نتائج البحث عن (ضمنيا)

1-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (المهدية-جماعات متأثرة بالصوفية)

المهدية

التعريف:

المهدية واحدة من الحركات الثورية التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي، وهي ذات مضمون ديني سياسي شابته بعض الانحرافات العقائدية والفكرية، وما يزال أحفاد المهدي وأنصاره يسعون لأن يكون لهم دور في الحياة الدينية والسياسية في السودان.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

المؤسس:

محمد أحمد المهدي بن عبد الله 1260 ـ 1302هـ (1845 ـ 1885م)، وُلد في جزيرة لبب جنوب مدينة دنقلة، يقال بأن نسبه ينتهي إلى الأشراف. حفظ القرآن وهو صغير ونشأ نشأة دينية متتلمذًا على الشيخ محمود الشنقيطي، سالكًا الطريقة السمَّانية القادرية الصوفية، متلقيًا عن شيخها محمد شريف نور الدائم.

ـ فارق محمدٌ شيخه لِما لاحظه عليه من تهاون في بعض الأمور وانتقل إلى الشيخ القرشيِّ وَدْ الزين في الجزيرة وجدد البيعة على يديه. ويلاحظ أن شيخيه الأول والثاني من أشهر مشايخ الطرق الصُّوفية آنذاك.

ـ في عام 1870م استقر في جزيرة أبا حيث يقيم أهله والتزم أحد الكهوف مستغرقًا في التأمل والتفكير.

ـ وفي عام 1297هـ/1880م توفي شيخه القرشي حيث قام المهدي بتشييد ضريحه وتجصيصه وبناء القبة عليه، وصار خليفته من بعده حيث توافد عليه المبايعون مجددين الولاء للطريقة في شخصه.

ـ في عام 1881م أصدر فتواه بإعلان الجهاد ضد الكفار والمستعمرين الإنجليز، وأخذ يعمل على بسط نفوذه في جميع أنحاء غرب السودان.

ـ اعتكف أربعين يومًا في غاره بجزيرة أبا وفي غرة شعبان 1298هـ/29 يونيو 1881م أعلن للفقهاء والمشايخ والأعيان أنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا.

ـ قابل قوة الحكومة التي أرسلت لإخماد حركته في 16رمضان 1298هـ/أغسطس 1881م وأحرز عليها انتصارًا دعم موقفه ودعواه.

ـ هاجر إلى جبل ماسة ورفع رايته هناك، وعين له أربعة من الخلفاء هم:

1 ـ عبد الله التعايشي. صاحب الراية الزرقاء ولقبه بأبي بكر.

2 ـ علي وَدْ حلو: صاحب الراية الخضراء ولقبه بعمر بن الخطاب.

3 ـ محمد المهدي السنوسي، رئيس الطريقة السنوسية ذات النفوذ الكبير في ليبيا، فقد عرض عليه المهدي منصب الخليفة عثمان بن عفان، لكن السنوسيَّ تجاهله ولم يرد عليه.

4 ـ محمد شريف: وهو ابن عم المهدي الذي جعل له الراية الحمراء ولقبه بعلي بن أبي طالب.

ـ في عام 1882م قابل الشلالي الذي أراد أن ينفذ إرادة جيجلر نائب الحكمدار عبد القادر حلمي، وقد لاقى الشلالي حتفه في هذه المعركة.

ـ في نوفمبر 1883م التقى مع هكس الذي لاقى حتفه أيضًا بعد يومين من بداية المعركة.

ـ التقى جيش المهدي بجيش غوردون في الخرطوم، وفي 26 يناير 1885م اشتدت المعركة وقُتِل غوردون الذي جُزَّ رأسُه وبُعِثَ به إلى المهدي الذي كان يأمل إلقاء القبض عليه حيًّا ليبادل به أحمد عرابي الذي أُجبر على مغادرة مصر إلى المنفى. وكان سقوط الخرطوم بين يدي المهدي آنذاك إيذانًا بانتهاء العهد العثماني على السودان.

ـ من يومها لم يبق للمهدي منافس حيث قام بتأسيس دولته مبتدئًا ببناء مسجده الخاص الذي تم إنهاءُ بنائه في 17جمادى الأولى 1305هـ.

ـ قلَّد القضاءَ للشيخ محمد أحمد جبارة ولقبه بقاضي الإسلام.

ـ وفي يوم 9 رمضان 1302هـ/22 يونيو 1885م توفي المهدي بعد أن أسس أركان دولته الوليدة، ودفن في المكان الذي قبض فيه. وجدير بالذكر أن هذه الدولة لم تدم طويلًا ففي عام 1896م قضى اللورد كتشنر الذي كان سردارًا لمصر على هذه الدولة ونسف قبة المهدي ونبش قبره وبعث هيكله وبعث بجمجمته إلى المتحف البريطاني انتقامًا لمقتل غوردون.

شخصيات أخرى:

عبد الله التعايشي: ولد في دار التعايشة في دارفور، وجاء المهدي في الحلاويين بالجزيرة وهو يشيد قبة على شيخه القرشي وبايعه، وهو الذي قوَّى في نفس المهدي ادعاءه المهدية، وقد احتل عبد الله المكانة الأولى في حياة المهدي إذ كان رجل التطبيق والإدارة والتنفيذ.

ـ بعد موت المهدي صار عبد الله الخليفة الأول وذلك بناء على وصية من المهدي ذاته إذ كان يقول عنه: "هو مني وأنا منه".

ـ عندما استلم منصب الخلافة تفرَّغ لبث الدعوة وجعل أخاه الأمير يعقوب مكانه الذي كان قد بوَّأه إيَّاه المهدي.

ـ كتب إلى السلطان عبد الحميد وتطلع إلى بسط نفوذ المهدية إلى نجد والحجاز وغربي السودان.

ـ عبد الرحمن النجومي: من القادة العسكريين، وقد سار على رأس جيش كبير في 3 رمضان 1306هـ/3 مايو 1889م متقدمًا نحو الشمال لملاقاة الجيش المصري لكنه رجع دون أن يحقق تقدمًا أو نصرًا.

الشاعر الصوفي الحسين الزهراء 1833 ـ 1895م: من رجال المهدية، حاول أن يربط بين فلسفة ابن سينا الإشراقية وبين العقيدة المهدية.

حمدان أبو عنجة: كان قائد جيش المهدي أمام هكس الذي التقى به خارج الأبيض.

ثالثًا: أبناء المهدي وأحفاده:

عبد الرحمن بن محمد أحمد المهدي 1885 ـ 1956م وُلد في أم درمان وتلقى تعليمًا دينيًّا، وعندما شبَّ سعى لتنظيم المهدية بعد أن انفرط عقدها، وصار في عام 1914م زعيمًا روحيًّا للأنصار. وفي عام 1919م بعثت به الحكومة لتهنئة ملك بريطانيا بانتصار الحلفاء، حيث قام بتقديم سيف والده هدية للملك الذي قبله ثم أعاده إلى عبد الرحمن طالبًا منه أن يحتفظ به لديه نيابة عن الملك وليدافع به عن الإمبراطورية. وقد شكَّل هذا اعترافًا ضمنيًّا بالطائفة واعترافًا بزعامته لها. وقد أنشأ عبد الرحمن أيام الاستعمار الإنجليزي على السودان (حزب الأمة) وهو حزب المهدية السياسي.

الصديق بن عبد الرحمن: توفي عام 1961م.

الهادي بن عبد الرحمن: قتل في عام 1971م.

وقد انقسم حزب الأمة إلى ثلاثة أقسام:

ـ قسم برئاسة الصادق بن الصديق بن عبد الرحمن وهو أقوى الأقسام حاليًّا في السودان.

ـ قسم برئاسة أحمد بن عبد الرحمن.

ـ قسم برئاسة ولي الدين عبد الهادي.

المؤتمر العالمي لتاريخ المهدية أقيم في بيت المهدي بالخرطوم في الفترة من 29 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 1981م، وقد ألقى أحمد بن عبد الرحمن المهدي كلمة في هذا الحقل.

الأفكار والمعتقدات:

إن شخصية المهدي القوية، والمعتقد الديني الذي يدعو إليه، والسخط العام الذي كان سائدًا ضد الولاة الذين كانوا يفرضون الضرائب الباهظة على الناس، وتفشي الرشوة والمظالم، وسيطرة الأتراك والإنجليز، كان ذلك كله دور مهم في تجمع الناس حول هذه الدعوة بهدف التخلص من الوضع المزري الذي هم فيه إذ وجدوا في المهدي المنفذَ والمخلِّصَ.

دعا المهدي إلى ضرورة العودةِ مباشرة إلى الكتاب والسُّنة دون غيرهما من الكتب التي يرى أنها تبعد بخلافاتها وشرورها عن فهم المسلم البسيط العادي.

أوقف العمل بالمذاهب الفقهية المختلفة، وحرم الاشتغال بعلم الكلام، وفتح باب الاجتهاد في الدين، وأقر كذلك كتاب كشف الغمة للشعراني، والسيرة الحلبية، وتفسير روح البيان للبيضاوي، وتفسير الجلالين! !

ألغى جميع الطرق الصوفية وأبطل جميع الأوراد داعيًّا الجميع إلى نبذ الخلافات والالتفاف حول طريقته المهدية مؤلفًا لهم وردًا يقرءونه يوميًّا، ومن هذا الباب دخلت مرة أخرى في بوتقة الصوفية وانصهرت فيها، وداخلتها الأخطاء العقدية كقول المهدي بأنه معصوم وأنه المهدي المنتظر.

لما تحركت الحكومة لضرب المهدية في جزيرة أبا كتب المهدي خمس رايات رفع عليها شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وعلى أربعة منها كتب على كل واحدة منها اسم واحد من الأقطاب الأربعة المتصوفة وهم: الجيلاني، والرفاعي، والدسوقي، والبدوي. أما الخامسة فقد كتب عليها "محمد المهدي خليفة رسول الله" وعلى ذلك فهو يزعم أنه الإمام، والمهدي، وخليفة رسول الله.

أبرز ما في دعوته إلحاحه الشديد على موضوع الجهاد والقوة والفتوة.

يزعم المهدي بأن مهديته قد جاءته بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "وقد جاءني في اليقظة ومعه الخلفاء الراشدون والأقطاب والخضر ـ عليه السلام ـ وأمسك بيدي صلى الله عليه وسلم وأجلسني على كرسيه وقال لي: أنت المهدي المنتظر ومن شك في مهديتك فقد كفر "! !

نسب إلى نفسه العصمة وذكر بأنه معصوم نظرًا لامتداد النور الأعظم فيه من قبل خالق الكون إلى يوم القيامة! !.

كان يلح على ضرورة التواضع وعدم البطر وتشديد النكير على الانغماس في الملاذ والبذخ والنعمة، ويعمل على التقريب بين طبقات المجتمع، وقد عاش حياته يلبس الجبة المرقعة هو وأتباعه، لكن أحفاده من بعده عاشوا في ترف ونعيم.

حرَّم الاحتفال بالأعراس والختان احتفالًا يدعو إلى النفقة والإسراف.

يَسَّرَ الزواج بتخفيف المهور وبساطة الولائم وتحريم الرقص والغناء وضرب الدفوف.

منع البكاء على الأموات، وحرَّم الاشتغال بالرُّقى والتمائم، وحارب شرب الدخان وزراعته والاتجار به، وشدد في تحريمه.

أقام حدود الشريعة في أتباعه كالقصاص وحيازة خمس الغنائم ومصادرته أموال السارقين والخمارين، وصك العملة باسمه ابتداء من فبراير 1885م جمادى الأولى 1302هـ.

ـ أقام في المنطقة التي امتد إليها نفوذه نظامًا إسلاميًّا، ونظم الشؤون المالية وعين الجباة لجمع الزكاة، وكانت مالية الدولة التي أقامها مكونة مما يجبى من زكاة وجبايات.

في العاشر من ربيع الأول عام 1300هـ تطلع المهدي إلى عالمية الدعوة حيث أعلن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشَّره بأنه سيصلي في الأبيض ثم في بربر ثم في المسجد الحرام بمكة المكرمة فمسجد المدينة فمسجد القاهرة وبيت المقدس وبغداد والكوفة.

بعض انحرافات المهدي:

ـ لقد كفَّر المهدي من خالفه أو شك في مهديته ولم يؤمن به.

