيَّرْ طعمُه مِنْهُ، فَهُوَ طَهُور، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاءِ وَرْدٍ أَو وَرَقٍ شجرٍ أَو ماءٍ يَسيل مِنْ كَرْم فإِنه، وإِن كَانَ طَاهِرًا، فَلَيْسَ بطَهُور.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ»، قَالَ ابْنُ الأَثير: الطُّهور، بِالضَّمِّ، التطهُّرُ، وَبِالْفَتْحِ: الماءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ كالوَضُوء.

والوُضوء والسَّحُور والسُّحُور؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الطَّهور، بِالْفَتْحِ، يَقَعُ عَلَى الْمَاءِ والمَصْدر مَعًا، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ الْحَدِيثُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا، وَالْمُرَادُ بِهِمَا التَّطَهُّرُ.

وَالْمَاءُ الطَّهُور، بِالْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الحدَث ويُزِيل النجَسَ لأَن فَعُولًامِنْ أَبنية المُبالَغة فكأَنه تَنَاهى فِي الطَّهَارَةِ.

والماءُ الطاهر غير الطَّهُور، وهو الذي لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس كالمُسْتَعْمَل فِي الوُضوء والغُسْل.

والمِطْهَرةُ: الإِناءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ ويُتَطَهَّر بِهِ.

والمِطْهَرةُ: الإِداوةُ، عَلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ، وَالْجَمْعُ المَطَاهِرُ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ الْقَطَا:

يَحْمِلْنَ قُدَّامَ الجَآجِي ***فِي أَساقٍ كالمَطاهِرْ

وكلُّ إِناء يُتَطَهَّر مِنْهُ مِثْلُ سَطْل أَو رَكْوة، فَهُوَ مِطْهَرةٌ.

الْجَوْهَرِيُّ: والمَطْهَرَةُ والمِطْهَرة الإِداوةُ، وَالْفَتْحُ أَعلى.

والمِطْهَرَةُ: الْبَيْتُ الَّذِي يُتَطَهّر فِيهِ.

والطَّهارةُ، اسمٌ يَقُومُ مَقَامَ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ: الاستنجاءُ والوُضوءُ.

والطُّهارةُ: فَضْلُ مَا تَطَهَّرت بِهِ.

والتَّطَهُّرُ: التنزُّه والكَفُّ عَنِ الإِثم وَمَا لَا يَجْمُل.

وَرَجُلٌ طاهرُ الثِّيَابِ أَي مُنَزَّه؛ وَمِنْهُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذِكْرِ قَوْمِ لُوطٍ وقَوْلِهم فِي مُؤمِني قومِ لُوطٍ: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ}؛ أَي يتنزَّهُون عَنْ إِتْيان الذُّكُورِ، وَقِيلَ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَدْبار الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ قالهُ قَوْمُ لُوطٍ تهكُّمًا.

والتطَهُّر: التنزُّه عَمَّا لَا يَحِلُّ؛ وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرون أَي يتنزَّهُون مِنَ الأَدناسِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «السِّواكُ مَطْهرةٌ لِلْفَمِ».

وَرَجُلٌ طَهِرُ الخُلُقِ وطاهرُه، والأُنثى طَاهِرَةٌ، وإِنه لَطاهرُ الثيابِ أَي لَيْسَ بِذِي دَنَسٍ فِي الأَخْلاق.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الثِّياب إِذا لَمْ يَكُنْ دَنِسَ الأَخْلاق؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: " ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيّةٌ وَقَوْلُهُ تعالى: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ}؛ مَعْنَاهُ وقَلْبَك فَطهِّر؛ وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:

فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيابَه، ***لَيْسَ الكَريمُ عَلَى القَنا بِمُحَرَّمِ

أَي قَلْبَه، وَقِيلَ: مَعْنَى وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، أَي نَفْسَك؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَكُنْ غادِرًا فتُدَنِّسَ ثيابَك فإِن الْغَادِرَ دَنِسُ الثِّياب.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَيُقَالُ لِلْغَادِرِ دَنِسُ الثِّيَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَثِيَابُكَ فقَصِّر فإِن تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرٌ لأَن الثَّوْبَ إِذا انْجرَّ عَلَى الأَرض لَمْ يُؤْمَنْ أَن تصيبَه نجاسةٌ، وقِصَرُه يُبْعِدُه مِنَ النَّجَاسَةِ؛ والتَّوْبةُ الَّتِي تَكُونُ بإِقامة الْحَدِّ كالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ: طَهُورٌ للمُذْنِب؛ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، يَقُولُ: عَملَك فأَصْلِح؛ " وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، يَقُولُ: لَا تَلْبَسْ ثِيابَك عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى فجُورٍ وكُفْرٍ "؛ وأَنشد قَوْلَ غَيْلَانَ:

إِني بِحَمْد اللَّهِ، لَا ثوبَ غادِرٍ ***لَبِستُ، وَلَا مِنْ خِزْيةٍ أَتَقَنَّع

اللَّيْثُ: والتوبةُ الَّتِي تَكُونُ بإِقامة الحُدُود نَحْوِ الرَّجْم وَغَيْرِهِ طَهُورٌ للمُذنب تُطَهِّرُه تَطْهيرًا، وَقَدْ طَهّرَه الحدُّ وَقَوْلُهُ تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}؛ يَعْنِي بِهِ الكِتَابَ لَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ عَنَى بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وكلُّه عَلَى المَثَل، وَقِيلَ: لَا يمسُّه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلا الْمَلَائِكَةُ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}؛ أَي أَن يَهدِيَهم.

وأَما قَوْلُهُ: طَهَرَه إِذا أَبْعَدَه، فَالْهَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْحَاءِ فِي طَحَره؛ كَمَا قَالُوا مدَهَه فِي مَعْنَى مَدَحَه.

وطهَّر فلانٌ ولَدَه إِذا أَقام سُنَّةَ خِتانه، وإِنما سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ تَطْهِيرًا لأَن النَّصَارَى لَمَّا تَرَكُوا سُنَّةَ الخِتانِغَمَسُوا أَوْلادَهم فِي مَاءٍ صُبِغَ بِصُفْرةٍ يُصَفّرُ لونَ الْمَوْلُودِ وَقَالُوا: هَذِهِ طُهْرَةُ أَوْلادِنا الَّتِي أُمِرْنا بِهَا، فأَنْزل اللَّهُ تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}؛ أَي اتَّبِعُوا دِينَ اللهِ وفِطْرَتَه وأَمْرَه لَا صِبْغَةَ النَّصَارَى، فالخِتانُ هُوَ التطهِيرُ لَا مَا أَحْدَثَه النَّصَارَى مِنْ صِبْغَةِ الأَوْلادِ.

وَفِي حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ: «إِني أُطِيلُ ذَيْلي وأَمْشِي فِي الْمَكَانِ القَذِر، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُطَهِّرُه مَا بَعْدَهُ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ خَاصٌّ فِيمَا كَانَ يَابِسًا لَا يَعْلَقُ بِالثَّوْبِ مِنْهُ شَيْءٌ، فأَما إِذا كَانَ رَطْبًا فَلَا يَطْهُر إِلا بالغَسْل؛ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ أَن يَطَأَ الأَرضَ القَذِرَة ثُمَّ يَطأَ الأَرضَ اليابسةَ النَّظِيفةَ فإِنَّ بَعْضَهَا يُطَهِّرُ بَعْضًا، فأَما النجاسةُ مِثْلُ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ تُصِيب الثَّوْبَ أَو بعضَ الْجَسَدِ، فإِن ذَلِكَ لَا يُطَهَّرُه إِلا الماءُ إِجماعًا؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَفِي إِسناد هَذَا الْحَدِيثِ مَقالٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


20-تهذيب اللغة (طهر)

طهر: قال الليث: الطَّهْر: نَقيض الْحَيض.

يقال: طَهَرت المرأةُ، وطَهُرتْ فهي طاهِرٌ: إذا انقطع عنها الدَّم، ورأتِ الطُّهر.

قال فإذا اغتسلت قيل: تطهَّرت، واطَّهَرَت.

قال الله جلّ وعزّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المَائدة: 6].

وأخبرني المنذريّ، عن أبي العبَّاس أنه قال في قول الله: جلّ وعزّ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البَقَرَة: 222] وقرىء {حتى يَطَّهَّرْن}.

.

