نتائج البحث عن (بِإِخْبَارٍ)
1-العربية المعاصرة (حس)
حسَّ حَسَسْتُ، يَحُسّ ويَحِسّ، احْسُسْ/حُسَّ واحسِسْ/حِسّ، حَسًّا، فهو حاسّ، والمفعول مَحْسوس.* حسَّ فلانًا: قتله قتلًا ذريعًا مستأصِلًا رأسَه (حَسَسْتُ اليهوديَّ لما أظهر عداوتَه لله ودينه- {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [قرآن]).
حسَّ/حسَّ ب حَسَسْتُ، يَحُسّ ويَحِسّ، احْسُسُ/حُسَّ واحسِسْ/حِسّ، حَسًّا وحَسِيسًا، فهو حاسّ، والمفعول مَحْسوس.
* حسَّ الشَّيءَ/حسَّ بالشَّيءِ: أدركه بإحدى حواسِّه، علمه وشعر به (حسَّ بالقلق- قدّم للقاضي دلائلَ محسوسة على براءته- {هَلْ تَحُسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [قرآن]: وقرئت كذلك بالكسر (تَحِسُّ)) (*) تقدُّم محسوس: ملموس واضح- حسَّ في قلبه بالأمر: حدَّثته به نفسه- نتائج محسوسة: ظاهرة.
حسَّ ل حَسَسْتُ، يَحِسّ، احْسِسْ/حِسَّ، حِسًّا وحَسًّا، فهو حاسّ، والمفعول مَحْسوس له.
* حسَّ لصديقه: تألَّم لألمه وعطف عليه (حَسَسْتُ لأطفال فلسطين وما يلاقونه).
أحسَّ/أحسَّ ب يُحِسّ، أحْسِسْ/أحِسَّ، إحْساسًا، فهو مُحِسّ، والمفعول مُحَسّ.
* أحسَّ الخبرَ/أحسَّ بالخبر:
1 - عَلِمَ به، وعرَف منه طرَفًا، شعَر (أحسَّ بما يُدبَّر له- قدّم دلائلَ مُحسَّة على براءته- {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [قرآن]).
2 - أدركه يإحْدى الحواسّ وشعر به (أحسَّ بالجوع والبَرْد- أذُن تُحِسُّ الخطر- {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [قرآن]).
تحسَّسَ/تحسَّسَ ل/تحسَّسَ من يتحسَّس، تحسُّسًا، فهو مُتحسِّس، والمفعول مُتحسَّس.
* تحسَّس الخبرَ: تتبّعه، تطلَّب معرفتَه وسعى في إدراكه.
* تحسَّس الشَّيءَ: تفحَّصَه أو لمسه للتعرُّف عليه (تحسَّس القماشَ ليعرف نوعَه ودرجةَ جودته- تحسَّس جيَبه بحثًا عن المفتاح- تحسَّس قوَّةَ فلان).
* تحسَّس للقوم: سعى لهم بجمع الأخبار (يتحسّس الجاسوس لقومه بأخبار العدُوّ).
* تحسَّس من فلان: تعرف منه وتتبّع أخبارَه (تحسَّس من القوم- {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [قرآن]).
حسَّسَ/حسَّسَ على يحسِّس، تحسيسًا، فهو مُحَسِّس، والمفعول مُحَسَّس.
* حسَّس فلانًا بأهمِّيَّة الوقت: حمله على تقديرها والشعُّور الكامل بها (حسَّستِ الصّحافةُ الجماهيرَ بخطورة الموقف- حسَّس ولدَه بالتركيز في مذاكرته).
* حسَّس على جسده: جسَّه، مسَّه، تلمَّسه.
إحساس [مفرد]: جمعه إحساسات (لغير المصدر) وأحاسيسُ (لغير المصدر):
1 - مصدر أحسَّ/أحسَّ ب (*) إحساس داخليّ: نابع من الدّاخل كالجوع والعطش وآلام الرأس وغيرها- إحساس مشترك/إحساس متبادل: شعور بالانسجام والاتِّفاق والتفاهم- عديم الإحساس/مجرّد من الإحساس: متبلِّد، ثقيل لا يقدِّر- قلَّة الإحساس: بلادة.
2 - ظاهرة فسيولوجيّة سيكولوجيّة متولَّدة من تأثّر إحدى الحواسّ بمؤثِّرٍ ما (الأدب يعبِّر عن أحاسيس المجتمع واتِّجاهاته- إنّه رقيق الإحساس).
* قياس الإحساس: [في علوم النفس] فرع من علم النفس البدنيّ يقيس متغيِّرات الإحساس بالنِّسبة إلى متغيِّرات المنبِّهات.
إحْساسِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إحساس.
* الطَّائفة الإحساسيَّة: [في الثقافة والفنون] رسَّامون أو كتَّاب يقولون بالانطباعيَّة، أي يبرزون ما يشعرون به من انطباعات، ويطرحون التَّفاصيل جانبًا.
تحسُّس [مفرد]: مصدر تحسَّسَ/تحسَّسَ ل/تحسَّسَ من.
* التَّحسُّس الضَّوئيّ: [في الطب] حساسية البشرة للضوء وللإشعاع فوق البنفسجيّ الناتج عن اختلالات أو موادّ كيميائيَّة معيَّنة.
تحسيس [مفرد]:
1 - مصدر حسَّسَ/حسَّسَ على.
2 - تنبيه الحِسّ في عضو ما، أو إيجاد الحساسيّة.
حاسَّة [مفرد]: جمعه حَواسُّ:
1 - صيغة المؤنَّث لفاعل حسَّ ل وحسَّ وحسَّ/حسَّ ب.
2 - قوّة طبيعيّة لها اتِّصال بأجهزة جسميّة بها يدرك الإنسان والحيوان ما يطرأ على جسمه من التَّغيُّرات، ملكة الإحساس (استعاد نشاط حواسّه- ذو حاسّة مرهفة/حادّة: حسّاس- يفتقر إلى حاسَّة التّمييز السّياسيّ) (*) الحاسَّة السَّادسة: الحَدْس- الحواسُّ الخمس: البصر والسَّمع والتذوّق والشَّمّ واللَّمس- حاسّة الشَّمّ: التي تُدرك من خلالها الروائحُ- حواسّ مرهفة: حادّة يمكنها التقاط أدقّ الأشياء وأضعفها- عديم الحاسَّة: جافٍ قاسي القلب- ملك عليه حَواسَّه: شغله وأثَّر فيه.
حُساس [جمع]: مفرده حُسَاسة: [في الحيوان] سمكٌ صغير يصل طوله إلى عشرة سنتيمترات، يوجد بالبَحْرين يجفَّف حتى لا يبقى فيه شيء من مائه.
حَسَاسِيَة [مفرد]: (انظر: ح س س - حَسَّاسيَّة).
حَسَاسِيَّة [مفرد]: (انظر: ح س س - حَسَّاسيَّة).
حَسّ [مفرد]: مصدر حسَّ ل وحسَّ وحسَّ/حسَّ ب.
* عُضو الحَسّ: عُضو أو بناء مُتَخَصِّص كالعين أو الأذن أو اللِّسان أو الأنف أو البشرة تعمل كعضو استقبال حِسِّيّ.
حِسّ [مفرد]: جمعه حُسوس (لغير المصدر):
1 - مصدر حسَّ ل (*) حِسّ مرهف- قليل الحِسّ: عديم التّبصُّر.
2 - إدراك بإحدى الحواسّ (حِسٌّ بالبرد- حِسّ صائب) (*) تشّوُّش الحِسّ: إحساس بالحَذَر من غير سبب ظاهر- حِسٌّ باطن: شعور باطن- حِسٌّ باطنيّ: شعور حدسيّ قويّ بأنّ شيئًا سيحدُث- حِسٌّ خُلُقيّ: ضمير يميِّز بين الخير والشَّرِّ- حِسٌّ داخليّ: شعور يجعل المرءَ يتوقَّع ما لا بدّ من حصوله- حِسٌّ علميّ: قدرة على فهم الوقائع- حِسٌّ فَنّيّ: ذوق مرهف، مَلَكة فنيّة- حِسّ متزامن: تداعٍ تلقائيّ يبيِّن إحساساتٍ ذاتَ طبيعة مختلفة- حِسٌّ سياسيّ- صدق الحِسّ: صدق الإدراك- لُطْف الحِسّ: دقَّة الإدراك- ملك عليه حِسَّه: انشغل به.
3 - صوت خفيّ (تلفَّت الرجلُ حوله فلم يبصر شيئًا ولم يسمع حِسًّا) (*) لا أسكت الله لك حِسًّا: دعاء له بالحياة، أطال الله بقاءَك.
4 - حديث القلب وشعور داخليّ.
5 - دويّ الصَّوت (حِسّ قصف).
* عُضو الحِسّ: العين أو الأذن أو اللِّسان أو الأنف أو البشرة.
حَسّاس [مفرد]:
1 - صيغة مبالغة من حسَّ/حسَّ ب: كثير التَّأثّر بالعوارض الخارجيّة (هو حسّاس للبرد) (*) أذن حَسّاسة: مرهفة الحِسّ تُحِسّ بالخطر- جهاز حسّاس: شديد التّأثّر بالتّغيّرات- لقطة حسّاسة- مكان حسّاس: أحد أماكن الجسم التي لا يَحسُن التّصريح بها- مَوْضوع حسّاس: لا يمكن مناقشتُه بصراحة أمام الجمهور- ميزان حسّاس: يزن أدقّ الأوزان- ورق حسّاس: ورق للتصوير سريع التَّأثُّر- يَضرب على الوتر الحسّاس: يتكلَّم بما هو أكثر أهميّة وتأثيرًا.
2 - سريع الانفعال (أصبح حسّاسًا غير قادر على تحمُّل المزاح).
3 - مُرْهف الحِسّ (شاعرٌ/فنّانٌ حسّاس).
* حسَّاس للضَّوء: [في الطبيعة والفيزياء] وصف للمادّة التي يحدث فيها تغيُّر كيميائيّ أو ينبعث منها الضَّوء نتيجة امتصاصها له.
حَسّاسَة [جمع]: [في النبات] جنس نبات مُعَمَّر برّيّ وتزيينيّ، من فصيلة القَرْنيَّات، ساقه وفروعه دقيقة، أوراقه ريشيّة مركَّبة، أزهاره ورديّة أو حمراء اللَّون، يُزرع لغرابته وفرط حساسيّته، تنطبق وريقاتُه بعضُها على بعض من اللَّمس.
حَسَّاسيَّة [مفرد]:
1 - مصدر صناعيّ من حَسّاس: وتخفّف سينها، قوّة الشّعور بالأحوال الانفعاليّة كاللَّذات والآلام (حساسيَّة شعور).
2 - سرعة التَّهيّج (راعى حساسيَّة صديقه).
3 - شعور متعاطف مع الغير (يمتلك الشَّاعر حساسيّة مرهفة).
4 - دقَّة الإحساس (حساسية لوحة تصوير- يستخدم تُجَّار الذَّهب ميزانًا شديد الحساسيّة).
5 - استعداد للتأثُّر بالعوارض الخارجيّة (حساسيَّته للبرد شديدة) (*) حَساسيَّة ضوئيّة: استجابة للضوء.
6 - [في الطب] شدة تأثر جسم الإنسان بموادّ مُعيَّنة مثل غُبار الطَّلع، أو بعض الأطعمة، وعادة ما تسبِّب العطس والحكَّة والطَّفح الجلدي.
7 - [في الطبيعة والفيزياء] درجة استجابة لوح أو فيلم للضوء وخاصةً لضوء ذي طول موجيّ معيّن.
* اختبار الحساسيَّة: [في الطب] اختبار لبيان مدى التَّأثُّر بدواء مُعيّن أو بمرض مُعْدٍ بوضع لزقات على الجلد أو بإحداث خدوش جلديّة وتعريضِها لجرعاتٍ تُسَبِّبُ المرض أو العدوى.
* مقياس الحساسيَّة: جهاز لقياس حساسية الضَّوء كالفيلم الفوتوغرافي.
حِسِّيّ [مفرد]: جمعه حِسِّيّات:
1 - اسم منسوب إلى حِسّ.
2 - محسوس، ما يُدرك بالحواسّ ويقابله المعنويّ (دليل/شيءٌ حِسِّيّ) (*) بُرهان حِسِّيّ: ساطع كأنّك تُحِسّ به.
3 - مُنْغَمِس في الملذَّات الحسّيّة أو الشّهوانيّة.
4 - ما يحرِّك الحواس (حبّ حسيّ).
* المذهب الحسِّيّ: [في الفلسفة والتصوُّف] مذهب القائلين بأنّ المعرفة لا تنشأ إلاّ عن الإحساس.
* عصبيّ حِسِّيّ: متعلِّق أو متضمِّن الأعصاب الحسِّيَّة وخاصَّة التي تؤثِّر على السَّمع.
* الأعضاء الحسِّيَّة: أعضاء الحِسِّ.
حِسِّيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى حِسّ.
2 - مصدر صناعيّ من حِسّ: شهوانيَّة.
حسيس [مفرد]:
1 - مصدر حسَّ/حسَّ ب.
2 - حِسّ، صوت خفيّ تسمعه يتحرّك قريبًا منك ولا تراه (سمع حسيسًا- {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [قرآن]: صوت تلهُّب النّار) (*) لا حِسَّ ولا حَسيس: هدوء شديد.
3 - قويّ الإحساس.
مِحَسَّة [مفرد]: جمعه مَحاسّ: اسم آلة من حسَّ1: آلة مؤلَّفة من صفائح معدنيّة متوازية صغيرة محزَّزة مركَّبة على لوح وفيها مقبض تُستخدم لتنظيف جلد الحيوان.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (خبر)
خبَرَ يَخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خابِر وخبير، والمفعول مَخْبور.* خبَر الحياةَ: علِمها وعرَف حقيقتَها عن تجربة (لقد خَبَرْتك وعرفت صدقَ طويّتك- {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [قرآن]) (*) مِنْ أين خَبَرْت هذا الأمر؟: أي من أين عرفت حقيقتَه؟.
* خبَرَ الرَّجُلَ: اختبره، امتحنه ليعرفَ حقيقتَه.
خبُرَ/خبُرَ ب يخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خبير، والمفعول مَخْبُور به.
* خبُر الشَّخصُ: صار خبيرًا.
* خبُر بالأمرِ: عرفه معرفة جيِّدة (صاحب الكلام أخبر بمعناه- {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [قرآن]).
خبِرَ يَخبِر، خَبَرًا، فهو خابر، والمفعول مَخْبور.
* خبِر الشَّيءَ والشَّخصَ: علمه وعرفه على حقيقته.
أخبرَ يُخبر، إخبارًا، فهو مُخبِر، والمفعول مُخبَر.
* أخبره وقائع المؤتمر/أخبره بوقائع المؤتمر/أخبره عن وقائع المؤتمر: أعلمه وأنبأه بها (أخبر شخصًا بالتفاصيل- أخبرني عن جليّة الأمر: حقيقته).
اختبرَ يختبر، اختبارًا، فهو مختبِر، والمفعول مختبَر.
* اختبر الدَّواءَ: جرَّبه، أخضعه للاختبار، فحصه ليعرف حقيقتَه (اختبر السِّلاحَ).
* اختبر الشَّخصَ: امتحنه (اختبره في القراءة/الكتابة/القيادة/المعلومات العامّة- عقد المدرس اختبارًا مفاجئًا لطلابه).
* اختبر اللهُ النَّاسَ: ابتلاهم امتحانًا لقوّة إيمانهم، وهو أعلم بها.
استخبرَ يستخبر، استخبارًا، فهو مستخبِر، والمفعول مستخبَر.
* استخبره عن الأمر: طلب منه أن يخبره حقيقتَه، سأله عنه والتمس معرفتَه (استخبره عن صحّة/أحوال أبيه- استخبره عمّا يجري في فلسطين).
تخابرَ يتخابر، تخابُرًا، فهو متخابِر.
* تخابر مع صديقه: تبادل معه الأخبارَ (تخابر الشخصان هاتفيًّا- قُبض عليه بتهمة التخابر مع دولة أجنبيّة: بتهمة إمدادها بمعلومات عن بلده).
تخبَّرَ يتخبَّر، تخبُّرًا، فهو متخبِّر، والمفعول متخبَّر.
* تخبَّر الأمرَ: تعرَّفه على حقيقته.
خابرَ يخابر، مُخابَرَةً، فهو مخابِر، والمفعول مخابَر.
* خابر صديقَه:
1 - باحثه، بادله الأخبار (خابره في الأمر فوجد لديه كلّ تفهُّم).
2 - كالمه، اتّصل به هاتفيًّا (أرجو أن تخابرني حال نجاحك).
* خابر المالكُ الفلاَّحَ: [في القانون] سلّمه أرضَه لاستثمارها على نصيب معيّن كالثلث والربع وغيرهما، شاركه في زراعة أرض على نصيب معيَّن.
خبَّرَ يخبِّر، تخبيرًا، فهو مخبِّر، والمفعول مخبَّر.
* خبَّره الأمرَ/خبَّره بالأمر/خبَّره عن الأمر: أخبره به، أعلمه إيّاه وأبلغه به، أنبأه به (من خبَّر بنبأ فقد أنار- خبّره ما جرى في غيابه).
إخبار [مفرد]:
1 - مصدر أخبرَ.
2 - [في القانون] قيام سلطة رسميّة أو موظّف، أو قيام من شاهد اعتداء على الأمن العام أو حياة الناس بإبلاغ المدعي العام التابع له محلّ وقوع الجريمة.
أخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى أخبار: على غير قياس: مؤرِّخ (الطبري من أبرز الأخباريِّين العرب) (*) صحيفة أخباريّة: تُعنى بالأخبار والأحداث.
إخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إخبار: إعلاميّ، مهتمّ بنشر الأخبار (شريط إخباريّ- قام الإخباريّون بتغطية أحداث الحفل وبثِّه على الهواء مباشرة).
* الإخباريّ من الأفعال: الذي يعبِّر عن إخبار، كالفعل قال أو روى.
إخبارِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إخبار: (نشرة إخباريّة) (*) رسالة إخباريّة: تقرير مطبوع يُزوَّد بأخبار ومعلومات ذات أهميّة لجماعة مُعيَّنة.
2 - مصدر صناعيّ من إخبار: خبر منقول بطريقة سرِّيَّة (وصلت إلى الشُّرطة إخباريّة بوجود مهرِّبين على الحدود).
3 - [في الفلسفة والتصوُّف] فرقة من الإماميّة، وهم فرقة من الشِّيعة قالوا بالنصِّ الجليّ على إمامة علي رضي الله عنه، وكفَّروا الصحابةَ ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق.
اختبار [مفرد]: جمعه اختبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر اختبرَ.
2 - امتحان، تجربة (اجتاز الاختبارات جميعها بنجاح باهر- جرّبه على سبيل الاختبار- الاختبار مُعلِّم أخرس) (*) اختبار الطَّريق: اختبار يُجرى للمركبات لمعرفة مقدار صلاحيتها للسير على الطرق، فحص للشَّخص الذي يسعى للحصول على رُخصة قيادة لمعرفة قدرته على القيادة في الطرق- اختبار قيادة: امتحان في آداب المرور وقيادة السَّيارة- اختبار معاكس: اختبار يهدف إلى التحقق من أن نتائج اختبار أوَّلٍ صحيحةٌ- بالون اختبار: امتحان أو تجربة لجسّ نبض الرأي العام- تحت الاختبار: موضوع تحت الملاحظة؛ لمعرفة مدى صلاحيته- حَقْل اختبار: حقل للاختبارات الزراعيّة، ومجازًا: إخضاع مجتمع أو جماعات لتجربة أو تجارب يكون الغرض منها تحقيق شعارات- على سبيل الاختبار: للتجربة- ورقة اختبار: ورقة مشبَّعة بصبغة عبَّاد الشمس؛ لإجراء اختبارات كيميائيّة.
* اختبار القُدْرة: قياس قدرة العامل على أداء واجبات معيَّنة كالقدرة الميكانيكيّة، والقدرة الكتابيَّة، والقدرة الفنِّية.
* الاختبار الأحيائيّ: [في الكيمياء والصيدلة] تحديد نوع القوّة أو النَّشاط الحيويّ لمادَّة كالعقار أو الهرمون بمقارنة نتائجه مع تلك التي أجريت على حيوان في مختبر.
* أنبوب اختبار: [في الكيمياء والصيدلة] مخبار، أنبوب زجاجيّ أسطوانيّ مفتوح من جانب ودائريّ من الجانب الآخر ويستخدم في التَّجارب المخبريّة.
* اختبار الحساسيَّة: [في الطب] اختبار لبيان مدى التَّأثُّر بدواء مُعيّن أو بمرض مُعْدٍ، بوضع لزقات على الجلد، أو بإحداث خدوش جلديّة وتعريضِها لجرعاتٍ تُسَبِّبُ المرض أو العدوى.
* اختبار الذَّكاء: [في علوم النفس] نوع من الاختبارات لقياس مستوى الذكاء والقدرات العقليّة، اختبار معياريّ لتحديد مُستوى الذكاء عن طريق قياس القدرة الفرديّة على تكوين المفاهيم وحلّ المشكلات واكتساب المعلومات وتأدية عمليّات ذهنيّة أخرى.
اختباريّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى اختبار: تجريبيّ، قائم على الاختبار والملاحظة (أسلوب اختباريّ).
2 - استقرائيّ، ناتج عن بحث وتتبُّع (حُكم اختباريّ).
اختباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اختبار: (يقضي المعيّنون الجدد فترة اختباريّة مدّتها ستة أشهر- حفرت الشَّركة عشرين بئرًا اختباريّة تنقيبًا عن البترول).
2 - مصدر صناعيّ من اختبار: قابلية شيء للسَّبْر والامتحان (اختباريّة ذاكرة).
3 - تجريبيّة، مذهب يقول بأن المعرفة كلّها مستمدّة من التّجربة والاختبار.
استخبار [مفرد]: جمعه استخبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر استخبرَ.
2 - مُحَرَّر يتضمّن أسئلة عن شئون خاصَّة بالمسئول للإجابة عنها (*) إدارة الاستخبارات/دائرة الاستخبارات: مركز لجمع المعلومات عن العدوّ حماية لأمن الدولة والسلامة العامّة- الاستخبارات العسكريَّة: مركز لجمع المعلومات العسكريَّة.
* جهاز الاستخبارات: مباحث، جهاز رسميّ يتولَّى أعمال التجسُّس على العدوّ والكشف عمّا يعرّض أمن الدولة الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (جنّدتهم أجهزة استخبارات العدوّ عملاء لها).
استخباراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبارات: على غير قياس (زعمت مصادر استخباراتيّة أمريكيّة أن لدى العراق أسلحة دمار شامل).
2 - مصدر صناعيّ من استخبارات: معلوماتيّة؛ مجموع التقنيَّات المتعلِّقة بالمعلومات ونقلها.
استخباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبار: (تم القبض عليه بتهمة القيام بنشاطات استخباريّة لصالح بلد أجنبيّ).
2 - مصدر صناعيّ من استخبار: تجسُّسيّة.
* دوائر استخباريَّة: مراكز لجمع المعلومات من أيّ مكان لحماية أمن الدَّولة أو المؤسَّسة العسكريّة.
خابور [مفرد]: جمعه خَوَابيرُ:
1 - قطعة من خشب أو مطّاط يُسَدّ بها ثقب في الحائط ليسهل دقّ المسمار وتثبيته فيه.
2 - قطعة معدنيّة مدبّبة تمكّن من قرن محورين بالطَّرف أو من فك تقارنهما (خابور ربط).
3 - [في النبات] شجيرة طبيَّة وتزيينيَّة ذات زهر أصفر طيِّب الرائحة وثمارها سوداء.
خَبَر [مفرد]: جمعه أخابيرُ (لغير المصدر) وأخبار (لغير المصدر):
1 - مصدر خبِرَ.
2 - نبأ، ما يُعَبَّر به عن واقعة ما، ما ينقل من معلومات ويُتحدَّث بها قولًا أو كتابةً وتعبّر غالبًا عن أحداث جديدة كتلك المذكورة في الصحف والإذاعة والتليفزيون (تسرّبت الأخبار- نشر خبرًا- سأله عن أخباره- عند جُهَيْنة الخَبَر اليقين [مثل]: يُضرب في معرفة حقيقة الأمر- {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [قرآن]) (*) أخبار مَحَلِّيَّة: داخليَّة أو خاصَّة ببلدٍ ما، عكسها أخبار أو شئون عالميَّة- أصبح في خبر كان: هلَك وفَنِي- تشويه الأخبار- خبر صاعق: سيِّئ، مفاجئ وغير منتظَر- سأله عن أخباره: استفسر عن أحواله- صادق الخبر: صحيح النبأ، صَدُوق المقال- على هامش الأخبار: تعليق على الأخبار- مُرَمّات الأخبار: أكاذيبها- نشرة الأخبار: ما يقرأه المذيع في الراديو والتلفاز من أخبار محليَّة وخارجيَّة ليطّلع عليها الجمهور أو الرأي العام.
3 - حديث نبويّ (*) خبر متواتر: حديث ترويه جماعة عن جماعة.
4 - عمل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [قرآن].
5 - [في البلاغة] قول يحتمل الصِّدق والكذب لذاته.
6 - [في النحو والصرف] لفظ مجرد عن العوامل اللفظيّة، أُسند إلى المبتدأ متمّمًا معناه ويصحّ السكوت عليه.
* خبر آحاد: حديث انفرد به راوٍ واحد وإن تعددتِ الطرق إليه.
خُبْر [مفرد]: مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) لأَخْبُرنَّ خُبْرك: لأعلمنَّ علمَك.
خِبْرة [مفرد]: جمعه خِبْرات (لغير المصدر) وخِبَر (لغير المصدر):
1 - مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) أهل الخِبْرة: الخُبراء ذوو الاختصاص الذين يعود لهم حقّ الاقتراح والتقدير.
2 - نتاج ما مرّ به الشَّخص من أحداث أو رآه أو عاناه، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته (له خِبْرة بالاقتصاد العالميّ- الشباب تنقصهم الخِبْرة) (*) تبادُل الخِبْرات: استفادة كلِّ شخص بخِبْرة الآخر.
* شهادة الخِبْرة: مستند لإثبات الخِبْرة.
خَبَرِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى خبَرَ.
2 - مصدر صناعيّ من خَبَر: نبأ (وصلته خبريّة كاذبة).
* الجملة الخبريَّة: (نح، بغ) الجملة التي تحتمل الصِّدق أو الكذب.
خَبير [مفرد]: جمعه خُبَراءُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب: (هم خبراءُ في مجال الطاقة/الزراعة- اختير خبيرًا بمجمع اللُّغة العربيَّة) (*) خبير تربويّ: مختصّ في نظريّات التربية والتعليم- هيئة الخُبَراء: مجموعة من الخُبراء غير الرسميِّين الذين يقومون بإسداء النصح والمشورة لواضعي السياسات خاصّة في حكومة.
2 - عارف بالأمر على حقيقته، عالم بالبواطن والظواهر {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [قرآن].
3 - [في القانون] مُخْبِر، شخص تعيِّنه محكمة وتكلِّفه بالكشف عن بعض الوقائع وإبداء ملاحظاته في تقرير تستند إليه في حكمها (فجّر تقرير الخبير مفاجأة في القضيّة) (*) خبير مُحلَّف: الذي يؤدِّي اليمينَ أمام المحكمة.
* الخبير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: العالم بكُنْه الشّيء، المطّلع على حقيقته، الذي لا تخفى عليه خافية {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [قرآن].
مُخابرات [جمع]: مفرده مُخابرة: اتِّصالات لجمع الأخبار (مخابرات سرِّيّة).
* جهاز المخابرات: جهاز الاستخبارات، جهاز رسميّ يتولّى جمع الأخبار لصالح دولة معيّنة لحفظ أمنها، والكشف عمّا يعرِّض أمنها الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (*) إدارة المخابرات/دائرة المخابرات/قلم المخابرات: مركز لجمع المعلومات حمايةً لأمن الدولة.
مخابراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى مُخابرات: على غير قياس (تلقَّى دورة مخابراتيّة في إحدى الدول الكبرى).
2 - مصدر صناعيّ من مُخابرات: استخباراتية، معلوماتيّة.
مُخابرة [مفرد]:
1 - مصدر خابرَ (*) مخابرة تليفونيّة/مخابرة سريّة.
2 - [في القانون] أن يُعطي المالكُ الفلاحَ أرضًا يزرعها على بعض ما يخرج منها كالرّبع أو الثلث.
مِخْبار [مفرد]: جمعه مَخابيرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الكيمياء والصيدلة] إناء أسطوانيّ مدرّج على شكل أنبوب تقاس به حجوم السوائل والمحاليل في المعامل (مخبار مدرّج).
مَخْبَر [مفرد]: جمعه مَخابِرُ: اسم مكان من خبَرَ: مكان الفحص والمراقبة والتحرِّي وإجراء التجارب (يعمل هذا الشابُّ في مخبر كيميائيّ).
* مَخْبَر الشّخص: دخيلته وحقيقته، عكس مظهره أو منظره (مخبر شيطان في مظهر ملائكيّ- منظره خير من مخبره).
مُخْبِر [مفرد]:
1 - اسم فاعل من أخبرَ.
2 - من يقوم بمهمّة جمع المعلومات أو الأخبار لغرض معيَّن (استعانت الشرطة بالمخبرين في القبض على اللصوص) (*) مُخبر خاصّ: من يقدم خدمات لأفراد أو شركات- مُخبر صحفيّ: من يزوّد الصَّحيفةَ بالأخبار.
مِخْبَرَة [مفرد]: جمعه مَخابِرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الطبيعة والفيزياء] أداة تتركّب من موصل يُجعل عادة على شكل قرص صغير، له يد عازلة تُستخدم في اختبار الشُّحنات الكهربائيّة.
مُخْتَبَر [مفرد]:
1 - اسم مفعول من اختبرَ.
2 - اسم مكان من اختبرَ.
3 - [في الكيمياء والصيدلة] مَعْمَل، مكان مجهَّز تُجرى فيه التجاربُ العلميَّة والاختبارات والتحليلات الكيماويَّة وغيرها (مختبر الكيمياء/الفيزياء/اللغة/الفضاء- مختبر نوويّ).
مُخْتَبَرِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مُخْتَبَر: قائم على التجربة والاختبار في المعامل والمُختبرات (أبحاث/تحاليل مختبريّة).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (دس)
دسَّ دَسَسْتُ، يَدُسّ، ادْسُسْ/دُسَّ، دَسًّا ودَسيسًا، فهو دَاسّ، والمفعول مَدْسوس.* دَسَّ الدَّسائِسَ: دبّرها وحاكها.
* دسَّ الشَّيءَ في التُّرابِ وتحتَه: دَفَنَه وأَخفاه (دسَّ كَنْزًا في الأرض- دسَّ بطاقةً في يده- {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [قرآن]) (*) دسَّ أنفَه في كذا: تدَخَّل فيما لا يعنيه.
* دسَّ له السُّمَّ ونحوَه: وضعَه له خُفْيةً في طعامٍ أو شرابٍ- دسَّ له: مَشى بالنَّميمةِ.
* دسَّ نفسَه بين الجماعة: دخل بينهم وهو ليس منهم (دسَّ نفسَه بين الأخيار).
اندسَّ/اندسَّ إلى/اندسَّ في يندسّ، اندسِسْ/اندسَّ، اندساسًا، فهو مُندَسّ، والمفعول مُندَسّ إليه.
* اندسَّ الشَّيءُ: مُطاوع دسَّ: اندفن.
* اندسَّ فلانٌ: دخل في الشيء (اندسّ في الفراش خشية البرد).
* اندسَّ بين النَّاس: اختفى، تسلّل خفية بينهم (اندسّ بين الأشجار/المتظاهرين).
* اندسَّ إلى فلانٍ: تجسّس له؛ يأتيه بأخبار الناس.
* اندسَّ الشَّيءُ في الشَّيء: دخل فيه.
تدسَّسَ يتدسَّس، تدسُّسًا، فهو مُتدسِّس.
* تدسَّسَ فلانٌ:
1 - تجسَّس.
2 - تحسَّس، تلمّس باليد.
دَسّ [مفرد]: مصدر دسَّ.
دَسَّاس [مفرد]:
1 - صيغة مبالغة من دسَّ.
2 - نمّام؛ مَنْ يَسْعى بين الناسِ بالدّسِّ والوقيعة (احذر الدسّاسين).
3 - [في الحيوان] حيَّة قصيرة حمراء محدّدة الطَّرفين لا يُدرى أيُّهما رأسُها، تندسُّ تحت التّراب فلا تظهر في الشَّمس.
دسَّاسة [مفرد]:
1 - مؤنَّث دَسَّاس.
2 - [في الحيوان] دسَّاس؛ حيّة قصيرة حمراء محدّدة الطرفين لا يُدرى أيُّهما رأسُها، تندسُّ تحت التُّراب فلا تظهر في الشمس.
دَسيس [مفرد]: جمعه دسيسُون (لغير المصدر) ودُسُس (لغير المصدر):
1 - مصدر دسَّ.
2 - جاسوسٌ؛ مَنْ يُرْسَلُ سِرًّا ليأتيَ بالأخبار (بعثوا دسيسًا ليستطلع الخبر).
دسيسة [مفرد]: جمعه دسائِسُ:
1 - دسيس، جاسوسٌ، مَنْ يُرْسَلُ سِرًّا ليأتي بالأخبار.
2 - نميمة وعداوة، مكيدة وحيلة خفيَّة (بات يحيك لهم الدَّسائسَ).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-العربية المعاصرة (تصحف)
تصحَّفَ يتصحَّف، تصحُّفًا، فهو مُتصحِّف.* تصحَّفتِ الكَلمةُ ونحوُها: حدث بها تحريف وتغيَّرت إلى خطأ (تصحَّفتِ الصحيفُة).
صحَّفَ يصحِّف، تصحيفًا، فهو مُصحِّف، والمفعول مُصحَّف.
* صحَّف الكَلمةَ: كتبها أو قرأها على غير صحَّتها لاشتباهٍ في الحروف، حرّفها عن وضعها (صحَّف الصِّحافيّ الخبرَ: حرَّفه).
تَصْحيف [مفرد]: جمعه تصحيفات (لغير المصدر):
1 - مصدر صحَّفَ.
2 - [في العلوم اللغوية] تحريف كلمة بتحويل وضع حروفها أو تحويل أحدها إلى آخر يشبهه في الرَّسم ويخالفه في النَّقْط.
3 - خطأ في قراءة الصُّحف أو غيرها.
صِحَاف [جمع]: مفرده صَحْفة: آنية الطَّعام الكبيرة المتَّسعة {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [قرآن].
صَحافة/صِحافة [مفرد]:
1 - مهنة مَنْ يجمع الأخبارَ والآراءَ وينشرها في جريدة أو مجلَّة (يعمل أبي بالصِّحافة) (*) الصِّحافة الصَّفراء: صِحَافة الإسفاف والإثارة- حُرِّيَّة الصَّحافة: حرّية التَّعبير عن الرَّأي عن طريق الصِّحافة- صِحافة الصُّور: صحافة تعتمد أساسًا على الصُّور.
2 - مجموعة الجرائد والمجلاَّت التي تصدر في بلد من البلدان أو منطقة من المناطق (الصِّحافة الأدبيَّة/العربيَّة).
صَحافيّ/صِحافيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى صَحافة/صِحافة: (نشاط صِحافيّ).
2 - من يجمع الأخبارَ والآراء وينشرها في جريدة أو مجلَّة، مشتغل بالصّحافة (حضر الصِّحافيّ المؤتمرَ لإجراء بعض الحوارات- صِحّافي ّمحترف).
صَحَفِيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى صَحِيفة (*) استطلاعٌ صَحَفِيّ: بحث يقوم به كاتب أو أكثر، ويشتمل على تحقيق مكان أو حادث بالوصف والتصوير، أو عمليَّة إعداد الأخبار أو المعلومات في تقارير- التَّحقيق الصَّحَفيّ: الحديث الذي يدور بين أحد الصحفيين وغيره لاستبانة أمر مُهِمّ.
2 - صَحافيّ، صِحافِيٌّ.
* مراسل صحفيّ: [في الثقافة والفنون] موظّف في مؤسَّسة صحفيّة أو إذاعيّة أو تلفزيونيّة، مهمَّتُه جمع الأخبار والمقالات.
صُحُفِيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى صُحُف: على غير قياس (مؤتمرٌ صُحُفِيٌّ) (*) الرَّقابة الصُّحفيّة: اطِّلاع السُّلطة على الصُّحف قبل نشرها.
2 - صَحافيّ، صِحافِيٌّ.
صَحِيفة [مفرد]: جمعه صَحيفات وصَحائفُ وصِحَاف وصُحُف:
1 - جريدة، إضمامة من الصَّفحات تصدر في مواعيد منتظمة بأخبار السِّياسة والاجتماع والاقتصاد والثَّقافة وغيرها (صحيفة الأهرام/الحياة).
2 - ما يُكتب فيه من ورق ونحوه، ويُطلق على المكتوب فيه (صحيفة مصقولة- رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ [حديث] - {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [قرآن]: المراد كتب الأنبياء- {الصُّحُفِ الأُولَى} [قرآن]: المراد التَّوراة والإنجيل والزَّبور- {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [قرآن]: المراد صُحُف الأعمال) (*) صحيفة الحالة الجنائيَّة- صحيفة الوجه: ما أقبل عليك منه أو بشرته- صحيفته بيضاء: سُمعته حسنة- طُوِيت صحيفتُه: مات.
3 - كتاب، قرطاس مكتوب ({رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [قرآن]: كُتُبًا منزَّلة).
* الصَّحيفة العَقاريَّة: [في التجارة] شهادة رسميّة يوضّح فيها كلّ ما له علاقة بعقارٍ معيَّنٍ كالمساحة والحدود والدّين والرَّهن وغيرِها.
مُصْحَف [مفرد]: جمعه مَصاحِفُ: كتابٌ جامعٌ للصُّحف المكتوبة (جمع مقالاته في مصحف واحد).
* المُصْحَف: القرآن الكريم (أتممت قراءةَ المُصْحَف الشّريف) (*) دفَّتا المصحف: الغلافان اللّذان يكتنفانه من جانبيه- ضِمامتا المصحف: دفَّتاه.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
5-العربية المعاصرة (وثق)
وثُقَ/وثُقَ في/وثُقَ من يوثُق، وَثاقةً، فهو وثيق، والمفعول موثوقٌ فيه.* وثُق الشَّيءُ: قوِيَ وثبت وصار مُحكمًا (وثُقت الصَّداقةُ بيننا- علاقة وثيقة).
* وثُق الشخصُ/وثُق الشَّخصُ من الأمر: أخذ بالثِّقة، تيقَّن منه (وثُق المحامي من القضيّة).
* وثُق المسمارُ في الحائط: ثبت وكان مُحكمًا.
وثِقَ ب/وثِقَ في/وثِقَ من يَثِق، ثِقْ، ثِقَةً ووُثوقًا ووَثاقةً، فهو واثِق، والمفعول موثوق به.
* وثِق بالشّخصِ/وثِق في الشّخص/وثِق من الشخص: ائتمنه، صدّقه، وضع ثِقتَه به (وثِق بصديقه- موثوق في أمانته- جرَّبتُه فوثِقت به) (*) مِنْ مصدر موثوق به- وثق به ثقة عمياء.
* وثِق بنفسه: كان عنده اعتماد واتّكال (وثِق ثقة زائدة بنفسه) - أنا واثق: متأكِّد.
أوثقَ يُوثق، إيثاقًا، فهو مُوثِق، والمفعول مُوثَق.
* أوثق الرَّجُلَ: جعله وثيقًا، قويًّا ثابتًا (أوثقه في أمواله حين سافر).
* أوثق الأسيرَ ونحوَه: شدَّه في الوثاق أي القيد بحبل أو سلسلة (أوثق الشُّرطيُّ اللّصَّ- {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [قرآن]).
* أوثق العهدَ أو الأمرَ: أحكمه (أوثق العقدَ بين الطَّرفين- أوثق صداقتَه مع جاره).
استوثقَ/استوثقَ من يستوثق، استِيثاقًا، فهو مُستوثِق، والمفعول مُستوثَق.
* استوثق الشَّخصَ: وضع فيه ثِقَتَه، أي ائتمنه (لو لم يستوثقه لما ترك لديه أشياءه الثمينة في غيابه).
* استوثق من الشَّخصِ: أخذ منه الوثيقة (ابتاع الأرض واستوثق من صاحبها).
* استوثق من الأمرِ: أخذ فيه بالوَثاقة أي بالأمانة وتثبَّت وتأكّد منه (استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال: أغلقوا الأبواب عليها وأقفلوا الأقفال حتَّى تثقوا بألاّ تصيبها يدُ مُختلس- استوثق من حسن تركيب الآلة/صِدْقِ المتحدِّث/إرسال الطَّرد).
تواثقَ على يتواثق، تواثُقًا، فهو مُتواثِق، والمفعول مُتواثَق عليه.
* تواثقوا على الأمرِ: تعاهدوا عليه وتحالفوا (تواثقوا على إقامة معمل طبيّ).
توثَّقَ/توثَّقَ في/توثَّقَ من يتوثَّق، تَوَثُّقًا، فهو مُتوثِّق، والمفعول مُتوثَّق فيه.
* توثَّقَت العُقدةُ: مُطاوع وثَّقَ: تشدَّدت، تقوّت وتثبّتت (توثّق الحُبُّ بيننا- توثقت العلاقات بين البلدين).
* توثَّق الشَّخصُ في الأمر/توثَّق الشَّخصُ من الأمر: تَثَبَّتَ وتأكَّد (توثّق من كلام محدِّثه).
واثقَ يواثق، مواثَقَةً، فهو مُواثِق، والمفعول مُواثَق.
* واثق صديقَهُ: عاهده (واثَقْتُك بالله أن لا أغدر بك- {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [قرآن]).
وثَّقَ يوثِّق، توثيقًا، فهو مُوَثِّق، والمفعول مُوَثَّق.
* وثَّق الشّخصَ: شهد بأنّه ثِقَة.
* وثَّق الأمرَ: أحكمه، قوّاه وثبّته وأكّده (وثّق الصّداقةَ بينهما) (*) وثّق المعلومات: جدَّد أصلها وتأكَّد من صحّتها- وثّق عُرى الصَّداقة: قوّاها ودعَّمها.
* وثَّق العَقْدَ ونحوَه: سجّله بالطَّريقة القانونيَّة فكان موضِع ثِقَة.
* وثَّق الموضوعَ: دعَّمه بالدَّليل وأثبت صحّته.
توثيق [مفرد]:
1 - مصدر وثَّقَ.
2 - ترتيب واختصار وتدوين مادّة مطبوعة كمرجع (مجلّة التوثيق والمعلومات) (*) فَنّ التوثيق: تسجيل المعلومات حسب طُرُق عِلْميّة متّفق عليها.
3 - [في الفقه] حكم على شخص بأنّه ثقة فيما يروي ويحدِّث.
4 - [في القانون] تحرير العقود ونحوها بالطَّريقة الشَّرعيَّة أو القانونيَّة (توثيق الدُّيون- مركز التوثيق الوطني).
ثِقَة [مفرد]: جمعه ثِقات (لغير المصدر):
1 - مصدر وثِقَ ب/وثِقَ في/وثِقَ من (*) الثِّقة بالنَّفس: الاعتماد عليها.
2 - يقين، تحرُّر من الشَّكّ أو القلق أو الخوف (له ثِقَة في النَّجاح- هو على ثِقَة بأنّه مُخطئ) (*) عدم الثِّقة/انعدام الثِّقة: ارتياب وشكٌّ وسوء ظَنٍّ- مَصْدَر ثِقَة: موثوق منه.
3 - مَن يُعتمد عليه في الأقوال والأفعال، وقد تُستعمل كذلك للمثنّى والجمع (رجلٌ/امرأة/مؤرِّخون ثِقَة) (*) أخو ثِقَة: أي شجاع واثق بشجاعته.
* حَجْب الثِّقة: [في القانون] تصويت البرلمان ضد سياسة الحكومة، بغية إجبارها على الاستقالة.
مُوَثِّق [مفرد]:
1 - اسم فاعل من وثَّقَ.
2 - موظّف في مصلحة الشهر العقاريّ يوثق العقود ونحوها (الموثِّق العامّ).
مَوْثِق [مفرد]: جمعه مواثِقُ ومواثيقُ:
1 - مصدر ميميّ من وثِقَ ب/وثِقَ في/وثِقَ من.
2 - عَهْد مؤكَّد {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} [قرآن].
مِيثاق [مفرد]: جمعه مواثيقُ:
1 - مَوْثِق؛ عَهْد (ميثاق عدم الاعتداء- بيني وبينه ميثاق- {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [قرآن]).
2 - اتِّفاقٌ جماعيّ (الميثاق الوطنيّ- الميثاق الثقافي لجامعة الدول العربيّة- ميثاق هيئة الأمم المتّحدَة).
3 - [في القانون] ما يتعاهد أو يتحالف عليه رسميًّا شخصان أو أكثر، رابطة تتألّف من أجل عمل مشترك.
* ميثاق حقوق الإنسان: [في القانون] قانون الأفراد، خلاصة الحقوق الأساسيّة لمجموعة من النّاس.
وثائقيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى وَثائِقُ: على غير قياس.
2 - شخص قيّمٌ على السجلات والوثائق حيث يوفّرها للباحثين عند الطلب، كما يشرف على تقويمها والتخلّص منها.
* برنامج وثائقيّ: [في الثقافة والفنون] برنامج يقدِّم موضوعه بشكل حقيقيّ، مزوّد عادة بأخبار ومقابلات، ومصحوب بالرِّواية.
وثائقيَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من وَثائِقُ: مرحلة التّزويد بالوثائق أو المراجع أو المدوّنات.
* أفلام وثائقيَّة: [في الثقافة والفنون] أفلام مبنيّة على أحداث حقيقيّة ومقدَّمة بشكل دراميّ.
وَثاق/وِثاق [مفرد]: جمعه وُثُق: ما يُشَدُّ به من قَيْدٍ أو حبلٍ أو نحوهما (وِثاقُ الأسير- وُثُق الدّوابّ- {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوِثَاقَ} [قرآن] - {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [قرآن]).
وَثاقَة [مفرد]: مصدر وثِقَ ب/وثِقَ في/وثِقَ من ووثُقَ/وثُقَ في/وثُقَ من.
وُثْقَى [مفرد]: مذ أوْثَق: أكثر إحكامًا {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [قرآن] (*) العُرْوَة الوُثقَى: الدين الحنيف، تشبيهًا له بالعُرْوَة المحكمة التي لا تنقطع ولا تنفصم.
وُثوق [مفرد]: مصدر وثِقَ ب/وثِقَ في/وثِقَ من.
وَثيق [مفرد]: جمعه وِثَاق، والمؤنث وثيقة، والجمع المؤنث وَثائِقُ: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من وثُقَ/وثُقَ في/وثُقَ من.
وثيقة [مفرد]: جمعه وَثائِقُ:
1 - مؤنَّث وَثيق: (عهود وثيقة- كانت ربطة الحبل وثيقة).
2 - ما يُحكَم به الأمر (أحكامٌ عادلة وثيقة) (*) أخَذ بالوثيقة في أمره: أي بالثِّقة.
3 - [في القانون] مستند مكتوب أو مصوّر أو مسجل ذو أهميّة رسميّة أو تاريخية يُستدلُّ به لدعْم دَيْنٍ أو حُجَّة أو ما جرى مَجْراهما، وتحمل الوثيقةُ الشّكل الأصليّ أو الرّسميّ أو القانونيّ وتزوَّد بالدَّليل والمعلومات (وثيقة تأمين/نجاح/سفر/زواج- وثيقة التفويض للمندوب الفُلانيّ) (*) زوَّر الوثيقةَ: قلَّدها احتيالًا بقصد الانتفاع بها بغير حقّ- وفرة الوثائق: ما جُمع منها بكثرة.
* دار الوثائق الرَّسميَّة: مكان تحفظ فيه الدولة جميع الوثائق الرسمية للرجوع إليها عند الحاجة، وتشمل سجلات المواليد والوفيات، وسجلات المحاكم والملكيّة والمراسلات الرسمية والوثائق التاريخية من معاهدات وعهود واتفاقيات.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
6-المعجم الوسيط (الصَّحِيفَةُ)
[الصَّحِيفَةُ]: ما يكتب فيه من وَرَقٍ ونحوه.ويطلق على المكتوب فيها.
(والجمع): صُحُفٌ.
وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18-19].
و - إضمامة من الصفحات تصدر يوميًّا.
أو في مواعيد منتظمة بأخبار السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة وما يتصل بذلك.
(وهي كلمة محدثة).
(والجمع): صُحُفٌ، وصَحَائِفُ، وصَحِيفة الوجْهِ: بشرته.
(والجمع): صَحِيفٌ.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
7-شمس العلوم (الذِّكْرُ)
الكلمة: الذِّكْرُ. الجذر: ذكر. الوزن: فِعْل.[الذِّكْرُ]: العلا والشرف.
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وقيل ذلك في قوله: {كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وقيل: يعني ذكركم بما توعدون.
وكل كتاب أنزله الله تعالى على نبي من أنبيائه عليهم السلام فهو ذِكْر.
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي القرآن.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد التوراة.
والذِّكر: العلم، قال الله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
أي: فاسألوا أهل العلم بأخبار من سلف من القرون الخالية هل بعث الله تعالى إِليهم رجالًا من البشر أو ملائكةً.
والذِّكْرُ: الصلاة والدعاء وفي الحديث: «كانت الأنبياء عليهم السلام إِذا حَزَبَهُمْ أمر فزعوا إِلى الذكر» أي إِلى الصلاة ويقومون فيصلون.
ويقال: اجعلني منك على ذِكْرٍ وذُكْرٍ، بالضم أيضًا.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
8-شمس العلوم (قَاسَ يَقِيِسُ)
الكلمة: قَاسَ يَقِيِسُ. الجذر: قيس. الوزن: فَعَلَ/يَفْعِلُ.[قاس]: الشيءَ على غيره، وبغيره، قَيْسا وقياسا: إذا قدَّره.
واختلفوا في جواز القياس في الشرعيات، فأجازه الفقهاء وجمهور الأمة، ومنع منه النَّظّام وبعضُ الخوارج والرافضة وأصحاب الظاهر، فأما النظام: فلا يرى الأخذَ إلا بالكتاب والتواتر، وينفي ما عدا ذلك على حكم العقل.
وأما الخوارج: فلا تأخذ إلا بالكتاب والسنة والإجماع.
وأما الرافضة: فترجع إلى قول الإمام.
وأما أصحاب الظاهر: فيأخذون بأخبار الآحاد، والتوقف فيما لم يوجد).
ويقال: إن أصل القياس: السَّبْق يقال: قاسهم إذا سبقهم.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
9-مرافعات قضائية (مخالفة التنظيم النقدي)
مخالفة التنظيم النقدي: مخالفة التنظيم النقدي -قيمة المخالفة أقل من 30000 د ج-إخبار المخالف بدفع غرامة خلال 45 يوما -وجوبي"من المقرر قانونا انه في مخالفات التنظيم النقدي وعندما تكون قيمة جسم الجريمة مساوية أو أقل من 30000 د ج فإن الأعوان المخولين بمعاينة هذه المخالفات ملزمون بإخبار المخالف ان بإمكانه أن يدفع غرامة في ظرف 45 يوما مساوية لقيمة جسم الجريمة، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون.
ولما كان من الثابت-في قضية الحال -أن الطاعن طلب من إدارة الجمارك المصالحة دون أن تستجيب له، فإن قضاة الموضوع الذين لم يستجيبوا لهذا الطلب بالرغم من ان قيمة جسم الجريمة أقل من 30000 د ج يكونوا بقضائهم كما فعلوا خرقوا القانون.
ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار
مرافعات قضائية
10-مرافعات قضائية (التنظيم النقدي)
التنظيم النقدي: التنظيم النقدي- مخالفة تساوي أو أقل من 30.000 دينار- عدم إخبار المتهم بدفع الغرامة المقررة قانونا- متابعة- سابقة لأوانها."من المقرر قانونا أنه في مخالفة تشريع الصرف و عندما تكون قيمة جسم الجريمة مساوية أو أقل من 30.000 دينار، فإن المأمورين لمشاهدة المخالفات ضد التنظيم النقدي ملزمون بإخبار المذنب أن بإمكانه أن يدفع في ظرف 45 يوما على وجه الغرامة مبلغا يعادل القيمة القانونية لمحل الجريمة، و من ثم فإن النعي على القرار المطعون فيه بمخالفة القانون غير مؤسس و يتعين رفضه.
ولما كان من الثابت- في قضية الحال- أن أعوان الجمارك لم يراعوا الإجراء المنصوص عليه بالمادة 425 مكرر من قانون العقوبات من إعلام المتهمين قبل كل متابعة حق الدفع خلال 45 يوم غرامة مساوية لقيمة جسم الجريمة، فإن قضاة الاستئناف بتأييدهم الحكم المستأنف لديهم القاضي بتسريح المتهمين المتابعين من أجل مخالفة تشريع الصرف لكون المتابعة مورست قبل الأوان طبقوا القانون التطبيق السليم.
مرافعات قضائية
11-معجم ما استعجم (أبلى)
أبلى: بضمّ الهمزة، على وزن فعلى، وهى جبال على طريق الآخذ من مكة إلى المدينة، على بطن نخل. وأبلى: حذاء واد يقال له عريفطان، قد حدّدته فى رسم «ظلم» وبأبلى مياه كثيرة، منها بئر معونة، وذو ساعدة، وذو جماجم، أو ذو حماحم، هكذا قال السّكونىّ. وحذاء أبلى من غربيّها قنّةيقال لها الشّورة، لبنى خفاف من بنى سليم، وماؤهم آبار يزرع عليها، ماء عذب، وأرض واسعة، وكانت بها عين يقال لها النازيّة، بين بنى خفاف وبين الأنصار، تضارّوها فسدّوها، بعد أن قتل فى شأنها ناس كثير، وكانت عينا ثرّة، وطلبها السلطان مرارا بالثمن الجزل، فأبوا عليه، وحذاء أبلى من شرقيّها جبل يقال له ذو المرقعة، وهو معدن بنى سليم، تكون فيه الأروى كثيرا، وفى أسفله من شرقيّه بئر يقال لها الشّقيقة، وتلقاءه عن يمينه، من تلقاء القبلة، جبل يقال له أحامر. وهذه الجبال تضرب إلى الحمرة، وهى تنبت الغرب والغضور والثّمام، وهناك تعار والأخرب: جبلان لا ينبتان شيئا، قال الشاعر:
«بليت ولا يبلى تعار ولا أرى *** ببئر ثميل نائيا يتجدّد»
«ولا الأخرب الدّانى كأنّ قلاله *** بخلت عليهنّ الأجلّة هجّد»
وقال كثيّر:
«أحبّك ما دامت بنجد وشيجة *** وما أنبتت أبلى به وتعار»
وقال الشّمّاخ:
«فباتت بأبلى ليلة ثم ليلة *** بحاذة واجتابت نوى عن نواهما»
وتجاوز عين النازيّة، فترد مياها يقال لها الهدبيّة، وهى آبار ثلاث، ليس لها نخل ولا شجر، فى بقاع واسعة بين حرّتين، تكون ثلاثة فراسخ عرضا، فى طول ما شاء الله أن يكون، أكثر نباتها الحمض وهى لبنى خفاف ثم
تنتهى إلى السّوارقيّة، على ثلاثة أميال من عين النازيّة، وهى قرية لبنى سليم، فيها منبر، ويستعذبون الماء من واد يقال له سوارق، وواد يقال له الأبطن، ماء عذبا، ولهم مزارع واسعة، ونخل كثير، وفواكه جمّة، من الموز والتين والعنب والرّمّان والسفرجل والخوخ. وحدّها ينتهى إلى ضريّة، وحواليها قرى، منها قيّا، بينهما ثلاثة فراسخ، وهى كثيرة الأهل والمزارع والنخل، قال الراجز:
«ما أطيب المذق بماء قيّا *** وقد أكلت قبله برنيّا»
وقرية يقال لها الملحاء، سمّيت بالملحاء، بطن من حيدان، وهى فى بطن واد يقال له قوران، يصبّ من الحرّة فيه ثلاث آبار عذاب، ونخل وشجر، وحواليها هضاب، يقال هضبات ذى مجر، قال الشاعر:
بذى مجر أسقيت صوب غوادى
وذو مجر: غدير بينهنّ كبير فى بطن قوران، وبأعلاه ماء يقاله ليث، آبار كثيرة عذبة، ليس لها مزارع، لغلظ موضعها، وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له شسّ، آبار كثيرة أيضا، وفوق ذلك بئر يقال لها ذات الغار، أغزرها ماء وأكثرها، تسقى بها بواديهم، قال ابن قطّاب السّلمىّ:
«لقد رعتمونى يوم ذى الغار روعة *** بأخبار سوء دونهنّ مشيبى»
«نعيتم فتى قيس بن عيلان عنوة *** وفارسها تنعونه لحبيبى»
وحذاء هذا الجبل جبل يقال له أقراح، شامخ لا ينبت شيئا، كثير النّمور والأروى، ثم تمضى من الملحاء، فتنتهى إلى جبل يقال له معان، فى
جوفه أحساء ماء، منها حسى يقال له الهدّار، يفور بماء كثير، بحذائه حاميتان سوداوان، فى جوف إحداهما مياه ملحة، يقال لها الرّفدة، حواليها نخلات وآجام يستظلّ بها المارّ، شبيهة بالقصور، وهى لبنى سليم؛ وبإزائها شواحط، وهو مذكور فى موضعه.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
12-معجم متن اللغة (أعلم الفرس)
أعلم الفرس: علق عليها صوفا ملونا في الحرب.و- الفارس: جعل لنفسه علامة الشجعان، فهو المعلم.
و- الثوب.
و- على موضع كذا من الكتاب: جعل فيه علامة.
و- الحافر بئرا: وجدها عيلما- كثيرة الماء- و- هـ الخبر: جعله عالما به.
و- هـ إياه فتعلمه.
وفرق سيبويه بين الإعلام والتعليم.
وقال الراغب: الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع؛ والتعليم اختص بما يكون بتكرير وتكثير.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
13-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قيدون)
قيدونهي من قدامى البلاد، وهي موطن الشّيخ الكبير سعيد بن عيسى العموديّ.
وهو والفقيه المقدّم أوّل من سلك طريق التّصوّف بحضرموت، وقد ترجمه غير واحد من أهل العلم؛ كالشّرجيّ في «طبقاته» [145 ـ 146]، واليافعيّ في «تاريخه»، وصاحب «المشرع»، وعبد الله بازرعة.
وممّن ألّف في مناقبه: الشّيخ عليّ بن عبد الله باعكابة الهيننيّ، والشّيخ عبد الله باسودان.
وكان صادعا بالحقّ، لا يخاف فيه لومة لائم، وكان كثير التّردّد على حضرموت، حتّى لقد قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في كتابه «القرطاس»: (لا إله إلّا الله، عدد خروج الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ إلى حضرموت).
ولم يزل يسلّك الطّالبين، ويوصل الرّاغبين، إلى أن توفّي بقيدون سنة (671 ه)، وقصّته مع الشّيخ أحمد بن الجعد مع وصوله إلى حضرموت، مشهورة، وقد ابتلي إثرها بالجذام إلى أن وافاه الحمام.
وخلفه على منصبه ولده الشّيخ محمّد بن سعيد، وما زال أبناؤه يتوارثون منصبه حتّى انتهى إلى دولة ورئاسة دنيويّة، فاختلفوا وانقسموا؛ كما سبق في بضه.
وجرت بينهم وبين آل فارس النّهديّين، وبينهم وبين السّلطان بدر بوطويرق الكثيريّ.. حروب.
وتقلّبت بقيدون الأحوال، حتّى لقد خربت حوالي سنة (948 ه) من كثرة ما أخذ بدر بوطويرق الكثيريّ من أهلها من الضّرائب، ولم يبق فيها إلّا ستّة ديار، وهرب الباقون من أهلها إلى صيف. وهنا شاهد على أنّ صيفا لم تكن إذ ذاك في حوزته.
وجرت بين آل العموديّ وأعقاب بدر إلى أيّام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ ـ المتوفّى بعمان أوائل القرن الثّاني عشر ـ أحوال كثيرة، ذكرنا ب «الأصل» نتفا منها كافية للتّعريف.
وفي قيدون صهريج واسع يحفظ لأهلها الماء، تنطق وثائق أوقافه أنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب الطّاهريّ السّابق ذكره في بضه، والآتي ذكره في ثبي وغيرها.
وقد أنجبت قيدون كثيرا من العلماء والفضلاء، وكان السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم يدرّس بها علم التّوحيد أوائل القرن الحادي عشر.
ومن علمائها في القرن العاشر: الشّيخ محمّد بن عمر معلّم له ذكر في «مجموع الأجداد».
والشّيخ عبد الله بن سعيد العموديّ، في أيّام القطب الحدّاد، وقد امتحنه بشرح خطبة معقّدة، فشرحها شرحا جميلا قضى له فيه القطب الحدّاد بالنّجاح.
وفيها من ذرّيّة السّيّد محمّد بن عبد الله بن علويّ الحدّاد: الفاضل الصّالح، الحسن الخطّ عمر بن أبي بكر، المتوفّى بها.
وخلفه ابنه النّاسك الكريم طاهر بن عمر الحدّاد، المتوفّى بها سنة (1319 ه) كان آية في حفظ القرآن، وكانت في لسانه حبسة شديدة، حتّى لقد أراد أن يعقد بإحدى بناته فلم ينطلق لسانه إلّا بعد الفراغ من الطّعام، وكانت العادة والسّنّة تقديم العقد فلم يؤخّروه إلّا اضطرارا، ولكن متى شرع في القراءة في الصّلاة.. اندفع بسرعة السّهام المرسلة.
ولمّا مات ولده محمّد.. تحاشى النّاس عن إخباره؛ لأنّه الأمر العظيم، لكنّه لم يظهر بعد ما أخبروه إلّا بأكمل ما يكون من مظاهر الرّضاء التّامّ، فلم ينزعج ولم يتغيّر، ولم يحلّ حبوته، وما زاد على الاسترجاع والاستغفار للفقيد والتّرحّم عليه، فذكرت ما رواه أبو نعيم وغيره: أنّه لمّا مات ذرّ بن عمر بن ذرّ جاء أهله يبكون إلى أبيه، فقال لهم: ما لكم؟! إنّا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحقّ، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلمّا وضعه في قبره.. قال: رحمك الله يا بنيّ؛ لقد كنت بي بارّا، وكنت عليك شفيقا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعزّ، ولا أبقيت علينا من ذلّ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.. يا ذر؛ لو لا هول المطلع.. لتمنّيت ما صرت إليه، ليت شعري يا ذرّ ماذا قيل لك وماذا قلت.
وكذلك الحبيب طاهر لم يزد على التّرحّم على ولده والاستغفار له.
أمّا ولده محمّد بن طاهر الحدّاد: فقد كان طود المجد الرّاسخ، وركن الشّرف الشّامخ، تتحيّر الفصحاء في أخباره، وتندقّ أعناق الجياد في مضماره.
«متنقّل في سؤدد من سؤدد *** مثل الهلال جرى إلى استكماله »
لم يزل يتوقّل إلى العلا، ويتسوّر إلى الشرف.
«ويبيت يحلم بالمكارم والعلا *** حتّى يكون المجد جلّ منامه »
لا يصعد قلّة.. إلّا تسنّم ذراها، ثمّ اندفع إلى ما وراها.
«ما زال يسبق حتّى قال حاسده: *** له طريق إلى العلياء مختصر »
ينقطع دونه الكلام، وتتحيّر في وصفه الأقلام.
«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد »
له همم تنفسخ منها الجبال، فضلا عن قوائم الرّجال.