ـ سمّى الزمان الذي قبله زمان الجاهلية أو الفترة.

ـ جعل المتهاون في الصلاة كالتارك لها جزاؤه أن يقتل حدًّا.

ـ أفتى بأن من يشرب التنباك يؤدب حتى يتوب أو يموت.

ـ جعل المذاهب الفقهية والطرق الصوفية مجرد قنوات تصب في بحره العظيم! !.

ـ منع حيازة الأرض لأنها لا تملك إذ أنها محجوزة لبيت المال.

ـ نهى عن زواج البالغة بلا ولي ولا مهر.

الجذور الفكرية والعقائدية:

تأثر المهدي بالشيعة في ادعائه المهدية المعصومة التي ستملأ الأرض عدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا، وفي التأكيد على أهمية نسبه الممتد إلى الحسن بن علي، وفي فكرة العصمة والإمام المعصوم (1).

ـ قيل بأنه أخذ عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب قوله بضرورة الأخذ عن الكتاب والسُّنَّة مباشرة، وفتح باب الاجتهاد، ومحاربته لبناء القبور، مع أنه بنى قبة لشيخه! ! (انظر للرد على هذا الوهم رسالة " الانحرافات العقدية والعلمية في القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجري " للشيخ علي بخيت الزهراني، ص 1001-997).

كان للفكر الصوفي دور مهم في رسم شخصية المهدي وطريقته.

أخذ عن جمال الدين الأفغاني، وعن محمد عبده ـ الذي كان على صلة بأفكارهما ـ أفكاره الثورية.

كان المهدي قريبًا من الأحداث الجارية في مصر وبالذات حركة أحمد عرابي الداعي إلى الثورة.

الانتشار ومواقع النفوذ:

ابتدأ المهدي دعوته من جزيرة أبا التي ما تزال مركزًا قويًّا للمهدية إلى الآن، وقد وثق صلته بالقبائل في مختلف أنحاء السودان.

تطلع المهدي وخليفته التعايشي لنقل المهدية إلى خارج السودان لكن هذا الأمل تلاشى بسقوط طوكر عام 1891م.

ما يزال للمهدية أنصار كثيرون يجمعهم حزب الأمة الذي يسهم في الأحداث السياسية الحالية في السودان. كما أن لهم تجمعًا وأنصارًا في أمريكا وبريطانيا يعملون على نشر أفكارهم ومعتقداتهم بين أبناء الجاليات الإسلامية بعامة والسودانيين بخاصة.

ويتضح مما سبق:

أن الثورة المهدية استطاعت أن تصهر السودانيين في بوتقة واحدة، وجعلت منهم شعبًا واحدًا جاهد مع قائده وزعيمه الروحي وحقق انتصارات باهرة على أعدائه، وقد أسقطت المهدية المذهبية وألغت الطرق الصوفية إلا طريقتها! وادعت أنها سلفية تدعو إلى عقيدة السلف في التوحيد والاجتهاد وفق المصالح المتجددة، وقد اعتبرت الجهاد ضد الكفار مقدم على الفرائض الأخرى. وهي تعتبر - على انحرافها - من حركات اليقظة في العالم الإسلامي. وقد شابتها بعض الانحرافات العقدية، وكساها المهديُّ بمسحة من الصُّوفية بهدف تحريك ضمائر أتباعه وربط ولاء شعبه بألوان من الرياضات لا سيما وقد كان للطرق الصوفية في عهده جذور ضاربة في نفوس شعبه لا يمكن إغفالها.

مراجع للتوسع:

ـ الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، عبدالرحمن عبدالخالق.

ـ محمد أحمد المهدي: توفيق أحمد البكري ـ لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية ـ دار إحياء الكتب العربية ـ 1944م.

ـ المهدي والمهدية، د. أحمد أمين بك ـ إصدار دار المعارف بمصر.

ـ دراسات في تاريخ المهدية، مطبوعات قسم التاريخ ـ جامعة الخرطوم ـ أعده للنشر الدكتور عمر عبد الرازق النقر ـ 1982م.

ـ سعادة المستهدي بسير الإمام المهدي، إسماعيل عبد القادر الكردفاني ـ تحقيق الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم ـ ط 2 ـ دار الجبل، بيروت، 1402هـ/1982م.

ـ الموسوعة الحركة "جزءان"، فتحي يكن ـ ط 2 ـ دار البشير ـ الأردن 1403هـ/1983م.

ـ الفكر الصوفي، د. عبد القادر محمود ـ ط 1 ـ مطبعة المعرفة ـ القاهرة ـ 1968م.

ـ الإسلام في القرن العشرين ـ عباس محمود العقاد.

ـ السودان عبر القرون ـ د. مكي شبيكة ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ لبنان بدون تاريخ.

ـ تاريخ السودان وجغرافيته، تأليف نعوم شقير.

ـ دائر معارف القرن العشرين، د. محمد فريد وجدي.

ـ منشورات المهدي، موجودة في الإدارة المركزية في وزارة الداخلية بالخرطوم بأصولها. وقد نشرتها الداخلية السودانية مصوّرة عن أصل مطبوع بمطبعة الحجر في أم درمان سنة 1382هـ/1963م في جزأين كبيرين بعنوان منشورات الإمام المهدي عليه السلام.

ـ يسألونك عن المهدية، الصادق المهدي.

ـ حركة المهدي السوداني ـ شريط كاسيت الدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


2-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 2)

إِبْرَاء -2

الْمُبْرِئُ وَشُرُوطُهُ:

27- الْإِبْرَاءُ كَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَرِّفِ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّعَاقُدِ، مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعَقْدِ. وَلَكِنَّ الْأَهْلِيَّةَ الْمَطْلُوبَةَ هُنَا هِيَ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ، بِأَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ أَوِ الْمَدْيُونِيَّةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْحَجْرِ).

وَتُشْتَرَطُ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ إِبْرَاءٍ لَا يَخْلُو مِنْ حَقٍّ يَجْرِي التَّنَازُلُ عَنْهُ (بِإِسْقَاطِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ)، لِذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ التَّنَازُلَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْهُ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمُبْرِئِ وِلَايَةٌ عَلَى الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ أَوْ مُوَكَّلاً بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، أَوْ مُتَصَرِّفًا بِالْفُضَالَةِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَحِقَتْهُ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فُضُولِيّ).

وَالْعِبْرَةُ فِي وِلَايَةِ الْمُبْرِئِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ هُوَ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِمَا فِي الظَّنِّ. فَلَوْ أَبْرَأَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِ أَبِيهِ ظَانًّا بَقَاءَ أَبِيهِ حَيًّا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا حِينَ الْإِبْرَاءِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُبْرَأَ مِنْهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ الْإِبْرَاءِ فِي الْوَاقِعِ.

وَيُشْتَرَطُ الرِّضَا، فَإِبْرَاءُ الْمُكْرَهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِفَرَاغِ الذِّمَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُوبُ شَرِيطَةَ الرِّضَا أَنْ يَعْلَمَ الْمَدِينُ وَحْدَهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، فَيَكْتُمُهُ عَنِ الدَّائِنِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَكْثِرَهُ فَلَا يُبْرِئَهُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ صَادِرٌ حِينَئِذٍ عَنْ إِرَادَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ.

التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ:

28- يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِهِ، وَلَا يَكْفِي لَهُ إِذْنُ الْوَكَالَةِ بِعَقْدٍ مَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ بِشَأْنِ السَّلَمِ أَنَّهُ إِذَا أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمُسَلَّمِ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ بِلَا إِذْنٍ لَمْ يَبْرَأْ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ. فَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ: لَسْتَ وَكِيلاً وَالسَّلَمُ لَكَ وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ، نَفَذَ الْإِبْرَاءُ ظَاهِرًا، وَتَعَطَّلَ بِذَلِكَ حَقُّ الْمُسَلِّمِ، وَغَرِمَ لَهُ الْوَكِيلُ قِيمَةَ رَأْسِ الْمَالِ لِلْحَيْلُولَةِ، فَلَا يَغْرَمُ بَدَلَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَيْلَا يَكُونَ اعْتِيَاضًا عَنْهُ. كَمَا خَصَّ الْحَنَفِيَّةُ إِبْرَاءَ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِمَا، وَيَضْمَنَانِ. وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مَأْذُونًا بِالْإِبْرَاءِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَأَجْرَاهُ فِي حُضُورِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ.

وَإِنْ وَكَّلَهُ بِإِبْرَاءِ غُرَمَائِهِ، وَكَانَ الْوَكِيلُ مِنْهُمْ لَمْ يُبْرِئْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ فَأَبْرِئْ نَفْسَكَ، فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ.

إِبْرَاءُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:

29- يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبْرِئُ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ الْمُبْرَأِ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَالدَّيْنُ يُجَاوِزُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ الْمُبْرَأُ وَارِثًا تَوَقَّفَ الْإِبْرَاءُ كُلُّهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ أَحَدَ مَدْيُونِيهِ، وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ، لَمْ يَنْفُذْ إِبْرَاؤُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ (مَرَضِ الْمَوْتِ).

الْمُبْرَأُ وَشُرُوطُهُ:

30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْمُبْرَأِ، فَلَا يَصِحُّ. الْإِبْرَاءُ لِمَجْهُولٍ.

وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَلَوْ أَبْرَأَ أَحَدَ مَدِينِيهِ عَلَى التَّرَدُّدِ لَمْ يَصِحَّ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُبْرَأِ تَعْيِينًا كَافِيًا. كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِبَرَاءَةِ كُلِّ مَدِينٍ لَهُ لَا يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ مَدِينًا مُعَيَّنًا أَوْ أُنَاسًا مَحْصُورِينَ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُبْرَأِ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، بَلْ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِلْمُنْكِرِ أَيْضًا، بَلْ حَتَّى لَوْ جَرَى تَحْلِيفُ الْمُنْكِرِ يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبْرِئَ يَسْتَقِلُّ بِالْإِبْرَاءِ- لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَبُولِ- فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَصْدِيقِ الْغَرِيمِ.

الْمُبْرَأُ مِنْهُ (الْمَحَلُّ) وَشُرُوطُهُ:

31- يَخْتَلِفُ الْمُبْرَأُ مِنْهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ أَوِ الدُّيُونِ أَوِ الْأَعْيَانِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْ ذَلِكَ فِي (مَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ). وَتَبَعًا لِلِاخْتِلَافِ السَّابِقِ بَيَانُهُ، فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ أَوِ الْغَالِبُ فِيهِ أَحَدُهُمَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَعْنَى الْإِسْقَاطِ ذَهَبَ إِلَى الصِّحَّةِ.

فَالِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، بَلْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُبْرَأُ مِنْهُ مَجْهُولاً لِكُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ (الْمُوَكِّلِ، وَالْوَكِيلِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ) لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- كَمَا قَالُوا- هِبَةٌ، وَهِبَةُ الْمَجْهُولِ جَائِزَةٌ. وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَبْرَأَ ذِمَّةَ غَرِيمِهِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ بِكَمْ هِيَ مَشْغُولَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.

وَيَقْرَبُ مِنْهُ الِاتِّجَاهُ الثَّانِي، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَهُوَ صِحَّةُ الْإِبْرَاءِ مَعَ الْجَهْلِ إِنْ تَعَذَّرَ عِلْمُهُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَتَمَهُ طَالِبُ الْإِبْرَاءِ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ الْمُبْرِئُ لَمْ يُبْرِئْهُ، لَمْ يَصِحَّ.

أَمَّا الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَجْهُولِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ أَوِ الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ، حَتَّى الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ وَمِقْدَارِ الْأَجَلِ. كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْإِبْرَاءُ ضِمْنَ مُعَاوَضَةٍ كَالْخُلْعِ، اشْتُرِطَ عِلْمُ الطَّرَفَيْنِ بِالْمُبْرَأِ عَنْهُ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكْفِي عِلْمُ الْمُبْرِئِ وَحْدَهُ، وَلَا أَثَرَ لِجَهْلِ الشَّخْصِ الْمُبْرَأِ.

