نتائج البحث عن (فَأَخْبَرُوهُ)
1-معجم ما استعجم (سرغ)
سرغ: بفتح أوّله، وإسكان ثانيه، بعده غين معجمة: مدينة بالشام، افتتحها أبو عبيدة بن الجرّاح، هى واليرموك والجابية والرّمادة متّصلة.وروى مالك من طريق عبد الله بن عبد الله بن الحارث، عن ابن عبّاس، أن عمر بن الخطّاب خرج إلى الشام، حتّى إذا كان بسرغ، لقيه أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال: ادعو لى المهاجرين الأوّلين. وذكر الحديث بطوله.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
2-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قيدون)
قيدونهي من قدامى البلاد، وهي موطن الشّيخ الكبير سعيد بن عيسى العموديّ.
وهو والفقيه المقدّم أوّل من سلك طريق التّصوّف بحضرموت، وقد ترجمه غير واحد من أهل العلم؛ كالشّرجيّ في «طبقاته» [145 ـ 146]، واليافعيّ في «تاريخه»، وصاحب «المشرع»، وعبد الله بازرعة.
وممّن ألّف في مناقبه: الشّيخ عليّ بن عبد الله باعكابة الهيننيّ، والشّيخ عبد الله باسودان.
وكان صادعا بالحقّ، لا يخاف فيه لومة لائم، وكان كثير التّردّد على حضرموت، حتّى لقد قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في كتابه «القرطاس»: (لا إله إلّا الله، عدد خروج الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ إلى حضرموت).
ولم يزل يسلّك الطّالبين، ويوصل الرّاغبين، إلى أن توفّي بقيدون سنة (671 ه)، وقصّته مع الشّيخ أحمد بن الجعد مع وصوله إلى حضرموت، مشهورة، وقد ابتلي إثرها بالجذام إلى أن وافاه الحمام.
وخلفه على منصبه ولده الشّيخ محمّد بن سعيد، وما زال أبناؤه يتوارثون منصبه حتّى انتهى إلى دولة ورئاسة دنيويّة، فاختلفوا وانقسموا؛ كما سبق في بضه.
وجرت بينهم وبين آل فارس النّهديّين، وبينهم وبين السّلطان بدر بوطويرق الكثيريّ.. حروب.
وتقلّبت بقيدون الأحوال، حتّى لقد خربت حوالي سنة (948 ه) من كثرة ما أخذ بدر بوطويرق الكثيريّ من أهلها من الضّرائب، ولم يبق فيها إلّا ستّة ديار، وهرب الباقون من أهلها إلى صيف. وهنا شاهد على أنّ صيفا لم تكن إذ ذاك في حوزته.
وجرت بين آل العموديّ وأعقاب بدر إلى أيّام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ ـ المتوفّى بعمان أوائل القرن الثّاني عشر ـ أحوال كثيرة، ذكرنا ب «الأصل» نتفا منها كافية للتّعريف.
وفي قيدون صهريج واسع يحفظ لأهلها الماء، تنطق وثائق أوقافه أنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب الطّاهريّ السّابق ذكره في بضه، والآتي ذكره في ثبي وغيرها.
وقد أنجبت قيدون كثيرا من العلماء والفضلاء، وكان السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم يدرّس بها علم التّوحيد أوائل القرن الحادي عشر.
ومن علمائها في القرن العاشر: الشّيخ محمّد بن عمر معلّم له ذكر في «مجموع الأجداد».
والشّيخ عبد الله بن سعيد العموديّ، في أيّام القطب الحدّاد، وقد امتحنه بشرح خطبة معقّدة، فشرحها شرحا جميلا قضى له فيه القطب الحدّاد بالنّجاح.
وفيها من ذرّيّة السّيّد محمّد بن عبد الله بن علويّ الحدّاد: الفاضل الصّالح، الحسن الخطّ عمر بن أبي بكر، المتوفّى بها.
وخلفه ابنه النّاسك الكريم طاهر بن عمر الحدّاد، المتوفّى بها سنة (1319 ه) كان آية في حفظ القرآن، وكانت في لسانه حبسة شديدة، حتّى لقد أراد أن يعقد بإحدى بناته فلم ينطلق لسانه إلّا بعد الفراغ من الطّعام، وكانت العادة والسّنّة تقديم العقد فلم يؤخّروه إلّا اضطرارا، ولكن متى شرع في القراءة في الصّلاة.. اندفع بسرعة السّهام المرسلة.
ولمّا مات ولده محمّد.. تحاشى النّاس عن إخباره؛ لأنّه الأمر العظيم، لكنّه لم يظهر بعد ما أخبروه إلّا بأكمل ما يكون من مظاهر الرّضاء التّامّ، فلم ينزعج ولم يتغيّر، ولم يحلّ حبوته، وما زاد على الاسترجاع والاستغفار للفقيد والتّرحّم عليه، فذكرت ما رواه أبو نعيم وغيره: أنّه لمّا مات ذرّ بن عمر بن ذرّ جاء أهله يبكون إلى أبيه، فقال لهم: ما لكم؟! إنّا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحقّ، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلمّا وضعه في قبره.. قال: رحمك الله يا بنيّ؛ لقد كنت بي بارّا، وكنت عليك شفيقا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعزّ، ولا أبقيت علينا من ذلّ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.. يا ذر؛ لو لا هول المطلع.. لتمنّيت ما صرت إليه، ليت شعري يا ذرّ ماذا قيل لك وماذا قلت.
وكذلك الحبيب طاهر لم يزد على التّرحّم على ولده والاستغفار له.
أمّا ولده محمّد بن طاهر الحدّاد: فقد كان طود المجد الرّاسخ، وركن الشّرف الشّامخ، تتحيّر الفصحاء في أخباره، وتندقّ أعناق الجياد في مضماره.
«متنقّل في سؤدد من سؤدد *** مثل الهلال جرى إلى استكماله »
لم يزل يتوقّل إلى العلا، ويتسوّر إلى الشرف.
«ويبيت يحلم بالمكارم والعلا *** حتّى يكون المجد جلّ منامه »
لا يصعد قلّة.. إلّا تسنّم ذراها، ثمّ اندفع إلى ما وراها.
«ما زال يسبق حتّى قال حاسده: *** له طريق إلى العلياء مختصر »
ينقطع دونه الكلام، وتتحيّر في وصفه الأقلام.
«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد »
له همم تنفسخ منها الجبال، فضلا عن قوائم الرّجال.
«همّة تنطح النّجوم بروقي *** ها وعزّ يقلقل الأجبالا »
وقد بلغ من شهامته وكبر همّته أنّه كان يحاول إغناء العلويّين بحضرموت من أدناها إلى أقصاها مع تحمّله من الدّيون الّتي أثقلت كاهله ولذاك، أشار عليه أبوه ـ من أجلها ـ أن يتوجّه إلى حيدرآباد، وكان له بها قدر عظيم، وشأن فخيم، وأسلم على يده كثير من النّاس، إلّا أنّه كان بين جنبيه نفس عظيمة، غالى بها عن الكرام حتّى لم يكن الطّغرّائيّ إلّا كالسّوقة في جنب الملك حيث يقول:
«غالى بنفسي عرفاني بقيمتها *** فصنتها عن رخيص القدر مبتذل »
فوقع بذلك وبموافقته للعلّامتين أبي بكر بن شهاب ومحمّد بن عقيل في الإعراض عن السّلطان عوض بن عمر أن لاقاه، واستعدّ لإنزاله في قصره، وعمل لقدومه ضيافة عظيمة، فتركها وكان في ذلك تمهيد السّبيل لمن كان يحسده من العلويّين ففتلوا في الذّرى والغوارب لفشله.. فلم يقع له ما يروم من أمله ولم يتيّسر قضاء دينه إلّا بعد انقضاء أجله، ومنهم حسبما يتعالم النّاس: حسين وحسين وأبو حسين ـ ولا أدري كم عددهم يومئذ؛ فإنّ المنايا تخطّفتهم، والبلدان توزّعتهم؛ فهم أقلّ بكثير ممّا انتهوا إليه سنة (1202 ه) إذ بلغ عددهم بالتّحقيق يومئذ عشرة آلاف نفس.
في «تاريخ ابن حميد»: (أنّ القطب الحدّاد أشار بإحصاء العلويّين في سنة (1118 ه)؛ لدراهم وصلت من الهند على اسمهم، فبلغوا نحوا من ألفين بعدّ الصّغار والكبار والذّكور والإناث، من السّوم شرقا.. إلى هينن غربا).
والعجب أنّهم لم يدخلوا دوعن في حضرموت في هذا العدّ، فلعلّ الدّراهم مخصوصة بأهل هذه النّاحية، وإلّا.. أشكل الأمر.
وأمّا في سنة (1202 ه).. فقد بلغ عددهم عشرة آلاف؛ إذ جاءت صلة صاحب المغرب ودفعوا لمن بدوعن ومن بالشّحر ومن بأسفل حضرموت حسبما فصّلناه بالجزء الأوّل من «الأصل» ولا إشكال؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بما انحطّ عليه اعتمادهم بإجماعهم آخرا، وقد أحضرت الأنفس الشّحّ في صلة المغربيّ، وهي متأخّرة عن تلك، والعلماء في أيّامها أكثر، ولا شكّ أنّهم مطّلعون على ما كان أيّام القطب الحدّاد من مثل ذلك فلا مجال للشّكّ، لا سيّما وأنّ القطب الحدّاد من أهل الاجتهاد لا يتقيّد بمنقول المذهب بخلافهم.
ومن كتاب سيّره السّيّد عليّ بن شيخ بن محمّد بن شهاب للشّريف سرور بن مساعد بن حسن صاحب مكّة بتاريخ (1199 ه) يقول: وصلت الدّراهم وقدرها ثمانون ألف ريال وفرّقت على جميع السادة القاطنين بحضرموت من ثمانية ريالات إلّا ربع، وتحديد حضرموت من عين بامعبد إلى ظفار.
وقد اتفق العلويون إذ ذاك على تفويض الأمر في قبض الدراهم وتحرير مشجّر للعلويّين ـ على حسابها ـ إلى السّيّد عليّ بن شيخ بن شهاب.
وأمضى في أعلى المسطور السّادة: سالم بن أحمد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم وأحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ العيدروس، وصادق بن شيخ العيدروس، وسالم بن صالح العطّاس، وحسين بن علويّ، وهاشم، وحسين وعبد الله ابنا أحمد، وحسين وزين وأحمد بنو حسين بن أبي بكر، وأحمد وعليّ ابنا محسن، وأبو بكر بن عليّ، وكافّة آل حسين بن عليّ العيدروس.
وفي أسفله: حسين بن أحمد بن سهل جمل اللّيل، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وعمر بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، ومحمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله، ومحمّد بن أبي بكر العيدروس، وإسماعيل بن عيدروس بن عليّ بن عمر بن حسين، وعليّ بن شيخ بن شهاب، وطالب بن حسين بن عمر العطّاس، وعبد الرّحمن ابن حسين العطّاس، وعمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه، وهادون بن عليّ الجنيد، وأحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وعبد القادر بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وخادم الشّرع بتريم عمر بن إبراهيم المؤذّن بافضل، وطالب بن عوض بن يحيى، والمكتوب إليهم من أمين الدّراهم عبد الله بن حسين بن سهل، وسالم بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر، ومحمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، ومحمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وحامد بن عمر بن حامد، وعليّ بن شيخ بن شهاب.
وفي حدود سنة (1311 ه) أصفق العلويّون ـ ومنهم سيّدنا الأستاذ الأبرّ فمن دونه ـ على تقديم صاحب التّرجمة السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد، فوضعوا في كفّه لواء نقابتهم، وعلى رأسه عصابة شرفهم، وعلى منكبه رداء زعامتهم، وأسجلوا له بذلك على أنفسهم، وكتبوا له عهدا وثيقا، فكان كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 119 من الطّويل]:
«وما زلت تسمو للمعالي وتجتني *** جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر »
«إلى أن بلغت الأربعين فأسندت *** إليك جماهير الأمور الأكابر»
«فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز *** ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر»
وقد جرت بينه وبين العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ مناقضات، منها: أنّ هذا جزم في كتاب سيّره إليه بدخوله تحت دائرته وإن لم يشعر، فأنكر الأوّل ذلك ـ وكان يتواضع أشدّ التّواضع بين يدي أستاذنا وأستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر ـ وتقدّم إليه بأسئلة جزلة تدلّ على صدق حال وغزارة مادّة، فأجابه الأستاذ بأفضل جواب.
وجرت بينه وبين علّامة جاوة السّيّد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى محاورات في الأوتار؛ لأنّ الأوّل يحضرها والسّيّد عثمان يشتدّ في منعها، وقد بسطت القول عن هذه المسألة في «بلابل التّغريد» بما لا يوجد في سواه.
وقد كان ما اشتهر من محاسن هذا الإمام، وملأ سمع الأرض وبصرها.. يملأ قلبي حسرة؛ إذ لم يقدّر لي الاجتماع به، مع أنّه قدم ذات المرّات إلى سيئون وأنا موجود، وقلّ من زارها من أهل الفضل إلّا زار والدي في مكانه علم بدر الّذي انجمع فيه بالآخرة عن النّاس. بل لا يوجد من يتخلّف عنه سوى من كان يتودّد إلى طائفة باطويح القاعدين بكلّ مرصد يصدّون البسطاء عن سبيله وعن سبيل سيّدنا الأستاذ الأبرّ ومن على شاكلتهم، ومعاذ الله أن يتأثّر بكلامهم السّيّد محمّد بن طاهر، وهو الّذي لا يقعقع له بالشّنان، ولكنّني لا أحفظ زيارته لوالدي مع أنّي لم أفارقه إلّا للحجّ في سنة (1322 ه)، وما كنت لأنسى زيارته لوالدي لو كانت، وأنا أحفظ كلّ من زاره من أهل الفضل منذ الرّابعة من عمري؛ لأنّه يقدّمني إليهم ـ ليبرّكوا عليّ ويلبسوني ولأقرأ عليهم شيئا من القرآن أو حديث معاذ في العلم وعلّ وصوله حضرموت صادف مرضي الشّديد في سنة (1313 ه)؛ فإن كان كذلك.. فقد انحلّ الإشكال ـ إلّا أنّه يبلّ من غليل تلك الحسرة ما كان يمثّله لنا السّيّد عبد القادر بن محمّد السّقّاف ـ الآتي ذكره ـ من كلامه وقراءته ومشيته.