«همّة تنطح النّجوم بروقي *** ها وعزّ يقلقل الأجبالا »
وقد بلغ من شهامته وكبر همّته أنّه كان يحاول إغناء العلويّين بحضرموت من أدناها إلى أقصاها مع تحمّله من الدّيون الّتي أثقلت كاهله ولذاك، أشار عليه أبوه ـ من أجلها ـ أن يتوجّه إلى حيدرآباد، وكان له بها قدر عظيم، وشأن فخيم، وأسلم على يده كثير من النّاس، إلّا أنّه كان بين جنبيه نفس عظيمة، غالى بها عن الكرام حتّى لم يكن الطّغرّائيّ إلّا كالسّوقة في جنب الملك حيث يقول:
«غالى بنفسي عرفاني بقيمتها *** فصنتها عن رخيص القدر مبتذل »
فوقع بذلك وبموافقته للعلّامتين أبي بكر بن شهاب ومحمّد بن عقيل في الإعراض عن السّلطان عوض بن عمر أن لاقاه، واستعدّ لإنزاله في قصره، وعمل لقدومه ضيافة عظيمة، فتركها وكان في ذلك تمهيد السّبيل لمن كان يحسده من العلويّين ففتلوا في الذّرى والغوارب لفشله.. فلم يقع له ما يروم من أمله ولم يتيّسر قضاء دينه إلّا بعد انقضاء أجله، ومنهم حسبما يتعالم النّاس: حسين وحسين وأبو حسين ـ ولا أدري كم عددهم يومئذ؛ فإنّ المنايا تخطّفتهم، والبلدان توزّعتهم؛ فهم أقلّ بكثير ممّا انتهوا إليه سنة (1202 ه) إذ بلغ عددهم بالتّحقيق يومئذ عشرة آلاف نفس.
في «تاريخ ابن حميد»: (أنّ القطب الحدّاد أشار بإحصاء العلويّين في سنة (1118 ه)؛ لدراهم وصلت من الهند على اسمهم، فبلغوا نحوا من ألفين بعدّ الصّغار والكبار والذّكور والإناث، من السّوم شرقا.. إلى هينن غربا).
والعجب أنّهم لم يدخلوا دوعن في حضرموت في هذا العدّ، فلعلّ الدّراهم مخصوصة بأهل هذه النّاحية، وإلّا.. أشكل الأمر.
وأمّا في سنة (1202 ه).. فقد بلغ عددهم عشرة آلاف؛ إذ جاءت صلة صاحب المغرب ودفعوا لمن بدوعن ومن بالشّحر ومن بأسفل حضرموت حسبما فصّلناه بالجزء الأوّل من «الأصل» ولا إشكال؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بما انحطّ عليه اعتمادهم بإجماعهم آخرا، وقد أحضرت الأنفس الشّحّ في صلة المغربيّ، وهي متأخّرة عن تلك، والعلماء في أيّامها أكثر، ولا شكّ أنّهم مطّلعون على ما كان أيّام القطب الحدّاد من مثل ذلك فلا مجال للشّكّ، لا سيّما وأنّ القطب الحدّاد من أهل الاجتهاد لا يتقيّد بمنقول المذهب بخلافهم.
ومن كتاب سيّره السّيّد عليّ بن شيخ بن محمّد بن شهاب للشّريف سرور بن مساعد بن حسن صاحب مكّة بتاريخ (1199 ه) يقول: وصلت الدّراهم وقدرها ثمانون ألف ريال وفرّقت على جميع السادة القاطنين بحضرموت من ثمانية ريالات إلّا ربع، وتحديد حضرموت من عين بامعبد إلى ظفار.
وقد اتفق العلويون إذ ذاك على تفويض الأمر في قبض الدراهم وتحرير مشجّر للعلويّين ـ على حسابها ـ إلى السّيّد عليّ بن شيخ بن شهاب.
وأمضى في أعلى المسطور السّادة: سالم بن أحمد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم وأحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ العيدروس، وصادق بن شيخ العيدروس، وسالم بن صالح العطّاس، وحسين بن علويّ، وهاشم، وحسين وعبد الله ابنا أحمد، وحسين وزين وأحمد بنو حسين بن أبي بكر، وأحمد وعليّ ابنا محسن، وأبو بكر بن عليّ، وكافّة آل حسين بن عليّ العيدروس.
وفي أسفله: حسين بن أحمد بن سهل جمل اللّيل، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وعمر بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، ومحمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله، ومحمّد بن أبي بكر العيدروس، وإسماعيل بن عيدروس بن عليّ بن عمر بن حسين، وعليّ بن شيخ بن شهاب، وطالب بن حسين بن عمر العطّاس، وعبد الرّحمن ابن حسين العطّاس، وعمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه، وهادون بن عليّ الجنيد، وأحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وعبد القادر بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وخادم الشّرع بتريم عمر بن إبراهيم المؤذّن بافضل، وطالب بن عوض بن يحيى، والمكتوب إليهم من أمين الدّراهم عبد الله بن حسين بن سهل، وسالم بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر، ومحمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، ومحمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وحامد بن عمر بن حامد، وعليّ بن شيخ بن شهاب.
وفي حدود سنة (1311 ه) أصفق العلويّون ـ ومنهم سيّدنا الأستاذ الأبرّ فمن دونه ـ على تقديم صاحب التّرجمة السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد، فوضعوا في كفّه لواء نقابتهم، وعلى رأسه عصابة شرفهم، وعلى منكبه رداء زعامتهم، وأسجلوا له بذلك على أنفسهم، وكتبوا له عهدا وثيقا، فكان كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 119 من الطّويل]:
«وما زلت تسمو للمعالي وتجتني *** جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر »
«إلى أن بلغت الأربعين فأسندت *** إليك جماهير الأمور الأكابر»
«فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز *** ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر»
وقد جرت بينه وبين العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ مناقضات، منها: أنّ هذا جزم في كتاب سيّره إليه بدخوله تحت دائرته وإن لم يشعر، فأنكر الأوّل ذلك ـ وكان يتواضع أشدّ التّواضع بين يدي أستاذنا وأستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر ـ وتقدّم إليه بأسئلة جزلة تدلّ على صدق حال وغزارة مادّة، فأجابه الأستاذ بأفضل جواب.
وجرت بينه وبين علّامة جاوة السّيّد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى محاورات في الأوتار؛ لأنّ الأوّل يحضرها والسّيّد عثمان يشتدّ في منعها، وقد بسطت القول عن هذه المسألة في «بلابل التّغريد» بما لا يوجد في سواه.
وقد كان ما اشتهر من محاسن هذا الإمام، وملأ سمع الأرض وبصرها.. يملأ قلبي حسرة؛ إذ لم يقدّر لي الاجتماع به، مع أنّه قدم ذات المرّات إلى سيئون وأنا موجود، وقلّ من زارها من أهل الفضل إلّا زار والدي في مكانه علم بدر الّذي انجمع فيه بالآخرة عن النّاس. بل لا يوجد من يتخلّف عنه سوى من كان يتودّد إلى طائفة باطويح القاعدين بكلّ مرصد يصدّون البسطاء عن سبيله وعن سبيل سيّدنا الأستاذ الأبرّ ومن على شاكلتهم، ومعاذ الله أن يتأثّر بكلامهم السّيّد محمّد بن طاهر، وهو الّذي لا يقعقع له بالشّنان، ولكنّني لا أحفظ زيارته لوالدي مع أنّي لم أفارقه إلّا للحجّ في سنة (1322 ه)، وما كنت لأنسى زيارته لوالدي لو كانت، وأنا أحفظ كلّ من زاره من أهل الفضل منذ الرّابعة من عمري؛ لأنّه يقدّمني إليهم ـ ليبرّكوا عليّ ويلبسوني ولأقرأ عليهم شيئا من القرآن أو حديث معاذ في العلم وعلّ وصوله حضرموت صادف مرضي الشّديد في سنة (1313 ه)؛ فإن كان كذلك.. فقد انحلّ الإشكال ـ إلّا أنّه يبلّ من غليل تلك الحسرة ما كان يمثّله لنا السّيّد عبد القادر بن محمّد السّقّاف ـ الآتي ذكره ـ من كلامه وقراءته ومشيته.
ثمّ انحدر بعد ذلك إلى جاوة، وأدركته المنيّة بالتّقّل ـ إحدى مدنها ـ في سنة (1316 ه)، عن اثنين وأربعين ربيعا، فكان أكبر من قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 217 من الطّويل]:
«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »
«فتى جاءه مقداره، واثنتا العلا *** يداه، وعشر المكرمات أنامله »
«فتى ينفح الأيّام من طيب ذكره *** ثناء كأنّ العنبر الورد شامله »
وقد زرت قبره، وألفيت عليه من المهابة والجلال ما ذكّرني بقول الأوّل [من الطّويل]:
«على قبره بين القبور مهابة *** كما قبله كانت على ساكن القبر»
وبإثره تقيّض فريقه، وانتهج طريقه ولده الفاضل علويّ؛ فلقد أحيا قدّته، وأظهر جدّته، وأطال مدّته، وأعاد جوده ونجدته، فما زال طويل العماد، كثير الرّماد، فحماد له حماد.
«تنميه في قلل المكارم والعلا *** زهر لزهر أبوّة وجدود »
«فرع من النّبع الشّريف إذا هم *** نسبوا وفلقة ذلك الجلمود»
ويذكر أخوه الحسين بجود غزير، وفضل كبير، يأتي فيه بحقّ قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 8 من البسيط]:
«لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة *** تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف »
ومن الأسف أن تستأثر جاوة بأمثالهم، لكنّ الأمر كما قال حافظ [في «ديوانه» 1 / 269 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
وفي قيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ بن محمّد بن أحمد الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، منهم:
الصّالح الفاضل السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله، له أحوال غريبة، ودعاء مستجاب، يأخذه عند ذكر الموت حال عظيم يخرجه عن حسّه ويذهب به هائما على وجهه.
وعلى قريب من حاله كان ولده الدّاعي إلى الله محمّد، المتوفّى بسيئون في أوائل سنة (1324 ه).
وكان عيشه على قدم التّوكّل، ولا تخلو عصمته عن أربع زوجات، وله نوادر، منها:
أنّه تعشّى عند أمّه في حوطة آل أحمد بن زين، فقال: أريد السّمر عند بعض الإخوان.
فقالت: خذ مفتاح الدّار معك؛ حتّى لا توقظني بقرع الباب.
فعنّ له أن يذهب إلى الفجير على نحو تسعة أميال من الحوطة ودون الميل من سيئون، وكره أن يزعج أهل الفجير بالقرع، فعمد لجذع طويل ألفاه هناك، فتسلّق عليه منزل زوجته ابنة السّيّد شيخ بن أبي بكر مولى خيله، ولمّا قضى وطره منها.. عنّ له أن يذهب إلى سيئون، فحمل الجذع وتسوّر به على بيت امرأته الأخرى بسيئون ـ وهي أمّ السّيّدين: إبراهيم وموسى آل الحبشيّ ـ ولمّا أخذ مأربه منها.. ردّ الجذع إلى موضعه بالفجير، ثمّ سرى، ولمّا كان بالغرفة.. دخل جامعها وتطهّر وتهجّد ما شاء، ثمّ سرى إلى الحوطة، فلمّا وصلها.. عرف أنّه نسي مفتاح الدّار بجامع الغرفة، فرجع أدراجه وأخذه من الميضأة، وسار إلى الحوطة، ولم يصلها إلّا بعد مطلع الفجر.
ومن نوادره: أنّ زوجته الّتي بسيئون هي بنت عمّه، واسمها: شيخة بنت محمد الحدّاد، وكان كلّما زارها.. وجد عندها ابنيها إبراهيم وموسى ابني عمر بن شيخ بن هاشم بن محمّد بن أحمد الحبشيّ.. فلم يتمكّن من الخلوة بها، حتّى جاشت نفسه ذات يوم، فقال:
«خيره في العشق لي *** فيه النّكد والنّغص »
«حلّيت في حصن لكن *** فيه جملة لصص »
«خليّ خلي لي ول *** كنّه شرد وافتحص »
«جفل كما الصيد لا *** قد شاف همزة مقص »
«ولو معي قرش باقنص *** مثل من قد قنص »
وكان وجد منها فرصة، ولمّا جلس بين شعبها.. أحسّت بقدومهما، فنهضت من تحته فقال الأبيات.. فأجابته من حينها بقولها:
«قال ابن هاشم من ال *** مولى هي الّا حصص »
«لو حد قسم غير ربّي *** قلت قسمي نقص »
«لو كنت عاشق دهنت *** السير وارميت خص »
«لا جبت لي شرك في *** قادم ولا جبت قص »
«من يطعم الخيل وكّب *** به إذا شا ورصّ »
«كانّك بغيته على *** ذا الشور والّا خلص »
وذكرت عند هذا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّما دخل على أمّ سلمة بإثر بنائه عليها.. بكت بنتها، فأخذت تعلّلها بالرّضاعة حتّى أخذها عمّار بن ياسر ـ وكان لها محرما ـ وقال: لقد حرمت هذه المقبوحة المشقوحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يريد.
ومن ذرّيّة السّيّد عبد الله بن طه بقيدون: السّيّدان الجليلان: الواعظ العابد الصّالح عبد الله بن طاهر. والعلّامة الجليل علويّ بن طاهر، علم علوم، ونبراس فهوم.
«ويكنى باسمه عن فضل علم *** وكلّ اسم كنايته فلان »
فهو الخطيب المصقع، والفقيه المحقّق، والمحدّث النّقّاد، وله في التّفسير الفهم الوقّاد، ومؤلّفاته شاهدة وآثاره ناطقة، ولم أعرف مبلغ معرفته بالفقه، إلّا أنّه اختلف من نحو ثلاثين عاما هو والقاضي الشّيخ عبد الله سعيد باجنيد في مسألة في الشّفعة، وكتب في ذلك رسالة أسهب فيها حتّى انتهى إلى الثّناء على السّيّد الفاضل حسن بن عبد الله الكاف، ولمّا رفع إليّ كلام الاثنين للنّظر أظنّني ـ والعهد بعيد ـ رجّحت كلام القاضي، فرأيت منه جفوة من حينئذ ما كان له أن يتحمّلها؛ إذ لم يزل العلماء بين رادّ ومردود عليه، لكنّ الإنصاف عزيز، ولهذا لم أعامله بمثلها كما يعرف النّاس، وإن انضمّ إلى ذلك اختلاف الآراء بشأن الرّابطة حسبما فصّل ب «الأصل».
وكان على الإفتاء في بلاد جهور من ناحية الملايا، ثمّ انفصل في أيّام الحرب المشؤومة اليابانيّة.
وسبب كونهم بقيدون ما أخبرني به قاضي الحوطة الأسبق الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين بن عبد الله الحبشيّ: أنّ جدّه لأمّه شفاء وهو السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله بن طه بن عمر بن علويّ الحدّاد ـ السّابق ذكر تردّده إلى هناك ـ حمل معه ابنه طاهرا، فتزوّج على الشّريفة شفاء بنت عيسى أخت الحبيب عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، وأولدها عبد الله في سنة (1296 ه)، وعلويّا في سنة (1301 ه)، وفي نفاسها به مرّ عليه في قيدون عمّه جعفر بن طه ـ الآتي ذكره في الحاوي ـ وقال له: لماذا تجلس بقيدون تضع الأولاد؟! فتعال معي إلى جاوة، ففعل، ومات بعد وصوله بشهر ونصف شهر، فعاشا في كنف أمّهما وأبيها، وكانت أمّ أعمامهم محمّد وحسن وعليّ ـ وهي سعديّة بنت الحبيب محمّد بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ ـ تبعث لهم بالمواساة، ولمّا يفع عبد الله.. نجع إليها بحوطة آل أحمد بن زين، فكفلته، وكان يتردّد إلى الغرفة؛ فله أخذ عن الأستاذ الأبرّ الحبيب عيدروس بن عمر، ولمّا استغلظ علويّ.. قدم عليها أيضا، فآوته؛ إلّا أنّها شغلته بالخدمة حتّى أنّها لا تمكّنه من حضور الرّوحة بالحوطة. هذا آخر كلام القاضي عبد الله بن حسين.
وأشهر أولاد عبد الله بن طه حالا، وأعلاهم كعبا، وأكثرهم جمالا: هو شيخنا صاحب النّفس الأبيّة، والهمم العليّة، والشّهامة والأريحيّة، كثير العبادة والتّلاوة والأذكار، ظاهر السّيادة والسّعادة والأنوار، صالح بن عبد الله، زرته بداره في نصاب آخر سنة (1349 ه) فأجلّني وأكرمني وألبسني وأجازني وشابكني ودعا لي بدعوات عظيمة.
وممّن بقيدون من السّادة: آل بافقيه، وقد مرّ في الخريبة ذكر السّيّد أبي بكر بن محمّد بافقيه، وأثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة»، وقال: «إنّه توفّي بقيدون في سنة (1053 ه) ».
ثمّ رأيت الشّليّ ترجم له في «مشرعه» وأطنب في الثناء عليه، وذكر له علما جمّا وفضلا كثيرا.
وبقيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عقيل بن عبد الرّحمن السّقّاف، وهم: آل باعقيل:
منهم: السّيّد الصّالح عبد الرّحمن، صاحب المشهد المعروف بصيف، توفّي ببضه منقرضا.
ومنهم: السّيّد عمر بن علويّ باعقيل، جمع ثروة طائلة بسربايا من أرض جاوة، ولم ينس حقّ الله فيها، من إعانة الضّعيف، وإغاثة اللهيف، وبقي مع كثرة أمواله على حاله من التّواضع، توفّي بسربايا، لعلّه في سنة (1328 ه)، وخلّف أولادا، منهم: محمّد، السّابق خبره في الضّليعة.
ومنهم: أحمد، قتله السّيّد محمّد بن عبد الله بن عمر البارّ ظهر النّهار علنا، وهو راكب سيّارته في الطّريق العامّة بسربايا.
ومنهم: محسن وحسين، قامت بينهم منازعات تلفت فيها أكثر أموالهم. وقد سبق في خبر محمّد أنّ إخوانه دفعوا عنه بأمره خمسين ألف روبيّة للقعيطيّ، وهي الّتي توقّف إطلاقه من السّجن على دفعها، وقد تعهّد محمّد بتسليم مقابلها، وأعطاهم وثيقة بذلك وهو مختار، وعلّق طلاق نسائه بالثّلاث بتأخّره عن دفعها لهم مدّة معيّنة بعد القدرة، مضت تلك المدّة وهو رخيّ الخناق، وبقي مع نسائه مع عدم عذره في المطل، ولمّا وصلت سربايا سنة (1349 ه).. سألني أصهاره من بني عمّه.. فأفتيتهم بنفوذ الطّلاق.
ومنهم: السّيّد النّزيه النّديم، الخفيف النّسيم، صاحب النّوادر اللّطيفة، والحالات الشّريفة، عبد القادر بن محمّد السّقّاف، وهو من المعمّرين، عاش في أكناف الأكابر، وحظي باعتنائهم وصحّة ولائهم، وله دالّة عظيمة عليهم، وكثيرا ما يمثّل هيآتهم وأصواتهم وقراءاتهم، وكيفيّات مشيهم وحركاتهم، فيخفّف من حسرتنا على عدم الاجتماع بكثير منهم؛ كسيّدي طاهر بن عمر الحّداد، وابنه محمّد، وسادتي: عمر بن هادون، ومحمّد بن صالح، وعمر بن صالح، وأمثالهم. وفي ذلك التّمثيل نوع من الوصال ليس بالقليل، وهو الآن بمكّة المشرّفة على ضيافة صاحب المروءة الشّيخ عبد الله سرور الصّبّان، أحسن الله جزاءه.
وفي قيدون جماعة من السّادة آل الحبشيّ، من آخرهم: الفاضل الجليل، السّيّد عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، كان على قضائها في سنة (1329 ه) وعنده علم غزير، وتواضع كثير، ونزاهة تامّة، وصدر واسع، وجانب سهل.
وآل قيدون يتعالمون بأخبار كبيرة عن نجاح الشّيخ أحمد بن سعيد باداهية في علاج الأمراض بطبّه العربيّ، لو لا انتهاؤها إلى التّواتر المعنويّ.. لكذّبناها؛ لأنّها ممّا تدهش العقول.
وفي قيدون عدد ليس بالقليل من حفّاظ كتاب الله، وبينما أنا مرّة عند السّيّد حسين بن حامد المحضار بالمكلّا.. ورد شيخ من آل العموديّ، يقال له: بن حسن، عليه زيّ البادية، فإذا به يحفظ كتاب الله ويجيد قراءته! ولمّا اشتدّ إعجابي به.. قال لي العمّ حسين: لكنّه سارق! فسألته، فقال: نعم إنّي لأحد جماعة من الحفّاظ، إذا كان من أوّل اللّيل.. سرقنا رأس غنم على أحد أهل قيدون واشتويناه، ثمّ إذا كان من آخر اللّيل.. سرنا إلى الجامع نتدارس آيات القرآن بظهر الغيب.
وما أدري أقال ذلك مازحا، ليوافق هوى الوالد حسين، أم عن حقيقة؟ غير أنّني عند هذا تذكّرت ثلاثة أمور:
الأوّل: ما جاء في «مسند الإمام أحمد» [2 / 247] ونصّه: حدّثني عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، قال: أنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ فلانا يصلّي باللّيل، فإذا أصبح.. سرق! قال: «إنّه سينهاه ما تقول») وهذا السّند جيّد.
الثّاني: لمّا كنت بسربايا في سنة (1349 ه).. حضر مجلسنا رجل أصله من مكّة، يقال له: محمود، فقرأ لنا حصّة من الكتاب العزيز بصوت جميل كاد يقتلع قلبي من مكانه، فطربت لذلك، وأمرتهم بالاكتتاب له، فقالوا: إنّه يشرب الخمر! فقلت لهم: إنّ من أدرج كتاب الله بين جنبيه، وحبّره هذا التّحبير.. لجدير أن لا يموت إلّا على حسن الختام، وذكرت الحديث، فاكتتبوا له على قدر هممهم بنحو من ثلاث مئة ربيّة.
والثّالث: قول النّجاشيّ الحارثيّ يهجو أهل الكوفة [من البسيط]:
«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»
«التّاركين على طهر نساءهم *** والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا»
«والسّارقين إذا ما جنّ ليلهم *** والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا»
«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا»
وما إخاله في ذلك بارّا ولا راشدا، وكيف يصدق وقد بلغ به الفسوق إلى انتهاك حرمة رمضان بالسّكر في أوّل يوم منه، فحدّه مولانا عليّ بن أبي طالب وزاده عشرين فانسلّ إلى معاوية مع أحد نهد في خبر طويل ذكره شارح «النّهج».
وقد قال سفيان بن عيينة: (خذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة).
ومن النّوادر: ما أخبرني به منصب المشهد السيّد أحمد بن حسين: أنّ العبيد بدوعن ـ وفيهم كثرة لذلك العهد ـ يجتمعون ويتبعهم العتقاء لزيارة الشّيخ سعيد بن عيسى في آخر جمعة من رجب، ويدخلون والخطيب في خطبته بطبولهم ومزاميرهم، فقام لهم مرّة أحد آل العموديّ فكسرها عليهم، وهمّوا بقتله لكنّهم احترموه لأنّ خاله الشّيخ عمر بن عبد القادر العلّامة المشهور الشّبيه الحال بالشّيخ بامخرمة، ولكنّهم أجمعوا على الجلاء واجتمعوا بالسّويدا ـ وهي نخيل قيدون ـ فقال بعضهم: إنّ بالسّويدا رجالا.
وبينا هم معسكرون هناك للرّحيل بقضّهم وقضيضهم ـ وقد عجز أهل دوعن عن صدّهم، مع أنّ أكثر أعمالهم وخدمهم متوقّفة عليهم ـ.. إذ جاء العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس فسار إليهم ـ ومعه الشّيخ عمر بن عبد القادر العموديّ ـ وأعطاهم البنّ
ليطبخوا القهوة، وسألهم عن شأنهم فأخبروه، فقال لهم: لا تطيب لنا الأرض من بعدكم فسنرحل معا، وما زال يلاينهم حتّى تمّ الأمر على أن تبقى زيارتهم بحالها وعلى أن تحبسوا الشّيخ الّذي كسر طبولهم شهرا، وسوّيت القضيّة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر ـ أحد تلاميذ الأستاذ الحدّاد ـ قد قيل له: إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر يريد أن يكون مثل بامخرمة، فقال الأستاذ الحدّاد: إنّه لأعظم حالا منه، وكان يستعمل السّماع إذا وصل كحلان، أمّا في تريم.. فلا؛ أدبا. وقال مرّة للحبيب عليّ بن حسن العطّاس: ما قصرن إلّا القحيبات؛ يعني: البغايا.
وقد ترجمه السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وبالغ في الثّناء عليه، وترجمه أيضا الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس، وكانت وفاته سنة (1147 ه)، وهو من أهل التّخريب، وذكره الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في مواضع من كتبه ك «جواهر الأنفاس» وغيره.
عود إلى أخبار آل العموديّ ورئاستهم بعد انقسامهم: قد مرّ في بضه أنّ الكساديّ استولى على أكثر دوعن في حدود سنة (1286 ه)، غير أنّ العموديّين اجتمعوا إثر اغتيال الكساديّ أحد المشايخ، وهو الشّيخ محمّد بن شيخ العموديّ، في سنة (1288 ه)، ونجعوا بالرّئاسة العامّة للشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ، فتحمّل أثقالا فادحة، عهّد من أجلها أموالا طائلة بسهوة السّابق ذكرها في مرخة، وساعدهم جميع قبائلهم من القثم وسيبان والمراشدة والجعدة وغيرهم، فأيّدهم الله على عدوّهم، فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم تأت سنة (1300 ه) إلّا ووادي دوعن، حسبما قال الإمام المحضار [من مجزوء الرّجز]:
«انظر إلى الوادي فقد *** حلّت به السّبع الشّداد»
«الأخمعي والمرشدي *** هم والقثم بئس المهاد»
«والدّيّني والمشجري *** هو والعبيدي لا يعاد»
«وابن مطهّر سابع ال *** غلمه وهو رأس الفساد»
«الله يهديهم ويه *** دينا إلى طرق الرّشاد»
«والّا ينظّفهم من ال *** وادي ويجعلهم بعاد»
وقد سبق في بضه أنّهم منقسمون إلى قسمين: آل محمّد بن سعيد، ولهم قيدون وما نزل عنها إلى الهجرين.
وآل مطهّر، ولهم بضه وما إليها. وكان فيهم عدّة مناصب:
آل صالح بن عبد الله، ببضه. والشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم صاحب شرق، على مقربة من الخريبة. والشّيخ سعيد بن محمّد بن منصّر صاحب العرض، بالخريبة أيضا. والشّيخ محمّد باعمر صاحب البراز، قريبا من القرين.
وبينهم من المنافسات ما لا تبرك عليه الإبل، وكلّ منهم يوضع في سبيل الجور والظّلم، فلم يكن من أحد آل باسودان وأحد آل باعبيد.. إلّا أن رفعا شكوى إلى القعيطيّ بالمكلّا على الشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم، فاستدعاه القعيطيّ، فركب إليه مجلّلا محترما، ولم يزل في مفاوضة معه حتّى تمّ الكلام على أن تكون الرّئاسة العامّة للقعيطيّ، ولابن عبد الكريم استقلال داخليّ في الخريبة وأعمالها ضمن دائرة العدل، وعلى أن ليس له أن يأخذ شيئا من الرّسوم سوى مئتي ريال شهريّا.
وقبض إزاء ذلك الصّلح من يد القعيطيّ ما لا يستهان به من الدّراهم، وما كاد يصل إلى الخريبة حتّى حبس باسودان وباعبيد، فاغتاظ السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ، ورأى أنّ شرفه مسّ، وأنّ المعاهدة انخرمت بحبس ذينك، وكره أن يتعجّل بعقوبة ابن عبد الكريم، فأشار على الشّيخ صالح بن عبد الله أن يعذر إليه، فأرسل بأخيه عبد الرّحمن، وبالسّادة: حامد بن أحمد المحضار، وحسين بن محمّد البارّ، وحسين بن عمر بن هادون صاحب المشهد، فلم يقبل ابن عبد الكريم لهم كلاما.
واتّفق أن وصل الشّيخ عليّ بن محمّد بن منصّر إلى المكلّا يتذمّر من مخالفة القعيطيّ لابن عبد الكريم، فصادف سخطة القعيطيّ على الثّاني، فحالف ابن منصّر بشرط أن يساعده على ابن عبد الكريم، وما كاد يرجع إلى مكانه العرض.. حتّى أذكى نار الحرب على ابن عبد الكريم، وجاءته نجدة القعيطيّ بقيادة عبد الله بن امبارك القعيطيّ، فلم يثبت ابن عبد الكريم إلّا نحوا من أربعين يوما، ثمّ هرب إلى جهة القبلة، فصادف أحد زعماء العموديّين، وهو: الشّيخ محمّد بن عبد الرّبّ، فجمع له عسكرا كثيفا هاجم به الخريبة فاستولى عليها، ودارت المفاوضات بينه وبين ابن منصّر صاحب العرض فانضمّ إليه، وعند ذلك تراجعت عساكر القعيطيّ إلى الهجرين، وغضب السّلطان غالب لذلك، وأرسل عسكرا مجرا بقيادة عبد الخالق ابن الماس عمر مولاهم، ولاقاه صلاح بن محمّد القعيطيّ ـ من القطن ـ مددا له بمن كان معه، وبفلول العساكر الّتي بالهجرين، وعند ذلك قالوا لآل العموديّ: اهبطوا منها جميعا، فانهزموا ولم يجدوا لهم ملجأ ولا مدّخرا إلّا الشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ المحافظ على محايدته، فنزلوا عليه.. فآواهم، وكان ذلك في سنة (1317 ه).
وكان من رأي الأمير صلاح بن محمّد وعبد الخالق أن يطاردوهم وينتزعوهم من بضه، لكنّ السّلطان غالب بن عوض كان كريما، يجلّ الكرام، فنهاهم عن ذلك احتراما للشّيخ صالح بن عبد الله، وبإثر ذلك انتحر عبد الخالق الماس في القويرة، ولم تطل أيّام الأمير صلاح.. بل مات وشيكا في سنة (1318 ه). وب «الأصل» تفصيل تلك الحوادث.
وأسند القعيطيّ عمالة وادي الأيمن للمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ما قد أسلفناه في عوره، وبعد أن استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن.. حمل المقدّم باصرّة كلّ أسلحة الدّهاء لحمل القعيطيّ على التهام الوادي الأيسر، ولم يزل يتحيّن الفرص للوثوب عليه؛ لما في قلبه من البغضة للحالكة.
وكانت رئاسة الوادي الأيسر لآل الشّيخ محمّد بن سعيد ولقبائلهم الحالكة، ومن مناصبهم: الشّيخ محمّد عبود القحوم، السّابق ذكره في قرن ماجد، وله بلاد الماء وخديش وقرن ماجد، وهو من الوادي الأيمن، وله العرسمة ونصف صبيخ، وهي من الأيسر.
ومنهم: الشّيخ حسن بن بدر، وله صيف وفيل.
ومنهم: الشّيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن محمّد، وله حوفة وضري وتولبة.
ومنهم: الشّيخ عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمّد، وله العرض، ونصف صبيخ مثرى القحوم.
ومنهم: الشّيخ حسين بن محسن، وعمر بن عبد الله، ولهم حيد الجزيل.
وأوّل ما انفتح الباب لباصرّة إلى الوادي الأيسر: شرّ حدث بين الخنابشة وآل باهبري، سببه: أنّ أحمد بن سالم باشجيرة الخنبشيّ تزوّج امرأة من آل باهبري، يقال لها: قمر، بدون رضا من بني عمّها، فبينما امرأة من الخنابشة تستقي من غيل جريف.. إذ عمد لها بعض آل باهبريّ فأراق ماءها، فخفّت إلى أهلها، فكانت بينهم وقعتان، قتل في الأولى عمر بن سالم الخنبشيّ، وفي الثّانية أخوه عبد الله بن سالم الخنبشيّ، وكان ذلك أوائل سنة (1322 ه)، فخاف آل باهبريّ من الخنابشة، وكان شيخ قبائل الحالكة كلّها المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، فلجأ إليه آل باهبريّ، فأعطاهم بعض رجاله بصفة الخفارة، فسقط في يد الخنابشة، وأيقنوا بتعذّر الثّأر، فاستعانوا بالمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ينظر إلى واديهم نظر الجزّار إلى التّيس، وتحالفوا معه سرّا حلفا هجوميّا دفاعيّا، آثروا التّكتّم به؛ لئلّا ينتبه آل باهبريّ فيأخذوا حذرهم، ولمّا ظهر لهم قاتل أحد إخوانهم.. أطلقوا عليه الرّصاص فنضخ دمه في ثياب بلحمر، فاستشاط المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، وأحاط بجحي الخنابشة، ولمّا اشتدّ الأمر.. أمدّهم باصرّة بأربع مئة مقاتل، فأبلعوهم الرّيق.
وفي سنة (1325 ه) سار بلحمر وأهل ليسر ـ ومنهم: آل بقشان، ورؤساء الحالكة، والشّيخ أحمد بن حسين العموديّ ـ إلى المكلّا، وحالفوا القعيطيّ وأعطوه الوادي، وأعلنوا ذلك بالأسواق، ففتّ بذلك في أعضاد الخنابشة؛ إذ لا يستطيعون مقاومة بلحمر إلّا بالقعيطيّ، ومتى حالفه.. ماذا يفعلون؟ فبقوا ساكتين حتّى نزغ الشّيطان بينهم، ونشبت الحرب مرّة أخرى، وسرعان ما انعقد الصّلح بين الخنابشة وبلحمر على أن لا تكون مساعدة من القعيطيّ للخنبشيّ في مدّة الصّلح، ولمّا انتهى.. حصلت مساعدة قليلة استمرّ بها الخنبشيّ على الحرب عشرة أشهر، ولمّا اشتدّ الحصر على الخنابشة بالجحي.. جاءت نجدة المكلّا، وتقدّم باصرّة من الوادي الأيمن، وأحاط بالعرسمة فسلّمت في سنة (1328 ه)، ثمّ سلّمت الجديدة، ثمّ صبيخ، ثمّ جريف، ثمّ الدّوفة.
ثمّ انعقد الصّلح بين القعيطيّ والحالكة على بقائهم بمساكنهم وأموالهم في الوادي الأيسر مجلّين محترمين، إلّا أنّ المقدّم عمر بن أحمد بلحمر لم يطب له المقام مكتوف اليد، فذهب إلى سيئون ثمّ إلى وادي العين ثمّ إلى ريدة الجوهيّين ثمّ إلى لبنة بارشيد عند نوّح، فلم يعثر بطائل فعاد إلى بلاده، وأجرى له السّلطان غالب بن عوض ما يكفيه، وتفصيل هذه الأخبار ب «الأصل».
ومن وراء قيدون عدّة قرى وشراج، ومنها:
مسه، وهي قرية صغيرة على يسار الذّاهب إلى دوعن، يسكنها ناس قليل من آل بامحرز، وفيها غيل جار، عليه نخيل لآل بامحرز ولآل العموديّ، وعليه تزرع الخضراوات، وحواليها كانت وقعة مسه، وحاصلها: أنّ السّلطان عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق أغرى ولده جعفرا على الشّيخ محمّد بن مطهّر العموديّ في ألف وثمان مئة.. فلاقاه العموديّ في عدد قليل، ولمّا رأى عسكر جعفر.. انهزم، فتبعه عسكر جعفر، ثمّ لم يشعروا إلا بكمين من العموديّ يركب أكتافهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وفرّ الأمير جعفر بمن بقي معه إلى الهجرين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
سبعة ومئتين غلبوا سبعة عشر مية
وكان ذلك في حدود سنة (1115 ه) كما فصّل ب «الأصل».
ومنها: نسرة، فيها آثار ديار قديمة، وقد بني فيها مسجد ومدرسة على نفقة الشّيخ أحمد بن مساعد ـ أو مداعس ـ الموجود الآن فيما يقال بالحديدة.
وقد رجوت أن يحصل من هذه المدرسة ما كنت أؤمّله؛ إذ لا يرجى الخير من مدرسة يختلط أبناؤها بالأوساط الفاسدة، وإنّما يرجى من مدرسة داخليّة ينتخب لها معلّمون صالحون، على أبلغ ما يكون من النّزاهة والتّقوى، حسبما اقترحته على السّلطان القعيطيّ في أواخر ذكر المكلّا؛ لأنّ الخلطة الدّاء، وإنّما التّلميذ هو ظلّ المعلّم.. ينحو نحوه، ويقتصّ أثره، ولكن بلغني ـ ويا للأسف ـ أنّ تلك المدرسة أقفلت، وطاحت تلك العبارات، وفنيت تلك الإشارات، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وما شاء الله.. كان، وما لم يشأ.. لم يكن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
14-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحوطة)
الحوطةهي مدينة وادي بن علي، وهي من قدامى البلدان، وكانت قاعدة ملك بني سعد.
قال الملك الأشرف المتوفّى سنة (696 ه): (وآل جميل، ويقال لهم: بنو سعد، وليسوا من بني ظنّة، ومشايخهم: عيسى بن جميل بن فاضل، وابن أخيه محمّد بن نصّار بن جميل بن فاضل.
ومن بني سعد: آل حسن. ومشايخهم: عليّ بن جبل بن حسن، وفاضل، وابن عمّه عبد الله بن جميل بن حسن بن فاضل) اه
وكان نصّار بن جميل بن فاضل ـ وهو أبو محمّد السّابق ذكره في كلام الأشرف ـ أحد كبار أمراء الطّوائف بحضرموت، وكانت تحته شبام، وله غزوات إلى دوعن وإلى تريم وغيرها، وكان ظالما، إلّا أنّه تاب على يد الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ، وحجّ ولم يتمكن من الزّيارة، ولمّا وصل إلى مأرب مرجعه من الحجّ.. لاقاه أحد معارفه فلامه، فعاد ليزور فمات في أثناء الطّريق.
ولبني سعد أخبار كثيرة ممتزجة ب «الأصل» بأخبار الغزّ ونهد وآل يماني، وآل أحمد والصّبرات وآل كثير.
ولم يزل أمر آل كثير يقوى، وأمر بني سعد يضعف حتّى صاروا سوقة.
وكان الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ داعيا إلى الله، وجبلا من جبال العلم، وركنا من أركان الإسلام.
«عليه من النّور الإلهيّ مسحة *** تكاد على أرجائه تتدفّق »
وكان بالغرفة يصلّي جماعة في مسجد ينسب لبعض الفقراء من أهل الغرفة، ويدرّس لهم العلم، فحصل من أولئك الفقراء ـ المنسوب إليهم ذلك المسجد المسمّى بالحمّام ـ أذى، فتحمّله، وما زالوا به حتّى أخرجوه من المسجد، وأخرجوا كتبه، وآذوا من يتردّد عليه، فلم ينزعج ولم يظهر منه إلّا الصّبر والثّبات.
وانتقل إلى الحوطة الغربيّة ـ وهو المكان المسمّى بالبهاء في غربيّ خلع راشد ـ وبنى بها مسجده وداره، ولم يزل يتردّد إلى خلع راشد للتّدريس في مسجد جدّه أحمد بن محمّد صاحب الحسيّسة ـ وهو أصل الجامع الموجود اليوم ـ وإلى شبام للأخذ عن علمائها.
قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في «سفينة البضائع»: (جئت إلى شبام وأنا في نحو (14) سنة، وقصدت عند الخال بكّار بن محمّد بن أحمد بن عقبة، وسرت أنا وهو إلى مسجد ابن أحمد، وفيه سيّدي العلّامة محمّد بن زين بن سميط، فبينما نحن جلوس، وأنا بغاية الشّوق للحبيب أحمد بن زين.. إذ دخل علينا كأنّه البدر في تمامه، وعليه كساء فاخر أبيض؛ قميصان وعمامة، وشال أبيض مشجّر بأسود) اه
توفّي الحبيب أحمد بالحوطة فجأة في سنة (1144 ه)، ودفن بشرقيّ الحوطة، وعملت عليه قبّة، ولم يتمكّن الوهّابيّة من هدمها؛ لاستعجالهم مع نوع من المجاملة لآل كثير؛ لأنّ بعضهم كان عونا لهم على تنفيذ كثير من الأمور.
وله عدّة أولاد؛ منهم: علويّ، وقد توفّي بشبام، وكان أهلها يهابونه هيبة عظيمة، حتّى لقد قال الحبيب عمر بن زين بن سميط: لقد مات اليوم من يستحيا منه، وآل شبام لا يسمّون إلى اليوم بعلويّ؛ إجلالا له.
ومنهم: جعفر، وهو الّذي خلف أباه، له مظهر عظيم، إلّا أنّه من أهل الأحوال الّتي يتطرّق إليها انتقاد الفقهاء بحقّ، وفي «المواهب والمنن»: أنّ القطب الحدّاد ألبسه وألبس إخوانه مرارا عديدة، وكان الحبيب أحمد بن زين يزور القطب الحدّاد آخر عمره في كلّ سنة فيلبسه ويلبس أولاده، وكانوا كلّهم أئمّة فحولا علماء، سادة وقتهم ومكانهم.
وفيها يقول الحبيب حسن ابن القطب الحدّاد: كنت أقرأ أنا والسّيّد أحمد بن زين في بعض الكتب ـ وأظنّه «المستطرف» ـ فانتهت بنا القراءة إلى ذكر الممتّع، وكان الحبيب جعفر أصيبت إحدى عينيه وهو صغير، ولم ننتبه لحضور جعفر إلّا بعد القراءة، فحصل معنا الأسف.
توفّي الحبيب جعفر بخلع راشد، وخلفه ابنه العلّامة الجليل أحمد بن جعفر، فانتقل إلى خلع راشد، وكان له اثنا عشر ابنا.
«بنو أغرّ من الأقوام شاد لهم *** مجد الحياة وأقناهم إلى الأبد »
«يقفون منه خلالا كلّها حسن *** إن عدّدت غادرت فضلا على العدد»
فابتنى لهم ديارا في خلع راشد بعددهم، فتديّروها. كان بناء الدّيار لا يكلّف كثيرا حسبما يعرف ممّا يأتي في حاوي تريم، عن بناء القطب الحدّاد لأولاده، ولم يبق من أعقاب الحبيب أحمد بن زين بالحوطة الغربيّة المسمّاة بالبهاء إلّا القليل.
ولمّا مات الإمام أحمد بن جعفر.. خلفه ولده الفاضل محمّد بن أحمد، المتوفّى بخلع راشد سنة (1253 ه)، وهو الشّيخ الرّابع من مشايخ سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر.
وخلفه ابنه عبد الله بن محمّد بن أحمد، وكان فقيها نبيها على القيام بمنصبه.
ثمّ نزل عنه لأخيه صالح بن محمّد، وكان كاسمه صالحا، وكان لا يتكلّم إلّا بالعربيّة الفصحى، ولذلك سبب، وهو:
أنّه وصل إلى بيت مفتي الشّافعيّة بمكّة السّيّد محمّد بن حسين [الحبشي] أيّام كان بالقنفذة، فسأل عنه باللّغة الدّارجة، فضحكت منه واستهزأت به بنته آمنة ـ الّتي تزوّجها بعد السّيّد علويّ السّقّاف صاحب الحاشية على «فتح المعين» ـ واستهزأت بكلامه، فآلى على نفسه أن يتعلّم النّحو، وأن لا يتكلّم إلّا بالإعراب، ولم يحنث.
وكان أبيض القلب لا يعرف حيل آل كثير، حتّى لقد ذهب مرّة للإصلاح بين آل عبدات وجيرانهم من آل عمر، فأجابوا على شرط أن لا يخرج أحد من داره إلّا بخفير، فاقتنع بذلك، ولمّا اجتمع بأخيه عبد الله.. قال له: أيّ معنى للصّلح إذا.
وانتهى به الصّلاح إلى أن تجوهر قلبه فتفرّس قرب أجله، فسيّر كتبا للأعيان، منهم: سيّدنا الأبرّ عيدروس بن عمر بيوم وفاته، وبات ليلتها يعظ النّاس ويذكر أعيان زمانه بما فيهم، وممّن فاز ببالغ ثنائه ليلتئذ: الأستاذ الأبرّ، وسيّدي عبد الله بن حسن البحر، مع أنّ آل أحمد بن زين ينفسونهما، ولا سيّما الثّاني، ثمّ مات من آخر تلك اللّيلة.
وعاد السّيّد عبد الله بن محمّد إلى المنصبة، وكان طلب العلم بمكّة المشّرفة وغيرها، وكان يجعل الطّلاق الثّلاث باللّفظ الواحد واحدة فقط، وكنت أستشكل ذلك؛ لإجماع الفقهاء الأربعة على خلافه، حتّى أمعنت النّظر فيما قرّره العلّامتان ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، فرأيت حججا تنقطع دونها ألسنة الاعتراض، ومع ذلك بقيت على التّوقّف؛ لأنّ السّادة الحنابلة مع إعظامهم لهذين الشّيخين لم يوافقوهما على هذا القول، حتّى رأيت ما ذكره الشّوكانيّ في «نيل الأوطار» وقول الإمام الرّازيّ في تفسير آية الطّلاق من سورة البقرة: (إنّه الأقيس).. فانشرح صدري لذكري إيّاه لمن يسألني من العامّة.
وكذلك بلغني عن السّيّد عبد الله بن محمّد أنّه يمنع نفوذ طلاق الغضبان! فقفّ شعري أوّلا، ثمّ رأيت ما ذكره ابن القيّم في «الزّاد». وفي رسالة أخرى مطبوعة إلى جانبها قصيدة آنقتني لشاعر العراق معروف الرّصافيّ.
ومع ذلك فلم أجسر على تصويبه في ذلك، حتّى صوّبت النّظر في قوله جلّ ذكره: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
وقد روي: (أنّ التّوراة كانت سبعة ألواح، فلمّا ألقاها موسى.. تكسّرت إلّا واحدا، فرفعت ستّة أسباعها، وفيها تفصيل كلّ شيء، وبقي منها سبع واحد فيه الرّحمة والهدى)، إلّا أنّه قد يغبّر على هذه الرّواية إمكان تقريرها حتّى من رضاضها وقد قال تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) مع ما يوجد من الأحكام والقصص بكثرة في «التّوراة».
ومهما يكن: فلو كان الغضبان مؤاخذا.. لوقع موسى عليه السّلام من ذلك في أمر عظيم لا يكفي للجواب عنه أن يقال: إنّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأنّه لا يقال ذلك إلّا فيما لا يتعلّق بأصول الإيمان والدّين، أمّا هذا.. فإنّه ممّا يدخل تحتها.
فالقائل بمؤاخذة الغضبان يلزمه من إساءة الأدب على موسى عليه السّلام ما لا ينطلق به لساني، ولا يخلّصه منه قولهم: إنّ لازم المذهب ليس بمذهب.
والّذي ينبغي أن يقال به في طلاق الغضبان: إجراؤه مجرى المسكر: فإن كان سببه مباحا، وانتهى بصاحبه إلى الحدّ الّذي يغطّي على عقله أو يحول بينه وبين نيّته.. لم يؤاخذ. وإلّا.. أوخذ.
وأمّا القول بالمؤاخذة على الإطلاق.. فجرأة على نبيّ الله موسى، وعثرة لا ينبغي أن يقال لصاحبها: لعا.
أقول قولي هذا ببادىء الرّأي مع وجوب إعادة النّظر واستئناف العناية؛ لأنّ المسألة ـ كما قرّرنا ـ أصوليّة لا فروعيّة، فلا ينبغي فيها الاختلاف، والله أعلم.
ولا يزال في نفسي شيء من قول فقهائنا: إنّ شرع من قبلنا ليس لنا بشرع وما كفاهم ذلك حتّى زادوا في الطّنبور نغمة بقولهم: وإن ورد في شرعنا ما يقرّره؛ لأنّه مع تقليله لكثير من فوائد قصص التّنزيل وأخباره.. لا يتّفق مع قول الله تعالى في (الأنعام): (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)
ومخالف لقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كسر رباعية الرّبيّع بنت معوذ: «كتاب الله القصاص» ووجه المخالفة أنّه لم يرد القصاص بالسّنّ إلّا في الكلام عن غير هذه الأمّة؛ حيث يقول جلّ وعزّ: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).
وكان السّيّد أحمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ أحد العلماء المحقّقين، وكان على رأي ابن تيمية يجعل الثّلاث باللّفظ الواحد طلقة واحدة، وكان له اتّصال وثيق بسيّدنا الحسن بن صالح البحر، وقد أفتى مرّة بتوحيد الطّلاق ممّن نطق بالثّلاث في لفظ واحد، فاشتدّ النّكير عليه، حتّى انعقد لذلك مجلس بدار الحبيب البحر تقاطر له العلماء من دوعن ومن تريم وما بينهما، ولم ينفصل الأمر بأثر المناظرة مع السّيّد أحمد بن جعفر إلّا بتسليم ما قال، وكان ذلك حدثان وصول «نيل الأوطار» للشّوكانيّ إلى حضرموت.
ومع ذلك.. فلا أجزم بأنّ الاقتناع كان لذلك؛ إذ يحتمل أن يكون في صيغة الطّلاق ما يعود عليه بالإبطال على المذهب الشّافعيّ، والله أعلم.
وفي النّفس شيء ممّا نقله الشّيخ عبد الله باسودان عن السّيّد يوسف البطّاح الأهدل، من حصول التّثليث مثلا بقول المصلّي في الرّكوع: (سبحان ربّي العظيم وبحمده ثلاثا)، وفي السّجود مثله؛ أخذا من حديث «سبحان الله وبحمده عدد خلقه» [م (2726) (79) ].
والّذي لا أشكّ فيه: أنّه كلام أجنبيّ تبطل به الصّلاة، فضلا عن أن تحصل به السّنّة.
ثمّ رأيت العلّامة السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن الأهدل نقل عن شيخه محمّد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل عن السّيّد عبد الله بن يحيى بن عمر الأهدل مثل ما ذكرته من بطلان الصّلاة بذلك، وكفى بهؤلاء حجّة، فلله الحمد على التّوافق.
وكان السّيّد أحمد بن جعفر يقوم من مجالس أصحابه ومدارسهم إذا سمع بما لا يوافق مشارب الوهّابيّة، ثمّ صار ينكر عليهم أحيانا بلسانه، ولكنّه لم يصبر حين أنشدوا الأذكار في المسجد على نغمات الدّفوف، ولم يتمالك أن نهض لتكسيرها، فلبجوه لبجا شديدا ذهب منه مغاضبا إلى خشامر عند آل الشّيخ عليّ جابر الوهّابيّين ولكنّه غيظ الأسير على القدّ، وما أدري أبقي بخشامر إلى أن مات، أم راجعه قومه؟
وما كان ذلك ليكون في عهد سيّدنا البحر، وإلّا.. لأدّى الواجب من نصرته.
ورأيت كتابا سيّره له أحد السّادة آل السّقّاف من قسم، يقول له فيه: (أمّا أهل حضرموت.. فلا يجادلون بحقّ، إنّما يقولون: الوهّابيّة أهل البدعة الردية.
فقلنا: وما بدعتهم؟ قالوا: يكفّرون المسلمين، ويستحلّون أموالهم، ولم ينظروا إلى نواقض: لا إله إلّا الله، وقواطع الإسلام بكلمة أهون من أفعال أهل هذا الزّمان.
وأمّا «الدّلائل الواضحة».. فلسنا برادّيه إلّا بعد نقله، حيث هو أعجوبة الزّمان؛ أذعن لمصنّفه من لا يحبّه، لا سيّما ترجمته لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ـ رحمه الله ـ والذّبّ عن عرضه وعرض ابن القيّم وابن عبد الوهّاب، الّذين عمي عن نورهم الخفّاش الّذي يضرّه نور الشّمس، والجعل الّذي يضرّه ريح المسك.
والسّلام عليك وعلى أصنائك سالم ومحسن، والولد علويّ بن سقّاف الجفريّ، والخطّ لك وله واحد) اه
وسيأتي لبعض ما في هذه القطعة شرح في تريس إن شاء الله تعالى.
توفّي السّيّد عبد الله بن محمّد الحبشيّ في محرّم سنة (1314 ه)، وخلفه على المنصبة السّيّد صالح بن أبي بكر بن محمّد الحبشيّ خلفا صالحا، وكان شهما شجاعا، إلّا أنّها لم تطل مدّته كثيرا، بل توفّي في حدود سنة (1318 ه)، وله أخ اسمه عليّ، توفّي بالصّرع على إثره في منتصف رمضان من تلك السّنة، وأخ آخر اسمه محمّد، توفّي سنة (1329 ه)، وانقرض كلّهم من الذّكور، وبعد وفاة السّيّد صالح.. خلفه السّيّد سالم بن طه الحبشيّ، وكان فاضلا مضيافا إلّا أنّه كان ليّن العريكة، دمث الأخلاق، وفي أصحابه شراسة فتهضّموه، وبقي على المنصبة إلى أن توفّي سنة (1334 ه).
ثمّ خلفه عليها السّيّد عبد الرّحمن بن حسن بن شيخ إلى أن توفّي سنة (1336 ه)، ووقع اختيار آل أحمد بن زين ومنصب الحدّاد على السّيّد عمر بن عبد الله بن محمّد بن أحمد الحبشيّ، وكان فكها أديبا، له نوادر وولع كثير بالأغاني والأوتار، وله تهجّد واتّصال بالسّادة الأخيار، ولهذا ذكرت في تأبينه ما جرى بين معاوية وإحدى نسائه في عبد الله بن جعفر؛ فلقد سمعته في أغانيه بين جواره وأصحابه، فقالت لمعاوية: تعال، فهذا الّذي أنزلته بين جلدك ولحمك كيف يفعل؟! فسكت، ولمّا كان من آخر اللّيل.. سمعه يرتّل آيات القرآن فأنبهها وقال لها: تعالي فاسمعي مكان ما أسمعتيني.
على أنّ لي في الأوتار كلاما لم أسبق إليه، فصّلته في الفائدة (24) من «بلابل التّغريد»، وكانت وفاة السّيّد عمر بن عبد الله في آخر جمادى الآخرة من سنة (1361 ه)، وخلفه السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن الحبشيّ، وهو رجل لطيف شديد التّواضع، جميل الأخلاق، وقد زاده نبلا في عيني، ومحبّة في صدري: أنّ النّجم الهادي عبد الله بن عمر بن سميط ربّاه في شبام؛ إذ كان خال أمّه، وماتت وهو في السّابعة وقد فقد أباه من قبل ذلك، أطال الله عمره وإيّانا في خير وعافية، وكانت منصبتهم ولا سيّما في أيّام السّيّد محمّد بن أحمد وولده عبد الله، عبارة عن دولة قاهرة، وسلطان نافذ، إلّا أنّها لم تخل من شيء من الاستطالة، أمّا الآن.. فقد تلاشى نفوذها بما كان من تداخل الأجانب بحضرموت.
وفي الحوطة بقايا من بني سعد، ومن آل وبر، ومن آل الجرو، ومن آل مشعبي، وآل باشراحيل، وآل باطاهر، وآل سمير، وآل التّوي، وآل بشير، وآل غانم، وآل باسيف، وآل جوبح، وآل مربش، وآل الجريديّ وغيرهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
15-التوقيف على مهمات التعاريف (التعليم)
التعليم: تنبيه النفس لتصور المعاني. والتعلم تنبه النفس لتصور ذلك. وربما استعمل في معنى الإعلام لكن الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع، والتعليم اختص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس المتعلم، وتعليم الله تعالى لآدم الأسماء أن جعل له قوة بها نطق وبها وضع أسماء الأشياء، وكتعليمه الحيوان كل واحد فعلا يتعاطاه وصوتا يتحراه.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
16-القاموس المحيط (البنك)
البُنْكُ، بالضم: أصْلُ الشيءِ، أو خالِصُهُ، والساعَةُ من الليلِ، وطَيبٌ م.وتَبَنَّكَ به: أقامَ،
وـ فِي عِزِّه: تَمَكَّنَ.
وبانَكُ، كهاجَرَ: ة، وجَدُّ سعيدِ بنِ مُسْلِمٍ شيخِ القَعْنَبِيِّ.
والبُنْبُكُ، كقُنْفُذٍ وجَنْدَلٍ: دابةٌ كالدُّلْفِينِ، أَو سَمَكٌ يَقْطَعُ الرجُلَ نِصْفَيْنِ فَيَبْلَعُهُ.
والبابونَكُ: الأُقحُوانُ.
والتَبْنيكُ: أن تَخْرُجَ الجاريتانِ كلٌّ من حَيِّها، فَتُخْبِرَ كُلٌّ صاحِبَتَها بأَخْبَارِ أهْلِها.
واذْهَبِي فَبَنِّكي حاجَتَنا: اقْضِيها.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
17-معجم البلدان (أجأ)
أَجأ:بوزن فعل، بالتحريك، مهموز مقصور، والنسب إليه أجئيّ بوزن أجعيّ: وهو علم مرتجل لاسم رجل سمّي الجبل به، كما نذكره، ويجوز أن يكون منقولا.
ومعناه الفرار، كما حكاه ابن الأعرابي، يقال: أجأ الرجل إذا فرّ، وقال الزمخشري: أجأ وسلمى جبلان عن يسار سميراء، وقد رأيتهما، شاهقان. ولم يقل عن يسار القاصد إلى مكة أو المنصرف عنها، وقال أبو عبيد السكوني: أجأ أحد جبلي طيّء وهو غربي فيد، وبينهما مسير ليلتين وفيه قرى كثيرة، قال:
ومنازل طيّء في الجبلين عشر ليال من دون فيد إلى أقصى أجإ، إلى القريّات من ناحية الشام، وبين المدينة والجبلين، على غير الجادّة: ثلاث مراحل. وبين الجبلين وتيماء جبال ذكرت في مواضعها من هذا الكتاب، منها دبر وغريّان وغسل. وبين كل جبلين يوم. وبين الجبلين وفدك ليلة. وبينهما وبين خيبر خمس ليال. وذكر العلماء بأخبار العرب أن أجأ سمّي باسم رجل وسمّي سلمى باسم امرأة. وكان من خبرهما أن رجلا من العماليق يقال له أجأ بن عبد الحيّ، عشق امرأة من قومه، يقال لها سلمى. وكانت لها حاضنة يقال لها العوجاء. وكانا يجتمعان في منزلها
حتى نذر بهما إخوة سلمى، وهم الغميم والمضلّ وفدك وفائد والحدثان وزوجها. فخافت سلمى وهربت هي وأجأ والعوجاء، وتبعهم زوجها وإخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى، فقتلوها هناك، فسمّي الجبل باسمها. ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين، فقتلوها هناك، فسمّي
وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم، فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه، قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أحد ما استدللنا به على بطلان ما ذكره النحويّون من أن أجأ مؤنثة غير مصروفة، لأنه جبل مذكّر، سمّي باسم رجل، وهو مذكر.
وكأنّ غاية ما التزموا به قول امرئ القيس:
«أبت أجأ أن تسلم العام جارها، *** فمن شاء فلينهض لها من مقاتل»
وهذا لا حجّة لهم فيه، لأن الجبل بنفسه لا يسلم أحدا، إنما يمنع من فيه من الرجال. فالمراد: أبت قبائل أجإ، أو سكّان أجإ، وما أشبهه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، يدلّ على ذلك عجز البيت، وهو قوله:
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
والجبل نفسه لا يقاتل، والمقاتلة مفاعلة ولا تكون من واحد، ووقف على هذا من كلامنا نحويّ من أصدقائنا وأراد الاحتجاج والانتصار لقولهم، فكان غاية ما قاله: أن المقاتلة في التذكير والتأنيث مع الظاهر وأنت تراه قال: أبت أجأ. فالتأنيث لهذا الظاهر ولا يجوز أن يكون للقبائل المحذوفة بزعمك، فقلت له: هذا خلاف لكلام العرب، ألا ترى إلى قول حسان بن ثابت:
«يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى، يصفّق بالرحيق السّلسل»
لم يرو أحد قط يصفّق إلا بالياء آخر الحروف لأنه يريد يصفّق ماء بردى، فرده إلى المحذوف وهو الماء، ولم يردّه إلى الظاهر، وهو بردى. ولو كان الأمر على ما ذكرت، لقال: تصفّق، لأن بردى مؤنث لم يجيء على وزنه مذكّر قط. وقد جاء الردّ على المحذوف تارة، وعلى الظاهر أخرى، في قول الله، عز وجل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون، ألا تراه قال: فجاءها فردّ على الظاهر، وهو القرية، ثم قال: أو هم قائلون فردّ على أهل القرية وهو محذوف، وهذا ظاهر، لا إشكال فيه. وبعد فليس هنا ما يتأوّل به التأنيث، إلا أن يقال: إنه أراد البقعة فيصير من باب التّحكّم، لأن تأويله بالمذكّر ضروريّ، لأنه جبل، والجبل مذكّر، وإنه سمي باسم رجل بإجماع كما ذكرنا، وكما نذكره بعد في رواية أخرى، وهو مكان وموضع ومنزل وموطن ومحلّ ومسكن. ولو سألت كل عربيّ عن أجإ لم يقل إلا أنه جبل، ولم يقل بقعة. ولا مستند إذا للقائل بتأنيثه البتة. ومع هذا فإنني إلى هذه الغاية لم أقف للعرب على شعر جاء فيه ذكر أجإ غير مصروف، مع كثرة استعمالهم لترك صرف ما ينصرف في الشعر، حتى إن أكثر النحويين قد رجّحوا أقوال الكوفيّين في هذه المسألة، وأنا أورد في ذلك من أشعارهم ما بلغني منها، البيت الذي احتجّوا به وقد مرّ، وهو قول امرئ القيس: أبت أجأ، ومنها قول عارق الطائي:
«ومن مبلغ عمرو بن هند رسالة، *** إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد»
أيوعدني، والرمل بيني وبينه! تأمّل رويدا ما أمامة من هند ومن أجإ حولي رعان، كأنها قنابل خيل من كميت ومن ورد
قال العيزار بن الأخفش الطائي، وكان خارجيا:
«ألا حيّ رسم الدّار أصبح باليا، *** وحيّ، وإن شاب القذال، الغوانيا»
«تحمّلن من سلمى فوجّهن بالضّحى *** إلى أجإ، يقطعن بيدا مهاويا»
وقال زيد بن مهلهل الطائي:
«جلبنا الخيل من أجإ وسلمى، *** تخبّ نزائعا خبب الرّكاب»
«جلبنا كلّ طرف أعوجيّ، *** وسلهبة كخافية الغراب»
«نسوف للحزام بمرفقيها، *** شنون الصّلب صمّاء الكعاب»
وقال لبيد يصف كتيبة النّعمان:
«أوت للشباح، واهتدت بصليلها *** كتائب خضر ليس فيهنّ ناكل»
«كأركان سلمى، إذ بدت أو كأنّها *** ذرى أجإ، إذ لاح فيه مواسل»
فقال فيه ولم يقل فيها، ومواسل قنّة في أجإ، وأنشد قاسم بن ثابت لبعض الأعراب:
«إلى نضد من عبد شمس، كأنهم *** هضاب أجا أركانه لم تقصّف»
«قلامسة ساسوا الأمور، فأحكموا *** سياستها حتى أقرّت لمردف»
وهذا، كما تراه، مذكّر مصروف، لا تأويل فيه لتأنيثه.