32- وَمِمَّا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجْهُولِ مَا لَا تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ، بِخِلَافِ مَا تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ، كَإِبْرَائِهِ مِنْ حِصَّتِهِ فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ، لَكِنْ يَعْلَمُ قَدْرَ تَرِكَتِهِ، فَتَسْهُلُ مَعْرِفَةُ الْحِصَّةِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ أَمْكَنَتْ مَعْرِفَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُحْتَاطُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَيْسَ مَوْضِعَ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ صُورِيَّةٌ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ، هُمَا: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدِّيَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَمَا إِذَا ذَكَرَ غَايَةً يَتَيَقَّنُ أَنَّ حَقَّهُ دُونَهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ، بِأَنْ يُبْرِئَهُ عَمَّا يَتَأَكَّدُ أَنَّهُ أَزْيَدُ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَضَافَ الرَّمْلِيُّ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَ إِنْسَانًا مِمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ.

وَمِنْ صُوَرِ الْمَجْهُولِ: الْإِبْرَاءُ مِنْ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ، كَمَا فِي الطَّلَاقِ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَعْنِي ثُمَّ يُقْرِعُ عَلَى الْمَذْهَبِ.

شُرُوطٌ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ:

أ- شَرْطُ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِلشَّرْعِ:

33- مِمَّا هُوَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِلشَّرِيعَةِ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ، كَإِبْرَاءِ مَنْ شَرَطَ التَّقَابُضَ فِي الصَّرْفِ، وَالْإِبْرَاءِ مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ (عَلَى خِلَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ) وَالْإِبْرَاءِ مِنْ حَقِّ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، وَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ. لِأَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَغَيُّرِ الْمَشْرُوعِ بَاطِلٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَغْيِيرَ حُكْمِ اللَّهِ.

كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الْإِبْرَاءُ إِلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْغَيْرِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الْأُمِّ الْمُطَلَّقَةِ عَنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الصَّغِيرِ مَعَ وُجُودِ حَقٍّ لِلْحَاضِنَةِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ.

ب- شَرْطُ سَبْقِ الْمِلْكِ:

34- يُشْتَرَطُ سَبْقُ مِلْكِ الْمُبْرِئِ لِلْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ دُونَ إِنَابَةٍ مِنْهُ، أَوْ فَضَالَةٍ عَنْهُ (عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ). وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي حَالَةِ الظُّهُورِ بِمَظْهَرِ الْمَالِكِ، حَتَّى عِنْدَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْفُضُولِيَّ هُوَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيمَا تَظْهَرُ مِلْكِيَّةُ غَيْرِهِ لَهُ، وَإِلاَّ كَانَ مِنْ بَيْعِ مَا لَا يَمْلِكُ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ... وَتَدُلُّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا تَفْصِيلُهُ فِي (الْأَهْلِيَّة) (وَالْعَقْد) وَمَا قَرَّرُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ بَيْنَ الدُّيُونِ مِنْ أَنَّهَا تَقُومُ عَلَى

أَسَاسِ مِلْكِ الدَّائِنِ لِلدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَأَنَّ الْمَدِينَ عِنْدَ الْإِيفَاءِ يَمْلِكُ مِثْلَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الدَّائِنِ، فَتُقْضَى الدُّيُونُ بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا. وَمِثْلُ الْإِيفَاءِ: الْإِبْرَاءُ فِي وُرُودِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ الْمُبْرِئُ فِي ذِمَّةِ الشَّخْصِ الْمُبْرَأِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي إِبْرَاءِ الْمُحَالِ الْمُحِيلَ عَنِ الدَّيْنِ، حَيْثُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ، فَيُصَادِفُ الْإِبْرَاءُ ذِمَّةً مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ.

وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بِقَوْلِهِ:

«فِي مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ يَمْلِكُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وَقَدْ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِ الْمَدْيُونِ قَهْرًا مِمَّنْ كَانَ يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ» أَيْ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْقَبُولَ كَمَا سَبَقَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ عَمِيرَةَ: «إِنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ تَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْمِلْكِ» وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَقِبَ حَدِيثِ «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» وَالْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا.

وَيُسْتَفَادُ مِنْ تَصْرِيحِ الدَّرْدِيرِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْهِبَةِ وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ فِي مَالِ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَبْقُ مِلْكِ الْمُبْرِئِ لِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ.

بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِضَرُورَةِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ حَيْثُ عَلَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْهُمْ عَدَمَ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ التَّقَابُضِ بِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمُبْرِئِ بِمِلْكِهِ مَا يُبْرِئُ مِنْهُ، أَمْ يَكْفِي تَحَقُّقُ مِلْكِهِ إِيَّاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ اعْتَقَدَ عَدَمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ لِلْأَبِ دَيْنٌ عَلَى شَخْصٍ، فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ الِابْنُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَ أَبِيهِ، فَبَانَ مَيِّتًا، أَيْ فَظَهَرَ أَنَّ الِابْنَ الْمُبْرِئَ يَمْلِكُهُ فِي الْوَاقِعِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ اعْتُبِرَ الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطًا أَوْ تَمْلِيكًا، كَمَا سَبَقَ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا بَيْنَ كَوْنِ الْإِبْرَاءِ إِسْقَاطًا فَيَصِحُّ، أَوْ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْإِبْرَاءُ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَقِّ أَوْ دَفْعِهِ:

35- الْإِبْرَاءُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ بِقَضَائِهِ الْمُطَالَبَةُ، لَا أَصْلُ الدَّيْنِ، وَلِذَا قَالُوا: الدَّيْنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا (أَيْ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تُقْضَى الدُّيُونُ بِأَمْثَالِهَا فَتَسْقُطُ مُطَالَبَةُ كُلٍّ لِلْآخَرِ لِانْشِغَالِ ذِمَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَيْنِ الْآخَرِ. فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ لِلْمَدِينِ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّاهُ إِذَا أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ. أَمَّا إِذَا أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ اسْتِيفَاءٍ فَلَا رُجُوعَ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنَ الصِّيغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَقْسَامِ الْإِبْرَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ، فَاخْتَارَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِ غَيْرِهَا فِي عَصْرِهِ.

وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْعُرْفُ.

وَعَلَيْهِ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِإِبْرَائِهَا لَهُ مِنَ الْمَهْرِ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهَا، لَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ صَحَّتْ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَهُ.

وَمِثْلُهُ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى وَجْهِ الْإِسْقَاطِ فَلِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا تَبَرَّعَ بِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الصُّوَرَ إِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّامِنَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْهُ الْغَرِيمُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَهَبَهُ بَعْضَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

ج- وُجُوبُ الْحَقِّ، أَوْ وُجُودُ سَبَبِهِ:

36- الْأَصْلُ أَنْ يَقَعَ الْإِبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْشِغَالِهَا. وَلَكِنَّهُ قَدْ يَأْتِي قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي يَنْشَأُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَوُجُودُهُ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ سَاقِطٌ أَصْلاً بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِسْقَاطِ مَا هُوَ سَاقِطٌ فِعْلاً، وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ مُجَرَّدَ امْتِنَاعٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، لِأَنَّهُ وَعْدٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.

37- وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَفِي اشْتِرَاطِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَحُصُولِهِ فِعْلاً خِلَافٌ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَإِنْ انْعَقَدَ السَّبَبُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يُمْلَكُ». وَالْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَقَدِ اعْتَبَرُوا مَا لَمْ يَجِبْ سَاقِطًا فَلَا مَعْنَى لِإِسْقَاطِهِ.

وَقَدْ مَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ فَرْضِهَا (أَيْ الْقَضَاءِ بِتَقْدِيرِهَا) فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ- بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ- وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَصِحُّ. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا الْإِبْرَاءُ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِيهِ تَبَعًا لِوُجُوبِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبْرَاءُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ مِنَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِ رَدِّهَا (أَيْ تُصْبِحُ لَدَيْهِ وَدِيعَةً) لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَعَلَّقَ بِضَمَانِ الرَّدِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ. أَمَّا إِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ، أَوْ مَنَعَهَا مِنَ الْمَالِكِ بَعْدَ طَلَبِهَا، فَلَا أَثَرَ لِلْإِبْرَاءِ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا. فَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِبْرَاءُ بِالْقِيمَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ.

كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ (فِيمَا لَوْ تَكَفَّلَ بِأَدَاءِ مَا يَمُوتُ فُلَانٌ وَلَمْ يُؤَدِّهِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَمَّا يَجِبُ مِنْ مَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَالُ لَمْ يَجِبْ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، فَلَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَنَحْوُهُ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ ثَمَنِ مَا تَشْتَرِيهِ مِنِّي غَدًا فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ أَيْضًا.

وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِإِبْرَاءِ الْمُفَوِّضَةِ عَنْ مَهْرِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ (التَّقْدِيرِ) وَالدُّخُولِ، وَمِثْلُهُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِعَدَمِ الْوُجُوبِ. وَاسْتَثْنَوْا صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَهِيَ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، أَوْ رَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ حَافِرُهَا مِمَّا يَقَعُ فِيهَا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ السَّبَبِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ أَوِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي يَنْشَأُ بِهَا الْحَقُّ الْمُبْرَأُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ بَعْدُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ الْحَطَّابُ فِي (الِالْتِزَامَاتِ) فَعَقَدَ فَصْلاً لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَتَعَرَّضَ لِلْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْخِلَافِ، وَاسْتَظْهَرَ الِاكْتِفَاءَ بِالسَّبَبِ. وَمِمَّا قَالَ: «إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، فَقَالَ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِمَّا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْوُجُوبِ (وَذَكَرَ عِبَارَاتٍ شَتَّى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى تَقَدُّمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَوْ حُصُولُ الْوُجُوبِ) ثُمَّ قَالَ: فَهُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ بَعْدَ سَبَبِهِ».

ثُمَّ أَشَارَ الْحَطَّابُ إِلَى مَسْأَلَةِ إِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ: فِي لُزُومِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: هَلْ يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا قَدْ وُجِدَ، أَوْ لَا يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ: «وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ لَزِمَهَا ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ».

38- وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاعْتِقَادِ، فَلَوْ أَبْرَأَهُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ لِمُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَصْرِيحٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ سِوَى الِاسْتِئْنَاسِ بِمَا سَبَقَ فِي شَرْطِ (سَبْقِ الْمِلْكِ) مِنَ اكْتِفَائِهِمْ بِالْوَاقِعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، أَوْ عَدَمُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ.

كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ، لِجَعْلِهِمْ مُتَعَلِّقَ الْإِبْرَاءِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ لَا وَقْتُ وُجُوبِهِ، وَلِاعْتِبَارِهِمُ الْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ صِفَتَيْنِ، وَالْإِبْرَاءُ يَتَّصِلُ بِأَصْلِ وُجُوبِ الْحَقِّ لَا بِصِفَاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ هُوَ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ مُطْلَقًا، فَالْحَقُّ يُعْتَبَرُ وَاجِبًا وَلَوْ تَأَخَّرَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

مَوْضُوعُ الْإِبْرَاءِ

39- الْإِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ عَيْنًا (مَالاً مُعَيَّنًا) أَوْ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّيْنِ:

40- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَمِ يَجْرِي فِيهَا الْإِبْرَاءُ، لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مَدَارُهُ إِسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَمِ.

الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ:

41- الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ، أَوْ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّعْوَى بِصَدَدِ الْحُقُوقِ.

أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَا تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ، فَإِذَا أُطْلِقَ هَذَا التَّعْبِيرُ فَالْمُرَادُ الصَّحِيحُ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ عَنْ عُهْدَتِهَا أَوْ دَعْوَاهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا، كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (أَوْ هُوَ ثُبُوتُ الْبَرَاءَةِ بِالنَّفْيِ مِنَ الْأَصْلِ، أَوْ بِرَدِّ الْعَيْنِ إِلَى صَاحِبِهَا فِي إِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الْمُرَادَ سُقُوطُ الطَّلَبِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ إِذَا فَوَّتَهَا الْمُبْرَأُ، وَسُقُوطُ الطَّلَبِ بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ هُنَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ صَرَاحَةً، وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ عَنْهَا ضِمْنًا، أَوْ مِنْ خِلَالِ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ، فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ ضِمْنِيًّا كَمَا لَوْ جَاءَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ، فَعَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ لَا عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا. وَعَلَى جَوَابِ الْهِدَايَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ إِسْقَاطٌ لِلْبَاقِي، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ مُبَاشَرَةً.

وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَامًّا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ وَغَيْرَهَا، فَالْخِلَافُ لَيْسَ فِي هَذَا. فَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مَتَى لَاقَى عَيْنًا لَا يَصِحُّ، مَحْمُولٌ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ- عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِبْرَاءُ الْمُقَيَّدُ بِالْعَيْنِ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى دَعْوَاهُ، بَلْ تَسْقُطُ فِي الْحُكْمِ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لِابْنِ عَابِدِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لِلْمُبْرِئِ أَخْذَ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، فَلَوْ هَلَكَتْ سَقَطَ (أَيْ ضَمَانُهَا) لِأَنَّهَا بِالْإِبْرَاءِ صَارَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، أَيْ أَمَانَةً.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَصْحِيحِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا مَا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً، كَالدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْهَا صَحِيحٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَالِكَةً أَمْ قَائِمَةً، لِأَنَّ الْهَالِكَةَ كَالدَّيْنِ، وَالْقَائِمَةَ يُرَادُ الْبَرَاءَةُ عَنْ ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، فَتَصِيرُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ يَصِحُّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.

الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحُقُوقِ:

42- الْحُقُوقُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقًّا خَالِصًا لِلَّهِ أَوْ حَقًّا خَالِصًا لِلْعَبْدِ، أَوْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَعَ غَلَبَةِ أَحَدِهِمَا. وَهِيَ إِمَّا مَالِيَّةٌ كَالْكَفَالَةِ، أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ، كَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَالْإِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُهُ حَقًّا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، بِحَسَبِ الصِّيغَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَقْتَضِي الْعُرْفُ اسْتِيعَابَهُ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، عَلَى الرَّاجِحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الدَّلَالَةِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ (عِنْدَ) وَ (مَعَ) لِلْأَمَانَاتِ، وَ (عَلَى) لِلدُّيُونِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

وَقَدْ تَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ حَتَّى جَعَلُوهَا تَشْمَلُ «الدُّيُونَ وَالْقَرْضَ وَالْقِرَاضَ وَالْوَدَائِعَ وَالرُّهُونَ وَالْمِيرَاثَ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِتْلَافِ كَالْغُرْمِ لِلْمَالِ» وَهُوَ إِطْلَاقٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، يَدْخُلُ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَالْكَفَالَةُ وَالْجِنَايَةُ.

فَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْحُقُوقِ الْخَالِصَةِ لِلْعَبْدِ، كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الْحُقُوقُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ كَحَدِّ الزِّنَى فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا. وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَحَدِّ السَّرِقَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي غَلَبَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ، كَالتَّعْزِيرِ فِي قَذْفٍ لَا حَدَّ فِيهِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَوْطِنُهُ الْأَبْوَابُ الَّتِي يُفَصَّلُ فِيهَا ذَلِكَ الْحَقُّ.

الْإِبْرَاءُ عَنْ حَقِّ الدَّعْوَى:

43- الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَكَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي: يَكُونُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّعْوَى عَامًّا مُطْلَقًا إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تُجَاهَ شَخْصٍ مَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَمَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا.

وَمِنَ الْعَامِّ نِسْبِيًّا الْإِبْرَاءُ عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَخْصٍ إِلَى تَارِيخِ الْإِبْرَاءِ، فَهَذَا الْإِبْرَاءُ صَحِيحٌ، وَلَا تُسْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَاهُ بِحَقٍّ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ.

وَالْخَاصُّ مَا كَانَ عَنْ دَعْوَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ اتِّفَاقًا، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ.

وَحَقَّقَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ فِي صُورَةِ التَّغْمِيمِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ أَبْطَلَ إِنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَقَصَرَ الصِّحَّةَ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى مَخْصُوصَةٍ.

هَذَا عَنِ الدَّعْوَى أَصَالَةً. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا تَبَعًا فَهُوَ مَالُ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ إِذْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ ضَمَانِهَا أَوْ عَنْ دَعْوَاهَا، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا بَاطِلٌ، وَهِيَ لَا تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ عَلَى مَا سَبَقَ.

أَنْوَاعُ الْإِبْرَاءِ:

44- الْإِبْرَاءُ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ لِأَصْلِ الصِّيغَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ مَا يُبْرَأُ بِهِ عَنْ كُلِّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَحَقٍّ، وَأَلْفَاظُهُ كَثِيرَةٌ وَلِلْعُرْفِ فِيهَا مَدْخَلٌ، عَلَى مَا سَبَقَ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَفْصِيلٍ لِفِكْرَةِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لَمْ نَقِفْ عَلَى مِثْلِهِ صَرِيحًا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، إِذْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَسْتَوِي فِي الْعُمُومِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ، كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ حَقِّي. وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حَقِّي، عَلَى مَا بَحَثَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ الْحَنَفِيُّ.

أَمَّا الْإِبْرَاءُ الْخَاصُّ، فَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ تَبَعًا لِمَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ:

أ- إِبْرَاءٌ خَاصٌّ بِدَيْنٍ خَاصٍّ، كَأَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِ كَذَا، أَوْ بِدَيْنٍ عَامٍّ، كَأَبْرَأْتُهُ مِمَّا لِي عَلَيْهِ. فَيَبْرَأُ عَنِ الدَّيْنِ الْخَاصِّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَعَنْ كُلِّ دَيْنٍ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، دُونَ التَّعَيُّنِ.

ب- إِبْرَاءٌ خَاصٌّ بِعَيْنٍ خَاصَّةٍ، كَأَبْرَأْتُهُ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ بِكُلِّ عَيْنٍ، أَوْ خَاصٌّ بِالْأَمَانَاتِ دُونَ الْمَضْمُونَاتِ. (ثُمَّ هَذَا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ إِمَّا عَنْهَا نَفْسِهَا وَإِمَّا عَنْ دَعْوَاهَا وَهُوَ مَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ أَوِ الْإِخْبَارِ، وَأَثَرُ هَذَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ).

وَالْإِبْرَاءُ يَتَّبِعُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَصْلِ الصِّيغَةِ أَوْ فِي الْمَوْضُوعِ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُدَّعِي الْمُبْرِئِ فِيمَا تَنَاوَلَ الْإِبْرَاءَ. فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ عَنْ كُلِّ حَقٍّ، وَلَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. كَمَا يَدْخُلُ مَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا هُوَ مَالٌ كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، أَوْ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَمَا هُوَ مَضْمُونٌ كَالْمَغْصُوبِ، أَوْ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ.

شُمُولُ الْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ وَالْمِقْدَارُ:

45- الْإِبْرَاءُ لَا يَشْمَلُ مَا بَعْدَ تَارِيخِهِ مِنْ دُيُونٍ أَوْ حُقُوقٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُبْرِئِ، بَعْدَ إِبْرَائِهِ الْعَامِّ بِشَيْءٍ سَابِقٍ لِتَارِيخِهِ، وَذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ.

عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ خَاصًّا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ أَصْلاً، وَهَذَا إِذَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِصَايَةٍ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَيْرِهِ، فَكَمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِصَايَةٍ.

وَلَا يَشْمَلُ الْإِبْرَاءُ ضَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ، لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ ذَلِكَ الضَّمَانَ الْحَادِثَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِالرُّجُوعِ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَاحِقٌ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الشُّمُولِ وَحُدُودِهِ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوَاهُ بِقَوْلِهِ: «الْبَرَاءَةُ السَّابِقَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الدَّيْنِ اللاَّحِقِ».

وَمِمَّا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ هُنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُبْرِئِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا كَانَ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ فَقَطْ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: لَيْسَ قَصْدِي عُمُومَ الْإِبْرَاءِ بَلْ تَعَلُّقَهُ بِشَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ كَذَا، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فَفِي ادِّعَاءِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ بِقَلْبِهِ يُقْبَلُ، وَلِخَصْمِهِ تَحْلِيفُهُ.

وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ حَصَلَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لِتُقْبَلَ دَعْوَاهُ بِهِ، كَمَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْجَهْلَ بِقَدْرِ الْمُبْرَأِ مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى النِّسْيَانِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْجَهْلِ بَيْنَ مَا إِذَا بَاشَرَ سَبَبَ الدَّيْنِ بِنَفْسِهِ، أَوْ رُوجِعَ إِلَيْهِ عِنْدَ السَّبَبِ

فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَإِلاَّ فَيُقْبَلُ، وَفِي دَعْوَى النِّسْيَانِ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ.

سَرَيَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَشْخَاصُ:

46- لِلْإِبْرَاءِ- عَدَا شُمُولِهِ الزَّمَنِيِّ- سَرَيَانٌ لِغَيْرِ الْمُبْرَأِ أَحْيَانًا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِقْدَارُ مَا حَطَّهُ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي. وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ إِنْ كَانَ يَصْلُحُ ثَمَنًا (بِأَنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَقَلِّ) اسْتَفَادَ الشَّفِيعُ مِنَ الْإِبْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى كُلِّهِ قَبْلَ الْحَطِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَصِحُّ وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ سِوَى الْمُشْتَرِي، أَمَّا الشَّفِيعُ فَيَأْخُذُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ أَوْ يَتْرُكُ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ إِبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَسْرِي إِلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاءَهُ إِسْقَاطٌ لِلْوَثِيقَةِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي سُقُوطَ أَصْلِ الدَّيْنِ، وَهَذَا إِنْ أَبْرَأَهُ مِنَ الضَّمَانِ، أَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي عَلَى مَا قَالَ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ مَحَالُّهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ تَكَرَّرَ الْكُفَلَاءُ وَتَتَابَعُوا، فَإِنَّ إِبْرَاءَ غَيْرِ الْأَصِيلِ مِنَ الْمُلْتَزِمِينَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَنْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَرْعُهُ، لَا مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَبْرَأُ بِبَرَاءَةِ فَرْعِهِ.

وَفِي الْغَصْبِ إِنْ أَبْرَأَ غَاصِبَ الْغَاصِبِ بَرِئَ الْأَوَّلُ أَيْضًا، أَمَّا إِنْ أَبْرَأَ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ فَقَطْ فَلَا يَبْرَأُ الثَّانِي.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


3-موسوعة الفقه الكويتية (دعوة 1)

دَعْوَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الدَّعْوَةُ مَصْدَرُ (دَعَا) تَقُولُ: دَعَوْتُ زَيْدًا دُعَاءً وَدَعْوَةً، أَيْ نَادَيْتُهُ.

وَقَدْ تَكُونُ لِلْمَرَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أَيْ دَعَاكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَالدَّعْوَةُ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ مِنْهَا:

أ- النِّدَاءُ، تَقُولُ دَعَوْتُ فُلَانًا أَيْ نَادَيْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى (دَعَا) مُطْلَقًا وَلَوْ مِنَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى، وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}

ب- الطَّلَبُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَمِنْهُ قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الدُّعَاءِ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ (الدَّعْوَةِ).وَمِثْلُهُ (الدَّعْوَى) كَمَا فِي قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ آخِرُ دُعَائِهِمْ، وَقَدْ يُخَصُّ بِطَلَبِ الْحُضُورِ، تَقُولُ: (دَعَوْتُ فُلَانًا) أَيْ قُلْتُ لَهُ تَعَالَ.

ج- وَالدَّعْوَةُ الدِّينُ أَوِ الْمَذْهَبُ، حَقًّا كَانَ أَمْ بَاطِلاً، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}.

د- وَالدَّعْوَةُ مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.

وَخَصَّهَا اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ.

هـ- وَالدَّعْوَةُ الْحِلْفُ، أَيْ لِأَنَّهُ يُدْعَى بِهِ لِلِانْتِصَارِ.

و- وَالدَّعْوَةُ النَّسَبُ، تَقُولُ: فُلَانٌ يُدْعَى لِفُلَانٍ، أَيْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} وَالْمَنْسُوبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ يُقَالُ لَهُ: الدَّعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ (الدَّعْوَةُ) وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الدِّعْوَةُ (بِكَسْرِ الدَّالِ) فِي النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الطَّعَامِ، وَعَدِيُّ بْنُ الرَّبَابِ عَلَى الْعَكْسِ يَفْتَحُونَ الدَّالَ فِي النَّسَبِ وَيَكْسِرُونَ فِي الطَّعَامِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالضَّمِّ.

ز- وَالدَّعْوَةُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَنْصَارِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْحَبَشَةِ» جَعْلُ الْأَذَانِ فِي الْحَبَشَةِ تَفْضِيلاً لِمُؤَذَّنِ بِلَالٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْأَذَانِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُجِيبُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ...إِلَخْ».

وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.

2- وَسَنَقْصِرُ الْبَحْثَ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:

أ- الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ.

ب- وَالدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ وَطَلَبِ الْحُضُورِ إِلَى الدَّاعِي.

وَأَمَّا الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الدُّعَاءِ.وَهُوَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ الدَّاعِي وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (دُعَاءٌ).

وَأَمَّا الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النَّسَبِ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي: (نَسَبٌ).

أَوَّلاً:

الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى الدِّينِ «أَوِ الْمَذْهَبِ» أَوْ بِمَعْنَى الدُّخُولِ فِيهِمَا:

3- أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَوَاضِحٌ مَأْخَذُهُ لُغَةً، فَإِنَّ الدَّاعِيَ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُتَابِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَالطَّلَبُ دَعْوَةٌ.

وَأَمَّا إِطْلَاقُ الدَّعْوَةِ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَيْ لِأَنَّهَا يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الْكَافِرَةِ.وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هِرَقْلَ: «إِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ «دَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ».قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: أَيْ بِدَعْوَتِهِ.

وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهَا دَعَوَاتٌ، كَدَعَوَاتِ الْمُتَنَبِّئِينَ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، كَالدَّعَوَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرَتْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُصْطَلَحِ وَمُشْتَقَّاتِهِ، غَيْرَ أَنَّ «الدَّعْوَةَ» إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا دَعْوَةُ الْحَقِّ وَهِيَ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ: «لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ لَا تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

4- أ- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْسَعُ دَلَالَةً مِنَ «الدَّعْوَةِ»، إِذْ أَنَّ «الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ» أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْإِشْرَاكُ بِهِ وَمَعْصِيَتُهُ.

(وَالدَّعْوَةُ) تَهْدُفُ إِلَى الْإِقْنَاعِ وَالْوُصُولِ إِلَى قُلُوبِ الْمَدْعُوِّينَ لِلتَّأْثِيرِ فِيهَا حَتَّى تَتَحَوَّلَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ أَوِ الْعِنَادِ، إِلَى الْإِقْبَالِ وَالْمُتَابَعَةِ، أَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَزَوَالِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ أَحَصَلَ الِاقْتِنَاعُ وَالْمُتَابَعَةُ أَمْ لَمْ يَحْصُلَا.

وَعَلَى هَذَا فَالدَّعْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

ب- الْجِهَادُ:

5- الْجِهَادُ الْقِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ فِعْلٌ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ هُوَ الدَّعْوَةُ، بَلِ الدَّعْوَةُ مُطَالَبَةُ الْكَافِرِ وَنَحْوِهِ بِالْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ، وَالدَّعْوَةُ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقِتَالِ، كَمَا سَيَأْتِي.

ج- الْوَعْظُ:

6- الْوَعْظُ وَالْعِظَةُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، قَالَ ابْنُ سِيدَةَ: هُوَ تَذْكِيرُكَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يُلَيِّنُ قَلْبَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَةِ، إِذِ الدَّعْوَةُ تَكُونُ أَيْضًا بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبَهِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ مُجَرَّدًا.

حُكْمُ الدَّعْوَةِ:

7- الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ لَازِمٌ، لقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وَقَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ هَلْ هُوَ عَيْنِيٌّ أَمْ كِفَائِيٌّ.

وَتَفْصِيلُهُ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ: «أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ».

فَضْلُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:

8- يَتَبَيَّنُ فَضْلُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ: 9- الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:

أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوَلاَّهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكُتُبَ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِهِ الرَّبَّ الْخَالِقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ، وَفِي كُتُبِهِ ذَكَرَ الْبَرَاهِينَ الَّتِي تُثْبِتُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَشَّرَ وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وَتَوَلَّى الدَّعْوَةَ أَيْضًا رُسُلُهُ ((بِتَكْلِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَضْمُونَ الرِّسَالَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَدَّدَ لَهُ مَهَامَّ الرِّسَالَةِ وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًّا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.

فَوَظِيفَةُ الدَّاعِيَةِ إِذَنْ مِنَ الشَّرَفِ فِي مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ، إِذْ أَنَّهَا تَبْلِيغُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُتَابَعَةُ مُهِمَّةِ الرُّسُلِ، وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقِهِمْ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنْ يَقُولُوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ قَتَادَةُ: «أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ، وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا فِي الْخَيْرِ».

10- الْوَجْهُ الثَّانِي:

مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلِ، وَأَعْلَاهُ مَرْتَبَةً، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِشَرَفِ غَايَاتِهِ وَعِظَمِ أَثَرِهِ.

11- الْوَجْهُ الثَّالِثُ:

مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلُهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَالْآيَةُ تُبَيِّنُ أَفْضَلِيَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ دَعْوَةُ النَّاسِ، وَالتَّسَبُّبُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَانْتِهَائِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: حَصَرَتِ الْفَلَاحَ فِي الدُّعَاةِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ، عَنِ الْمُنْكَرِ.

12- الْوَجْهُ الرَّابِعُ:

مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» فَفِيهِ عِظَمُ أَجْرِ الدُّعَاةِ إِذَا اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِمْ أَقْوَامٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- لَمَّا أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».

أَهْدَافُ الدَّعْوَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

13- يَهْدُفُ تَشْرِيعُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى تَحْقِيقِ أَغْرَاضٍ سَامِيَةٍ مِنْهَا:

1- إِرْشَادُ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى أَعْلَى حَقٍّ فِي هَذَا الْوُجُودِ، إِذْ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لَا يَتَمَكَّنُ الْبَشَرُ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ، وَيَبْقَوْنَ فِي تَخَبُّطٍ مِنْ أَمْرِ أَصْلِ الْخَلْقِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، وَمَآلِهِ، وَوَضْعِ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَاتُ وَالْأَوْهَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ}: أَيْ بِالْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنِ، أَيْ بِدُعَائِكَ إِلَيْهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ وَلُطْفِهِ بِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّهُ الدَّاعِي، وَالْمُنْذِرُ الْهَادِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.

2- إِنْقَاذُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ إِذَا سَارُوا فِي حَيَاتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ تَوَقِّي مَا يَضُرُّهُمْ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى الْفَسَادِ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ جَاءَتْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَكْفُلُ لِمُتَّبِعِيهَا السَّعَادَةَ وَالصَّلَاحَ وَاسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ.قَالَ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ، أَوْ إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ، وَهَذَا إِحْيَاءٌ مُسْتَعَارٌ، لِأَنَّهُ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ، فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ.

3- تَحْقِيقُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَوْنَ وَمَهَّدَهُ لِلنَّاسِ لِيُعْبَدَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ}

قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لآِمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلاَّ لِيَعْرِفُونِي.قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ.

وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، لِيَتَمَكَّنَ الْخَلْقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ بِهَا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يُبَلَّغَ بِهِ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ.

4- إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، بِأَنَّ دِينَهُ وَشَرَائِعَهُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ حَتَّى إِنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ ظُلْمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

5- تَحْقِيقُ الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمَقْصُودَةِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ عَنْ كِتَابِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فَالدَّعْوَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى إِطْلَاعِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَا بِهِ، فَتَعُمُّ الرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْمَدَى الَّذِي يَشَاءُ إِلَيْهِ.

6- تَكْثِيرُ عَدَدِ الْأَقْوَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَتَحْقِيقُ عِزَّةِ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

7- مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْهَدَفُ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْغَافِلِينَ وَالْعُصَاةِ، وَالْعَوْدَةُ بِالْمُنْحَرِفِينَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَقْلِيلُ الْمَفَاسِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَإِزَالَةُ الشُّبَهِ الَّتِي يَنْشُرُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَتَكْثِيرُ الْمُلْتَزِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِتَعَالِيمِ الدِّينِ لِيَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ- وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ أَنْفُسُهُمْ- فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، وَفِي أَمْنٍ وَرَخَاءٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَذُلِّهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ حَتَّى غَلَبُوا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي قَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.

الدَّعْوَةُ إِلَى الْبَاطِلِ:

14- حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْبَاطِلِ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى دُعَاةِ الْبَاطِلِ فِي آيَاتٍ صَرِيحَةٍ وَأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، كَمَا حَذَّرَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ مُسَانَدَةِ الدَّاعِينَ إِلَى الْبَاطِلِ أَوْ تَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ.فَحَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دَعْوَةِ شَيْطَانِ الْجِنِّ الْإِنْسَانَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، بِأَنْ أَخْبَرَنَا بِمَقَالَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلضَّالِّينَ وَلِلْعُصَاةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَكَذَلِكَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ يَقُولُ لَهُمُ الْمَدْعُوُّونَ الَّذِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِهِمْ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} وَحَذَّرَ مِنْ مَصِيرِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَأَتْبَاعِهِمْ فَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَآلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}

وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْبَاطِلِ يَحْمِلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى وِزْرِ نَفْسِهِ أَوْزَارَ مَنْ ضَلُّوا بِدَعْوَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الدُّعَاةَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ، بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- : «مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الشَّرَّ فَقَالَ: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» الْحَدِيثَ.وَكُلُّ هَذَا يُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَذَرَ مِنْ دَعْوَةِ الْبَاطِلِ وَمِمَّنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ.

بَيَانُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ:

15- أَوَّلُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، الْإِيمَانُ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْحِيدُهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ، وَالْإِيمَانُ بِرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِيمَانُ بِسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُتَابَعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ- صلى الله عليه وسلم- وَتَعْظِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالِالْتِزَامُ بِسَائِرِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِهِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ شَوَائِبِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ، وَتَرْكُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ، وَتَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَالْأَحْكَامِ.

16- وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- وَفِي رِوَايَةٍ: فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ- فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ»- وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ- فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَدَأَ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُ إِلاَّ بِهِمَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}.

وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ عَبَّرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} وَهَذَا أَعْظَمُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الرُّسُلُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ نُوحٍ ((: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} وَقَوْلُ كُلٍّ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ- عليهما السلام- : {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وَاجِبُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ:

17- مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَمُتَابَعَةُ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ بِهِ بَابًا لِيَدْخُلَ إِلَى مَأْدُبَتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَحَمَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ» فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا:

«الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالتَّسَمِّي بِالْإِسْلَامِ، بَلْ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهِ وَالْعَمَلُ بِهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُنَافِي الْإِسْلَامَ مِنَ الِاعْتِمَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.

مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ:

18- مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لَا يُكَلَّفُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا رَغِبَ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي دُخُولِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ، وَيَعْلَمَ مَا جَاءَ بِهِ، وَيَفْهَمَ أَحْكَامَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، فَيَجِبُ إِعْطَاؤُهُ الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ قَبِلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ.قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ النَّاسَ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ نَاجُونَ.

الثَّانِي: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَدِلَّتِهَا اسْتِكْبَارًا أَوْ إِهْمَالاً أَوْ عِنَادًا، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ مُؤَاخَذُونَ.

الثَّالِثُ: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَنْ بَلَغَهُ اسْمُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَلْ سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا بِاسْمِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مُتَّهَمًا بِالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

الْمُكَلَّفُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ:

19- الْإِمَامُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ لأُِمُورٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِمَامَةَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا هِيَ لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ تَتَضَمَّنُ الْحِرْصَ عَلَى نَشْرِهِ، وَتَقْوِيَتِهِ، وَقِيَامِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاسْتِمْرَارِ كَلِمَتِهِ عَالِيَةً، وَتَتَضَمَّنُ الدِّفَاعَ عَنْهُ ضِدَّ الشُّبُهَاتِ، وَالضَّلَالَاتِ، الَّتِي يُلْقِيهَا وَيَبُثُّهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «وَلِيُّ الْأَمْرِ إِنَّمَا نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ» كَمَا أَنَّ مِنْ وَاجِبِ الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْجِهَادِ لِنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.