قال أبو العبَّاس: والقراءةُ {يطَّهَّرْنَ}؛ لأنَّ من قرأ {يَطْهُرْنَ} أراد انقطاع الدم، {فَإِذا تَطَهَّرْنَ}: اغْتَسَلْنَ، فيصير معناهما مختلفا.

والوجهُ أن تكون الكلمتان بمعنى واحد، يريد بهما جميعًا الغُسْلَ، ولا يحلُّ المَسِيسُ إلّا بالاغتسال، ويُصدِّق ذلك قراءة ابن مسعود: (حتى يتطهرن).

قال: وقال ابنُ الأعرابي: طَهَرتِ المرأة هو الكلام، ويجوز طَهُرَت، وأما قول الله جلّ وعزّ: {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] فإنّ معناه الاستنجاء بالماء، نزلت في الأنصار، وكانوا إذا أَحْدَثُوا أَتْبعُوا الحجارةَ بالماء، فأثنى الله جلَّ وعزَّ عليهم بذلك.

وقال الليث: التطهُّر: التنزَّه عن الإثم وما لا يحمد.

ومنه قول الله عزوجل في ذكر قوم لُوط وقولِهم في مؤمني قوم لوط: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعرَاف: 82] أي يتنزهون عن إتيان الذُّكران.

ويقال: فلانٌ طاهر الثياب: إذا لم يكن دَنِسَ الأخلاق.

وقال امرؤ القيس:

ثِيَابُ بني عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ *** وأوجُهُهُمْ بِيضُ المَسافِرِ غُرّانُ

وقول الله عزوجل: {وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} [آل عِمرَان: 15] يعني من الحيض والبول والغائط، وماء طَهُور: أي يُتَطَهَّر به، وكما تقول: وَضُوء، للماء الذي يُتَوَضَّأ منه، وكلُ طَهُورٍ طاهِرٌ، وليس كلّ طاهر طَهُورًا.

{فَإِذا تَطَهَّرْنَ} [البَقَرَة: 222]: اغتسلْنَ، وقد تطَهَّرَت المرأة، واطّهرت، فإذا انقطع عنها الدم قيل: طَهَرت تطهُر فهي طاهر بلا هاء.

وقوله عزوجل: {هُنَ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هُود: 78]: أي أحَلُّ لكم، والتطهُّرُ: التنزُّه عمّا لا يحلُّ، ومنه قوله: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعرَاف: 82]: أي يتنزهون عن أدبار النساء والرجال، قاله في قوم لوط تهكّمًا، وقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ} [البَقَرَة: 125] يعني من المعاصي، والأفعال المحرَّمة.

وقال الفرَّاء في قول الله جلّ وعزّ: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} [المدَّثَّر: 4]: قال بعضُ المفسِّرين: يقول: لا تكن غادِرًا فتُدنِّسَ ثيابك، فإنّ الغادر دَنِسُ الثّياب، وقيل معنى قوله: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} [المدَّثَّر: 4] يقول: عَمَلَك فأَصْلِحْ.

وقال بعضهم: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} [المدَّثَّر: 4]: أي قَصِّرْ، فإنَّ تقصير الثِّياب طُهرٌ.

ورَوى عِكرمة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} [المدَّثَّر: 4] يقول: لا تَلْبَس ثيابَك على معصية ولا فُجور وكُفر، وأنشد قولَ غَيْلَان:

إنِّي بحَمْدِ الله لا ثَوْبَ غادرٍ *** لَبِسْتُ ولا مِن خَزْيةٍ أَتَقنَّعُ

قلت: وكلّ ما قيل في قوله عزوجل: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فهو صحيح من جهة اللُّغة، ومعانيها متقاربة، والله أعلم بما أراد.

وأمّا قول الله جلّ وعزّ: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا} [الفُرقان: 48] فإنَ الطَّهُور في اللغة هو الطَّاهر المطهِّر، لأنّه لا يكون طَهورًا إلّا وهو يُتطهَّر به، كالوضوء: الماءُ الذي يُتَوضّأ به، والنَّشُوقِ: ما يُسْتنشَق به، والفَطُورِ ما يُفطَرُ عليه من شرابٍ أو طعامٍ.

وسُئل النبيُّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم عن ماءِ البحر فقال: «هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُه»: أراد أنَّه طاهر يُتطهر به.