فإنه لو أنّث لقال: أركانها، فإن قيل هذا لا حجّة فيه لأن الوزن يقوم بالتأنيث، قيل قول امرئ القيس أيضا، لا يجوز لكم الاحتجاج به لأن الوزن يقوم بالتذكير، فيقول: أبى أجأ لكنّا صدّقناكم فاحتججنا، ولا تأويل فيها، وقول الحيص بيص:
«أجأ وسلمى أم بلاد الزاب، *** وأبو المظفّر أم غضنفر غاب»
ثم إني وقفت بعد ما سطرته آنفا، على جامع شعر امرئ القيس، وقد نصّ الأصمعي على ما قلته، وهو: أن اجأ موضع، وهو أحد جبلي طيّء، والآخر سلمى. وإنما أراد أهل أجإ، كقول الله، عزّ وجل:
واسأل القرية، يريد أهل القرية، هذا لفظه بعينه. ثم وقفت على نسخة أخرى من جامع شعره، قيل فيه:
أرى أجأ لن يسلم العام جاره
ثم قال في تفسير الرواية الأولى: والمعنى أصحاب الجبل لم يسلموا جارهم. وقال أبو العرماس: حدثني أبو محمد أنّ أجأ سمّي برجل كان يقال له أجأ، وسمّيت سلمى بامرأة كان يقال لها سلمى، وكانا يلتقيان عند العوجاء، وهو جبل بين أجإ وسلمى، فسمّيت هذه الجبال بأسمائهم. ألا تراه قال: سمي أجأ برجل وسميت سلمى بامرأة، فأنّث المؤنث وذكّر المذكّر. وهذا إن شاء الله كاف في قطع حجاج من خالف وأراد الانتصار بالتقليد. وقد جاء أجا مقصورا غير مهموز في الشعر، وقد تقدّم له شاهد في البيتين اللذين على الفاء، قال العجّاج:
«والأمر ما رامقته ملهوجا *** يضويك ما لم يج منه منضجا»
«فإن تصر ليلى بسلمى أو أجا، *** أو باللوى أو ذي حسا أو يأججا»
وأما سبب نزول طيّء الجبلين، واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب، فقد اختلفت الرّواة فيه. قال ابن الكلبي، وجماعة سواه: لما تفرق بنو سبا أيام سيل العرم سار جابر وحرملة ابنا أدد بن زيد بن الهميسع قلت: لا أعرف جابرا وحرملة وفوق كل ذي علم عليم، وتبعهما ابن أخيهما طيّء، واسمه جلهمة، قلت: وهذا أيضا لا أعرفه، لأن طيّئا عند ابن الكلبي، هو جلهمة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. والحكاية عنه، وكان أبو عبيدة، قال زيد بن الهميسع: فساروا نحو تهامة وكانوا فيما بينها وبين اليمن، ثم وقع بين طيّء وعمومته ملاحاة ففارقهم وسار نحو الحجاز بأهله وماله وتتبّع مواقع القطر، فسمّي طيّئا لطيّه المنازل، وقيل إنه سمّي طيّئا لغير ذلك، وأوغل طيّء بأرض الحجاز، وكان له بعير يشرد في كل سنة عن إبله، ويغيب ثلاثة أشهر، ثم يعود إليه وقد عبل وسمن وآثار الخضرة بادية في شدقيه، فقال لابنه عمرو: تفقّد يا بنيّ هذا البعير فإذا شرد فاتبع أثره حتى تنظر إلى أين ينتهي. فلما كانت أيام الربيع وشرد البعير تبعه على ناقة له فلم يزل يقفر أثره حتى صار إلى جبل طيء، فأقام هنالك ونظر عمرو إلى بلاد واسعة كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، فرجع إلى أبيه وأخبره بذلك فسار طيء بإبله وولده حتى نزل الجبلين فرآهما أرضا لها شأن، ورأى فيها شيخا عظيما، جسيما، مديد القامة، على خلق العاديّين ومعه امرأة على خلقه يقال لها سلمى، وهي امرأته وقد اقتسما الجبلين بينهما بنصفين، فأجأ في أحد النصفين وسلمى في الآخر، فسألهما طيء عن أمرهما، فقال الشيخ: نحن من بقايا صحار غنينا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر، أفنانا كرّ الليل والنهار، فقال له طيء:
هل لك في مشاركتي إياك في هذا المكان فأكون لك مؤنسا وخلّا؟ فقال الشيخ: إنّ لي في ذلك رأيا فأقم فإن المكان واسع، والشجر يانع، والماء طاهر، والكلأ غامر. فأقام معه طيء بإبله وولده بالجبلين، فلم يلبث الشيخ والعجوز إلا قليلا حتى هلكا وخلص المكان لطي فولده به إلى هذه الغاية.
قالوا: وسألت العجوز طيّئا ممّن هو، فقال طيء:
«إنّا من القوم اليمانيّينا *** إن كنت عن ذلك تسألينا»
«وقد ضربنا في البلاد حينا *** ثمّت أقبلنا مهاجرينا»
«إذ سامنا الضّيم بنو أبينا *** وقد وقعنا اليوم فيما شينا»
ريفا وماء واسعا معينا
ويقال إن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصّحاري والعجوز امرأته. وقال أبو المنذر هشام بن محمد في كتاب افتراق العرب: لما خرجت طيء من أرضهم من الشحر ونزلوا بالجبلين، أجإ وسلمى، ولم يكن بهما أحد وإذا التمر قد غطّى كرانيف النخل، فزعموا أن الجنّ كانت تلقّح لهم النخل في ذلك الزمان، وكان في ذلك التمر خنافس، فأقبلوا يأكلون التمر والخنافس، فجعل بعضهم يقول: ويلكم الميّث أطيب من الحيّ. وقال أبو محمد الأعرابي أكتبنا أبو الندى قال: بينما طيء ذات يوم جالس مع ولده بالجبلين إذ أقبل رجل من بقايا جديس، ممتدّ القامة، عاري الجبلّة، كاد يسدّ الأفق طولا، ويفرعهم باعا، وإذا هو الأسود بن غفار بن الصّبور الجديسي،
وكان قد نجا من حسّان تبّع اليمامة ولحق بالجبلين، فقال لطي: من أدخلكم بلادي وإرثي عن آبائي؟
اخرجوا عنها وإلا فعلت وفعلت. فقال طيء:
البلاد بلادنا وملكنا وفي أيدينا، وإنما ادّعيتها حيث وجدتها خلاء. فقال الأسود: اضربوا بيننا وبينكم وقتا نقتتل فيه فأيّنا غلب استحقّ البلد. فاتّعدا لوقت، فقال طيء لجندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء وأمّه جديلة بنت سبيع بن عمرو ابن حمير وبها يعرفون، وهم جديلة طيء، وكان طيء لها مؤثرا، فقال لجندب: قاتل عن مكرمتك.
فقالت أمه: والله لتتركنّ بنيك وتعرضنّ ابني للقتل! فقال طيء: ويحك إنما خصصته بذلك.
فأبت، فقال طيء لعمرو بن الغوث بن طيء:
فعليك يا عمرو الرجل فقاتله. فقال عمرو: لا أفعل، وأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر في طيء بعد طيء:
«يا طيء أخبرني، ولست بكاذب، *** وأخوك صادقك الذي لا يكذب»
«أمن القضيّة أن، إذا استغنيتم *** وأمنتم، فأنا البعيد الأجنب»
«وإذا الشدائد بالشدائد مرّة، *** أشجتكم، فأنا الحبيب الأقرب»
«عجبا لتلك قضيّتي، وإقامتي *** فيكم، على تلك القضيّة، أعجب»
«ألكم معا طيب البلاد ورعيها، *** ولي الثّماد ورعيهنّ المجدب»
«وإذا تكون كريهة أدعى لها، *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب»
«هذا لعمركم الصّغار بعينه، *** لا أمّ لي، إن كان ذاك، ولا أب»
فقال طيء: يا بنيّ إنها أكرم دار في العرب. فقال عمرو: لن أفعل إلا على شرط أن لا يكون لبني جديلة في الجبلين نصيب. فقال له طيء: لك شرطك.
فأقبل الأسود بن غفار الجديسي للميعاد ومعه قوس من حديد ونشّاب من حديد فقال: يا عمرو إن شئت صارعتك وإن شئت ناضلتك وإلا سايفتك.
فقال عمرو: الصّراع أحبّ إليّ فاكسر قوسك لأكسرها أيضا ونصطرع. وكانت لعمرو بن الغوث ابن طيء قوس موصولة بزرافين إذا شاء شدّها وإذا شاء خلعها، فأهوى بها عمرو فانفتحت عن الزرافين واعترض الأسود بقوسه ونشّابه فكسرها، فلما رأى عمرو ذلك أخذ قوسه فركّبها وأوترها وناداه: يا أسود استعن بقوسك فالرمي أحبّ إليّ. فقال الأسود: خدعتني. فقال عمرو: الحرب خدعة، فصارت مثلا، فرماه عمرو ففلق قلبه وخلص الجبلان لطي، فنزلهما بنو الغوث، ونزلت جديلة السهل منهما لذلك. قال عبيد الله الفقير إليه:
في هذا الخبر نظر من وجوه، منها أن جندبا هو الرابع من ولد طيء فكيف يكون رجلا يصلح لمثل هذا الأمر؟ ثم الشعر الذي أنشده وزعم أنه لعمرو ابن الغوث، وقد رواه أبو اليقظان وأحمد بن يحيى ثعلب وغيرهما من الرّواة الثقات لهانىء بن أحمر الكناني شاعر جاهليّ. ثم كيف تكون القوس حديدا وهي لا تنفذ السّهم إلّا برجوعها؟ والحديد إذا اعوجّ لا يرجع البتّة. ثم كيف يصحّ في العقل أن قوسا بزرافين؟
هذا بعيد في العقل إلى غير ذلك من النظر. وقد روى بعض أهل السير من خبر الأسود بن غفار ما هو أقرب إلى القبول من هذا، وهو أنّ الأسود لما أفلت
من حسّان تبّع، كما نذكره إن شاء الله تعالى في خبر اليمامة، أفضى به الهرب حتى لحق بالجبلين قبل أن ينزلهما طيء، وكانت طيء تنزل الجوف من أرض اليمن، وهي اليوم محلّة همدان ومراد، وكان سيّدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طيء وكان الوادي مسبعة وهم قليل عدده
«اجعل ظريبا كحبيب ينسى، *** لكلّ قوم مصبح وممسى»
وظريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون فيه قبل الجبلين، قال فهجمت طيء على النخل بالشّعاب على مواش كثيرة، وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن غفار، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوّفوه، فنزلوا ناحية من الأرض فاستبرؤوها فلم يروا بها أحدا غيره. فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث: يا بنيّ إن قومك قد عرفوا فضلك في الجلد والبأس والرّمي، فاكفنا أمر هذا الرجل، فإن كفيتنا أمره فقد سدت قومك آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل، فسأله، فعجب الأسود من صغر خلق الغوث، فقال له:
من أين أقبلتم؟ فقال له: من اليمن. وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه، فأخبرهم باسمه ونسبه. ثم شغله الغوث ورماه بسهم فقتله، وأقامت طيء بالجبلين وهم بهما إلى الآن. وأما أسامة بن لؤي وابنه الغوث هذا فدرجا ولا عقب لهما.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
18-معجم البلدان (أجنادين)
أَجْنَادَيْن:بالفتح، ثم السكون، ونون وألف، وتفتح الدال فتكسر معها النون، فيصير بلفظ التثنية، وتكسر الدال، وتفتح النون بلفظ الجمع، وأكثر أصحاب الحديث يقولون إنه بلفظ التثنية، ومن المحصّلين من يقوله بلفظ الجمع: وهو موضع معروف بالشام من نواحي فلسطين. وفي كتاب أبي حذيفة إسحاق ابن بشير بخط أبي عامر العبدري: أن أجنادين من الرملة من كورة بيت جبرين، كانت به وقعة، بين المسلمين والروم، مشهورة. وقالت العلماء بأخبار الفتوح: شهد يوم أجنادين مائة ألف من الروم، سرّب هرقل أكثرهم، وتجمّع الباقي من النواحي، وهرقل يومئذ بحمص، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، ثم إن الله تعالى هزمهم وفرّقهم، وقتل المسلمون منهم خلقا، واستشهد من المسلمين طائفة، منهم عبد الله بن الزبير بن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وأبلى خالد بن الوليد يومئذ بلاء مشهورا، وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل فنخب
قلبه وملئ رعبا، فهرب من حمص إلى أنطاكية.
وكانت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة قبل وفاة أبي بكر، رضي الله عنه، بنحو شهر، فقال زياد بن حنظلة:
«ونحن تركنا أرطبون مطرّدا، *** إلى المسجد الأقصى، وفيه حسور»
«عشيّة أجنادين لما تتابعوا، *** وقامت عليهم بالعراء نسور»
«عطفنا له تحت العجاج بطعنة، *** لها نشج نائي الشهيق غزير»
«فطمنا به الروم العريضة، بعده *** عن الشام أدنى ما هناك شطير»
«تولّت جموع الروم تتبع إثره، *** تكاد من الذعر الشديد تطير»
«وغودر صرعى في المكرّ كثيره، *** وعاد إليه الفلّ، وهو حسير»
وقال كثيّر بن عبد الرحمن:
«إلى خير أحياء البريّة كلّها، *** لذي رحم أو خلّة متأسّن»
«له عهد ودّ لم يكدّر بريبة، *** وناقول معروف حديث ومزمن»
«وليس امرؤ من لم ينل ذاك، كامرئ *** بدا نصحه فاستوجب الرّفد محسن»
«فإن لم تكن بالشام داري مقيمة، *** فإن بأجنادين كنّي ومسكني»
«منازل صدق، لم تغيّر رسومها، *** وأخرى بميّافارقين فموزن»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
19-معجم البلدان (الغار)
الغَارُ:آخره راء، نبات طيب الرائحة على الوقود ومنه السوس، والغار من الفم نطعاه في الحنكين، والغار مغارة في الجبل كأنه سرب، والغار:
لغة في الغيرة، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: فم الإنسان وفرجه، والغار الذي كان النبي، صلّى الله عليه وسلّم، يتحنث فيه قبل النبوة:
غار في جبل حراء، وقد مرّ ذكر حراء، والغار الذي أوى إليه هو وأبو بكر، رضي الله عنه: في جبل ثور بمكة. وذات الغار: بئر عذبة كثيرة الماء
من ناحية السّوارقية على نحو ثلاثة فراسخ منها، قال الكندي قال غزيرة بن قطاب السلمي:
«لقد رعتموني يوم ذي الغار روعة *** بأخبار سوء دونهن مشيبي»
وغار الكنز: موضع في جبل أبي قبيس دفن فيه آدم كتبه فيما زعموا. وغار المعرّة: في جبل نساح بأرض اليمامة لبني جشم بن الحارث بن لؤيّ، عن الحفصي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
20-معجم البلدان (نهروان)
نَهْرَوانُ:وأكثر ما يجري على الألسنة بكسر النون، وهي ثلاثة نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل،
وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدّها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف وجرجرايا والصافية ودير قنّى وغير ذلك، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، مع الخوارج مشهورة، وقد خرج منها جماعة من أهل
وفارس حفرت النهروان وكان اسمه نهروانا أي إن قلّ ماؤه عطش أهله وإن كثر غرقوا، وقال حمزة الأصبهاني: ويقبل من نواحي أذربيجان إلى جانب العراق واد جرّار فيسقي قرى كثيرة ثم ينصبّ ما بقي منه في دجلة أسفل المدائن، ولهذا النهر اسمان أحدهما فارسي والآخر سرياني، فالفارسي جوروان والسرياني تامرّا، فعرّب الاسم الفارسي فقيل نهروان والعامة يقولون نهروان، بكسر النون، على خطإ، وقرأت في كتاب ابن الكلبي في أنساب البلدان قال:
تامرّا ونهروان ابنا جوخي حفرا النهرين فنسبا إليهما، وقد ذكر أبو علي التنوخي في نشوراه خبرا في اشتقاق هذه اللفظة لا أرى يوافق لفظ ما ذكره أنه مشتق منه إلا أني ذكرت الخبر بطوله، قال أبو علي:
حدثني أبو الحسين بن أبي قيراط قال: سمعت علي بن عيسى الوزير يحدث دفعات أنه سمع أباه يحدّث عن جده عن مشايخ أهل العلم بأخبار الفرس وأيامهم، قالوا: معنى قولهم النهروان ثواب العمل، قالوا:
وإنما سمي النهروان بذلك لأن بعض الملوك الأكاسرة قد غلب عليه بعض حاشيته حتى دبر أكثر أمره وترقّت منزلته عنده وكان قبل ذلك من قبل صاحب المائدة مرسوما بإصلاح الألبان والكواميخ، وكان صاحب المائدة يتحسر كيف علت منزلة هذا وقد كان تابعا له وكان قد غلب على الملك، وكان مع ذلك الرجل يهوديّ ساحر حاذق فقال له اليهودي: ما لي أراك مهموما فحدّثني بأمرك لعلّ فرجك عندي، فحدثّه بأمره، فقال له اليهودي: إن رددتك إلى منزلتك ما لي عندك؟ فقال: أشاطرك حالي ونعمتي وجميع مالي، فتعاهدا على ذلك، فقال: أظهر وحشة بيننا وأنك قد صرفتني ظاهرا، ففعل ذلك به فسار اليهودي إلى الرجل الغالب على الملك فحدّثه وتقرّب إليه بما جرى عليه من الرجل الأول ولم يزل يحدثه مدة طويلة حتى أنس به ذلك الرجل فلقيه في بعض الأيام ومع غلامه غضارة من ذهب فيها شيراز في غاية الطيب يريد أن يقدمه إلى الملك، فقال له: أرني هذا الشيراز، فقال الرجل لغلامه: أره إياه، فأراه إياه فخاتل الرجل والغلام وأخذ بأعينهما بسحره وطرح في الشيراز قرطاسا كان فيه سمّ ساعة وغطا الغلام الغضارة ومضى ليقدّمها إذا قدّمت المائدة، فبادر اليهودي إلى صاحب المائدة الأول وقال: قد فرغت من القصة، وعرّفه ما عمل ووصف له الغضارة وقال له: امض الساعة إلى الملك وأخبره، فبادر الرجل ووجد المائدة تريد أن
تقدّم فقال: أيها الملك إن هذا يريد أن يسمّك في هذه الغضارة فإنه قد جعل فيها سمّ ساعة فلا تأكلها وجرّبها ليصحّ لك قولي، فقال الرجل: هذا إليّ وما بنا إلى تجربتها حاجة على حيوان، أنا آكل منه، فبادر فأكل منها لقمة فتلف في الحال لأنه لا يعلم بالقصة، فقال صا
وكيف صرت أصل نعمته؟ فاستكتمه ما يحدثه به فضمن له ذلك فحدّثه بحديث الشيراز والسمّ، فلما سمع الملك ذلك قامت قيامته وأحضر الموبذ من غد وحدّثه بالحديث وشاوره فيما يعمل مما يزيل ذلك عنه إثم ذلك الفعل في معاده فأمره بقتل اليهودي وصاحب المائدة والإحسان إلى عقب الذي كان قتل نفسه ثم قال: ولا يزيل عنك إثم هذا إلا أن تطوف في عملك حتى تنتهي إلى بقعة خراب فتستحدث لها عمارة ونهرا وشربا فيعيش الناس بذلك في باقي الدهر فتكون كمن أحيا شيئا عوضا عمّن أماته فيتمحّص عنك الإثم، فقتل الملك الرجلين وطاف عمله حتى بلغ موضع النهروان وهو صحراء خراب فأجمع رأيه على حفر نهر فيه وأحدث قرى عليه وسماه ثواب العمل لأجل هذه القصة، قلت أنا: وقد سألت جماعة من الفرس إذ لم أثق بما أعرفه منها هل بين هذا اللفظ ومسماه توافق فلم يعرفوا ذلك ولعلّه باللغة الفهلوية، قال ابن الجرّاح في تاريخه في سنة 326 في ذي القعدة أصعد بجكم التركي إلى بغداد ليدفع عنها محمد بن رائق مولى محمد الخليفة فبعث أحمد بن عليّ بن سعيد الكوفي من يبثق نهر النهروان إلى درب ديالى، فلما أشرف عليه بجكم قال: يا قوم لقد أحسنوا إلينا، وأمر بسفينتين فنصبتا عليه جسرا فعبر هنيئا مريئا ولو ركبه ما كان يصعب ركوبه، قال: فحدّثني أحمد الكاتب بن محمد بن سهل وكان على ديوان فارس في ديوان الخراج وقد تجاذبنا خبر خطاب السواد ومنه النهروانان وعليهما يومئذ للسلطان ألف ألف ومائتا ألف دينار فأخرجها الكوفي، قال: حضرت مجلس الكوفي وقت ولي بجكم وقد كتب إلى عامله عليها جواب كتابه في أمر أعجزه: ويلك ولو في قلبك يعني ماء النهروان إلى درب ديالى، ففعل وعظم أمره المستحفل وبقي البلد خرابا مدة أربع عشرة سنة حتى فني أهله بالغربة والموت إلى أن قبض الله معزّ الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه الديلمي فسدّه بعد أن سدّ مرارا فانقلع ووقع الناس منه في شدة، فلما قضى الله سدّه عاش اليسير فمن بقي من أهله تراجعوا إليه، ثم ذكر ابن الجرّاح أيضا: في سنة 31 لما ورد ناصر الدولة الحسن بن حمدان إلى بغداد مستوليا على تدبير الأمور بها أطلق عشرين ألف دينار للنفقة على بثق النهروان بالسهلية، قال: وكنا في هذا الموضع بحضرة ناصر الدولة وجرى ذكر هذا البثق بمحضر من يواخي وكان عبيد الله بن محمد الكلواذاني صاحب الديوان حاضرا وخاضوا فيه وفيما يرتفع بإصلاحه من نواحيه وهي النهروانات الثلاثة وجاذر
والمدينة العتيقة وشرقي كلواذى والأهواز.، فقال الكلواذاني وهو في الديوان منذ أربعين سنة: هذه بلدان يرتفع منها للسلطان ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقلت: يا هذا ما تفعل؟ ووقع لي أن الحال يصلح والأيام بناصر الدولة تستمر وتدوم ويطالب بهذا المال عند تمام
يا أبا الفرج المعافي بن زكرياء النهرواني! فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وما أنسب إليه، فقلت له: ها أنا ذا ما تريد؟ فقال: ومن أنت؟ فقلت: أبو الفرج المعافى ابن زكرياء النهرواني، قال: فلعلك من نهروان الشرق؟ قلت: نعم، قال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنسب إليه وعلمت أن بالمغرب موضعا يعرف بالنهروان غير نهروان العراق، وأبو حكيم إبراهيم ابن دينار بن أحمد بن الحسين بن حامد بن إبراهيم النهرواني البغدادي الفقيه الحنبلي، شيخ صالح نزل باب الأزج وله هناك مدرسة منسوبة إليه، تفقه على أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلواذاني، وكان حسن المعرفة بالفقه والمناظرة، تخرج به جماعة وانتفعوا به لخيره وصلاحه، سمع أبا الحسن عليّ بن محمد العلّاف وأبا القاسم عليّ بن محمد بن بيان وغيرهما، وحدّث ودرّس وأفتى، وروى عنه أبو الفرج ابن الجوزي وقال: مات في جمادى الآخرة سنة 556، ومولده سنة 480.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
21-موسوعة الفقه الكويتية (إباحة)
إِبَاحَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِحْلَالُ، يُقَالُ: أَبَحْتُكَ الشَّيْءَ؛ أَيْ أَحْلَلْتُهُ لَكَ. وَالْمُبَاحُ خِلَافُ الْمَحْظُورِ. وَعَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِبَاحَةَ بِأَنَّهَا خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْإِذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْلِ حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِلِ فِي حُدُودِ الْإِذْنِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِبَاحَةُ عَلَى مَا قَابَلَ الْحَظْرَ، فَتَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْإِبَاحَةِ:
الْجَوَازُ:
2- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الصِّلَةِ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَائِزَ يُطْلَقُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ: الْمُبَاحِ، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا، أَوْ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَالْمَشْكُوكُ فِي حُكْمِهِ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى أَعَمَّ مِنَ الْمُبَاحِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ الْجَوَازَ مُرَادِفًا لِلْإِبَاحَةِ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَوَازَ فِيمَا قَابَلَ الْحَرَامَ، فَيَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ. وَهُنَاكَ اسْتِعْمَالٌ فِقْهِيٌّ لِكَلِمَةِ الْجَوَازِ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ، وَهِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ، وَالْجَوَازُ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ، وَبِالِاسْتِعْمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ.
الْحِلُّ:
3- الْإِبَاحَةُ فِيهَا تَخْيِيرٌ، أَمَّا الْحِلُّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا سِوَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَاءَ مُقَابِلًا لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا إِنِّي وَاللَّهِ لَا أُحِلُّ حَرَامًا وَلَا أُحَرِّمُ حَلَالًا». وَلَمَّا كَانَ الْحَلَالُ مُقَابِلًا لِلْحَرَامِ شَمِلَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَنْزِيهًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَلَالًا وَمَكْرُوهًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ وَصَفَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّهُ حَلَالٌ
وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مُبَاحٍ حَلَالًا وَلَا عَكْسَ.
الصِّحَّةُ:
4- الصِّحَّةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ ذَا وَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ، وَيَقَعُ تَارَةً أُخْرَى مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَالْإِبَاحَةُ الَّتِي فِيهَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُغَايِرَةٌ لِلصِّحَّةِ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَالصِّحَّةَ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّ الصِّحَّةَ إِلَى الْإِبَاحَةِ فَيَقُولُ: إِنَّ الصِّحَّةَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ.
وَالْفِعْلُ الْمُبَاحُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، فَصَوْمُ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ مُبَاحٌ، أَيْ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِنِ اسْتَوْفَى أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ. وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ وَغَيْرَ صَحِيحٍ لِاخْتِلَالِ شَرْطِهِ، كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَيْرَ مُبَاحٍ كَالصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ.
التَّخْيِيرُ:
5- الْإِبَاحَةُ تَخْيِيرٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّيْءِ وَتَرْكِهِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِلَا تَرَتُّبِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، أَيْ بَيْنَ فِعْلِ الْمُبَاحِ وَتَرْكِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، وَهِيَ وَاجِبَاتٌ لَيْسَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْcolأَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَإِنَّ فِعْلَ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ، لَكِنَّ تَرْكَهَا كُلَّهَا يَقْتَضِي الْإِثْمَ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ كَالتَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَالْمُصَلِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ أَوْ بِأَرْبَعٍ.
وَالْمَنْدُوبُ نَفْسُهُ فِي مَفْهُومِهِ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِنْ رُجِّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ، وَفِيهِ ثَوَابٌ، بَيْنَمَا التَّخْيِيرُ فِي الْإِبَاحَةِ لَا يُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبٌ عَلَى جَانِبٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.
الْعَفْوُ:
6- مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْعَفْوَ الَّذِي رُفِعَتْ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَنُفِيَ فِيهِ الْحَرَجُ، مُسَاوِيًا لِلْإِبَاحَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}. فَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا،
وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ مَثُوبَةً وَلَا عِقَابًا. وَهُوَ بِهَذَا مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ.
أَلْفَاظُ الْإِبَاحَةِ:
7- الْإِبَاحَةُ إِمَّا بِلَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الشَّارِعِ أَوْ مِنَ الْعِبَادِ. فَمِثَالُ غَيْرِ اللَّفْظِ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوْ يَسْمَعُ قَوْلًا، فَلَا يُنْكِرُهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَضَعَ الشَّخْصُ مَائِدَةً عَامَّةً لِيَأْكُلَ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ فَقَدْ يَكُونُ صَرِيحًا، وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجُنَاحِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ أَوِ الْحِنْثِ أَوِ السَّبِيلِ أَوِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ صَرِيحٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى قَرِينَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَمِنْهُ الْأَمْرُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْحِلِّ، أَوْ نَفْيُ التَّحْرِيمِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ.
مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِبَاحَةِ:
الشَّارِعُ:
8- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ الْإِبَاحَةِ لِلشَّارِعِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقَةً كَالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً إِمَّا بِشَرْطٍ كَمَا فِي قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فِي شَأْنِ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ كَإِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الْعِبَادُ:
9- الْإِبَاحَةُ مِنَ الْعِبَادِ لَا بُدَّ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَإِلاَّ كَانَتْ هِبَةً أَوْ إِعَارَةً.
وَإِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَالْمَدَارُ فِيهَا- بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ- أَنْ تَكُونَ مَنُوطَةً بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي وَاجِبٍ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَاخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى تَنَاوُلِهِ إِبَاحَةٌ تُسْقِطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ، إِذْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ التَّمْلِيكِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجِبُ فِيهِ التَّمْلِيكُ. وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ إِذْنَ غَيْرِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ. فَلَوْ قَالَ مَمْلُوكٌ مَثَلًا: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ سَيِّدِي، أَوْ قَالَ صَبِيٌّ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ وَالِدِي، قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِي حِلِّهَا؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ فِي الْعَادَةِ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ.
دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ وَأَسْبَابُهَا:
10- قَدْ يُوجَدُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: الْأُولَى عَدَمُ وُرُودِ دَلِيلٍ لِهَذَا الْفِعْلِ أَصْلًا، وَالثَّانِيَةُ وُرُودُهُ وَلَكِنَّهُ جُهِلَ. وَأَكْثَرُ الْأَفْعَالِ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَيْهَا وَعُرِفَ حُكْمُهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ- الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ:
11- وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ أَوْ فَعَلَهُ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، أَوْ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مُحَصِّلَ لَهُ الْآنَ بَعْدَ وُرُودِ الْبَعْثَةِ، إِذْ دَلَّ النَّصُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ب- مَا جُهِلَ حُكْمُهُ:
12- قَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُكَلَّفَ- مُجْتَهِدًا أَوْ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، أَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ وَلَمْ يَسْتَطِعْ اسْتِنْبَاطَ الْحُكْمِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عُذْرًا إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي إِمْكَانِهِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ وَقَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا. وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاطِنِهَا.
وَمَنْ عُذِرَ بِجَهْلِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِحُكْمِ الْفِعْلِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي فِيهِ خِطَابٌ بِالتَّخْيِيرِ. وَإِنْ كَانَ الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ بِعُذْرِ الْجَهْلِ. وَتُفَصَّلُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاطِنِهَا فِي بَحْثِ (الْجَهْلِ). وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ:
13- طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا:
النَّصُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَفْصِيلًا.
بَعْضُ أَسْبَابِ الرُّخَصِ: وَالرُّخْصَةُ هِيَ مَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَذَلِكَ كَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ.
النَّسْخُ: وَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.
وَالَّذِي يُهِمُّنَا هُنَا هُوَ نَسْخُ الْحَظْرِ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْحَظْرِ، مِثْلُ جَوَازِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ بَعْدَ حَظْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ» فَالْأَمْرُ بِالنَّبْذِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ يُفِيدُ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ.
الْعُرْفُ. وَالْمُخْتَارُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ دَلِيلٌ كَاشِفٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ أَوْ إِلْغَائِهِ، كَالِاسْتِئْجَارِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ لَا يُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.
الِاسْتِصْلَاحُ (الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ):
هِيَ كُلُّ مَصْلَحَةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلَا مُلْغَاةٍ بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِخُصُوصِهَا، يَكُونُ فِي الْأَخْذِ بِهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ
، كَمُشَاطَرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَمْوَالَ الَّذِينَ اتَّهَمَهُمْ بِالْإِثْرَاءِ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ لِلدَّوْلَةِ، وَهَذَا حَتَّى يَضَعَ مَبْدَأً لِلْعُمَّالِ أَلاَّ يَسْتَغِلُّوا مَرَاكِزَهُمْ لِصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ.
مُتَعَلَّقُ الْإِبَاحَةِ:
14- مُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ اهْتَمَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَتَحَدَّثُوا عَنْ أَقْسَامِهِ وَفُرُوعِهِ، فَقَسَّمُوهُ مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْعِبَادُ. وَمِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا: مَا فِيهِ تَمَلُّكٌ وَاسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ، وَمَا فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ دُونَ تَمَلُّكٍ. وَلِكُلِّ قِسْمٍ حُكْمُهُ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي.
الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ:
15- الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ مِنْ نَصٍّ أَوْ مِنْ مَصْدَرٍ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ الْأُخْرَى. وَالْحَدِيثُ هُنَا سَيَكُونُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ.
وَفِي ذَلِكَ مَطْلَبَانِ: مَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَالِ الْمُبَاحِ، وَمَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.
الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ
مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ
16- الْمَالُ الْمُبَاحُ هُوَ كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ، مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ حَقُّ تَمَلُّكِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَيَوَانًا أَمْ نَبَاتًا أَمْ جَمَادًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-. «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ». وَهَذَا التَّمَلُّكُ لَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ عِنْدَ الِاسْتِيلَاءِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي ضَبَطُوهُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ، أَيْ الِاسْتِيلَاءِ الْفِعْلِيِّ، أَوْ كَوْنِهِ فِي مُتَنَاوَلِ الْيَدِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِالْقُوَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ بِإِحْدَى صُورَتَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِيَّةِ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِوَسَاطَةِ آلَةٍ وَحِرْفَةٍ وَمَهَارَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ لِيَكُونَ اسْتِيلَاءً حَقِيقِيًّا، وَإِلاَّ كَانَ اسْتِيلَاءً حُكْمِيًّا. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ فِيمَنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأَ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ، فَالْحُكْمُ هُوَ اسْتِرْدَادُ الْكُوزِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْكُوزِ قَدْ وَضَعَهُ مِنْ أَجْلِ جَمْعِ الْمَاءِ فَيَسْتَرِدُّ الْمَاءَ أَيْضًا، لِأَنَّ مِلْكَهُ حَقِيقِيٌّ حِينَئِذٍ، فَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدُّهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَمْوَالِ الْمُبَاحَةِ الْمَاءُ وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ وَالْمَوَاتُ وَالرِّكَازُ وَالْمَعَادِنُ وَالْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ. وَلِكُلٍّ أَحْكَامُهُ
الْمَطْلَبُ الثَّانِي
مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ
17- وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ إِبَاحَتَهَا تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ، لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ فِيهَا، أَوْ لِيُمَارِسُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ مُسْتَعِينِينَ بِهَا، كَالْمَسَاجِدِ، وَالطُّرُقِ. وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.
الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادِ
18- إِبَاحَةُ الْعِبَادِ كَذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِاسْتِهْلَاكِهَا، وَنَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَقَطْ.
إِبَاحَةُ الِاسْتِهْلَاكِ:
19- لِهَذِهِ الْإِبَاحَةِ جُزْئِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ نَكْتَفِي مِنْهَا بِمَا يَأْتِي:
أ- الْوَلَائِمُ بِمُنَاسَبَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُبَاحُ فِيهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ دُونَ الْأَخْذِ. ب- الضِّيَافَةُ. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.
إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ:
20- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ مِلْكِ الْآذِنِ لِعَيْنِ مَا أُذِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَإِذْنِ مَالِكِ الدَّابَّةِ أَوِ السَّيَّارَةِ لِغَيْرِهِ بِرُكُوبِهَا، وَإِذْنِ مَالِكِ الْكُتُبِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَكُونُ الْإِذْنُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ عَيْنُهُ، وَلَكِنْ يُمْلَكُ مَنْفَعَتُهُ بِمِثْلِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ، إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاعُ شَخْصِيًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ.
تَقْسِيمَاتُ الْإِبَاحَةِ:
21- لِلْإِبَاحَةِ تَقْسِيمَاتٌ شَتَّى بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَنْ تَقْسِيمِهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا وَمِنْ حَيْثُ الْكُلِّيَّةُ وَالْجُزْئِيَّةُ:
أ- تَقْسِيمُهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا:
22- تُقَسَّمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى
إِبَاحَةٍ أَصْلِيَّةٍ.
بِأَلاَّ يَرِدَ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّارِعِ، وَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا.
وَإِبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ:
بِمَعْنَى وُرُودِ نَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ إِمَّا ابْتِدَاءً كَإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِمَّا بَعْدَ حُكْمٍ سَابِقٍ مُخَالِفٍ، كَمَا فِي النَّسْخِ أَوِ الرُّخَصِ، وَقَدْ سَبَقَ.
عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي مُلَاحَظَتُهُ أَنَّهُ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَصْبَحَتِ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ إِبَاحَةً شَرْعِيَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}
فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا إِلاَّ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ يُثْبِتُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِذْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى مَا سَبَقَ. (ف9).
ب- تَقْسِيمُهَا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ:
23- تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
1- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، كَالْأَكْلِ مَثَلًا، فَيُبَاحُ أَكْلُ نَوْعٍ وَتَرْكُ آخَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْأَكْلِ جُمْلَةً حَرَامٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ.
2- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، كَالتَّمَتُّعِ بِمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَرْكَهُ جُمْلَةً يُخَالِفُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَالتَّوْسِعَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.
3- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ التَّحْرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا فِي الْعَدَالَةِ، كَاعْتِيَادِ الْحَلِفِ، وَشَتْمِ الْأَوْلَادِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِالِاعْتِيَادِ.
4- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْأَصْلِ إِلاَّ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَكْرُوهَةٌ.
آثَارُ الْإِبَاحَةِ:
24- إِذَا ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْآثَارِ مَا يَلِي:
1- رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ.
وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُبَاحِ إِثْمٌ.
2- التَّمْكِينُ مِنَ التَّمَلُّكِ الْمُسْتَقِرِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ:
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ طَرِيقٌ لِتَمَلُّكِ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ أَثَرَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا اخْتِصَاصُ الْمُبَاحِ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ، وَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي طَعَامِ الْوَلِيمَةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي فَمِهِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْوَلِيمَةِ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ عُرْفٌ أَوْ قَرِينَةٌ. وَبِهَذَا تُفَارِقُ الْإِبَاحَةُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِأَنَّ فِيهِمَا تَمْلِيكًا، كَمَا أَنَّهَا تُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ أَحْيَانًا، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ فِي الْوَصِيَّةِ.
25- هَذِهِ هِيَ آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْأَعْيَانِ فِي إِذْنِ الْعِبَادِ. أَمَّا آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْمَنَافِعِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا لَا تُفِيدُ إِلاَّ حِلَّ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. فَحَقُّ الِانْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ مِنْ قَبِيلِ التَّرْخِيصِ بِالِانْتِفَاعِ الشَّخْصِيِّ دُونَ الِامْتِلَاكِ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ اخْتِصَاصٌ حَاجِزٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُؤَجِّرِ، فَهُوَ أَقْوَى وَأَشْمَلَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الِانْتِفَاعِ وَزِيَادَةً. وَآثَارُ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا.
الْإِبَاحَةُ وَالضَّمَانُ:
26- الْإِبَاحَةُ لَا تُنَافِي الضَّمَانَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ اللَّهِ- وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ- إِلاَّ أَنَّهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهَا ضَمَانٌ، فَإِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ تَقْتَضِي صِيَانَةَ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ عَنِ التَّخْرِيبِ وَالضَّرَرِ، وَمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِبَاحَةُ الْأَعْيَانِ كَأَخْذِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ لَا تَمْنَعُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا فِي مِلْكِهِ، فَلَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ إِلاَّ بِإِسْقَاطِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمَالِكِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وُجِدَ إِذْنُ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ.
أَمَّا إِبَاحَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا.
مَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِبَاحَةُ:
27- أَوَّلًا: إِبَاحَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَنْتَهِي مِنْ جِهَتِهِ هُوَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ بَاقٍ، وَالْوَحْيُ قَدِ انْقَطَعَ، فَلَا وَحْيَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ دَوَاعِيهَا، كَمَا فِي الرُّخَصِ، فَإِذَا وُجِدَ السَّفَرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مَثَلًا وُجِدَتِ الْإِبَاحَةُ بِالتَّرْخِيصِ فِي الْفِطْرِ، فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ انْتَهَتِ الرُّخْصَةُ.
28- ثَانِيًا: وَإِبَاحَةُ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِأُمُورٍ:
أ- انْتِهَاءُ مُدَّتِهَا إِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ فُقِدَ الْمَشْرُوطُ.
ب- رُجُوعُ الْآذِنِ فِي إِذْنِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَهِيَ لَا تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الرُّجُوعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَوْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ، يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ رُجُوعِ الْآذِنِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْذُونُ لَهُ.
ج- مَوْتُ الْآذِنِ؛ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِمَوْتِهِ، فَتَنْتَهِي آثَارُهُ.
د- مَوْتُ الْمَأْذُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِانْتِفَاعِ رُخْصَةٌ شَخْصِيَّةٌ لَهُ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ إِلاَّ إِذَا نَصَّ الْآذِنُ عَلَى خِلَافِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (إحصار 1)
إِحْصَارٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَارِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ مِنْ بُلُوغِ الْمَنَاسِكِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ أَيْضًا عَلَى خِلَافٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِحْصَارُ
2- وَاسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ مَادَّةَ (حَصَرَ) بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي كُتُبِهِمُ اسْتِعْمَالًا كَثِيرًا.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: قَوْلُ صَاحِبِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَشَارِحِهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ «وَالْمَحْصُورُ فَاقِدُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّهُورَيْنِ، بِأَنْ حُبِسَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ مُطَهِّرٍ، وَكَذَا الْعَاجِزُ عَنْهُمَا لِمَرَضٍ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَتَشَبَّهُ بِالْمُصَلِّينَ وُجُوبًا، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا، وَإِلاَّ يُومِئُ قَائِمًا ثُمَّ يُعِيدُ».
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ صَاحِبِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ «وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا حُصِرَ عَنْ قِرَاءَةِ قَدْرِ الْمَفْرُوضِ».وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ «وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، فَخَفَّ أَمْرُهَا».وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).
إِلاَّ أَنَّهُمْ غَلَّبُوا اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْمَادَّةِ (حَصَرَ) وَمُشْتَقَّاتِهَا فِي بَابِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ، وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَتَوَافَقَتْ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ (الْإِحْصَارُ) اصْطِلَاحًا فِقْهِيًّا مَعْرُوفًا وَمَشْهُورًا.
2- وَيُعَرِّفُ الْحَنَفِيَّةُ الْإِحْصَارَ بِأَنَّهُ: هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ جَمِيعِهِمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ، وَفِي الْعُمْرَةِ عَنِ الطَّوَافِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ.وَيُعَرِّفُهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ مَعًا أَوِ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَبِمِثْلِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا التَّعْرِيفُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَنَصُّهُ: «هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِتْمَامِ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ».
وَيَنْطَبِقُ هَذَا التَّعْرِيفُ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْإِحْصَارِ عَنْ أَيٍّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَسِيرٍ فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَلُّلِ لِمَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ دُونَ الطَّوَافِ.
الْأَصْلُ التَّشْرِيعِيُّ فِي مُوجِبِ الْإِحْصَارِ:
3- مُوجِبُ الْإِحْصَارِ- إِجْمَالًا- التَّحَلُّلُ بِكَيْفِيَّةٍ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ حَادِثَةُ الْحُدَيْبِيَةِ الْمَعْرُوفَةُ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ».أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِحْصَارُ:
4- يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
رُكْنُ الْإِحْصَارِ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِحْصَارُ هَلْ يَشْمَلُ الْمَنْعَ بِالْعَدُوِّ وَالْمَنْعَ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعِلَلِ، أَمْ يَخْتَصُّ بِالْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ؟
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: «الْإِحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِالْعَدُوِّ، وَغَيْرِهِ، كَالْمَرَضِ، وَهَلَاكِ النَّفَقَةِ، وَمَوْتِ مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ، أَوْ زَوْجِهَا، فِي الطَّرِيقِ»
وَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ بِكُلِّ حَابِسٍ يَحْبِسُهُ يَعْنِي الْمُحْرِمَ، عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْحَصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالْعَدُوِّ، وَالْفِتْنَةِ، وَالْحَبْسِ ظُلْمًا.كَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، مَعَ أَسْبَابٍ أُخْرَى مِنَ الْحَصْرِ بِمَا يَقْهَرُ الْإِنْسَانَ، مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، كَمَنْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ.
وَاتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَى الْبَيْتِ بِحَاصِرٍ آخَرَ غَيْرِ الْعَدُوِّ، كَالْحَصْرِ بِالْمَرَضِ أَوْ بِالْعَرَجِ أَوْ بِذَهَابِ نَفَقَةٍ وَنَحْوِهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ.
لَكِنْ مَنِ اشْتَرَطَ التَّحَلُّلَ إِذَا حَبَسَهُ حَابِسٌ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْفِي تَحَقُّقَ الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ.
6- اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ الْإِحْصَارَ مَا كَانَ بِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَقَدْ عَبَّرَتِ الْآيَةُ بِأُحْصِرْتُمْ، فَدَلَّ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ شَرْعًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ وَبِالْعَدُوِّ.وَقَالَ الْجَصَّاصُ: «لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ اسْمَ الْإِحْصَارِ يَخْتَصُّ بِالْمَرَضِ، وَقَالَ اللَّهُ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ الْمَرَضُ، وَيَكُونَ الْعَدُوُّ دَاخِلًا فِيهِ بِالْمَعْنَى».
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ».قَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا: صَدَقَ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ أَوْ مَرِضَ..».
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ قِيَاسُ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَامِعِ الْحَبْسِ عَنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ فِي كُلٍّ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، حَتَّى جَعَلَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَوِيًّا.
7- وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِالْكِتَابِ وَالْآثَارِ وَالْعَقْلِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَةُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ الشَّافِعِيُّ: «فَلَمْ أَسْمَعْ مُخَالِفًا مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ.وَذَلِكَ إِحْصَارُ عَدُوٍّ، فَكَانَ فِي الْحَصْرِ إِذْنُ اللَّهِ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ فِيهِ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.ثُمَّ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الَّذِي يَحِلُّ مِنْهُ الْمُحْرِمُ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الْآيَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ عَامَّةٌ عَلَى كُلِّ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ، إِلاَّ مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، ثُمَّ سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ.وَكَانَ الْمَرِيضُ عِنْدِي مِمَّنْ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ».يَعْنِي {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.
وَأَمَّا الْآثَارُ: فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلاَّ حَصْرُ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ، أَوْ وَجَعٌ، أَوْ ضَلَالٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو وَالزُّهْرِيِّ وَطَاوُسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مَالِكٍ- وَهُوَ عِنْدَهُ فِي الْمُوَطَّأِ- عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ أَفْتَوْا ابْنَ حَزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَأَنَّهُ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا وَيُهْدِيَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنَ الْمَعْقُولِ: فَقَالَ فِيهِ الشِّيرَازِيُّ: «إِنْ أَحْرَمَ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَهُوَ كَمَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ».
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ:
8- لَمْ يَنُصَّ الْفُقَهَاءُ صَرَاحَةً عَلَى شُرُوطِ تَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهَا، وَهِيَ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: سَبْقُ الْإِحْرَامِ بِالنُّسُكِ، بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.وَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنِ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ كَالصَّحِيحِ، وَيَسْتَتْبِعُ أَحْكَامَهُ أَيْضًا.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَلاَّ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَانِعِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، كَمَا سَيَتَّضِحُ فِي أَنْوَاعِ الْإِحْصَارِ.
أَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَالْإِحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِهِ عَنْ أَكْثَرِ الطَّوَافِ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَيْأَسَ مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ، بِأَنْ يَتَيَقَّنَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ زَوَالِ الْمَانِعِ قَبْلَ فَوَاتِ الْحَجِّ، «بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَيْلَةِ النَّحْرِ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ السَّيْرُ لَوْ زَالَ الْعُذْرُ».
وَهَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَقَدَّرَ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُدَّةَ فِي الْعُمْرَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.فَإِذَا وَقَعَ مَانِعٌ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ عَنْ قَرِيبٍ فَلَيْسَ بِإِحْصَارٍ.وَيُشِيرُ إِلَى أَصْلِ هَذَا الشَّرْطِ تَعْلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إِبَاحَةَ التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَشَقَّةِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَتَفَرَّدُوا بِهِ، وَهُوَ أَلاَّ يَعْلَمَ حِينَ إِحْرَامِهِ بِالْمَانِعِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ.فَإِنْ عَلِمَ فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَيَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحُجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، إِلاَّ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ فَمَنَعَهُ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ حِينَئِذٍ، كَمَا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَالِمًا بِالْعَدُوِّ، ظَانًّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ، فَمَنَعَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا مَنَعَهُ تَحَلَّلَ». أَنْوَاعُ الْإِحْصَارِ
بِحَسَبِ الرُّكْنِ الْمُحْصَرِ عَنْهُ
يَتَنَوَّعُ الْإِحْصَارُ بِحَسَبِ الرُّكْنِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: الْإِحْصَارُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَعَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ:
9- هَذَا الْإِحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِحْصَارُ الشَّرْعِيُّ، بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ سَتَأْتِي (ف 26) وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ الْإِحْصَارِ.
الثَّانِي: الْإِحْصَارُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ:
10- مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِمَنَاسِكِ الْعُمْرَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ بِالْإِحْرَامِ السَّابِقِ نَفْسِهِ.وَيَتَحَلَّلَ بِتِلْكَ الْعُمْرَةِ.
قَالَ فِي الْمَسْلَكِ الْمُتَقَسِّطِ: «وَإِنْ مُنِعَ عَنِ الْوُقُوفِ فَقَطْ يَكُونُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، فَيَتَحَلَّلُ بَعْدَ فَوْتِ الْوُقُوفِ عَنْ إِحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَا عُمْرَةَ فِي الْقَضَاءِ». وَهَذَا يُفِيدُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَفُوتَ الْوُقُوفُ، فَيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، أَيْ بِأَعْمَالِ عُمْرَةٍ بِإِحْرَامِهِ السَّابِقِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ: «إِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنَ الطَّوَافِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ، فَيَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ» وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ فَقَطْ مُحْصَرًا، وَيَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ.لَكِنَّهُ وَإِنْ تَشَابَهَتِ الصُّورَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ إِلاَّ أَنَّ النَّتِيجَةَ تَخْتَلِفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ.فَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَهُ تَحَلُّلَ فَائِتِ حَجٍّ، فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ دَمًا، وَيَعْتَبِرُهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَحَلُّلَ إِحْصَارٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، لِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِحْصَارٍ، فَفِيهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ ثُمَّ أُحْصِرَ أَوْ مَرِضَ، حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ طَوَافَ الْعُمْرَةِ وَلَا سَعْيَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامًا.
الثَّالِثُ: الْإِحْصَارُ عَنْ طَوَافِ الرُّكْنِ:
11- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنِ الْفَوَاتِ، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.وَيَفْعَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَيَظَلُّ مُحْرِمًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَقَفَ وَتَحَلَّلَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ.وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَقَالُوا:
إِنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلَهُ التَّحَلُّلُ.
وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى التَّحَلُّلِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فِي الْإِحْصَارِ قَبْلَ الرَّمْيِ بِأَنَّ «الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ جَمِيعِهِ، فَأَفَادَ التَّحَلُّلَ مِنْ بَعْضِهِ».
وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ التَّحَلُّلِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِذَا أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ: بِأَنَّ إِحْرَامَهُ أَيْ بَعْدَ الرَّمْيِ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَنِ النِّسَاءِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِالتَّحَلُّلِ الْإِحْرَامُ التَّامُّ الَّذِي يَحْرُمُ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِهِ، فَلَا يَثْبُتُ- التَّحَلُّلُ- بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ.وَمَتَى زَالَ الْحَصْرُ أَتَى بِالطَّوَافِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. أَنْوَاعُ الْإِحْصَارِ مِنْ حَيْثُ سَبَبُهُ
الْإِحْصَارُ بِسَبَبٍ فِيهِ قَهْرٌ (أَوْ سُلْطَةٌ)
12- ذَكَرُوا مِنْ صُوَرِهِ مَا يَلِي: الْحَصْرَ بِالْعَدُوِّ- الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ- الْحَبْسَ- مَنْعَ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ- السَّبُعَ- مَنْعَ الدَّائِنِ مَدِينَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ- مَنْعَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ- مَوْتَ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ أَوْ فَقْدَهُمَا- الْعِدَّةَ الطَّارِئَةَ- مَنْعَ الْوَلِيِّ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ- مَنْعَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ.
وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي تَفْصِيلِ الْبَحْثِ لَا بُدَّ مِنْ إِجْمَالٍ مُهِمٍّ، هُوَ: أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَصَرُوا الْحَصْرَ الَّذِي يُبِيحُ التَّحَلُّلَ لِلْمُحْصَرِ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ، أَحْصَوْهَا بِالْعَدَدِ، وَهِيَ: الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ، وَالْحَصْرُ بِالْفِتْنَةِ، وَالْحَبْسُ ظُلْمًا.وَبِالتَّالِي فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي صَدَرَ بِهَا الْمَوْضُوعُ مَا عَدَا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ هِيَ: مَنْعُ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، وَالْحَصْرُ بِالسَّبُعِ، وَالْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ.
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَفَرَّدَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ.
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذُكِرَ اتِّفَاقُ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَيْهَا وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أ- الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ الْكَافِرِ:
13- وَهُوَ أَنْ يَتَسَلَّطَ الْعَدُوُّ عَلَى بُقْعَةٍ تَقَعُ فِي طَرِيقِ الْحُجَّاجِ، فَيَقْطَعَ عَلَى الْمُحْرِمِينَ السُّبُلَ، وَيَصُدَّهُمْ عَنِ الْمُتَابَعَةِ لِأَدَاءِ مَنَاسِكِهِمْ.
وَتَحَقُّقُ الْحَصْرِ الشَّرْعِيِّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَحَلُّ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.كَمَا سَبَقَ.
وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَحْصَرَ الْعَدُوُّ طَرِيقًا إِلَى مَكَّةَ أَوْ عَرَفَةَ، وَوَجَدَ الْمُحْصَرُ طَرِيقًا آخَرَ، يَنْظُرُ فِيهِ: فَإِنْ أَضَرَّ بِهِ سُلُوكُهَا لِطُولِهِ، أَوْ صُعُوبَةِ طَرِيقِهِ، ضَرَرًا مُعْتَبَرًا، فَهُوَ مُحْصَرٌ شَرْعًا.وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا شَرْعًا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَلْزَمُوا الْمُحْصَرَ بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ أَطْوَلَ أَوْ فِيهِ مَشَقَّةٌ، مَا دَامَتِ النَّفَقَةُ تَكْفِيهِمْ لِذَلِكَ الطَّرِيقِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِبَارَاتُهُمْ مُطْلَقَةٌ عَنِ التَّقْيِيدِ بِأَيٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ يُلْزِمُونَهُ بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ أَطْوَلَ أَوْ أَشَقَّ، وَلَوْ كَانَتِ النَّفَقَةُ لَا تَكْفِيهِمْ.وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَرْجِيحِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِفَوَاتِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الطَّرِيقِ الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ أَوَّلًا.
فَإِذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَطْوَلَ فَفَاتَهُ الْحَجُّ بِطُولِ الطَّرِيقِ أَوْ خُشُونَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَمَا يَحْصُلُ الْفَوَاتُ بِسَبَبِهِ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، بَلْ يَتَحَلَّلُ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهُ مُحْصَرٌ، وَلِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ.وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ سَلَكَهُ ابْتِدَاءً، فَفَاتَهُ بِضَلَالٍ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، وَلَوِ اسْتَوَى الطَّرِيقَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَاتٌ مَحْضٌ. ب- الْإِحْصَارُ بِالْفِتْنَةِ:
14- بِأَنْ تَحْصُلَ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْصَرُ الْمُحْرِمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، مِثْلُ الْفِتْنَةِ الَّتِي ثَارَتْ بِحَرْبِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ 73 هـ.وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِحْصَارُ شَرْعًا أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
ج- الْحَبْسُ:
15- بِأَنْ يُسْجَنَ الْمُحْرِمُ بَعْدَمَا تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ.وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْحَبْسِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.فَإِنْ حُبِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِأَنِ اعْتُقِلَ ظُلْمًا، أَوْ كَانَ مَدِينًا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْصَرًا.وَإِنْ حُبِسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ وَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرَضِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْحَبْسَ سَبَبًا لِلْإِحْصَارِ.
د- مَنْعُ الدَّائِنِ مَدِينَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
16- عَدَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الدَّيْنَ مَانِعًا مِنْ مَوَانِعِ النُّسُكِ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِنْ حُبِسَ ظُلْمًا كَانَ مُحْصَرًا، وَإِلاَّ فَلَا، فَآلَتِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ إِلَى الْحَبْسِ، كَالْحَنَفِيَّةِ.
هـ- مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
17- مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ يَتَحَقَّقُ بِهِ إِحْصَارُهَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ)، وَذَلِكَ فِي حَجِّ النَّفْلِ، أَوْ عُمْرَةِ النَّفْلِ، عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَعُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا.
وَإِنْ أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ ابْتِدَاءً بِحَجِّ النَّفْلِ أَوْ عُمْرَةِ النَّفْلِ وَلَهَا مَحْرَمٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ، وَلَا تَصِيرُ مُحْصَرَةً بِمَنْعِهِ.
وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْحَجُّ الْوَاجِبُ، كَالنَّذْرِ، إِذَا أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَهَا مَحْرَمٌ، فَلَا تَكُونُ مُحْصَرَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ إِذْنَ الزَّوْجِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِمَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ تَحَلَّلَتْ هِيَ لَمْ يَصِحَّ تَحَلُّلُهَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِاشْتِرَاطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا قَبْلَ إِحْرَامِهَا، وَأَحْرَمَتْ، كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، فَصَارَتْ كَالصُّورَةِ الْأُولَى عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْفَرْضِ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ وَلَيْسَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ، فَهِيَ مُحْصَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَا تَكُونُ مُحْصَرَةً إِذَا سَافَرَتْ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ، وَكَانَتْ هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِهَذَا لِسَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ إِذْنَ الزَّوْجِ لِلسَّفَرِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ.
و- مَنْعُ الْأَبِ ابْنَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
18- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا مَنْعَ ابْنِهِ عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَا الْفَرْضِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْفَرْضِ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يَصِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مُحْصَرًا بِمَنْعِهِمَا، لِمَا عُرِفَ مِنْ حَصْرِ الْمَالِكِيَّةِ أَسْبَابَ الْإِحْصَارِ بِمَا لَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهِ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا كَرِهَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَكَانَ الْوَالِدُ مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَتِهِ فَلَا بَأْسَ.
وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إِذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ فَلَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ.وَحَجُّ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَطَاعَتُهُمَا أَوْلَى مِنْ حَجِّ النَّفْلِ.
ز- الْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ:
19- وَالْمُرَادُ طُرُوءُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ: فَإِذَا أَهَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ نَفْلٍ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، صَارَتْ مُحْصَرَةً، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِمَسَافَةِ السَّفَرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَجْرَوْا عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ حُكْمَ وَفَاةِ الزَّوْجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، وَخَافَتْ فَوْتَهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ، خَرَجَتْ وُجُوبًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ؛ لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ.
وَإِنْ أَمِنَتِ الْفَوَاتَ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِذَلِكَ، لِمَا فِي تَعَيُّنِ التَّأْخِيرِ مِنْ مَشَقَّةِ مُصَابَرَةِ الْإِحْرَامِ.وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ عِلَّةِ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ وَالرَّجْعِيِّ، فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ- يَعْنِي الْحَجَّ- فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ، وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِي الْإِحْصَارِ كَالزَّوْجَةِ. الْمَنْعُ بِعِلَّةٍ تَمْنَعُ الْمُتَابَعَةَ
20- وَمِنْ صُوَرِهِ: الْكَسْرُ أَوِ الْعَرَجُ- الْمَرَضُ- هَلَاكُ النَّفَقَةِ- هَلَاكُ الرَّاحِلَةِ- الْعَجْزُ عَنِ الْمَشْيِ- الضَّلَالَةُ عَنِ الطَّرِيقِ.وَتَحَقُّقُ الْإِحْصَارِ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ إِنَّهَا لَا تَجْعَلَ صَاحِبَهَا مُحْصَرًا شَرْعًا، فَإِذَا حُبِسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يَبْلُغَ الْبَيْتَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ فِيهَا، وَإِلاَّ تَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ (الْفَوَاتِ).انْظُرْ مُصْطَلَحَ (فَوَاتٌ)
الْكَسْرُ أَوِ الْعَرَجُ:
21- وَالْمُرَادُ بِالْعَرَجِ الْمَانِعُ مِنَ الذَّهَابِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا السَّبَبِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ».
الْمَرَضُ:
22- وَالْمُعْتَبَرُ هُنَا الْمَرَضُ الَّذِي لَا يَزِيدُ بِالذَّهَابِ، بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُتَدَيِّنٍ.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ مِنَ السُّنَّةِ الْحَدِيثُ الَّذِي سَبَقَ فَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «أَوْ مَرِضَ».
هَلَاكُ النَّفَقَةِ أَوِ الرَّاحِلَةِ:
23- إِنْ سُرِقَتْ نَفَقَةُ الْمُحْرِمِ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ، أَوْ ضَاعَتْ، أَوْ نُهِبَتْ، أَوْ نَفِدَتْ، إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، عَلَى مَا فِي التَّجْنِيسِ.
الْعَجْزُ عَنِ الْمَشْيِ:
24- إِنْ أَحْرَمَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمَشْيِ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ إِحْرَامِهِ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الرَّاحِلَةِ، فَهُوَ مُحْصَرٌ حِينَئِذٍ.
وَالضَّلَالَةُ عَنِ الطَّرِيقِ:
25- أَيْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ عَرَفَةَ.فَمَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ فَهُوَ مُحْصَرٌ.
أَحْكَامُ الْإِحْصَارِ
تَنْدَرِجُ أَحْكَامُ الْإِحْصَارِ فِي أَمْرَيْنِ: التَّحَلُّلِ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ.
التَّحَلُّلُ
تَعْرِيفُ التَّحَلُّلِ:
26- التَّحَلُّلُ لُغَةً: أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ فَسْخُ الْإِحْرَامِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا. جَوَازُ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ:
27- إِذَا تَحَقَّقَ لِلْمُحْرِمِ وَصْفُ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كُلٌّ حَسَبَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا مُوجِبَةً لِتَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ الشَّرْعِيِّ.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِحْرَامِ وُجُوبُ الْمُضِيِّ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ، وَأَلاَّ يَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلاَّ بِتَمَامِ مُوجِبِ هَذَا الْإِحْرَامِ، لقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.
لَكِنْ جَازَ التَّحَلُّلُ لِلْمُحْصَرِ قَبْلَ إِتْمَامِ مُوجِبِ إِحْرَامِهِ اسْتِثْنَاءً مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّحَلُّلِ قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْهَدْيِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْإِحْصَارَ نَفْسَهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ، إِلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ، فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ: «فِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ تَحَلَّلَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»، كَمَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّحَلُّلِ وَمُصَابَرَةِ الْإِحْرَامِ:
28- أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْمُحْصَرِ أَنَّهُ «جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ» وَأَنَّهُ رُخْصَةٌ فِي حَقِّهِ، حَتَّى لَا يَمْتَدَّ إِحْصَارُهُ، فَيَشُقَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْقَى مُحْرِمًا.يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ بِغَيْرِ تَحَلُّلٍ وَيُعْتَبَرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَزُولَ الْخَوْفُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ مَنَعَهُ بَعْضُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِحْصَارِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ، عِنْدَ إِتْمَامِ حَجٍّ، بِأَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ وَالْبَيْتِ مَعًا، أَوْ عَنْ إِكْمَالِ عُمْرَةٍ، بِأَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ أَوِ السَّعْيِ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِالنِّيَّةِ، مِمَّا هُوَ مُحْرِمٌ بِهِ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ، قَارَبَ مَكَّةَ أَوْ لَا، دَخَلَهَا أَوْ لَا.وَلَهُ الْبَقَاءُ لِقَابِلٍ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ تَحَلُّلَهُ أَفْضَلُ.