الثَّانِي: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامُ بِهَا أَوْ تَكْلِيفُ مَنْ يَقُومُ بِهَا، كَتَكْلِيفِهِ لِلْقُضَاةِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَهْلِ الْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ مَا حَصَلَ لِلْإِمَامِ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ مُحَاوِلاً الْإِصْلَاحَ جَهْدَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.

20- وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مُكَلَّفٌ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ أَوِ الْعَيْنِيِّ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَالِمًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ».وَقَوْلِهِ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» وَقَالَ بَعْدَ أَنْ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».

فَالْمُسْلِمُ يَدْعُو إِلَى أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى أَصْلِ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى نَحْوِ تَرْكِ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْعُقُوقِ، وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ.وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَيْءٍ يَجْهَلُهُ، لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ يُضِلُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَخْتَصُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ، وَجِدَالِ أَصْحَابِهَا، وَرَدِّ غُلُوِّ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا الدَّعْوَةُ إِلَى مَسَائِلَ جُزْئِيَّةٍ إِذَا عَلِمُوهَا وَأَصْبَحُوا بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ التَّبَحُّرُ فِي الْعِلْمِ الدِّينِيِّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَدْعُو إِلَى مَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: «وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ فَقِيهٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَكَذَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ» ثُمَّ قَالَ: «وَكُلُّ عَامِّيٍّ عَرَفَ شُرُوطَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْإِثْمِ..وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُولَدُ عَالِمًا بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّبْلِيغُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.فَكُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا.وَالْإِثْمُ- أَيْ فِي تَرْكِ التَّبْلِيغِ- عَلَى الْفُقَهَاءِ أَشَدُّ لِأَنَّ قُدْرَتَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ، وَهُوَ بِصِنَاعَتِهِمْ أَلْيَقُ».

شُرُوطُ الدَّاعِيَةِ:

21- يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا (أَيْ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا) وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلاً، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ مُكَلَّفَةٌ بِالدَّعْوَةِ، مُشَارِكَةٌ لِلرَّجُلِ فِيهَا.

وَرَاجِعْ هُنَا مُصْطَلَحَ: (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (ف 4).

أَخْلَاقُ الدَّاعِيَةِ وَآدَابُهُ:

22- يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ الدَّاعِيَةِ مُنْسَجِمَةٌ وَمُتَّفِقَةٌ مَعَ مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْخَيْرَ كُلَّهُ، مِنَ الْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالْوَفَاءِ، وَالصِّدْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْتَارَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ أَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَجَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ تَخَلُّقَ الدَّاعِي بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَاصْطِبَاغَهُ بِصِبْغَتِهِ، يُعِينُهُ عَلَى الدَّعْوَةِ، فَإِنَّهُ يُيَسِّرُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ قَبُولَ الدَّعْوَةِ، إِذْ يَرَوْنَ دَاعِيَهُمْ مُمْتَثِلاً لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».

الرَّابِعُ: أَنَّ مُوَافَقَةَ أَخْلَاقِ الدَّاعِي لِمَضْمُونِ دَعْوَتِهِ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الدَّعْوَةِ وَيُقَوِّيهِ فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالْأَتْبَاعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَثَلاً حَيًّا لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَمُوذَجًا عَمَلِيًّا يَحْتَذِيهِ الْأَتْبَاعُ، وَيَخْرُجُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الدَّعْوَةِ أَمْرًا خَيَالِيًّا بَعِيدًا عَنِ الْوَاقِعِ.هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمَدْعُوَّ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَخْلَاقِ الدَّاعِيَةِ مِنَ التَّفَاصِيلِ مَا قَدْ لَا تُبَلِّغُهُ الدَّعْوَةُ الْقَوْلِيَّةُ.

وَلَوْ أَنَّ أَخْلَاقَ الدَّاعِي كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا ضِمْنِيًّا لِدَعْوَتِهِ، وَإِضْعَافًا لَهَا فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالْأَتْبَاعِ، وَالْمَعْصِيَةُ قَبِيحَةٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا مِنَ الدَّاعِيَةِ أَشَدُّ قُبْحًا وَسُوءًا.وَهُوَ مُهْلِكٌ لِدَعْوَتِهِ، قَاطِعٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْقَبُولِ مِنْهُ.

وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِقٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.

الْخَامِسُ: التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ.

عَلَى الدُّعَاةِ أَنْ يَزِيدُوا عِنَايَتَهُمْ بِأَخْلَاقٍ وَصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ، لِمَا لَهَا مِنْ مِسَاسٍ بِالدَّعْوَةِ يُؤَدِّي إِلَى نَجَاحِهَا، كَالصَّبْرِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَدْعُوِّينَ، وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالْحُنْكَةِ وَالْفِطْنَةُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، وَمَعَ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَرِعَايَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَامَّةِ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ، وَالْفِطْنَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ التَّعَاوُنُ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدُّعَاةِ، مَعَ التَّحَابِّ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى تُؤْتِيَ الدَّعْوَةُ أُكُلَهَا، وَالْحَذَرُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَمِمَّنْ يُحَاوِلُونَ إِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الدُّعَاةِ.

طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا:

23- طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَبِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَدْعُوِّينَ وَالدُّعَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَعَامُلٌ مَعَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَأَمْزِجَتِهَا، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ فِي حَالٍ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَلَا بُدَّ لِلدَّاعِيَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِهِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وَالْحَكِيمُ- كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ- الْمُتْقِنُ لِلْأُمُورِ.

24- وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ الَّتِي سَارَ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَعَمِلَ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا حُجَجُ التَّجَارِبِ:

1- التَّمَسُّكُ بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي وَسَائِلِ الدَّعْوَةِ، فَلَا يَسْلُكْ وَسَائِلَ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ.

2- التَّدَرُّجُ فِي الدَّعْوَةِ.

3- التَّرَيُّثُ وَالتَّمَهُّلُ وَعَدَمُ اسْتِعْجَالِ النَّتَائِجِ قَبْلَ أَدَائِهَا.

4- التَّصَدِّي لِلشُّبُهَاتِ الَّتِي يَطْرَحُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ لِلتَّشْكِيكِ فِي الدَّعْوَةِ، أَوِ الدُّعَاةِ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.

5- تَنْوِيعُ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ بِاسْتِخْدَامِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.

6- الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْفُرَصِ الْمُتَاحَةِ لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ.

7- تَقْدِيمُ النَّفْعِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ لِكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، وَرِعَايَةِ الْيَتِيمِ، وَمَعُونَةِ الْمُضْطَرِّ.

8- إِنْشَاءُ الْمَرَاكِزِ التَّعْلِيمِيَّةِ لِيُتَابَعَ الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ، بِالتَّرْبِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَفْقِيهِهِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِئْصَالِ بَقَايَا الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَأَخْلَاقِهِمَا، وَعَدَاتِهِمَا، وَآدَابِهِمَا، الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللَّهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 4)

شُفْعَةٌ -4

الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَالِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَقَدْ بَنَى فِي الْأَرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.

فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ فَارِغَةً.وَهَذَا هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ.

أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلَا شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.

وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا لَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.

وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَلَا يُقْلَعُ مَجَّانًا.

فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ.لِأَنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.

وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ.لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلَا نَقْصُ الْأَرْضِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ.فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ.

فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

أ- تَرْكِ الشُّفْعَةِ.

ب- دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ.

ج- قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ.

وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَبْقَى وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ.

اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ.يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.

وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُولُ الْمِلْكُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ اسْتُحِقَّ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.

وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي.

تَبِعَةُ الْهَلَاكِ:

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الْأَنْقَاضُ وَالْأَخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي.وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلَا تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْأَنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا، فَأَمَّا إِذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لَا.فَإِنْ هَدَمَ لَا لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الْأَوَّلِ مَنْقُوضًا يَوْمَ الشِّرَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلَا تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ.لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ أَنِ انْهَدَمَ.

ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ.أَوْ نَقُولُ: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.

وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.

وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الْأَنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الِانْفِصَالِ وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ.وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ.لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.

مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:

51- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.

وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَوَجْهُ الِانْتِقَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِ فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ الشَّفِيعِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ.

وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرِ الِاسْتِحْقَاقُ.

مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:

52- تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.

ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.

ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ بَعْدَهُ.وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ.

رَابِعًا: الْإِبْرَاءُ وَالتَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لَا دِيَانَةً إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِالتَّفْصِيلِ كَالتَّالِي:

53- إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُلُ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.

فَالتَّنَازُلُ الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

أَمَّا التَّنَازُلُ الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ).

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ:

54- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنَازُلَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالتَّنَازُلِ عَنْهَا قَبْلَ الْبَيْعِ- فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ».

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ» إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَالَ.مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»،، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ.

وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:

55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.

أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ.

وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ.لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَسْقُطُ.لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:

56- يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْلَ رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلًا مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُلُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.

مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:

57- الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.

وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (وديعة 4)

وَدِيعَةٌ -4

(د) - السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ:

49- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْوَدِيعِ السَّفَرَ بِالْوَدِيعَةِ إِذَا أَذِنَ صَاحِبُهَا بِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْإِيدَاعَ فِي السَّفَرِ إِذْنًا ضِمْنِيًّا لِلْوَدِيعِ فِي أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لِأَنَّ عِلْمَ الْمُودِعِ بِحَالِهِ عِنْدَ إِيدَاعِهِ يُشْعِرُ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ دَلَالَةً.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهِ إِنْ سَافَرَ بِالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ وَلَوْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مُطْلَقٌ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ): لَهُ السَّفَرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تُلْزِمُ الْمَالِكَ، وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ بِالسَّفَرِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْهَهُ صَاحِبُهَا عَنِ السَّفَرِ بِهَا، أَوْ يُعَيَّنُ لَهُ مَكَانُ حِفْظِهَا أَوْ يَكُنِ الطَّرِيقُ مُخَوِّفًا وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا، إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ السَّفَرُ ضَرُورِيًّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَسَافَرَ بِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ سَفَرَ الْوَدِيعِ بِالْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تَعَدٍّ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ.

قَالَ ابْنُ شَاسٍ: إِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيدَاعِهَا عِنْدَ أَمِينٍ ضَمِنَ، وَإِنْ سَافَرَ بِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ- كَمَا لَوْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مَثَلًا- لَمْ يَضْمَنْ.

وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَوْدَعَنِي وَدِيعَةً، فَحَضَرَ مَسِيرِي إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَخِفْتُ عَلَيْهَا، فَحَمَلْتُهَا مَعِي، فَضَاعَتْ، أَأُضَمَّنُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: تَسْتَوْدِعُهَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَا تُعَرِّضُهَا لِلتَّلَفِ.

وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ إِذَا أُودِعَتْ فِي الْبَلَدِ، فَضَمِنَهَا كَمَا لَوْ تَرَكَهَا بِمَوْضِعِ خَرَابٍ، لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَحْفَظَ فِي مِثْلِهِ.وَلِأَنَّ رَبَّهَا إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي حِفْظِهَا فِي الْبَلَدِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إِخْرَاجِهَا عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي حِفْظِهَا تَحْتَ يَدِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إِيدَاعِهَا لِغَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَتَى أَوْدَعَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ بِتَعَدِّيهِ، لِخُرُوجِهِ فِي حِفْظِهَا عَنِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ بِهَا.

الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا لِمَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَمِينٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا.وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي الْمِصْرِ مَحْفُوظًا، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، فَإِذَا سَافَرَ الْوَدِيعُ بِهِ، فَاتَ عَلَى صَاحِبِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ.

وَلِأَنَّ حِرْزَ السَّفَرِ دُونَ حِرْزِ الْحَضَرِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْإِيدَاعَ يَقْتَضِي الْحِفْظَ فِي الْحِرْزِ، وَلَيْسَ السَّفَرُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا أَوْ آمِنًا لَا يُوثَقُ بِأَمْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ.