ثمّ انحدر بعد ذلك إلى جاوة، وأدركته المنيّة بالتّقّل ـ إحدى مدنها ـ في سنة (1316 ه)، عن اثنين وأربعين ربيعا، فكان أكبر من قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 217 من الطّويل]:
«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »
«فتى جاءه مقداره، واثنتا العلا *** يداه، وعشر المكرمات أنامله »
«فتى ينفح الأيّام من طيب ذكره *** ثناء كأنّ العنبر الورد شامله »
وقد زرت قبره، وألفيت عليه من المهابة والجلال ما ذكّرني بقول الأوّل [من الطّويل]:
«على قبره بين القبور مهابة *** كما قبله كانت على ساكن القبر»
وبإثره تقيّض فريقه، وانتهج طريقه ولده الفاضل علويّ؛ فلقد أحيا قدّته، وأظهر جدّته، وأطال مدّته، وأعاد جوده ونجدته، فما زال طويل العماد، كثير الرّماد، فحماد له حماد.
«تنميه في قلل المكارم والعلا *** زهر لزهر أبوّة وجدود »
«فرع من النّبع الشّريف إذا هم *** نسبوا وفلقة ذلك الجلمود»
ويذكر أخوه الحسين بجود غزير، وفضل كبير، يأتي فيه بحقّ قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 8 من البسيط]:
«لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة *** تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف »
ومن الأسف أن تستأثر جاوة بأمثالهم، لكنّ الأمر كما قال حافظ [في «ديوانه» 1 / 269 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
وفي قيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ بن محمّد بن أحمد الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، منهم:
الصّالح الفاضل السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله، له أحوال غريبة، ودعاء مستجاب، يأخذه عند ذكر الموت حال عظيم يخرجه عن حسّه ويذهب به هائما على وجهه.
وعلى قريب من حاله كان ولده الدّاعي إلى الله محمّد، المتوفّى بسيئون في أوائل سنة (1324 ه).
وكان عيشه على قدم التّوكّل، ولا تخلو عصمته عن أربع زوجات، وله نوادر، منها:
أنّه تعشّى عند أمّه في حوطة آل أحمد بن زين، فقال: أريد السّمر عند بعض الإخوان.
فقالت: خذ مفتاح الدّار معك؛ حتّى لا توقظني بقرع الباب.
فعنّ له أن يذهب إلى الفجير على نحو تسعة أميال من الحوطة ودون الميل من سيئون، وكره أن يزعج أهل الفجير بالقرع، فعمد لجذع طويل ألفاه هناك، فتسلّق عليه منزل زوجته ابنة السّيّد شيخ بن أبي بكر مولى خيله، ولمّا قضى وطره منها.. عنّ له أن يذهب إلى سيئون، فحمل الجذع وتسوّر به على بيت امرأته الأخرى بسيئون ـ وهي أمّ السّيّدين: إبراهيم وموسى آل الحبشيّ ـ ولمّا أخذ مأربه منها.. ردّ الجذع إلى موضعه بالفجير، ثمّ سرى، ولمّا كان بالغرفة.. دخل جامعها وتطهّر وتهجّد ما شاء، ثمّ سرى إلى الحوطة، فلمّا وصلها.. عرف أنّه نسي مفتاح الدّار بجامع الغرفة، فرجع أدراجه وأخذه من الميضأة، وسار إلى الحوطة، ولم يصلها إلّا بعد مطلع الفجر.
ومن نوادره: أنّ زوجته الّتي بسيئون هي بنت عمّه، واسمها: شيخة بنت محمد الحدّاد، وكان كلّما زارها.. وجد عندها ابنيها إبراهيم وموسى ابني عمر بن شيخ بن هاشم بن محمّد بن أحمد الحبشيّ.. فلم يتمكّن من الخلوة بها، حتّى جاشت نفسه ذات يوم، فقال:
«خيره في العشق لي *** فيه النّكد والنّغص »
«حلّيت في حصن لكن *** فيه جملة لصص »
«خليّ خلي لي ول *** كنّه شرد وافتحص »
«جفل كما الصيد لا *** قد شاف همزة مقص »
«ولو معي قرش باقنص *** مثل من قد قنص »
وكان وجد منها فرصة، ولمّا جلس بين شعبها.. أحسّت بقدومهما، فنهضت من تحته فقال الأبيات.. فأجابته من حينها بقولها:
«قال ابن هاشم من ال *** مولى هي الّا حصص »
«لو حد قسم غير ربّي *** قلت قسمي نقص »
«لو كنت عاشق دهنت *** السير وارميت خص »
«لا جبت لي شرك في *** قادم ولا جبت قص »
«من يطعم الخيل وكّب *** به إذا شا ورصّ »
«كانّك بغيته على *** ذا الشور والّا خلص »
وذكرت عند هذا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّما دخل على أمّ سلمة بإثر بنائه عليها.. بكت بنتها، فأخذت تعلّلها بالرّضاعة حتّى أخذها عمّار بن ياسر ـ وكان لها محرما ـ وقال: لقد حرمت هذه المقبوحة المشقوحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يريد.
ومن ذرّيّة السّيّد عبد الله بن طه بقيدون: السّيّدان الجليلان: الواعظ العابد الصّالح عبد الله بن طاهر. والعلّامة الجليل علويّ بن طاهر، علم علوم، ونبراس فهوم.
«ويكنى باسمه عن فضل علم *** وكلّ اسم كنايته فلان »
فهو الخطيب المصقع، والفقيه المحقّق، والمحدّث النّقّاد، وله في التّفسير الفهم الوقّاد، ومؤلّفاته شاهدة وآثاره ناطقة، ولم أعرف مبلغ معرفته بالفقه، إلّا أنّه اختلف من نحو ثلاثين عاما هو والقاضي الشّيخ عبد الله سعيد باجنيد في مسألة في الشّفعة، وكتب في ذلك رسالة أسهب فيها حتّى انتهى إلى الثّناء على السّيّد الفاضل حسن بن عبد الله الكاف، ولمّا رفع إليّ كلام الاثنين للنّظر أظنّني ـ والعهد بعيد ـ رجّحت كلام القاضي، فرأيت منه جفوة من حينئذ ما كان له أن يتحمّلها؛ إذ لم يزل العلماء بين رادّ ومردود عليه، لكنّ الإنصاف عزيز، ولهذا لم أعامله بمثلها كما يعرف النّاس، وإن انضمّ إلى ذلك اختلاف الآراء بشأن الرّابطة حسبما فصّل ب «الأصل».
وكان على الإفتاء في بلاد جهور من ناحية الملايا، ثمّ انفصل في أيّام الحرب المشؤومة اليابانيّة.
وسبب كونهم بقيدون ما أخبرني به قاضي الحوطة الأسبق الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين بن عبد الله الحبشيّ: أنّ جدّه لأمّه شفاء وهو السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله بن طه بن عمر بن علويّ الحدّاد ـ السّابق ذكر تردّده إلى هناك ـ حمل معه ابنه طاهرا، فتزوّج على الشّريفة شفاء بنت عيسى أخت الحبيب عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، وأولدها عبد الله في سنة (1296 ه)، وعلويّا في سنة (1301 ه)، وفي نفاسها به مرّ عليه في قيدون عمّه جعفر بن طه ـ الآتي ذكره في الحاوي ـ وقال له: لماذا تجلس بقيدون تضع الأولاد؟! فتعال معي إلى جاوة، ففعل، ومات بعد وصوله بشهر ونصف شهر، فعاشا في كنف أمّهما وأبيها، وكانت أمّ أعمامهم محمّد وحسن وعليّ ـ وهي سعديّة بنت الحبيب محمّد بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ ـ تبعث لهم بالمواساة، ولمّا يفع عبد الله.. نجع إليها بحوطة آل أحمد بن زين، فكفلته، وكان يتردّد إلى الغرفة؛ فله أخذ عن الأستاذ الأبرّ الحبيب عيدروس بن عمر، ولمّا استغلظ علويّ.. قدم عليها أيضا، فآوته؛ إلّا أنّها شغلته بالخدمة حتّى أنّها لا تمكّنه من حضور الرّوحة بالحوطة. هذا آخر كلام القاضي عبد الله بن حسين.
وأشهر أولاد عبد الله بن طه حالا، وأعلاهم كعبا، وأكثرهم جمالا: هو شيخنا صاحب النّفس الأبيّة، والهمم العليّة، والشّهامة والأريحيّة، كثير العبادة والتّلاوة والأذكار، ظاهر السّيادة والسّعادة والأنوار، صالح بن عبد الله، زرته بداره في نصاب آخر سنة (1349 ه) فأجلّني وأكرمني وألبسني وأجازني وشابكني ودعا لي بدعوات عظيمة.
وممّن بقيدون من السّادة: آل بافقيه، وقد مرّ في الخريبة ذكر السّيّد أبي بكر بن محمّد بافقيه، وأثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة»، وقال: «إنّه توفّي بقيدون في سنة (1053 ه) ».
ثمّ رأيت الشّليّ ترجم له في «مشرعه» وأطنب في الثناء عليه، وذكر له علما جمّا وفضلا كثيرا.
وبقيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عقيل بن عبد الرّحمن السّقّاف، وهم: آل باعقيل:
منهم: السّيّد الصّالح عبد الرّحمن، صاحب المشهد المعروف بصيف، توفّي ببضه منقرضا.
ومنهم: السّيّد عمر بن علويّ باعقيل، جمع ثروة طائلة بسربايا من أرض جاوة، ولم ينس حقّ الله فيها، من إعانة الضّعيف، وإغاثة اللهيف، وبقي مع كثرة أمواله على حاله من التّواضع، توفّي بسربايا، لعلّه في سنة (1328 ه)، وخلّف أولادا، منهم: محمّد، السّابق خبره في الضّليعة.
ومنهم: أحمد، قتله السّيّد محمّد بن عبد الله بن عمر البارّ ظهر النّهار علنا، وهو راكب سيّارته في الطّريق العامّة بسربايا.
ومنهم: محسن وحسين، قامت بينهم منازعات تلفت فيها أكثر أموالهم. وقد سبق في خبر محمّد أنّ إخوانه دفعوا عنه بأمره خمسين ألف روبيّة للقعيطيّ، وهي الّتي توقّف إطلاقه من السّجن على دفعها، وقد تعهّد محمّد بتسليم مقابلها، وأعطاهم وثيقة بذلك وهو مختار، وعلّق طلاق نسائه بالثّلاث بتأخّره عن دفعها لهم مدّة معيّنة بعد القدرة، مضت تلك المدّة وهو رخيّ الخناق، وبقي مع نسائه مع عدم عذره في المطل، ولمّا وصلت سربايا سنة (1349 ه).. سألني أصهاره من بني عمّه.. فأفتيتهم بنفوذ الطّلاق.
ومنهم: السّيّد النّزيه النّديم، الخفيف النّسيم، صاحب النّوادر اللّطيفة، والحالات الشّريفة، عبد القادر بن محمّد السّقّاف، وهو من المعمّرين، عاش في أكناف الأكابر، وحظي باعتنائهم وصحّة ولائهم، وله دالّة عظيمة عليهم، وكثيرا ما يمثّل هيآتهم وأصواتهم وقراءاتهم، وكيفيّات مشيهم وحركاتهم، فيخفّف من حسرتنا على عدم الاجتماع بكثير منهم؛ كسيّدي طاهر بن عمر الحّداد، وابنه محمّد، وسادتي: عمر بن هادون، ومحمّد بن صالح، وعمر بن صالح، وأمثالهم. وفي ذلك التّمثيل نوع من الوصال ليس بالقليل، وهو الآن بمكّة المشرّفة على ضيافة صاحب المروءة الشّيخ عبد الله سرور الصّبّان، أحسن الله جزاءه.
وفي قيدون جماعة من السّادة آل الحبشيّ، من آخرهم: الفاضل الجليل، السّيّد عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، كان على قضائها في سنة (1329 ه) وعنده علم غزير، وتواضع كثير، ونزاهة تامّة، وصدر واسع، وجانب سهل.
وآل قيدون يتعالمون بأخبار كبيرة عن نجاح الشّيخ أحمد بن سعيد باداهية في علاج الأمراض بطبّه العربيّ، لو لا انتهاؤها إلى التّواتر المعنويّ.. لكذّبناها؛ لأنّها ممّا تدهش العقول.
وفي قيدون عدد ليس بالقليل من حفّاظ كتاب الله، وبينما أنا مرّة عند السّيّد حسين بن حامد المحضار بالمكلّا.. ورد شيخ من آل العموديّ، يقال له: بن حسن، عليه زيّ البادية، فإذا به يحفظ كتاب الله ويجيد قراءته! ولمّا اشتدّ إعجابي به.. قال لي العمّ حسين: لكنّه سارق! فسألته، فقال: نعم إنّي لأحد جماعة من الحفّاظ، إذا كان من أوّل اللّيل.. سرقنا رأس غنم على أحد أهل قيدون واشتويناه، ثمّ إذا كان من آخر اللّيل.. سرنا إلى الجامع نتدارس آيات القرآن بظهر الغيب.
وما أدري أقال ذلك مازحا، ليوافق هوى الوالد حسين، أم عن حقيقة؟ غير أنّني عند هذا تذكّرت ثلاثة أمور:
الأوّل: ما جاء في «مسند الإمام أحمد» [2 / 247] ونصّه: حدّثني عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، قال: أنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ فلانا يصلّي باللّيل، فإذا أصبح.. سرق! قال: «إنّه سينهاه ما تقول») وهذا السّند جيّد.
الثّاني: لمّا كنت بسربايا في سنة (1349 ه).. حضر مجلسنا رجل أصله من مكّة، يقال له: محمود، فقرأ لنا حصّة من الكتاب العزيز بصوت جميل كاد يقتلع قلبي من مكانه، فطربت لذلك، وأمرتهم بالاكتتاب له، فقالوا: إنّه يشرب الخمر! فقلت لهم: إنّ من أدرج كتاب الله بين جنبيه، وحبّره هذا التّحبير.. لجدير أن لا يموت إلّا على حسن الختام، وذكرت الحديث، فاكتتبوا له على قدر هممهم بنحو من ثلاث مئة ربيّة.
والثّالث: قول النّجاشيّ الحارثيّ يهجو أهل الكوفة [من البسيط]:
«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»
«التّاركين على طهر نساءهم *** والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا»
«والسّارقين إذا ما جنّ ليلهم *** والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا»
«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا»
وما إخاله في ذلك بارّا ولا راشدا، وكيف يصدق وقد بلغ به الفسوق إلى انتهاك حرمة رمضان بالسّكر في أوّل يوم منه، فحدّه مولانا عليّ بن أبي طالب وزاده عشرين فانسلّ إلى معاوية مع أحد نهد في خبر طويل ذكره شارح «النّهج».
وقد قال سفيان بن عيينة: (خذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة).