أَمَّا مَنْ مُنِعَ عَنْ إِتْمَامِ نُسُكِهِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ (الْعَدُوِّ وَالْفِتْنَةِ وَالْحَبْسِ) كَالْمَرَضِ، فَإِنْ قَارَبَ مَكَّةَ كُرِهَ لَهُ إِبْقَاءُ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ لِقَابِلٍ، وَيَتَحَلَّلُ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ حَالَيِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ: فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ التَّحَلُّلَ، فَرُبَّمَا زَالَ الْمَنْعُ فَأَتَمَّ الْحَجَّ، وَمِثْلُهُ الْعُمْرَةُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا فَالْأَفْضَلُ تَعْجِيلُ التَّحَلُّلِ؛ لِئَلاَّ يَفُوتَ الْحَجُّ.وَذَلِكَ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الْمُحْرِمِ الْمُحْصَرِ إِدْرَاكُهُ بَعْدَ الْحَصْرِ، أَوْ إِدْرَاكُ الْعُمْرَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَيَجِبُ الصَّبْرُ كَمَا سَبَقَ.وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: الْمُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِقَامَةُ مَعَ إِحْرَامِهِ رَجَاءَ زَوَالِ الْحَصْرِ، فَمَتَى زَالَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِإِتْمَامِ نُسُكِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَوَازَ التَّحَلُّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُحْصَرُ التَّحَلُّلَ تَحَلَّلَ مَتَى شَاءَ، إِذَا صَنَعَ مَا يَلْزَمُهُ لِلتَّحَلُّلِ، مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ سَوَاءٌ فِيهِ الْمُحْصَرُ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا مَعًا، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ:
29- يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي فَسَدَ إِحْرَامُهُ- إِذَا أُحْصِرَ- أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ الْفَاسِدِ، فَإِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ جِمَاعًا مُفْسِدًا ثُمَّ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِلْإِفْسَادِ، وَدَمٌ لِلْإِحْصَارِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِسَبَبِ الْإِفْسَادِ اتِّفَاقًا هُنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ فِي الْإِحْصَارِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ.
فَلَوْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الْوُقُوفُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، تَحَلَّلَ فِي مَوْضِعِهِ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ، وَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ: دَمٌ لِلْإِفْسَادِ، وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ، وَدَمٌ لِلْإِحْصَارِ.فَدَمُ الْإِفْسَادِ بَدَنَةٌ، وَالْآخَرَانِ شَاتَانِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاءٌ وَاحِدٌ.
لَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكْفِيهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى هَدْيٌ وَاحِدٌ هُوَ هَدْيُ الْإِفْسَادِ: بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ هَدْيَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: هَدْيُ الْإِفْسَادِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ عِنْدَهُمْ لِلْفَوَاتِ، وَهَدْيُ الْإِفْسَادِ.وَهَدْيُ الْفَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
الْبَقَاءُ عَلَى الْإِحْرَامِ:
30- إِنِ اخْتَارَ الْمُحْصَرُ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِحْرَامِ وَمُصَابَرَتَهُ حَتَّى يَزُولَ الْمَانِعُ فَلَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ حَالَانِ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ بِإِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، بِأَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
فَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ تَحَلُّلَ فَوَاتِ الْحَجِّ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ: الْحَنَفِيَّةُ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ الْفَوَاتِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ.وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: «إِنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ».وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَوِ اسْتَمَرَّ الْمُحْصَرُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ، وَزَالَ الْمَانِعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْعُمْرَةِ لِيُسْرِ مَا بَقِيَ.
فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يُلْزِمُوهُ بِالتَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ، وَعِنْدَهُمْ يُجْزِئُهُ الْإِحْرَامُ السَّابِقُ لِلْحَجِّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
31- وَأَمَّا إِذَا بَقِيَ الْإِحْصَارُ قَائِمًا وَفَاتَ الْحَجُّ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَنْ يَحِلَّ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْفَوَاتِ، وَلَا أَثَرَ لِلْحَصْرِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (أطعمة 1)
أَطْعِمَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَطْعِمَةُ: جَمْعُ طَعَامٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مُطْلَقًا، وَكَذَا كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْقُوتُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ.
وَيُطْلِقُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ الْأَقْدَمُونَ عَلَى الْقَمْحِ خَاصَّةً.
وَيُقَالُ: طَعِمَ الشَّيْءَ يَطْعَمُهُ (بِوَزْنِ: غَنِمَ يَغْنَمُ) طُعْمًا (بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) إِذَا أَكَلَهُ أَوْ ذَاقَهُ.وَإِذَا اسْتُعْمِلَ هَذَا الْفِعْلُ بِمَعْنَى الذَّوَاقِ جَازَ فِيمَا يُؤْكَلُ وَفِيمَا يُشْرَبُ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ.
وَيَذْكُرُونَهُ أَيْضًا فِي الرِّبَا يُرِيدُونَ بِهِ (مَطْعُومَ الْآدَمِيِّينَ) سَوَاءٌ كَانَ لِلتَّغَذِّي، كَالْقَمْحِ وَالْمَاءِ، أَمْ لِلتَّأَدُّمِ كَالزَّيْتِ، أَمْ لِلتَّفَكُّهِ كَالتُّفَّاحِ، أَمْ لِلتَّدَاوِي وَالْإِصْلَاحِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَالْمِلْحِ.
وَقَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ «الْأَطْعِمَةِ» عَلَى (كُلِّ مَا يُؤْكَلُ وَمَا يُشْرَبُ، سِوَى الْمَاءِ وَالْمُسْكِرَاتِ).
وَمَقْصُودُهُمْ: مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ، عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَسَاغُ وَلَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً، كَالْمِسْكِ وَقِشْرِ الْبَيْضِ.وَإِنَّمَا اسْتُثْنِيَ الْمَاءُ لِأَنَّ لَهُ بَابًا خَاصًّا بِاسْمِهِ، وَاسْتُثْنِيَتِ الْمُسْكِرَاتُ أَيْضًا، لِأَنَّهَا يُعَبِّرُ اصْطِلَاحًا عَنْهَا بِلَفْظِ (الْأَشْرِبَةِ).
ثُمَّ إِنَّ مَوْضُوعَ الْأَطْعِمَةِ هُوَ عِنْوَانٌ يَدُلُّ بِهِ عَلَى مَا يُبَاحُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهَا.
وَأَمَّا آدَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِنَّهَا يُتَرْجَمُ لَهَا بِكَلِمَةِ (الْأَدَبِ) وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَكْلٌ، وَشُرْبٌ).
كَمَا أَنَّ الْوَلَائِمَ الْمَشْرُوعَةَ يُتَرْجَمُ لَهَا بِعَنَاوِينَ أُخْرَى تَخُصُّهَا، كَالْعَقِيقَةِ وَالْوَكِيرَةِ. (ر: إِطْعَامٌ).
تَقْسِيمُ الْأَطْعِمَةِ
2- تَنْقَسِمُ الْأَطْعِمَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ: حَيَوَانِيَّةٍ، وَغَيْرِ حَيَوَانِيَّةٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَيَوَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسَيْنِ: مَائِيٍّ، وَبَرِّيٍّ.
وَفِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ أَنْوَاعٌ فِيهَا مَا يُؤْكَلُ وَفِيهَا مَا لَا يُؤْكَلُ.
وَيَنْقَسِمُ الْمَأْكُولُ مِنَ الْحَيَوَانِ:
(أَوَّلًا) إِلَى: مُبَاحٍ، وَمَكْرُوهٍ.
(ثَانِيًا) إِلَى: مَا تُشْتَرَطُ الذَّكَاةُ فِي حِلِّهِ، وَمَا لَا تُشْتَرَطُ.
3- وَالْمَقْصُودُ بِالْحَيَوَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ جَمِيعًا مِمَّا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَكْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا يَجُوزُ، وَلَا يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْإِنْسَانَ نَفْسَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ، بَلِ الْكَلَامُ مَحْصُورٌ فِيمَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَوْ لَا يَحِلُّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ وَمَصْلَحَتِهِ، فَمِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِغَيْرِ الْأَكْلِ مِنْ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ.
4- أَمَّا الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانِ جَمِيعًا وَاَلَّذِي سَخَّرَ لَهُ كُلَّ مَا عَدَاهُ، فَلَا يَدْخُلُ لَحْمُهُ فِي مَفْهُومِ الْأَطْعِمَةِ وَتَقْسِيمِهَا إِلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لِكَرَامَتِهِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَيًّا كَانَتْ سُلَالَتُهُ وَلَوْنُهُ وَدِينُهُ وَبِيئَتُهُ.
فَحُرْمَةُ لَحْمِهِ عَلَى بَنِي جِنْسِهِ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمُصَرَّحٌ بِهَا فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَلِذَلِكَ لَا يَبْحَثُ الْفُقَهَاءُ عَنْ حُرْمَةِ لَحْمِهِ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ فِي حَالَاتِ الِاضْطِرَارِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَةٌ)
5- وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَادَةً عَنْ عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِهَا بِإِحْدَى الْعِبَارَاتِ التَّالِيَةِ: «لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا»، «يَحْرُمُ أَكْلُهَا»، «غَيْرُ مَأْكُولٍ»، «يُكْرَهُ أَكْلُهَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَغْلَبِ الْأَنْوَاعِ، وَيُرَادُ بِهَا الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ عِنْدَمَا يَكُونُ دَلِيلُ حُرْمَتِهَا فِي نَظَرِهِمْ غَيْرَ قَطْعِيٍّ.
فَالْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا حُرْمَةُ أَكْلِهِ قَطْعِيَّةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ، وَهُوَ الْخِنْزِيرُ.وَفِي بَقِيَّتِهَا خِلَافٌ قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ، فَيَصِحُّ وَصْفُهَا بِالْحُرْمَةِ أَوْ بِالْكَرَاهَةِ (التَّحْرِيمِيَّةُ).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لَيْسَ مُنَصَّبًا عَلَى ذَوَاتِ الْأَطْعِمَةِ، وَإِنَّمَا عَلَى أَكْلِهَا أَوِ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ جَامِعٌ لِلْأَطْعِمَةِ كُلِّهَا، لِذَلِكَ سَيُذْكَرُ حُكْمُ كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَيَتَبَيَّنُ لِمَنْ تَتَبَّعَ مَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَبْوَابِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلُّ، وَلَا يُصَارُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَأَنَّ لِتَحْرِيمِ الْأَطْعِمَةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ- وَلَوْ غَيْرَ حَيَوَانِيَّةٍ- أَسْبَابًا عَامَّةً عَدِيدَةً فِي الشَّرِيعَةِ مُتَّصِلَةً بِقَوَاعِدِهَا الْعَامَّةِ وَمَقَاصِدِهَا فِي إِقَامَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَفْضَلِ.وَكَذَلِكَ يَرَى الْمُتَتَبِّعُ أَسْبَابًا لِكَرَاهَةِ الْأَطْعِمَةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
وَسَنَعْرِضُ فِيمَا يَلِي بِإِيجَازٍ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ
مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ:
7- يَظْهَرُ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ وَتَتَبُّعِ تَعْلِيلَاتِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَحْكُمُونَ بِحُرْمَةِ أَكْلِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ الشَّيْءِ مَهْمَا كَانَ نَوْعَهُ لِأَحَدِ أَسْبَابِ خَمْسَةٍ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الضَّرَرُ اللاَّحِقُ بِالْبَدَنِ أَوِ الْعَقْلِ:
وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ:
8- (مِنْهَا) الْأَشْيَاءُ السَّامَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَيَوَانِيَّةً كَالسَّمَكِ السَّامِّ، وَكَالْوَزَغِ وَالْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ السَّامَّةِ وَالزُّنْبُورِ وَالنَّحْلِ، وَمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مِنْ مَوَادَّ سَامَّةٍ.أَمْ كَانَتْ نَبَاتِيَّةً كَبَعْضِ الْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ السَّامَّةِ.أَمْ جَمَادِيَّةً كَالزِّرْنِيخِ، فَكُلُّ هَذِهِ تَحْرُمُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».لَكِنْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ هَذِهِ السُّمُومَ إِنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى مَنْ تَضُرُّهُ.وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يَصِفُهَا الْأَطِبَّاءُ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى السُّمُومِ بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ، بَلْ يُفِيدُهُ وَيَقْتُلُ جَرَاثِيمَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا أَنَّ تَأَثُّرَ الْأَشْخَاصِ بِالسُّمُومِ أَنْوَاعًا وَمَقَادِيرَ يَخْتَلِفُ.
وَهَذَا لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، حَيْثُ الْمَفْهُومُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ تَعَاطِي الْقَدْرِ الضَّارِّ مِنْ هَذِهِ السُّمُومِ.
9- (وَمِنْهَا) الْأَشْيَاءُ الضَّارَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَامَّةً، وَقَدْ ذُكِرَ مِنْهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ: الطِّينُ، وَالتُّرَابُ، وَالْحَجَرُ، وَالْفَحْمُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى مَنْ تَضُرُّهُ.وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَشْمَلُ مَا كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ أَوِ الْجَمَادِ.
وَيُعْرَفُ الضَّارُّ مِنْ غَيْرِ الضَّارِّ مِنْ أَقْوَالِ الْأَطِبَّاءِ وَالْمُجَرَّبِينَ.
وَلَا فَرْقَ فِي الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالسُّمَيَّاتِ أَوْ سِوَاهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَرَضًا جُسْمَانِيًّا أَيًّا كَانَ نَوْعَهُ، أَوْ آفَةً تُصِيبُ الْعَقْلَ كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الطِّينِ قَوْلَيْنِ: الْحُرْمَةَ، وَالْكَرَاهَةَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْحُرْمَةُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ الطِّينِ وَالْحَجَرِ عَلَى مَنْ يَضُرَّانِهِ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ كَرَاهَةَ الْفَحْمِ، وَالتُّرَابِ، وَالطِّينِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُتَدَاوَى بِهِ.
وَعَلَّلَ صَاحِبُ» مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى «الْكَرَاهَةَ بِالضَّرَرِ، مَعَ أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ جَعَلَ الضَّرَرَ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: الْإِسْكَارُ أَوِ التَّخْدِيرُ أَوِ التَّرْقِيدُ:
10- فَيَحْرُمُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ، كَالْخَمْرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ، وَسَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالنَّبِيذِ الشَّدِيدِ الْمُسْكِرِ، أَمْ مِنَ الْحَيَوَانِ كَاللَّبَنِ الْمَخِيضِ الَّذِي تُرِكَ حَتَّى تَخَمَّرَ وَصَارَ مُسْكِرًا.
وَيَحْرُمُ أَكْلُ كُلِّ شَيْءٍ مُخَدِّرٍ (وَيُقَالُ لَهُ: الْمُفْسِدُ)، وَهُوَ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ بِلَا نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ، كَالْحَشِيشَةِ.
وَيَحْرُمُ أَيْضًا الْمُرَقِّدُ وَهُوَ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ وَالْحَوَاسَّ مَعًا، كَالْأَفْيُونِ وَالسَّيْكَرَانِ.
فَمَا كَانَ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ الَّتِي تُشْرَبُ شُرْبًا فَإِنَّهُ يَتْبَعُ مَوْضُوعَ الْأَشْرِبَةِ، وَيُرَى تَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِيهَا، وَقَدْ يُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بِمُنَاسَبَةِ الضَّرَرِ.وَمَا كَانَ مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ أَوِ الْمُرَقِّدَاتِ الْجَامِدَةِ الَّتِي تُؤْكَلُ أَكْلًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَوْضُوعِ الْأَطْعِمَةِ هُنَا، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي مَوْضُوعِ الْأَشْرِبَةِ بِالْمُنَاسَبَةِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: النَّجَاسَةُ:
11- فَيَحْرُمُ النَّجِسُ وَالْمُتَنَجِّسُ مَا لَا يُعْفَى عَنْهُ: - فَالنَّجِسُ كَالدَّمِ.
- وَالْمُتَنَجِّسُ كَالسَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ وَكَانَ مَائِعًا فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ كُلُّهُ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا يُنَجَّسُ مَا حَوْلَ الْفَأْرَةِ فَقَطْ، فَإِذَا طُرِحَ مَا حَوْلَهَا حَلَّ أَكْلُ بَاقِيهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُتَنَجِّسِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا سَقَطَ أَوْ سُمِّدَ بِنَجِسٍ، مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِتَنَجُّسِهِ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِلَ فِي الْإِنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.وَمِمَّا يُذْكَرُ هُنَا أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لَا يُحَرِّمُ الزَّرْعَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَسْقِيِّ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ وَلَا يَحْرُمُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُتَنَجِّسِ- عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- الْبَيْضُ الَّذِي سُلِقَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْضٌ).
السَّبَبُ الرَّابِعُ: الِاسْتِقْذَارُ عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ:
12- وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَالْعَرَقِ وَالْمَنِيِّ، فَكُلُّ هَذِهِ طَاهِرَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهَا لِلِاسْتِقْذَارِ.وَاسْتَثْنَوْا مَا كَانَ الِاسْتِقْذَارُ فِيهِ لِعَارِضٍ كَغُسَالَةِ يَدٍ فَلَا تَحْرُمُ.وَمَثَّلَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمُسْتَقْذَرَاتِ بِالرَّوَثِ وَالْبَوْلِ وَالْقَمْلِ وَالْبُرْغُوثِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ رَوَثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، وَكَذَا بَوْلُهُ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُمَا لِلِاسْتِقْذَارِ.فَالْقَذَارَةُ لَا تُنَافِي الطَّهَارَةَ إِذْ لَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ.
السَّبَبُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الْإِذْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الْغَيْرِ:
13- مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ مَالِكُهُ وَلَا الشَّارِعُ، وَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ أَوِ الْمَسْرُوقُ أَوِ الْمَأْخُوذُ بِالْقِمَارِ أَوْ بِالْبِغَاءِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، كَأَكْلِ الْوَلِيِّ مَالَ مُوَلِّيهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَكْلِ نَاظِرِ الْوَقْفِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ.وَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ مَأْذُونُونَ مِنَ الشَّارِعِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَنْ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ.وَفِي قَضِيَّةِ عَدَمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ صِحَّةِ التَّذْكِيَةِ وَحُرْمَةِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلِ.
فَإِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ شَاةً مَثَلًا، أَوْ سَرَقَهَا فَذَبَحَهَا بِصُورَةٍ مُسْتَوْفِيَةٍ شَرَائِطَهَا، فَإِنَّ الذَّبِيحَةَ تَكُونُ لَحْمًا طَاهِرًا مَأْكُولًا، وَلَكِنَّ الذَّابِحَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِذَبْحِهَا دُونَ إِذْنٍ مِنْ صَاحِبِهَا وَلَا إِذْنِ الشَّرْعِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا.وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِهَا دُونَ إِذْنٍ أَيْضًا لِمَانِعِ حَقِّ الْغَيْرِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي: (غَصْبٌ) (وَذَبَائِحُ).
مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ:
14- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلْأَطْعِمَةِ الْمَكْرُوهَةِ، مِنْهَا الْأَمْثِلَةُ التَّالِيَةُ:
أ- الْبَصَلُ وَالثُّومُ وَالْكُرَّاثُ وَنَحْوُهَا مِنْ ذَوَاتِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، فَيُكْرَهُ أَكْلُ ذَلِكَ، لِخُبْثِ رَائِحَتِهِ مَا لَمْ يُطْبَخْ، فَإِنْ أَكَلَهُ كُرِهَ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا- أَوْ لِيَعْتَزِلَ مَسْجِدَنَا- وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» وَصَرَّحَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ.
ب- الْحَبُّ الَّذِي دَاسَتْهُ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْبِغَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُغْسَلَ.
ج- مَاءُ الْبِئْرِ الَّتِي بَيْنَ الْقُبُورِ وَبَقْلِهَا، لِقُوَّةِ احْتِمَالِ تَسَرُّبِ التَّلَوُّثِ إِلَيْهَا.
د- اللَّحْمُ النِّيءُ وَاللَّحْمُ الْمُنْتِنُ، قَالَ صَاحِبُ «الْإِقْنَاعِ» مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَتِهِمَا، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ.
الْحَيَوَانُ الْمَائِيُّ: حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ:
15- الْمَقْصُودُ بِالْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، مِلْحًا كَانَ أَوْ عَذْبًا، مِنَ الْبِحَارِ أَوِ الْأَنْهَارِ أَوِ الْبُحَيْرَاتِ أَوِ الْعُيُونِ أَوِ الْغُدْرَانِ أَوِ الْآبَارِ أَوِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ أَوْ سِوَاهَا.وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ شَيْءٌ سِوَى السَّمَكِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَا فُلُوسٍ (قُشِّرَ) أَمْ لَا.
وَهُنَاكَ صِنْفَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ اخْتَلَفَ فِيهِمَا الْحَنَفِيَّةُ، لِلِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ السَّمَكِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَائِيَّةِ الْأُخْرَى، وَهُمَا الْجِرِّيثُ، وَالْمَارْمَاهِيُّ.فَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِعَدَمِ حِلِّ أَكْلِهِمَا، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحِلُّ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا مِنَ السَّمَكِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنَ السَّمَكِ مَا كَانَ طَافِيًا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُمْ.وَالطَّافِي: هُوَ الَّذِي مَاتَ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ، بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، سَوَاءٌ أَعَلَا فَوْقَ وَجْهِ الْمَاءِ أَمْ لَمْ يَعْلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. (وَإِنَّمَا يُسَمَّى طَافِيًا إِذَا مَاتَ بِلَا سَبَبٍ وَلَوْ لَمْ يَعْلُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ نَظَرًا إِلَى الْأَغْلَبِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَنْ يَعْلُوَ).
وَإِنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الطَّافِي احْتِمَالُ فَسَادِهِ وَخُبْثِهِ حِينَمَا يَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهِ وَيُرَى طَافِيًا لَا يُدْرَى كَيْفَ وَمَتَى مَاتَ؟ فَأَمَّا الَّذِي قُتِلَ فِي الْمَاءِ قَتْلًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صِيدَ بِالشَّبَكَةِ وَأُخْرِجَ حَتَّى مَاتَ فِي الْهَوَاءِ.
وَإِذَا ابْتَلَعَتْ سَمَكَةٌ سَمَكَةً أُخْرَى فَإِنَّ السَّمَكَةَ الدَّاخِلَةَ تُؤْكَلُ، لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ هُوَ ابْتِلَاعُهَا.
وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ أَوْ كَدَرِ الْمَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
(إِحْدَاهُمَا): أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ غَالِبًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّمَكَ فِيهَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيُعْتَبَرُ طَافِيًا.
(وَالثَّانِيَةُ): أَنَّهُ يُؤْكَلُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مَيِّتًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا يُعْتَبَرُ طَافِيًا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَبِهِ يُفْتَى.وَإِذَا أُخِذَ السَّمَكُ حَيًّا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُمَاتَ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَرَّمَ الطَّافِيَ بِالْأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
أ- بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ».وَرَوَى نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا.
ب- بِآثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَكْلِ الطَّافِي.وَلَفْظُ جَابِرٍ فِي رِوَايَةٍ: «مَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَمَا كَانَ عَلَى حَافَّتَيْهِ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا حَسِرَ الْمَاءُ عَنْ ضِفَّتَيِ الْبَحْرِ فَكُلْ، وَمَا مَاتَ فِيهِ طَافِيًا فَلَا تَأْكُلْ».
وَلَفْظُ عَلِيٍّ: «مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلَا تَأْكُلُوهُ.
وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ: » لَا تَأْكُلْ مِنْهُ- أَيْ مِنْ سَمَكٍ وَفِي الْبَحْرِ- طَافِيًا.
16- وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ إِلَى إِبَاحَةِ كُلِّ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ بِلَا تَذْكِيَةٍ وَلَوْ طَافِيَةً حَتَّى مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ فِي الْبَرِّ، كَالتِّمْسَاحِ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ الْبَحْرِيَّيْنِ.
وَلَا يَعُدُّ الْفُقَهَاءُ طَيْرَ الْمَاءِ بَحْرِيًّا، لِأَنَّهُ لَا يَسْكُنُ تَحْتَ سَطْحِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَوْقَهُ وَيَنْغَمِسُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ثُمَّ يَطِيرُ، وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي كَلْبِ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرِهِ قَوْلٌ بِالْإِبَاحَةِ، وَآخَرُ بِالْكَرَاهَةِ، وَالرَّاجِحُ فِي كَلْبِ الْمَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي خِنْزِيرِهِ الْكَرَاهَةُ، (أَيِ الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ).
وَاخْتَلَفُوا فِي إِنْسَانِ الْمَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ قَلْيِ السَّمَكِ وَشَيِّهِ مِنْ غَيْرِ شَقِّ بَطْنِهِ وَلَوْ حَيًّا.قَالُوا: وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَعْذِيبًا، لِأَنَّ حَيَاتَهُ خَارِجَ الْمَاءِ كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ.
17- وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ذَبْحُ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ كَسَمَكَةٍ كَبِيرَةٍ.وَيَكُونُ الذَّبْحُ مِنْ جِهَةِ الذَّيْلِ فِي السَّمَكِ، وَمِنَ الْعُنُقِ فِيمَا يُشْبِهُ حَيَوَانَ الْبَرِّ.فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا تَطُولُ حَيَاتُهُ كُرِهَ ذَبْحُهُ وَقَطْعُهُ حَيًّا.
وَهَذَا التَّعْمِيمُ فِي الْحِلِّ هُوَ أَصَحُّ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ.وَهُنَاكَ سِوَاهُ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ سِوَى السَّمَكِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَا يُؤْكَلُ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَاَلَّذِي عَلَى صُورَةِ الْغَنَمِ يَحِلُّ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَاَلَّذِي عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَا يَحِلُّ.
وَيَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْحَيَوَانُ (الْبَرْمَائِيُّ) أَيِ الَّذِي يُمْكِنُ عَيْشُهُ دَائِمًا فِي كُلٍّ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَرِّ مَأْكُولٌ.وَقَدْ مَثَّلُوا لَهُ بِالضُّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ، وَالْحَيَّةِ، وَالنَّسْنَاسِ، وَالتِّمْسَاحِ، وَالسُّلَحْفَاةِ.وَتَحْرِيمُ هَذَا النَّوْعِ الْبَرْمَائِيِّ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي «الرَّوْضَةِ» وَأَصْلُهَا وَاعْتَمَدَهُ الرَّمْلِيُّ.لَكِنْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي «الْمَجْمُوعِ» أَنَّ جَمِيعَ مَا يَكُونُ سَاكِنًا فِي الْبَحْرِ فِعْلًا تَحِلُّ مَيْتَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَيْشُهُ فِي الْبَرِّ، إِلاَّ الضُّفْدَعُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ، وَزَادَا عَلَى الضُّفْدَعِ كُلَّ مَا فِيهِ سُمٌّ.
وَعَلَى هَذَا فَالسَّرَطَانُ وَالْحَيَّةُ وَالنَّسْنَاسُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ سَاكِنَةَ الْبَحْرِ بِالْفِعْلِ تَحِلُّ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِمْكَانِ عَيْشِهَا فِي الْبَرِّ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةَ الْبَرِّ بِالْفِعْلِ تَحْرُمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّنِيلِسِ: فَأَفْتَى ابْنُ عَدْلَانَ بِحِلِّهِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ.
وَلَا يُعْتَبَرُ الْإِوَزُّ وَالْبَطُّ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ فِي الْبَحْرِ دَائِمًا، فَهِيَ مِنْ طُيُورِ الْبَرِّ، فَلَا تَحِلُّ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ كَمَا يَأْتِي (ف 41).
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ابْتِلَاعُ السَّمَكِ حَيًّا إِذَا لَمْ يَضُرَّ، وَكَذَا أَكْلُ السَّمَكِ الصَّغِيرِ بِمَا فِي جَوْفِهِ، وَيَجُوزُ قَلْيُهُ وَشَيُّهُ مِنْ غَيْرِ شَقِّ بَطْنِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ الدُّهْنُ.
18- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْحَيَوَانِ الْبَرْمَائِيِّ، كَكَلْبِ الْمَاءِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ بِالتَّذْكِيَةِ.
وَزَادُوا بِالْإِضَافَةِ لِلضُّفْدَعِ اسْتِثْنَاءَ الْحَيَّةِ وَالتِّمْسَاحِ، فَقَالُوا بِحُرْمَةِ الثَّلَاثَةِ: فَالضُّفْدَعُ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا، وَالْحَيَّةُ لِاسْتِخْبَاثِهَا، وَالتِّمْسَاحُ لِأَنَّ لَهُ نَابًا يَفْتَرِسُ بِهِ.لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَثْنُوا سَمَكَ الْقِرْشِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ.وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقِرْشَ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْبَحْرِ بِخِلَافِ التِّمْسَاحِ.
وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ كَيْفِيَّةَ ذَكَاةِ السَّرَطَانِ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا يُمِيتُهُ، بِأَنْ يُعْقَرَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ.
وَإِذَا أُخِذَ السَّمَكُ حَيًّا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُمَاتَ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَيُكْرَهُ شَيُّهُ حَيًّا، لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ بِلَا حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ سَرِيعًا فَيُمْكِنُ انْتِظَارُ مَوْتِهِ.
19- وَفِي حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مَذَاهِبُ أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: إِنَّ مَا عَدَا السَّمَكَ مِنْهَا يُؤْكَلُ بِشَرِيطَةِ الذَّكَاةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ كَذَلِكَ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَهُ إِنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُهُ، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَحْرِيمُ مَا سِوَى السَّمَكِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: الْحِلُّ بِالذَّبْحِ كَقَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
20- وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ أَحَلُّوا كُلَّ مَا يَسْكُنُ جَوْفَ الْمَاءِ وَلَا يَعِيشُ إِلاَّ فِيهِ قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}.وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ سَمَكًا وَمَا يُسَمُّونَهُ بِاسْمٍ آخَرَ كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ أَوْ إِنْسَانِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لَا تَجْعَلُهُ خِنْزِيرًا أَوْ إِنْسَانًا.
وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَسْكُنُ الْبَحْرَ سَوَاءٌ أُخِذَ حَيًّا أَمْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَافِيًا أَمْ لَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ دَابَّةِ الْعَنْبَرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، قَالَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً.قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَقُلْتُ لِجَابِرٍ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ.وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبْطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ وَنَأْكُلُهُ.قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ.قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا.فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ رَأَيْتَنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفَدْرَ كَالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمُ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ تَحْتَهَا.وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ.فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟، فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ فَأَكَلَهُ».
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ: عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:
(أَوَّلًا) عَلَى أَنَّ حَيَوَانَ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ السَّمَكِ يَحِلُّ أَكْلُهُ فِي حَالَتَيِ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ.
(ثَانِيًا) عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ.
(ثَالِثًا) عَلَى حِلِّ الطَّافِي، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِسَبَبِ حَادِثٍ.
(رَابِعًا) عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ لِلسَّمَكِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ مَيْتَتُهُ حَلَالًا فَصَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ.
هَذَا، وَالْفَسِيخُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا كَانَ طَاهِرًا فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَمَّا فِي بَطْنِهِ، لِعُسْرِ تَنْقِيَةِ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ وَالدَّرْدِيرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَلِجُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ.وَإِذَا اعْتُبِرَ طَاهِرًا فَإِنَّ أَكْلَهُ مَعَ تَفَسُّخِهِ وَالتَّغَيُّرُ فِي رَائِحَتِهِ يُتْبَعُ فِيهِ شَرْعًا رَأْيُ الطِّبِّ فِي ضَرَرِهِ أَوْ عَدَمِهِ: فَإِنْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ الثِّقَاتُ: إِنَّهُ ضَارٌّ يَكُونُ أَكْلُهُ مَحْظُورًا شَرْعًا لِضَرَرِهِ بِالصِّحَّةِ، وَإِلاَّ فَلَا.
الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ: حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ:
21- الْمَقْصُودُ بِالْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ: مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنَ الدَّوَابِّ أَوِ الطُّيُورِ.وَيُقْسَمُ بِحَسَبِ أَنْوَاعِهِ وَخَصَائِصِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَوْعًا:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْأَنْعَامُ:
22- الْأَنْعَامُ (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ) جَمْعُ نَعَمٍ (بِفَتْحَتَيْنِ) وَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ هِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَقَرُ عِرَابًا أَمْ جَوَامِيسَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَنَمُ ضَأْنًا أَمْ مَعْزًا، فَكُلُّهَا حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَنِدِ إِلَى نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ.مِنْهَا قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، وَمِنْهَا قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.وَاسْمُ الْأَنْعَامِ يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْأَرْنَبُ:
23- الْأَرْنَبُ حَلَالٌ أَكْلُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتُهَا وَجِئْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ بِوَرِكِهَا- أَوْ قَالَ: بِفَخِذِهَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَبِلَهُ».
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ (أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَنَّهُ قَالَ: «صِدْتُ أَرْنَبَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةَ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا».
ثُمَّ إِنَّهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُسْتَطَابِ، وَلَيْسَتْ ذَاتَ نَابٍ تَفْتَرِسُ بِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهَا، فَهَذِهِ الْمَنَاطَاتُ تَسْتَوْجِبُ حِلَّهَا كَمَا سَيُرَى فِي الْأَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَقَدْ أَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَيَوَانَاتُ الْمُفْتَرِسَةُ:
24- الْمُرَادُ بِالْحَيَوَانَاتِ الْمُفْتَرِسَةِ: كُلُّ دَابَّةٍ لَهَا نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَهْلِيَّةً كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ، أَمْ وَحْشِيَّةً كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْوَحْشِيِّ وَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدُّلُقِ (وَهُوَ أَبُو مُقْرِضٍ) وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَابْنِ آوَى وَالْفِيلِ.
وَحُكْمُهَا: أَنَّهَا لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الضَّبُعَ وَالثَّعْلَبَ قَالَ بِحِلِّهِمَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
25- وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَمْثِلَةِ- بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ».
وَمَنِ اسْتَثْنَى الضَّبُعَ مِنْهُمُ اسْتَدَلَّ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّبُعِ أَآكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ».وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَأْكُلُ الضِّبَاعَ، قَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يُنْكِرِ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ.
26- وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا أَكْلُ الْحَيَوَانَاتِ الْمُفْتَرِسَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَهْلِيَّةً كَالسِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ، أَمْ مُتَوَحِّشَةً كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْقِرْدِ وَالنَّسْنَاسِ قَوْلٌ بِالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ لَكِنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ.
27- لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَبَاحُوا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا: بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ كَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ أَنْيَابَهَا ضَعِيفَةٌ.
وَقَالُوا فِي السِّنَّوْرِ الْوَحْشِيِّ، وَالْأَهْلِيِّ، وَابْنِ آوَى، وَالنِّمْسِ، وَالدُّلُقِ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَخِيرَةِ كُلِّهَا بِالْحِلِّ عِنْدَهُمْ.
28- أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَبَاحُوا مِنَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ الضَّبُعَ فَقَطْ.وَقَالُوا: إِنَّ فِي الثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْوَحْشِيِّ رِوَايَةً بِالْإِبَاحَةِ.
29- وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إِلَخِ الْآيَةَ فَإِنَّ لُحُومَ السِّبَاعِ لَيْسَتْ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ، فَتَكُونُ مُبَاحَةً، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: كُلُّ وَحْشٍ لَيْسَ لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ وَلَيْسَ مِنَ الْحَشَرَاتِ:
30- وَذَلِكَ كَالظِّبَاءِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَحُمُرِ الْوَحْشِ، وَإِبِلِ الْوَحْشِ.وَهَذَا النَّوْعُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَأَنَّسَ حِمَارُ الْوَحْشِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَحُكْمُ الْأَهْلِيِّ سَيَأْتِي ر: ف 46).فَإِنْ عَادَ إِلَى التَّوَحُّشِ رَجَعَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: كُلُّ طَائِرٍ لَهُ مِخْلَبٌ صَائِدٌ:
31- وَذَلِكَ كَالْبَازِي وَالْبَاشِقِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعُقَابِ، وَهَذَا النَّوْعُ- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَمْثِلَةِ- مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَرَامٌ فِي بَاقِي الْمَذَاهِبِ، إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالُوا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: إِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الطُّيُورِ مُبَاحَةٌ وَلَوْ كَانَتْ جَلاَّلَةً وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهَا.وَمَالَ الْمَازِرِيُّ لِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ.
32- وَمِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ هَذَا النَّوْعِ أَوْ كَرَاهَتِهِ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ».وَالْمُرَادُ مِخْلَبٌ يَصِيدُ بِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى ذَا مِخْلَبٍ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلاَّ الصَّائِدُ بِمِخْلَبِهِ وَحْدَهُ.
وَأَمَّا الدِّيكُ وَالْعَصَافِيرُ وَالْحَمَامُ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِيدُ بِمِخْلَبِهِ فَلَا تُسَمَّى ذَوَاتَ مَخَالِبَ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ مَخَالِبَهَا لِلِاسْتِمْسَاكِ وَالْحَفْرِ بِهَا، وَلَيْسَتْ لِلصَّيْدِ وَالِافْتِرَاسِ.
وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِالْحَصْرِ الَّذِي فِي قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 3)
إِقْرَارٌ -3و- تَعْقِيبُ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:
48- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ بِأَنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ): هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ.وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ.وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ.
وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ- لَا يَجِبُ.وَلَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَهُوَ مُنْكِرٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلَا يَرْفَعُهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ.وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ- عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ- فَمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ.
ز- تَقْيِيدُ الْإِقْرَارِ بِالْأَجَلِ:
49- إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ صِدْقَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ، وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو قُضَاةِ مِصْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ح- الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِقْرَارِ:
50- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَقِيلَ: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ.وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِلَ الِاسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ.بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ لَا يَقَعُ فِيهِ عَادَةً.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ، إِذْ يَقَعُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَنْقَصِهِمَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ أَرْجَعَ الِاسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ- أَيِ الثَّانِي- لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي، لِإِتْلَافِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلْأَوَّلِ.
هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا.
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ:
51- الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُولُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، فَالْإِقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْلَ رَدِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ.أَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ، وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ.وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ فَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ.فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ.
الصُّورِيَّةُ فِي الْإِقْرَارِ:
52- لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لُزُومًا.فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا لَا يُقْبَلُ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ، وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَلَ شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَالَ لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ.أَيْ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامُهُ إِقْرَارًا.
وَيَقُولُ الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الْإِقْرَارُ- صُورَةً- بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَالَ لِصَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّلَ فِي إِقْرَارِهِ، بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ.وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا.وَعَلَى هَذَا فَالْإِقْرَارُ لَا يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ:
53- الْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْإِخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً، وَمِنَ الْوَكِيلِ حُكْمًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ
بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَنْفُذُ، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ جَعَلَ لَهُ الْإِقْرَارَ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَجُوزُ.نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَشَاهِدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا نَصَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ الْإِقْرَارُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْإِقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ يَصِحُّ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيلِ مُقِرًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَيَقُولَ: خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ بِمُجَرَّدِ الْوَكِيلِ.
أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الْإِقْرَارِ:
54- الشُّبْهَةُ لُغَةً: الِالْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ: خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَهِيَ بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ.فَلَوِ احْتَمَلَ الْإِقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيلَ أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة).
55- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ.
يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ.وَإِنْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ.وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.
56- وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْإِقْرَارِ.كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ- كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ مَجْبُوبًا- مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ الْإِقْرَارِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً لِلتَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ لَهُ، كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ.وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَطَلَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُهُ كَالْمَالِ الضَّائِعِ.
وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ.
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لِإِبْطَالِ الْإِقْرَارِ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ.
كُلُّ هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ.فَوُجُودُ الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ لَا يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ.
الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:
57- جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لَا يُبْطِلُ التَّقَادُمُ الْإِقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا.وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا.وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ.فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
58- أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، لَا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ.
الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:
59- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلَالَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ.وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الْإِقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ- يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُتْرَكُ، لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ.
وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ « مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ »؟ فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ.أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَالَ: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ شُبْهَةً.
وَقَيَّدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ قَبُولَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ.وَلَا يَرَوْنَ مِثْلَ الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لَا تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْلَ حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَلَّ لَمْ يُضْمَنْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي خَبَرِ مَاعِزٍ.
60- أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ- كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ- ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الْإِقْرَارَ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ.وَضَابِطُ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ.
وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ- أَوْ مَعَ يَمِينِهِ- فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ.وَيَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
هَلِ الْإِقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟
61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ.
وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
أ- أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب- الْإِقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.
ج- الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ، قِيلَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.
د- الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ:
62- إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ.وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِهِ فَلَزِمَهُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ.وَيَجِبُ لَهُ فَضْلُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلَاثًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً)، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ.وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ...وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رضي الله عنها- أَنَّ « سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ:
أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ:
هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ » وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ.
شُرُوطُ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
63- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ.
(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لِأَنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.
(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ.فَإِنْ كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلَا يَسْقُطُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
64- وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ كَالشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ، يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ.فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ حَائِزٍ فَخِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ جَمِيعُ الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَمْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَقٌّ.
65- وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ.وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ...وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.لِأَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ الْمُقِرِّ، فَيُبْطِلُ إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الْإِقْرَارِ.يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، مِثْلَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الْإِرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَيَبْطُلُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (تجسس)
تَجَسُّسٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الْأَخْبَارِ، يُقَالُ: جَسَّ الْأَخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْأَخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّحَسُّسُ:
2- التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْلُ الْإِحْسَاسِ: الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أَيْ: هَلْ تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ، وَقَدْ قُرِئَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بِالْحَاءِ «وَلَا تَحَسَّسُوا» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ.
ب- التَّرَصُّدُ:
3- التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ: الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الِانْتِقَالِ، أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.
التَّنَصُّتُ:
4- التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ.يُقَالُ: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ: اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛ لِأَنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:
5- التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالْإِبَاحَةُ.
فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} لِأَنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالِاسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.
وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بِالْهَرَبِ.وَطَلَبُهُمْ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.
وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَالِ صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَا يُكْشَفُ عَنْهُ.وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ وِلَايَةِ الْحِسْبَةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:
6- الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً.
وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا- مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ- عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ، لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ- رضي الله عنه- قَتْلَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرِ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا.أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى.وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الْأَمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَانَ لَكَ- وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا- فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ.
وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ.فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.
وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ.وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.
وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا.وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ.فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ، وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.
وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ، وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى.
7- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا Bدِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} مَا يَأْتِي:
مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ.وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ.وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ- وَهُوَ صَحِيحٌ- لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَلَّى سَبِيلَهُ.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ»
8- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ.وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ.
9- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَلُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ.
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:
10- التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ- يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى..أَنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ الرَّسُولُ: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا.قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا نَارٌ وَلَا بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ...» إِلَخْ فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:
11- سَبَقَ أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}
وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الْأُمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- Bقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».
وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.
أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ.وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ.فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ.فَقَالَ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَلْ يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْلَ طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لَا يُكْسَرُ.وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.
فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُهَنَّا الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ.ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ Bمَسْعُودٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ.
تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:
12- الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.
وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:
13- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ Bبَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِلُّ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَالَ الِاطِّلَاعِ، وَلَا ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَالَ لِبِلَالٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا حَتَّى لَا يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ: (دَفْعُ الصَّائِلِ).
أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (تسامع)
تَسَامُعٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّسَامُعُ: مَصْدَرُ تَسَامَعَ النَّاسُ، وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالشُّهْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: تَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ أَيِ اشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ، وَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِفُلَانٍ: شَاعَ بَيْنَهُمْ عَيْبُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِفْشَاءُ:
2- الْإِفْشَاءُ: نَشْرُ الْخَبَرِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، بِبَثِّهِ بَيْنَ النَّاسِ.
ب- الْإِعْلَامُ:
3- الْإِعْلَامُ: إِيصَالُ الْخَبَرِ إِلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ، أَمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَانٍ.
ج- الْإِعْلَانُ:
4- الْإِعْلَانُ: الْمُجَاهَرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَيُلَاحَظُ فِيهِ قَصْدُ الشُّيُوعِ وَالِانْتِشَارِ.
د- الْإِشْهَارُ:
5- الْإِشْهَارُ: مَصْدَرُ أَشْهَرَ، وَالشَّهْرُ مَصْدَرُ شَهَرَ الشَّيْءَ، وَكِلَاهُمَا فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ.
هـ- السَّمْعُ:
6- السَّمْعُ: قُوَّةٌ فِي الْأُذُنِ بِهَا تُدْرَكُ الْأَصْوَاتُ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْمُوعِ، وَبِمَعْنَى الذِّكْرِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ هِيَ: الْعِتْقُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْوَقْفُ.
8- وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمَهْرُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالدُّخُولُ بِزَوْجَتِهِ، وَوِلَايَةُ الْقَاضِي، وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ- سِوَى رَقِيقٍ لَمْ يَعْلَمْ رِقَّهُ وَيُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ.وَفِي عَدِّ الْأَخِيرِ مِنْهَا نَظَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ.
9- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الشَّهَادَةُ بِمِلْكِ الشَّيْءِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ لِحَائِزٍ لَهُ- وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَتِّ بِالْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ السَّمَاعِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ السَّمَاعِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ- وَعَزْلُ قَاضٍ، وَتَعْدِيلٌ وَتَجْرِيحٌ لِبَيِّنَةٍ، وَإِسْلَامٌ وَكُفْرٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَرُشْدٌ، وَسَفَهٌ لِمُعَيَّنٍ، وَفِي النِّكَاحِ اشْتَرَطُوا: ادِّعَاءَ الْحَيِّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ لِيَرِثَهُ، أَوِ ادِّعَاهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَيَّيْنِ وَلَمْ يُنْكِرِ الْآخَرُ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِصْمَتِهِ.وَأَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ، وَفِي الطَّلَاقِ- وَأَنْ يُخْلَعَ- يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ الطَّلَاقُ لَا دَفْعُ الْعِوَضِ، وَبِضَرَرِ زَوْجٍ لِزَوْجَتِهِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ عَنِ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُضَارُّهَا فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ- وَبِالْوِلَادَةِ لِإِثْبَاتِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، أَوْ لِخُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ، وَبِالرَّضَاعِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْإِبَاقِ، وَالْأَسْرِ، وَالْفَقْدِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَاللَّوْثِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ لَوْثًا تُسَوِّغُ لِلْوَلِيِّ الْقَسَامَةَ- وَالْبَيْعَ، وَالْقِسْمَةَ، وَالْوَصِيَّةَ، وَالْعُسْرَ وَالْيُسْرَ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَجُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً.
10- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَتَنْبَنِي الشَّهَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّسَامُعِ.
11- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ زَادُوا عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْوِلَادَةُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْخُلْعُ، وَأَصْلُ الْوَقْفِ وَشَرْطُهُ، وَمَصْرِفُهُ، وَالْعَزْلُ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَالْفُرُوعِ.أَمَّا صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا فَقَدْ قَالَا: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
12- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَحْصُلَ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَوْ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَيَكْفِي الْعَدْلُ وَلَوْ أُنْثَى وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَيَّدَهُ شَارِحُ الْوَهْبَانِيَّةِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْبِرُ مُتَّهَمًا كَوَارِثٍ وَمُوصًى لَهُ، وَلَوْ فَسَّرَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالتَّسَامُعِ رُدَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْمَوْتِ إِذَا فُسِّرَا، وَقَالَا فِيهِ بِأَخْبَرَنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ فَتُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ: يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ- وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ- وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ، وَقِيلَ: فِي الْمَوْتِ يُكْتَفَى بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ.
13- وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ شَرْطَ التَّسَامُعِ- لِيُسْتَنَدَ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ- هُوَ سَمَاعُ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَحْصُلُ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِصِدْقِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ حُرِّيَّةٌ وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا عَدَالَةٌ، وَقِيلَ: يَكْفِي التَّسَامُعُ مِنْ عَدْلَيْنِ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ لِخَبَرِهِمَا.
14- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ لِمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (تشهير)
تَشْهِيرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّشْهِيرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَهَّرَهُ، بِمَعْنَى: أَعْلَنَهُ وَأَذَاعَهُ، وَشَهَّرَ بِهِ: أَذَاعَ عَنْهُ السُّوءَ، وَشَهَّرَهُ تَشْهِيرًا فَاشْتَهَرَ.وَالشُّهْرَةُ: وُضُوحُ الْأَمْرِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّعْزِيرُ:
2- التَّعْزِيرُ: التَّأْدِيبُ وَالْإِهَانَةُ دُونَ الْحَدِّ.وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّشْهِيرِ، إِذْ يَكُونُ بِالتَّشْهِيرِ وَبِغَيْرِهِ.فَالتَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ.
ب- السَّتْرُ:
3- السَّتْرُ: الْمَنْعُ وَالتَّغْطِيَةُ.وَهُوَ ضِدُّ التَّشْهِيرِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
3- يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْهِيرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُشَهَّرِ بِهِ.فَالتَّشْهِيرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، عَلَى جِهَةِ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْغِيبَةِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ.وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعَازِيرِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلًا: تَشْهِيرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ:
الْأَصْلُ أَنَّ تَشْهِيرَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِذِكْرِ عُيُوبِهِمْ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ حَرَامٌ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا.وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُشَهَّرُ بِهِ.
4- فَيَكُونُ حَرَامًا فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:
أ- إِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ بَرِيئًا مِمَّا يُشَاعُ عَنْهُ وَيُقَالُ فِيهِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلِمَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ، يَرَى أَنْ يَشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ.ثُمَّ تَلَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} ».
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَة- رضي الله عنها- حِينَ رَمَاهَا أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَهِيَ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، يَحْكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} » وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» أَيْ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْوُ بِالشِّعْرِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ يَتَضَمَّنُ هَجْوَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحَ فِي، أَعْرَاضِهِمْ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ.
ب- إِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ يَتَّصِفُ بِمَا يُقَالُ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ.
فَالتَّشْهِيرُ بِهِ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْغِيبَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}.وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ.قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْعَالِمِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ.أَوْ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: فَعَلَ كَذَا بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهُ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ.فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ.وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.وَلَا تَفْضَحْهُ.
ج- وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَشْهِيرُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ؛ إِذْ الْمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ.فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا.وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ» وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».
5- وَيَكُونُ التَّشْهِيرُ جَائِزًا لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:
أ- بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ مَنْ يَتَجَاهَرُ بِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا غِيبَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ لَا غِيبَةَ لَهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ- كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ- كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ
فَإِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ- فَلَا يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ إِذَا سَمِعَهُ، بَلْ قَدْ يُسَرُّ بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّصُوصِ تَفْتَخِرُ بِالسَّرِقَةِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّسَوُّرِ عَلَى الدُّورِ الْعِظَامِ وَالْحُصُونِ الْكِبَارِ، فَذِكْرُ مِثْلِ هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَا يَحْرُمُ.
وَفِي الْإِكْمَالِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ» قَالَ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ.وَقَالَ الْخَلاَّلُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ».
6- ب- إِذَا كَانَ التَّشْهِيرُ عَلَى سَبِيلِ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْذِيرِهِمْ، وَذَلِكَ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ، وَالتَّشْهِيرِ بِالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إِقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ يُدْعَوْنَ إِلَيْهَا، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَمَلَةِ الْعِلْمِ الْمُقَلِّدِينَ، هَؤُلَاءِ يَجِبُ تَجْرِيحُهُمْ وَكَشْفُ أَحْوَالِهِمُ السَّيِّئَةِ لِمَنْ عَرَفَهَا مِمَّنْ يُقَلَّدُ فِي ذَلِكَ وَيُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ، لِئَلاَّ يَغْتَرَّ بِهِمْ وَيُقَلَّدَ فِي دِينِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَلَيْسَ السَّتْرُ هُنَا بِمُرَغَّبٍ فِيهِ وَلَا مُبَاحٍ.عَلَى هَذَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشَهِّرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا.
وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ فَلَا يَقَعُوا فِيهَا، وَيَنْفِرَ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقَ، وَلَا يَفْتَرِيَ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً، فَلَا يُقَالُ فِي الْمُبْتَدِعِ: إِنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا أَنَّهُ يَزْنِي، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ وَضْعُ الْكُتُبِ فِي جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَالْأَخْبَارِ بِذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ لِذَلِكَ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقُلُهُ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَبْطِ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِأَجْلِ عَدَاوَةٍ أَوْ تَفَكُّهٍ بِالْأَعْرَاضِ وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ عِنْدَ الرُّوَاةِ.
وَيَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ قَالَ الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ: لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لَا تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْفَتْوَى فَهَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ.نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ.
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِغِيبَةٍ إِنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ.وَمِثْلُهُ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي.
وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ لِلْحَدِيثِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَاجِبٌ لِلْحَاجَةِ.
وَمِنْهَا: إِذَا اسْتَشَارَكَ إِنْسَانٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ أَوْ مُشَارَكَتِهِ أَوْ إِيدَاعِهِ أَوِ الْإِيدَاعِ عِنْدَهُ أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ مَا تَعْلَمُهُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيُشَهَّرُ أَمْرُهُ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ.
ثَانِيًا: التَّشْهِيرُ مِنْ الْحَاكِمِ:
تَشْهِيرُ الْحَاكِمِ لِبَعْضِ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعْزِيرِ.
أ- بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ:
7- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْغَائِبِينَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَانِيَةً وَغَيْرَ سِرٍّ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: وَمِنْ أَمْرِ النَّاسِ عِنْدَنَا الشَّهْرُ لِأَهْلِ الْفِسْقِ رِجَالًا وَنِسَاءً، وَالْإِعْلَامُ بِجَلْدِهِمْ فِي الْحُدُودِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَكَشْفُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ الْمَجْلُودِ فِي الْخَمْرِ وَالْفِرْيَةِ: أَتَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَبِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فَاسِقًا مُدْمِنًا فَأَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ، وَنُعْلِنُ أَمْرَهُمْ وَيُفْضَحُونَ.
وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُنْدَبُ أَنْ يُعَلَّقَ الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ فِي عُنُقِ الْمَحْدُودِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رَدْعًا لِلنَّاسِ، وَقَدْ رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَارِقٍ قُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ» وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-.
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ حَدِيثَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي.فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ».
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ- كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ- أَنَّ الْحُكَّامَ أَخَذُوا بِالتَّجْرِيسِ بِالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
كَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إِذَا صُلِبَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَشْتَهِرَ الْحَالُ وَيَتِمَّ النَّكَالُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ.
ب- بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ:
8- التَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، أَيْ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ إِلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّشْهِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَسَبَ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاصِي، وَاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّعْزِيرُ بِالتَّشْهِيرِ جَائِزٌ إِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجُمْلَةِ.
يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْأَمِيرِ إِذَا رَأَى مِنَ الصَّلَاحِ فِي رَدْعِ السَّفَلَةِ: أَنْ يُشَهِّرَهُمْ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ.
وَيَقُولُ: يَجُوزُ فِي نَكَالِ التَّعْزِيرِ أَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُشَهَّرَ فِي النَّاسِ، وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يَتُبْ.
وَفِي التَّبْصِرَةِ لِابْنِ فَرْحُونَ: إِنْ رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ بِإِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَلَ.
وَيَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ أَيْضًا: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ، وَعُزِلَ وَيُشَهَّرُ وَيُفْضَحُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْقَوَّادَةُ- الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ- أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِيهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ، وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِتُجْتَنَبَ.
غَيْرَ أَنَّهُ يُلَاحَظُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ دَائِمًا يَذْكُرُونَ التَّشْهِيرَ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ مِمَّا يُوحِي بِأَنَّ التَّشْهِيرَ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِشَاهِدِ الزُّورِ، وَذَلِكَ لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فِي الْمَشْهُورِ: يُطَافُ بِهِ وَيُشَهَّرُ، وَلَا يُضْرَبُ اسْتِنَادًا إِلَى مَا فَعَلَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ ضَرْبَهُ وَحَبْسَهُ.
وَيَذْكُرُ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ.فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ».
ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وَشَهَّرَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَبِهِ يَقُولُ شُرَيْحٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِذَا عُزِّرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُشَهِّرَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَشَاهِدِ زُورٍ لِيُجْتَنَبَ.
وَجَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ الرَّجُلَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَد يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ فَإِنَّهُ إِكْرَامٌ، وَكَشْفِ الرَّأْسِ بِالْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِمِصْرِ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: وَالتَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ «عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْهَجْرِ»، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ.
«وَعَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ».
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِ التَّعْزِيرِ وَقَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا، فَيَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الْأَصَحِّ، فَلَهُ أَنْ يُشَهِّرَ فِي النَّاسِ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ.وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا، وَهُوَ رَبْطُهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَا لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُرْسَلُ، وَلَا يُمْنَعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالصَّلَاةِ.
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبُحْتُرِيُّ- وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ- إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ، قَدْ أَخَذَ مَعَهُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمُسْكِرِ، أُمِرَ بِهِ فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ بَابِهِ، كَيْمَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَيُشَهَّرُ بِهِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (تعليم وتعلم)
تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعَلُّمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَعَلَّمَ.وَالتَّعَلُّمُ مُطَاوِعُ التَّعْلِيمِ، يُقَالُ: عَلَّمْتُهُ الْعِلْمَ فَتَعَلَّمَهُ.وَالتَّعْلِيمُ مَصْدَرُ عَلَّمَ: يُقَالُ: عَلَّمَهُ إِذَا عَرَّفَهُ، وَعَلَّمَهُ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَتَعَلَّمَهُ، وَعَلِمَ الْأَمْرَ وَتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ.وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ.
وَالْعِلْمُ أَيْضًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الثِّقَةِ.وَجَاءَ بِمَعْنَى: الْمَعْرِفَةِ أَيْضًا.
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْلِيمُ وَالْإِعْلَامُ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ، إِلاَّ أَنَّ الْإِعْلَامَ اخْتَصَّ بِمَا كَانَ بِإِخْبَارٍ سَرِيعٍ، وَالتَّعْلِيمُ اخْتَصَّ بِمَا يَكُونُ بِتَكْرِيرٍ وَتَكْثِيرٍ، حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ.رُبَّمَا اسْتُعْمِلَ التَّعْلِيمُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ إِذَا كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ نَحْوُ {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ}.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلتَّعْلِيمِ عَمَّا ذُكِرَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّثْقِيفُ:
2- التَّثْقِيفُ: مَصْدَرُ ثَقَّفَ.يُقَالُ: ثَقَّفْتُ الرُّمْحَ: أَيْ سَوَّيْتُهُ وَأَزَلْتُ عِوَجَهُ وَيُقَالُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ: إِذَا كَانَ حَاذِقًا فَطِنًا سَرِيعَ الْفَهْمِ، وَثَقَّفَ الْإِنْسَانَ: أَدَّبَهُ وَعَلَّمَهُ وَهَذَّبَهُ.فَالتَّثْقِيفُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيمِ.
ب- التَّدْرِيبُ:
3- التَّدْرِيبُ: مِنَ الدُّرْبَةِ، وَهِيَ: التَّجْرِبَةُ وَالتَّعَوُّدُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى الْأَمْرِ.وَقَدْ دَرَّبْتُهُ تَدْرِيبًا، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ «وَكَانَتْ نَاقَةً مُدَرَّبَةً»: أَيْ مُخَرَّجَةً مُؤَدَّبَةً «قَدْ أَلِفَتِ الرُّكُوبَ وَالسَّيْرَ»: أَيْ عُوِّدَتِ الْمَشْيَ فِي الدُّرُوبِ، فَصَارَتْ تَأْلَفُهَا وَتَعْرِفُهَا وَلَا تَنْفِرُ
فَالتَّدْرِيبُ مِنْ وَسَائِلِ التَّعْلِيمِ.
ج- التَّأْدِيبُ:
4- التَّأْدِيبُ: مَصْدَرُ أَدَّبَ.يُقَالُ: أَدَّبْتُهُ أَدَبًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُضَاعَفُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، فَيُقَالُ: أَدَّبْتُهُ- بِالتَّشْدِيدِ- إِذَا عَلَّمْتُهُ رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ.وَالِاسْمُ: الْأَدَبُ.قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: الْأَدَبُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.وَيَأْتِي التَّأْدِيبُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْعُقُوبَةِ.يُقَالُ.أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبْتُهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى حَقِيقَةِ الْأَدَبِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
أ- التَّعَلُّمُ:
5- تَعَلُّمُ الْعِلْمِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْآتِيَةُ: قَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ عَيْنٍ وَهُوَ تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِ، لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ مُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ.فَقَدْ فُرِضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ- بَعْدَ تَعَلُّمِهِ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ- تَعَلُّمُ مَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ.وَيَجِبُ تَعَلُّمُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ، وَكَذَا أَهْلُ الْحِرَفِ، وَكُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ حُكْمِهِ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ كُلِّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِيَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْكَلَامِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأَسَانِيدِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِنَ التَّعَلُّمِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِنْهُ التَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ بِالتَّوَسُّعِ فِيهِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى غَوَامِضِهِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ حَرَامًا: وَمِنْهُ تَعَلُّمُ الشَّعْوَذَةِ.وَضَرْبِ الرَّمْلِ وَالسِّحْرِ وَكَذَا الْكِهَانَةُ، وَالْعِرَافَةُ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مَكْرُوهًا، وَمِنْهُ تَعَلُّمُ أَشْعَارِ الْغَزَلِ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ النِّسَاءِ الْمُعَيَّنَاتِ، وَتَفْصِيلُ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِهِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مُبَاحًا، وَمِنْهُ الْأَشْعَارُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُنْكَرُ مِنَ اسْتِخْفَافٍ بِأَحَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ذِكْرِ عَوْرَاتِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
ب- التَّعْلِيمُ:
6- قَالَ النَّوَوِيُّ: تَعْلِيمُ الطَّالِبِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ إِلاَّ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ، فَطُلِبَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَامْتَنَعَ فَهَلْ يَأْثَمُ؟ يَجْرِي فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ.وَالْأَصَحُّ: لَا يَأْثَمُ.
هَذَا وَيَلْزَمُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ اللاَّزِمِ تَعْلِيمُهُ، كَاسْتِعْلَامِ كَافِرٍ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِعْلَامِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ عَنْ صَلَاةٍ حَضَرَ وَقْتُهَا، وَكَالْمُسْتَفْتِي فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْإِجَابَةُ، وَمَنِ امْتَنَعَ كَانَ آثِمًا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي نَوَافِلِ الْعِلْمِ الَّتِي لَا ضَرُورَةَ بِالنَّاسِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ، أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ: إِذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ.
7- وَقَدْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا الْأُمَّةُ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَجَاءَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَالْمُرَادُ هُوَ التَّعْلِيمُ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} وَهُوَ إِيجَابٌ لِلتَّعْلِيمِ.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَهُوَ تَحْرِيمٌ لِلْكِتْمَانِ.
وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ».وَقَوْلُهُ- عليه السلام-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ، فَيَشْمَلُ عُلُومَ الشَّرْعِ: عِلْمَ الْكَلَامِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَعُلُومَ الدُّنْيَا.وَمِنْهَا الزِّرَاعَةُ، وَالصِّنَاعَةُ، وَالسِّيَاسَةُ، وَالْحِرَفُ، وَالطِّبُّ، وَالتِّكْنُولُوجْيَا، وَالْحِسَابُ، وَالْهَنْدَسَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَمَا يَرْتَبِطُ بِهِ مَصَالِحُ أُمُورِ الدُّنْيَا.
فَضْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ:
8- وَرَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، وَتَطَابَقَتِ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى. {وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْمًا} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وَمِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا».
وَمِنَ الْآثَارِ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ.وَقَوْلُهُ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ.وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ.
آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ
أ- آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
9- فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِي آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَوَظَائِفِهِ وَأَهَمُّهَا مَا يَلِي:
- أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَقْصِدَ تَوَصُّلًا إِلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ.
- وَأَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا.
- وَأَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ.
- وَأَنْ لَا يُذِلَّ الْعِلْمَ وَلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ يُنْتَسَبُ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ كَبِيرَ الْقَدْرِ.
- وَأَنْ يُشْفِقَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، وَأَنْ يُجْرِيَهُمْ مُجْرَى بَنِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ» بِأَنْ يَقْصِدَ إِنْقَاذَهُمْ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنْ إِنْقَاذِ الْوَالِدَيْنِ وَلَدَهُمَا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا.
- وَأَنْ لَا يَتَعَظَّمَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، بَلْ يَلِينُ لَهُمْ وَيَتَوَاضَعُ.قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ.