فَإِنَّ فَقْدَ الْوَدِيعِ مَنْ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا فِي طَرِيقٍ آمِنٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَتْ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ الْوَدِيعُ مَعَ عُذْرِهِ عَنْ مَصَالِحِهِ، وَيَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ نَحْوِ حَرِيقٍ أَوْ إِغَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِهَا حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَحْفَظُ.

الرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا، إِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا مِنَ السَّفَرِ، أَوْ كَانَ أَحْفَظَ لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا، وَلَمْ يَنْهَهُ صَاحِبُهَا عَنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ فَعَلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إِلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّهُ نَقَلَهَا إِلَى مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا فِي الْبَلَدِ، وَلِأَنَّهُ سَافَرَ بِهَا سَفَرًا غَيْرَ مُخَوِّفٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ أَحْفَظَ لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا، أَوِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ.وَكَذَا إِذَا نَهَاهُ رَبُّهَا عَنِ السَّفَرِ بِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، كَجَلَاءِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ هُجُومِ عَدُوٍّ، أَوْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ بِهَا وَتَلِفَتْ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ.فَإِنْ تَرَكَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَلِفَتْ، فَيَضْمَنُ؛ لِتَرْكِهِ الْأَصْلَحَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَالِكِهَا أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ مُفَرِّطٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى صَاحِبِهَا إِمْكَانَ اسْتِرْجَاعِهَا، وَيُخَاطِرُ بِهَا.وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِذْنِ فِي إِمْسَاكِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ هَذَا الْخَطَرَ، وَلَا يُفَوِّتُ إِمْكَانَ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا الْإِذْنُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ.فَأَمَّا مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ وَوَكِيلِهِ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا إِذَا كَانَ أَحْفَظَ لَهَا، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَيَخْتَارُ فِعْلَ مَا فِيهِ الْحَظُّ.

(هـ) - التِّجَارَةُ بِالْوَدِيعَةِ:

50- الِاتِّجَارُ بِالْوَدِيعَةِ مَكْرُوهٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ تَجَاوُزًا لِلْحَقِّ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ النُّقُودِ والْمِثْلِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعَرُوضِ والْقِيمِيَّاتِ.وَرَجَّحَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ حُرْمَتَهُ فِي الْمَالَيْنِ، وَفَصَّلَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَقَالَ بِحُرْمَتِهِ فِي الْعَرُوضِ وَكَرَاهَتِهِ فِي النُّقُودِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الِاتِّجَارَ بِالْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا تَعَدٍّ يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ النَّاتِجَ عَنِ اتِّجَارِ الْوَدِيعِ، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ أَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ لَهُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ.وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَنَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ.وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَلِأَنَّ الْوَدِيعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ «قَيْسِ بْنِ أَبِي غُرْزَةَ الْكِنَانِيِّ، قَالَ: »كُنَّا نَبْتَاعُ الْأَوْسَاقَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، قَالَ: فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا كُنَّا نُسَمِّي بِهِ أَنْفُسَنَا فَقَالَ: يَا مَعْشَر التُّجَّارِ، إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فَشَوِّبُوهُ بِالصَّدَقَةِ».

فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إِيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِلْوَدِيعِ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ وَجُهْدِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِضَمَانِهِ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ وَقْتَ الِاتِّجَارِ بِهَا مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْغَاصِبِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا اتَّجَرَ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ فَرَبِحَ فَهُوَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ لَهُ الرِّبْحُ فَالْوَدِيعُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَدْفَعِ الْمَالَ إِلَيْهِ بِغَرَضِ طَلَبِ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَصْلُ مَالِهِ دُونَ الرِّبْحِ.

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.

غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ اسْتِحْقَاقَهُ الرِّبْحَ بِرَدِّهِ الْوَدِيعَةَ أَوْ أَدَائِهِ الضَّمَانَ لِلْمُودِعِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَطِيبُ لِلْوَدِيعِ الرِّبْحُ إِذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ سَلَّمَ عَيْنَهَا، بِأَنْ بَاعَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَدَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا.

وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إِذَا رَدَّ رَأْسَ الْمَالِ كَمَا هُوَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَ الْوَدِيعِ وَالْمُودِعِ عَلَى قَدْرِ النَّفْعَيْنِ، بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا كَالْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَبِهِ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.إِلاَّ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُدْوَانِ، مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالُ نَفْسِهِ، فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَهُنَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بِلَا رَيْبٍ.

(و) - اسْتِقْرَاضُ الْوَدِيعَةِ:

51- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اقْتِرَاضَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ يَجْعَلُهَا مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.وَأَمَّا اقْتِرَاضُهُ مِنْهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ:

فَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: يَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ أَنْ يَتَسَلَّفَ الْوَدِيعَةَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ أَمْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِتَضَرُّرِ مَالِكِهَا بِعَدَمِ الْوَفَاءِ، نَظَرًا لِإِعْدَامِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَيَنْظُرُ: فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ عَرْضًا قِيمِيًّا، فَيَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ اقْتِرَاضُهَا.قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: لِأَنَّ مِثْلَهُ لَيْسَ كَعَيْنِهِ، لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ أَفْرَادِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاءَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ عَدَمِ رِضَاهُ.

وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ نَقْدًا فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ.وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَهُ كَعَيْنِهِ، فَالتَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ فِيهِ كَلَا تَصَرُّفٍ، أَوْ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ لَا يَأْبَاهُ رَبُّهُ، فَلَمَّا لَمْ يُرَدْ لِذَاتِهِ، كَانَ أَخَفَّ مِنَ الْمُقَوَّمِ.وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ تَسَلُّفِ النَّقْدِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُبِحْ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ أَوْ يَمْنَعُهُ، بِأَنْ جَهِلَ، وَإِلاَّ أُبِيحَ فِي الْأَوَّلِ، وَمُنِعَ فِي الثَّانِي.

وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِيهِ وَفَاءٌ، وَأَشْهَدَ عَلَى الِاقْتِرَاضِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ: أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ، فَكَأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَى الْمُودِعِ فِي انْتِفَاعِ الْوَدِيعِ بِهَا إِذَا رَدَّ مِثْلَهَا، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا، وَيَتَمَسَّكَ بِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ قَدْ تَرَكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَجَازَ لِلْوَدِيعِ الِانْتِفَاعُ بِهَا.وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الِانْتِفَاعِ بِظِلِّ حَائِطِهِ وَضَوْءِ سِرَاجِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَكْثُرُ اخْتِلَافُهُ وَلَا يَتَحَصَّلُ أَمْثَالُهُ، فَيَحْرُمُ تَسَلُّفُهَا، كَالْقِيمِيَّاتِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ سَلَفُهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ.وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي الْمَنْعُ، وَقَدْ عَلَّقَ اللَّخْمِيُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْجَوَازِ، فَقَالَ: وَأَرَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمُودِعِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعِ، أَوْ مَعَهُ كَرَمُ طَبْعٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ الْكَرَاهِيَةَ لَمْ يَجُزْ.

وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِذَا تَسَلَّفَ مَا لَا يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ، ثُمَّ رَدَّ مَكَانَهَا مِثْلَهَا، فَتَلِفَ الْمِثْلُ، بَرِئَ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَتَسَلَّفَهُ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ مَكَانَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّدِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنْ كَانَ الَّذِي رَدَّ مَكَانَهُ يَتَمَيَّزُ مِنْ دَنَانِيرِهِ وَدَرَاهِمِهِ، فَضَاعَتِ الدَّنَانِيرُ كُلُّهَا، ضَمِنَ مَا تُسُلِّفَ فَقَطْ.وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَضَعَ بَدَلًا مِمَّا أَخَذَ لَا يَتَمَيَّزُ وَلَا يُعْرَفُ، فَتَلِفَتِ الدَّنَانِيرُ، ضَمِنَهَا كُلَّهَا.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنْ عَلِمَ الْوَدِيعُ عِلْمًا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ رَاضٍ بِذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رَجُلٍ اخْتَبَرْتَهُ خِبْرَةً تَامَّةً، وَعَلِمْتَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ، وَمَتَى وَقَعَ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، لَمْ يَجُزِ الِاقْتِرَاضُ.

(ز) - اسْتِعْمَالُ الْوَدِيعَةِ

52- اسْتِعْمَالُ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْوَدِيعُ بِإِذْنِهِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حِلِّ فِعْلِهِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ.أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ تَضْمِينَ الْوَدِيعِ بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَالِ الْوَدِيعَةِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ بِانْتِفَاءِ التَّعَدِّي بِالْإِذْنِ.وَأَنَّ الْإِذْنَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَفْسُدُ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يُنَافِي الْإِيدَاعَ، وَلِذَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ ابْتِدَاءً.

وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ 792 مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: كَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْوَدِيعَةَ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَلَهُ أَيْضًا أَنْ يُؤَجِّرَهَا وَيُعِيرَهَا وَيَرْهَنَهَا.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ لِلْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَالِهَا يُفْسِدُ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَفْسُدُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا انْقَلَبَتْ عَارِيَةً فَاسِدَةً وَتَصِيرُ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً بِيَدِهِ، إِلْحَاقًا لِفَاسِدِ الْعَارِيَةِ بِصَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ.وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا بَقِيَتْ أَمَانَةً، إِلْحَاقًا لِفَاسِدِ الْوَدِيعَةِ بِصَحِيحِهَا فِي عَدَمِ الضَّمَانِ، حَيْثُ إِنَّ فَاسِدَ الْعُقُودِ كَصَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ.

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا أَذِنَ لِلْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَالِ الْوَدِيعَةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا حَسَبَ الْإِذْنِ، صَارَتْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً، كَالرَّهْنِ إِذَا أَذِنَ رَبُّهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِاسْتِعْمَالِهِ.وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فَهِيَ أَمَانَةٌ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَوَجَبَ تَغْلِيبُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الْحِفْظُ، فَتَبْقَى وَدِيعَةً.

أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا تَعَدٍّ يَسْتَوْجِبُ ضَمَانَهُ.

وَقَدْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَوْلَهُمْ بِتَضْمِينِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوَدِيعَةِ خِيَانَةً مُضَمَّنَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِيهِ، بِأَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُودَعِ لِدَفْعِ الْعُثِّ عَنْهُ، أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِعَلْفِهَا أَوْ سَقْيِهَا، وَكَانَتْ لَا تَنْقَادُ إِلاَّ بِالرُّكُوبِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُحْسِنًا فِيهِ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.

كَمَا قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِتَضْمِينِهِ بِمَا إِذَا كَانَ انْتِفَاعُهُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ يَعْطَبُهَا عَادَةً، وَعَطِبَتْ.فَأَمَّا إِذَا انْتَفَعَ بِهَا انْتِفَاعًا لَا تَعْطَبُ بِهِ عَادَةً، وَتَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.فَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ أَوْ جُهِلَ الْحَالُ، فَالْأَظْهَرُ الضَّمَانُ، وَلَوْ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهَا لِرَبِّهَا عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّعَدِّي، لِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ بِهِ.

وَقَدْ قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِيدَاعِ بِتَعَدِّي الْوَدِيعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا فَوْرًا إِلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّ يَدَهُ صَارَتْ عَادِيَّةً كَالْغَاصِبِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَزَالَ تَعَدِّيهِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، بِأَنْ تَرَكَ لُبْسَ الثَّوْبِ أَوْ رُكُوبَ الدَّابَّةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَرَدَّهَا لِيَدِهِ سَلِيمَةً، وَعَاوَدَ حِفْظَهَا لِمَالِكِهَا، فَهَلْ يَزُولُ ضَمَانُهُ بِالْوِفَاقِ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ لِزَوَالِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ.قَالَ الْعَيْنِيُّ: لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْوَاقِعِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا خَالَفَ فِي الْبَعْضِ ثُمَّ رَجَعَ، أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْحِفْظِ شَهْرًا، فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهِ، ثُمَّ حَفِظَ فِي الْبَاقِي، اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ بِقَدَرِهِ.وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ: وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يُنَافِي الْإِيدَاعَ، وَلِذَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ ابْتِدَاءً، فَإِذَا زَالَ عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ.

وَفِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ نَقْلًا عَنِ الظَّهِيرِيَّةِ: أَنَّهُ يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَعْزِمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى التَّعَدِّي، حَتَّى لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ لَيْلًا، وَفِي عَزْمِهِ أَنْ يَلْبَسَهُ نَهَارًا، ثُمَّ سُرِقَ لَيْلًا، لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الِاسْتِئْمَانُ، ارْتَفَعَ بِالْعُدْوَانِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ.

(ح) - إِنْفَاقُ الْوَدِيعَةِ:

53- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِنْفَاقَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ ضَمَانَهَا، بِاعْتِبَارِهِ تَعَدَّى عَلَيْهَا، وَفَوَّتَ عَيْنَهَا وَأَتْلَفَهَا حُكْمًا عَلَى صَاحِبِهَا لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَنَفْعِ ذَاتِهِ.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (787) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَفَ الْمُسْتَوْدَعُ نُقُودَ الْوَدِيعَةِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَهَا.

أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ لِنَفْعٍ يَتَعَلَّقُ بِمَالِكِهَا، كَمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ غَائِبًا، فَفَرَضَ الْحَاكِمُ مِنَ النُّقُودِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ أَوْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ الْمُودَعِ لَدَيْهِ نَفَقَةً لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ قَرَابَتِهِ، فَصَرَفَ الْوَدِيعُ تِلْكَ النَّفَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ مِنَ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا.بِخِلَافِ مَا إِذَا صَرَفَهَا لَهُمْ بِدُونِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، حَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وَلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ عَنْهُ، إِذِ الْمُسْتَوْدَعُ نَائِبٌ عَنِ الْمُودَعِ فِي الْحِفْظِ، وَلَيْسَ نَائِبًا فِي شَيْءٍ آخَرَ.

وَإِذَا أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا فِي مَكَانِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا ضَمِنَ.

وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ: لِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْإِنْفَاقِ، فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ الضَّمَانُ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ الْمُوجِبِ لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.

54- وَلَوْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمْ يُنْفِقْهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ خِيَانَةٌ وَعُدْوَانٌ، فَتَبْطُلُ الْوَدِيعَةُ، وَيَضْمَنُ لِتَصَرُّفِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ.وَإِذَا ارْتَفَعَ الِاسْتِئْمَانُ، وَثَبَتَ الضَّمَانُ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ إِلاَّ بِاسْتِئْمَانٍ ثَانٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالْإِخْرَاجِ، فَقَدْ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَوْضِعِهَا، فَبَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ.

وَلَوْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ نُقُودًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ، فَأَنْفَقَ الْوَدِيعُ بَعْضَهَا، ثُمَّ هَلَكَ الْبَاقِي، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ، اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَلَا يَضْمَنُ الْبَاقِيَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ إِتْلَافُ قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَالضَّمَانُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَدْرِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ خَانَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْبَاقِي حَافِظٌ لِلْمِلْكِ، وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبِ الْبَاقِي، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَتَيْنِ، فَأَنْفَقَ إِحْدَاهُمَا، لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُخْرَى.

فَإِنْ رَدَّ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ الْكُلَّ- إِذَا خَلَطَهُ بِالْبَاقِي خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ- لِوُجُودِ إِتْلَافِ الْكُلِّ مِنْهُ: الْبَعْضُ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْبَاقِي بِالْخَلْطِ، لِكَوْنِ الْخَلْطِ إِتْلَافًا.

أَمَّا إِذَا تَمَيَّزَ الْمَخْلُوطُ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْقَدْرَ الَّذِي لَمْ يُنْفِقْهُ، لِأَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ كَمَا كَانَ، وَيَضْمَنُ الْمِقْدَارَ الَّذِي طَرَحَهُ عَلَيْهَا وَحْدَهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ تَعَلَّقَ بِالْأَخْذِ، فَلَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ مَا أَخَذَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّهِ، فَلَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَنْفَقَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ فِي مَكَانِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَتْ.

وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا، فَلَمْ يُنْفِقْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، فَتَلِفَتْ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالْأَخْذِ، فَقَدْ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ إِلَى مَكَانِهِ، فَبَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ، وَنِيَّةَ الْإِتْلَافِ لَيْسَتْ بِإِتْلَافٍ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إِنْسَانٍ.وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ- أَوْ حَدَّثَتْ- بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَوْ يَتَكَلَّمْ بِهِ».

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا حَدَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا عَلَى الْعُمُومِ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ مَا أَخَذَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَرْتَفِعُ ضَمَانُهُ بِالرَّدِّ إِلَى مَكَانِهَا، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، فَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ بِالْأَخْذِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّهِ ضَمِنَهُ، فَلَا يَزُولُ إِلاَّ بِرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ كَالْمَغْصُوبِ.

ط- التَّصَرُّفُ فِي الْوَدِيعَةِ:

55- الْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْوَدِيعَةِ هُنَا كُلُّ ارْتِبَاطٍ عَقْدِيٍّ يُنْشِئُهُ الْوَدِيعُ، وَيَكُونُ مَحَلُّهُ الْوَدِيعَةَ، مِثْلَ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا وَإِيدَاعِهَا وَرَهْنِهَا وَإِقْرَاضِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَهَذَا الِارْتِبَاطُ إِمَّا أَنْ يُجْرِيَهُ الْمُسْتَوْدَعُ بِإِذْنِ الْمُودِعِ، وَبِذَلِكَ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمَالِكِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا.

وَإِمَّا أَنْ يُجْرِيَهُ الْوَدِيعُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُودِعِ فَيَكُونَ ضَامِنًا، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (792) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ لَوْ آجَرَهَا أَوْ أَعَارَهَا لآِخَرَ أَوْ رَهَنَهَا، بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَهَلَكَتْ، أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.

وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخِيَارَ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعِ أَوْ فِي تَضْمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ.

وَعَلَّلُوا عَدَمَ جَوَازِ تَأْجِيرِهَا مِنْ قِبَلِ الْوَدِيعِ لآِخَرَ، بِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَالْإِيدَاعَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَوْ جَازَ لِلْوَدِيعِ تَأْجِيرُهَا لَصَارَتِ الْإِجَارَةُ غَيْرَ لَازِمَةٍ مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ.

وَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا أَيْضًا، لِأَنَّ الْوَدِيعَ غَيْرُ مَالِكٍ لِمَنَافِعِ الْوَدِيعَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكًا لِلْمَنَافِعِ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَرْءُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ.وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهَا عِنْدَ آخَرَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ إِيفَاءٌ حُكْمًا، وَلَيْسَ لِشَخْصٍ أَنْ يَفِيَ دَيْنَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِلَا أَمْرِ صَاحِبِهِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، وَالْوَدِيعَةُ لَيْسَتْ عَقْدًا لَازِمًا.كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْوَدِيعَةَ أَوْ يَهَبَهَا لآِخَرَ بِلَا إِذْنٍ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ لَا تَنْفُذَانِ بِدُونِ رِضَا مَالِكِهَا.

56- وَلَوْ آجَرَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ تَعَدِّيًا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهَا، أَمْ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَالِكِهَا؟

لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ لِلْوَدِيعِ بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، كَمَا يَسْتَحِقُّ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ.قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَلَوْ أَكْرَى- أَيِ الْوَدِيعُ- الْإِبِلَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ الْكِرَاءَ، كَانَ الْكِرَاءُ لَهُ، لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَلَيْسَتِ الْغَلَّةُ كَالْوَلَدِ وَلَا الصُّوفِ وَاللَّبَنِ، فَإِنَّ ذَاكَ يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَصْلِ، فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنَ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، فَيَكُونُ لِلْعَاقِدِ.وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ إِنْ لَمْ تَتْلَفِ الْوَدِيعَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا وَيَأْخُذَ أُجْرَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلْوَدِيعِ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ أُجْرَتِهَا.فَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَوْدَعَنِي إِبِلًا، فَأَكْرَيْتُهَا إِلَى مَكَّةَ، أَيَكُونُ لِرَبِّهَا مِنَ الْكِرَاءِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟

قَالَ: كُلُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ أَمَانَةً، فَأَكْرَاهُ، فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ سُلِّمَتِ الْإِبِلُ وَرَجَعَتْ بِحَالِهَا فِي أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَهَا، وَيَأْخُذَ الْإِبِلَ، وَفِي أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْكِرَاءِ إِذَا كَانَ قَدْ حَبَسَهَا عَنْ أَسْوَاقِهَا وَمَنَافِعُهُ بِهَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعَارَهُ رَجُلٌ دَابَّةً أَوْ أَكْرَاهُ دَابَّةً إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَتَعَدَّى عَلَيْهَا، لِأَنَّ أَصْلَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ بِتَعَدِّيهِ فِيهِ.

57- وَلَوْ بَاعَهَا الْوَدِيعُ بِدُونِ إِذْنِ مَالِكِهَا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ فُضُولِيًّا بِبَيْعِهِ، وَيَتَوَقَّفُ بَيْعُهُ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَّذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمُودِعُ إِذَا بَاعَ الْوَدِيعَةَ وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، وَضَمِنَ الْمَالِكُ الْمُودِعَ، نَفَذَ بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ، وَهِيَ عَرْضٌ، فَرَبُّهَا مُخَيَّرٌ فِي أَخْذِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ أَوْ فِي أَخْذِ الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَدِّي، هَذَا إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي أَخْذِهَا، أَوِ الثَّمَنِ الَّذِي بِيعَتْ بِهِ.قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عِنْدَ الْفَوَاتِ يَجِبُ لَهُ الْأَكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ.وَمَحَلُّ تَخْيِيرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ: مَا لَمْ يَحْضُرْ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ يَبْلُغْهُ الْبَيْعُ، وَيَسْكُتُ مُدَّةً، بِحَيْثُ يُعَدُّ رَاضِيًا، وَإِلاَّ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَأَخْذُ مَا بِيعَتْ بِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.

وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَدِيعُ شَيْئًا بِالْوَدِيعَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ: إِذَا تَعَدَّى الرَّجُلُ فِي وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ، فَاشْتَرَى مِنْ عَيْنِ الْمَالِ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ: قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِينَارٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا بِمَالٍ لَا يَمْلِكُهُ، فَإِنْ بَاعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ وَرَبِحَ فِيهَا مِئَةً، فَإِنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ.

وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى لَيْسَ بِعَيْنِ الْمَالِ، بِأَنْ كَانَ يَشْتَرِي السِّلَعَ، ثُمَّ يَزِنُ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، فَالشِّرَاءُ ثَابِتٌ، وَالْمَالُ- أَيِ الثَّمَنُ- فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلسِّلَعِ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ، وَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فِيهَا فَلَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ نُقْصَانٍ فَعَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي أَتْلَفَ لِصَاحِبِهَا.

58- وَإِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ النُّقُودِ أَوِ الْمِثْلِيَّاتِ الْأُخْرَى، فَأَقْرَضَهَا الْوَدِيعُ تَعَدِّيًا، وَلَمْ يُجِزْ مَالِكُهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْوَدِيعِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.وَبِنَاءً عَلَيْهِ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (793) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: وَإِذَا أَقْرَضَ الْمُسْتَوْدَعُ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ لآِخَرَ بِلَا إِذْنٍ، وَلَمْ يُجِزْ صَاحِبُهَا، ضَمِنَهَا الْمُسْتَوْدَعُ.

وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُودِعِ دَيْنٌ، فَقَضَى الْوَدِيعُ دَيْنَهُ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَدَّاهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-المعجم الغني (ضِمْنِيٌّ)

ضِمْنِيٌّ(ضِمْنِيَّةٌ )- [ضمن]، (مَنْسُوبٌ إِلَى الضِّمْنِ)، "ضِمْنِيًّا اِعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ": عَبَّرَ عَنْ خَطَئِهِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ دُونَ التَّصْرِيحِ بِهِ. "وَافَقَ بِصُورَةٍ ضِمْنِيَّةٍ عَلَى الاقْتِرَاحِ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com