ومن النّوادر: ما أخبرني به منصب المشهد السيّد أحمد بن حسين: أنّ العبيد بدوعن ـ وفيهم كثرة لذلك العهد ـ يجتمعون ويتبعهم العتقاء لزيارة الشّيخ سعيد بن عيسى في آخر جمعة من رجب، ويدخلون والخطيب في خطبته بطبولهم ومزاميرهم، فقام لهم مرّة أحد آل العموديّ فكسرها عليهم، وهمّوا بقتله لكنّهم احترموه لأنّ خاله الشّيخ عمر بن عبد القادر العلّامة المشهور الشّبيه الحال بالشّيخ بامخرمة، ولكنّهم أجمعوا على الجلاء واجتمعوا بالسّويدا ـ وهي نخيل قيدون ـ فقال بعضهم: إنّ بالسّويدا رجالا.
وبينا هم معسكرون هناك للرّحيل بقضّهم وقضيضهم ـ وقد عجز أهل دوعن عن صدّهم، مع أنّ أكثر أعمالهم وخدمهم متوقّفة عليهم ـ.. إذ جاء العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس فسار إليهم ـ ومعه الشّيخ عمر بن عبد القادر العموديّ ـ وأعطاهم البنّ
ليطبخوا القهوة، وسألهم عن شأنهم فأخبروه، فقال لهم: لا تطيب لنا الأرض من بعدكم فسنرحل معا، وما زال يلاينهم حتّى تمّ الأمر على أن تبقى زيارتهم بحالها وعلى أن تحبسوا الشّيخ الّذي كسر طبولهم شهرا، وسوّيت القضيّة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر ـ أحد تلاميذ الأستاذ الحدّاد ـ قد قيل له: إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر يريد أن يكون مثل بامخرمة، فقال الأستاذ الحدّاد: إنّه لأعظم حالا منه، وكان يستعمل السّماع إذا وصل كحلان، أمّا في تريم.. فلا؛ أدبا. وقال مرّة للحبيب عليّ بن حسن العطّاس: ما قصرن إلّا القحيبات؛ يعني: البغايا.
وقد ترجمه السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وبالغ في الثّناء عليه، وترجمه أيضا الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس، وكانت وفاته سنة (1147 ه)، وهو من أهل التّخريب، وذكره الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في مواضع من كتبه ك «جواهر الأنفاس» وغيره.
عود إلى أخبار آل العموديّ ورئاستهم بعد انقسامهم: قد مرّ في بضه أنّ الكساديّ استولى على أكثر دوعن في حدود سنة (1286 ه)، غير أنّ العموديّين اجتمعوا إثر اغتيال الكساديّ أحد المشايخ، وهو الشّيخ محمّد بن شيخ العموديّ، في سنة (1288 ه)، ونجعوا بالرّئاسة العامّة للشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ، فتحمّل أثقالا فادحة، عهّد من أجلها أموالا طائلة بسهوة السّابق ذكرها في مرخة، وساعدهم جميع قبائلهم من القثم وسيبان والمراشدة والجعدة وغيرهم، فأيّدهم الله على عدوّهم، فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم تأت سنة (1300 ه) إلّا ووادي دوعن، حسبما قال الإمام المحضار [من مجزوء الرّجز]:
«انظر إلى الوادي فقد *** حلّت به السّبع الشّداد»
«الأخمعي والمرشدي *** هم والقثم بئس المهاد»
«والدّيّني والمشجري *** هو والعبيدي لا يعاد»
«وابن مطهّر سابع ال *** غلمه وهو رأس الفساد»
«الله يهديهم ويه *** دينا إلى طرق الرّشاد»
«والّا ينظّفهم من ال *** وادي ويجعلهم بعاد»
وقد سبق في بضه أنّهم منقسمون إلى قسمين: آل محمّد بن سعيد، ولهم قيدون وما نزل عنها إلى الهجرين.
وآل مطهّر، ولهم بضه وما إليها. وكان فيهم عدّة مناصب:
آل صالح بن عبد الله، ببضه. والشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم صاحب شرق، على مقربة من الخريبة. والشّيخ سعيد بن محمّد بن منصّر صاحب العرض، بالخريبة أيضا. والشّيخ محمّد باعمر صاحب البراز، قريبا من القرين.
وبينهم من المنافسات ما لا تبرك عليه الإبل، وكلّ منهم يوضع في سبيل الجور والظّلم، فلم يكن من أحد آل باسودان وأحد آل باعبيد.. إلّا أن رفعا شكوى إلى القعيطيّ بالمكلّا على الشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم، فاستدعاه القعيطيّ، فركب إليه مجلّلا محترما، ولم يزل في مفاوضة معه حتّى تمّ الكلام على أن تكون الرّئاسة العامّة للقعيطيّ، ولابن عبد الكريم استقلال داخليّ في الخريبة وأعمالها ضمن دائرة العدل، وعلى أن ليس له أن يأخذ شيئا من الرّسوم سوى مئتي ريال شهريّا.
وقبض إزاء ذلك الصّلح من يد القعيطيّ ما لا يستهان به من الدّراهم، وما كاد يصل إلى الخريبة حتّى حبس باسودان وباعبيد، فاغتاظ السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ، ورأى أنّ شرفه مسّ، وأنّ المعاهدة انخرمت بحبس ذينك، وكره أن يتعجّل بعقوبة ابن عبد الكريم، فأشار على الشّيخ صالح بن عبد الله أن يعذر إليه، فأرسل بأخيه عبد الرّحمن، وبالسّادة: حامد بن أحمد المحضار، وحسين بن محمّد البارّ، وحسين بن عمر بن هادون صاحب المشهد، فلم يقبل ابن عبد الكريم لهم كلاما.
واتّفق أن وصل الشّيخ عليّ بن محمّد بن منصّر إلى المكلّا يتذمّر من مخالفة القعيطيّ لابن عبد الكريم، فصادف سخطة القعيطيّ على الثّاني، فحالف ابن منصّر بشرط أن يساعده على ابن عبد الكريم، وما كاد يرجع إلى مكانه العرض.. حتّى أذكى نار الحرب على ابن عبد الكريم، وجاءته نجدة القعيطيّ بقيادة عبد الله بن امبارك القعيطيّ، فلم يثبت ابن عبد الكريم إلّا نحوا من أربعين يوما، ثمّ هرب إلى جهة القبلة، فصادف أحد زعماء العموديّين، وهو: الشّيخ محمّد بن عبد الرّبّ، فجمع له عسكرا كثيفا هاجم به الخريبة فاستولى عليها، ودارت المفاوضات بينه وبين ابن منصّر صاحب العرض فانضمّ إليه، وعند ذلك تراجعت عساكر القعيطيّ إلى الهجرين، وغضب السّلطان غالب لذلك، وأرسل عسكرا مجرا بقيادة عبد الخالق ابن الماس عمر مولاهم، ولاقاه صلاح بن محمّد القعيطيّ ـ من القطن ـ مددا له بمن كان معه، وبفلول العساكر الّتي بالهجرين، وعند ذلك قالوا لآل العموديّ: اهبطوا منها جميعا، فانهزموا ولم يجدوا لهم ملجأ ولا مدّخرا إلّا الشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ المحافظ على محايدته، فنزلوا عليه.. فآواهم، وكان ذلك في سنة (1317 ه).
وكان من رأي الأمير صلاح بن محمّد وعبد الخالق أن يطاردوهم وينتزعوهم من بضه، لكنّ السّلطان غالب بن عوض كان كريما، يجلّ الكرام، فنهاهم عن ذلك احتراما للشّيخ صالح بن عبد الله، وبإثر ذلك انتحر عبد الخالق الماس في القويرة، ولم تطل أيّام الأمير صلاح.. بل مات وشيكا في سنة (1318 ه). وب «الأصل» تفصيل تلك الحوادث.
وأسند القعيطيّ عمالة وادي الأيمن للمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ما قد أسلفناه في عوره، وبعد أن استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن.. حمل المقدّم باصرّة كلّ أسلحة الدّهاء لحمل القعيطيّ على التهام الوادي الأيسر، ولم يزل يتحيّن الفرص للوثوب عليه؛ لما في قلبه من البغضة للحالكة.
وكانت رئاسة الوادي الأيسر لآل الشّيخ محمّد بن سعيد ولقبائلهم الحالكة، ومن مناصبهم: الشّيخ محمّد عبود القحوم، السّابق ذكره في قرن ماجد، وله بلاد الماء وخديش وقرن ماجد، وهو من الوادي الأيمن، وله العرسمة ونصف صبيخ، وهي من الأيسر.
ومنهم: الشّيخ حسن بن بدر، وله صيف وفيل.
ومنهم: الشّيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن محمّد، وله حوفة وضري وتولبة.
ومنهم: الشّيخ عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمّد، وله العرض، ونصف صبيخ مثرى القحوم.
ومنهم: الشّيخ حسين بن محسن، وعمر بن عبد الله، ولهم حيد الجزيل.
وأوّل ما انفتح الباب لباصرّة إلى الوادي الأيسر: شرّ حدث بين الخنابشة وآل باهبري، سببه: أنّ أحمد بن سالم باشجيرة الخنبشيّ تزوّج امرأة من آل باهبري، يقال لها: قمر، بدون رضا من بني عمّها، فبينما امرأة من الخنابشة تستقي من غيل جريف.. إذ عمد لها بعض آل باهبريّ فأراق ماءها، فخفّت إلى أهلها، فكانت بينهم وقعتان، قتل في الأولى عمر بن سالم الخنبشيّ، وفي الثّانية أخوه عبد الله بن سالم الخنبشيّ، وكان ذلك أوائل سنة (1322 ه)، فخاف آل باهبريّ من الخنابشة، وكان شيخ قبائل الحالكة كلّها المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، فلجأ إليه آل باهبريّ، فأعطاهم بعض رجاله بصفة الخفارة، فسقط في يد الخنابشة، وأيقنوا بتعذّر الثّأر، فاستعانوا بالمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ينظر إلى واديهم نظر الجزّار إلى التّيس، وتحالفوا معه سرّا حلفا هجوميّا دفاعيّا، آثروا التّكتّم به؛ لئلّا ينتبه آل باهبريّ فيأخذوا حذرهم، ولمّا ظهر لهم قاتل أحد إخوانهم.. أطلقوا عليه الرّصاص فنضخ دمه في ثياب بلحمر، فاستشاط المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، وأحاط بجحي الخنابشة، ولمّا اشتدّ الأمر.. أمدّهم باصرّة بأربع مئة مقاتل، فأبلعوهم الرّيق.
وفي سنة (1325 ه) سار بلحمر وأهل ليسر ـ ومنهم: آل بقشان، ورؤساء الحالكة، والشّيخ أحمد بن حسين العموديّ ـ إلى المكلّا، وحالفوا القعيطيّ وأعطوه الوادي، وأعلنوا ذلك بالأسواق، ففتّ بذلك في أعضاد الخنابشة؛ إذ لا يستطيعون مقاومة بلحمر إلّا بالقعيطيّ، ومتى حالفه.. ماذا يفعلون؟ فبقوا ساكتين حتّى نزغ الشّيطان بينهم، ونشبت الحرب مرّة أخرى، وسرعان ما انعقد الصّلح بين الخنابشة وبلحمر على أن لا تكون مساعدة من القعيطيّ للخنبشيّ في مدّة الصّلح، ولمّا انتهى.. حصلت مساعدة قليلة استمرّ بها الخنبشيّ على الحرب عشرة أشهر، ولمّا اشتدّ الحصر على الخنابشة بالجحي.. جاءت نجدة المكلّا، وتقدّم باصرّة من الوادي الأيمن، وأحاط بالعرسمة فسلّمت في سنة (1328 ه)، ثمّ سلّمت الجديدة، ثمّ صبيخ، ثمّ جريف، ثمّ الدّوفة.
ثمّ انعقد الصّلح بين القعيطيّ والحالكة على بقائهم بمساكنهم وأموالهم في الوادي الأيسر مجلّين محترمين، إلّا أنّ المقدّم عمر بن أحمد بلحمر لم يطب له المقام مكتوف اليد، فذهب إلى سيئون ثمّ إلى وادي العين ثمّ إلى ريدة الجوهيّين ثمّ إلى لبنة بارشيد عند نوّح، فلم يعثر بطائل فعاد إلى بلاده، وأجرى له السّلطان غالب بن عوض ما يكفيه، وتفصيل هذه الأخبار ب «الأصل».
ومن وراء قيدون عدّة قرى وشراج، ومنها:
مسه، وهي قرية صغيرة على يسار الذّاهب إلى دوعن، يسكنها ناس قليل من آل بامحرز، وفيها غيل جار، عليه نخيل لآل بامحرز ولآل العموديّ، وعليه تزرع الخضراوات، وحواليها كانت وقعة مسه، وحاصلها: أنّ السّلطان عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق أغرى ولده جعفرا على الشّيخ محمّد بن مطهّر العموديّ في ألف وثمان مئة.. فلاقاه العموديّ في عدد قليل، ولمّا رأى عسكر جعفر.. انهزم، فتبعه عسكر جعفر، ثمّ لم يشعروا إلا بكمين من العموديّ يركب أكتافهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وفرّ الأمير جعفر بمن بقي معه إلى الهجرين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
سبعة ومئتين غلبوا سبعة عشر مية
وكان ذلك في حدود سنة (1115 ه) كما فصّل ب «الأصل».
ومنها: نسرة، فيها آثار ديار قديمة، وقد بني فيها مسجد ومدرسة على نفقة الشّيخ أحمد بن مساعد ـ أو مداعس ـ الموجود الآن فيما يقال بالحديدة.
وقد رجوت أن يحصل من هذه المدرسة ما كنت أؤمّله؛ إذ لا يرجى الخير من مدرسة يختلط أبناؤها بالأوساط الفاسدة، وإنّما يرجى من مدرسة داخليّة ينتخب لها معلّمون صالحون، على أبلغ ما يكون من النّزاهة والتّقوى، حسبما اقترحته على السّلطان القعيطيّ في أواخر ذكر المكلّا؛ لأنّ الخلطة الدّاء، وإنّما التّلميذ هو ظلّ المعلّم.. ينحو نحوه، ويقتصّ أثره، ولكن بلغني ـ ويا للأسف ـ أنّ تلك المدرسة أقفلت، وطاحت تلك العبارات، وفنيت تلك الإشارات، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وما شاء الله.. كان، وما لم يشأ.. لم يكن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
3-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (سيئون)
سيئونزنة: زيدون، بعضهم يكتبها بواو واحدة، وبعضهم بواوين، والقاعدة: أنّ ما كثر استعماله واشتهر وفيه واوان.. يكتب بواحدة فقط، كداود.