- وَأَنْ يَتَفَقَّدَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَيَسْأَلَ عَمَّنْ غَابَ مِنْهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ.
- وَأَنْ يَزْجُرَ الْمُتَعَلِّمَ عَنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُصَرِّحُ، وَبِطَرِيقِ الرَّحْمَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوْبِيخِ.
- وَأَنْ يَقْتَصِرَ بِالْمُتَعَلِّمِ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ، فَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ عَقْلُهُ، فَيُنَفِّرُهُ أَوْ يَخْبِطُ عَلَيْهِ عَقْلَهُ، اقْتِدَاءً فِي ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ قَالَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ».
- وَأَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُطَالِبَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ.
- وَأَنْ يُقَدِّمَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِذَا ازْدَحَمُوا الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ.
- وَأَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِعِلْمِهِ فَلَا يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ وَالْعَمَلَ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ، وَأَرْبَابُ الْأَبْصَارِ أَكْثَرُ.
ب- آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
10- يَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ لِيَصْلُحَ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
وَقَالُوا: تَطْبِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ كَتَطْبِيبِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَائِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيلِ، وَيَرْضَى بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنَ الْقُوتِ، وَيَصْبِرُ إِنْ ضَاقَ بِهِ الْعَيْشُ.
وَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِمُعَلِّمِهِ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَيَرَى كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.
- وَلْيَحْذَرِ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ، وَالْإِدْلَالَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ.
- وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلْمُعَلِّمِ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَنِّتَ مُعَلِّمَهُ بِالسُّؤَالِ، وَلَا يَدْعُوهُ تَرْكُ الْإِعْنَاتِ لِلْمُعَلِّمِ إِلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ.وَلَيْسَتْ كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ إِعْنَاتًا، وَلَا قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا.
إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُلِحُّ فِي السُّؤَالِ إِلْحَاحًا مُضْجِرًا، وَيَغْتَنِمُ سُؤَالَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهِ وَفَرَاغِهِ، وَيَتَلَطَّفُ فِي سُؤَالِهِ وَيُحْسِنُ خِطَابَهُ.
- وَلْيَأْخُذِ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ طَلَبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ، وَلَا يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمَنَازِلِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، إِذَا كَانَ النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ الْأَخْذُ عَمَّنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِ أَجْمَلُ وَالْأَخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ.
- وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، لَيْلًا وَنَهَارًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَا يُذْهِبُ مِنْ أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلاَّ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِأَكْلٍ وَنَوْمٍ قَدْرًا- لَا بُدَّ مِنْهُ- وَنَحْوِهِمَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.
- وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً، فَلَا يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ كَثِيرٍ، وَأَنْ لَا يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ وَلَا يُؤَخِّرَ تَحْصِيلَ فَائِدَةٍ، وَإِنْ قَلَّتْ: إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا، وَإِنْ أَمَلَ حُصُولَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ، لِأَنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ، وَلِأَنَّ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي يَحْصُلُ غَيْرُهَا.
تَعْلِيمُ الصِّغَارِ:
11- عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الصِّغَارِ مَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلَّمُ الصَّغِيرُ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ إِيمَانٍ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا تَصِحُّ بِهِ عِبَادَتُهُ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، كَمَا يُعَلَّمُ أَنَّهُ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرَّفُ مَا يَبْلُغُ بِهِ.
وَقِيلَ هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وُجُوبَهُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
وَدَلِيلُ وُجُوبِ تَعْلِيمِ الصَّغِيرِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ: مَعْنَاهُ عَلِّمُوهُمْ مَا يَنْجُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ «وَهَذَا ظَاهِرٌ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ.وَمَهْمَا كَانَ الْأَبُ يَصُونُ وَلَدَهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَصِيَانَتُهُ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيَهْدِيَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ، وَلَا يُحَبِّبَ إِلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعُ عُمْرَهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبِرَ وَيَهْلَكُ هَلَاكَ الْأَبَدِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُ أَيْضًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ: السِّبَاحَةِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ.قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ، وَمُرُوهُمْ فَلْيَثِبُوا عَلَى الْخَيْلِ وَثْبًا.
هَذَا وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْعِلْمِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ الْمَذْمُومِ، وَأَقْسَامِهِمَا وَأَحْكَامِهِمَا، وَمَا هُوَ يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَمَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ (ر: عِلْمٌ)
تَعْلِيمُ النِّسَاءِ:
12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْقُرْآنَ وَالْعُلُومَ وَالْآدَابَ.وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قِيَامِ الْمُتَأَهِّلَةِ مِنَ النِّسَاءِ بِتَعْلِيمِ عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- وَنِسَاءٌ تَابِعَاتٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ- عليه الصلاة والسلام-: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ مَعَ مُرَاعَاةِ آدَابِ أَمْرِ الشَّارِعِ الْمَرْأَةَ بِالْتِزَامِهَا لِلْحِفَاظِ عَلَى عِرْضِهَا وَشَرَفِهَا وَعِفَّتِهَا، مِنْ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَعَدَمِ التَّبَرُّجِ، وَعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِلْكَلَامِ مَعَ الْأَجَانِبِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: اخْتِلَاطٌ، أُنُوثَةٌ، تَبَرُّجٌ، حِجَابٌ، عَوْرَةٌ).وَيَجِبُ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْعُلُومَ الَّتِي تُعْتَبَرُ ضَرُورِيَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ.قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: إِذَا كَانَ الْمَرَضُ فِي سَائِرِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الدَّوَاءِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا..قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ «يَنْبَغِي» هُنَا لِلْوُجُوبِ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَطْبِيبٌ، وَتَدَاوِي).هَذَا وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ كَالرَّجُلِ.فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنها-.قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ».
قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.
وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهَا النَّهْيُ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، أَوْ أَعَلَّهَا بِالْوَضْعِ.
الضَّرْبُ لِلتَّعْلِيمِ:
13- لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ لِلتَّأْدِيبِ.وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ حَقَّ الْمُعَلِّمِ فِي ضَرْبِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ بِقُيُودٍ مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، يَعْلَمُ الْمُعَلَّمُ الْأَمْنَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ضَرْبُهُ بِالْيَدِ لَا بِالْعَصَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الثَّلَاثَ، رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ- رضي الله عنه-: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ فَوْقَ الثَّلَاثِ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ»
ب- أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ الضَّرْبَ عِنْدَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَإِنَّمَا الضَّرْبُ عِنْدَ سُوءِ الْأَدَبِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي شَيْءٍ، وَتَسْلِيمُ الْوَلِيِّ صَبِيَّهُ إِلَى الْمُعَلِّمِ لِتَعْلِيمِهِ لَا يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي الضَّرْبِ، فَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ الضَّرْبُ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ نَصًّا.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمْ: الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ.
ج- أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ التَّأْدِيبَ، فَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ مَنْ لَا يَعْقِلُ التَّأْدِيبَ مِنَ الصِّبْيَانِ
قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ، قَالَ: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَتَوَقَّى بِجَهْدِهِ الضَّرْبَ وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبُهُ.
ضَمَانُ ضَرْبِ التَّعْلِيمِ:
14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا أَدَّبَ صَبِيَّهُ الْأَدَبَ الْمَشْرُوعَ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.إِلاَّ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ قَدْ حَصَلَ بِإِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، فَإِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ صَبِيًّا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ ضَمِنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَاتَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَانَ مِثْلُهُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ، لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لَا الْهَلَاكُ، فَإِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَأْدِيبٌ.ضَمَانٌ.قَتْلٌ).
الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَدْرِيسِ عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرِّزْقَ لَيْسَ أُجْرَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ كَالْأُجْرَةِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ: فَيَرَى مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.لِحَدِيثِ «عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا.قَالَ: قُلْتُ: قَوْسٌ، وَلَيْسَ بِمَالٍ.قَالَ: قُلْتُ: أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا».
وَحَدِيثُ «أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَهْدَى لَهُ خَمِيصَةً أَوْ ثَوْبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّكَ لَوْ لَبِسْتَهَا لأَلْبَسَكَ اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ، فَلَا يَجُوزُ، كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} فَيُؤَدِّي إِلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَذَهَبَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ- وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- يُؤْخَذُ مِمَّا نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، لِخَبَرِ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَنْ سَأَلْتُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَرَى بِتَعْلِيمِ الْغِلْمَانِ بِالْأَجْرِ بَأْسًا.
وَلِأَنَّ الْحُفَّاظَ وَالْمُعَلِّمِينَ- نَظَرًا لِعَدَمِ وُجُودِ عَطِيَّاتٍ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ- رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمَعَاشِهِمْ، فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلتَّعْلِيمِ حِسْبَةً، إِذْ حَاجَتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ بَابُ التَّعْلِيمِ بِالْأَجْرِ لَذَهَبَ الْعِلْمُ وَقَلَّ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ، لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ.وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، أَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، كَالنَّحْوِ وَالْأُصُولِ وَالْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ.وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَكَرَاهَتِهَا عَلَى تَعْلِيمِ غَيْرِهِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ فِيهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ بِأُجْرَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيلِ طَالِبِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ- إِلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِشَرْطِ تَعْيِينِ السُّورَةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي يَعْلَمُهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ.وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.أَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: بِعَدَمِ جَوَازِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ مَضْبُوطَةٍ، فَيَجُوزُ.
وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِي شُرُوطِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَاتِ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ (الْإِجَارَةِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَخِيَاطَةٍ وَحِدَادَةٍ وَبِنَاءٍ وَزَرْعٍ وَنَسِيجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ سِوَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْبَحْتَةِ، كَاللُّغَةِ وَالْآدَابِ، لِأَنَّهَا تَارَةً تَقَعُ قُرْبَةً وَتَارَةً تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ لِفِعْلِهِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ، لِكَوْنِ فَاعِلِهَا لَا يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ مِثْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ (ر: مُصْطَلَحَ إِجَارَةٍ ف 151 ج 1)
تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ:
17- لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ، كَالْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَبِالشَّعِيرِ وَبِالْحِمَّصِ، وَالشَّعْبَذَةِ، وَعُلُومِ طَبَائِعَ وَسِحْرٍ وَطَلْسَمَاتٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَتَلْبِيسَاتٍ.فَتَعْلِيمُ كُلِّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ «حُلْوَانِ الْكَاهِنِ» وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ. هَذَا، وَلَيْسَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَعْلِيمُ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ وَاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِلْمٌ).
تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحِلِّ مَا قَتَلَتْهُ الْجَوَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ: كَوْنُ الْجَارِحِ مُعَلَّمًا، لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} حَيْثُ إِنَّ النَّصَّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ».وَلِأَنَّ الْجَارِحَ إِنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ، لِيَكُونَ عَامِلًا لِلصَّائِدِ بِمَا يُرِيدُ مِنَ الصَّيْدِ، فَيَسْتَرْسِلُ بِإِرْسَالِهِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، لَا لِنَفْسِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي صِفَةِ الْجَارِحِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُصَادَ بِهِ وَشُرُوطِ تَعْلِيمِهِ وَضَبْطِ تَعْلِيمِهِ يُنْظَرُ: مُصْطَلَحُ: (صَيْدٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (تكبيرة الإحرام)
تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِالتَّعْرِيفُ:
1- تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ هِيَ: قَوْلُ الْمُصَلِّي لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ «اللَّهُ أَكْبَرُ» أَوْ كُلُّ ذِكْرٍ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ.
وَسُمِّيَتِ التَّكْبِيرَةُ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا الصَّلَاةَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهَا تُحَرِّمُ الْأَشْيَاءَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي تُنَافِي الصَّلَاةَ
وَيُسَمِّيهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَالِبِ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ أَوِ التَّحْرِيمَةَ.
وَالتَّحْرِيمُ جَعْلُ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا وَالْهَاءُ لِتَحْقِيقِ الِاسْمِيَّةِ.
وَالْحِكْمَةُ مِنَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرَةِ هِيَ تَنْبِيهُ الْمُصَلِّي عَلَى عِظَمِ مَقَامِ مَنْ قَامَ لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنْوَاعِ الْكَمَالِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ حَقِيرٌ وَأَنَّهُ جَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَبِيهٌ مِنْ مَخْلُوقٍ فَانٍ، فَيَخْضَعُ قَلْبُهُ وَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ وَيَخْلُو قَلْبُهُ مِنَ الْأَغْيَارِ فَيَمْتَلِئُ بِالْأَنْوَارِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَالْمُرَادُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَقَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وَقَوْلُهُ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أَوَامِرُ وَمُقْتَضَاهَا الِافْتِرَاضُ وَلَمْ تُفْرَضْ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِافْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي الصَّلَاةِ إِعْمَالًا لِلنُّصُوصِ فِي حَقِيقَتِهَا.وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ.كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَأْمُومِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
3- هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ جُزْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِهَا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَهِيَ أَمَارَةُ الرُّكْنِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ صَلَاةٍ بِتَحْرِيمَةِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَوْلَا أَنَّهَا مِنَ الْأَرْكَانِ لَجَازَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهَا شَرْطٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} عَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَى الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ بِلَا فَصْلٍ لَيْسَ إِلاَّ التَّحْرِيمَةُ فَيَقْتَضِي هَذَا النَّصُّ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِذِ الشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام- «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» فَأَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ شَرْطٌ فَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَتَكْرَارِ الْأَرْكَانِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَتَكَرَّرَ كَمَا تُكَرُّرُ الْأَرْكَانُ.كَمَا عَلَّلُوا كَوْنَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا بِأَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْمُصَلِّي لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلاَّ بِفَرَاغِهِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.وَلِلتَّوَسُّعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا تُنْظَرُ أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ: مُقَارَنَتُهَا لِلنِّيَّةِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَفْضَلِيَّةِ مُقَارَنَةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلنِّيَّةِ.وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالُوا: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ إِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ مَثَلًا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَ النِّيَّةِ بِعَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَكَلَامٍ وَنَحْوِهَا ثُمَّ انْتَهَى إِلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالنِّيَّةِ السَّابِقَةِ.لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ فَجَاءَ تَقْدِيمُ نِيَّتِهَا عَلَيْهَا كَالصَّوْمِ وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْوِيًّا.
وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمُقَارَنَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرِيقُ شُرُوطًا لِجَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ).
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَقَوْلُهُ: {مُخْلِصِينَ} حَالٌ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْحَالَ وَصْفُ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ، وَالْإِخْلَاصُ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْلُوَ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْوَسِيطِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ الِاكْتِفَاءَ بِالْمُقَارَنَةِ الْعُرْفِيَّةِ عِنْدَ الْعَوَامِّ بِحَيْثُ يُعَدُّ مُسْتَحْضِرًا لِلصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِالْأَوَّلِينَ فِي تَسَامُحِهِمْ بِذَلِكَ.أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا تُجْزِئُ التَّكْبِيرَةُ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ وَهِيَ لَا تَتَجَزَّأُ وَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ لَوَقَعَ الْبَعْضُ الَّذِي لَا نِيَّةَ فِيهِ غَيْرَ عِبَادَةٍ وَمَا فِيهِ نِيَّةُ عِبَادَةٌ فَيَلْزَمُ التَّجَزُّؤُ.
بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نِيَّةٌ).
الْإِتْيَانُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ قَائِمًا:
5- يَجِبُ أَنْ يُكَبِّرَ الْمُصَلِّي قَائِمًا فِيمَا يُفْتَرَضُ لَهُ الْقِيَامُ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَكَانَتْ بِهِ بَوَاسِيرُ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَزَادَ النَّسَائِيُّ «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا».وَيَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِنَصْبِ الظَّهْرِ فَلَا يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ مَا يَعُمُّ الْحُكْمِيَّ لِيَشْمَلَ الْقُعُودَ فِي نَحْوِ الْفَرَائِضِ لِعُذْرٍ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ الشَّرْطُ عَدَمَ الِانْحِنَاءِ أَصْلًا، بَلْ عَدَمُ الِانْحِنَاءِ الْمُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الرُّكُوعِ مِنَ الْقِيَامِ.وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَحَنَى ظَهْرَهُ ثُمَّ كَبَّرَ: (يُنْظَرُ فِي مَسْبُوقٌ).النُّطْقُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ:
6- يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي النُّطْقُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ عَارِضٌ مِنْ طَرَشٍ أَوْ مَا يَمْنَعُهُ السَّمَاعَ فَيَأْتِي بِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا أَوْ لَا عَارِضَ بِهِ لَسَمِعَهُ.أَمَّا تَكْبِيرُ مَنْ كَانَ بِلِسَانِهِ خَبَلٌ أَوْ خَرَسٌ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَسٌ).
كَوْنُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
7- لَا تَجُوزُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، بِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّكْبِيرُ بِلُغَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ لِلَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِعَدَمِ إِجْزَاءِ مُرَادِفِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِعَرَبِيَّةٍ وَلَا عَجَمِيَّةٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِهَا سَقَطَتْ كَكُلِّ فَرْضٍ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ تَرْجَمَةَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلِغَيْرِهِ، وَقَالَ لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لَوْ كَبَّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا جَازَ بِاتِّفَاقِ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ وَهَذَا يَعْنِي رُجُوعَ الصَّاحِبَيْنِ إِلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَرْجَمَةٌ ف9 ج 11 ص 170) وَأَبْوَابُ الصَّلَاةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَفْظِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي (اللَّهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْظِيمِ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِقَوْلِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِشُرُوطِهَا الَّتِي ذَكَرُوهَا بِالتَّفْصِيلِ فِي كُتُبِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»
وَقَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ» وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ.وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ بِمِثْلِ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَادِرِ كَلِمَةُ التَّكْبِيرِ وَلَا يُجْزِئُ مَا قَرُبَ مِنْهَا كَ: الرَّحْمَنُ أَجَلُّ، وَالرَّبُّ أَعْظَمُ «إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ اسْمَ التَّكْبِيرِ: كَاللَّهُ الْأَكْبَرُ» لَا تَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى التَّكْبِيرِ وَعَلَى زِيَادَةِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّعْظِيمِ وَهُوَ الْإِشْعَارُ بِالتَّخْصِيصِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.وَكَذَا لَا يَضُرُّ عِنْدَهُمُ (اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ) وَكَذَا كُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يَطُلْ بِهَا الْفَصْلُ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لِبَقَاءِ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَخَلَّلَ غَيْرُ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَوْ طَالَتْ صِفَاتُهُ تَعَالَى.
وَيَرَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ أَجَلُّ، اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ مَعَ الصِّفَةِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ، الرَّحِيمُ أَجَلُّ، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لَا يُحْسِنُ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ الذِّكْرَ بِحَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلَا فَصْلٍ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلَاةُ بِلَا فَصْلٍ هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، فَقَدْ شُرِعَ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ.وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ هُوَ التَّعْظِيمُ فَكُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّرُوعُ بِهِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ سُئِلَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إِلاَّ بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ مِنَ التَّكْبِيرِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِالشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ عَلَى (أَكْبَرُ) فِي التَّكْبِيرِ، فَإِنْ نَكَّسَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ فِي التَّكْبِيرِ عَنْ زِيَادَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى.فَمَنْ قَالَ: (آللَّهُ أَكْبَرُ) بِمَدِّ هَمْزَةِ «اللَّهُ» أَوْ بِهَمْزَتَيْنِ أَوْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَارُ لَمْ يَصِحَّ تَكْبِيرُهُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَذَلِكَ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَدِّ عَلَى الْأَلِفِ الَّتِي بَيْنَ اللاَّمِ وَالْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ لَا تَضُرُّ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَدِّ إِشْبَاعٌ لِأَنَّ اللاَّمَ مَمْدُودَةٌ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ زَادَ فِي مَدِّ اللاَّمِ وَلَمْ يَأْتِ بِحَرْفٍ زَائِدٍ.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُبْطِلَاتِ التَّكْبِيرِ زِيَادَةَ وَاوٍ سَاكِنَةٍ أَوْ مُتَحَرِّكَةٍ بَيْنَ كَلِمَتَيِ التَّكْبِيرِ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ زِيَادَةَ وَاوٍ قَبْلَ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ قَلْبُ الْهَمْزَةِ وَاوًا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَامُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِبُطْلَانِ الْإِحْرَامِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ إِشْبَاعِ الْهَاءِ مِنَ (اللَّهُ) وَزِيَادَةِ وَاوٍ مَعَ هَمْزَةِ «أَكْبَرُ».
أَمَّا مُجَرَّدُ إِشْبَاعِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لُغَةً إِلاَّ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، بِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا أَنَّ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مُبْطِلَاتِ الْإِحْرَامِ.
أَمَّا تَشْدِيدُ الرَّاءِ مِنْ (أَكْبَرُ) فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَامُ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ الرَّمْلِيُّ وَابْنُ الْعِمَادِ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفُ تَكْرِيرٍ وَزِيَادَتُهُ لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى.
هَذَا وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَةَ الطَّوِيلَةَ بَيْنَ (اللَّهُ) (وَأَكْبَرُ) مُبْطِلَةٌ لِلْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا الْوَقْفَةُ الْيَسِيرَةُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِحْرَامُ.
وَيَبْقَى التَّنْوِيهُ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا شُرُوطًا كَثِيرَةً لِصِحَّةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُعْظَمَ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هِيَ نَفْسُهَا شُرُوطٌ لِلصَّلَاةِ كَدُخُولِ الْوَقْتِ وَاعْتِقَادِ دُخُولِهِ وَالطُّهْرِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَتَعْيِينِ الْفَرْضِ فِي ابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ وَنِيَّةِ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ مَعَ نِيَّةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ لِلْمُقْتَدِي.
وَنَظَرًا لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تُذْكَرُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ، وَنِيَّةٌ، وَاقْتِدَاءٌ) فَقَدِ اكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ، فَمَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فَلْيُرَاجِعْ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ وَأَبْوَابَ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (تيمم 1)
تَيَمُّمٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ.
يُقَالُ: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ وَمِثْلُهُ: تَأَمَّمَهُ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عَنْ صَعِيدٍ مُطَهَّرٍ، وَالْقَصْدُ شَرْطٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ النِّيَّةُ، فَهُوَ قَصْدُ صَعِيدٍ مُطَهِّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، أَوْ بَدَلًا عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمَا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ:
2- يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِشَرْطِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمِنَ الْكِتَابِ: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.
وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» أَيْ: لَهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأُمَّتِهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ.
3- وَسَبَبُ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هُوَ «مَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَالْمُسَمَّاةِ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ لَمَّا أَضَلَّتْ عِقْدَهَا.فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- عَلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْن حُضَيْرٍ- رضي الله عنه- فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا أَكْثَر بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ».
اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالتَّيَمُّمِ:
4- التَّيَمُّمُ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي.نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».
وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِصْدَاقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.
التَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ عَزِيمَةٌ.وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: إِنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ رُخْصَةٌ، وَقَالَ التَّادَلِيُّ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ، رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْوَاجِدِ الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّ وَجْهَ التَّرْخِيصِ هُوَ فِي أَدَاةِ التَّطْهِيرِ إِذِ اكْتَفَى بِالصَّعِيدِ الَّذِي هُوَ مُلَوَّثٌ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى شَطْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ: مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنْ قُلْنَا رُخْصَةٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ.
شُرُوطُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ:
6- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:
أ- الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
ب- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ.
ج- وُجُودُ الْحَدَثِ النَّاقِضِ.أَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ.
أَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ.فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُوَسَّعًا فِي أَوَّلِهِ وَمُضَيَّقًا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ.
هَذَا وَلِلتَّيَمُّمِ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا وَهِيَ:
أ- الْإِسْلَامُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلنِّيَّةِ.
ب- انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
ج- الْعَقْلُ.
د- وُجُودُ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ.
فَإِنَّ فَاقِدَ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا فَقَطْ، كَالْأَرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ جَفَّتْ، فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكُونُ مُطَهَّرَةً فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا.
ثُمَّ إِنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَوُجُودَ الْحَدَثِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ، وَانْقِطَاعَ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ) لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْهُمَا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ.
أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:
7- لِلتَّيَمُّمِ أَرْكَانٌ أَوْ فَرَائِضُ، وَالرُّكْنُ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالُوا: لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَانِ هُمَا: الضَّرْبَتَانِ، وَاسْتِيعَابُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ أَمْ شَرْطٌ؟
أ- النِّيَّةُ:
8- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ مَسْحِ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ.
مَا يَنْوِيهِ بِالتَّيَمُّمِ:
9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا نِيَّةَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوْ نِيَّةَ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ، أَوْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ.
وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ.فَإِنْ نَوَى التَّيَمُّمَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ الْقَائِمِ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِهَذَا التَّيَمُّمِ، كَمَا إِذَا نَوَى مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَصْلًا كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، كَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً مَقْصُودَةً تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالتَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِلسَّلَامِ، أَوْ رَدِّهِ مِنَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر، فَإِنْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ صَحَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ، وَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لَهُ كَالْوُضُوءِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ النِّيَّةِ: الْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْعِلْمُ بِمَا يَنْوِيهِ؛ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْمَنْوِيِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَنْوِي بِالتَّيَمُّمِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَوْ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ، مُلَاحَظَةُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ تَيَمُّمَهُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَمَّا إِذَا نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَيُجْزِيهِ عَنِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ، وَلَا يُصَلَّى فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَلَا صَلَاةَ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَى طَهَارَةٍ.كَطَوَافٍ، وَحَمْلِ مُصْحَفٍ، وَسُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ فَبَانَ أَكْبَرُ أَوْ عَكْسَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ لِتَلَاعُبِهِ.فَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ وَنَسِيَ، وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا، وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا، أَعَادَ صَلَاةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ.
وَلَا تَكْفِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، أَوِ الْأَكْبَرِ، أَوِ الطَّهَارَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُهُ لِبُطْلَانِهِ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهِ؛ «وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَشَمِلَ كَلَامَهُ (النَّوَوِيَّ) مَا لَوْ كَانَ مَعَ التَّيَمُّمِ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرْفَعُهُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطُّهْرِ، أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ، أَوِ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ لَمْ يَكْفِ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، Bفَلَا يُجْعَلُ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَكْفِي كَالْوُضُوءِ.
وَيَجِبُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِنَقْلِ الصَّعِيدِ الْحَاصِلِ بِالضَّرْبِ إِلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَرْكَانِ، وَكَذَا يَجِبُ اسْتِدَامَتُهَا إِلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.فَلَوْ زَالَتِ النِّيَّةُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ.
وَيَنْوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يُبَاحُ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِمَا تَيَمَّمَ لَهُ كَصَلَاةٍ، أَوْ طَوَافٍ، أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَر أَوْ أَكْبَر أَوْ نَجَاسَةٍ عَلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَإِنَّمَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ تَقْوِيَةً لِضَعْفِهِ.
وَصِفَةُ التَّعْيِينِ: أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا مِنَ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مِنَ الْحَدَثِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ جُنُبًا مُحْدِثًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَإِنْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لَمْ يُجِزْهُ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فَلَمْ تُؤَدَّ إِحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى.وَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِنِيَّةِ رَفْعِ حَدَثٍ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك».
نِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ:
10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا صَلَّى بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَيَأْتِي بِأَيِّ فَرْضٍ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا جَازَ لَهُ فِعْلُ فَرْضٍ وَاحِدٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ مِثْلَهُ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ أَخَفُّ، وَنِيَّةُ الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُهُ.
أَمَّا إِذَا نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ كَأَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِلَا تَعْيِينِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَمْ يُصَلِّ إِلاَّ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّفَلُ تَابِعٌ فَلَا يُجْعَلُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَكَمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ نَفْلًا.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَالَ نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ أَبَدًا.
وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نِيَّةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إِذَا نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، لَكِنْ لَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَلَا تُنْدَبُ نِيَّةُ الْأَصْغَرِ وَلَا الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تُجْزِئُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وَإِذَا تَيَمَّمَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ سَوَاءٌ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ الْفَرْضَ أَوِ النَّفَلَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.
ب- مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَمَسْحَ الْيَدَيْنِ فَرْضٌ آخَرُ.لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ هُوَ الضَّرْبَةُ الْأُولَى، وَالْفَرْضَ الثَّانِيَ هُوَ تَعْمِيمُ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْيَدَيْنِ هُوَ مَسْحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ كَالْوُضُوءِ.لِقِيَامِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ فَيُحْمَلُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَمِنَ الْكُوعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ».
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ.فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ».
ثُمَّ إِنَّ الْمَفْرُوضَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَةَ الْأُولَى فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ.وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا هُوَ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ مُجْمَلَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَحَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تُصَرِّحُ بِالضَّرْبَتَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ».وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَيَمَّمَ Bبِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِالْأُخْرَى ذِرَاعَيْهِ».
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِزَالَةِ الْحَائِلِ عَنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ كَنَزْعِ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لَيْسَ لَهُ سَرَيَانُ الْمَاءِ وَسَيَلَانُهُ.وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الْأُولَى، وَيَجِبُ النَّزْعُ عِنْدَ الْمَسْحِ لَا عِنْدَ نَقْلِ التُّرَابِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوِ الْأَصَابِعِ كَيْ يَتِمَّ الْمَسْحُ.
وَالتَّخْلِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْدُوبٌ احْتِيَاطًا.وَأَمَّا إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.
ج- التَّرْتِيبُ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ الْمَسْحُ، وَإِيصَالُ التُّرَابِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَسْحُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ كَالْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ حَدَثٍ أَكْبَر، أَمَّا التَّيَمُّمُ لِحَدَثٍ أَكْبَر وَنَجَاسَةٍ بِبَدَنٍ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَرْتِيبٌ.
د- الْمُوَالَاةُ:
13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا تُسَنُّ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَرْضٌ، وَأَمَّا عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَهِيَ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْحَنَابِلَةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ مَا يُفْعَلُ لَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَنَحْوِهَا.
الْأَعْذَارُ الَّتِي يُشْرَعُ بِسَبَبِهَا التَّيَمُّمُ:
14- الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ، إِمَّا لِفَقْدِ الْمَاءِ وَإِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ:
أَوَّلًا: فَقْدُ الْمَاءِ:
أ- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ:
15- إِذَا فَقَدَ الْمُسَافِرُ الْمَاءَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ أَصْلًا، أَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِلطَّهَارَةِ حِسًّا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَيَكُونُ فَقْدُ الْمَاءِ شَرْعًا لِلْمُسَافِرِ بِأَنْ خَافَ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَلَا يُكَلَّفُ الْمُسَافِرُ حِينَئِذٍ بِطَلَبِهِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَنْ ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُودِهِ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَارٌّ تَوَهَّمَ وُجُودَهُ) أَنْ يَطْلُبَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ لَا فِيمَا بَعُدَ.
حَدُّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ:
16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِيلٌ وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ.
وَحَدَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِيلَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهُوَ حَدُّ الْغَوْثِ وَهُوَ مِقْدَارُ غَلْوَةٍ (رَمْيَةُ سَهْمٍ)، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ تَوَهُّمِهِ لِلْمَاءِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكِّهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَأَوْجَبُوا طَلَبَ الْمَاءِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ إِنْ ظَنَّ قُرْبَهُ مِنَ الْمَاءِ مَعَ الْأَمْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ فَقْدَ الْمَاءِ حَوْلَهُ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوْلَهُ طَلَبَهُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ (وَهُوَ سِتَّةُ آلَافِ خُطْوَةٍ) وَلَا يَطْلُبُ الْمَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْقُرْبِ أَوِ الْغَوْثِ إِلاَّ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ الْمَاءَ طَلَبَهُ لِأَقَلَّ مِنْ مِيلَيْنِ، وَيَطْلُبُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ عَادَةً.
هَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فِي رَحْلِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ أَوْ قَبُولُ هِبَتِهِ؟
الشِّرَاءُ:
17- يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ الْمَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَكَانَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُ الْمَاءِ تَيَمَّمَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ يَرْجُو الْوَفَاءَ بِبَيْعِ شَيْءٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا بِوُجُوبِ اقْتِرَاضِ الْمَاءِ أَوْ ثَمَنِهِ إِذَا كَانَ يَرْجُو وَفَاءَهُ.
الْهِبَةُ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءُ أَوْ أُعِيرَ دَلْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، أَمَّا لَوْ وُهِبَ ثَمَنَهُ فَلَا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ.
ب- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُقِيمِ:
19- إِذَا فَقَدَ الْمُقِيمُ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فَأَيْنَمَا تَحَقَّقَ جَازَ التَّيَمُّمُ.
وَيُعِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَصِّرُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ إِنْ لَمْ يُعِدْ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ الَّذِي طَلَبَهُ طَلَبًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِتَقْصِيرِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ.أَمَّا خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يُعِيدُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَيَمُّمِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ الْفَاقِدِ لِلْمَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا خَشِيَ فَوَاتَهَا بِطَلَبِ الْمَاءِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ يَتَيَمَّمُ لَهَا وَلَا يَدَعُهَا وَهُوَ أَظْهَر مَدْرَكًا مِنَ الْمَشْهُورِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضُ التَّيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ بِالْمَرَّةِ فَيُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يَدَعُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَتَيَمَّمُ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ لِجِنَازَةٍ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ مِنْ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ.
وَلَا يَتَيَمَّمُ لِنَفْلٍ اسْتِقْلَالًا، وَلَا وِتْرًا إِلاَّ تَبَعًا لِفَرْضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّصِلَ النَّفَلُ بِالْفَرْضِ حَقِيقَةً أَوْ Bحُكْمًا، فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَادِمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِهِ.ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ وَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ.وَقَالَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ، وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِذْ اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُقِيمُ فَقْدَ الْمَاءِ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ؛ لِأَنَّ طَلَبَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ عَبَثٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَجِدْ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَوَهَّمَهُ أَيْ جَوَّزَهُ تَجَوُّزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ، طَلَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.
نِسْيَانُ الْمَاءِ:
20- لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَإِنْ تَذَكَّرَهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَأَعَادَهَا إِجْمَاعًا، أَمَّا إِذَا أَتَمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَقْضِي صَلَاتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ صَلَاتَهُ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يَقْضِي.وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْصِيرُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمَاءِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَصَلَّى عُرْيَانًا، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ نَسِيَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ فِي الرَّحْلِ أَوْ غَيْرِهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ غَيْرَهُ وَبِلَا عِلْمِهِ فَلَا إِعَادَةَ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ وَطَلَبَهُ بِإِمْعَانٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ.
ثَانِيًا: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
21- يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي عِبَادَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ إِلاَّ إِذَا عُدِمَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمَرَضِ، أَوْ خَوْفِ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
أ- الْمَرَضُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوِهِ هَلَاكَهُ، أَوْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْئِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا أَيْ غَيْرَ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ- وَالْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ- خَوْفَ حُدُوثِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ.
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا يَكُونُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيَدُومُ ضَرَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ يَتَيَمَّمُ كَعَادِمِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ مَالٌ لَا يَتَيَمَّمُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
ب- خَوْفُ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْحَضَرِ) لِمَنْ خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ هَلَاكًا، أَوْ حُدُوثَ مَرَضٍ، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، أَوْ مَا يُدْفِئُهُ، سَوَاءٌ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوِ الْأَصْغَرِ؛ لِإِقْرَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- رضي الله عنه- عَلَى تَيَمُّمِهِ خَوْفَ الْبَرْدِ وَصَلَاتِهِ بِالنَّاسِ إِمَامًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ خَاصٌّ بِالْجُنُبِ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ فِي الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ مِنَ الْوُضُوءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْبَرْدِ- عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ- لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ فِي الْأَظْهَرِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ الْمُقِيمُ لِلْبَرْدِ فَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ الْقَطْعُ Bبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ جُمْهُورَ الشَّافِعِيَّةِ قَطَعُوا بِهِ.
ج- الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
23- يَتَيَمَّمُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ كَالْمُكْرَهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَرْبُوطِ بِقُرْبِ الْمَاءِ، وَالْخَائِفِ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوِ إِنْسَانٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ حُكْمًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ».وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْمُكْرَهَ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ.
د- الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ:
24- يَتَيَمَّمُ وَلَا يُعِيدُ مَنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَاءَ الَّذِي مَعَهُ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِنَحْوِ عَطَشِ إِنْسَانٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا- وَلَوْ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ- عَطَشًا مُؤَدِّيًا إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الْأَذَى، وَذَلِكَ صَوْنًا لِلرُّوحِ عَنِ التَّلَفِ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ بَلْ يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ لِعَدَمِ حُرْمَةِ هَؤُلَاءِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَاءِ لِلشُّرْبِ، أَمِ الْعَجْنِ، أَمِ الطَّبْخِ.
وَمِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ لِلْمَاءِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ أَمِ الثَّوْبِ، وَخَصَّهَا الشَّافِعِيَّةُ بِالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الثَّوْبِ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ وَصَلَّى عُرْيَانًا إِنْ لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
التَّيَمُّمُ لِلنَّجَاسَةِ:
25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ لَهَا وَصَلَّى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ».
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ بِلَا تَيَمُّمٍ وَلَا يُعِيدُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (حدود 2)
حُدُودٌ -2مَا يُرَاعَى فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ:
يُرَاعَى فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ أُمُورٌ مِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ:
مَا يُرَاعَى فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا:
الْإِمَامَةُ:
36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ إِلاَّ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ.وَالْإِمَامُ قَادِرٌ عَلَى الْإِقَامَةِ لِشَوْكَتِهِ، وَمَنَعَتِهِ، وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا، كَمَا أَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنِ الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ، فَيُقِيمُهَا عَلَى وَجْهِهِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ بِيَقِينٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ.
أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ:
37- لَوْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْفِسْقِ أَوِ الرِّدَّةِ، أَوِ الْجُنُونِ، أَوِ الْعَمَى، أَوِ الْخَرَسِ، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ يَنْقُصُ النِّصَابُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اعْتِرَاضَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ إِمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ، فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ.ر: (قَذْفٌ).
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ.
شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ:
الْبِدَايَةُ مِنَ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ:
38- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الزِّنَى إِذَا ثَبَتَ بِالشُّهُودِ، فَالْبِدَايَةُ مِنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ حُضُورُهُمْ، وَابْتِدَاؤُهُمْ بِالرَّجْمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَالْبِدَايَةُ مِنَ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ فَكَذَا فِي الرَّجْمِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبِدَايَةَ مِنَ الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الرَّجْمِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ مَاتُوا، أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: يَرْجِمُ الشُّهُودُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ.وَكَلِمَةُ: ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ.وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الزِّنَى زِنَاءَانِ: زِنَى سِرٍّ وَزِنَى عَلَانِيَةٍ؛ فَزِنَى السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَزِنَى الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، فَيَكُونُ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي.
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ، لِأَنَّ الشُّهُودَ إِذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ، رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ، فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ ثَبَتَ الزِّنَى بِالِاعْتِرَافِ، فَالْخِلَافُ فِي حُضُورِ الْإِمَامِ، وَالْبِدَايَةِ مِنْهُ كَالْخِلَافِ فِي حُضُورِ الشُّهُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ.
عَدَمُ خَوْفِ الْهَلَاكِ مِنَ إِقَامَةِ الْجَلْدِ:
39- يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي إِقَامَةِ الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلَاكِ.
لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُدُودِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، وَفِي الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَجَلْدِ الْمَرِيضِ، وَالنُّفَسَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى: زِنًى «وَقَذْفٌ».
الدَّعْوَى فِي الْحُدُودِ وَالشَّهَادَةُ بِهَا:
40- الْحُدُودُ- سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ- لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى لِأَنَّهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهَا حِسْبَةً، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ غَالِبًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحَدِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَدَّعِيَهُ الْمَالِكُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُقْطَعُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْقَطْعِ قَدْ ثَبَتَ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْحُدُودِ سِوَى الْقَذْفِ فَتَجُوزُ بِلَا دَعْوَى مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِشَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَصْحَابِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَلِشَهَادَةِ الْجَارُودِ وَصَاحِبِهِ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهَا دَعْوَى، وَلِأَنَّ الْحَقَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ تَفْتَقِرِ الشَّهَادَةُ بِهِ إِلَى تَقَدُّمِ دَعْوَى كَالْعِبَادَاتِ.وَلِأَنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَذَا لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَيَدَّعِيهِ.
التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ تَجِبُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْفَوْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَالْمَرَضِ وَمَا شَابَهَهُ، وَالْحَمْلِ، وَالسُّكْرِ.
1- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَرِيضِ وَمَنْ شَابَهَهُ:
41- الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ هُوَ أَنَّ الرَّجْمَ لَا يُؤَخَّرُ لِلْمَرَضِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ أُخِّرَ حَتَّى يَبْرَأَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الرَّمْيِ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ تَأْخِيرَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ: يُقَامُ الْحَدُّ وَلَا يُؤَخَّرُ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي النُّفَسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي مَرَضِهِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَخَّرُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ، فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ، إِذْ لَا غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُضْرَبُ ضَرْبًا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ.فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (جَلْدٌ).
2- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى:
42- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ رَجْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى حُبْلَى وَلَوْ مِنْ زِنًى حَتَّى تَضَعَ، لِئَلاَّ يَتَعَدَّى إِلَى الْحَمْلِ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ لَا جَرِيمَةَ مِنْهُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، ثُمَّ إِذَا سَقَتْهُ اللِّبَأَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، أَوْ تَكَفَّلَ أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ، وَإِلاَّ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ لِيَزُولَ عَنْهُ الضَّرَرُ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ بَعْدَمَا فَطَمَتِ الْمَوْلُودَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: «لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، إِلَيَّ رَضَاعُهُ، فَرَجَمَهَا»
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَتُحَدُّ بَعْدَ الْوَضْعِ وَانْقِطَاعِ النِّفَاسِ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ مَعَهُ تَلَفُهَا، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَحْسَنْتَ»
أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ عَلَيْهَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى لِيُسْتَوْفَى الْحَدُّ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوَاتِهِ.
3- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ:
43- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ تُؤَخَّرُ حَتَّى يَصْحُوَ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَهُوَ الزَّجْرُ، وَالرَّدْعُ، لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ أَوْ غَلَبَةَ النَّشْوَةِ وَالطَّرَبِ تُخَفِّفُ الْأَلَمَ.
إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ:
44- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَحْرُمُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسَاجِدِ».
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: {لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ.وَفِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ.
وَلَا خِلَافَ فِي إِقَامَتِهَا فِي الْحَرَمِ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مُوجِبَ الْحَدِّ فِيهِ، أَمَّا مَنِ ارْتَكَبَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى فِيهِ حَدٌّ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» (أَيْ مَكَّةَ).وَقَالُوا: يُقَاطَعُ فَلَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُؤْوَى وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تُسْتَوْفَى الْحُدُودُ فِيهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ، فَلَمَّا نَزَعَ الْمِغْفَرَ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ».
مَا يُرَاعَى عِنْدَ اسْتِيفَاءِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ:
أ- حَدُّ الرَّجْمِ:
يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الرَّجْمِ مَا يَلِي:
45- أَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ فِي مَكَانٍ وَاسِعٍ، لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي رَجْمِهِ، وَلِئَلاَّ يُصِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُحِيطُونَ بِالْمَرْجُومِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَصْطَفُّونَ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ لِرَجْمِهِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَنَحَّوْا وَرَجَمَ آخَرُونَ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ قَدْرَ مَا يُطِيقُ الرَّامِي بِدُونِ تَكَلُّفٍ، لَا بِكَبِيرَةٍ خَشْيَةَ التَّشْوِيهِ أَوِ التَّذْفِيفِ (الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَلَا بِصَغِيرَةٍ خَشْيَةَ التَّعْذِيبِ.
وَيُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِلَى صَدْرِهَا، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، لِكَوْنِهِ أَسْتَرَ لَهَا، وَجَازَ تَرْكُهُ لِسَتْرِهَا بِثِيَابِهَا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُحْفَرُ لَهَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِهِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي.لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا» وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَمْكِينِهَا مِنَ الْهَرَبِ لِكَوْنِ الْحَدِّ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، بِخِلَافِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ لَوْ أَرَادَتِ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ، لِأَنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إِقْرَارِهَا مَقْبُولٌ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَا يُحْفَرُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: يُحْفَرُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ- رضي الله عنه-: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِرَجْمِ مَاعِزٍ خَرَجْنَا بِهِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ وَلَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنْ قَامَ لَنَا».
وَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَهُ، وَدَفْنَ بَعْضِهِ عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ. وَيُنْظَرُ تَفَاصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى) (وَرَجْمٌ).
ب- الْجَلْدُ:
يُرَاعَى فِي اسْتِيفَائِهِ مَا يَلِي:
46- أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ لَا عُقْدَةَ لَهُ، وَيَكُونَ حَجْمُهُ بَيْنَ الْقَضِيبِ وَالْعَصَا، لِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّهُ «كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ، فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ»، وَثَمَرَتُهُ: عُقْدَةُ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ.
وَأَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ يَعْنِي وَسَطًا.وَلِذَلِكَ فَلَا يُبْدِي الضَّارِبُ إِبْطَهُ فِي رَفْعِ يَدِهِ، بِحَيْثُ يَظْهَرُ إِبْطُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الضَّرْبِ.
وَأَنْ يُفَرَّقَ الْجَلْدُ عَلَى بَدَنِهِ خَلَا رَأْسَهُ، وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ، وَصَدْرَهُ، وَبَطْنَهُ، وَمَوْضِعَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ جَمْعَهُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ.
وَلِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ حَظَّهُ، وَلِئَلاَّ يُشَقَّ الْجِلْدُ، أَوْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْقَتْلِ.وَأَيْضًا ضَرْبُ مَا اسْتُثْنِيَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِإِفْسَادِ بَعْضِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ، وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: اضْرِبْ وَأَوْجِعْ، وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ.
وَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ عَلَى الْأَيَّامِ بِأَنْ يُضْرَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِيلَامُ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يُمَدُّ الْمَحْدُودُ وَلَا يُرْبَطُ وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَجْرِيدِهِ:
47- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ ثِيَابُ الرَّجُلِ خَلَا إِزَارِهِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُنْزَعُ ثِيَابُهَا إِلاَّ الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ، لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ، وَلَا قَيْدٌ وَلَا تَجْرِيدٌ، بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ غَيْرُ ثِيَابِ الشِّتَاءِ كَالْقَمِيصِ وَالْقَمِيصَيْنِ، صِيَانَةً لَهُ عَنِ التَّجْرِيدِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْوَةٌ، أَوْ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ نُزِعَتْ، لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يُبَالِ بِالضَّرْبِ.
وَالرَّجُلُ يُضْرَبُ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَالرَّجُلُ قَائِمًا فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ وَهَذَا أَسْتَرُ لَهَا.
48- وَأَشَدُّ الْجَلْدِ فِي الْحُدُودِ جَلْدُ الزِّنَى، فَجَلْدُ الْقَذْفِ، فَجَلْدُ الشُّرْبِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الزِّنَى بِمَزِيدٍ مِنَ التَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وَلِأَنَّ مَا دُونَهُ أَخَفُّ مِنْهُ
عَدَدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي إِيلَامِهِ وَوَجَعِهِ، لِأَنَّ مَا كَانَ أَخَفَّ فِي عَدَدِهِ كَانَ أَخَفَّ فِي صِفَتِهِ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَى أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ: أَمَّا أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ، فَلِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إِلَى الزِّنَى، فَكَانَ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَى.وَأَمَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ فَلِأَنَّ الْجَلْدَ فِي الزِّنَى ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَا نَصَّ فِي الشُّرْبِ، وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا: إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ.ج- الْقَطْعُ:
49- تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ زَنْدِهِ وَهُوَ مَفْصِلُ الرُّسْغِ، وَتُحْسَمُ وَلَا تُقْطَعُ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، لِأَنَّ الْحَدَّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ.
وَيُقْطَعُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُ، فَيُجْلَسُ وَيُضْبَطُ، لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ، وَتُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الْكَفِّ مِنْ مَفْصِلِ الذِّرَاعِ، ثُمَّ يُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادٌّ، وَيُدَقُّ فَوْقَهُمَا بِقُوَّةٍ، لِيُقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.وَإِنْ عُلِمَ قَطْعٌ أَسْرَعُ مِنْ هَذَا قُطِعَ بِهِ.
د- التَّغْرِيبُ:
50- يُغَرَّبُ الزَّانِي الْبِكْرُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ- إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ حَوْلًا كَامِلًا وَفِي تَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ إِجْمَالُهُ فِقْرَةُ (32).
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زِنًى وَتَغْرِيبٌ).
إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ:
51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى لَكِنَّهُ يَشْمَلُ سَائِرَ الْحُدُودِ دَلَالَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ، وَفِيهِ مَنْعُ الْجَلاَّدِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، وَدَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ.
وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّائِفَةِ فِي الْآيَةِ خِلَافٌ قِيلَ: الطَّائِفَةُ أَقَلُّهَا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: خَمْسَةٌ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: نَفَرٌ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَائِلِينَ بِهَا وَأَدِلَّتُهُمْ فِي (زِنًى).
آثَارُ الْحَدِّ:
52- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ إِنْ كَانَ رَجْمًا يُدْفَعُ الْمَرْجُومُ بَعْدَ قَتْلِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَصْنَعُونَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى، فَيُغَسِّلُونَهُ، وَيُكَفِّنُونَهُ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيَدْفِنُونَهُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» وَصَلَّى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَلَى شُرَاحَةَ.
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَدِّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهُ كَالسَّارِقِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي حَدٍّ لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ «مَاعِزٍ: فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- خَيْرًا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ»
وَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنَ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا بِشُرُوطِهَا إِلاَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ وَشَهَادَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (خبرة)
خِبْرَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْخِبْرَةُ فِي اللُّغَةِ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَمَعْرِفَتُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: خَبَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَرَفْتُ حَقِيقَةَ خَبَرِهِ.وَمِثْلُهُ الْخِبْرُ وَالْخُبْرُ، وَالْمَخْبُرَةُ.وَالْمُخْبِرَةُ.وَالْخَبِيرُ بِالشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلُ عَلِيمٍ، وَقَدِيرٍ، وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ ذَوُوهَا
وَاسْتُعْمِلَ فِي مَعْرِفَةِ كُنْهِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وَالْخَبِيرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.هَذَا فِي الْأَصْلِ.وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فِيمَا غَمُضَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَلَطُفَ، وَفِيمَا تَجَلَّى مِنْهُ وَظَهَرَ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ:
أَوَّلًا: الْعِلْمُ:
2- الْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا مَا يَصِيرُ بِهِ الشَّيْءُ مُنْكَشِفًا، وَمِنْهَا الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمِنْهَا الْإِدْرَاكُ، وَمِنْهَا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.
ثَانِيًا: الْمَعْرِفَةُ:
3- أَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخِبْرَةِ، أَنَّ الْخِبْرَةَ الْعِلْمُ بِكُنْهِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَفِيهَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ
ب- التَّجْرِبَةُ:
4- التَّجْرِبَةُ مَصْدَرُ جَرَّبَ، وَمَعْنَاهُ الِاخْتِبَارُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّجْرِبَةُ اسْمٌ لِلِاخْتِبَارِ مَعَ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ التَّجْرِيبِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ الِاخْتِبَارِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْخِبْرَةِ التَّكْرَارُ.
ح- الْبَصَرُ أَوِ الْبَصِيرَةُ:
5- الْبَصِيرَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ وَالْخِبْرَةُ، يُقَالُ: هُوَ ذُو بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، أَيْ ذُو عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ.وَيُعْرَفُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ مِمَّا أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَهُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ الشَّيْءِ.
د- الْقِيَافَةُ:
6- الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ الْأَثَرَ قِيَافَةً إِذَا تَتَبَّعَهُ.وَالْقَائِفُ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ الْآثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ، وَأَبِيهِ، وَالْجَمْعُ الْقَافَةُ.وَتُسْتَعْمَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى.قَالَ فِي الْمُغْنِي: الْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ
هـ- الْحِذْقُ:
7- الْحِذْقُ الْمَهَارَةُ، يُقَالُ: حَذَقَ الصَّبِيُّ الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ يَحْذِقُهُ حِذْقًا وَحَذْقًا إِذَا مَهَرَ فِيهِ، وَحَذِقَ الرَّجُلُ فِي صَنْعَتِهِ أَيْ مَهَرَ فِيهَا، وَعَرَفَ غَوَامِضَهَا وَوَقَائِعَهَا.
فَالْحِذْقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ غَالِبًا، وَهُوَ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَصُّ مِنَ الْخِبْرَةِ
و- الْفِرَاسَةُ:
8- الْفِرَاسَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ هِيَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَمُّلُ لِلشَّيْءِ وَالْبَصَرُ بِهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَفَارِسٌ بِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ.وَفِي الْحَدِيثِ: « اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ».
وَيَقُولُ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْفِرَاسَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تُتَعَلَّمُ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ النَّاسِ.يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: الْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ.
فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبَةٌ لِمَعْنَى الْخِبْرَةِ.
حُكْمُ الْخِبْرَةِ:
9- تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْخِبْرَةِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا تَبَعًا لِمَوْطِنِهَا.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهَا: الْخِبْرَةُ فِي التَّزْكِيَةِ:
10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الشُّهُودِ يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ يُزَكِّيهِمْ عِنْدَهُ لِيَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ، لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ ضَرُورِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَزْكِيَةَ الشَّاهِدِ، التَّزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةُ أَيْضًا.
وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ تَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْقَاضِي مَنْ هُمْ أَوْثَقُ النَّاسِ عِنْدَهُ، وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً، وَأَدْرَاهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيَكْتُبُ لَهُمْ أَسْمَاءَ وَأَوْصَافَ الشُّهُودِ، وَيُكَلِّفُهُمْ تَعَرُّفَ أَحْوَالِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَجِيرَانِهِمْ وَمُؤْتَمَنِي أَهَالِي مَحَلَّتِهِمْ، وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِمْ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُعْتَمَدِي أَهْلِ صَنْعَتِهِمْ (أَيْ نَقِيبِ الْحِرْفَةِ مَثَلًا).فَإِذَا كَتَبُوا تَحْتَ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمْ: (عَدْلٌ، وَمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ) يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِلاَّ فَلَا.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَمَعْرِفَةُ خِبْرَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ، لِخِبْرَةٍ، أَوْ جِوَارٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَشْهَدُ.وَلِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ
هَذَا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَتَحْصُلُ فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ وَالْخَصْمَيْنِ.وَبِمَا أَنَّ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ تُعْتَبَرُ شَهَادَةً، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَزْكِيَةٌ، وَشَهَادَةٌ).
الْخِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ:
11- الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى قَاسِمٍ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ الشُّرَكَاءُ أَنْفُسُهُمْ إِذَا كَانُوا ذَوِي أَهْلِيَّةٍ وَمِلْكٍ وَوِلَايَةٍ، فَيَقْسِمُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ غَيْرُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ أَوْ يُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاسِمِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، لِيُوصِلَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِالْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْقَاسِمِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشُّرَكَاءُ، وَالَّذِي نَصَّبَهُ الْإِمَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ.
وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مُتَعَدِّدًا، فَيَكْفِيَ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا وَاحِدًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَخِبْرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْخَبَرُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ لِلسِّلْعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ قَاسِمَانِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِيمَا خَصَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ خَفِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ إِمْسَاكِ النَّصِيبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ النَّصِيبَانِ قَائِمَيْنِ رَجَعَا شَائِعَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ.وَإِنْ فَاتَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِنَحْوِ صَدَقَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، أَوْ هَدْمٍ، رَدَّ آخِذُهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ، وَكَانَ النَّصِيبُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فَاتَا تَقَاصَّا.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قِسْمَةٌ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ).
الْخِبْرَةُ فِي الْخَارِصِ:
12- الْخَرْصُ: الْحَزْرُ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّيْءِ (مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ) لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهِ.فَإِذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَحَلَّ بَيْعُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ مَنْ يَخْرُصُهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَرْصِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَرِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ عَدْلًا عَارِفًا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فَيُعْمَلُ بِتَخْرِيصِ الْأَعْرَفِ مِنْهُمْ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا ثَبَتَ « أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حَتَّى يَطِيبَ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ ».
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « نَهَى عَنِ الْخَرْصِ ».وَقَالُوا: إِنَّ الْخَرْصَ الْوَارِدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ مَا فِي نَخْلِهِمْ، ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَقْتَ الصِّرَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِيهَا.وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلاَّ يَخُونُوا لَا لِيَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ. (ر: خَرْصٌ).
خِبْرَةُ الْقَائِفِ:
13- الْقَائِفُ مَنْ يَعْرِفُ الْآثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ.وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إِذَا كَانَ خَبِيرًا مُجَرَّبًا، وَلَمْ تُوجَدْ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الطِّفْلِ بَيِّنَةٌ، أَوْ تَسَاوَتْ بَيِّنَةُ الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: « دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ».
وَيَكْفِي قَائِفٌ وَاحِدٌ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: « لَا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ » وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ لَهُ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ فِيهِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي كُلٍّ فَهُوَ مُجَرَّبٌ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ).
الْخِبْرَةُ فِي التَّقْوِيمِ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَهْلِ الصَّنْعَةِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، وَقِيَمِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ الْمَأْجُورَةِ لِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوِ الْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.قَالَ فِي الدُّرِّ: لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ الْقَاضِي إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ، أَيْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ.وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا ذُكِرَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ أَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْخَالَيْنِ عَنِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ سَالِمًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا كَانَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
وَيَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِ التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَلْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَوْ لَا؟ فَهَاهُنَا لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.
لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ.فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقَوِّمِ الْوَاحِدِ لِأَرْشِ الْجِنَايَاتِ.
وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: الْمُقَوِّمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْوِيمِهِ قَطْعٌ، أَوْ غُرْمٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَإِلاَّ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ.وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ.
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَنَقْصِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَتَقْوِيمُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الصَّنْعَةِ.لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّقْوِيمَ لَا يَكُونُ بِالْوَاحِدِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا مِنَ الضَّمَانِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.
الْخِبْرَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ:
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَدِيمٌ لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.
وَمَعَ تَفْصِيلِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِي وَضْعِ ضَابِطٍ لِلْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ: (الْعَيْبُ هُوَ مَا يُنْقِصُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ.وَنُقْصَانُ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ).وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَحْوُهُ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْقَوْلُ فِي نَفْيِ الْعَيْبِ أَوْ نَفْيِ قِدَمِهِ لِلْبَائِعِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُشْتَرِي.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّخَّاسِينَ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الْحَيَوَانَاتِ.
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ الطَّرَفَانِ فِي الْمَوْجُودِ هَلْ هُوَ عَيْبٌ أَوْ لَا؟ أَوِ اخْتَلَفَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، رُجِعَ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: هُوَ عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِلاَّ فَلَا.يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِيَارُ الْعَيْبِ).
خِبْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْأَطِبَّاءِ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَحْدِيدِ أَسْمَائِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، وَالدَّامِيَةِ، وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْبَيَاطِرَةِ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ النُّصُوصِ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَجَالِ:
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُولِ الْجُرْحِ، وَعُمْقِهِ، وَعَرْضِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا اخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ هَلْ هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لَا، أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْأَطِبَّاءُ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَطِبَّاءُ أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، يُؤْخَذُ بِقَوْلِ طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ إِذَا وُجِدَا، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا (ر: شَهَادَةٌ، شِجَاجٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ).
عَدَدُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ:
17- الْأَصْلُ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ فِيهِ اثْنَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ.وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُيُوبِ، وَمِنْهُمُ الطَّبِيبُ وَالْبَيْطَارُ، وَالْخَارِصُ، وَالْقَائِفُ، وَالْقَسَّامُ، وَقَائِسُ الشِّجَاجِ وَنَحْوُهُمْ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْقِيمَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَلْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَمْ لَا؟ فَهَاهُنَا لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.وَقَالَ نَقْلًا عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ.
وَقَالَ: وَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.
وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي قَائِسِ الْجِرَاحِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.
وَجَاءَ فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: مَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ- فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِ الْبَصَرِ إِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلًا يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي الْخُصُومَةِ.وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ فِي النَّسَبِ، وَالتَّاجِرِ الْوَاحِدِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ.
وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: الْقَاسِمُ الْوَاحِدُ يَكْفِي؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ كَالْقَائِفِ، وَالْمُفْتِي، وَالطَّبِيبِ وَلَوْ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَهُ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ.
وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ).
اخْتِلَافُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ:
18- إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي التَّقْوِيمِ، أَوِ الْخَرْصِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ آرَاءٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ مِنْهَا:
أ- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ، أَوْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَالَ الْآخَرُونَ لَا، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُلِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اخْتِلَافِ شُهُودِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي تَعَيُّبِ السِّلْعَةِ وَقِدَمِ الْعَيْبِ فِيهَا رَأْيَانِ: الْأَخْذُ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْمُبْتَاعِ.
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ نَقْلًا عَنِ الْمُتَيْطِيَّةِ: إِذَا أَثْبَتَ مُبْتَاعُ الدَّارِ تَشَقُّقَ الْحِيطَانِ، وَتَعَيُّبَهَا، وَأَنَّهَا مُتَهَيِّئَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ لَا مِنْ دَاخِلِهَا، وَشَهِدَ لِلْبَائِعِ شُهُودٌ أَنَّ الدَّارَ سَالِمَةٌ مِمَّا ادَّعَى الْمُبْتَاعُ، مَأْمُونَةُ السُّقُوطِ لِاعْتِدَالِ حِيطَانِهَا وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْمَيْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّهَدُّمِ، وَأَنَّ التَّشَقُّقَ لَا يَضُرُّهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ: يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِمَّنْ لَهُ بَصَرٌ بِعُيُوبِ الدُّورِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: بَيِّنَةُ الْمُبْتَاعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ إِذَا قُبِلَتْ أَعْمَلُ مِنَ الَّتِي تَنْفِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ.فَلَوْ فُقِدَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَوِ اخْتَلَفُوا، صُدِّقَ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَالشَّكِّ فِي مُسْقِطِ الرَّدِّ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الْإِجَارَاتِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ).
ب- إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ لِلسَّرِقَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي سَمَاعِ عِيسَى: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلَانِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَنْ خَالَفَهُمَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ مَالِكٍ: إِنْ دُعِيَ أَرْبَعَةٌ فَاجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى قِيمَةٍ قَالَ: يَنْظُرُ الْقَاضِي إِلَى أَقْرَبِ التَّقْوِيمِ إِلَى السَّدَادِ، بِأَنْ يَسْأَلَ مَنْ سِوَاهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ السَّدَادُ مِنْ ذَلِكَ.