وقال الشافعيّ: كلُّ ماءٍ خَلقه الله نازِلًا من السماء أو نابِعًا من عَين في الأرض أو بحرٍ لا صَنعةَ فيه لآدمِيّ غير الاسْتِقاء، ولم يُغيِّرْ لَونَه شيءٌ يُخالطُه، ولم يَتغير طعمُه منه فهو طهور، كما قال الله جلّ وعزّ: قال: وما عدا ذلك من ماءٍ وَرْدٍ أو وَرَقِ شَجَرٍ أو ماءِ يَسِيلُ من كَرْمٍ، فإنه وإن كان طاهرًا فليس بطهور.

وقال الليث: والتوبة التي تكون بإقامة الحدود نحوَ الرَّجْم وغيره طهَورٌ للمُذنِب تُطهِّره تطهيرًا.

وقال: وجمع طُهْرِ النّساء: أطهار.

وقال في قوله جلَّ وعزَّ: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقِعَة: 79] يعني به الكتاب لا يمسه إلا الملائكة.

وقال أبو إسحاق: قال المفسِّرون في قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقِعَة: 79] عُنِيَ بها الملائكة: أي لا يمَسُّه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة.

وقال غيره: يقال طَهَّرَ فلانٌ ولَدَه: إذا أقام سُنَّةَ خِتَان؛ وإنما سَّمَاه المسلمون تطهيرًا لأن النَصارى لما تَرَكُوا سنّة الخِتان غَمَسوا أولادَهم في ماءٍ فيه صِبْغٌ يُصَفِّر لَوْنَ المولود، وقالوا: هذا طُهْرَةُ أولادنا التي أُمِرْنا بها، فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} [البَقَرَة: 138] أي اتّبعوا دينَ الله وفِطْرَتَه وأمرَه، لا صِبْغة النصارى، فالخِتان هو التطهير، لا ما أَحْدَثه النّصارى في صِبغة الأولاد.

والمِطْهَرة: الإداوة، وجمعُها المطاهر، وكلُّ إناءٍ يُتَطَهَّر منه مِثل قُوَسٍ أو رَكْوَة أو قَدَحٍ فهو مِطْهَرة، وامرأة طاهرٌ بغير هاء إذا طهرتْ من الحيض، وامرأة طاهرة إذا كانت نقيةً من العيوب، ورجل طاهر، ورجالٌ طاهرون، ونساءٌ طاهراتٌ وطواهر، والطّهارة: اسمٌ يقوم مَقامَ التطهُّر بالماء في الاستنجاء والوضوء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


21-معجم العين (طهر)

طهر: الطُّهْرُ: نَقيضُ الحَيْض.

يقال: طَهَرَتِ المرأةُ وطَهُرَت- لغتان، فهي طاهر.

إذا انقطع، وهي ذات طُهْر.

وتَطَهَّرَتْ، أي: اغتسلت وأَطْهَرَتْ.

والاطَّهارُ: الاغتِسال في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وقوله

عزّ وجلّ: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا

يعني: الاستِنْجاء بالماء.

والتَّطَهُّر أيضا: التَّنَزُّهَ والكفُّ عن الإِثْمِ.

وفلانٌ طاهرُ الثِّياب، أي: ليس بصاحبِ دَنَسٍ في الأَخْلاق، قال:

ثياب بني عَوْفٍ طَهَارَى نقّيةٌ *** وأوجُهُهُم بيضُ المَسافِرِ غُرّانُ

أخرجه على سُودان وحُمران.

والطَّهُور: اسم للماء الذي يُتَطَهَّرُ به، كالوضُوء للماء الذي يُتَوَضَّأُ به.

وكلّ ماء نظيف اسمه طهُور.

والتّوبة التي تكون بإقامة الحدود: طَهُور للمُذْنب تُطَهِّره تطهيرا.

والمِطَهْرةُ إناءٌ من الأَدَم يُتّخذ للماء.

والطَّهارةُ: فضلُ ما تطهَّرت به.

والعَرَبُ تجمَعُ طُهْر النِّساء: أطهارًا، وهي أيّامُها التي لا تحيض فيها، قال

قومٌ إذا حاربوا شَدُّوا ماذِرَهُمْ *** دونَ النّساء ولو بانت بأطهارِ

وقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، أي: الملائكة، يعني الكتاب.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com