وقد قلت في «منظومة» أنشأتها في «علم الخطّ» [من الرّجز]:
«ما كثر استعماله وفيه *** واوان.. واو واحد يكفيه »
وهي من البلدان القديمة، نقل الشّيخ المؤرّخ سالم بن حميد: أنّ سيئون، وتريم، وشبام، وتريس أبناء حضرموت، وأنّ هذه البلاد سمّيت بأسمائهم.
وقد ذكرها الهمدانيّ في «صفة جزيرة العرب» [170] إلّا أنّه لم يسمّها باسمها، بل قال: (وشزن وذو أصبح مدينتان في دوعن) اه
وقد استشكلت هذا ردحا من الزّمن حتّى فرّج الله عنّي بما رأيته منقولا عن أبي شكيل، عن أبي الحسن أحمد بن إبراهيم الأشعريّ من قوله: (وذي أصبح وسيئون مدينتان عظيمتان لبني معاوية الأكرمين)، فدلّ ذلك على قدمهما.
فقول الهمدانيّ: (شزن).. إمّا غلط منه وإمّا أن يكون عرض بعده التّبديل، لكن من المعلوم أنّ سيئون منعطفة على الجبل الّذي هي بحضيضه انعطاف اللام. والانعطاف من الانحراف هو الشّزن بنفسه، قال ابن أحمر [من الوافر]:
«ألا ليت المنازل قد بلينا *** فلا يرمين عن شزن حزينا»
ولعلّ سيئون في القديم كانت كحالها اليوم في الانعطاف على جبلها.
وأمّا قوله: (بدوعن).. فخطأ ظاهر لا يحتمل التّأويل، ولهذا تركه أبو شكيل.
وقد يغبّر على قدم سيئون شيئان:
أحدهما: أنّه لا ذكر لها في الحوادث القديمة، وأوّل ما يحضرني من ذكرها فيها أنّ نهدا اقتسمت السّرير في (سنة 601 ه) فصارت سيئون وحبوظة لبني سعد وظبيان.
وثانيهما: أنّ الجامع الأوّل بسيئون كان صغيرا لا يتّسع لمئتي نفس تقريبا، ومع ذلك فالّذي بناه هو الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير، وهو متأخّر الزّمان، لم يمت كما في «البنان المشير» [ص 25] إلّا في حدود سنة (920 ه) وله قصّة مع سيّدنا الشّيخ أبي بكر العدنيّ ابن سيّدنا عبد الله العيدروس لمّا اجتاز بسيئون، وقد كانت وفاة العدنيّ في سنة (914 ه).
ولكنّ الجواب يحصل عن ذينك الأمرين، ممّا أجمع عليه المؤرّخون؛ كشنبل وباشراحيل وغيرهما: أنّ سيئون خربت في سنة (595 ه) فتحصل أنّها كانت مدينة عظيمة لبني معاوية الأكرمين من كندة، ثمّ خربت حتّى لم تكن شيئا مذكورا، ثمّ عادت شيئا مذكورا حتّى دخلت في قسمة نهد سنة (601 ه)، إن لم تؤل بأرباضها.
ثمّ كانت في أيّام العيدروس المتوفّى سنة (865 ه) قرية، كما يعرف من قول السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس عن عبد الله بن عليّ باسلامة، وكان من الثّقات: (إنّ العيدروس جاء إلى عنده بمريمه، فكلّف عليه أن يذهب إلى سيئون ـ وهي قرية من قرى حضرموت ـ ليشفع إلى جعفر بن محمّد الجعفريّ نائب بدر بن عبد الله بن جعفر عليها في إطلاق عليّ باحارثة، فلم يقبل شفاعته) اه بل سبق في شبام عن الجدّ طه ما يفهم منه أنّها لم تكن في أيّامه إلّا قرية، مع أنّه متأخّر التّاريخ.
وأخبرني السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ بن عمر بن سقّاف عن والده: (أنّ سيئون اسم امرأة كان لها عريش في جانب سيئون الغربيّ، المسمّى اليوم بالسّحيل، يمرّ عليها أبناء السّبيل المنقطعون، فسمّيت باسمها البلاد).
وقد يجمع بينه وبين بعض ما تقدّم بأنّ اسم سيئون الأوّل إنّما هو شزن ـ حسبما مرّ عن الهمدانيّ ـ ثمّ خربت، وكانت المرأة المسمّاة سيئون أوّل من اتّخذت عريشا في أطلالها الدّاثرة.. فغلب عليها اسمها.
وحدّثني السّيّد المؤرّخ الرّاوية محمّد بن عقيل بن يحيى: أنّ سيئون اسم يهوديّ محرّف عن صهيون، وقد كان مثرى اليهود بسيئون. وصهيون كنيسة بيت المقدس، وإليها يشير الأعشى في مديحه لأساقفة نجران بقوله [في «ديوانه» 243 من الطّويل]:
«وإن أجلبت صهيون يوما عليكما *** فإنّ رحا الحرب الدّكوك رحاكما »
وفي (ص 309 ج 5) من «صبح الأعشى»: (إنّ صهيون بيعة قديمة البناء بالإسكندريّة، معظّمة عند النّصارى).
وقبله من تلك الصّفحة ـ في الكلام على بطارقة الإسكندريّة الّذين تنشّأ عن ولايتهم مملكة الحبشة ـ: (إنّ الملك الأكبر الحاكم على جميع أقطارهم يسمّى بلغتهم: (الحطيّ) ومعناه: السّلطان، وهو لقب لكلّ من قام عليهم ملكا كبيرا. ويقال: إنّ تحت يده تسعة وتسعين ملكا، وهو تمام المئة. وإنّ الملك الكبير في زمن صاحب «مسالك الأبصار» يقال له: عمد سيئون، ومعناه: ركن صهيون) اه
وهو كالصّريح في أنّ سيئون وصهيون شيء واحد.
ورأيت في بعض الصّحف أنّ اليهود قدّموا عريضة على يد أحد زعمائهم للسّلطان عبد الحميد رحمه الله يسترحمونه في أن يعيّن قطعة من فلسطين لسكنى اليهود الّذين قتلهم الضّغط في روسيا وإسبانيا، وفيها ما صورته: إنّ جمعيّة سيئون الّتي تشكّلت في صهيون بعد الميلاد بمئة وخمسة وثلاثين سنة قد اختارتني للمثول بين يديكم؛ لأقدّم لكم هذه العريضة. وتسترحم الجمعيّة اليهوديّة من صاحب الجلالة التّكرّم بتخصيص القطعة الفلانيّة ـ وحدّدها ـ لإسكان اليهود.
ونظرا لما انتاب خزينة الدّولة من الضّائقة الماليّة من جرّاء الحرب اليونانيّة.. فإنّ الجمعيّة تقدّم بواسطتي عشرين مليون ليرة ذهبا لصندوق الخزينة على سبيل القرض لمدّة غير معيّنة بدون فائدة، وخمسة ملايين ليرة ذهبا إلى خزينتكم الخاصّة، لقاء ما تكرّمتم به من البرّ والإحسان، وأسترحم قبول هذا العرض.
فلم يكن من السّلطان إلّا أن استشاط غضبا وطرده، ولكنّ جمعيّة الاتحاد والتّرقّي جعلت ذلك الزّعيم اليهوديّ على رأس الهيئة الّتي جاءت لتبليغ السّلطان خلعه عن العرش؛ لأنّ ذلك اليهوديّ كان من مؤسّسي تلك الجمعيّة!! وكان نائبا عن سبلانيك في مجلس المبعوثان. اه
ومنه تعرف أنّ سيئون اسم للجمعيّة الّتي ألّفت، أو للّذين ألّفوها، أو للمكان الّذي ألّفت فيه.
وقد ملأ العرب اليوم الدّنيا ضجيجا بشأن فلسطين، وسننظر ـ كما في المثل الحضرميّ ـ أسيادنا آل باعبّاد على الصّراط، فإمّا سبقناهم على الظّفر، وإلّا.. كان للنّاس الحقّ أن ينشدوهم ما نكرّره من قول الحطيئة [في «ديوانه» 40 من الطّويل]:
«أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا»
وفي معناه ما أنشده الحجّاج [من الطّويل]:
«ألام على عمرو ولو مات أو نأى *** لقلّ الّذي يغني غناءك يا عمرو»
إذ كان اليهود لا يطمعون في شبر من فلسطين أيّام الأتراك، وعمّا قليل ينكشف الغبار عمّا في المضمار، والبيت الّذي يتمثّل به الحجّاج شبيه بقول ابن عرادة السّعدي
وكان بخراسان مع سلمة بن زياد يكرمه وهو يتجنّى عليه، ثمّ فارقه وصحب غيره فلم يحمد.. فعاد إليه وقال [من الطّويل]:
«عتبت على سلم فلمّا فقدته *** وصاحبت أقواما.. بكيت على سلم »
«رجعت إليه بعد تجريب غيره *** فكان كبرء بعد طول من السّقم »
وقال زياد ابن منقذ العدوي التميمي من قصيدة جزلة أنشأها بصنعاء يتشوق فيها إلى وطنه ببطن الرّمّة ـ وهو واد بنجد [في «ديوان الحماسة» 2 / 153 من البسيط]
«لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم *** إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم »
وقال أبو العتاهية [في «ديوانه» 18 من الطّويل]:
«جزى الله عنّي جعفرا بوفائه *** وأضعف إضعافا له بوفائه »
«بلوت رجالا بعده في إخائهم *** فما ازددت إلّا رغبة في إخائه »
وقال أحمد بن أبي طاهر [من الوافر]:
«بلوت النّاس في شرق وغرب *** وميّزت الكرام من اللّئام »
«فردّني الزّمان إلى ابن يحيى *** عليّ بعد تجريب الأنام »
فإن نجح العرب حسبما يتبجّحون في هذه الأيّام.. فبها ونعمت؛ لأنّها أمنيّة كلّ مؤمن، وإلّا.. فما أخذوا إلّا يوم الثّور الأبيض؛ أي يوم نهض المنقذ، وكانت نهضته فاتحة هزائم الأتراك الّتي اهتزّت لها منابر الدّنيا بالدّعاء لهم عدّة قرون.
ولئن لم تكن زنة سيئون في اللّفظ.. فقد كانت على رسمها في الخطّ كما تقدّم أوّل المسوّدة، وما أكثر التّصحيف في مثل ذلك، فمهما يكن.. فالأمر قريب من بعضه، ولا مانع أن تكون المرأة المذكورة في كلام سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ يهوديّة، وبذلك تلتئم أطراف الكلام.
ثمّ إنّ سيئون نهضت نهضة سريعة، ونبتت كما ينبت الحبّ في حميل السّيل، والدّليل على ذلك: أنّ باني الجامع الكبير الّذي يسع الألوف إلى اليوم.. هو الشّيخ أحمد بن مسعود بن محمّد بن مسعود بن عليّ بن سعد بارجاء بن عبد الله بن عليّ الظّفاريّ العبهليّ المذحجيّ ـ كما مرّ في الشّحر، كان موجودا في أواخر القرن التّاسع، بشهادة ما سقناه ب «الأصل» من خبره مع السّلطان بدر بن عبد الله بن علي بن عمر الكثيريّ، الّذي كانت ولايته في سنة (850 ه)، ووفاته في سنة (894 ه)، فباكثير باني الجامع الأوّل، وبارجاء باني الجامع الثّاني متعاصران، فغاية ما يحتمل: تقدّم الجامع الأوّل بسنوات معدودة، ومتى عرفت تعاصرهما.. تقرّر لديك أنّ عمارة البلاد حديثة، وأنّ اتّساعها كان دفعة واحدة في أيّام بدر بوطويرق.
وممّا يؤكّد ذلك: اتّفاقهم على أنّ مقبرة سيئون في شرقيّها. أمّا نسبتهم تلك المقبرة إلى الشّيخ عمر بامخرمة:
فإمّا أن يكون المراد جانبها الشّرقيّ منها فقط. وإمّا أن يكون للشّهرة، وإلّا.. فآل بارجاء كانوا متقدّمين عليه.
وكان الشّيخ سعد بارجاء موجودا بسيئون من أوائل القرن السّابع، وكانت وفاة عمّه تاج العارفين سعد الظّفاريّ بالشّحر سنة (609 ه).
وكان الشّيخ سعد بارجاء من المشهورين بالفضل، نجع هو وعمّه الشّيخ سعد بن عليّ الظّفاريّ من ظفار إلى الشّحر، واستوطنها أيّام كانت خصاصا قبل أن تكون مدينة، وأشار على ابن أخيه سعد هذا أن يذهب إلى أرض لا يكون له بها شأن، فكانت سيئون؛ لأنّها لم تكن إذ ذاك إلّا صغيرة جدّا.
ولا يشوّش على قولنا: (أنّ سيئون اتّسعت دفعة). ما سبق عن الجدّ طه، ممّا يفهم استصحاب اسم القرية عليها؛ لاحتمال أنّه باعتبار ما كان.
وكان الشّيخ أحمد بن مسعود ـ باني جامع سيئون الثّاني ـ أحد مشايخ سيئون المشهورين، وله بها آثار، منها: الجامع المذكور، وقد زاد فيه الشّيخ عليّ بارجاء صفّين في جهته الغربيّة أيّام السّلطان عمر بن بدر ـ أي: في القرن الحادي عشر ـ في أرض اشتراها من صلب ماله، ثمّ زاد فيه السّيّدان محمّد بن سقّاف بن محمّد وعبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الله آل السّقّاف زيادات قليلة، ثمّ زاد فيه السّيّد حسين بن عليّ سميطة ثلاثة صفوف في جانبه الشّرقيّ، ثمّ جدّدت عمارته على عهد جدّنا محسن بن علويّ بن سقّاف، وهي الموجودة إلى الآن، وكانت النّفقة من الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ السّابق ذكره في الحزم وصداع، يرسلها من حيدرآباد الدّكن إلى يد الجدّ رضوان الله عليه.
ثمّ زاد فيه السّيّد الجليل أحمد بن جعفر بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى بسيئون سنة (1320 ه) رواقا في جانبه الغربيّ الجنوبيّ.
"وفي آل بارجاء كثير من العلماء والصّلحاء.
منهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم بن عمر بن عبد الرّحمن بارجاء، مؤلّف «تشييد البنيان»، وهو كتاب حافل في ربع العبادات، نقل فيه نقولا كثيرة الفائدة، فرغ منه في سنة (1036 ه).
ومنهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم، المشهور بقاضي ظفار.
ومنهم: الشّيخ عبد الجامع بن أبي بكر بارجاء، ذكره الشّلّيّ وأثنى عليه، توفّي بمكّة سنة (1082 ه) وترجم له المحبيّ في «الخلاصة» [2 / 298].