ج- إِنِ اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فِي قَدْرِ التَّمْرِ الَّذِي خَرَصُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِتَخْرِيصِ الْأَعْرَفِ مِنْهُمْ، وَيُلْغَى تَخْرِيصُ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَفُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ جُزْءٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ. (ر: خَرْصٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (دعوى 2)
دَعْوَى -222- ثَالِثًا: الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى غَيْرُ الصَّحِيحَةِ
أَصْلًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، لِأَنَّ إِصْلَاحَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ.وَتَعُودُ أَسْبَابُ الْبُطْلَانِ فِي الدَّعَاوَى إِلَى فَقْدِ أَحَدِ الشُّرُوطِ الْأَسَاسِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا.وَمِنْ أَمْثِلَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الدَّعْوَى الَّتِي يَرْفَعُهَا الشَّخْصُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي رَفْعِهَا صِفَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ فُضُولِيًّا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً.وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالدَّعْوَى الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إِلَى حَقٍّ وَلَوْ فِي الظَّاهِرِ، كَمَنْ يَطْلُبُ فِي دَعْوَاهُ الْحُكْمَ عَلَى آخَرَ بِوُجُوبِ إِقْرَاضِهِ مَالًا لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَدَعْوَى مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، كَدَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِثَمَنِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ.وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ عَامٌّ عِنْدَهُمْ يَدْخُلُ تَحْتَهُ جَمِيعُ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلَّةِ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا الْأَسَاسِيَّةِ، وَقَدْ صَنَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِنْفَيْنِ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِامْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَجُعِلَ هَذَا الصِّنْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: دَعْوَى مَا لَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دَعْوَى مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ، وَلَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسَّمَادِ النَّجِسِ، فَهَذِهِ تُقَرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ، لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَبِالسِّمَادِ فِي الزُّرُوعِ وَالشَّجَرِ، فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ وَلَا قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى، كَأَنْ يَدَّعِيَهَا بِالِابْتِيَاعِ، كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا، فَتَكُونَ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ، وَيَكُونَ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ.أَمَّا إِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَقَدْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: دَعْوَى غَصْبِهَا، وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَدَعْوَى هِبَتِهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: دَعْوَى مَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ مِلْكًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، وَهَذَا كَالْوَقْفِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ، لِاسْتِحَالَةِ انْتِقَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ.
23- الدَّعَاوَى الْمَمْنُوعُ سَمَاعُهَا: وَهَذِهِ الدَّعَاوَى صَحِيحَةٌ فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْقُضَاةُ مِنْ سَمَاعِهَا، لِاقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَدَعْوَى مَا تَقَادَمَ زَمَانُهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: (الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ، حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا لَمْ يَنْفُذْ) قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ يَأْمُرُونَ قُضَاتَهُمْ فِي جَمِيعِ وِلَايَاتِهِمْ أَنْ لَا يَسْمَعُوا دَعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سِوَى الْوَقْفِ وَالْإِرْثِ، وَنَقَلَ فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِهَا بَعْدَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ هَلْ يَبْقَى النَّهْيُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ الَّذِي نَهَى بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى نَهْيٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلَا يَسْتَمِرُّ...).
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَيَكُونُ الْقَاضِي مَعْزُولًا عَنْ سَمَاعِهَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ، فَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِسَمَاعِهَا بِالرَّغْمِ مِنْ مُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُسْمَعُ، وَالْغَرَضُ مِنَ النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ، وَعَدَمُ سَمَاعِ الْقَاضِي لَهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ تُسْمَعُ، إِذْ لَا تَزْوِيرَ مَعَ الْإِقْرَارِ.
وَعَدَمُ سَمَاعِهَا لَا يَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ، فَلَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي أَثْنَائِهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ ثَانِيَةً، مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدَّعْوَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَشَرْطُ الدَّعْوَى الْقَاطِعَةِ لِلْمُدَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا تَرَكَ دَعْوَاهُ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَدَّعِ عِنْدَ الْقَاضِي، بَلْ طَالَبَ خَصْمَهُ بِحَقِّهِ مِرَارًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُ.وَتَرْكُ الدَّعْوَى إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّ طَلَبِهَا، فَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَثَلًا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَلَهَا طَلَبُ مُؤَخَّرِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ حَقَّ طَلَبِهِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ، لَا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مُدَّةَ التَّقَادُمِ لِإِعْسَارِ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ ثَبَتَ يَسَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ الْيَسَارِ.
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى:
24- الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَعُودُ فِي مُجْمَلِهَا إِمَّا إِلَى حِفْظِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَإِمَّا إِلَى حِفْظِ الْفَرْدِ الْإِنْسَانِيِّ وَمَا يَتَّبِعُهُ مِنْ حِفْظِ عِرْضِهِ وَعَقْلِهِ وَدِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ شُرِعَتِ الدَّعَاوَى مِنْ أَجْلِ حِمَايَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، فَتَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
25- أَوَّلًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَقَعَ مِنْ شَخْصٍ وَيُوجِبُ عُقُوبَتَهُ، كَالْقَتْلِ، أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِهَا.فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَقْسِيمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ هُمَا: دَعَاوَى التُّهْمَةِ، وَدَعَاوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَظْهَرُ فِي الْإِجْرَاءَاتِ وَطُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْمُتَّبَعَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ:
1- فَإِنَّ بَعْضَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الشُّهُودِ يَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ الْمَطْلُوبِ فِي الدَّعَاوَى الْأُخْرَى.وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
2- ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَجَازُوا فِي حَقِّ الْمُتَّهَمِ فِي دَعَاوَى التُّهْمَةِ أَسَالِيبَ مِنَ الْإِجْرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا فِي الدَّعَاوَى الْأُخْرَى، وَذَلِكَ كَحَبْسِ الْمُتَّهَمِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْحَقُهُمُ التُّهْمَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ.
26- ثَانِيًا: الْمُدَّعَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا شَرْعِيًّا مَحْضًا.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الدَّعَاوَى إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: دَعَاوَى الْعَيْنِ: وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ مَحَلُّهَا عَيْنًا مِنَ الْأَعْيَانِ، وَالْعَيْنُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَقَارًا فَتُسَمَّى بِدَعْوَى الْعَقَارِ، أَوْ تَكُونَ مَنْقُولًا فَتُسَمَّى دَعْوَى الْمَنْقُولِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: دَعَاوَى الدَّيْنِ: وَهِيَ مَا يَكُونُ مَحَلُّهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدَ قَرْضٍ، أَمْ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ ضَمَانًا لِشَيْءٍ أَتْلَفَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: دَعَاوَى الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُقْصَدُ بِهَا الدَّعَاوَى الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْحُقُوقُ الْأُخْرَى الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ الْأَعْيَانِ وَلَا زُمْرَةِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَ لَهَا خَصَائِصُهَا مِنْ قَابِلِيَّةِ الِانْتِقَالِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُقُوقِ الْعَائِلِيَّةِ مِنْ نَسَبٍ وَنِكَاحٍ وَحَضَانَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَمِنْهَا دَعَاوَى الشُّفْعَةِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ لِأَنْوَاعِ الدَّعَاوَى أَمْرَانِ هُمَا:
1- مَعْرِفَةُ الْخَصْمِ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ- سَيَأْتِي ذِكْرُهَا- لَتَعْيِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ نَوْعٍ قَاعِدَةً خَاصَّةً، لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الْخَصْمُ فِي الدَّعْوَى.
2- مَعْرِفَةُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى فِي كُلِّ نَوْعٍ، فَجَعَلُوا لِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّعَى فِي دَعَاوَى الدَّيْنِ قَاعِدَةً عَامَّةً، وَكَذَلِكَ لِدَعَاوَى الْعَيْنِ، وَدَعَاوَى الْحُقُوقِ الْمَحْضَةِ.وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُرِيدُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هِيَ. 27- ثَالِثًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ حَقًّا أَصْلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ يَدًا وَتَصَرُّفًا، وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَنْقَسِمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ: دَعَاوَى الْحَقِّ، وَدَعَاوَى الْحِيَازَةِ أَوْ دَعَاوَى وَضْعِ الْيَدِ، وَفِي الْأُولَى يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُطْلَبُ فِي الثَّانِي الْحُكْمُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ مَحَلِّ الدَّعْوَى.
وَالْحِيَازَةُ مَصْلَحَةٌ يَرْعَاهَا الشَّارِعُ وَيَحْمِيهَا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ارْتِكَازُهَا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، فَلَا يُعْتَرَفُ بِهَا عِنْدَئِذٍ وَإِنْ طَالَتْ.وَلِذَلِكَ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْيَدَ أَوِ (الْحِيَازَةَ) حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلْإِنْسَانِ، فَيَصِحُّ أَنْ تُطْلَبَ بِالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَطُلِبَ الْحُكْمُ بِهَا أَمْ طُلِبَتْ إِعَادَتُهَا لِمَنْ سُلِبَتْ مِنْهُ، أَمْ طُلِبَ دَفْعُ التَّعَرُّضِ لَهَا أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ.وَمِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي شُرِعَتْ لِهَذَا الْغَرَضِ:
28- أ- دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ: وَالتَّعَرُّضُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنْ يُحَاوِلَ غَيْرُ ذِي حَقٍّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَا هُوَ لِغَيْرِهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَيَرْفَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ دَعْوَى يَطْلُبُ بِهَا مَنْعَ تَعَرُّضِهِ لَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّعَرُّضَ هُوَ كُلُّ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُدَّعَى: إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ إِلَى مِلْكِهِ.أَوْ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ بِمُلَازَمَتِهِ عَلَيْهِ وَقَطْعِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ.
وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الدَّعْوَى مَهْمَا كَانَ مَحَلُّهَا عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا، بَلْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا لِدَفْعِ تَعَرُّضٍ مُوَجَّهٍ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، كَأَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنٍ يَدَّعِيهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَتَضَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ، كَأَنْ يُلَازِمَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُشَنِّعَ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ لَا تَضُرُّهُ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ مِنْهُ.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ دَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِنْسَانٍ غَيْرَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بِدُونِ أَنْ يُعَارِضَهُ فِي شَيْءٍ يَضُرُّهُ، وَيَقُولُ لِلْقَاضِي: بَلَغَنِي أَنَّ فُلَانًا يُرِيدُ مُنَازَعَتِي وَمُخَاصَمَتِي، وَأُرِيدُ قَطْعَ النِّزَاعِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَطْلُبُ إِحْضَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ فَلْيُبَيِّنْهُ أَمَامَكَ بِالْحُجَّةِ، وَإِلاَّ فَلْيَعْتَرِفْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَدَّعِيهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ.
29- ب- دَعْوَى اسْتِرْدَادِ الْحِيَازَةِ: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِعَادَةَ حِيَازَتِهِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ بِالْقَهْرِ أَوِ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِدَاعِ، فَلِمَالِكِ الْعَيْنِ أَوْ مُسْتَعِيرِهَا أَوْ مُسْتَأْجِرِهَا أَوْ مُرْتَهِنِهَا أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى لِاسْتِرْدَادِ مَا سُلِبَ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَالِبُ الْحِيَازَةِ مُحِقًّا فِيمَا فَعَلَ فَيُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ وَحِيَازَتِهِ.
شُرُوطُ الدَّعْوَى:
30- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى جُمْلَةُ شُرُوطٍ بَعْضُهَا فِي الْقَوْلِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ لِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعَى بِهِ، وَبَعْضُهَا فِي رُكْنِ الدَّعْوَى.
أَوَّلًا: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي وَيَطْلُبُ بِهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عِدَّةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ:
31- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا تَكُونَ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِأَمْرٍ سَبَقَ صُدُورُهُ عَنِ الْمُدَّعِي.
وَالتَّنَاقُضُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَسْبِقَ مِنَ الْمُدَّعِي مَا يُعَارِضُ دَعْوَاهُ بِحَيْثُ بِهِ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّابِقِ وَاللاَّحِقِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلَا تُقْبَلُ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ، إِذِ الْوَقْفُ لَا يَصِيرُ مِلْكًا.
وَالتَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى قَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ شِرَاءَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتَهُ مِنْهُ، أَوْ إِيدَاعَهُ عِنْدَهُ أَوْ إِجَارَتَهُ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ هَذَا الشَّيْءِ، وَكَمَا لَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً يُرِيدُ نِكَاحَهَا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُهَا.وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَفْعٍ مِنَ الدُّفُوعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا، كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ وَدِيعَةً، فَأَنْكَرَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيدَاعِ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّهَا أَوْ هَلَاكِهَا، فَلَا يُقْبَلُ دَفْعُهُ، لِتَنَاقُضِهِ مَعَ إِنْكَارِهِ السَّابِقِ.
وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ وَأَشْبَاهَهَا أَنَّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ الْإِسْقَاطِ، لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
32- أ- أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ (وَهُمَا الدَّعْوَى وَمَا صَدَرَ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) صَادِرَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُدَّعِي، أَوْ عَنْ شَخْصَيْنِ هُمَا فِي حُكْمِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ، وَالْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ.فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ ادَّعَى عَيْنًا لِمُوَكِّلِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُوَكِّلُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِغَيْرِهِ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْوَكِيلِ لِمُنَاقَضَتِهَا لِإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ.
33- ب- أَنْ لَا يَقَعَ مِنَ الْمُدَّعِي تَوْفِيقٌ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَمَا صَدَرَ عَنْهُ مِمَّا يُنَاقِضُهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ).
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِثْلُ رَأْيِ الْجُمْهُورِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُدَّعِي بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّنَاقُضِ، وَسَوَاءٌ أَوَقَعَ فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، أَمْ وَقَعَ فِي الدَّفْعِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيِّنًا أَمْ مُبْهَمًا.
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا دَفَعَ الْخَصْمُ بِتَنَاقُضِ خَصْمِهِ فِي دَعْوَاهُ اكْتُفِيَ لِرَدِّ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَاضِي إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ سُؤَالُ الْمُتَنَاقِضِ- ظَاهِرًا- أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا.
فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى دَارًا بِهِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا إِرْثًا مِنْهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدِ ابْتَاعَ الدَّارَ مِنْ أَبِيهِ، فَعَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ وَرِثَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.غَيْرَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَوَّلًا انْتِقَالَ الدَّارِ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بِالشِّرَاءِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ الْأُخْرَى، لِلتَّنَاقُضِ وَتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي كَلَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَيْ: فِي دَفْعِهِ لِلدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ).أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي اعْتِبَارِهِ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ وُقُوعِ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ.وَيُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا، إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِالتَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ بَيْنَ أَقْوَالِهِ الْمُتَنَاقِضَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ لِاعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لِنَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، وَكَانَ التَّوْفِيقُ خَفِيًّا، وَإِلاَّ فَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى لِغَيْرِهِ عَيْنًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ تَأْرِيخِ الدَّعْوَى السَّابِقَةِ، فَإِنْ وَفَّقَ بِهَذَا فِعْلًا، وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ وَسُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْأُولَى إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَنَفْيٌ لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَدَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِيجَابُ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَتَنَاقَضَ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ وَخَفَاءِ التَّوْفِيقِ.
بِخِلَافِ مَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالِ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ لَهُ فِي مَكَانِ كَذَا، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ دَفَعَ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ الدَّيْنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ الْأَوَّلِ، فَيُقْبَلُ دَفْعُهُ الثَّانِي، لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ يَكُونَ أَدَّاهُ مَرَّتَيْنِ لِقَطْعِ مُطَالَبَتِهِ.
34- ج- وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ لَا يَكُونَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ قَدْ كُذِّبَ شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ، فَأَنْكَرَ الْكَفَالَةَ، وَبَرْهَنَ الدَّائِنُ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ مَدْيُونِهِ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاضِي، وَأَخَذَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْهُ الْمَالَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَفِيلَ ادَّعَى عَلَى الْمَدْيُونِ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَبَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ، قُبِلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ إِنْكَارِ الْكَفَالَةِ عِنْدَمَا ادَّعَاهَا عَلَيْهِ الدَّائِنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْكَارَهُ السَّابِقَ بَطَلَ أَثَرُهُ بِتَكْذِيبِ الْحَاكِمِ لَهُ.
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِي الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَخْفَى أَسْبَابُهَا مِثْلُ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا.
مَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ.
35- يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا: التَّوْفِيقُ الْفِعْلِيُّ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَصْدِيقُ الْخَصْمِ.فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِينَارٍ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، فَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ بِالرَّغْمِ مِنْ تَنَاقُضِهِ.
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ.
فَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (م 1655): «يُعْفَى عَنِ التَّنَاقُضِ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَلَّ خَفَاءٍ».
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ، وَخَلَّفَ حِصَّتَهُ مِنْ دَارٍ، وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمُ الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي حَالِ صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ، وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ، لِأَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَلِّ الْخَفَاءِ فَيَكُونُ عَفْوًا.
وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ أَوِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ النَّسَبَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ، إِذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلَاقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ.وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلَاقِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْخُلْعِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ: إِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَى مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ، ثُمَّ جَاءَ بِشُهُودٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، أَوْ أَقَرَّ الْأَبُ أَنَّهُ مَلَكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ التَّرِكَةَ كُلَّهَا مَوْرُوثَةٌ إِلاَّ هَذِهِ الدَّارَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهَا دُونَ الْوَرَثَةِ وَاعْتَذَرَ بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، بِذَلِكَ بَلْ أَقَرَّ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُقْبَلُ عُذْرُهُ وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ عَادِيٌّ يُسْمَعُ مِثْلُهُ.
وَنُقِلَ عَنْ سَحْنُونَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تُقْبَلُ لِلْمُنَاقَضَةِ.
وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالْقَلْيُوبِيِّ.
وَفِي حَوَاشِي الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَقَرَّ مَدِينٌ لآِخَرَ، ثُمَّ ادَّعَى أَدَاءَهُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ حَالَةَ الْإِقْرَارِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ لِلتَّحْلِيفِ فَقَطْ.فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْأَدَاءِ قُبِلَتْ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ، فَلَا تَنَاقُضَ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ إِبْرَاءَ الْمُدَّعِي لَهُ سَابِقًا عَلَى زَمَنِ إِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَقَالَ: مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَمَا اشْتَرَيْتُ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اقْتَرَضَ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَقَالَ: قَضَيْتُهُ أَوْ أَبْرَأَنِي قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، لِأَنَّ إِنْكَارَ الْحَقِّ يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَضَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ إِلاَّ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ.
36- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِتَعْبِيرَاتٍ جَازِمَةٍ وَقَاطِعَةٍ وَلَا تَرَدُّدَ فِيهَا، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِنَحْوِ: أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ مَبْلَغَ كَذَا، أَوْ أَنَّهُ غَصَبَ مِنِّي دَابَّتِي.
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعَاوَى الِاتِّهَامِ (الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةُ)، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ، فَإِذَا قَالَ: أَتَّهِمُهُ بِسَرِقَةِ دِينَارٍ مَثَلًا، فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، لِأَنَّ دَعَاوَى الِاتِّهَامِ تَرْجِعُ فِي أَسَاسِهَا إِلَى الشَّكِّ وَالظَّنِّ.
37- الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَفِي مُعْظَمِ الْمَذَاهِبِ قَوْلَانِ بِخُصُوصِهِ.الرَّاجِحُ مِنْهُمَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ.وَاشْتَرَطَهُ أَصْحَابُ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَصْحِيحِهِ، بَيْنَمَا صَرَّحَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى مِنْهُمْ بِتَصْحِيحِ خِلَافِهِ.
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِهِ بِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ، وَالْحُكْمُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَالِاسْتِفْتَاءِ، فَإِذَا طَلَبَهُ تَبَيَّنَ غَرَضُهُ، وَبِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، لَا لِإِنْشَائِهَا، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ لَهُ بِحَقِّهِ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ، فَإِنْ نَظَرَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ مَا طُلِبَ لِلْحَقِّ مِنَ الْمُدَّعِي كَانَ مُنْشِئًا لِلْخُصُومَةِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُجْعَلِ الْقَضَاءُ لِأَجْلِهِ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَدَلَائِلَ الْحَالِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَقْصِدُ بِدَعْوَاهُ إِلاَّ الْحُكْمَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَتَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعِي يَقُولُ ذَلِكَ حِكَايَةً بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ مَجَالِسَ الْقَضَاءِ لَمْ تُنْشَأْ لِهَذَا الْغَرَضِ.
38- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِلِسَانِ الْمُدَّعِي عَيْنًا: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَصَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَجُزِ التَّوْكِيلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّعِي عُذْرٌ مَقْبُولٌ، أَوْ يَرْضَى خَصْمُهُ بِالتَّوْكِيلِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ شَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ أَبَى.
39- الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى الْعَيْنِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ الْخَصْمِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعْوَى مَنْعِ التَّعَرُّضِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيهَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُدَّعِي وَيَكُونُ الْعَيْنُ فِي يَدِ هَذَا الْأَخِيرِ.
ثَانِيًا: شُرُوطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ: شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ، وَشَرْطُ الصِّفَةِ.
40- شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ: لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى تَصَرُّفًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فَيُطَالِبُ لَهُ بِحَقِّهِ مُمَثِّلُهُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَشْتَرِطُونَ كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْتَفُونَ بِالْأَهْلِيَّةِ النَّاقِصَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَيُشْتَرَطُ الرُّشْدُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَسْتَثْنُونَ بَعْضَ الْحَالَاتِ وَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
1- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى وَأَنْ يَكُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَى وَالْجَوَابَ عَلَيْهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَلَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ.
2- وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّشْدُ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمَهَا أَوْ نَاقِصَهَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِ.
3- وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمْ بِهِ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ عَلَى السَّفِيهِ.
4- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى السَّفِيهِ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ حَالَ سَفَهِهِ، فَتَصِحُّ عَلَيْهِ دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ.
وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا بِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً لَدَيْهِ وَبِشُرُوطٍ أُخْرَى سَتَأْتِي.وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي يَمِينًا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ «يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ»، وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَا ادَّعَى بِهِ مِمَّنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَبْرَأَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَلِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الدَّعْوَى إِلاَّ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَمُكَلَّفٍ، وَلَا يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَوْلَى لَا يُجِيزُونَ سَمَاعَ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَيِّتِ، حَيْثُ هُمْ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْغَائِبِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 2)
شُفْعَةٌ -2الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ:
أ- الْبَيْعُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ:
22- إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ فَمُقْتَضَى صِيَغِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الشُّفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا شُرُوطًا لِلشُّفْعَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْبَيْعَ بِالْمُزَايَدَةِ.
ب- مَا بِيعَ لِيُجْعَلَ مَسْجِدًا:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ.وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا أَوْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْأَضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إِبْطَالُ حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَيَرْفَعَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ.
الْمَالُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ:
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ.وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ».
وَبِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ: مَسْكَنًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ.
وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعُلُوُّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالدُّورِ الصِّغَارِ.وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مِمَّا لَهُ ثَبَاتٌ وَاتِّصَالٌ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهَا.
25- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبَيِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ ((((«قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وُقُوعَ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفَ الطُّرُقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ ((((قَالَ: «لَا شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ».، وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَهَا عَنْ غَيْرِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُمَا وَهُوَ الْمَنْقُولُ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ جِدًّا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ الشَّرِيكُ إِلَى إِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ، وَتَغْيِيرِ الْأَبْنِيَةِ وَتَضْيِيقِ الْوَاسِعِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ وَسُوءِ الْجِوَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ يَتَأَبَّدُ بِتَأَبُّدِهِ وَفِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ فَهُوَ ضَرَرٌ عَارِضٌ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
26- الْقَوْلُ الثَّانِي: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُولِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ».
قَالُوا: إِنَّ الرَّسُولَ ((((أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ.لِأَنَّ «مَا» مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُولِ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَقَارِ.
وَقَالُوا: وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَالْأَعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ.
مَرَاحِلُ طَلَبِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
27- عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُظْهِرَ رَغْبَتَهُ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ بِمَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يُؤَكِّدَ هَذِهِ الرَّغْبَةَ وَيُعْلِنَهَا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ لَهُ الشُّفْعَةُ تَقَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بِمَا يُسَمَّى بِطَلَبِ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ.
أ- طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ
28- وَقْتُ هَذَا الطَّلَبِ هُوَ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ، وَعِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُلُ بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ لَهُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إِمَّا الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ وَهُوَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا الْعَدَالَةُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ.بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صَادِقًا.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَدَ وَالْعَدَالَةَ لَا يُعْتَبَرَانِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ.أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُلُ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوِ الْعَدَالَةُ.
29- وَشَرْطُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ.إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ.وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُولِ مَا لَمْ يَقُمْ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلْ عَنِ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَلْ تَصْلُحُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ وَأَنَّهُ هَلْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ، أَمْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتْرُكُ.وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّأَمُّلِ شَرْطُ الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ، وَالْقَبُولِ، كَذَا هَاهُنَا.وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْمُوَاثَبَةِ حَالَاتٍ يُعْذَرُ فِيهَا بِالتَّأْخِيرِ كَمَا إِذَا سَمِعَ بِالْبَيْعِ فِي حَالِ سَمَاعِهِ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ، أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْحَائِلُ.
30- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ وَقْتُ وُجُوبِهَا مُتَّسِعٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لَا؟ فَمَرَّةً قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ الْمُبْتَاعُ بِنَاءً أَوْ تَغْيِيرًا كَثِيرًا بِمَعْرِفَتِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ، وَمَرَّةً حَدَّدَ هَذَا الْوَقْتَ بِسَنَةٍ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنَ السَّنَةِ وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّ الْخَمْسَةَ الْأَعْوَامَ لَا تَنْقَطِعُ فِيهَا الشُّفْعَةُ.
31- وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ يَجِبُ طَلَبُهَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُؤَقَّتٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمُكْنَةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا إِلَى ثَلَاثٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ مَضَتِ الثَّلَاثُ قَبْلَ طَلَبِهِ بَطَلَتْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَمْتَدُّ مُدَّةً تَسَعُ التَّأَمُّلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشِّقْصِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ أَوْ يُعَرِّضْ بِإِسْقَاطِهِ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَشْرَ صُوَرٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَوْرُ هِيَ:
(1) لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَا دَامَ الْخِيَارُ بَاقِيًا.
(2) إِنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ لِانْتِظَارِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ حَصَادَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
(3) إِذَا أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ فَتَرَكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَحَقُّهُ بَاقٍ.
(4) إِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا فَلِلْحَاضِرِ انْتِظَارُهُ وَتَأْخِيرُ الْأَخْذِ إِلَى حُضُورِهِ.
(5) إِذَا اشْتَرَى بِمُؤَجَّلٍ.
(6) لَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي الشُّفْعَةَ وَهُوَ مِمَّنْ- يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ.
(7) لَوْ قَالَ الْعَامِّيُّ.لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبُولُ قَوْلِهِ.
(8) لَوْ كَانَ الشِّقْصُ الَّذِي يَأْخُذُ بِسَبَبِهِ مَغْصُوبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُوَيْطِيُّ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَغَصَبَ عَلَى نَصِيبِهِ ثُمَّ بَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ سَاعَةَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
(9) الشُّفْعَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ حَقُّ الْوَلِيِّ عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا، حَتَّى لَوْ أَخَّرَهَا أَوْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَسْقُطْ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ.
(10) لَوْ بَلَغَهُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَأَخَّرَ لِيَعْلَمَ لَا يَبْطُلُ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
32- وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لَا تَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى مِنْ عَفْوٍ أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الطَّلَبَ مِثْلُ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ فَأَخَّرَ إِلَى أَنْ عَلِمَ وَطَالَبَ سَاعَةَ عَلِمَ أَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ لَيْلًا فَأَخَّرَ الطَّلَبَ إِلَى الصُّبْحِ أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ مُحْدِثٌ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلَاقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَمَّامِ أَوْ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ بِسُنَنِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا وَنَحْوِهِ، كَمَنْ عَلِمَ وَقَدْ ضَاعَ مِنْهُ مَالٌ فَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَلْتَمِسُ مَا سَقَطَ مِنْهُ لَمْ تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِهَا عَلَى غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهَا رِضًا بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَتَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ حُضُورِهِ يُمْكِنُهُ مُطَالَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ عَنْ أَشْغَالِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ فَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا، وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَأْخِيرُ الْكَلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ- وَلَا الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ.
الْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ:
33- الْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لَا يُصَدِّقُهُ فِي الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، لَا أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الطَّلَبِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، فَلْيُوَكِّلْ فِي الْمُطَالَبَةِ أَوْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِسَيْرِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي طَلَبِهَا بِلَا إِشْهَادٍ، وَلَا تَسْقُطُ إِنْ أَخَّرَ طَلَبَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، أَيْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ الْإِشْهَادَ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ.وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى.
ب- طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ:
34- هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ اخْتَصَّ بِذِكْرِهَا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يُشْهِدَ وَيَطْلُبَ التَّقْرِيرَ وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْعَقَارُ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ بِأَنَّهُ طَلَبَ وَيَطْلُبُ فِيهِ الشُّفْعَةَ الْآنَ.
وَالشَّفِيعُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِأَنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ- عِنْدَ الْبَعْضِ- فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ.
35- وَلِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ نَقُولُ: الْمَبِيعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
أَمَّا الطَّلَبُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ، الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الطَّلَبُ عِنْدَ الْمَبِيعِ فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِنْ سَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الْمَبِيعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الْمَبِيعِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ يَدِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ.
هَذَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
وَالْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ.وَتَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْعَقَارُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إِلاَّ بِالتَّحْدِيدِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالْإِشْهَادُ بِدُونِهِ.
36- وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَبِ، وَصَحَّحَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الطَّلَبِ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الطَّلَبِ مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: إِنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا، وَقَدْ كُنْتُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ.
37- وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ، فَالشَّفِيعُ إِذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ (طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ) اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ أَمَامَ الْقَاضِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إِذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، إِذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَبِهِ أَخَذَتِ الْمَجَلَّةُ.وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إِبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إِضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا مِنَ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ، وَقُدِّرَ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إِلاَّ بِإِبْطَالِهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا، كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ.
ج- طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ:
38- طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ هُوَ طَلَبُ الْمُخَاصَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَلْزَمُ أَنْ يَطْلُبَ الشَّفِيعُ وَيُدْعَى فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ.
وَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ إِنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ.
وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالِاتِّفَاقِ.لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ إِلاَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا.
وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إِلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَهُ الْقَاضِي فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، وَإِلاَّ كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ فَلَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَشْفَعُ بِهِ، فَإِنْ نَكَلَ أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلِ ابْتَاعَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الِابْتِيَاعَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ: أَقِمِ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ- فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
وَلَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ وَقْتَ الدَّعْوَى بَلْ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْمُنَازَعَةُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
الشُّفْعَةُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ:
39- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الشُّفْعَةِ الَّتِي سَبَقَتْ كَحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».
وَبِالْإِجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فَأَجَازَهُ وَأَقَرَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ وَهُمَا اتِّصَالُ الْمِلْكِ بِالشَّرِكَةِ أَوِ الْجِوَارِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ، فَكَمَا جَازَتِ الشُّفْعَةُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا شُفْعَةَ لِنَصْرَانِيٍّ».
وَبِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا قَصَدَتْ مِنْ وَرَاءِ تَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ الرِّفْقَ بِالشَّفِيعِ، وَالرِّفْقُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا وَالذِّمِّيُّ لَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الرِّفْقَ الْمَقْصُودَ بِتَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَبِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالِاتِّفَاقِ.
تَعَدُّدُ الشُّفَعَاءِ وَتَزَاحُمُهُمْ:
أَوَّلًا.عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ- أَيْ شُرَكَاءَ مَثَلًا-
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ وُزِّعَتِ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ الْمِلْكِ، لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ.وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ فَقُسِّطَ عَلَى قَدْرِهِ كَالْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ فِي مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
41- وَكَمَا يُقْسَمُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِالتَّسَاوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يُقْسَمُ أَيْضًا عَلَى الْجِيرَانِ بِالتَّسَاوِي بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مِقْدَارِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ شَفِيعَانِ جَارَانِ جِوَارُهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ كَانَ جِوَارُ أَحَدِهِمَا بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ وَجِوَارُ الْآخَرِ بِسُدُسِهَا، كَانَتِ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ أَصْلُ الْجِوَارِ.
فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي السَّبَبِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ لَا قَدْرُهَا، وَأَصْلُ الْجِوَارِ لَا قَدْرُهُ، وَهَذَا يَعُمُّ حَالَ انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا.
ثَانِيًا: عِنْدَ اخْتِلَافِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
42- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ الشُّفْعَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فِيهَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الشُّفَعَاءِ فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَيُقَدَّمُ الْخَلِيطُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ عَلَى الْجَارِ الْمُلَاصِقِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الْخَلِيطِ وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ» وَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ، وَسَبَبُ وُصُولِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى هُوَ الِاتِّصَالُ، وَالِاتِّصَالُ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَالِاتِّصَالُ بِالشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْخَلْطِ، وَالِاتِّصَالُ بِالْخَلْطِ أَقْوَى مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ.فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ عَلَى الْأَعَمِّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ.
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ حَقٌّ إِلاَّ إِذَا سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ التَّقَدُّمِ.
وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ الشَّرِيكِ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الْأَخْذُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا يَحِقُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُثْبِتُونَ الشُّفْعَةَ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ فِي الْمِلْكِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى التَّزَاحُمُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ وَافَقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذْهَبًا آخَرَ فَجَعَلُوهَا لِلشُّرَكَاءِ فِي الْعَقَارِ دُونَ تَرْتِيبٍ إِذَا مَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ كُلُّ شَرِيكٍ أَصْلًا فِي الشَّرِكَةِ لَا خَلَفًا فِيهَا عَنْ غَيْرِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ خَلَفًا فِي الشَّرِكَةِ عَنْ غَيْرِهِ دُونَ بَعْضٍ فَلَا تَكُونُ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي السَّهْمِ الْمُبَاعِ بَعْضُهُ عَلَى الشَّرِيكِ فِي أَصْلِ الْعَقَارِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَدَّتَيْنِ، وَزَوْجَتَيْنِ، وَشَقِيقَتَيْنِ، فَبَاعَتْ إِحْدَى هَؤُلَاءِ حَظَّهَا مِنَ الدَّارِ كَانَتِ الشُّفْعَةُ أَوَّلًا لِشَرِيكَتِهَا فِي السَّهْمِ دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَالشَّرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ، فَتَكُونُ الْجَدَّةُ- مَثَلًا- أَوْلَى بِمَا تَبِيعُ صَاحِبَتُهَا (وَهِيَ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى) لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السُّدُسِ، وَهَكَذَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِنْ أَعَارَ شَخْصٌ أَرْضَهُ لِقَوْمٍ يَبْنُونَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسُونَ فِيهَا فَفَعَلُوا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمْ حَظَّهُ مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ قُدِّمَ الشَّخْصُ الْمُعِيرُ عَلَى شُرَكَاءِ الْبَائِعِ فِي أَخْذِ الْحَظِّ الْمَبِيعِ بِقِيمَةِ نَقْضِهِ مَنْقُوضًا أَوْ بِثَمَنِهِ الَّذِي بِيعَ بِهِ فَالْخِيَارُ لَهُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ، هَذَا فِي الْإِعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يُنْقَضْ فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حَظَّهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْإِعَارَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ وَلَا مَقَالَ لِرَبِّ الْأَرْضِ إِنْ بَاعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى النَّقْضِ قُدِّمَ رَبُّ الْأَرْضِ.
فَإِذَا بَنَى رَجُلَانِ فِي عَرْصَةِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّقْضِ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا أَوْ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ لِلضَّرَرِ إِذْ هُوَ أَصْلُ الشُّفْعَةِ.
ثَالِثًا: مُزَاحَمَةُ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ:
43- إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَفِيعًا، فَإِنَّهُ يُزَاحِمُ غَيْرَهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَيُزَاحِمُونَهُ كَذَلِكَ بِقُوَّةِ السَّبَبِ وَيُقَاسِمُهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُ إِذَا كَانُوا مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَالْمُشْتَرِي الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي سَبَبِ الشُّفْعَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي السَّبَبِ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا تَسَاوَى الْمُشْتَرِي مَعَ الشُّفَعَاءِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَفِيعًا مِثْلَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ وَيُقْسَمُ الْعَقَارُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ أَصْلُ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (صوم 1)
صَوْمٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ وَالنِّكَاحِ وَالسَّيْرِ.قَالَ تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ ((-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
وَالصَّوْمُ: مَصْدَرُ صَامَ يَصُومُ صَوْمًا وَصِيَامًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِمْسَاكُ:
2- الْإِمْسَاكُ لُغَةً: هُوَ حَبْسُ الشَّيْءِ وَالِاعْتِصَامُ بِهِ، وَأَخْذُهُ وَقَبْضُهُ، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ هُوَ: السُّكُوتُ، وَالْإِمْسَاكُ: الْبُخْلُ.وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} أَمْرٌ بِحَبْسِهِنَّ وَهُوَ بِذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الصَّوْمِ.
ب- الْكَفُّ:
3- الْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ لُغَةً: تَرْكُهُ، وَإِذَا ذُكِرَ الْمُتَعَلِّقُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَانَ مُسَاوِيًا لِلصَّوْمِ.
ج- الصَّمْتُ:
4- الصَّمْتُ وَكَذَا السُّكُوتُ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ عَنِ النُّطْقِ، وَهُمَا أَخَصُّ مِنَ الصَّوْمِ لُغَةً، لَا شَرْعًا، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ تَبَايُنًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرْضٌ.وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَقَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}: أَيْ فُرِضَ.
وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
كَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَا يَجْحَدُهَا إِلاَّ كَافِرٌ.
فَضْلُ الصَّوْمِ:
6- وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ب- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-
قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ، يَقُولُ: قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».
ج- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
د- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ».
حِكْمَةُ الصَّوْمِ:
7- تَتَجَلَّى حِكْمَةُ الصَّوْمِ فِيمَا يَلِي:
أ- أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ، إِذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَإِنَّهَا مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا، إِذِ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
ب- أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّقْوَى، لِأَنَّهُ إِذَا انْقَادَتْ نَفْسٌ لِلِامْتِنَاعِ عَنِ الْحَلَالِ طَمَعًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلِامْتِنَاعِ عَنِ الْحَرَامِ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِاتِّقَاءِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ فَرْضٌ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
ج- أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتِ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتِ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي
د- أَنَّ الصَّوْمَ مُوجِبٌ لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ بِهِ، بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَيَنَالُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ
هـ- فِي الصَّوْمِ مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ، بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
و- فِي الصَّوْمِ قَهْرٌ لِلشَّيْطَانِ، فَإِنَّ وَسِيلَتَهُ إِلَى الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ- الشَّهَوَاتُ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الشَّهَوَاتُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِيَ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ».
أَنْوَاعُ الصَّوْمِ:
8- يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ إِلَى صَوْمِ عَيْنٍ، وَصَوْمِ دَيْنٍ.
وَصَوْمُ الْعَيْنِ: مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ:
أ- إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى، كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا.
ب- وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ، فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمِ مُتْعَةِ الْحَجِّ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْوَقْتِ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ، بِأَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ شَهْرًا.
الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ:
يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا هُوَ مُتَتَابِعٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، بَلْ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
أَوَّلًا: مَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَشْمَلُ مَا يَلِي:
9- أ- صَوْمَ رَمَضَانَ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ، لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً.
ب- صَوْمَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالصَّوْمَ الْمَنْذُورَ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَتَابُع).
ثَانِيًا: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَشْمَلُ مَا يَلِي:
10- أ- قَضَاءَ رَمَضَانَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِيهِ، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا عَنِ التَّتَابُعِ.
وَيُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعَائِشَةُ، - رضي الله عنهما- أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا، لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إِيَّاهُ.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ: نَدْبُ التَّتَابُعِ أَوِ اسْتِحْبَابُهُ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَتَابُعَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا، فَكَذَا الْقَضَاءُ.
ب- الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَفِي تَتَابُعِهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَتَابُع).
ج- صَوْمَ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَصَوْمَ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ.قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} فَذَكَرَ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ.
وَكَذَا: النَّاذِرُ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ، ذَكَرَ الصَّوْمَ فِيهَا مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَذْر، وَأَيْمَان).
الصَّوْمُ الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِهِ، وَيَشْمَلُ مَا يَلِي:
الْأَوَّلُ وَهُوَ: قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ 11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ نَفْلِ الصَّوْمِ إِذَا أَفْسَدَهُ وَاجِبٌ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ.فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَةُ- وَكَانَتِ ابْنَةَ أَبِيهَا- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، قَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ».
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- خَرَجَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَمَرَّتْ بِي جَارِيَةٌ لِي، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَمَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَصَبْتَ حَلَالًا، وَتَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحْسَنُهُمْ فُتْيَا.
وَلِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةً، فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الْبُطْلَانِ، وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِتْيَانِ الْبَاقِي، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ ضَرُورَةً، فَصَارَ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمُتَطَوَّعَيْنِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِذَا فَسَدَ صَوْمُ النَّافِلَةِ عَنْ قَصْدٍ، أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِفْسَادِ نَفْسِهِ، هَلْ يُبَاحُ أَوْ لَا؟ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، هِيَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى: يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ، وَاسْتَوْجَهَهَا الْكَمَالُ إِذْ قَالَ: وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ لَكِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ الْقَضَاءُ.
وَاخْتَلَفُوا- عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- هَلِ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا؟.
قَالَ فِي الدُّرِّ: وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ، إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ لَا يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ، وَيَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْإِفْطَارِ، فَيُفْطِرُ، وَإِلاَّ لَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَفْطَرَ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ قَضَاءً، وَلَا يُحَنِّثُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ.وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا، إِلاَّ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ إِلَى الْعَصْرِ، لَا بَعْدَهُ.
- وَالْمَالِكِيَّةُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ، احْتِرَازًا عَنِ الْفِطْرِ نِسْيَانًا أَوْ إِكْرَاهًا، أَوْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَوْ خَوْفِ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ لِحَلِفِ شَخْصٍ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ بَاتٍّ، فَلَا يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَضَى.
وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ لِفِطْرِهِ وَجْهٌ: - كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا، وَيَخْشَى أَنْ لَا يَتْرُكَهَا إِنْ حَنِثَ، فَيَجُوزُ الْفِطْرُ وَلَا قَضَاءَ.
- أَوْ أَنْ يَأْمُرَهُ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ بِالْفِطْرِ، حَنَانًا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ مِنْ إِدَامَةِ الصَّوْمِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
- أَوْ يَأْمُرُهُ أُسْتَاذُهُ أَوْ مُرَبِّيهِ بِالْإِفْطَارِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْوَالِدَانِ أَوِ الشَّيْخُ.
12- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَا يُوجِبُونَ إِتْمَامَ نَافِلَةِ الصَّوْمِ، وَلَا يُوجِبُونَ قَضَاءَهَا إِنْ فَسَدَتْ، وَذَلِكَ: - «لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ إِلَيْنَا حَيْسٌ فَقَالَ: أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا.فَأَكَلَ» وَزَادَ النَّسَائِيُّ: «إِنَّمَا مِثْلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مِثْلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا».
وَلِحَدِيثِ «أُمِّ هَانِئٍ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمِيرُ نَفْسِهِ».
وَلِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا، فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ.ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَفْطِرْ، وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ».
وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، لَمْ يَكُنِ الْقَضَاءُ وَاجِبًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَافِلَةِ صَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَلَا كَرَاهَةَ وَلَا قَضَاءَ فِي قَطْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَعَ الْعُذْرِ.
أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ فَيُكْرَهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَمِنَ الْعُذْرِ أَنْ يَعِزَّ عَلَى مَنْ ضَيَّفَهُ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْأَكْلِ.
وَإِذَا أَفْطَرَ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِلاَّ أُثِيبَ.
الثَّانِي: صَوْمُ الِاعْتِكَافِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف ج 5 ف 17).
صَوْمُ التَّطَوُّعِ:
13- وَهُوَ:
1- صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
2- صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
3- صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ.
4- صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْبِيضُ.
5- صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ.
6- صَوْمُ شَهْرِ شَعْبَانَ.
7- صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ.
8- صَوْمُ شَهْرِ رَجَبٍ.
9- صِيَامُ مَا ثَبَتَ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ.
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ هَذَا الصَّوْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمُ التَّطَوُّعِ)
الصَّوْمُ الْمَكْرُوهُ، وَيَشْمَلُ مَا يَلِي:
أ- إِفْرَادَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ:
14- نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ الْجُمْهُورُ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ وَقَبْلَهُ يَوْمٌ، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ».
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ».
وَذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَلَا يُفْطِرُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِـ (لَا بَأْسَ) الِاسْتِحْبَابُ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِنَدْبِ صَوْمِهِ، وَلَوْ مُنْفَرِدًا.وَكَذَا الدَّرْدِيرُ صَرَّحَ بِنَدْبِ صَوْمِهِ وَحْدَهُ فَقَطْ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ: فَإِنْ ضَمَّ إِلَيْهِ آخَرَ فَلَا خِلَافَ فِي نَدْبِهِ.
وَقَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ طَلَبُ صَوْمِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ، وَالْأَخِيرُ مِنْهُمَا: النَّهْيُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَاءَ حَدِيثٌ فِي كَرَاهَةِ صَوْمِهِ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فَمُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ مُقَيَّدٌ بِالْإِفْرَادِ.
وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِضَمِّ يَوْمٍ آخَرَ إِلَيْهِ، لِحَدِيثِ «جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا.قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا.قَالَ: فَأَفْطِرِي».
ب- صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ وَحْدَهُ خُصُوصًا:
15- وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، وَاسْمُهَا الصَّمَّاءُ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ».
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، فَفِي إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهُ بِخُصُوصِهِ يَوْمًا اعْتَادَ صَوْمَهُ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ.
ج- صَوْمُ يَوْمِ الْأَحَدِ بِخُصُوصِهِ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ صَوْمِ يَوْمِ الْأَحَدِ بِخُصُوصِهِ مَكْرُوهٌ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ صَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ مَعًا لَيْسَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ لَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِمَا، كَمَا لَوْ صَامَ الْأَحَدَ مَعَ الِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ وَيُسْتَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ صِيَامُ كُلِّ عِيدٍ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لِلصَّائِمِ.
د- إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ بِالصَّوْمِ:
17- يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَيَوْمِ الْمِهْرَجَانِ بِالصَّوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ يُعَظِّمُهُمَا الْكُفَّارُ، وَهُمَا عِيدَانِ لِلْفُرْسِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمَا بِالصَّوْمِ- دُونَ غَيْرِهِمَا- مُوَافَقَةً لَهُمْ فِي تَعْظِيمِهِمَا، فَكُرِهَ، كَيَوْمِ السَّبْتِ.
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُلُّ عِيدٍ لِلْكُفَّارِ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا قَصَدَ بِصَوْمِهِ التَّشَبُّهَ، كَانَتِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةً.
هـ- صَوْمُ الْوِصَالِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ) إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَهُوَ: أَنْ لَا يُفْطِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَصْلًا، حَتَّى يَتَّصِلَ صَوْمُ الْغَدِ بِالْأَمْسِ، فَلَا يُفْطِرُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَصُومَ السَّنَةَ وَلَا يُفْطِرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ.
وَإِنَّمَا كُرِهَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ..فَنَهَاهُمْ، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى».
وَالنَّهْيُ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً، وَلِهَذَا وَاصَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِأَكْلِ تَمْرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ لِانْتِفَاءِ الْوِصَالِ.
وَلَا يُكْرَهُ الْوِصَالُ إِلَى السَّحَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- - مَرْفُوعًا: «فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ» وَلَكِنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً، وَهِيَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: بِأَنَّ الْوِصَالَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ- رحمه الله-، وَالثَّانِي: يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.
و- صَوْمُ الدَّهْرِ (صَوْمُ الْعُمُرِ):
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ بِأَنَّهُ يُضْعِفُ الصَّائِمَ عَنِ الْفَرَائِصِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْكَسْبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الصَّوْمُ طَبْعًا لَهُ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ.
وَاسْتَدَلَّ لِلْكَرَاهَةِ، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ».
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» أَيْ: لَمْ يُحَصِّلْ أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ، وَلَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مَسْنُونٌ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا، أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا كُرِهَ، وَإِلاَّ فَلَا.
وَالْمُرَادُ بِصَوْمِ الدَّهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: سَرْدُ الصَّوْمِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إِلاَّ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا، وَهِيَ الْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
الصَّوْمُ الْمُحَرَّمُ:
20- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ الْأَيَّامِ التَّالِيَةِ:
أ- صَوْمِ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مُنِعَ صَوْمُهَا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ» وَحَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِيهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، لِمَا فِي صَوْمِهَا مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِذَاتِ الْيَوْمِ، بَلْ لِمَعْنًى خَارِجٍ مُجَاوِرٍ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ صَوْمَهَا صَحَّ، وَيُفْطِرُ وُجُوبًا تَحَامِيًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْضِيهَا إِسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَلَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، مَعَ الْحُرْمَةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ صَوْمَهَا لَا يَصِحُّ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصُومُهَا عَنِ الْفَرْضِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَنَقَلَ الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهَا الْمَذْهَبُ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ.
وَهَذَا هُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ مَا فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِيهَا مُطْلَقًا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَطَعَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله- (- بِبُطْلَانِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ انْصِرَافُ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ وَوَصْفِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِالْأَكْلِ.
ب- وَيَحْرُمُ صِيَامُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَصِيَامُ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ بِصَوْمِهِ.
ثُبُوتُ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
21- يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا اتِّفَاقًا، أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَفِي ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَة) ف 2 (وَرَمَضَان) ف 2
صَوْمُ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ:
22- مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، لَزِمَهُ الصَّوْمُ وُجُوبًا، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.وَلِحَدِيثِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ».وَحَدِيثِ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ».
وَلِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَزِمَهُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَصُومُ إِلاَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقِيلَ: يَصُومُ نَدْبًا احْتِيَاطًا، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ لِجَهْلِهِ فَقَوْلَانِ عِنْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ، أَوْ عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِ.
23- وَإِنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خَوْفَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقِيلَ: يُفْطِرُ إِنْ خَفِيَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَنْوِي الْفِطْرَ بِقَلْبِهِ.وَعَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ- إِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ، وَلَا كَفَّارَةَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، لِشُبْهَةِ الرَّدِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَجَازَ لَهُ الْأَكْلُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، لَكِنْ يُفْطِرُ سِرًّا، بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْفِطْرَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَفْطَرَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فِي الْوَقْتَيْنِ: رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ قَضَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ فِي رَمَضَانَ، صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَلَوْ كَانَ فِطْرُهُ قَبْلَمَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ الرَّاجِحِ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ مَا رَآهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَيَالًا، لَا هِلَالًا- كَمَا يَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ-
وَقِيلَ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِمَا- أَيْ فِي الْفِطْرِ وَفِي رَمَضَانَ- وَذَلِكَ لِلظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفِطْرِ، وَلِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ.
رُكْنُ الصَّوْمِ:
24- رُكْنُ الصَّوْمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ وَذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَدَلِيلُهُ قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّصِّ: بَيَاضُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ، لَا حَقِيقَةُ الْخَيْطَيْنِ، فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ لَيَالِيَ الصِّيَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُنَّ فِي النَّهَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ وَقِوَامَهُ هُوَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكُ.
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ:
25- شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، أَيِ: اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- هِيَ شُرُوطُ افْتِرَاضِهِ وَالْخِطَابِ بِهِ.وَهِيَ:
أ- الْإِسْلَامُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
ب- الْعَقْلُ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِدُونِهِ، فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ إِلاَّ إِذَا أَثِمَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ، فِي شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ.
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْإِفَاقَةِ بَدَلًا مِنَ الْعَقْلِ، أَيِ الْإِفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ أَوِ النَّوْمِ، وَهِيَ الْيَقَظَةُ.
ج- الْبُلُوغُ، وَلَا تَكْلِيفَ إِلاَّ بِهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْلِيفِ هُوَ الِامْتِثَالُ، وَذَلِكَ بِالْإِدْرَاكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ- كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ- وَالصِّبَا وَالطُّفُولَةُ عَجْزٌ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ لِسَبْعٍ- كَالصَّلَاةِ- إِنْ أَطَاقَهُ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاقَهُ، وَضَرْبُهُ حِينَئِذٍ إِذَا تَرَكَهُ لِيَعْتَادَهُ، كَالصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّ الصَّوْمَ أَشَقُّ، فَاعْتُبِرَتْ لَهُ الطَّاقَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلَاةَ مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ.
د- الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ، بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مَسْتُورٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَسْتُورَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِنَشْأَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ بِالْجَهْلِ.
شُرُوطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ:
26- شُرُوطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ تَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ هِيَ:
أ- الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْمَرَضِ، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
ب- الْإِقَامَةُ، لِلْآيَةِ نَفْسِهَا.قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: وَأَمَّا الصِّحَّةُ وَالْإِقَامَةُ، فَشَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، لَا فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ يَسْقُطُ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَيَجِب عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، إِنْ أَفْطَرَا إِجْمَاعًا، وَيَصِحُّ صَوْمُهُمَا إِنْ صَامَا.
ج- خُلُوُّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَيْسَتَا أَهْلًا لِلصَّوْمِ، وَلِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- لَمَّا سَأَلَتْهَا مُعَاذَةُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ، تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ».
فَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ فَرْعُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ.
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِهِمَا مِنَ الصَّوْمِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا.
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ:
27- شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ هِيَ:
أ- الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَالْكَمَالِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ مَعًا.
ب- خُلُوُّهُ عَمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِطُرُوِّهِ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ.
ج- النِّيَّةُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.وَلِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وَالْإِمْسَاكُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ، أَوْ لِعَدَمِ الِاشْتِهَاءِ، أَوْ لِلْمَرَضِ، أَوْ لِلرِّيَاضَةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَلَا يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِهَا، بِلَا خِلَافٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا سُنَّةٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (ظن)
ظَنٌّالتَّعْرِيفُ:
1- الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ظَنَّ، مِنْ بَابِ قَتَلَ وَهُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْمُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَمِنْهُ الْمَظِنَّةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ، وَالظِّنَّةُ بِالْكَسْرِ: التُّهْمَةُ.
وَالظَّنُّ فِي الِاصْطِلَاحِ- كَمَا عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ- هُوَ: الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيلَ: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: أَنَّ الظَّنَّ مِنَ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ يَقِينًا وَيَكُونُ شَكًّا، كَالرَّجَاءِ يَكُونُ أَمْنًا وَخَوْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا.
وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ.
وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ الزَّرْكَشِيَّ أَوْرَدَ ضَابِطَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالظَّنِّ الْوَارِدِ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّكِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَهُوَ الشَّكُّ.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ شَكٌّ نَحْوُ قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَهُوَ يَقِينٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّيمُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الشَّكُّ:
2- الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الِارْتِيَابُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ: أَنَّ الشَّكَّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الْآخَرُ فَهُوَ ظَنٌّ، فَإِذَا طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ.
ب- الْوَهْمُ:
3- الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ: سَبْقُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ مَا يُقَابِلُ الظَّنَّ.
ج- الْيَقِينُ:
4- الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ: مَحْظُورٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمُبَاحٌ.
فَأَمَّا الْمَحْظُورُ.فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ».
وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، فَعَنْ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ سَكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنهما-، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَالَ: شَيْئًا»
ثُمَّ إِنَّ كُلَّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ، وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ، فَمِنْهُ: ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا.
وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ، فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلَا يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَنْ دَخَلَ مَدْخَلَ السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ، مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ.
الْحُكْمُ بِالظَّنِّ:
6- ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ لِلظَّنِّ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّكُّ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} وَفِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا».
عَدَمُ اعْتِبَارِ الظَّنِّ إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ:
7- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ: لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَظْهَرُ خَطَؤُهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ ظَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَلَ الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَلَ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ:
مِنْهَا: لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَمَلًا بِظَنِّهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا يُتَعَبَّدُ فِيهِ بِالنَّصِّ قَطْعًا، كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لَا يَجْتَهِدُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالنَّصِّ، كَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الْأَصَحِّ.
أَثَرُ الظَّنِّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ:
8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّعَارُضِ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً، وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ فِي دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمَظْنُونِ نَجَاسَتُهُ:
9- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ظَنَّ نَجَاسَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا جَازَ وُضُوءُهُ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهَا، وَتَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي غَيَّرَهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ وَالطَّاهِرِيَّةَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَرَاحِيضِ وَرَخَاوَةِ أَرْضِهَا فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ مُغَيِّرَهُ مِمَّا لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَآخَرُونَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ مُنَجِّسِهِ (أَيْ فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الَّذِي ظُنَّ نَجَاسَتُهُ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ مَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَلَا يُكْرَهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة).
الظَّنُّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ:
10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ..وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَذَانُ الْوَاحِدِ لَوْ عَدْلًا، وَإِلاَّ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْمُصَلِّي هَلْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ أَوْ لَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ أَوْ ظَنَّ دُخُولَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ وَتَوَهَّمَ الدُّخُولَ، سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تُجْزِيهِ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَبَيَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ قَوِيًّا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اجْتَهَدَ، مُسْتَدِلًّا بِالدَّرْسِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَوْرَادِ وَشَبَهِهَا، وَحَيْثُ لَزِمَ الِاجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلَا اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ الْوَقْتِ.
الْأَخْذُ بِالظَّنِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ:
11- مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رَأْيُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ» وَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَالِ تَغَيُّرِ ظَنِّهِ الِاسْتِدَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَكَثَ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.
وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ وَخَالَفَهَا بِصَلَاتِهِ لِغَيْرِهَا عَامِدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يُصَادِفِ الْقِبْلَةَ فِي الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، بَلْ وَإِنْ صَادَفَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، فَيُعِيدُهَا أَبَدًا، لِدُخُولِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَتَعَمُّدِهِ إِيَّاهُ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لِلْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَلْ ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتَمَدَ الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَهُ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَلْ ظَنَّهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ إِعَادَةُ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا فَيَبْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بَلْ مَظْنُونًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا إِعَادَةَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ، فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوْلَى الِاسْتِئْنَافُ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى مَحَارِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَحَارِيبُ لَزِمَهُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَدِلَّتِهَا فَفَرْضُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ إِنْ وَجَدَهُ، وَلَا يَجْتَهِدُ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا وَجَدَ النَّصَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَهُ يُخْبِرُهُ عَنْ ظَنٍّ فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَإِلاَّ لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ.
وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ- وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا- فَفَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جِهَةٌ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ صَلَّى إِلَيْهَا لِتَعَيُّنِهَا قِبْلَةً لَهُ، إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ، فَإِنْ تَرَكَهَا- أَيِ الْجِهَةَ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ- وَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا أَعَادَ مَا صَلاَّهُ إِلَى غَيْرِهَا وَإِنْ أَصَابَ لِأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضَهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ- لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَطْمُورًا أَوْ كَانَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَعَادَلَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ- صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِلَا إِعَادَةٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال ف 28، وَاشْتِبَاه ف 20).
الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ:
12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ؟ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِجَمَاعَةٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ مُصَلٍّ عَلَى قَوْمٍ ظَنَّ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ، أَعَادَ أَبَدًا إِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُسَافِرًا، لِمُخَالَفَةِ إِمَامِهِ نِيَّةً وَفِعْلًا إِنْ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ خَالَفَهُ نِيَّةً، وَفَعَلَ خِلَافَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، لِحُصُولِ الشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُمْ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْإِمَامِ نِيَّةً وَفِعْلًا كَعَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَظُنَّهُمْ مُقِيمِينَ فَيَنْوِيَ الْإِتْمَامَ فَيَظْهَرَ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قَصَرَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَمَّ فَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصِّحَّةَ كَاقْتِدَاءِ مُقِيمٍ بِمُسَافِرٍ.
وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ لَمْ يُغْتَفَرْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَاغْتُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا صَحَّتْ وَلَا إِعَادَةَ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَبَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ لِتَقْصِيرِهِ فِي ظَنِّهِ إِذْ شِعَارُ الْإِقَامَةِ ظَاهِرٌ، أَوِ اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ- أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَتَمَّ- وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا، لِتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ، لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْأَصْلُ الْإِتْمَامُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إِمَامُهُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إِمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ.
ظَنُّ الْخَوْفِ الْمُرَخَّصِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:
13- لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، بَلِ الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ لَمْ تَجُزْ إِلاَّ إِنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا، كَمَنِ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ.
وَيَكْفِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ مُجَرَّدُ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مَظْنُونًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ أَنَّهُ عَدُوٌّ فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْتِحَامٍ أَوْ صَلَاةَ قَسْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا إِعَادَةَ، وَالظَّنُّ الْبَيِّنُ خَطَؤُهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى تَعْطِيلِ حُكْمٍ، لَا إِلَى تَغَيُّرِ كَيْفِيَّةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ الْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِشَرْطٍ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا لِسَوَادٍ ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَبَانَ بِخِلَافِ ظَنِّهِمْ كَإِبِلٍ أَوْ شَجَرٍ قَضَوْا فِي الْأَظْهَرِ، لِتَرْكِهِمْ فُرُوضًا مِنَ الصَّلَاةِ بِظَنِّهِمْ الَّذِي تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْخِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ دَارِ الْإِسْلَامِ، اسْتَنَدَ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَصَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ.
ظَنُّ الصَّائِمِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ:
14- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْم).
الظَّنُّ فِي الْمَسْرُوقِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ:
15- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ظَنَّ السَّارِقِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ مَا سَرَقَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا، أَوْ سَرَقَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَظُنُّهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنَّهَا فُلُوسٌ لَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا النِّصَابَ قُطِعَ وَلَا يُعْذَرُ بِظَنِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الشَّكُّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي كَوْنِهِ هَلْ يَبْلُغُ نِصَابًا أَوْ لَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ.
ظَنُّ الْمُكْرَهِ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:
16- قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الْآمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى سُتْرَةٍ وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ وَعَلِمَهُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، فَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَجِبُ كُلُّهَا عَلَى الْآمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ، نِصْفُهَا.
لَا أَثَرَ لِلظَّنِّ فِي الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِيَقِينٍ:
17- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ «عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلُ أَوْ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدُ رِيحًا».
وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةً أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِيَقِينِهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنَ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَمْسُ، لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِكُلٍّ مِنْهَا يَقِينًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مُسْتَيْقَنٌ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَلْ طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يُقْسَمُ مَالُهُ وَلَا تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَمْثَالُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ، فَلَا نَرْفَعُهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.
أَثَرُ الظَّنِّ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ:
18- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خَطَؤُهُ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِجْزَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَالْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَفِي الِاسْتِرْدَادِ قَوْلَانِ.يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأ ف 11).
أَثَرُ الظَّنِّ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
19- لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خَطَأ ف 42).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (فقه)
فِقْهالتَّعْرِيفُ:
1- الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ، وَالْفَطِنَةُ فِيهِ، وَغَلَبَ، عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْلُومٍ تَيَقَّنَهُ الْعَالِمُ عَنْ فِكْرٍ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الشَّرِيعَةُ:
2- الشَّرِيعَةُ وَالشِّرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: مَوْرِدُ الْمَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُضُوحِهِ وَظُهُورِهِ، وَالشَّرْعُ مَصْدَرُ شَرَعَ بِمَعْنَى: وَضَحَ وَظَهَرَ، وَتُجْمَعُ عَلَى شَرَائِعَ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الدِّينِ وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ مَا نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ وَأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا.
وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفِقْهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ ثَبَتَتْ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَنْفَرِدُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ، وَيَنْفَرِدُ الْفِقْهُ فِي الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَلَمْ يُجْمِعْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ.