ومنهم: الشّيخ محمّد بن محمّد، خطيب جامع سيئون، كان شهما صلبا، عارفا بالقراءات والتّجويد، إلّا أنّه كان يأكل طعام الدّولة فأنكروا عليه؛ إذ كان أكل طعامهم من أكبر المنكرات لذلك العهد الصّالح، توفّي سنة (1328 ه).
ومنهم: الشّيخ أحمد بن محمّد بارجاء، تولّى القضاء مرّات بسيئون، وكانت له بها خطابة الجامع. وكان سخيّا، دمث الأخلاق، ليّن الجانب، خفيف الرّوح، فقيها مشاركا في بعض الفنون، وكان ممّن يحضر عليّ وله مكارم ومبرّات كثيرة. توفّي برمضان من سنة (1334 ه)، وله أولاد كثيرون، كان أحبّهم إليه سالم ومحمّد. وكانت له ثروة بجاوة فأتلفوها عليه، وقد أدركه ابنه الصّالح سعيد بجميل المواصلة وغزير المواساة.
وكان سعيد هذا من المثرين بالصّولو من أرض جاوة، فأنفق ماله في بذل المعروف، ولا سيّما للسّادة آل الحبشيّ وآل العطّاس، حتّى لقد كان يشتري من بعضهم عسلا بأغلى ثمن، ثمّ يقدّمه له كلّ يوم مع اللّحم الحنيذ إلى أن ينفد، وقد أملق بعد ذلك فلم يشنه الفقر؛ لغناه بالله، ولأنّه لا أهل له ولا عيال. وقد كمّت الأفواه عن المصارحة بالحقّ، ولكنّه رافع العقيرة بإنكار المنكر حسب جهده ومعرفته، لا يحابي ولا يداهن، جزاه الله خيرا.
وأمّا آل باكثير: فأكثر أعقابهم بتريس، حسبما سبق فيها، ومنهم جماعة بمكّة المشرّفة، ولا يزال بعضهم بسيئون، ولهم بها مآثر ومساجد.
ومن آخرهم بها: الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، كان عيبة علوم، ودائرة معارف، وعنه أخذت علم النّحو والصّرف، وكان يؤثرني ويقدّمني على النّاس، حتّى لقد قال لي مرّة ـ عن تدبير والدي ـ: (إن حفظت لاميّة الأفعال.. فلك ريال) فقرأتها عليه في الصّباح، ثمّ قلت له من العشيّ: اسمعها. وسردتها عن ظهر قلب وتسلّمت الرّيال، غير أنّ همّتي كانت ضعيفة في الصّرف ولا سيّما القلب والإبدال فتفلّت عنّي أكثره.
وكان الشّيخ ـ رحمه الله ـ متخصّصا في هذين العلمين، كثير الإكباب عليهما، والولوع بهما والبحث فيهما، وله مؤلّفات عديدة وأشعار كثيرة.
وكان شديد التّعلّق بوالدي، جمّ القراءة عليه. ثمّ كان يحضر دروسي في التّفسير والفقه والحديث، ولقد زارني مرّة في سنة (1352 ه) فقال: (لقد عددنا ستّين ماتوا ممّن كانوا يحضرون دروسك الشّيّقة). توفّي على أبلغ ما يكون من الثّبات بسيئون أوائل سنة (1355 ه).
ومنهم: أخوه أحمد بن محمّد باكثير، كانت له خيرات ومبرّات، وصلة أرحام، وكفالة أيتام، وقضاء حاجات، وتفريج كربات، توفّي بسيئون سنة (1343 ه).
ومنهم: ولده عبد القادر، كان تقيّا، متشدّدا في العبادة، متحرّيا في الطّهارة، آخذا بالعزيمة، سريع الحفظ، يكاد يحفظ من مرّة واحدة، وهو الّذي جمع بعض ما كنت أرتجله في المحافل المشهودة من الخطب الطّويلة، وكنت أظنّه الشّيخ محمّدا، لأنّه هو الّذي دفعها إليّ حتّى أخبرني ولده الأديب عمر بن محمّد بأنّ الجامع إنّما هو عبد القادر بن أحمد، بمساعدة من الشّيخ محمد في تحرير الآيات والأبيات والأحاديث فقط. توفّي بجاوة في حدود سنة (1344 ه).
وآل باكثير كلّهم على جانب عظيم من الذّكاء وقرض الشّعر، ولعمر بن محمّد شعر جيّد، وحامل لواء شعرهم اليوم هو: الشّيخ عليّ بن أحمد باكثير، نزيل مصر، وأنا مع حبّي له عاتب عليه؛ لأنّني أرسلت إليه مسوّدة «العود الهنديّ» فلم يردّها، وطبع لي محاضرة مسلّمة النّفقة ولم يدفع لأمري إلّا نحو ثلاث مئة نسخة فقط، وكان كلّ ذلك في سنة (1355 ه)، غير أنّني أحلت السّيّد عبد الله بن محمّد بن حامد السّقّاف ليقبض الجميع منه، ثمّ كاتبت وطالبت الاثنين حتّى عييت بدون جدوى ولا جواب، فأحدهما أو كلاهما ملوم، وكان الواجب على كلّ منهما أن يبرّىء نفسه، وأن يؤدّي الأمانة من كانت عنده.
ومن أكابر من تديّر سيئون: الشّيخ عمر بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة، السّيبانيّ الهجرانيّ، ترجمه الشّليّ في «السّنا الباهر» ترجمة طويلة، وذكر أنّ فقهاء عصره أنكروا عليه بعض الأحوال، منها: أنّه يحضر أغاني الفتايا ويجلس إليهنّ وأنّهنّ ممّن يضرب الدّفوف ويغنّي بين يديه في المواكب والمجالس.
ولذا لم يذكره ولده عبد الله في «ذيل طبقات الفقهاء» للإسنوي، وذكر أخاه الطّيّب، مع أنّه لا يزيد عليه فقها. ونقل تلك التّرجمة بأسرها سيّدي عمر بن سقّاف في كتابه «تفريح القلوب».
وما صنعه عبد الله بن عمر من إغفال ذكر والده يدلّك على تحرّ شديد وحيطة هائلة، وماذا عليه لو ذكر فقهه وأشار إلى بعض أحواله؟ غير أنّ فرط إنصافه ذهب به إلى أن يتصوّر أنّ ذكر أبيه مع ما ينكر عليه يوقعه في شيء من الهوادة، وهو ينزّه عدالته عن كلّ ما يعلق بها من الرّيب أو يمسّها من التّهم، وإنّه لمقام صعب إلّا على من وفّقه الله، فلهو أحقّ بقول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 171 من الكامل]:
«ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن *** هو بابنه وبشعره مفتون »
أخذ عنه جماعة من العلويّين، منهم: الشّيخ أبو بكر بن سالم. والشّيخ أحمد بن حسين العيدروس.
وأخذ هو عن جماعة من العلماء، منهم: سيّدنا أبو بكر العدنيّ، لكن لم يحمد بينهما المآل، لأنّ الشّيخ عبد الله باهرمز لم يقبل تحكّم الشّيخ عمر له إلّا بشرط أن يسمع العدنيّ ما يكره، ففعل، وساءت بينهما الحال حتّى لقد كان الشّيخ يمدح بدر بن محمّد الكثيريّ والعدنيّ يهجوه، والعدنيّ يمدح السّلطان عامر بن عبد الوهّاب ويذمّ البهّال، والشّيخ عمر بعكسه.
ولمّا جرت الحادثة الهائلة على البهّال.. عدّها الغواة من هواة الخوارق من كرامات العدنيّ، ثمّ لمّا قتل عامر شرّ قتلة.. عدّها الآخرون في كرامات الشّيخ عمر.
وما أحسن قول ابن نباتة: (والله.. لا يضرّ ولا ينفع، ولا يضع ولا يرفع، ولا يعطي ولا يمنع.. إلّا الله).
وكنت أظنّ النّفرة استحكمت بين العلويّين وآل بامخرمة في عهده وعهد ولده عبد الله إلى حدّ بعيد، حسبما أشرت إلى ذلك في «الأصل»، ويتأكّد ذلك بالقصّة الآتية له مع السّيّد علويّ بن عقيل في العرّ من ضرب السّيّد علويّ بن عقيل الشّيخ عمر بالنّعال، وما بعد ذلك من هوادة ولا حفظ لخطّ الرّجعة.
لا سيّما وقد نقل سيّدي عليّ بن حسن العطّاس عن القطب الحدّاد ما يقتضي انحصار أخذ الشّيخ عمر بامخرمة على الشّيخ عبد الرّحمن باهرمز وأن لا شيخ له من العلويّين.
ولا ينتقض ذلك بما كان من أخذه عن العدنيّ؛ لأنّه لم يدم، بل بطل حكمه، وقد أشرت إلى جميع هذا في «الأصل» وربّما كان مبالغا فيه، وقد عوّض الشّيخ عمر عمّا لحقه من جفاء العلويّين في زمانه بما كان من إصفاق أعقابهم على فضله والولوع بديوانه وقد أطنب سيّدي عمر بن سقّاف في مدحه.
أمّا أشعار الشّيخ عمر بامخرمة.. فألذّ من الوصال، وأحلى من السّلسال، وفيها فراسات صادقة عن أمور متأخّرة، كما يعرف ذلك بالاستقراء. ولم يزل بسيئون تحت الضّغط والمراقبة من بدر بوطويرق، لا من النّاحية الّتي ينكرها عليه الفقهاء، ولكن لما على كلامه من القبول: وله من التّأثير؛ فهو يخشى أن يحرّض عليه، فتتنكّر له النّاس، على أنّ ذلك وقع عليه مع شدّة تحرّيه، فثار عليه ولده، وألقى القبض عليه، وسجنه حتّى مات بغيظه مقهورا في سجنه سنة (977 ه).
وما كنت أدري أنّ للشّيخ عمر بامخرمة حشما وأبّهة وأتباعا إلّا من قصّته السّابقة في هينن مع الشّيخ حسين بن عبد الله بافضل، فإمّا أن تكون قبل المراقبة عليه، وإمّا أن تكون المراقبة محدودة بما يخشى منه الثّورة.
وكانت وفاة الشّيخ حسين كما في «النّور السّافر» سنة (979 ه).
وكانت وفاة الشّيخ عمر بامخرمة بسيئون في سنة (952 ه)، وكان السّيّد زين بن عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير المدح له والثّناء عليه، وما أكثر ما يتمنّى أن يدفن بجواره.
وفي غربيّ قبره: ضريح الشّيخ أحمد مسعود بارجاء، باني الجامع الثّاني السّابق ذكره.
وفي غربيّه إلى الجنوب: مقبرة آل باحويرث، كان فيهم كثير من الأخيار، يكثرون العبادة، ويحافظون على الصّلاة، وأظنّهم على اتّصال في المناسب بآل حويرث السّابق ذكرهم في الخريبة.
وكانت أمّ جدّنا عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف من آل ثبتان، وهم من سيئون.
وكان جدّنا عمر الصّافي بن عبد الرّحمن المعلّم بن محمّد بن عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف يتردّد من تريم إلى سيئون بسبب أنّ أحد محبّيه من تريم انتقل منها إليها، ولمّا علم بدر بوطويرق بتردّده.. أمر ذلك الرّجل أن يزيّن له الزّواج بسيئون، فما زال به حتّى اقترن بسلطانة بنت محمّد بانجّار، من قوم يرجعون إلى نجّار بن نشوان من بني حارثة، وقد اختلف في بني حارثة: فقيل: كنديّون. وقيل: مذحجيّون.
وكانت لآل بانجّار دولة ببور فانمحت بدولة آل كثير وصاروا سوقة بسيئون وغيرها.
وقد ولد لجدّنا عمر ولده طه من سلطانة المذكورة، ونشأ في حجر أمّه بسيئون، ولمّا شبّ.. ذهب إلى تريم، فضجّ آل سيئون وراجعوه، فعاد وتزوّج بها وبنى بها مسجده المشهور، ولم يزل بها منفردا بالسّيادة إلى أن توفّي سنة (1007 ه).
وله ابن اسمه: عمر، له حالات شريفة، طلب العلم، ثمّ غلب عليه التّصوّف، وأكبّ على «رسالة القشيريّ»، ونقلها بخطّه، وكتب سبعة كراريس منها في يوم واحد.
وكان له اتّصال أكيد بالسّادة آل عبد الله بن شيخ العيدروس في تريم، لا ينزل هناك إلّا عليهم. وله عبادات جليلة، وأوقات موزّعة، توفّي بسيئون سنة (1053 ه).
وهو والد العلّامة الجليل طه بن عمر الثّاني، المتوفّى بسيئون سنة (1063 ه) المترجم له في «المشرع» [2 / 285]، ورثاه جماعة من الشّعراء، فكانت أبلغ مرثيّة فيه للشّيخ عمر بن محمّد باكثير.
وخلفه ولده عمر، توفّي بمكّة سنة (1085 ه)، وسنّه سبع وعشرون سنة، وخلفه ابنه محمّد بن عمر بن طه بن عمر.
وقد رسخت أقدام هذا البيت بسيئون، غير أنّهم كانوا لا يزيدون على سبعة، متى وجد لأحدهم ذكر.. مات أحد السّبعة حتّى كانت أيّام الجدّ سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه المتوفّى سنة (1195 ه)، فبدؤوا يتكاثرون، ولم يمت إلّا وقد بلغوا الثّلاثين، إلّا أنّ عصاهم انشقّت، وأمرهم انفرج، وكانوا ـ وهم قليل ـ خيرا منهم بعدما كثروا، ولله درّ حبيب حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 330 من البسيط]:
«إنّ الكرام كثير في البلاد وإن *** قلّوا، كما غيرهم قلّ وإن كثروا »
والشّريف الرّضيّ حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 528 من البسيط]:
«قلّوا عناء وإن أثرى عديدهم *** وربّما قلّ أقوام وإن كثروا»
وهو بيت طيّب، مغرس علم، ومنبت صلاح، سيماهم التّواضع، وشأنهم الخمول، يقضون حوائجهم بأنفسهم، ولا يتميّزون عن أحد من النّاس إلّا بالعلم إذا سئلوا عنه أو تفتّحوا في الدّروس.
وكان نجوعهم من تريم على حين خلل بدأ في طريق العلويّين، كما يعرف من «الفوائد السّنيّة» لسيّدي أحمد بن حسن الحدّاد، ومن «العقود اللّؤلؤيّة» للعلّامة السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ، فانحفظت طريقهم بسيئون عن ذلك الخلل، وبقوا على ما كان عليه أوّلوهم من التلزّم بالفقه، حسبما قلت من قصيدة أردّ بها على بعض المغترّين من أهل البدع والرّئاسات [في «ديوان المؤلّف» ق 192 من البسيط]:
«سل من أردت فقد كانت أبوّتنا *** على طريق من الإنصاف محمود»
«طريقة من قذى الأوهام صافية *** ومنهل من زلال الفقه مورود»
لا يدخل مسجدهم طبل ولا يراع، ولقد عمل الشّيخ عوض جبران تابوتا لقبر جدّي المحسن فمنعته من وضعه عليه.
وكانوا يتوسّعون في الفقه، ويشاركون في التّفسير والحديث، وليس عندهم من علوم العربيّة إلّا القليل، ولبعضهم أشعار لا تنتهي إلى إجادة. ولهم من الأعمال الصّالحة وتحمّل المشاقّ في مجاهدة النّفوس ما لو لم أره عيانا في مثل والدي.. لم يكن لي بما يذكر عن السّلف سبيل إلى التّصديق، لكن جاء العيان فألوى بالأسانيد.
فلقد نشأ والدي في طاعة الله، لهوه التّحنّث مع أتراب له في جبال سيئون، وكان يكتفي بوجبة ويتصدّق بالأخرى، حتّى علم به أبوه لمّا كان يذهب بها من مخترفهم إلى من كانوا يعتادونه منه بالبلد، فنهاه.
ومنذ عرفته وهو يقوم من النّوم قبل انتصاف اللّيل فيخفّ إلى الطّهارة، ثمّ يصلّي سنّتها، ثمّ الوتر إحدى عشرة بحسن قراءة وطول قيام، ثمّ يقرأ حصّة من القرآن بصوت شجيّ، ثمّ يأخذ في الأوراد والمناجاة، وكثيرا ما يقول في آخر دعائه:
اللهمّ؛ ارحمنا إذا عرق منّا الجبين، وانقطع منّا الأنين، وأيس منّا الطّبيب، وبكى علينا الحبيب.
اللهمّ؛ ارحمنا يوم نركب على العود، ونساق إلى اللّحود.
اللهمّ؛ ارحمنا إذا نسي اسمنا، واندرس رسمنا، وفنينا وانطوى ذكرنا، فلم يزرنا زائر، ولم يذكرنا ذاكر.
اللهمّ؛ ارحمنا يوم تبلى السّرائر، وتكشف الضّمائر، وتوضع الموازين، وتنشر الدّواوين.
ومتى جاء فصل الصّيف والخريف.. كان تهجّده على سطح مصلّاه أو في بطن مسيله، فكأنّما تؤوّب معه الجبال، وتكاد تنقدّ لخشوعه الصّدور وتتفطر المرائر، ثمّ يصلّي الصّبح ونافلته، ويأخذ في أذكار الصّباح، حتّى إذا أسفر الأفق.. نبّهني وأعاد معي الصّلاة وجلس يقرئني إلى أن ترتفع الشّمس قدر رمح، فيصلّي سبحة الضّحى ثمانيا، وتارة يختصّ الإشراق بركعتين؛ إذ المسألة خلافيّة، فالّذي في «الإحياء» [1 / 337] أنّ صلاة الإشراق غير صلاة الضّحى، وجرى عليه في «العباب» [1 / 263] و «التّحفة» [2 / 237 ـ 238].
وقال ابن زياد في «فتاويه»: ويظهر عدم الاكتفاء في نيّتها بمطلق الصّلاة؛ لأنّها ذات وقت كالضّحى، وقال في «الإمداد»: وهي غير الضّحى على ما قاله في «الإحياء».
فتبرّأ منه، واعتمد في «الإيعاب» أنّها من الضّحى وأنّ مقتضى المذهب امتناع فعلها بنيّة الإشراق، وعليه الرّمليّ في «النّهاية»، ومال إليه السّيّد عمر البصريّ.
ثمّ يتناول ما تيسّر من الفطور ويعود إلى مصلّاه الّذي بناه في سنة (1300 ه)، ووقف منه قطعة صغيرة للمسجديّة علينا وعلى ذرّيّاتنا فقط؛ ليصحّ الاعتكاف فيه، فيجلس للتّدريس به لأناس مخصوصين؛ هم: السّيّد سقّاف بن علويّ بن محسن، والسّيّد عبد الله بن حسين بن محسن، والشيخ عمر عبيد حسّان، والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، والشّيخ محفوظ بن عبد القادر حسّان، وأمّا الشّيخ محمّد بن عليّ الدّثنيّ.. فإنّه لزيمه.
وكلّ هؤلاء حضر بعض دروسي في التّفسير والشّمائل والفقه بسيئون، إلّا السّيّد سقّاف بن علويّ فإنّما حضر دروسي بسربايا من أرض جاوة في سنة (1330 ه).
فإذا قضى أولئك دروسهم.. استدعاني ليباشر تعليمي بنفسه بعقب انصراف المخصّصين لتعليمي في محلّنا؛ إذ كان يحميني عن مخالطة أبناء النّاس، ويسرّب إليّ أولادا في سنّي يرضاهم للّعب معي، يراقب أخلاقهم وأحوالهم بنفسه، منهم السّيّد علويّ بن حسين بن محسن، ومنهم: سالم بن حسن بن محمّد حسّان.
ومتى فرغ من درسي.. جاء إليه الدّثنيّ يقرأ عليه إلى قريب الظّهر، عندئذ يتناول ما تيسّر من الغداء، ثمّ يقيل نصف ساعة أو أقلّ، ثمّ يتهيّأ للظّهر فريضة ونوافل، وبعد أن يفرغ فتارة يحضر عليه أولئك الرّهط فيقرؤون، وتارة يدخل إلى أهله، وهناك تحضر الوالدة بكتابها فتقرأ عليه، كلّما انتهت من كتاب.. شرعت في آخر؛ لأنّها كانت مشاركة في العلم، وأحيانا يضرب السّتر ويأتي الدّثنيّ بكتابه وسيدتي الوالدة من ورائه إلى أن تجب العصر، فيقوم إلى مصلّاه ويؤدّيها نافلة وفريضة بطهر مجدّد، ثمّ يشتغل بشيء من الأوراد والحزوب، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا، ثمّ أنهض للّعب مع أصحابي المخصّصين لذلك، وكثيرا ما يزورنا ويراقبنا، وربّما شاركنا؛ تطييبا لأنفسنا دقيقة أو دقيقتين.
«يروع ركانة ويذوب ظرفا *** فما تدري أشيخ أم غلام »
ثمّ يحضر الدّثنيّ إلى المغرب، وعند ذاك يستأنف الطّهارة، ثمّ يؤدّي المغرب بنوافلها الرّاتبة وغيرها، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا خفيفا، ويخلفني الدّثنيّ في القراءة إلى العشاء، وقد يحضر السّابقون في هذا الوقت وغيرهم فيكون درسهم واحدا.
ثمّ يؤدّي العشاء بدون تجديد طهارة، ثمّ يصلّي راتبته، ويشتغل بأذكار المساء، ثمّ يتناول العلقة من الطعام، ثمّ يأخذ مضجعه وقد غلب عليه الخوف من الله والشّوق إليه، فقلّما يطمئنّ به مضجعه، وهكذا دواليك.
وقد انطبعت نفسه ـ ورسخت أعضاؤه على اتّباع السّنّة في يقظته وانتباهه، وقيامه وقعوده، ومدخله ومخرجه، وقضائه للحاجة، وأكله وشربه ـ انطباعا لا يحتاج معه إلى تكلّف، بل كثيرا ما أراه يتضجّر من النّهار، ولا سيّما إذا كثر عليه الواردون ـ مع أنّ كلامه معهم لا يخرج عن التّمجيد والتّحميد، والتّعريف والتّوحيد، والوعظ الّذي يلين له الحديد ـ فيحنّ إلى اللّيالي حنين الصبّ المشتاق إلى حبيبه القادم بعد طول الفراق؛ لما يجده من لذّة العبادة، وحلاوة التّلاوة، وعذوبة المناجاة الّتي أشار إلى مثلها ابن القيّم في (ص 331) من «إغاثة اللهفان».
ومع ذلك فقد كان يتململ لما يجد من تلك اللّذة خوفا أن ينقطع بها عن المقصود، أو تكون حظّه من العمل، وكان يحكي مثل ذلك عن أبيه. وأقول: أمّا خوف الانقطاع بها عن المقصود.. فممكن، وأمّا أن تكون حظّه من العمل.. فلا؛ لأنّها بعض ثمرته المعجّلة.
وكان آية في عزّة النّفس والصّدع بالحقّ والشّدّة فيه والغيرة عليه، إلى بسطة كفّ، وفرط رحمة، وسلامة صدر، وورع حاجز، واحتياط تامّ، وقناعة بما يجد من حرثه، وما يصل من الفتوح إليه من غير طمع ولا إشراف نفس، فعنده غفّة من العيش، جمع إليها شعبة وافرة من القناعة، مغتبط بعيشه، قانع برزقه، راض عن ربّه، ليس له حجاب، ولا يغلق عليه باب، وإنّما هو كما قال السّلاميّ [من الطّويل]:
«كماء الفرات الجمّ أعرض ورده *** لكلّ أناس فهو سهل الشّرائع »
وكان له في الوعظ لسان، ويأخذه فيه حال عظيم يشغله عن نفسه، وله قلم سيّال في المكاتبات والرّسائل العلميّة، جمع من ذلك الفاضل السّيّد سالم بن حفيظ ما دخل في ستّة مجلّدات.
ولكنّ لسانه أقوى بكثير من قلمه.
«يقول عارف مقدار الكلام له *** سبحان خالقه سبحان باريه »
وطيلة حياتي لم أسمع منه لغوا قطّ، وكان أعيان زمانه يعرفون منه ذلك، فيحاولون أن يتسقّطوه الكلام ويحتالون ليخوض معهم، فلا يقدرون على شيء، فلا أجد لهم وإيّاه مثلا إلّا الرّبيع بن خيثم؛ إذ خفّوا إليه يوم قتل الحسين ليستخرجوا منه كلاما، فأخبروه، فلم يزد على أن قال: أو قد فعلوها؟! قالوا: نعم.
فرفع يديه إلى السّماء وقال: (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
فما أشبه هذا بذاك. لا ينفذ إلى فعله التّعليل، ولا يحتاج شيء منه إلى التّأويل؛ إذ صار هواه تبعا لما جاء به نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء فيه موضع قول ابن كناسة في إبراهيم بن أدهم [من الطّويل]:
«أمات الهوى حتّى تجنّبه الهوى *** كما اجتنب الجاني الدّم الطّالب الدّما»
سروره في إقبال الخلق على الله، وحزنه في إعراضهم عنه، حتّى لقد كان سبب موته من هذا الباب.
وكان كثير الأخذ عن المشايخ، جمّ الحرص على الاستكثار من الأسانيد والاتّصال بسلاسل الرّجال وأئمّة الحديث والطّريق. وقد اجتمع له ولي بفضله ـ رضوان الله عليه ـ ما لا يوجد عند أحد من أهل عصره، ولله الحمد.
وكان في أيّام أستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر يتردّد عليه من أيّام والده عن أمره في كلّ ثلاث ماشيا، وبينهما نحو من أربعة أميال أو أكثر، ولقد أراد أخوه في الله الشّيخ عوض بن عمر شيبان السّابق ذكره في الغرفة أن يشتري له مركوبا، فأبى وقال: لو أحسست بتعب.. لقبلت. ولقد كاد أن يخرج عن إهابه من الطّرب؛ إذ تمثّلت له عند مثل هذا الكلام بقول العبّاس بن الأحنف [من البسيط]:
«أرى الطّريق قريبا حين أسلكه *** إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف »
وقول الآخر [كثيّر عزّة في «ديوانه» 109 من الطّويل]:
«وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها *** أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها »
«من الخفرات اللّاء ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها»
ثمّ ظفر هو بقول الآخر [من السّريع]:
«والله ما جئتكم زائرا *** إلّا رأيت الأرض تطوى لي »
«ولا انثنى عزمي عن بابكم *** إلّا تعثّرت بأذيالي »
فكان كثير التّغنّي بهما، وهو معنى واسع للشّعراء فيه مجال، ولم ينس المتنبّي حظّه من هذا المعنى، لكن من غير إجادة، حيث يقول [في «العكبريّ» 1 / 63 من الطّويل]:
«أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا *** وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا »
وكانت ترعد عنده فرائص الملوك؛ لما عندهم من احترام الحقّ وهيبة الدّين، ولما يرون عليه من عزّة الإيمان وشرف العلم، وصولة الحقّ، وسلطان الصّدق، وقوّة اليقين، فيأمرهم وينهاهم، ولا يؤمّلون أبدا في أن يقبل منهم شيئا؛ إذ كانت الشّبهات في عهده ـ فضلا عن الحرام ـ ظاهرة النّكارة، فاحشة الملامة، حتّى لقد كان مكّاس الدّولة الكثيريّة ـ المسمّى توفيقا ـ منبوذا مهانا، وكثيرا ما يمرّ بجانب مدرسة طه بن عمر فيرميه صبيانها بالحجارة، فلا يقدر على الدّفاع، ولو دافع.. للقي أكبر.
وله محاسن، وكان موته يوم الجمعة، فأشكل ذلك على والدي، فخفّ إلى الأستاذ الأبرّ فقال ـ قبل أن يبلع الرّيق ـ: أحوج النّاس إلى الجمعة: توفيق.
ثمّ صار أبناء السّادة اليوم يتسابقون إلى مثل وظيفته، ويتنافسون فيها، ويشمخون بأنوفهم؛ ظنّا أن قد رفعت من أقدارهم.
وعلى الجملة: فكلّ ساعاته ذكر أو تذكير، أو قراءة أو تدريس، أو صلاة يستشعر حاضرها ـ بما يغشاه من الطّمأنينة والخشية ـ نزول السّكينة، وشمول الرّحمة، وحضور الملائكة.
وما ألذّ ما تسمع آيات القرآن من لسانه في الصّلاة الجهريّة، بصوته الجهير، ونغمته الشّجيّة، غضّة طريّة، تكاد تنتزع القلوب من أماكنها، ويخيّل لهم أنّهم لم يسمعوها من قبل، وأنّها إنّما نزلت تلك السّاعة، حتّى ليحسب المقتدون بما يشملهم من اللّذّة ويغمرهم من الهيبة ويستولي عليهم من الخشوع أن قد انفصلوا عن عالم الحسّ، والتحقوا بعوالم القدس، بحيث لا يمكن لمسبوق أن يقرأ (الفاتحة) من خلفه.
«وأذكر أيّامي لديه فأنثني *** على كبدي من خشية أن تقطّعا »
وما أذكر صلاة أشفى للنّفس، وأجمع للقلب، وأبرد للخاطر وأنفى للهمّ، وأدنى إلى الإخلاص من صلواتي في الجهريّات خلفه، وخلف شيخنا الفاضل الشّيخ حسن بن عوض بن زين مخدّم، وصلواتي خلف الأستاذ الأبرّ جهريّة كانت أو سرّيّة؛ فإنّه يسري إلينا سرّ من إخلاصه، يلذّ لنا به التّطويل مطلقا.