ب- أُصُولُ الْفِقْهِ:
3- أُصُولُ الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْفِقْهَ يُعْنَى بِالْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْهَا، أَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَمَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةُ الْإِجْمَالِيَّةُ مِنْ حَيْثُ وُجُوهُ دَلَاتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- تَعَلُّمُ الْفِقْهِ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَتَعَلُّمِهِ مَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَلَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ.فَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَّرَ إِلَى دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ تَعَلُّمِهَا مَعَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ التَّعَلُّمِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَمَا يَلْزَمُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِمَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَتَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي ثُمَّ مَا يَجِبُ وُجُوبَ عَيْنٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا، دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ حَدَثَ النَّادِرُ وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، أَمَّا الْبُيُوعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ مِمَّا لَا يَجِبُ أَصْلُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَعَلُّمُ أَحْكَامِهِ لِيَحْتَرِزَ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَكَذَا كُلُّ أَهْلِ الْحِرَفِ، فَكُلُّ مَنْ يُمَارِسُ عَمَلًا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ، كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَعُلُومِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ نَافِلَةً، وَهُوَ التَّبَحُّرُ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ وَالْإِمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَتَعَلُّمُ الْعَامِّيِّ نَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَلِ، لَا مَا يَقُومُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ.
فَضْلُ الْفِقْهِ:
5- وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الْفِقْهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.فَقَدْ جَعَلَ وِلَايَةَ الْإِنْذَارِ وَالدَّعْوَةَ لِلْفُقَهَاءِ، وَهِيَ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام-، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
مَوْضُوعُ الْفِقْهِ:
6- مَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ هُوَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعِبَادِ، فَيُبْحَثُ فِيهِ عَمَّا يَعْرِضُ لِأَفْعَالِهِمْ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَكَرَاهَةٍ.
نَشْأَةُ الْفِقْهِ وَتَطَوُّرُهُ:
7- نَشَأَ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ بِنَشْأَةِ الدَّعْوَةِ وَبَدْءِ الرِّسَالَةِ، وَمَرَّ بِأَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ تَمَيُّزًا دَقِيقًا، إِلاَّ الطُّورَ الْأَوَّلَ وَهُوَ عَصْرُ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَمَّا بَعْدَهُ بِكُلِّ دِقَّةٍ بِانْتِقَالِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.
وَكَانَ مَصْدَرُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الطُّورِ الْوَحْيَ، بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنْ أَحْكَامٍ، أَوْ بِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْكَامٍ كَانَ الْوَحْيُ أَسَاسَهَا، أَوْ كَانَ يُتَابِعُهَا بِالتَّسْدِيدِ، وَكَذَلِكَ كَانَ اجْتِهَادُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ مَرَدُّهُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُقِرُّهُ أَوْ يُنْكِرُهُ..وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الْوَحْيُ مَصْدَرَ التَّشْرِيعِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَطْوَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي ف 13 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مُقَدِّمَةِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.
الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَأَسْبَابُهُ:
8- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْضِي فِيمَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ وَقَائِعَ وَكَانَ يُقِرُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ أَوْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا قَضَى بِهِ أَوْ أَقَرَّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ مَكْتُوبًا أَوْ بِمَشْهَدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَرَأَى كُلُّ صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَحَفِظَ وَعَرَفَ وَجْهَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ ((فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْوَةً لَهُ أَتْبَاعٌ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ وَالْمَسَائِلُ فَاسْتُفْتُوا فِيهَا، فَأَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَسَبَ مَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيمَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثِ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنه- حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي.قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَهَذَا مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا عَلَى ضُرُوبٍ:
9- الْأَوَّلُ: أَنَّ صَحَابِيًّا سَمِعَ حُكْمًا فِي قَضِيَّةٍ أَوْ فَتْوَى وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْآخَرُ، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ اجْتِهَادُهُ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ، مِثَالُهُ مَا وَرَدَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِنَّ رَجُلًا مِنَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا سُئِلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ هَذِهِ، فَأْتُوا غَيْرِي، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ قَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: مَنْ نَسْأَلُ إِنْ لَمْ نَسْأَلْكَ وَأَنْتَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا الْبَلَدِ، وَلَا نَجِدُ غَيْرَكَ؟ قَالَ: سَأَقُولُ فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بُرَآءٌ، أَرَى أَنْ أَجْعَلَ لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرًا، قَالَ: وَذَلِكَ بِمَسْمَعِ أُنَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ، فَقَامُوا فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي امْرَأَةٍ مِنَّا، يُقَالُ لَهَا: بِرْوَعَ بِنْتُ وَاشِقٍ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ فَرِحَ فَرْحَةً يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِإِسْلَامِهِ».
ثَانِيهَا: أَنْ يُفْتِيَ الصَّحَابِيُّ وَيَظْهَرَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ، فَيَرْجِعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَدِيثِ، وَمِنْ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- كَانَ يُفْتِي أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ، حَتَّى بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا لَا عَنِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» فَرَجَعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَبْلُغَهُ الْحَدِيثُ لَكِنْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ غَالِبُ الظَّنِّ، وَمِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ- رضي الله عنها- شَهِدَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَفَقَةً، وَلَا سُكْنَى، فَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَتَهَا، وَقَالَ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ: لَهَا النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى.
رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَصِلَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ أَصْلًا، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَة- رضي الله عنها- بَلَغَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ.
10- الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ: أَنْ يَرَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ فِعْلًا، فَحَمَلَهُ الْبَعْضُ عَلَى الْقُرْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْإِبَاحَةِ. مِثَالُهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الْأُصُولِ فِي قِصَّةِ التَّحْصِيبِ- أَيِ النُّزُولِ بِالْأَبْطُحِ عِنْدَ النَّفْرِ- نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهِ ذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهم- إِلَى أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَجَعَلَاهُ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.
11- الثَّالِثُ: السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ: كَأَنْ يَنْقُلَ صَحَابِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَمْرًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَجَبٍ»، فَسَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَضَتْ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ.
12- الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الضَّبْطِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ فَقَضَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بِالْوَهْمِ.
13- الْخَامِسُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَمِنْ هَذَا: الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَقَالَ قَائِل: لِهَوْلِ الْمَوْتِ، فَيَعُمُّهُمَا، وَقَالَ قَائِلٌ: «مَرَّتْ جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ لَهَا»، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَعْلُوَ فَوْقَ رَأْسِهِ، فَيَخُصُّ الْكَافِرَ.
14- السَّادِسُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْهُ: «نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ»، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى عُمُومِ هَذَا الْحُكْمِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَرَآهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- «يَبُولُ قَبْلَ أَنْ يُتَوَفَّى بِعَامٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ»، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «قَضَى حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ»، فَرَدَّ بِهِ قَوْلَهُمْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحْرَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَرَاحِيضِ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ. وَبِالْجُمْلَةِ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، وَأَخَذَ التَّابِعُونَ الْعِلْمَ مِنْهُمْ، فَأَقْبَلَ أَبْنَاءُ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ فِي قُطْرِهِمْ يَسْتَفْتُونَهُمْ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ سَوَاءً فِيمَا يَعْلَمُونَ، وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْفَظُ كُلَّ مَا يَحْفَظُهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُونُوا سَوَاءً فِي اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا فِي الْأَخْذِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ الْوَرَعُ وَالِاحْتِيَاطُ عَلَى الْوُقُوفِ عِنْدَ النُّصُوصِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ.
أَهَمُّ مَرَاكِزِ الْفِقْهِ:
15- تَرَتَّبَ عَلَى تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَاخْتِلَافِ مَنَاهِجِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالِاجْتِهَادِ- لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَسْبَابٍ- وَأَخْذِ التَّابِعِينَ فِي كُلِّ مِصْرٍ عَمَّنْ نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ- تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ اتِّجَاهَاتٍ فِقْهِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ أَشْهَرِهَا الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ الَّذِي سَادَ فِي الْحِجَازِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالِاتِّجَاهُ الثَّانِي الَّذِي ظَهَرَ فِي الْعِرَاقِ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَمِنْ هَذَيْنِ الِاتِّجَاهَيْنِ كَانَ غَالِبُ الْفِقْهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ (الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ف 16 وَمَا بَعْدَهَا).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (قراءات)
قِرَاءَاتٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْقِرَاءَاتُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ قِرَاءَةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ.
وَالْقِرَاءَاتُ فِي الِاصْطِلَاحِ: عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَاخْتِلَافِهَا مَعْزُوًّا لِنَاقِلِهِ.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ: كَلِمَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَفَائِدَتُهُ: صِيَانَتُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُبْنَى عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
2- الْقُرْآنُ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولُ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَاتُ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ، مِنَ الْحُرُوفِ وَكَيْفِيَّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا.
أَرْكَانُ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ:
3- قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ- وَلَوْ بِوَجْهٍ- وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ- وَلَوِ احْتِمَالًا- وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا، وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشَرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةً، أَوْ شَاذَّةً، أَوْ بَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إِلَى أَحَدِ السَّبْعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ هَكَذَا، إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ:
4- الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ إِلَى الرَّاوِي عَنِ الْإِمَامِ، أَوْ إِلَى الْآخِذِ عَنِ الرَّاوِي.
فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ مَنْسُوبًا لِإِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ فَهُوَ قِرَاءَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا لِلرَّاوِي عَنِ الْإِمَامِ فَهُوَ رِوَايَةٌ، وَكُلُّ مَا نُسِبَ لِلْآخِذِ عَنِ الرَّاوِي وَإِنْ سَفَلَ فَهُوَ طَرِيقٌ.
وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْوَاجِبُ، فَهُوَ عَيْنُ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ مُلْزَمٌ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، فَلَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا عُدَّ ذَلِكَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْجَائِزُ، فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْجُهِ الَّتِي عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، كَأَوْجُهِ الْبَسْمَلَةِ، وَأَوْجُهِ الْوَقْفِ عَلَى عَارِضِ السُّكُونِ، فَالْقَارِئُ مُخَيَّرٌ فِي الْإِتْيَانِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْهَا، غَيْرُ مُلْزَمٍ بِالْإِتْيَانِ بِهَا كُلِّهَا، فَلَوْ أَتَى بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ، وَلَا نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا يُقَالُ لَهَا قِرَاءَاتٌ، وَلَا رِوَايَاتٌ، وَلَا طُرُقٌ، بَلْ يُقَالُ لَهَا أَوْجُهٌ فَقَطْ.
أَنْوَاعُ الْقِرَاءَاتِ:
5- قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ وَهُنَّ: أَنْ يُنْقَلَ عَنِ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا، وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ قُرِئَ بِهِ، وَقُطِعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ أُخِذَ عَنْ إِجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الْآحَادِ، وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، إِنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَا يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْطَعُ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ، وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ، وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ، أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالسُّيُوطِيُّ كَلَامَ أَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيٍّ.
6- وَتَنْقَسِمُ الْقِرَاءَاتُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ إِلَى الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ:
الْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، عَنْ مِثْلِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَغَالِبُ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْمُتَوَاتِرِ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنَ الْغَلَطِ، وَلَا مِنَ الشُّذُوذِ، وَيُقْرَأُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَا اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ فِي نَقْلِهِ عَنِ السَّبْعَةِ، فَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
الثَّالِثُ: الْآحَادُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَخَالَفَ الرَّسْمَ أَوِ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ لَمْ يَشْتَهِرِ الِاشْتِهَارَ الْمَذْكُورَ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ لِذَلِكَ بَابًا أَخْرَجَا فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا صَحِيحَ الْإِسْنَادِ.
الرَّابِعُ: الشَّاذُّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ.
الْخَامِسُ: الْمَوْضُوعُ، كَقِرَاءَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَظَهَرَ لِي سَادِسٌ يُشْبِهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الْمُدْرَجِ، وَهُوَ مَا زِيدَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ) وَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ)
الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالشَّاذَّةُ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ قِرَاءَاتُ قُرَّاءِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ الْعَشَرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْقُرْآنُ الَّذِي تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ بِالِاتِّفَاقِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ- رضي الله عنه- إِلَى الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْعَشَرَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَوَاتِرُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمَا فَوْقَ السَّبْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ غَيْرُ شَاذٍّ، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْعَدَوِيُّ: الشَّاذُّ عِنْدَ ابْنِ السُّبْكِيِّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي أُصُولِهِ مَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ السُّبْكِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ مَرْجُوعٌ فِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ سَبْعٌ فَقَطْ، وَهِيَ قِرَاءَاتُ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَمَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ شَاذٌّ
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الشَّاذَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ وَغَيْرُهُ.
أَشْهَرُ الْقُرَّاءِ وَرُوَاتُهُمْ:
8- الْقِرَاءَاتُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، قِرَاءَاتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ.
فَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَوَاتُرِهَا سَبْعَةٌ، وَهُمْ:
1- نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ أَبُو رُوَيْمٍ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ اللَّيْثِيُّ وَرَاوِيَاهُ: قَالُونُ، وَوَرْشٌ.
2- ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ.وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ، وَقُنْبُلٌ.
3- أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ زَبَّانُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الدُّورِيُّ، وَالسُّوسِيُّ.
4- ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ الْيَحْصُبِيُّ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، قَاضِي دِمَشْقَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُكَنَّى أَبَا عِمْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: هِشَامٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ.
5- عَاصِمٌ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَيُقَالُ لَهُ ابْنُ بَهْدَلَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: شُعْبَةُ، وَحَفْصٌ.
6- حَمْزَةُ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ الزَّيَّاتُ الْفَرَضِيُّ التَّيْمِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ، وَرَاوِيَاهُ: خَلَفٌ، وَخَلاَّدٌ.
7- الْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ النَّحْوِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَرَاوِيَاهُ: أَبُو الْحَارِثِ، وَحَفْصٌ الدُّورِيُّ.
وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَوَاتُرِهَا ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ:
1- أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَرَاوِيَاهُ: ابْنُ وَرْدَانَ، وَابْنُ جَمَّازٍ.
2- يَعْقُوبُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: رُوَيْسٌ، وَرَوْحٌ.
3- خَلَفٌ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ خَلَفُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ثَعْلَبٍ الْبَزَّازُ الْبَغْدَادِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: إِسْحَاقُ، وَإِدْرِيسُ.
(وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ هُمْ:
1- ابْنُ مَحِيصٍ: وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ السَّابِقُ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَنَبُوذَ.
2- الْيَزِيدِيُّ: وَهُوَ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ، وَرَاوِيَاهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَحْمَدُ بْنُ فَرْحٍ.
3- الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ، وَرَاوِيَاهُ: شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْبَلْخِيُّ، وَالدُّورِيُّ أَحَدُ رَاوِيَيْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
4- الْأَعْمَشُ: وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: الْحَسَنُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، وَأَبُو الْفَرَجِ الشَّبَنُوذِيُّ الشَّطَوِيُّ.
الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلَاةِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَاخْتَارَ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ.
وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَحُكْمُ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (كرامة)
كَرَامَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْكَرَامَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ كَرُمَ، يُقَالُ: كَرُمَ الرَّجُلُ كَرَامَةً: عَزَّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ: فَتُطْلَقُ أَوَّلًا: بِمَعْنَى: ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ شَخْصٍ ظَاهِرِ الصَّلَاحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
وَتُطْلَقُ ثَانِيًا: بِمَعْنَى: الْإِعْزَازِ وَالتَّفْضِيلِ وَالتَّشْرِيفِ، وَتُطْلَقُ ثَالِثًا: بِمَعْنَى: إِكْرَامِ الضَّيْفِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُعْجِزَةُ:
2- الْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ مَا يَعْجِزُ الْخَصْمُ عِنْدَ التَّحَدِّي.
وَاصْطِلَاحًا: هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ صِدْقِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَعَ عَجْزِ الْمُنْكِرِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُعْجِزَةُ أَخَصُّ مِنَ الْكَرَامَةِ.
ب- الْإِرْهَاصُ:
3- الْإِرْهَاصُ: مَا يَظْهَرُ مِنَ الْخَوَارِقِ قَبْلَ ظُهُورِ النَّبِيِّ.
وَالْكَرَامَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.
ج- الِاسْتِدْرَاجُ:
4- الِاسْتِدْرَاجُ: مَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْكَرَامَةِ الضِّدْيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَرَامَةِ:
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالْإِعْزَازِ:
5- الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالْإِعْزَازِ، مَنْزِلَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ وَفَضَّلَهُمْ بِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَيْ: لَقَدْ شَرَّفْنَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ، وَالنُّطْقِ، وَتَسْخِيرِ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُمْ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى مَنْ خَلَقْنَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ، وَالْبَهَائِمِ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَقَدْ حَافَظَ الْإِسْلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبَنِي آدَمَ جَعَلَهُ مَبْدَأَ الْحُكْمِ، وَأَسَاسَ الْمُعَامَلَةِ، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ مِنَ التَّشْرِيعَاتِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ إِهْدَارُ كَرَامَةِ أَحَدٍ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا: بِالْقَتْلِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} أَوْ بِهَتْكِ عِرْضِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أَوْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ، وَبَعْدَ انْتِهَائِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا». (ر: جِهَادٌ ف 31).
إِكْرَامُ الضَّيْفِ:
6- رَغَّبَ الْإِسْلَامُ فِي كَرَامَةِ الضَّيْفِ وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ الْإِيمَانِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ».
كَرَامَةُ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ:
7- حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى تَوْقِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلِ الْفَضْلِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ»، وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ».
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ:
8- ذَهَبَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى جَوَازِ ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُؤْمِنٍ ظَاهِرِ الصَّلَاحِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَإِلَى وُقُوعِهَا فِعْلًا، وَيُسَمَّى وَلِيًّا.
وَالْوَلِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ، وَالْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَةِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرْتَكِبُ مَعْصِيَةً بِدُونِ تَوْبَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ إِلاَّ لِلْأَنْبِيَاءِ (ر: وِلَايَةٌ).
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِهَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مُحَالٌّ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْكَرَامَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَهْ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ: لِأَنَّ حُصُولَ الرِّزْقِ عِنْدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لَا يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَلَيْسَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمَوْجُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَكَرِيَّا ((((، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ لَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لِمَرْيَمَ: {أَنَّى لَكَ هَذَا} وَأَيْضًا قوله تعالى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ أَمْرِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ- قِيلَ: أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ- لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ الْعَادِيَّةِ، وَذَكَرَتْ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، هُنَالِكَ طَمِعَ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَةِ بِحُصُولِ الْوَلَدِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ الشَّيْخَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَائِسًا مِنَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ شَيْخُوخَتِهِ وَشَيْخُوخَةِ زَوْجَتِهِ وَعُقْمِهَا، فَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا رَآهُ فِي حَقِّ مَرْيَمَ مِنَ الْخَوَارِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلاَّ بِإِخْبَارِ مَرْيَمَ- لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمَا كَانَتْ رُؤْيَةُ تِلْكَ الْخَوَارِقِ فِي مَرْيَمَ سَبَبًا لِطَمَعِهِ بِوِلَادَةِ الْعَاقِرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ- وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ مَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا ((((وَلَا لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ، لِعَدَمِ وُجُودِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِمَرْيَمَ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً سَبْعَةً مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ خَافُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنْ مَلِكِهِمْ فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَدَخَلُوا غَارًا فَلَبِثُوا فِيهِ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ ثَلَثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ بِلَا آفَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ، وَلَا الرِّسَالَةَ.
وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ ((((: فَقَدْ أَتَى بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ طَرْفُ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ فَرَأَى سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ بِلَمْحَةِ طَرْفِ الْعَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي}.
وَكَذَلِكَ بِمَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ مِنْ كَرَامَاتٍ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى: سَارِيَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ- رضي الله عنه- يَخْطُبُ جَعَلَ يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ: الْجَبَلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الْجَبَلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الْجَيْشِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ».
وَوَقَعَتْ لِلصَّحَابَةِ كَرَامَاتٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي حَنْظَلَةَ- رضي الله عنه-: وَقَدِ اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ تَغْسِلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ».
وَلَا تَزَالُ تَقَعُ الْكَرَامَاتُ لِصُلَحَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَدَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيُعِينَهُمْ، وَيُؤَيِّدَهُمْ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأَُعِيذَنَّهُ»، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ وَتَأْيِيدِهِ، وَإِعَانَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: يُنْزِلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا وَلِذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي» وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِلَتُهُ بِاللَّهِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُكْرِمَهُ بِظُهُورِ مَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُ عَلَى يَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ.
وَأَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ حُصُولَ مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ، وَقَالُوا: إِنَّ الْخَوَارِقَ دَلَالَاتُ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَلِيلُ النُّبُوَّةِ لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ النَّبِيِّ، وَلِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ بِأَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ لَكَثُرَتْ بِكَثْرَتِهِمْ، وَلَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَذَلِكَ.
قَوْلُ مَنِ ادَّعَى مَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً:
9- إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ مَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً، وَيُمْكِنُ بِالْكَرَامَةِ فَلَا يُقْبَلُ شَرْعًا وَهُوَ لَغْوٌ، كَأَنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَهَنَ دَارِهِ بِالشَّامِ وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهَا، وَهُمَا بِمَكَّةَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فِي الْمَغْرِبِ وَهُوَ بِالْمَشْرِقِ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَلْحَقُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا بِالشَّرْعِ، وَإِنْ خَصَّ الشَّارِعُ شَخْصًا بِحُكْمٍ يَبْقَى الْحُكْمُ خَاصًّا بِهِ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَحَسْبُهُ»، وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ خَاصَّةٌ بِخُزَيْمَةَ بَعْدَ شَهَادَتِهِ بِشَهَادَتَيْنِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ كَرَامَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (مطلق)
مُطْلَقٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُطْلَقُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْإِرْسَالُ وَالتَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ، يُقَالُ: أَطْلَقْتُ الْأَسِيرَ: إِذَا حَلَلْتَ إِسَارَهُ وَخَلَّيْتَ عَنْهُ، كَمَا يُقَالُ أَطْلَقْتُ الْقَوْلَ: أَرْسَلْتَهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا شَرْطٍ، وَأَطْلَقْتُ الْبَيِّنَةَ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِتَأْرِيخِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُقَيَّدُ:
2- الْمُقَيَّدُ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا فِيهِ صِفَةٌ أَوْ شَرْطٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ، فَهُوَ نَقِيضٌ لِلْمُطْلَقِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
3- إِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ لَهُ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، أَوْ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقَ لَهُ أُجْرِيَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِنْ وَرَدَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدًا وَفِي آخَرَ مُطْلَقًا فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ:
إِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ.
وَإِنِ اتَّفَقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَمَا إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً.
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وُجُوبًا وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: اشْتَرَطُوا فِي إِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ: الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقًا خِلْوًا عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ: حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ.فِي قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا كَانَ مِنْ جَنْسِهِ، فَحَمْلُ عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}، وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِذَاتِ مَرْقُوقَةٍ مَمْلُوكَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ وُجِدَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَلَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ إِلاَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ: أَمْرٌ مَقْصُودٌ، لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ يُنْبِئُ عَنِ التَّضْيِيقِ، وَعِنْدَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلِأَنَّ حَمْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَمْلُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إِلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ، هَذَا وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَوْ شُبْهَتِهِ حَتَّى صَارَ مُؤَخَّرًا عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَهُنَا نَصٌّ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ إِطْلَاقُ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ نَظِيرَ الْأَصْلِ، لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أَعْظَمُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الْإِطْعَامُ وَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِغَيْرِهِ فِي حَقِّ جِوَازِ الْإِطْعَامِ تَغْلِيظًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَعْظِيمًا لِلْجَرِيمَةِ حَتَّى تَتِمَّ صِيَانَةُ النَّفْسِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ فِي التَّغْلِيظِ، لِأَنَّ قَيْدَ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ أَغْلَظُ فَيُنَاسِبُهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ جَرِيمَةَ الْقَتْلِ أَعْظَمُ، وَلِأَنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِصِفَةِ أَوْ شَرْطٍ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ، لِأَنَّ مَعْنَى الْإِطْلَاقِ التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَتَتَنَاوَلُ الْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَالْبَيْضَاءَ وَالسَّوْدَاءَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُتَضَادَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
شُرُوطُ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الْمُطْلَقِ
4- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ عَنْ نَجَاسَةِ مَاءٍ فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا مُوَافِقًا لِلْمُخْبِرِ فِي مَذْهَبِهِ اعْتُمِدَ خَبَرُهُ وَإِنْ أَطْلَقَ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ التَّنْجِيسُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ فِي الْعَدَالَةِ
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ كَأَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ فَاسِقٌ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ قَدْ يُفْضِي إِلَى مُخَاطَرَ كَالْقَذْفِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَزْكِيَةٌ ف (15) وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ).
إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ بِالرَّضَاعِ:
6- إِذَا أَطْلَقَ شُهُودُ الرَّضَاعِ شَهَادَتَهُمْ كَأَنْ قَالُوا: بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ لَمْ يُقْبَلْ، بَلْ يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الْإِرْضَاعِ وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (مُصْطَلَحِ رَضَاعٌ ف 34).
الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ
7- إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ حُمِلَ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدٌ غَالِبٌ وَكَانَ هُنَاكَ مَحْمَلَانِ: أَخَفُّ وَأَثْقَلُ، حُمِلَ عَلَى أَخَفِّهِمَا عَمَلًا بِأَقَلِّ مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرًا مِنْهَا: إِذَا غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْلِ الْوَجْهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ نَوَى الِاغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ صَيْرُورَتُهُ مُسْتَعْمَلًا، لِأَنَّ تَقَدُّمَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ شَمَلَتْهُ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جِوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ: نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ قَصْرًا وَلَا إِتْمَامًا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْمَامُ فَيَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ.وَمِنْهَا: إِذَا تَلَفَّظَ بِمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ.
كَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ وَبِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ فَدَفَعَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالِ لِلدَّائِنِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ التَّعْيِينُ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ لَزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً طَلُقَتْ إِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ تَعْيِينُ إِحْدَاهُمَا لِلطَّلَاقِ.
وَمِنْهَا: يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مُطْلَقًا وَيَصْرِفُهُ بِالتَّعْيِينِ إِلَى مَا شَاءَ مِنَ النُّسُكَيْنِ أَوْ إِلَيْهِمَا.
شَرْطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ
8- اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُقَيَّدِ لَصَحَّ وَإِلاَّ فَلَا.
وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا: إِذَا أَقَرَّ الْأَبُ: بِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَلَهُ ذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَانِ: الْحُسَيْنُ، وَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ.
الْمُطْلَقُ يُنَزَّلُ عَلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ
9- لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَدٍ بِلَفْظٍ وَلَا نِيَّةَ يُحْمَلُ عَلَى يَوْمٍ، لِأَنَّ الصَّوْمَ اسْمُ جَنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَلَا صَوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَالْمُتَيَقَّنُ يَوْمٌ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِنْ نَذَرَ أَيَّامًا فَثَلَاثَةٌ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، أَوْ نَذَرَ صَدَقَةً، فَأَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ أَوْ صَلَاةً فَيُجْزِئُ بِرَكْعَتَيْنِ حَمْلًا عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-موسوعة الفقه الكويتية (وعظ)
وَعْظٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَعْظُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، يُقَالُ: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظًا وَعِظَةً؛ أَيْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ وَوَصَّاهُ بِهَا.
وَمِنْ مَعَانِي الْوَعْظِ أَيْضًا: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}.
وَوَعَظَهُ فَاتَّعَظَ؛ أَيِ ائْتَمَرَ وَقَبِلَ الْمَوْعِظَةَ، وَالِاسْمُ: الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاعِظُ مَنْ يَنْصَحُ وَيُذَكِّرُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّصِيحَةُ:
2- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَلُ.
وَالنَّصِيحَةُ اصْطِلَاحًا: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالتَّذْكِيرَ بِالْخَيْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْظِ الِاسْتِحْبَابُ، فَقَدْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: التَّذْكِيرُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالِاتِّعَاظُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاعِظُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَعَاهَدُوا النَّاسَ بِالتَّذْكِرَةِ» أَلَّفْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ كُتُبًا.
وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: ذَكَرَ الْإِمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْوَعْظِ، وَحُسْنِ حَالِ الْوُعَّاظِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وَعْظِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ- فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْوَعْظُ مَنْهِيًّا عَنْهِ كَأَنْ يُهَيِّجَ الْمُصِيبَةَ فَيُعْتَبَرُ مِنَ النِّيَاحَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: الْوَعْظُ لِلرِّئَاسَةِ، وَكَسْبِ الْمَالِ، وَالْقَبُولِ لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فِي مَجْلِسِهِ لِلْوَعْظِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.
أَرْكَانُ الْوَعْظِ:
أَرْكَانُ الْوَعْظِ هِيَ: الْوَاعِظُ، وَالْمَوْعُوظُ، وَأُسْلُوبُ الْوَعْظِ.
وَنَتَنَاوَلُ كُلَّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالتَّفْصِيلِ حَسَبَ الْآتِي:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْوَاعِظُ:
شُرُوطُ الْوَاعِظِ:
4- يُشْتَرَطُ فِي الْوَاعِظِ مَا يَلِي:
أ- أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بِالِغًا.
ب- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
ج- أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِكُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ قَرَأَ لَفْظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَعَرَفَ صِحَّتَهَا وَسُقْمَهَا وَلَوْ بِإِخْبِارِ حَافِظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِ فَقِيهٍ.
د- أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِشَرْحِ غَرِيبِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْجِيهِ مُشْكِلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ إِلاَّ قَدْرَ فَهْمِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَطِيفًا ذَا وَجْهٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَأَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا لَا مُعَسِّرًا.
آدَابُ الْوَاعِظِ:
5- مِنْ آدَابِ الْوَاعِظِ وَالْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْ يَجْتَنِبَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا خِلَافَ الصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ.
مِنْ جُمْلَتِهَا: تَوَهُّمُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يُصْبِحَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَحْمَلِ الَّذِي صَحِبَهُ مَقْصُورًا.
وَمِنْهَا: وُقُوعُ النَّاسِ فِي الْوَاعِظِ بِالتَّنْقِيصِ بِكَوْنِهِ يُبَاشِرُ مَا لَا يَجُوزُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَيْهِ وَيُنَفِّرُونَ عَنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِهِ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَتَسْقُطُ رِوَايَاتُهُ وَشَهَادَاتُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ، وَيَذْهَبُ رُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَذَلِكَ لِانْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ فِيهِ الْمُقْتَضِي عَادَةً قِلَّةَ الْوُثُوقِ مِمَّنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ ظَاهِرَةٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ أَفْرَادِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ مُحِقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- لَمْ يُظْهِرْهُ خَشْيَةً مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، أَوْ أَظْهَرَهُ قَصْدًا لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ مَثَلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا، وَدَلِيلُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ «سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» وَلِحَدِيثِ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا».
وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِتَبْلِيغِ شَرْعِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّ فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ نَهْيَهُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ.
مَنْعُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوَعْظِ مِنَ الْوَعْظِ:
6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِلْوَعْظِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ كَانَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ.
أَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ إِظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِلْكَافَّةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ حَوَالَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْعُوظُ
7- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِ مَا يَلِي:
أ- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ لِلْوَعْظِ أَنْ يُنْصِتُوا لِلْوَاعِظِ وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُنْصِتُوا فَلِلْوَاعِظِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى وَعْظِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ وُصُولِ الْوَعْظِ إِلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ.فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَكَانِتُ الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ- صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْصَاتِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُ الْعِلْمِ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْإِنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ.
ب- وَمِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْوَاعِظَ.
ج- وَمِنْ آدَابِهِمْ أَنْ لَا يَلْعَبُوا وَلَا يَلْغَطُوا أَثْنَاءَ الْوَعْظِ.
د- مِنْ آدَابِهِمْ أَلاَّ يُكْثِرُوا السُّؤَالَ مِنَ الْوَاعِظِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ إِذَا عَرَضَ خَاطِرٌ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقًا قَوِيًّا أَوْ كَانَ دَقِيقًا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَهْمُ الْعَامَّةِ فَلْيَسْكُتِ الْمَوْعُوظُ عَنْهُ فِي الْمَجْلِسِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ كَتَفْصِيلِ إِجَمَالٍ، وَشَرْحِ غَرِيبٍ فَلْيَنْتَظِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: أُسْلُوبُ الْوَعْظِ وَمَنْهَجُهُ:
يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ:
8- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُوَضِّحَ الْكَلَامَ بِاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَاجْتِنَابِ الْغَرِيبِ مِنَ الْكَلِمَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْعُوظِ، وَعَدَمِ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَى الْمَوْعُوظِ فَهْمُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَاطِبُ كُلًّا بِقَدْرِ فَهْمِهِ وَعَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ نَقْلًا عَنِ السَّخَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: «كَلَامًا فَصْلًا» أَيْ مَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ مَعَ اخْتِصَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ مَفْصُولًا عَنِ الْبَاطِلِ وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يسْمَعُهُ» أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ.
ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:
9- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِمَدْلُولِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْجُمْلَةَ وَالْجُمَلَ مِمَّا لَا يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ الْكُلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ.
ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:
10- يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْلُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَا يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ.
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
رَابِعًا: الِاقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:
11- يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِمْلَالِ وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَالِ، لِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلًا جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ».
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالْإِطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَلَّ وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ.
12- وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُولِ، وَلَا يَعِظُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَا يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.
وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:
13- عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَالِ الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ:
فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنها- قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ: وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ- حِينَئِذٍ- ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ.
14- وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْلِ وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لَا الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ.
سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:
15- قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْآمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَلُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّلُ شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ...».
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْسَى الْعَمَلَ بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.
الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.
.الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:
لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
أ- وَعْظُ الزَّوْجَةِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (نُشُوز ف14).
وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا.
ب- وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:
17- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الْأُولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَالُ الْأُخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».
وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَيُقَالُ لَهُمَا كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ».
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُولُ لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي قِصَّةِ هِلَالٍ قَالَ: «فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهَا فَوَعَظَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ».
ج- الْوَعْظُ قَبْلَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَعْظُ النَّاسِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِالْخَيْرِ، وَأَمْرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَبِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاء ف9 وَمَا بَعْدَهَا).
د- الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
19- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ وَيُكَبِّرُوا وَيَتَصَدَّقُوا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.
وَنَصُّ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبَلَ النَّاسِ، وَإِذَا دَعَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ وَالتَّكْبِيرُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَرْكَانِ.
(ر: صَلَاةُ الْكُسُوفِ ف7)
هـ- وَعْظُ السُّلْطَانِ:
20- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ عَادِلًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَعْظِ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ جَائِرًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.
وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ تَخْشِينَ الْقَوْلِ لَهُ كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ، يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ.أَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرُّ لَا يَعُودُ إِلاَّ عَلَى الْوَاعِظِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أَوْجَبُ مَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَنْ وَاكَلَهُمْ وَجَالَسَهُمْ وَكُلُّ مَنْ أَمْكَنُهُ نُصْحُ السُّلْطَانِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنْ يَسْمَعَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِزِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لقوله تعالى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُوسَى وَهَارُونَ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إِلَى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}.أَيْ كَنِّيَاهُ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فِي خِطَابِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَلَامِهِ.
و- وَعَظُ الْبُغَاةِ:
21- إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَى الْبُغَاةِ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ فَأَبَوُا الرُّجُوعَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَعْظِهِمْ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ الْبُغَاةِ وَتَخْوِيفِهِمُ الْقِتَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- إِلَى أَهْلِ حَرُورَا حَتَّى نَاظَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ وَعْظِهِمْ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَتَحْسِينَ اتِّحَادِ كَلِمَةِ الدِّينِ لَهُمْ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ.
(ر: بُغَاة ف10).
التَّكَسُّبُ بِالْوَعْظِ:
22- لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ سُؤَالُ النَّاسِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
حُضُورُ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً وَذَلِكَ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.
أَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَهُنَّ حُضُورُ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَذَلِكَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ فَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
H
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
42-المعجم الغني (إِتْرَاحٌ)
إِتْرَاحٌ- [ترح]، (مصدر: أَتْرَحَ)، "تَعَمَّدَ إِتْرَاحَهُ بِأَخْبَارِ السُّوءِ": إِحْزَانَهُ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
43-المعجم الغني (أَتْرَحَ)
أَتْرَحَ- [ترح]، (فعل: رباعي. متعدٍّ)، أَتْرَحَ، يُتْرِحُ، المصدر: إِتْرَاحٌ. "أَتْرَحَهُ بِأَخْبَارٍ السُّوءِ": أَحْزَنَهُ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
44-المعجم الغني (أسَاسٌ)
أسَاسٌ- الجمع: أُسُسٌ. [أسس]:1- "وَضَعُوا أَسَاسَ الجِدَارِ": أَصْلَهُ، دِعَامَتَهُ، قَاعِدَتَهُ. "أسَاسُ البِنَاءِ" "أَسَاسُ العَمَلِ الصِّدْقُ".
2- "جَاءَ بِأخْبَارٍ لَا أَسَاسَ لَهَا مِنَ الصِّحَّةِ": غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِهَا.
3- "عَلَى أَسَاسِ تَجْرِبَتِهِ أَخْبَرْتُهُ": بِنَاءً عَلَى..
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
45-المعجم الغني (أَشْجَى)
أَشْجَى- [شجي]، (فعل: رباعي. متعدٍّ، مزيد بحرف)، أَشْجَى، يُشْجِي، المصدر: إِشْجاءٌ.1- "أَشْجَى الرَّجُلَ بِأَخْبارِ السُّوءِ": أَحْزَنَهُ، أَغَمَّهُ.
2- "أَشْجى الحاضِرينَ بِأَغانيهِ": أَطْرَبَهُمْ.
3- "أَشْجى الدَّائِنَ عَنْهُ": أَعْطاهُ شَيْئًا أَرْضاهُ بِهِ لِيَتْرُكَهُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
46-المعجم الغني (أَطْرَفَ)
أَطْرَفَ- [طرف]، (فعل: رباعي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، أَطْرَفْتُ، أُطْرِفُ، أَطْرِفْ، المصدر: إِطْرافٌ.1- "أَطْرَفَ الْمُتَحَدِّثُ": أَتَى بِطُرْفَةٍ مُسْتَمْلَحَةٍ أو بِحَديثٍ مُسْتَحْسَنٍ.
2- "أَطْرَفَهُ بِهَدِيَّةٍ": أَتْحَفَهُ بِها.
3- "أَطْرَفَ الرَّجُلُ": طابَقَ بَيْنَ جَفْنَيْهِ.
4- "أَطْرَفَ الحَديثَ بِأخْبارٍ جديدَةٍ": أَلْحَقَهَا بِهِ.
5- "أَطْرَفَ الثَّوْبَ": جَعَلَهُ مُطْرِفًا.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
47-المعجم الغني (فود)
إفَادَةٌ- [فود/فيد]، (مصدر: أفَادَ):1- "أدْلَى الشَّاهِدُ بِإفَادَةٍ كَاذِبَةٍ": بِمَعْلُومَاتٍ، بِأخْبَارٍ.
2- "كَانَتْ إفَادَتُهُ كَبِيرَةً مِنْ قِرَاءتِهِ": التَّوْظِيفُ، الاسْتِعْمَالُ، الاِسْتِخْدَامُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
48-المعجم الغني (تَقْنيطٌ)
تَقْنيطٌ- [قنط]، (مصدر: قَنَّطَ)، "تَعَمَّدَ تَقْنيطَهُ بِأَخْبارٍ سَيِّئَةٍ": جَعْلَهُ يَقْنَطُ وَيَيْأَسُ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
49-المعجم الغني (فَرَّحَ)
فَرَّحَ- [فرح]، (فعل: رباعي. متعدٍّ)، فَرَّحْتُ، أُفَرِّحُ، فَرِّحْ، المصدر: تَفْرِيحٌ. "فَرَّحَهُ بِأَخْبَارٍ سَارَّةٍ": سَرَّهُ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
50-المعجم الغني (مُرَاسِلٌ)
مُرَاسِلٌ(مُرَاسِلَةٌ )- الجمع: (مُرَاسِلُونَ، مُرَاسِلَاتٌ ). [رسل]، (اسم فاعل مِنْ: رَاسَلَ):1- "مُرَاسِلُ الإِدَارَةِ": مَنْ يَتَكَلَّفُ بِتَوْصِيلِ الْمُرَاسَلَاتِ وَالنَّشَرَاتِ بَيْنَ مُوَظَّفِي الإِدَارَةِ الوَاحِدَةِ.
2- "مُرَاسِلُ الجَرِيدَةِ": هُوَ الصَّحَفِيُّ الَّذِي يُزَوِّدُ جَرِيدَتَهُ بِأَخْبَارٍ وَمَعْلُومَاتٍ مِنْ مِنْطَقَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
51-طِلبة الطلبة (بشر)
(بشر):وَاسْتَحْكَمَ مَنْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ كَذَا الْبَشَارَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا الْبُشْرَى وَهِيَ اسْمٌ مِنْ بَشَرَهُ بَشْرًا مِنْ حَدِّ دَخَلَ وَبَشَّرَهُ تَبْشِيرًا كَذَلِكَ وَبَشِرَ مِنْ حَدِّ عَلِمَ أَيْ اسْتَبْشَرَ بَشَرًا بِالْفَتْحِ فَهُوَ بَشِرٌ بِالْكَسْرِ وَالْبِشَارَةُ كُلُّ خَبَرٍ سَارٍّ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخْبَرِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ هِيَ الْخَبَرُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي بَشَرَةِ الْمُخْبَرِ وَهِيَ ظَاهِرُ جِلْدِهِ بِالسُّرُورِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَقَدْ يَقَعُ الْبِشَارَةُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ لِمَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ أَيْضًا بِالْحُزْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م
52-تاج العروس (بنك)
[بنك]: البُنْكُ بالضم أَصْلُ الشيءِ وهو مُعَرَّبٌ يُقالُ: هؤلاء من بُنْكِ الأَرْض كما في الصِّحَاحِ. وقالَ الليْثُ: تقُولُ العَرَبُ كَلِمَة كأنَّها دَخِيل، تقُولُ: رَدَّه إلى بَنْكِه الخَبِيْث؛ تُرِيدُ بهِ أَصْلَه، قالَ الأَزْهَرِيُّ: البُنْكُ بالفارِسِيَّةِ الأَصْل أو خالِصُهُ؛ قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: كَلَامٌ عَرَبِيٌّ صَحِيْحٌ.والبُنْكُ: الساعَةُ من الليلِ وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: البُنْكُ طيبٌ معروف مَعْرُوفٌ عَرَبِيٌّ صَحِيْح؛ وقالَ اللَّيْثُ: هو دخيل وتَبَنَّكَ به أي بمَوْضِعِ كذَا أقامَ به وتأهَّلَ قالَ الفَرَزْدَقُ يَهْجُو عُمَر بن هُبَيْرَة:
تَبَنَّكَ بالعِرَاقِ أبو المُثَنَّى *** وعَلَّم قَوْمَه أَكْل الخَبِيْصِ
وأبو المُثَنَّى: كنْيَةُ المُخَنَّثِ. وتَبَنَّكَ في عِزِّه أي تَمَكَّنَ يُقالُ: تَبَنَّكَ فلانٌ في عِزّ رَاتِبِ.
وبَانَكُ كهَاجَرَ هكذَا ضُبِطَ في العُبَابِ، وقَيَّدَه يَاقُوتُ بضَمِّ النونِ فيكون نَظِيْرَ كَابُلٍ وآنُكٍ وآشُدٍ وآجرٍ قرية بالرَّيِّ نُسِبَ إليها بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ. وبانَكُ جَدُّ سعِيدِ بنِ مُسْلِمٍ المَدَنيُّ شَيْخُ القَعْنَبِيِّ نَقَلَه الحافِظُ.
قُلْتُ: ومُسْلمِ بنُ بانَك أَوْرَدَه ابنُ حَبَّان في ثِقَاتِ التَّابِعِيْن رَوَى عَنِ ابنِ عُمَرٍ وعائِشَة، وعَنْه ابنُه سَعِيْد بن مُسْلم. والبُنْبُكُ كقُنْفُذٍ هكذَا ضَبَطَه ابنُ عَبَّادٍ ووَقَعَ في نُسَخِ المُحِيْطِ هكذَا بضَبْطِ القَلَمِ، قالَ الصَّاغَانِيُّ: وسَمَاعِي هذا الاسْمَ مِنْ سَنَةِ تِسْع وسِتَّمائة بفَتْحِهما مِثْل جَنْدَلٍ قالَ ابنُ عَبَّادٍ: دابةٌ مِنْ دَوَاب الماءِ كالدُّلْفِينِ أو سَمَكٌ عظيمٌ يَقْطَعُ الرجُلَ نِصْفَيْنِ في الماءِ فَيَبْلَعُه قالَ الصَّاغَانيُّ: وقَدْ رَأَيْتُ هذه السَّمَكَةِ بمَقْدَشُوه، وقَدْ قَطَعَ الغَوَّاص بنِصْفَيْنِ وابْتَلَع نِصْفَهُ، وطفا نِصْفُه الآخَرُ فَوْقَ الماءِ فاحْتَالَ أَهْلُ البَلَدِ واصْطَادُوه ووَجَدُوا نِصْفَ ذلِكَ الغَوَّاص في بَطْنِه بحالِهِ. والبابونَكُ الأُقُحَوانُ وهو البَابُونَجُ قالَ الصَّاغَانيُّ: هو دَخِيلٌ. وقالَ الفَرَّاءُ في نَوادِرِه: التَبْنيكُ أن تَخْرُجَ الجاريتانِ كلٌّ من حَيِّها فَتُخْبِرُ كُلُّ واحِدَةٍ صاحِبَتَها بأخْبارِ أهْلِها وويُقالُ: اذْهَبِي فَبنِّكِي حاجَتَنا أي اقْضِيها هذه تَتِمَّة عِبَارَةِ النَّوَادِر وليْسَ فيها اقْضِيها.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:
البُنْك: هو البنج مُعَرَّبة وأَنْشَدَ ابنُ بُزُرْجَ:
وصاحِبٍ صاحَبْتُه ذِي مَأْفَكَهْ *** يَمْشِي الدَّوالَيكَ ويَعْدُو البُنَّكَهْ
كأنَّه يَطْلُبُ شَأْوَ البَرْوكَهْ
أَرَادَ بالبُنّكَةِ ثِقَلُه إذا عَدَا، والدَّوالَيكَ: التَحَفُّز في مِشْيَتِه إذا حَاكَ. وقالَ ابنُ شُمَيْلٍ: تَبَنَّكَ الرَّجُلُ: صَارَ لَهُ أَصْل. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: التَّبَنُّكُ كالتنَايَةِ هكذَا في أُصُولِ الصِّحَاحِ كُلُّها، قالَ ابنُ بَرِّيّ: صَوَابُهُ كالتَّنَاءَةِ والتُّنَّاءُ: المُقِيْمُونَ بالبَلَدِ وهُم كأَنَّهُم الأُصولُ فيها.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
53-تاج العروس (علم)
[علم]: عَلِمَهُ، كسَمِعَهُ عِلْمًا، بالكسْرِ: عَرَفَهُ؛ هكذا في الصِّحاحِ وفي كثيرٍ مِن أُمَّهاتِ اللُّغَةِ.وزادَ المصنِّفُ في البصائِرِ: حَقّ المَعْرفَةِ؛ ثم قوْلُه هذا وكذا قوْلُه فيمَا بَعْدُ: وِعَلِمَ به، كسَمِعَ، شعْرٌ صَريحٌ في أَنَّ العِلْمَ والمَعْرفَةَ والشّعورَ كُلُّها بمعْنًى واحِدٍ، وأَنَّه يَتَعدَّى بنفْسِه في المعْنَى الأَوَّلِ، وبالباءِ إذا اسْتُعْمِل بمعْنَى شَعَرَ، وهو قَريبٌ مِن كَلامِ أَكْثَر أَهْلِ اللّغَةِ. والأكَثَر مِن المحقِّقِيْن يفرِّقُونَ بينَ الكلِّ. وِالعِلْمُ عنْدَهم أَعْلى الأَوْصافِ لأَنَّه الذي أَجازوا إطْلاقَه على اللهِ تعالَى، ولم يقُولوا عارِفٌ في الأَصحّ ولا شاعِرٌ. والفُروقُ مَذْكورَةٌ في مُصَنَّفاتِ أَهْلِ الاشْتِقاقِ.
ووَقَعَ خِلافٌ طَويلُ الذَّيْل في العِلْم حتى قالَ جماعَةٌ: إنَّه لا يُحَدُّ لظهورِهِ وكَوْنه مِن الضَّرُورِيَّات، وقيلَ لصُعوبَتِه وعسْرِه، وقيلَ غيرُ ذلِكَ ممَّا أَوْرَدَه بما له وعليه الإمامُ أَبو الحَسَنِ اليوسي في قانونِ العُلومِ.
وأَشارَ في الدرِّ المصونِ إلى أَنَّه إنَّما يَتَعدَّى بالباءِ لأَنَّه يُرَاعَى فيه أَحْيانًا معْنَى الإِحاطَةِ؛ قالَهُ شيْخُنا.
قلْتُ: وقالَ الرَّاغِبُ: العِلْمُ إدْراكُ الشيءِ بحَقِيقَتِه وذلِكَ ضَرْبان: إدْراكُ ذات الشيءِ، والثاني: الحُكْمُ على الشيءِ بوُجودِ شيءٍ هو مَوْجودٌ له، أَو نَفْيُ شيءٍ عنه. فالأوَّلُ هو المُتَعدِّي إلى مَفْعولٍ واحدٍ نحْو قوْلِهِ تعالَى: {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}؛ والثاني إلى مَفْعولَيْن نحْوَ قوْلِهِ تعالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ}.
قالَ: وِالعِلْمُ مِن وَجْه ضَرْبان: نَظَريٌّ وعَمَليٌّ؛ فالنَّظَريُّ ما إذا عُلِمَ فقد كَمَلَ نحْو العِلْم بمَوْجُوداتِ العالَمِ، والعَمَليُّ ما لا يتمُّ إلَّا بأنْ يعلمَ كالعلْمِ بالعِبادَاتِ. ومِن وَجْهٍ آخَر ضَرْبان: عَقْليٌّ وسَمْعيٌّ انتَهَى.
وقالَ المَناوِيُّ في التَّوقيفِ: العلْمُ هو الاعْتِقادُ الجازِمُ الثابِتُ المُطابقُ للواقِعِ، أَو هو صفَةٌ تُوجبُ تَمْييزًا لا يَحْتَملُ النَّقِيضَ، أَو هو حصولُ صُورَةِ الشيءِ في العقْلِ؛ والأَوَّلُ أَخَصّ.
وفي البَصائِرِ: المَعْرفَةُ إدْراكُ الشيءِ بتفَكّرٍ وتَدَبّرٍ لأَثَرِه وهي أَخَصُّ مِن العلْمِ، والفرْقُ بَيْنها وبينَ العلْمِ مِن وُجُوهٍ لَفْظًا ومعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ ففعْلُ المَعْرفَةِ يقَعُ على مَفْعولٍ واحِدٍ وفعْلُ العلْمِ يَقْتضِي مَفْعولَيْن، وإذا وَقَعَ على مَفْعولٍ كانَ بمعْنَى المَعْرفَةِ؛ وأَمَّا مِن جهَةِ المعْنَى فمنْ وُجُوهٍ: أَحدُها: أَنَ المعْرفَةَ تَتَعلَّقُ بذاتِ الشيءِ وِالعِلْمَ يَتَعلَّقُ بأَحْوالِهِ؛ والثاني: أَنَّ المَعْرفَةَ في الغالِبِ تكونُ لمَا غابَ عن القلْبِ بعدَ إدْراكِهِ فإذا أَدْرَكَه قيلَ عَرَفَه بخِلافِ العلْمِ، فالمعْرِفَةُ نسْبَةُ الذّكْر النفْسِي، وهو حُضُورُ ما كانَ غائِبًا عن الذَّاكِرِ، ولهذا كان ضِدّها الإنْكارُ وضِدُّ العلْمِ الجَهْل؛ والثالِثُ: أَنَّ المَعْرفَةَ عِلْم لعَيْن الشيءِ مفصلًا عمَّا سِوَاهُ بخِلافِ العلْمِ فإنَّه قد يَتَعلَّقُ بالشيءِ مجملًا ولهم فروقٌ أُخَرُ غَيْر ما ذَكَرْنا.
وقوْلُه: وِعَلِمَ هو في نفْسِه هكذا في سائِرِ النسخِ، وصَرِيحُه أَنَّه كسَمِعَ لأنَّه لم يَضْبطْه فهو كالأوَّلِ، وعليه مَشَى شيْخُنا في حاشِيَتِه فإنَّه قالَ. وإنَّه يَتَعدَّى في المَعْنَيَيْن الأَوَّلَيْن، والصَّوابُ أَنَّه مِن حَدِّ كَرُمَ كما هو في المُحْكَمِ ونَصّه وِعلم هو نفسه وسَيَأْتي ما يدلُّ عليه مِن كَلامِ ابنِ جنيِّ قَرِيبًا.
وِرجُلٌ عالِمٌ وِعَلِيمٌ الجمع: عُلَماءُ فيهما جَمِيعًا. قالَ سِيْبَوَيْه: يقولُ عُلَماء من لا يقولُ إلَّا عالِمًا.
قالَ ابنُ جنِّي: لمَّا كانَ العِلْمُ قد يكون الوَصْفَ به بعدَ المُزاوَلَةِ له وطُولِ المُلابَسَةِ صارَ كأَنَّه غَريزةٌ، ولم يكنْ على أَوَّلِ دُخولِهِ فيه، ولو كانَ كَذلِكَ لكانَ مُتَعلِّمًا لا عالِمًا، فلمَّا خَرَجَ بالغَريزَةِ إلى بابِ فَعُل صارَ عالمٌ في المعْنَى كعَلِيمٍ، فكُسِّرَ تَكْسيرَه، ثم حملُوا عليه ضدَّه فقالوا جُهَلاء كعُلَماء، وصارَ عُلَماءُ كَحُلَماء لأَنَّ العِلْمَ مَحْلَمةٌ لصاحِبِه، وعلى ذلِكَ جاءَ عنهم فاحِشٌ وفُحَشاء لَمَّا كان الفُحْشُ مِن ضُروبِ الجَهْلِ ونَقِيضًا للحِلْم، فتأَمَّل ذلِكَ.
قالَ ابنُ بَرِّي: وِيقالُ في جَمْعِ عالِمٍ عُلَّامٌ أَيْضًا كجُهَّالٍ في جاهِلٍ؛ قالَ يَزيدُ بنُ الحَكَم:
وِمُسْتَرِقُ القَصائِدِ والمُضاهِي *** سَواءٌ عندَ عُلَّام الرِّجالِ
وِعَلَّمَهُ العِلْمَ تَعْلِيمًا وعِلَّامًا ككذَّابٍ، فتَعَلَّم، وليسَ التَّشْديدُ هنا للتَّكْثيرِ كما قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، وِأَعْلَمَهُ إيَّاه فَتَعَلَّمَهُ، وهو صَرِيحٌ في أَنَّ التَّعْليمَ والإعْلامَ شيءٌ واحدٌ، وفَرَّقَ سِيْبَوَيْه بَيْنهما فقالَ: عَلِمْتُ كأَذِنْتُ، وِأَعْلَمْت كآذَنْت.
وقالَ الرَّاغبُ: إلَّا أَنَّ الإعْلامَ اخْتَصَّ بمَا كان بإِخْبارٍ سرِيعٍ، وِالتَّعْليم اخْتَصَّ بمَا يكونُ بتَكْريرٍ وتَكْثيرٍ حينَ يحْصَلُ منه أَثَرٌ في نفْسِ المُتَعَلِّمِ.
وقالَ بعضُهم: التَّعْليمُ تَنْبِيهُ النفَسِ لتَصوّرِ المَعاني، وِالتَّعَلُّم تنبه النَّفْسِ لتَصَوّرِ ذلِكَ، ورُبَّما اسْتُعْمِل في معْنَى الإعْلامِ إِذا كان فيه تَكْثيرٌ نحْو قوْلِهِ تعالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ}.
قالَ: وِتَعْلِيم آدَمَ الأَسْماء هو أَنْ جَعَلَ له قُوَّةً بهَا نَطَقَ ووَضَعَ أَسْماءَ الأَشْياءِ، وذلِكَ بإلْقائِهِ في رَوْعِه، وِكتَعْلِيمه الحَيوانَاتِ كلّ واحِدٍ منها فِعْلًا يَتَعاطَاهُ وصَوْتًا يَتَحرَّاهُ.
وِالعَلَّامَةُ، مُشَدَّدَةً، وعليه اقْتَصَر الجَوْهَرِيُّ، وِالعَلَّامُ، كشَدَّادٍ وزُنَّارٍ، نَقَلَهما ابنُ سِيْدَه، والأَخيرُ عن اللّحْيانيّ، وِالتِّعْلِمَةُ كزِبْرِجَةٍ، والتِّعْلامَةُ، بالكسْرِ أَيْضًا: العالِمُ جِدًّا، هكذا قالَ الجوْهَرِيُّ زادُوا الهاءَ للمُبالَغَةِ كأَنَّهم يُريدُونَ به داهِيَة، اه، مِن قوْمٍ عَلَّامِيْن وعُلَّامِيْن.
وقالَ ابنُ جنيِّ: رجُلٌ عَلَّامَةٌ، وامْرأَةٌ عَلَّامَةٌ، لم تَلْحقِ الهاءُ لتَأْنيثِ المَوْصُوفِ بمَا هي فيه، وإنَّما لَحِقَتْ لإِعْلامِ السامِعِ أَنَّ هذا المَوْصوفَ بمَا هي فيه قد بَلَغَ الغايَةَ والنِّهايَةَ، فجعلَ تأْنِيثَ الصِّفَةِ أَمارةً لمَا أُرِيدُ مِن تأْنِيثِ الغايَةِ والمُبالغَةِ، وسَواءٌ كانَ المَوْصُوفُ بتِلْكَ الصِّفَةِ مُذَكَّرًا أَو مُؤَنّثًا يدلُّ على ذلِكَ أَنَّ الهاءَ لو كانَتْ في نحْوِ امْرأَةٍ عَلَّامَةٍ وفَرُوقَة ونحْوه إِنَّما لَحِقَتْ لأَنَّ المرْأَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تحْذَفَ في المُذَكَّرِ فيقالُ رَجُلٌ فَروقٌ، كما أَنَّ الهاءَ في قائمةٍ وَظَرِيفَةٍ لمَّا لَحِقَتْ لتَأْنيثِ المَوْصُوفِ حُذِفت مع تَذْكِيرِه في نحْو رَجُل قائِم وظَرِيف، وهذا واضِحٌ.
وِالعَلَّامَةُ والعَلَّامُ: النَّسَّابةُ وهو مِن العِلْمِ.
وِعالَمَهُ فَعَلَمَهُ، كنَصَرَهُ، غَلَبَهُ عِلْمًا؛ أَي كانَ أَعْلَمَ منه وحَكَى اللَّحْيانيُّ: ما كُنْت أُرَاني أَنْ أَعْلَمَه.
قالَ الأزْهَرِيُّ: وكذلِكَ كلُّ ما كانَ مِن هذا البابِ بالكسْرِ في يَفْعِلُ فإنَّه في بابِ المُبالَغَةِ يَرْجع إلى الرَّفْعِ كضَارَبْتُه فضَرَبْته أَضْرُبُه.
وِعَلِمَ به، كسَمِعَ: شَعَرَ. يقالُ: ما عَمِلْتُ بخَبرِ قُدُومِه أَي ما شَعَرْت.
وِعَلمَ الأَمْرَ إذا أَتْقَنَهُ كتَعَلَّمَهُ، وقد مَرَّ عن بعضِهم أَنَّ التَّعلمَ هو تنبه النفْسِ لتَصَورِ المَعاني.
وقالَ يَعْقوبُ: إذا قيلَ لَكَ اعْلَمْ كذا قُلْتَ قد عَلِمْتُ، وإذا قيلَ لَكَ تَعَلَّمْ كذا لم تَقُلْ قد تَعَلَّمْتُ؛ وأَنْشَدَ:
تَعَلَّمْ أَنَّهُ لا طَيْرَ إِلَّا *** عَلى مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُور
وقالَ ابنُ بَرِّي: لا يُسْتَعْمَل تَعَلَّمْ بمعْنَى اعْلَمْ إِلَّا في الأَمْرِ؛ ومنه حدِيْثُ الدَّجَّالِ: «تَعَلَّمُوا أَنَّ رَبَّكُم ليسَ بأَعْورٍ».
قالَ: واسْتُغْني عن تَعَلَّمْتُ بعَلِمْتُ. وِالعُلْمَةُ، بالضمِّ، وِالعَلَمَةُ وِالعَلَمُ، محرَّكتينِ: شَقٌّ في الشَّفَةِ العُلْيا أَو في إحْدَى، كذا في النسخِ، وصَوابُه: في أَحَدِ، جانِبَيْها، وقيلَ: هو أَنْ ينشقَّ فيَبِيْنَ؛ وقد عَلِمَ، كفَرِحَ، عَلَمًا، فهو أَعْلَمُ، وهي عَلْماء، ومِن ذلِكَ يقالُ للبَعيرِ: أَعْلَمُ لعَلَمٍ في مِشْفَرِه الأَعْلَى، وإن كانَ الشّقّ في الشَّفَةِ السُّفْلَى فهو أَفلح، وفي الأَنْفِ أَخْرَمُ، وفي الأُذُنِ أَخْرَبُ، وفي الجَفْن أَشْتَرُ، ويقالُ: فيه كلِّه أَشْرَمُ؛ ومنه قولُ الزَّمَخْشريّ:
أَنا الميم والأَيام أَفلح أَعلم
وِعَلَمَهُ، كنَصَرَهُ وضَرَبَهُ، عَلْمًا: وَسَمَهُ. ويقالُ: عَلَمْتُ عِمَّتي أَعْلِمُها عَلْمًا، وذلِكَ إذ لُثْتَها على رأْسِك بعَلامَةٍ تُعْرَفُ بها عِمَّتُكَ؛ قالَ:
وِلَئنَ السُّبُوبَ خِمْرَةً قُرَشيَّةً *** دُبَيْرِيَّةً يَعْمِلْنَ في لوْثِها عَلْما
وِعَلَمَ شَفَتَهُ يَعْلِمُها عَلْمًا: شَقَّها، فهو أَعْلَمُ والشَّفَةُ عَلْماء.
وِأَعْلَمَ الفَرَسَ إِعْلامًا: عَلَّقَ عليه صُوفًا مُلَوَّنًا أَحْمَر وأَبْيض في الحَرْبِ.
وِأَعْلَمَ نفْسَهُ إذا وَسَمَها بسِيما الحَرْبِ إذا عُلِمَ مَكانُه فيها؛ وِأَعْلَمَ حَمْزةُ يومَ بَدْرٍ، ومنه قوْلُه:
فَتَعَرَّفوني أَنَّني أَنا ذاكُمُ *** شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعْلِمُ
وقالَ الأَخْطَلُ:
ما زالَ فينا رِباطُ الخَيْلِ مُعْلِمَةً *** وِفي كُلَيْبٍ رِباطُ اللُّؤْمِ والعارِ
هكذا رُوِى بكسْرِ اللامِ، كعَلَّمَها تَعْلِيمًا.