وأذكر أنّ أوّل صلاة كانت لي بالمسجد الحرام لمّا حججنا في سنة (1322 ه) هي الصّبح خلف واحد من العلماء ـ يدعى فيما أتوهّم خوقير ـ قرأ في الأولى بالتّين فكاد القلب يخرج عن شغافه عند إشارته إلى البلد بقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ثمّ ما كفاه حتّى قرأ في الثّانية سورة ـ (قريش) فلا تسل عمّا داخلني عند إشارته إلى البيت ـ وما بيننا وبينه إلّا ثمانية أذرع أو أقلّ ـ بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فلو لا الاعتصام بالأجل.. لا لتحقت الرّوح بالباري عزّ وجلّ، ولكنّي:
«ضممت على قلبي يديّ مخافة *** وقد قرعته بالغطاة القوارع »
«وما ينفع القلب الّذي طاش لبّه *** لتلك المعاني أن تضمّ الأصابع »
وكثيرا ما شنّف سمعي، واستوكف دمعي، وامتلك لبّي، واستأسر قلبي ما سمعته من قراءة إمام الحرم بأوساط المفصّل في صلاة الصّبح سنة (1354 ه)، وتذكّرت صلاة والدي، إلّا أنّ تلك أخشع وقراءة إمام الحرم أجود وأسمع، فهو مقرىء غير مدافع، ولكنّ خطابته دون ما يليق بالمسجد الحرام الّذي يطلب بلاغة تتفرّى لها الأهب، وتكاد لها النّفوس تنتهب.
ثمّ إنّ والدي رحمه الله مع ما سبق كلّه لم يكن بالمتزمّت ولا بالمتنطّع ولا بالمنقبض، بل لا يفارق ثغره الابتسام في سرّاء ولا ضرّاء، وله في الدّعابة مذهب جميل، يخرجه عن طريق المرائين المتصنّعين، ويحلّيه بقول المتنبّي [في «العكبريّ» 2 / 287 من الطّويل]:
«تفكّره علم، وسيرته هدى *** وباطنه دين، وظاهره ظرف »
فله معنا ـ ولا سيّما عند الأكل، بل وفي مثاني الدّروس عند المناسبات ـ مفاكهات شهيّة، ومنادرات لذيذة، وتراه يصغي بسمعه وقلبه لما أنشده إيّاه من الأبيات الأدبيّة عند المقتضيات، ويطرب لذلك ويستعيده.
وقد سبق أنّه يشاركني أحيانا في اللّعب إيناسا لي، وضنّة بي عن مخالطة الأضداد، فلم تكن الهيبة الغالبة عليه هيبة تعاظم ولا ترفّع، كلّا والله، ثمّ كلّا والله، ولكن كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» 2 / 309 من البسيط]:
«يهاب فينا وما في لحظه شزر *** وسط النّديّ ولا في خدّه صعر »
وإن كان ليجرّني الرّسن فأناقشه المسائل وأجاذبه البحث فلا يزيده إلّا سرورا واغتباطا، على شرط أن أتوكّأ على الدّليل وأعتمد على النّصّ. ولقد جهدت أن أتعلّق له بهفوة أحتجّ بها عند ما يناقشني الحساب على المباحات، ويكلّفني الصّعب من المجاهدات فلم أستطع.
وقد سئل الحسن البصريّ عن عمرو بن عبيد، فقال: (لقد سألتني عن رجل كأنّ الملائكة أدّبته، وكأنّ الأنبياء ربّته، إن قام بأمر.. قعد به، وإن قعد بأمر.. قام به، وإن أمر بشيء.. كان ألزم النّاس له، وإن نهى عن شيء.. كان أبعد النّاس عنه، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه)، وكأنّما نظر في هذا بلحظ الغيب إلى والدي، فإنّه الوصف الّذي ينطبق عليه تماما، لا يأنف من حقّ، ولا يتقدّم إليه بباطل، فلهو والله من أحقّ النّاس بقول كثير [في «ديوانه» 145 من الطّويل]:
«ترى القوم يخفون التّبسّم عنده *** وينذرهم عور الكلام نذيرها »
«فلا هاجرات القول يؤثرن عنده *** ولا كلمات النّصح يقصى مشيرها»
وقول كعب بن سعد الغنويّ [من الطّويل]:
«إذا ما تراءاه الرّجال تحفّظوا *** فلم ينطقوا العوراء وهو قريب »
ولئن قال ابن عنقاء: (إذا قيلت العوراء.. أغضى) فإنّ هذا إذا قيلت: العوراء.. غضب، بل لا أذكر أنّ أحدا نطق في مجلسه بكلمة غيبة أو نحوها.
وكذلك كان يقول عنه الشّيخ الدّثنيّ، ويكثر التّعجّب من ذلك، وهو أشدّ وأقدم له لزاما منّي.
ومع هذا كلّه فما هو إلّا صورة مصغّرة من أحوال والده وأحوال سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، وكلّما استكثرنا أعماله.. قلّل منها بالنّسبة لأعمالهم، وأقسم أنّه غير هاضم لنفسه، ولكنّه مخبر بالواقع.
وعلى مثل حاله رأيت سيّدي شيخان بن محمّد الحبشيّ، على ضيق في عطفه، وخشونة في خلقه، وإلّا.. فقد كان هذا أوسع علما وأكثر عبادة، وأشدّ مجاهدة للنّفس، إلّا أنّ والدي كان أجود وأسمح، وأنصح وأفصح، وأرأف وأعطف، وأظرف وألطف.
وكان سيّدي عبد الله بن حسن البحر على قريب من تلك الحال، بل هو أندى بنانا، وأشجع جنانا، وأكثر ضيفانا، وأطول قياما وركوعا، وأغزر بكاء وخشوعا، إلّا أنّ والدي كان أكثر علما وأغزر فهما، وأبلغ لسانا، وأفصح بيانا، وأحلى لفظا وأنجع وعظا.
ولقد أشهدت منهما مشهدا عجيبا بمنزل سيّدي الفاضل محمّد ابن الأستاذ الأبرّ المسمّى: باوعيل في شرقيّ تريس سنة (1318 ه)، تذاكرا فيه أحوال الإمام البحر والأستاذ الأبرّ وشدّة خوفهما من الباري عزّ وجلّ، وفرط انكسارهما بين يديه، وجرى لهما مثل ما جرى لابن المنكدر وأبي حازم؛ فقد ذكر غير واحد أنّ ابن المنكدر صلّى وبكى، ففزع أهله حتّى استعانوا بأبي حازم.. فقال له: ما الّذي يبكيك حتّى رعت أهلك؟
قال: مرّ بي قوله تعالى: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فصعق أبو حازم واشتدّ بكاؤهما، فقال بعض أهل ابن المنكدر لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. فقريب من ذلك جرى لوالدي مع القانت الأوّاب البحر يومئذ، وكانا جاءا للترويح.. فعادا في مأتم.
وعلى الجملة: فقد كان كثير ممّن أدركناهم وأخذنا عنهم على غرارهم، وشريف آثارهم؛ كسادتي: عبد الله بن عمر بن سميط، المتوفّى بشبام سنة (1313 ه). وأحمد بن محمّد الكاف، المتوفّى بتريم سنة (1317 ه). وعبد الرّحمن بن حامد السّقّاف، المتوفّى بسيئون سنة (1316 ه). والشّيخ عمر عبود بلخير، المتوفّى بالغرفة في حدود سنة (1316 ه). وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، المتوفّى بتريم سنة (1320 ه).
والشّيخ أحمد بن عبد الله بن أبي بكر الخطيب، المتوفّى بتريم سنة (1331 ه). والشّيخ محمّد بن أحمد قعيطبان، المتوفّى بها سنة (1316 ه). والشيخ أحمد بن
عبد الله بن عمر الخطيب، المتوفّى بها سنة (1333 ه). والسّيّد عيدروس بن ع
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
4-معجم البلدان (زبيد)
زَبِيدٌ:بفتح أوّله، وكسر ثانيه ثمّ ياء مثناة من تحت:
اسم واد به مدينة يقال لها الحصيب ثمّ غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلّا به، وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيّام المأمون وبإزائها ساحل غلافقة وساحل المندب، وهو علم مرتجل لهذا الموضع، ينسب إليها جمع كثير من العلماء، منهم: أبو قرّة موسى بن طارق الزبيدي قاضيها، يروي عن الثوري وابن جريج وربيعة وغيرهم، روى عنه إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأثنى عليه خيرا، وجماعة سواه، وأبو حمّة محمد بن يوسف بن محمد ابن أسوار بن سيّار بن أسلم الزبيدي، كنيته أبو يوسف وأبو حمّة كاللقب له، حدث عن أبي قبّرة موسى بن طارق الزبيدي بكتاب السنن له، روى عنه المفضل بن محمد الجندي وموسى بن عيسى الزبيدي
ومحمد بن سعيد بن حجاج الزبيدي، وكان المأمون قد أتى بقوم من ولد زياد ابن أبيه وقوم من ولد هشام وفيهم رجل من بني تغلب يقال له محمد بن هارون فسألهم عن نسبهم فأخبروه وسأل التغلبي عن نسبه فقال: أنا محمد بن هارون، فبكى وقال: ما لي بمحمد بن هارون! ثمّ قال: أما التغلبي فيطلق كرامة لاسمه واسم أبيه وأمّا الأمويون والزياديون فيقتلون، فقال ابن زياد: ما أكذب الناس يا أمير المؤمنين! إنّهم يزعمون أنّك حليم كثير العفو متورّع عن الدماء بغير حقّ، فإن كنت تقتلنا عن ذنوبنا فإنّا والله لم نخرج أبدا عن طاعة ولم نفارق في تبعيد الجماعة، وإن كنت تقتلنا عن جنايات بني أميّة فيكم فالله تعالى يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 6: 164، قال: فاستحسن المأمون كلامه وعفا عنهم جميعا، وكانوا أكثر من مائة رجل، ثمّ أضافهم الحسن بن سهل، فلمّا بويع إبراهيم بن المهدي في سنة 202، ورد في كتاب عامل اليمن خروج الأعاشر بتهامة عن الطاعة، فأثنى الحسن بن سهل على الزيادي، وكان اسمه محمد بن زياد، وعلى المرواني والتغلبي عند المأمون وأنّهم من أعيان الرجال، فأشار إلى إرسالهم إلى اليمن فسيّر ابن زياد أميرا وابن هشام وزيرا والتغلبي قاضيا، فمن ولد محمد بن هارون التغلبي من قضاة زبيد بنو أبي عقامة، ولم يزالوا يتوارثون ذلك حتى أزالهم ابن مهدي حين أزال دولة الحبشة وحجّ الزيادي سنة ثلاث ومائتين ومضى إلى اليمن وفتح تهامة واختط زبيد في سنة 204.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
5-معجم البلدان (السوس)
السُّوسُ:بضم أوّله، وسكون ثانيه، وسين مهملة أخرى، بلفظ السوس الذي يقع في الصوف: بلدة بخوزستان فيها قبر دانيال النبيّ، عليه السلام، قال حمزة: السوس تعريب الشوش، بنقط الشين، ومعناه الحسن والنزه والطيب واللطيف، بأيّ هذه الصفات وسمتها به جاز، قال بطليموس: مدينة السوس طولها أربع وثلاثون درجة، وطالعها القلب، بيت حياتها أوّل درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، عاقبتها مثلها من الميزان، قلت: لا أدري أيّ سوس هي، وقال ابن المقفّع: أوّل سور وضع في الأرض بعد الطوفان سور السوس وتستر ولا يدرى من بنى
سور السوس وتستر والأبلّة، وقال ابن الكلبي:
السوس بن سام بن نوح، عليه السلام، وقرأت في بعض كتبهم أن أوّل من بنى كور السوس وحفر نهرها أردشير بن بهمن القديم بن إسفنديار بن كشتاسف.