وِالعَلامَةُ: السِّمَةُ، كالأُعْلُومةِ، بالضمِّ، عن أَبي العَمَيْثَلِ الأعْرَابيِّ. يقالُ: بينَ القَوْمِ أُعْلُومةَ أَي عَلامَةٌ، الجمع: أَعْلامٌ، وهو مِنَ الجَمْعِ الذي لا يُفارِقُ واحِدَه إلَّا بإلْقاءِ الهاءِ، قالَ عامِرٌ بنُ الطُّفَيْلِ:
عَرَفْتَ بجَوِّ عارِمَةَ المُقاما *** بسَلْمَى أَو عَرَفْت بها عَلاما
وأَمَّا جَمْعُ الأُعْلُومَةِ فأَعالِيمُ كأَعاجِيبَ.
وِالعَلامَة: الفصلُ يكونُ بينَ الأَرْضَيْنِ.
وِأَيْضًا: شيءٌ مَنْصوبٌ في الطَّريقِ، ونَصُّ المُحْكَمِ: في الفَلواتِ، يُهْتَدَى به، ونَصُّ المحْكَمِ: تَهْتَدِي به الضَّالَّةُ، كالعَلَمِ فيهما بالتَّحريكِ.
ويقالُ لمَا يُبْنَى في جَوادِّ الطَّريق مِن المَنازِل يَسْتدلُّ بها على الأَرْضِ: أَعْلامٌ، واحِدُها عَلَمٌ.
وِأَعْلامُ الحَرَمِ: حُدُودُه المَضْروبَةُ عليه.
وِالعَلَمُ، محرَّكةً: الجَبَلُ الطَّويلُ، أَو عامٌّ، عن اللَّحْيانيِّ؛ قالَ جَريرٌ:
إذا قَطَعْنَا عَلَمًا بَدا عَلَم *** حَتَّى تناهَيْنَ بنا إلى الحَكَم
خَلِيفةِ الحجَّاجِ غَيْرِ المُتَّهَم *** في ضِئْضِئِ المَجْدِو بُؤْبُؤِ الكَرَم
الجمع: أَعْلامٌ وِعِلامٌ، بالكسْرِ؛ قالَ:
قد جُبْتُ عَرْضَ فَلاتِها بطِمِرَّةٍ *** وِاللَّيْلُ فَوْقَ عِلامِه مُتَقَوِّضُ
قالَ كُراعٌ: نَظيرُهُ جَبَلٌ وأَجْبالٌ وجِبالٌ، وجَمَلٌ وأَجْمال وجمال، وقَلَمٌ وأَقْلامٌ وقِلامٌ؛ وشاهِدُ الأَعْلامِ قوْلُه تعالَى: {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}.
وِالعَلَمُ: رَسْمُ الثَّوْبِ ورَقْمُه في أَطْرافِهِ.
وِالعَلَمُ: الرَّايَةُ التي يَجْتَمِعُ إليها الجُنْدُ. وِقيلَ: هو ما يُعْقَدُ على الرُّمْحِ وإِيَّاه عَنَى أَبو صَخْرٍ الهُذَليُّ مُشْبعًا الفتْحَة حتى حَدَثَتْ بعدَها أَلِف في قوْلِهِ:
يَشُجُّ بها عَرْضَ الفَلاةِ تَعَسُّفًا *** وِأَمَّا إذا يَخْفى مِنَ ارْضٍ عَلامُها
قالَهُ ابنُ جنيِّ.
وِمِن المجازِ: العَلَمُ سَيِّدُ القوْمِ، الجمع: أَعْلامٌ مَأْخوذٌ مِن الجَبَلِ أَو الرَّايَةِ.
وِمَعْلَمُ الشَّيءِ كمَقْعَدٍ: مَظِنَّتُه. يقالُ: هو مَعْلَمٌ للخَيْرِ مِن ذلِكَ.
وِالمَعْلَمُ: ما يُسْتَدَلُّ به على الطَّريقِ مِنَ الأَثَرِ؛ ومنه الحدِيْثُ: «تكونُ الأَرْضُ يومَ القِيامَةِ كقُرْصَة النَّقيِّ ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأَحدٍ»، والجَمْعُ المَعالِمُ؛ كالعُلَّامَةِ، كرُمَّانَةٍ.
وِالعَلْمُ، بالفتْحِ، وعلى الأَخيرِ قِراءَةُ مَنْ قَرَأَ: وإِنَّه لَعَلْمٌ للسَّاعةِ؛ أَي أَنَّ ظُهورَ عيسَى ونُزولَه إلى الأَرْضِ عَلامَةٌ تدلُّ على اقْتِرابِ السَّاعَةِ وِالعالَمُ بفتْحِ اللَّامِ وإنَّما لم يضْبطْه لشُهْرته.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ هو اسْم بُنِي على مِثَالِ فاعَلٍ كخاتَمٍ وطابَقٍ ودانَقٍ انتَهَى. وحَكَى بعضُهم الكَسْرَ أَيْضًا كما نَقَلَه شيْخُنا وكان العجَّاج يَهْمِزُه؛ الخَلْقُ، كما في الصِّحاحِ، زادَ غيرُهُ: كُلُّهُ، وهو المَفْهومُ مِن سِياقِ قتادَةَ؛ أَو ما حَواهُ بَطْنُ الفَلَكِ مِن الجَواهِرِ والأَعْراضِ، وهو في الأَصْلِ اسْمٌ لمَا يُعْلَم به، كالخاتَمِ لمَا يُخْتَم به. فالعالَمُ آلَةٌ في الدَّلالَةِ على مُوجدِه، ولهذا أَحالَنا عليه في مَعْرفَةِ وحْدَانِيَّتِه فقالَ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وقالَ جَعْفَر الصادِقُ: العالَمُ عَالَمانِ: كَبيرٌ وهو الفَلَكُ بما فيه، وصَغيرٌ وهو الإنْسانُ لأَنَّه على هَيْئةِ العالَمِ الكَبيرِ وفيه كلُّ ما فيه.
قلْتُ: وإِليه أَشارَ القائِلُ:
أَتَحْسَب أَنَّكَ جرمٌ صَغيرٌ *** وِفيك انْطَوَى العالَم الأَكْبَر
وقالَ شيْخُنا: سُمِّي الخَلْق عالمًا لأنَّه عَلامَةٌ على الصَّانِعِ أَو تَغْلِيبًا لذوِي العْلمِ، وعلى كلٍّ هو مُشْتقٌّ مِن العلْمِ لا مِن العَلامَةِ وإن كانَ لذوي العلْم فهو مِن العلْمِ، والحقُّ أَنَّه مِن العلْمِ مُطْلقًا كما في العنايَةِ.
وقالَ بعضُ المفسِّرِين: العالَمُ ما يُعْلَم به غَلَبَ على ما يُعْلَم به الخالِقُ ثم على العُقَلاءِ مِن الثّقْلَيْن أَو الثّقَلَيْن أَو المَلِك والإنْس.
واخْتارَ السَّيِّدُ الشَّرِيف أَنَّه يُطْلَقُ على كلِّ جنْسٍ فهو للقدْرِ المُشْتَرك بينَ الأَجْناسِ فيُطْلَقُ على كلِّ جنْسٍ وعلى مَجْموعِها إلَّا أَنَّه مَوْضوعٌ للمَجْموعِ وإلَّا لم يجمَعْ، اه.
قالَ الزَّجاجُّ: ولا واحِدَ للعالَمِ مِن لَفْظِه لأَنَّ عالَمًا جَمْعُ أَشْياءٍ مُخْتَلِفَة، فإنْ جُعِل عالَمٌ اسْمًا لواحِدٍ منها صارَ جَمْعًا لأَشْياء مُتَّفقة والجَمْعُ عالَمُونَ.
قالَ ابنُ سِيْدَه: ولا يُجْمَعُ شيءٌ على فاعِلٍ بالواوِ والنونِ غَيْرُهُ؛ زادَ غيرُهُ: وغَيْرُ ياسَمٍ واحِدُ اليَاسَمِيْن على ما سَيَأْتي.
وقيلَ: جَمْعُ العالَمِ الخَلْقِ العَوالِمُ.
وفي البَصائِرِ: وأَمَّا جَمْعُه فلأَنَّ كلَّ نَوْعٍ مِن هذه المَوْجوداتِ قد يُسَمَّى عالمًا فيقالُ عالَمُ الإنْسانِ وِعالَمُ النارِ، وقد رُوِي أَنَّ الله تعالَى بضعَةَ عَشَرَ أَلْف عالَمٍ، وأَمَّا جَمْعُه جَمْعُ السَّلامَة فلكَوْن الناس في جمْلَتِهم وِقيلَ إنَّما جمعَ به هذا الجَمْع لأَنَّه عَنى به أَصْناف الخلائِقِ مِن المَلائِكَة والجِنِّ والإنْسِ دونَ غيْرِها، رُوِي هذا عن ابنِ عبَّاسٍ. وقالَ جَعْفر الصادِقُ: عنى به الناس وجعل كلّ واحِدٍ منهم عالمًا.
قلْتُ: الذي رُوِي عن ابنِ عبَّاسٍ في تفْسيرِ: {رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ أَي رَبِّ الجِنِّ والإِنْس.
وِقالَ قتادَةُ: رَبّ الخَلْقِ كُلّهم.
قالَ الأَزْهَرِيُّ: والدَّليلُ على صحَّةِ قوْلِ ابنِ عباسٍ قوْلُه، عزّ وجلّ: {لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا} وليسَ النبيُّ صلى الله عليهوسلم، نَذِيرًا للبَهائِمِ ولا للمَلائِكَة وهُم كُلُّهم خَلْقُ اللهِ، وإِنَّما بُعِثَ نَذِيرًا للجِنِّ والإِنْسِ.
وقوْلُه: وقد رُوِي، قلْتُ: هذا قد رُوِى عن وهبِ بنِ منَبِّه أَنّه ثمانِيةُ عَشَرَ أَلفَ عالَمٍ، الدُّنْيا منها عالَمٌ واحِدٌ، وما العُمْران في الخَرابِ إلَّا كفُسْطاطٍ في صَحْراء.
وِتَعالَمَهُ الجَمِيعُ: أَي عَلِمُوهُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وِالأَيَّامُ المَعْلوماتُ: عَشْرٌ مِن ذي الحِجَّةِ آخِرُها يومُ النَّحْرِ، وقد تَقَدَّمَ تَعْلِيله في المَعْدُودات.
وِالعُلامُ، كغُرابٍ وزُنَّارٍ: الصَّقْرُ، عن ابنِ الأَعْرابيِّ، واقْتَصَرَ على التَّخْفِيفِ وبه فُسِّرَ قوْلُ زُهَيْرٍ فيمَنْ رَوَاه كذا:
حتى إذا ما رَوَتْ كَفُّ العُلامِ لها *** طارَتْ وفي كَفِّه من ريشِها بِتَكُ
قالَ ابنُ جنيِّ: رُوِي عن أَبي بكْرٍ محمد بن الحَسَنِ عن أَبي الحُسَيْن أَحْمد بن سُلَيْمان المعبدي عن ابنِ أُخْت أَبي الوَزِير عن ابنِ الأَعْرابيِّ قالَ: العُلام هنا الصَّقْرُ، قالَ: وهذا مِن طَريفِ الرِّوايَةِ وغَريبِ اللّغَةِ.
وِقيلَ: هو الباشِقُ، حَكَاه كُراعٌ، واقْتَصَرَ على التخْفِيفِ أَيْضًا.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هو بالتَّشْديدِ ضَرْبٌ مِن الجَوارِحِ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي للطَّائيّ:
............... يَشْغَلُها *** عن حاجةِ الحَيِّ عُلَّامٌ وتَحجِيلُ
وقالَ: هو الباشِقُ، إلَّا أَنَّه رَوَاه بالتّخْفِيفِ.
وَالعُلامِيُّ، بالضمِّ والتّخْفيفِ وياءِ النّسْبَةِ: الخَفيفُ الذَّكِيُّ مِن الرِّجالِ مَأْخوذٌ مِن العُلامِ.
وِالعُلَّامُ، كزُنَّارٍ: الحِنَّاءُ، رُوِي ذلِكَ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وهو الصَّحِيحُ.
وحَكَاه كُراعٌ بالتَّخْفيفِ أَيْضًا.
وِالعَلَّامُ، كشَدَّادٍ: اسمُ رجُلٍ؛ وكذا أَبو العَلَّامِ.
وِالعَيْلَمُ، كحَيْدَرٍ: البَحْرُ، والجَمْعُ العَيالِمُ.
وِالعَيْلَمُ أَيْضًا: الماءُ الذي عليه الأرضُ؛ وقيلَ: عَلَتْه الأَرْضُ وهو المُنْدَفِنُ، حَكَاه كُراعٌ.
وِأَيْضًا: النَّارُّ النَّاعِمُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وِأَيْضًا: الضِّفْدِعُ، عن الفارِسِيّ.
وِأَيْضًا: البِئْرُ، وفي الصِّحاحِ: الرَّكِيَّةُ، الكَثيرَةُ الماءِ، والجَمْعُ عَيالِيم، قالَ أَبو نُواس.
قليذم مِن العَيالمِ الخُسُفْ
أَو المِلْحَةُ مِن الرَّكَايا.
وِعَيْلَمٌ: اسْمُ رجُلٍ.
وِالعَيْلَمُ: الضَّبُعُ الذَّكَرُ كالعَيْلامِ؛ وفي خبرِ إبْراهيمَ، عليهالسلام: أَنَّه يَحْمِلُ أَباه ليَجوزَ به الصراطَ فيَنْظرُ إليه فإذا هو عَيْلامٌ أَمْدَرُ.
وِالعَلْماءُ: اسمُ الدِّرْعِ، نَقَلَه شَمِرٌ في كتابِ السِّلاحِ، قالَ: ولم أسْمَعْه إلَّا في بَيْتِ زُهَيْرٍ بنِ جَنَاب:
جَلَّحَ الدَّهْرُ فانْتَحَى لي وقِدْمًا *** كانَ يُنْحِي القُوَى على أَمْثالي
وِتصَدَّى ليَصْرَعَ البَطَلَ الأَرْ *** وَعَ بَيْنَ العَلْماءِ والسِّرْبالِ
يُدْرِكُ التِّمْسَحَ المُوَلَّعَ في اللُّجْ *** جَةِ والعُصْمَ في رُؤُسِ الجِبالِ
وِاعْتَلَمَهُ: عَلِمَهُ هو افتعل مِن العْلمِ.
وِاعْتَلَمَ الماءُ: سَالَ على الأَرْضِ.
وِكزُبَيْرٍ: عُلَيْمٌ: اسْمُ رجُلٍ، وهو أَبو بَطْنٍ هو عُلَيْمُ بنُ خباب أَخُو زُهَيْرٍ مِن بَني كَلْبِ بنِ وبرَةَ.
وِعَلَمَيْنُ العُلَماءِ: أَرْضٌ بالشامِ.
وِعَلَمُ السَّعْدِ: جَبَلٌ قُرْبَ دومةَ، ودومَةُ قد ذُكِرَ في مَوْضِعِه.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
مِن صِفاتِ اللهِ، عزّ وجلّ: العَلِيمُ وِالعالِمُ والعَلَّامُ، وهو العالِمُ بمَا كانَ وما يكونُ قَبْلَ كَوْنِه، وبمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ بعْدُ قَبْلَ أَنْ يكونَ، لم يَزَلْ عالِمًا ولا يَزالُ عالِمًا بمَا كانَ وما يكونُ، ولا تَخْفَى عليه خافِيةٌ في الأَرْضِ ولا في السَّمَاءِ، سُبْحانه وتعالَى، أَحاطَ عِلْمُه بجَمِيعِ الأَشْياء باطِنِها وظاهِرِها، دَقيقِها وجَلِيلِها على أَتَمِّ الإمْكانِ.
وِعَلِيمٌ فَعِيلٌ مِن أَبْنيَةِ المُبالَغَةِ، وقد يُطْلَقُ العلْمُ ويُرادُ به العَمَلُ وبه فَسَّر أَبو عبدِ الرَّحْمنِ المُقْرئُ قوْلُه تعالَى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ}، قالَ: لذُو عَمَلٍ، رَوَاهُ الأَزْهَرِيُّ عن سعْدِ بنِ زيْدٍ عنه، وفيه: فقلْتُ: يا أَبا عبْدِ الرَّحْمن ممَّنْ سَمِعْتَ هذا؟ قالَ: مِن ابنِ عُيَيْنَةَ، قلْتُ: حَسْبي، قالَ: وممَّا يُؤَيِّدُ هذا القَوْل ما قالَهُ بعضُهم: العالمُ الذي يَعْمَلُ بمَا يَعْلَم.
قالَ ابنُ بَرِّي: وتقولُ عَلِمَ وفَقِهَ أَي تَعَلَّم وتَفَقَّه، وِعَلُم وفَقُه أَي سادَ العُلماءَ والفُقَهاءَ.
وِالمُعَلَّمُ، كمُعَظَّمٍ: المُلْهَمُ للصَّوابِ وللخَيْرِ.
ويقالُ: اسْتَعْلَمَنِي خَبَرَ فلانٍ فأَعْلَمْتُهُ إيَّاهُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وأَجازُوا علمتني كما قالوا رَأَيْتُني وحَسِبْتُني وظَنَنْتُنِي.
ولَقِيْته أَدْنَى عِلْمٍ؛ أَي قَبْلَ كلِّ شيءٍ.
وقَدَحٌ مُعْلَمٌ، كمُكْرَمٍ: فيه عَلامَةٌ؛ قالَ عَنْترَةُ:
رَكَدَ الهَواجِرُ بالمَشُوفِ المُعْلَمِ
وِالعَلَمُ، محرَّكةً: العَلامَةُ والأَثَرُ والمَنارَةُ.
وِاعْتَلَمَ البَرْقُ: إذا لَمَعَ في العَلمِ؛ قالَ:
بَلْ بُرَيْقًا بِتُّ أَرْقُبُه *** بَلْ لا يُرى إلَّا إذا اعْتَلَمَا
وِأَعْلَمَ الثَّوْبَ: جَعَلَ فيه عَلامَةً.
وِأَعْلَمَ الحافِرُ البِئْرَ: إذا وَجَدَها كَثيرَةَ الماءِ، ومنه قوْلُ الحجَّاجِ لحافِرِ البئْرِ: أَخَسَفْتَ أَمْ أَعْلَمْتَ.
وِمَعْلَمُ الطَّريقِ: دَلالتُه.
وِأَعْلَمْتُ على مَواضِعَ كذا مِن الكِتابِ عَلامَةً.
والعُلَّامُ، كزُنَّارٍ: لُبُّ عَجَم النَّبِقِ.
وِالعَيْلَمُ: البِئْرُ الواسِعَةُ.
ورُبَّما سُبَّ الرجُلُ فقيلَ: يابْنَ العَيْلَمِ، يَذْهَبُونَ إلى سَعَتِها.
وِأَعْلَمُ وعبْدُ الأَعْلَمِ: اسْمانِ.
قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: ولا أَدْرِي إلى أَيِّ شيءٍ نُسِبَ عبْدُ الأعْلَم.
وقوْلُهم: عَلْماء بَنُو فلانٍ على الماءِ حُذِفَتِ اللامُ تَخْفِيفًا، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
والوقْتُ المَعْلومُ: القِيامَةُ.
وبَنُو عُلَيْمٍ أَيْضًا بَطْنٌ في باهِلَةَ، وهو عُلَيْمُ بنُ عَدِيِّ بنِ عَمْرِو بنِ معنٍ، منهم: نبيشةُ بنُ جندبِ بنِ كُلَيْبِ بنِ عُلَيْمٍ جَدُّ مُعاوِيَةَ بنِ بكْرِ بنِ مُعاوِيَةَ بنِ مظهرِ بنِ مُعاوِيَةَ؛ ويَحْيَى بنُ محمدِ بنِ عُلَيْمٍ العُلَيْميُّ القُرَشِيُّ، وعُمَرُ بنُ محمدِ بنِ العُلَيْم الدِّمَشْقيُّ مُحَدِّثانِ.
وأَبو بكْرٍ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرَوَيْه بنِ علم الصَّفَّار العَلَميّ إلى جَدِّه، مُحَدِّثٌ بَغْدادِيٌّ رَوَى عن عبدِ اللهِ بنِ أَحْمدَ بنِ حَنْبلٍ.
والعَلَميُّونَ بالمَغْربِ بَطْنٌ مِن العلويين نُسِبُوا إلى جَبَلِ العلم، نَزَلَ جَدُّهم هناك، وفي بيتِ المَقْدسِ إلى جَدِّهم عَلَمُ الدِّيْن سُلَيْمان الحاجِبُ وفيهم كَثْرَةٌ.
وذُو العَلَمَيْن عامِرُ بنُ سعِيدٍ لأَنَّه تَولَّى دِيوانَ الخراجِ والحَبْس للمَأْمُونِ، نَقَلَه الثَّعالبيُّ.
وعَلامَةُ، كسَحابَةٍ: بَطْنٌ مِن لخَمٍ إليه نُسِبَ القاضِي تاجُ الدِّيْن عُمَرُ بنُ عبدِ الوَهابِ بنِ خَلَفِ العلاميُّ الشافِعِيُّ المَعْروفُ بابنِ بنْت الأَعزِّ.
وِعُلَيْمُ بنُ قعيرٍ الكنْدِيُّ تابِعيٌّ عن سَلْمان، وقد ذُكِرَ في الراءِ.
وِالأَعْلَمُ: كُورَةٌ كَبيرَةٌ بينَ هَمَذَان وزَنْجان مِن نَواحِي الجِبالِ يُسَمِّيها العَجَمُ المَرْةَ وقَصَبَةُ هذه الكُورَة دَرْكَزِين منها: عبدُ الغفَّارِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الوَاحِدِ الأَعْلميُّ الفرمانيُّ فَقِيهٌ مُقِيمٌ بالمَوْصِلِ رَوَى شَيئًا مَن الحدِيْثِ.
وِالمعلوميةُ: فرقَةٌ مِن الخَوارِجِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
54-تاج العروس (بزن)
[بزن]: البِزْيَونُ، كجِرْدَحْلٍ؛ وَوَقَعَ في إصْلاحِ المنْطقِ بفتحِ الباءِ، وفي الصِّحاحِ مِثْلُ عُصفورٍ، ومِثْلُه في إصلاحِ الكاتِبِ: السُّنْدُسُ.وقالَ ابنُ بَرِّي: هو رَقيقُ الدِّيباجِ.
وقالَ غيرُهُ: بساطٌ رُوميٌّ.
وقالَ الشيخُ أَبو حيَّان: وَزْنُه فعلون فهو إذًا مُعتل وبازَنَ بالحَقِّ مُبازَنَةً: جاءَ به.
والأَبْزَنُ، مُثَلَّثَةٌ الأَوَّلِ: حَوْضٌ يُغْتَسَلُ فيه، وقد يُتَّخَذُ مِن نُحاسٍ ومِن صُفْرٍ.
وقد أَهْمَلَهُ اللَّيْثُ والجوْهرِيُّ. وقد جاءَ في شعْرٍ قدِيمٍ: قالَ أَبو دُوادٍ الإيادِيّ يَصِفُ فَرَسًا وَصَفَه بانْتِفاخِ جَنْبَيْه:
أَجْوَفُ الجَوْفِ فهو منه هَواءٌ *** مِثل ما جافَ أَبْزنًا نَجَّارُ
وجافَ: وسَّع جَوْفَه.
وقالَ ابنُ بَرِّي: الأَبْزَنُ: شيءٌ يَعْمَلْه النجَّارُ مثْل التَّابُوت، وأَنْشَدَ بيتَ أَبي دُوادٍ المَذْكُورَ، وهو فارِسِيٌّ مُعَرَّبُ آبْ زَنْ.
ووَقَعَ في التهْذِيبِ: أَوزن.
وأَهْلُ مكَّةَ يقُولُونَ بازانُ للأَبْزَنِ الذي يأْتي إليه ماءُ العَيْنِ عنْدَ الصَّفَا يُريدُونَ آبْ زَنْ، لأَنَّه شِبْهُ حَوْضٍ.
ورَأَيْتُ بعضَ العُلماءِ العَصْريينَ، كأنَّه يعْني به التَّقيَّ الفاسِيُّ، أَثْبَتَ وصَحَّحَ في بعضِ كُتبِه هذا اللَّحْنَ فقالَ: وعَيْنُ بازَانَ مِن عُيونِ مكَّةَ فنَبَّهْتُه فَتَنَبَّةَ.
قالَ شيْخُنا، رحِمَه اللهُ: المَشْهورُ عنْدَهم أَنَّ بازَانَ اسمٌ للعَيْنِ برمَّتِها في سائِرِ مَنافِذِها ولا يخصُّونَه بالمنْفَذِ الذي عنْدَ الصَّفَا فقط كما يوهمه كَلامُ المصنِّفِ، وإنَّما سَمَّى أَهْلُ مكَّةَ مُجْتَمَع الماءِ الذي بالصَّفَا والذي بالمزْدَلَفَة بازَانَ، لأَنَّ الذي عمرَهُ كانَ اسْمه بازَانَ لا إنَّهم حَرَّفُوه وتَصَرَّفُوا فيه مِن آبْ زَنْ كما زَعَمَ المصنِّفُ، رحِمَه اللهُ تعالى، لأنَّ آبْ زَنْ ظرفٌ مِن نُحاسٍ يُتَّخَذُ للمَرْضَى يَجْلِسُونَ فيه للتَّعريقِ ولا يُسَمَّى الحَوْضُ أَبْزَنَ، على أنَّ ما في الصَّفَا ليسَ حَوْضًا، بل هو مَوْضِعٌ مُنْخفضٌ يُنْزلُ فيه بالدَّرْجِ إلى أَنْ يَصِلَ النازِلُ إلى مَجْرى العَيْنِ، اخْتَرَعَ لهم ذلِكَ ليُسَهِّلَ عليهم أَخْذَ الماءِ الرَّجلُ المُسَمَّى بازَان.
قالَ النجمُ عُمَرُ بنُ فهْدٍ في كتابِهِ المسَمَّى «إتْحاف الوَرَى بأَخْبارِ أُمِّ القُرَى»: وفي سَنَةِ ستٍّ وعشْرِين وسَبْعمائَةٍ فيها عمر بازَانُ أَمِيرُ جربان نائِب السَّلْطَنَة بالعِراقَيْن عن السُّلطان أَبي سعيدٍ هذا بَعْده عَيْن عَرَفَة، وذَكَرَ ذلِكَ العلَّامَةُ القطبيّ في تارِيخِه.
والإبْزِينُ، بالكسْرِ: لُغَةٌ في الإبْزِيمِ، الجمع: أَبازِينُ، قالَ أَبو دُوادٍ في صفَةِ الخَيْلِ:
من كلِّ جَرْداء قد طارَتْ عقيقتُها *** وكلّ أَجْرَدَ مُسْتَرْخِي الأَبازِينِ
وأَبو أُمَّية عمْرُو بنُ هِشامِ بنِ بُزَيْنٍ، كزُبَيْرٍ، الحرَّانيُّ مُحَدِّثٌ رَوَى عن جَدِّه لأُمِّه عتاب بن بَشِير وابن عتيبة، وعنه النّسائيّ وأَبو عروبَةَ، وثِّقَ، ماتَ سَنَة 245، هذا هو الصَّوابُ. وسِياقُ المصنِّفِ، رحِمَه اللهُ تعالى، يَقْتَضِي أَنَّ المحدِّثَ هو أَبُوه هِشامٌ وليْسَتْ له رِوايَة فَضْلًا عن التَّحْديثِ.
ووَقَعَ في كتابِ الذَّهبيّ: أُمَيَّة بن عَمْرو بنِ هِشامٍ.
قالَ الحافِظُ: والصَّوابُ أَبو أُمَيَّة عَمْرو.
* قلْتُ: وقد ذَكَرَه في الكاشِفِ على الصَّوابِ.
وبُزانُ، كغُرابٍ: قرية بأَصْبَهانَ، منها: المُظَفَّرُ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ المُطَهّر، بنُ عبدِ الواحِدِ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الأَصْبهانيُّ. قالَ الإمامُ الذهبيُّ: هو شيخُ الرُّسَيْمِيّ والباغياني رَوَى خَبَر الوين، وأَبُوه مِن شيوخِ الخَطِيب. قالَ الحافِظُ: وعبدُ الواحِدِ بنُ المُطَهّر ابنِ عبدِ الواحِدِ المَذْكُور قَدِمَ بَغْدادَ وحدَّثَ عن أَصْحابِ الطّبْراني. وعينُ الشمْس بنْتُ الفَضْل بنِ المُطَهّر المَذْكُور، كَتَبَ عنها ابنُ عَسَاكِر في معْجمِه، وأَبو الفَرَجِ عبدُ الوَهابِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الأَصْبهانيُّ البُزانِيَّانِ المُحَدِّثانِ، حدَّثَ عن عبدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بنِ بُنْدَار.
ويُنْسَبُ إلى القَرْيَةِ المَذْكُورَة أَيْضًا: عبدُ اللهِ بنُ محمدِ ابنِ عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ الفضْلِ البُزانيُّ الكاتِبُ، عنه أَبو بكْرٍ اللباد.
وأُبْزونُ، بالضَّمِّ: شاعِرٌ عُمانِيٌّ.
وبُزانَةُ، كثُمامَةَ: قرية باسْفِرايِنَ، منها: الحُسَيْنُ بنُ محمدِ ابنِ طلْحَةَ البُزانيُّ الإسْفِراينيّ.
وبُزْيانُ، بالضَّمِّ: محلَّةٌ بمَرْوَ، هكذا في النسخ، والصَّوابُ فيه بُزنانُ بالنونِ؛ ومنها: أحمدُ بنُ مندون ابنِ سُلَيْمان، رَوَى عن الأَصْمعيّ، قالَهُ ابنُ الأَثِيرِ.
وأَمَّا بُزيانُ، بالياءِ، فقَرْيةٌ بهراةَ ومنها أَبو بكْرِ بنُ محمدٍ البُزيانيُّ كرّاميّ المَذْهَبِ تُوفي سَنَة 526.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
البَزَّانُ، كشَدَّادٍ: لَقَبُ جماعَةٍ.
وبازانُ: علمٌ.
وبوزانُ بنُ شعرٍ الرُّوميُّ سَمِعَ بالمَوْصِلِ وبَغْدادَ، ماتَ سَنَة 622؛ ذَكَرَه ابنُ نُقْطَة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
55-لسان العرب (قسم)
قسم: القَسْمُ: مَصْدَرُ قَسَمَ الشيءَ يَقْسِمُه قَسْمًا فانْقَسَمَ، وَالْمَوْضِعُ مَقْسِم مِثَالُ مَجْلِسٍ.وقَسَّمَه: جزَّأَه، وَهِيَ القِسْمَةُ.
والقِسْم، بِالْكَسْرِ: النَّصِيبُ والحَظُّ، وَالْجَمْعُ أَقْسَام، وَهُوَ القَسِيم، وَالْجَمْعُ أَقْسِماء وأَقَاسِيمُ، الأَخيرة جَمْعُ الْجَمْعِ.
يُقَالُ: هَذَا قِسْمُك وَهَذَا قِسْمِي.
والأَقاسِيمُ: الحُظُوظ الْمَقْسُومَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَالْوَاحِدَةُ أُقْسُومَة مِثْلُ أُظفُور.
وأَظافِير، وَقِيلَ: الأَقَاسِيمُ جَمْعُ الأَقْسَام، والأَقْسَام جَمْعُ القِسْم.
الْجَوْهَرِيُّ: القِسْم، بِالْكَسْرِ، الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلُ طَحَنْت طِحْنًا، والطِّحْنُ الدَّقيق.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا}؛ هِيَ الْمَلَائِكَةُ تُقَسِّم مَا وُكِّلت بِهِ.
والمِقْسَمُ والمَقْسَم: كالقِسْم؛ التَّهْذِيبُ: كَتَبَ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه أَنشد:
فَما لكَ إِلَّا مِقْسَمٌ لَيْسَ فائِتًا ***بِهِ أَحدٌ، فاسْتَأْخِرَنْ أَو تقَدَّما
قَالَ: القِسْم والمِقْسَم والقَسِيم نَصِيبُ الإِنسان مِنَ الشَّيْءِ.
يُقَالُ: قَسَمْت الشَّيْءَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وأَعطيت كُلَّ شَرِيكٍ مِقْسَمه وقِسْمه وقَسِيمه، وَسُمِّي مِقْسم بِهَذَا وَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ.
وَحَصَاةُ القَسْم: حَصَاةٌ تُلْقَى فِي إِناء ثُمَّ يُصَبُّ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَغمر الْحَصَاةَ ثُمَّ يَتَعَاطَوْنَهَا، وَذَلِكَ إِذا كَانُوا فِي سفَر وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ إِلا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَيُقَسِّمُونَهُ هَكَذَا.
اللَّيْثُ: كَانُوا إِذا قَلَّ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ فِي الفلَوات عَمدوا إِلى قَعْب فأَلقوا حَصَاةً فِي أَسفله، ثُمَّ صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَغْمُرُهَا وقُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الحصاةُ المَقْلَةَ.
وتَقَسَّمُوا الشَّيْءَ واقْتَسَمُوه وتَقَاسَمُوه: قَسَمُوه بَيْنَهُمْ.
واسْتَقسَمُوا بالقِداح: قَسَمُوا الجَزُور عَلَى مِقدار حُظوظهم مِنْهَا.
الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ}، قَالَ: مَوْضِعُ أَن رَفْعٌ، الْمَعْنَى: وحُرّم عَلَيْكُمِ الاسْتِقْسام بالأَزلام؛ والأَزْلام: سِهام كَانَتْ لأَهل الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَى بَعْضِهَا: أَمَرَني ربِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهاني رَبِّي، فإِذا أَراد الرَّجُلُ سفَرًا أَو أَمرًا ضَرَبَ تِلْكَ القِداح، فإِن خَرج السَّهْمُ الَّذِي عَلَيْهِ أَمرني رَبِّي مَضَى لِحَاجَتِهِ، وإِن خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ نَهَانِي رَبِّي لَمْ يَمْضِ فِي أَمره، فأَعلم اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن ذَلِكَ حَرام؛ قَالَ الأَزهري: وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ" أَي تَطْلُبُوا مِنْ جِهَةِ الأَزلام مَا قُسِم لَكُمْ مِنْ أَحد الأَمرين، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الأَزلام الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا غَيْرُ قِدَاحِ الْمَيْسِرِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ المُدْلجِي، وَهُوَ ابْنُ أَخي سُراقة بْنِ جُعْشُم، أَن أَباه أَخبره أَنه سَمِعَ سُرَاقَةَ يَقُولُ: جَاءَتْنَا رُسُل كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبي بكرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُمَا أَو أَسَرَهما، قَالَ: فَبَيْنَا أَنا جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلج أَقبل مِنْهُمْ رجل فقام على رؤوسنا فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِني رأَيت آنفًا أَسْوِدةً "بِالسَّاحِلِ لَا أُراها إِلا مُحَمَّدًا وأَصحابه، قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنهم هُمْ، فَقُلْتُ: إِنهم لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رأَيت فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بُغاة، قَالَ: ثُمَّ لَبِثْت فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قمتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي وأَمرت جَارِيَتِي أَن تُخْرِجَ لِي فَرَسِي وتحبِسها مِنْ وَرَاءِ أَكَمَة، قَالَ: ثُمَّ أَخذت رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فخفَضْت عالِيةَ الرُّمح وخَطَطْت بِرُمْحِي فِي الأَرض حَتَّى أَتيت فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا ورفَعْتها تُقَرِّب بِي حَتَّى رأَيت أَسودتهما، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُمْ حَيْثُ أُسْمِعُهم الصَّوْتَ عَثَرَت بِي فَرَسِي فخَرَرت عنها، أَهويت بِيَدِي إِلى كِنانتي فأَخرجت مِنْهَا الأَزْلامَ فاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضِيرُهم أَم لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكره أَن لَا أَضِيرَهم، فعَصَيْت الأَزلام وَرَكِبْتُ فَرَسِي فرَفَعتها تُقَرِّب بِي، حَتَّى إِذا دَنَوْتُ مِنْهُمْ عَثَرت بِي فَرَسِي وخَرَرْت عَنْهَا، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلى أَن سَاخَتْ يَدًا فَرَسِي فِي الأَرض، فَلَمَّا بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ خَرَرت عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا، فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكد تَخْرج يَدَاهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذا لأَثرِ يَدَيها عُثان سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخان؛ قَالَ مَعْمَرٌ، أَحد رُوَاةِ الْحَدِيثِ: « قُلْتُ لأَبي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ مَا العُثان؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ لِي: هُوَ الدُّخَّانُ مِنْ غَيْرِنَا، وَقَالَ: ثُمَّ رَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى أَتيتهم وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيت مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَن سَيَظْهَرَ أَمرُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ إِن قَوْمَكَ جَعَلُوا لِيَ الدِّيَةَ وأَخبرتهم بأَخبار سَفَرِهِمْ وَمَا يُرِيدُ النَّاسُ مِنْهُمْ، وعَرَضت عَلَيْهِمُ الزاد والمتاع فلم يَرْزَؤُوني شَيْئًا وَلَمْ يسأَلوني إِلا قَالُوا أَخْفِ عَنَّا، قَالَ: فسأَلت أَن يَكْتُبَ كِتَابَ مُوادَعة آمَنُ بِهِ، قَالَ: فأَمرَ عامرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبي بَكْرٍ فَكَتَبَهُ لِي فِي رُقعة مِنْ أَديم ثُمَّ مَضَى»؛ قَالَ الأَزهري: فَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ لَكَ أَن الأَزلام قِداحُ الأَمر وَالنَّهْيِ لَا قِداح المَيْسر، قَالَ: وَقَدْ قَالَ المؤَرّج وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهل اللُّغَةِ إِن الأَزلام قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، قَالَ: وَهُوَ وهَم.
واسْتَقْسَمَ أَي طَلَبَ القَسْم بالأَزلام.
وَفِي حَدِيثِ الْفَتْحِ: « دَخَلَ الْبَيْتَ فرأَى إِبراهيم وإِسماعيلَ بأَيديهما الأَزلام فَقَالَ: قاتَلَهم اللَّهُ وَاللَّهِ لَقَدْ علِموا أَنهما لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قطُّ »؛ الاسْتِقْسَام: طَلَبُ القِسم الَّذِي قُسِم لَهُ وقُدِّر مِمَّا لَمْ يُقسَم وَلَمْ يُقَدَّر، وَهُوَ استِفعال مِنْهُ، وَكَانُوا إِذا أَراد أَحدهم سفَرًا أَو تَزْوِيجًا أَو نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المَهامِّ ضَرَبَ بالأَزلام، وَهِيَ الْقِدَاحُ، وَكَانَ عَلَى بَعْضِهَا مَكْتُوبٌ أَمَرَني ربِّي، وَعَلَى الْآخَرِ نَهَانِي رَبِّي، وَعَلَى الْآخَرِ غُفْل، فإِن خَرَجَ أَمرني مَضى لشأْنه، وإِن خَرَجَ نَهَانِي أَمسك، وإِن خَرَجَ الغُفْل عادَ فأَجالَها وَضَرَبَ بِهَا أُخرى إِلى أَن يَخْرُجَ الأَمر أَو النَّهْيُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ.
وقَاسَمْتُه الْمَالَ: أَخذت مِنْهُ قِسْمَك وأَخذ قِسْمه.
وقَسِيمُك: الَّذِي يُقاسِمك أَرضًا أَو دَارًا أَو مَالًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالْجَمْعُ أَقسِماء وقُسَماء.
وَهَذَا قَسِيم هَذَا أَي شَطْرُه.
وَيُقَالُ: هَذِهِ الأَرض قَسيمة هَذِهِ الأَرض أَي عُزِلت عَنْهَا.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: « أَنا قَسِيم النَّارِ »؛ قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أَراد أَن النَّاسَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ مَعِي وَهُمْ عَلَى هُدى، وَفَرِيقٌ عَلَيَّ وَهُمْ عَلَى ضَلال كَالْخَوَارِجِ، فَأَنَا قَسِيمُ النَّارِ نِصْفٌ فِي الْجَنَّةِ مَعِي وَنِصْفٌ عَلَيَّ فِي النَّارِ.
وقَسِيم: فَعِيلٌ فِي مَعْنَى مُقاسِم مُفاعِل، كالسَّمير وَالْجَلِيسِ والزَّميل؛ قِيلَ: أَراد بِهِمُ الْخَوَارِجَ، وَقِيلَ: كُلَّ مَنْ قَاتَلَهُ.
وتَقَاسَما الْمَالَ واقْتَسَمَاه، وَالِاسْمُ القِسْمَة مؤَنثة.
وإِنما قَالَ تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}، بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ، لأَنها فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ وَالْمَالِ فذكَّر عَلَى ذَلِكَ.
والقَسَّام: الَّذِي يَقْسِم الدُّورَ والأَرض بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِيهَا، وَفِي الْمُحْكَمِ: الَّذِي يَقسِم الأَشياء بَيْنَ النَّاسِ؛ قَالَ لَبِيدٌ:
فارْضَوْا بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ، فإِنما ***قَسَمَ المَعِيشةَ بَيْنَنَا قَسَّامُها
عَنَى بِالْمَلِيكِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّيْثُ: يُقَالُ قَسَمْت الشَّيْءَ بَيْنَهُمْ قَسْمًا وقِسْمة.
والقِسْمة: مَصْدَرُ الاقْتِسام.
وَفِي حَدِيثِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ: « قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ »؛ أَراد بِالصَّلَاةِ هَاهُنَا الْقِرَاءَةَ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ القِسْمة فِي الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ لأَن نِصْفَ الْفَاتِحَةِ ثَنَاءٌ وَنَصِفَهَا مَسْأَلة ودُعاء، وَانْتِهَاءُ الثَّنَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي.
والقُسَامَة: مَا يَعْزِله الْقَاسِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ رأْس الْمَالِ لِيَكُونَ أَجْرًا لَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « إِياكم والقُسَامَة »، بِالضَّمِّ؛ هِيَ مَا يأْخذه القَسَّام مِنْ رأْس الْمَالِ عَنْ أُجرته لِنَفْسِهِ كَمَا يأْخذ السَّمَاسِرَةُ رَسمًا مرسُومًا لَا أَجرًا مَعْلُومًا، كتواضُعهم أَن يأْخذوا مِنْ كُلِّ أَلف شَيْئًا مُعَيَّنًا، وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ فِي هَذَا تَحْرِيمٌ إِذا أَخذ القَسّام أُجرته بإِذن الْمَقْسُومِ لَهُمْ، وإِنما هُوَ فِيمَنْ وَلِيَ أَمر قَوْمٍ فإِذا قَسَّمَ بَيْنَ أَصحابه شَيْئًا أَمسك مِنْهُ لِنَفْسِهِ نَصِيبًا يستأْثر بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخرى: " الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَى الفِئام مِنَ النَّاسِ فيأْخذ مِنْ حَظّ هَذَا وَحَظِّ هَذَا.
وأَما القِسَامَةُ، بِالْكَسْرِ، فَهِيَ صَنْعَةُ القَسَّام كالجُزارة والجِزارة والبُشارة والبِشارة.
والقُسَامَةُ: الصَّدقة لأَنها تُقسم عَلَى الضُّعَفَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ وابِصة: مثَلُ الَّذِي يأْكل القُسَامَة كَمَثَلِ جَدْيٍ بَطنُه مَمْلُوءٌ رَضْفًا "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ أَنها الصَّدَقَةُ، قَالَ: والأَصل الأَوَّل.
ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدَهُ قَسْمٌ يَقْسِمه أَي عَطاء، وَلَا يُجْمَعُ، وَهُوَ مِنَ القِسْمة.
وقَسَمَهم الدَّهر يَقْسِمُهُم فتَقَسَّموا أَي فَرَّقهم فتَفَرَّقوا، وقَسَّمَهم فرَّقهم قِسْمًا هُنَا وقِسمًا هُنَا.
ونَوىً قَسُومٌ: مُفَرِّقة مُبَعِّدة؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:
نَأَتْ عَنْ بَناتِ العَمِّ وانقَلَبَتْ بِهَا ***نَوىً، يَوْم سُلَّانِ البَتِيلِ، قَسُوم
أَي مُقَسِّمة للشَّمْل مُفَرِّقة لَهُ.
والتَّقْسِيم: التَّفْرِيقُ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ يَذْكُرُ قِدْرًا:
تُقَسِّمُ مَا فِيهَا، فإِنْ هِي قَسَّمَتْ ***فَذاكَ، وإِن أَكْرَتْ فَعَنْ أَهلِها تُكْري
قَالَ أَبو عَمْرٍو: قَسَّمَت عَمَّت فِي القَسْم، وأَكْرَتْ نَقَصَتْ.
ابْنُ الأَعرابي: القَسَامَةُ الهُدنة بَيْنَ الْعَدُوِّ والمسلِمين، وَجَمْعُهَا قَسَامَات، والقَسَم الرَّأْي، وَقِيلَ: الشكُّ، وَقِيلَ: القَدَرُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ فِي القَسْم الشَّكِّ لِعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
ظِنّة شُبِّهتْ فأَمْكَنَها القَسْمُ ***فأَعدَتْه، والخَبِيرُ خبِيرُ
وقَسَمَ أَمرَه قَسْمًا: قَدَّره ونَظَر فِيهِ كَيْفَ يَفْعَلُ، وَقِيلَ: قَسَمَ أَمرَه لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصنع فِيهِ.
يُقَالُ: هُوَ يَقْسِمُ أَمره قَسْمًا أَي يُقَدِّره ويُدَبِّره يَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُ فِيهِ؛ قَالَ لَبِيدٌ:
فَقُولا لَهُ إِن كَانَ يَقْسِمُ أَمْرَه: ***أَلَمَّا يَعِظْكَ الدَّهْرُ؟ أُمُّكَ هابِلُ
وَيُقَالُ: قَسَمَ فُلَانٌ أَمره إِذا مَيَّل فِيهِ أَن يَفْعَلَهُ أَو لَا يَفْعَلَهُ.
أَبو سَعِيدٍ: يُقَالُ تَرَكْتُ فُلَانًا يَقْتَسِم أَي يُفَكِّرُ ويُرَوِّي بَيْنَ أَمرين، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: تَرَكْتُ فُلَانًا يَسْتَقْسِم بِمَعْنَاهُ.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَيِّد القَسْمِ أَي جيِّد الرأْي.
وَرَجُلٌ مُقَسَّمٌ: مُشتَرك الخواطِر بالهُموم.
والقَسَمُ، بِالتَّحْرِيكِ: الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ المُقْسَمُ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ مِثْلَ المُخْرَج، وَالْجَمْعُ أَقْسَام.
وَقَدْ أَقْسَمَ بِاللَّهِ واسْتَقْسَمَه بِهِ وقَاسَمَه: حلَف لَهُ.
وتَقَاسَمَ القومُ: تَحَالَفُوا.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ}.
وأَقْسَمْت: حَلَفْتُ، وأَصله مِنَ القَسامة.
ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}؛ هُمُ الَّذِينَ تَقاسَمُوا وتَحالَفُوا عَلَى كَيْدِ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ اليهود والنصارى الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ آمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ.
وقَاسَمَهما أَي حلَفَ لَهُمَا.
والقَسامة: الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى حَقِّهم ويأْخذون.
وَفِي الْحَدِيثِ: « نَحْنُ نازِلُون بخَيْفِ بَنِي كِنانة حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ »؛ تَقَاسَمُوا: مِنَ القَسَم الْيَمِينِ أَي تَحَالَفُوا، يُرِيدُ لمَّا تَعَاهَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مُقاطعة بَنِي هَاشِمٍ وَتَرْكِ مُخالطتهم.
ابْنُ سِيدَهْ: والقَسامة الْجَمَاعَةُ يُقْسِمُون عَلَى الشَّيْءِ أَو يُشهدون، ويَمِينُ القَسامةِ مَنْسُوبَةٌ إِليهم.
وَفِي حديثٍ: " الأَيْمانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلياء الدمِ.
أَبو زَيْدٍ: جَاءَتْ قَسَامَةُ الرجلِ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ.
وقَتل فُلَانٌ فُلَانًا بالقَسَامَة أَي بِالْيَمِينِ.
وَجَاءَتْ قَسامة مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وأَصله الْيَمِينُ ثُمَّ جُعِل قَوْمًا.
والمُقْسَمُ: القَسَمُ.
والمُقْسَمُ: المَوْضِع الَّذِي حَلَفَ فِيهِ.
والمُقْسِم: الرَّجُلُ الْحَالِفُ، أَقْسَمَ يُقْسِمُ إِقْسامًا.
قَالَ الأَزهري: وَتَفْسِيرُ القَسَامَة فِي الدَّمِ أَن يُقْتل رَجُلٌ فَلَا تَشْهَدُ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ إِياه بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ كَامِلَةٌ، فَيَجِيءُ أَولياء الْمَقْتُولِ فَيَدَّعُونَ قِبَل رَجُلٍ أَنه قَتَلَهُ ويُدْلُون بِلَوْث مِنَ الْبَيِّنَةِ غَيْرِ كَامِلَةٍ، وَذَلِكَ أَن يُوجد المُدَّعى عَلَيْهِ مُتلَطِّخًا بِدَمِ الْقَتِيلِ فِي الْحَالِ الَّتِي وُجد فِيهَا وَلَمْ يَشْهَدْ رَجُلٌ عَدْلٌ أَو امرأَة ثِقَهٌ أَن فُلَانًا قَتَلَهُ، أَو يُوجَدُ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْقَاتِلِ وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فإِذا قَامَتْ دِلَالَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّلَالَاتِ سَبَق إِلى قَلْبِ مَنْ سَمِعَهِ أَن دَعْوَى الأَولياء صَحِيحَةٌ فَيُستَحْلَفُ أَولياءُ الْقَتِيلِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَن فُلَانًا الَّذِي ادَّعَوْا قَتْلَهُ انْفَرَدَ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ مَا شَرَكه فِي دَمِهِ أَحد، فإِذا حَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقُّوا دِيَةَ قَتِيلِهِمْ، فإِن أَبَوْا أَن يَحْلِفُوا مَعَ اللَّوْثِ الَّذِي أَدلوا بِهِ حَلَفَ المُدَّعى عَلَيْهِ وبَرِئ، وإِن نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ خُيِّرَ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ بَيْنَ قَتْلِهِ أَو أَخذ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا جَمِيعُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
والقَسامةُ: اسْمٌ مِنَ الإِقْسام، وُضِع مَوْضِع الْمَصْدَرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِينِ يُقْسِمونَ قَسَامة، وإِن لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ مِنْ بَيِّنَةٍ حَلَفَ المدَّعى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه اسْتَحْلَف خمسةَ نفَر فِي قَسَامة مَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: رُدُّوا الأَيمان عَلَى أَجالدِهم »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: القَسَامة، بِالْفَتْحِ، الْيَمِينُ كالقسَم، وَحَقِيقَتُهَا أَن يُقْسِم مِنْ أَولياء الدَّمِ خَمْسُونَ نَفَرًا عَلَى استحقاقِهم دمَ صاحبِهم إِذا وَجَدُوهُ قَتِيلًا بَيْنَ قَوْمٍ وَلَمْ يُعرف قَاتِلُهُ، فإِن لَمْ يَكُونُوا خَمْسِينَ أَقسم الْمَوْجُودُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا يَكُونُ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَلَا امرأَة وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا عَبْدٌ، أَو يُقسم بِهَا الْمُتَّهَمُونَ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ، فإِن حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا الدِّيَةَ، وإِن حَلَفَ المتهَمون لَمْ تَلْزَمْهُمُ الدِّيَةُ، وَقَدْ أَقْسَمَ يُقْسِمُ قَسَمًا وقَسَامَة، وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى بِناء الغَرامة والحَمالة لأَنها تَلْزَمُ أَهل الْمَوْضِعِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْقَتِيلُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: القَسامة تُوجِبُ العَقْل أَي تُوجب الدِّيَةَ لَا القَوَد.
وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: « القَسامةُ جاهِلِيّة»؛ أي كَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ يَدِينُون بِهَا وَقَدْ قَرَّرَهَا الإِسلام، وَفِي رِوَايَةٍ: القَتْلُ بالقَسَامة جاهِليةٌ؛ أي أَن أَهل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يقتُلُون بِهَا أَو أَن الْقَتْلَ بِهَا مِنْ أَعمال الْجَاهِلِيَّةِ، كأَنه إِنكار لِذَلِكَ واسْتِعْظام.
والقَسامُ: الجَمال والحُسن؛ قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ: " يُسَنُّ عَلَى مَراغِمِها القَسَامُ "وَفُلَانٌ قَسِيمُ الوَجْهِ ومُقَسَّمُ الوجهِ؛ وَقَالَ بَاعِثُ بْنُ صُرَيْم اليَشْكُري، وَيُقَالُ هُوَ كَعْبُ بْنُ أَرْقَمَ الْيَشْكُرِيُّ قَالَهُ فِي امرأَته وَهُوَ الصَّحِيحُ:
ويَوْمًا تُوافِينا بَوجْهٍ مُقَسَّمٍ، ***كأَنْ ظَبْية تَعْطُو إِلى وارِق السَّلَمْ
ويَوْمًا تُرِيدُ مالَنا مَعَ مَالِهَا، ***فإِنْ لَمْ نُنِلْها لَمْ تُنِمْنا وَلَمْ تَنَمْ
نَظَلُّ كأَنَّا فِي خُصومِ غَرامةٍ، ***تُسَمِّعُ جِيراني التَّأَلِّيَ والقَسَمْ
فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ لَا تَناهَي، فإِنَّني ***أَخو النُّكْر حَتَّى تَقْرَعي السِّنَّ مِنْ نَدَمْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي التَّهْذِيبِ أَنشده أَبو زَيْدٍ: كأَنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلى ناضِرِ السَّلم "وَقَالَ: قَالَ أَبو زَيْدٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَنْشُدُهُ: كأَنْ ظبيةٌ؛ يُرِيدُ كأَنها ظَبْيَةٌ فأَضمر الْكِنَايَةَ؛ وَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبي الحُقَيْق:
بأَحْسَنَ منها، وقامَتْ تريك ***وجَهًا كأَنَّ عَلَيْه قَسَاما
أَي حُسْنًا.
وَفِي حَدِيثِ أُم مَعْبَدٍ: « قَسِيمٌ وَسِيم »؛ القَسامةُ: الْحَسَنُ.
وَرَجُلٌ مُقَسَّم الوجهِ أَي جَمِيلٌ كُلُّهُ كأَن كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ أَخذ قِسْمًا مِنَ الْجَمَالِ.
وَيُقَالُ لحُرِّ الْوَجْهِ: قَسِمة، بِكَسْرِ السِّينِ، وَجَمْعُهَا قَسِماتٌ.
وَرَجُلٌ مُقَسَّمٌ وقَسِيم، والأُنثى قَسِيمَة، وَقَدْ قَسُمَ.
أَبو عُبَيْدٍ: القَسَام والقَسَامَة الحُسْن.
وَقَالَ اللَّيْثُ: القَسِيمَة المرأَة الْجَمِيلَةُ؛ وأَما قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وكأَنَّ فارةَ تاجِرٍ بِقَسِيمَةٍ ***سَبَقَتْ عَوارِضَها إِليكَ مِن الفَمِ
فَقِيلَ: هِيَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَقِيلَ: هُوَ وَقْتُ تَغَير الأَفواه، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ، قَالَ: وَسُمِّيَ السَّحَرُ قَسِيمَة لأَنه يَقْسِم بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذَا الْبَيْتِ إِنه الْيَمِينُ، وَقِيلَ: امرأَة حسَنة الْوَجْهِ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: هُوَ جُؤْنة العَطَّار؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ الأَعرابي فِي جُؤْنة الْعَطَّارِ قَسِمَة، فإِن كَانَ ذَلِكَ فإِن الشَّاعِرَ إِنما أَشبع لِلضَّرُورَةِ، قَالَ: والقَسِيمَة السُّوقُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وَلَمْ يُفسِّر بِهِ قَوْلَ عَنْتَرَةَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهُوَ عِنْدِي مِمَّا يَجُوزُ أَن يُفسَّر بِهِ؛ وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ:
الحمدُ للهِ العَلِيّ الأَعْظَمِ، ***بَارِي السَّماواتِ بِغَيْرِ سُلَّمِ
ورَبِّ هَذَا الأَثَرِ المُقَسَّمِ، ***مِن عَهْد إِبراهيمَ لَمَّا يُطْسَمِ
أَراد المُحَسَّن، يَعْنِي مَقام إِبراهيم، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كأَنه قُسِّم أَي حُسِّن؛ وَقَالَ أَبو مَيْمُونَ يَصِفُ فَرَسًا:
كلِّ طَوِيلِ السّاقِ حُرِّ الخدّيْن، ***مُقَسَّمِ الوجهِ هَرِيتِ الشِّدْقَيْن
ووَشْيٌ مُقَسَّمٌ أَي مُحَسَّنٌ.
وَشَيْءٌ قَسَامِيٌّ: مَنْسُوبٌ إِلى القَسَام، وَخَفَّفَ الْقُطَامِيُّ يَاءَ النِّسْبَةِ مِنْهُ فأَخرجه مُخرج تِهامٍ وشآمٍ، فَقَالَ:
إِنَّ الأُبُوَّةَ والدَيْنِ تَراهُما ***مُتَقابلينِ قَسَامِيًا وهِجانا
أَراد أُبوّة وَالِدَيْنِ.
والقَسِمَةُ: الحُسن.
والقَسِمَةُ: الوجهُ، وَقِيلَ: مَا أَقبل عَلَيْكَ مِنْهُ، وَقِيلَ: قَسِمَةُ "الْوَجْهِ مَا خَرج مِنَ الشَّعْرِ.
وَقِيلَ: الأَنفُ وناحِيتاه، وَقِيلَ: وسَطه، وَقِيلَ: أَعلى الوَجْنة، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الوَجْنتين والأَنف، تُكْسَرُ سِينُهَا وَتُفْتَحُ، وَقِيلَ: القَسِمَة أَعالي الْوَجْهِ، وَقِيلَ: القَسِمَات مَجارِي الدُّمُوعِ، وَالْوُجُوهُ، وَاحِدَتُهَا قَسِمَةٌ.
وَيُقَالُ مِنْ هَذَا: رَجُلٌ قَسِيم ومُقَسَّم إِذا كَانَ جَمِيلًا.
ابْنُ سِيدَهْ: والمُقْسَم مَوْضِعُ القَسَم؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
فتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا ومِنْكُم ***بمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّماء
وَقِيلَ: القَسِمَاتُ مَجَارِي الدُّمُوعِ؛ قَالَ مُحْرِز بْنُ مُكَعْبَرٍ الضَّبِّيُّ:
وإِنِّي أُراخيكم عَلَى مَطِّ سَعْيِكم، ***كَمَا فِي بُطونِ الحامِلاتِ رِخاءُ
فَهلَّا سَعَيْتُمْ سَعْيَ عُصْبةِ مازِنٍ، ***وَمَا لعَلائي فِي الخُطوب سَواءُ
كأَنَّ دَنانِيرًا عَلَى قَسِمَاتِهِم، ***وإِنْ كَانَ قَدْ شَفَّ الوُجُوهَ لِقاءُ
لَهُمْ أَذْرُعٌ بادٍ نواشِزُ لَحْمِها، ***وبَعضُ الرِّجالِ فِي الحُروب غُثاءُ
وَقِيلَ: القَسِمَةُ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وَبِهِ فَسَّرَ قَوْلَهُ دَنَانِيرًا عَلَى قَسِمَاتهم؛ وَقَالَ أَيضًا: القَسِمَةُ والقَسَمَةُ مَا فَوْقَ الْحَاجِبِ، وَفَتْحُ السِّينِ لُغَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
أَبو الْهَيْثَمِ: القَسَامِيُّ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
والقَسَامِيّ: الحَسَن، مِنَ القَسَامَة.
والقَسَامِيُّ: الَّذِي يَطوي الثِّيَابَ أَول طَيّها حَتَّى تَتَكَسَّرَ عَلَى طَيِّهِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:
طاوِينَ مَجْدُولَ الخُروقِ الأَحداب، ***طَيَّ القَسَامِيِّ بُرودَ العَصّاب
ورأَيت فِي حَاشِيَةٍ: القَسَّامُ المِيزان، وَقِيلَ: الخَيّاطُ.
وَفَرَسٌ قَسَامِيٌّ أَي إِذا قَرَحَ [قَرِحَ] مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ، مِنْ آخرَ، رَباعٍ؛ وأَنشد الجَعْدي يَصِفُ فَرَسًا:
أَشَقَّ قَسَامِيًّا رَباعِيَ جانِبٍ، ***وقارِحَ جَنْبٍ سُلَّ أَقْرَحَ أَشْقَرا
وَفَرَسٌ قَسَامِيٌّ: مَنْسُوبٌ إِلى قَسَام فَرَسٌ لِبَنِيِ جَعْدة؛ وَفِيهِ يَقُولُ الْجَعْدِيُّ:
أَغَرّ قَسَامِيّ كُمَيْت مُحَجَّل، ***خَلا يَدُهُ اليُمْنى فتَحْجِيلُه خَسا
أَي فَرْدٌ.
وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: اسْمُ الْفَرَسِ قَسَامَة، بِالْهَاءِ؛ وأَما قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ ظَبْيَةً:
تَسَفُّ برِيرَه، وتَرُودُ فِيهِ ***إِلى دُبُر النهارِ مِنَ القَسَامِ
قِيلَ: القَسَامَة شِدَّةُ الْحَرِّ، وَقِيلَ: إِن القَسَام أَول وَقْتِ الْهَاجِرَةِ، قَالَ الأَزهري: وَلَا أَدري مَا صِحَّتُهُ، وَقِيلَ: القَسَام وَقْتُ ذُرور الشَّمْسِ، وَهِيَ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَحسن مَا تَكُونُ وأَتمّ مَا تَكُونُ مَرْآةً، وأَصل القَسَام الحُسن؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي؛ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
لَا أَحْسَبُ الدَّهْرَ يُبْلي جِدّةً أَبدًا، ***وَلَا تُقَسَّم شَعْبًا واحِدًا شُعَبُ
يَقُولُ: إِني ظَنَنْتُ أَن لَا تَنْقَسِمَ حالاتٌ كَثِيرَةٌ، يَعْنِي حالاتِ شَبَابِهِ، حَالًا وَاحِدًا وأَمرًا وَاحِدًا، يَعْنِي الكِبَر وَالشَّيْبَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَقُولُ كُنْتُ لغِرّتي أَحسب أَن الإِنسان لَا يَهرم، وأَن الثوبَ الْجَدِيدَ لَا يَخْلُق، وأَن الشَّعْب الْوَاحِدَ الْمُمْتَنِعَ لَا يَتفرَّق الشُّعَبَ المتفرِّقةَ فَيَتَفَرَّقُ بَعْدَ اجْتِمَاعٍ وَيَحْصُلُ مُتَفَرِّقًا فِي تِلْكَ الشُّعَبِ.
والقَسُومِيَّات: مَوَاضِعُ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
ضَحَّوْا قَليلًا قَفا كُثْبانِ أَسْنِمةٍ، ***ومِنْهُمُ بالقَسُومِيّاتِ مُعْتَرَكُ
وقاسِمٌ وقَسِيمٌ وقُسَيْمٌ وقَسَّام ومِقْسَم ومُقَسِّم: أَسماء.
والقَسْم: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ.
والمُقْسِم: أَرض؛ قَالَ الأَخطل:
مُنْقَضِبِين انْقِضابَ الْخَيْلِ، سَعْيُهُم ***بَين الشَّقِيقِ وعَيْن المُقْسِمِ البَصِر
وأَما قَوْلُ القُلاخ بْنِ حَزْن السَّعْدِيِّ:
أَنا القُلاخُ فِي بُغائي مِقْسَما، ***أَقْسَمْتُ لَا أَسْأَمُ حتَّى تَسْأَما
فَهُوَ اسْمُ غُلَامٍ لَهُ كَانَ قد فرّ منه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
56-أساس البلاغة (فخت)
فختأكذب من فاختة. وتقول: له حديث كرياض القطا، لولا أن الفواخت عنده قطا. وهو يتفخّت أي يتكذّب. وتفختت المرأة: مشت مشية الفاختة. وجلسنا في الفخت أي في ضوء القمر. وتقول: للسمر بأخبار أهل البخت، جلوس الفقراء في الفخت.
أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م