والسوس أيضا: بلد بالمغرب كانت الروم تسميها قمونية، وقيل: السوس بالمغرب كورة مدينتها طنجة، وهناك السوس الأقصى: كورة أخرى مدينتها طرقلة، ومن السوس الأدنى إلى السوس الأقصى مسيرة شهرين وبعده بحر الرمل وليس وراء ذلك شيء يعرف. والسوس أيضا: بلدة بما وراء النهر، وبالمغرب السوس أيضا، تذكر بعد هذا، وقال ابن طاهر المقدسي: السوس هو الأدنى ولا يقال له سوس، وفتحت الأهواز في أيّام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، على يد أبي موسى الأشعري وكان آخر ما فتح منها السوس فوجد بها موضعا فيه جثة دانيال النبيّ، عليه السلام، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فسأل المسلمين عن ذلك فأخبروه أن بخت نصّر نقله إليها لما فتح بيت المقدس وأنّه مات هناك فكان أهل تلك البلاد يستسقون بجثته إذا قحطوا، فأمر عمر، رضي الله عنه، بدفنه فسكر نهرا ثمّ حفر تحته ودفنه فيه وأجرى الماء عليه فلا يدرى أين قبره إلى الآن، وقال ابن طاهر المقدسي: السوس بلدة من بلاد خوزستان، خرج منها جماعة من المحدثين، منهم:
أبو العلاء عليّ بن عبد الرحمن الخراز السوسي اللغوي، سمع أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، روى عنه أبو نصر السجزي الحافظ، وأحمد بن يحيى السوسي، سمع الأسود بن عامر، وروى عنه أبو بكر بن أبي داود، ومحمد بن عبد الله بن غيلان الخراز يعرف بالسوسي، سمع سوّار بن عبد الله، روى عنه الدارقطني، ومحمد بن إسحاق بن عبد الرحيم أبو بكر السوسي، روى عن الحسين بن إسحاق الدقيقي وأبي سيار أحمد بن حمّوية التستري وعبد الله بن محمد بن نصر الرملي، روى عنه الدارقطني وابن رزقويه وغيرهما.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
6-معجم البلدان (طبرستان)
طَبَرِستانُ:بفتح أوله وثانيه، وكسر الراء، قد ذكرنا معنى الطبر قبله، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه يقول: ناحية الطبر، وسنذكر سبب تسمية هذا الموضع بذلك، والنسبة إلى هذا الموضع الطّبري، قال البحتري:
«وأقيمت به القيامة في ق *** مّ على خالع وعات عنيد»
«وثنى معلما إلى طبرستا *** ن بخيل يرحن تحت اللّبود»
وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، خرج من نواحيها من لا يحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعيان بلدانها دهستان وجرجان واستراباذ وآمل، وهي قصبتها، وسارية، وهي مثلها، وشالوس، وهي مقاربة لها، وربما عدّت جرجان من خراسان إلى غير ذلك من البلدان، وطبرستان في البلاد المعروفة بمازندران، ولا أدري متى سميت بمازندران فانه اسم لم نجده في الكتب القديمة وإنما يسمع من أفواه أهل تلك البلاد ولا شكّ أنهما واحد، وهذه البلاد مجاورة لجيلان وديلمان، وهي بين الرّي وقومس والبحر وبلاد الديلم والجيل، رأيت أطرافها وعاينت جبالها، وهي كثيرة المياه متهدّلة الأشجار كثيرة الفواكه إلا أنها مخيفة وخمة قليلة الارتفاع كثيرة الاختلاف والنّزاع، وأنا أذكر ما قال العلماء في هذا القطر وأذكر فتوحه واشتقاقه ولا بدّ من احتمالك لفصل فيه تطويل بالفائدة الباردة، فهذا من عندنا مما استفدناه بالمشاهدة والمشافهة، وخذ الآن ما قالوه في كتبهم: زعم أهل العلم بهذا الشأن أن الطّيلسان والطالقان وخراسان ما عدا خوارزم من ولد اشبق بن إبراهيم الخليل والديلم بنو كماشج بن يافث بن نوح، عليه السلام، وأكثرهم سميت جبالهم بأسمائهم إلا الإيلام قبيل من الديلم فإنهم ولد باسل بن ضبّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، كما نذكره إن شاء الله في كتاب النسب، وموقان وجبالها وهم أهل طبرستان من ولد كماشج بن يافث بن نوح، عليه السّلام، وفيما روى ثقات الفرس قالوا: اجتمع في جيوش بعض الأكاسرة خلق كثير من الجناة وجب عليهم القتل فتحرّج منه وشاور وزراءه وسألهم عن عدّتهم فأخبروه بخلق كثير فقال: اطلبوا لي موضعا أحبسهم فيه، فساروا إلى بلاده يطلبون موضعا خاليا حتى وقعوا بجبال طبرستان فأخبروه بذلك فأمر بحملهم إليه وحبسهم فيه، وهو يومئذ جبل لا ساكن فيه، ثم سأل عنهم بعد حول فأرسلوا من يخبر بخبرهم فأشرفوا عليهم فإذا هم أحياء لكن بالسوء، فقيل لهم: ما تشتهون؟ وكان الجبل أشبا كثير الأشجار، فقالوا: طبرها طبرها، والهاء فيه بمعنى الجمع في جميع كلام الفرس، يعنون نريد أطبارا نقطع بها
الشجر ونتخذها بيوتا، فلما أخبر كسرى بذلك أمر أن يعطوا ما طلبوا فحمل إليهم ذلك، ثم أمهلهم حولا آخر وأنفذ من يتفقدهم فوجدهم قد اتخذوا بيوتا فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: زنان زنان، أي نريد نساء، فأخبر الملك بذلك فأمر بحمل من في حبوسه من النساء أن يحملن إل
«إذا الريح فيها جرّت الريح أعجلت *** فواختها في الغصن أن تترنّما»
«فكم طيّرت في الجوّ وردا مدنّرا *** تقلّبه فيه ووردا مدرهما»
«وأشجار تفّاح كأنّ ثمارها *** عوارض أبكار يضاحكن مغرما»
«فإن عقدتها الشمس فيها حسبتها *** خدودا على القضبان فذّا وتوأما»
«ترى خطباء الطير فوق غصونها *** تبثّ على العشّاق وجدا معتّما»
وقد كان في القديم أول طبرستان آمل ثم مامطير، وبينها وبين آمل ستة فراسخ، ثم ويمة، وهي من مامطير على ستة فراسخ، ثم سارية ثم طميس، وهي من سارية على ستة عشر فرسخا، هذا آخر حدّ طبرستان وجرجان، ومن ناحية الديم على خمسة فراسخ من آمل مدينة يقال لها ناتل ثم شالوس، وهي ثغر الجبل، هذه مدن السهل، وأما مدن الجبل فمنها مدينة يقال لها الكلار ثم تليها مدينة صغيرة يقال لها سعيدآباذ ثم الرويان، وهي أكبر مدن الجبل، ثم في الجبل من ناحية حدود خراسان مدينة يقال لها تمار وشرّز ودهستان، فإذا جزت الأرز وقعت في جبال ونداد هرمز، فإذا جزت هذه الجبال وقعت في جبال شروين، وهي مملكة ابن قارن، ثم الديلم وجيلان، وقال البلاذري: كور طبرستان ثمان: كورة سارية وبها منزل العامل وإنما صارت منزل العامل في أيام الطاهرية وقبل ذلك كان منزل العامل بآمل، وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد دار مقامهما، ومن رساتيق آمل أرم خاست الأعلى وأرم خاست الأسفل والمهروان والأصبهبذ ونامية وطميس، وبين سارية وسلينة على طريق الجبال ثلاثون فرسخا، وبين سارية والمهروان عشرة فراسخ، وبين سارية والبحر ثلاثة فراسخ، وبين جيلان والرويان اثنا عشر فرسخا، وبين آمل وشالوس وهي إلى ناحية الجبال عشرون فرسخا، وطول طبرستان من جرجان إلى الرويان ستة وثلاثون فرسخا، وعرضها عشرون فرسخا، في يد الشكري من ذلك ستة وثلاثون فرسخا في عرض أربعة فراسخ والباقي في أيدي الحروب من الجبال والسفوح، وهو طول ستة وثلاثين فرسخا في عرض ستة عشر فرسخا والعرض من الجبل إلى البحر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
7-موسوعة الفقه الكويتية (طاعون)
طَاعُونٌالتَّعْرِيفُ
1- قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: الطَّاعُونُ لُغَةً: الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ فَتَفْسُدُ لَهُ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ.
وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الطَّاعُونُ دَاءٌ وَرَمِيٌّ وَبَائِيٌّ سَبَبُهُ مَكْرُوبٌ يُصِيبُ الْفِئْرَانَ، وَتَنْقُلُهُ الْبَرَاغِيثُ إِلَى فِئْرَانٍ أُخْرَى وَإِلَى الْإِنْسَانِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ النَّوَوِيُّ: الطَّاعُونُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَسَدِ فَتَكُونُ فِي الْآبَاطِ أَوِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَكُونُ مَعَهُ وَرَمٌ وَأَلَمٌ شَدِيدٌ، وَتَخْرُجُ تِلْكَ الْقُرُوحُ مَعَ لَهِيبٍ وَيَسْوَدُّ مَا حَوَالَيْهِ أَوْ يَخْضَرُّ أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانُ الْقَلْبِ وَالْقَيْءُ وَفِي أَثَرٍ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ يَخْرُجُ فِي الْمُرَاقِ وَالْإِبِطِ».
قَالَ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ- هَذِهِ الْقُرُوحُ وَالْأَوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ، هِيَ آثَارُ الطَّاعُونِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَهُ وَلَكِنِ الْأَطِبَّاءُ لَمَّا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إِلاَّ الْأَثَرَ الظَّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطَّاعُونِ.
وَالطَّاعُونُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْأَثَرُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ.
وَالثَّانِي: الْمَوْتُ الْحَادِثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
وَالثَّالِثُ: السَّبَبُ الْفَاعِلُ لِهَذَا الدَّاءِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ».وَوَرَدَ فِيهِ «أَنَّهُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» وَجَاءَ «أَنَّهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ».
الْقُنُوتُ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ:
2- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ اسْتِحْبَابَ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَشَدِّ النَّوَازِلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ لِرَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَلَمْ يَقْنُتُوا لَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مِنْ أَجْلِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً لِغَيْرِهِمْ.
وَفِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُقْنَتُ فِيهَا لِلنَّوَازِلِ وَفِي الْإِسْرَارِ أَوِ الْجَهْرِ بِهِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قُنُوت).
الْقُدُومُ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ:
3- يَرَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَنْعَ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَمَنْعَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ- رضي الله عنهما- أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا».
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ».
4- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَفِي الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ عِدَّةُ حِكَمٍ:
إِحْدَاهَا: تَجَنُّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْبُعْدُ مِنْهَا.
الثَّانِيَةُ: الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الَّذِي قَدْ عَفَنَ وَفَسَدَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يُجَاوِرُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَاوِرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ.
الْخَامِسَةُ: حَمَايَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعَدْوَى؛ فَإِنَّهَا تَتَأَثَّرُ بِهِمَا، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ بِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ وَالْحَمِيَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِ التَّلَفِ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، فَالْأَوَّلُ: تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالثَّانِي تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَبُو عَبِيدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ- رضي الله عنه- وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، فَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ هَاهذُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، قَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقَدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَأَذَّنَ عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهَا خِصْبَةٌ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَسْتَ إِنْ رَعَيْتَهَا الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ رَعَيْتَهَا الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ».
5- وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ حِكَمًا: مِنْهَا: أَنَّ الطَّاعُونَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَامًّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ فَإِذَا وَقَعَ فَالظَّاهِرُ مُدَاخَلَةُ سَبَبِهِ لِمَنْ بِهَا، فَلَا يُفِيدُهُ الْفِرَارُ، لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ- حَتَّى لَا يَقَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا- كَانَ الْفِرَارُ عَبَثًا فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَوَارَدُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَصَارَ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ- بِالْمَرَضِ الْمَذْكُورِ أَوْ بِغَيْرِهِ- ضَائِعَ الْمَصْلَحَةِ لِفَقْدِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا.وَأَيْضًا فَلَوْ شُرِعَ الْخُرُوجُ فَخَرَجَ الْأَقْوِيَاءُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ كَسْرُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ حِكْمَةَ الْوَعِيدِ فِي الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ مَنْ لَمْ يَفِرَّ وَإِدْخَالُ الرُّعْبِ عَلَيْهِ بِخِذْلَانِهِ.
وَمِنْهَا: حَمْلُ النُّفُوسِ عَلَى الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَالرِّضَا بِهَا.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ) وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغَ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ فَقَالَ مُعَاذٌ: بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَيَتَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ، لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ، لِئَلاَّ يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ، وَسَلَامَةُ الْفَارِّ إِنَّمَا كَانَتْ بِفِرَارِهِ، وَقَالُوا: وَهُوَ مِنْ نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَجْذُومِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ، أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ: فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ: أَقَمْتُ فَمُتُّ، وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا».
هَذَا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِشُغْلٍ وَغَرَضٍ غَيْرِ الْفِرَارِ، وَدَلِيلُهُ صَرِيحُ الْأَحَادِيثِ.
أَجْرُ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ:
6- جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رَفْعَهُ «يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفُّونَ بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ الشُّهَدَاءُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ».
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ».وَيُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُصُولَ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَلِي:
أ- أَنْ يَمْكُثَ صَابِرًا غَيْرَ مُنْزَعِجٍ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّاعُونُ فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ.
ب- أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.
فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِقٌ أَوْ نَادِمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَعُ بِهِ، فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشَّهِيدِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعِ الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ، لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ.
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (نسب 2)
نَسَبٌ -225- وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمَيِّتِ؟ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ.وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى.
وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ.
وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ، لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إِقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ، وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إِثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ، فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ
26- وَالْمَالِكِيَّةُ يُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ بِالِاسْتِلْحَاقِ فَقَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِابْنٍ جَازَ إِقْرَارُهُ وَلَحِقَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، أَنْكَرَ الِابْنُ أَوْ أَقَرَّ.وَإِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبَ مَجْهُولُ النَّسَبِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: مَنِ ادَّعَى وَلَدًا لَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ فِيهِ لَحِقَ بِهِ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ أَوِ الْحِسُّ أَوِ الْعَادَةُ أَوِ الشَّرْعُ صَغِيرًا كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ أَوْ كَبِيرًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ نَفَى وَلَدًا بِلِعَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي مِيرَاثِهِ وَيُحَدُّ وَلَا يَرِثُهُ.
27- وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَيِّتًا وَرِثَ الْمُسْتَلْحِقُ- بِالْكَسْرِ- الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- إِنْ وَرِثَهُ أَيِ الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- ابْنٌ، قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي إِرْثِهِ مِنْهُ.وَأَمَّا نَسَبُهُ فَلَاحِقٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ابْنٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.وَإِنِ اسْتَلْحَقَ شَخْصٌ شَخْصًا وَارِثًا غَيْرَ وَلَدٍ لِمُسْتَلْحِقِهِ- بِالْكَسْرِ- كَأَخٍ وَعَمٍّ وَأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ لَهُ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْتَلْحَقُ- بِالْفَتْحِ- الْمُسْتَلْحِقَ- بِالْكَسْرِ- إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ لِلْمُسْتَلْحِقِ- بِالْكَسْرِ-، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ فَفِي إِرْثِهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا إِرْثَ بِإِقْرَارٍ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْإِرْثُ بِالْإِقْرَارِ، وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.
وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي إِرْثِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّولِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْثِ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ، إِنْ قَالَ: هَذَا أَخِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو نَسَبٍ ثَابِتٍ يَرِثُهُ فَقِيلَ: الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ: الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ.
وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَخِي، أَوْ يَقُولُ: هَذَا عَمِّي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: ابْنُ أَخِي، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنُونَ وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي بُطْلَانَ ذَلِكَ لَكَانَ حَوْزًا.
وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلَانِ مِنْ وَرَثَةِ مَيِّتٍ- كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ- بِثَالِثٍ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ غَيْرُ عَدْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ بِهِ مَعَهُ أَيِ الْعَدْلُ الْمُقِرُّ، وَيَرِثُ الْمَيِّتُ مَعَ الْمُقِرِّ، وَالْحَالُ لَا نَسَبَ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ وَحَلِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَحِصَّةُ الشَّخْصِ الْمُقِرِّ بِوَارِثٍ كَالْمَالِ الْمَتْرُوكِ أَيْ كَأَنَّهَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ النِّصْفُ فَيُقَدَّرُ أَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَيُقْسَمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَيَنُوبُ الْمُقَرُّ بِهِ ثُلُثَهُ فَيَأْخُذُهُ وَثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ عَاصِبِي مَيِّتٍ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ: هَذَا أَخِي وَأَنْكَرَهُ أَخُوهُ ثُمَّ أَضْرَبَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لِهَذَا الثَّالِثِ وَقَالَ لِشَخْصٍ آخَرَ رَابِعٍ: بَلْ هَذَا أَخِي، فَلِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ نِصْفُ إِرْثِ أَبِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ، وَإِضْرَابُهُ عَنْهُ لَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَدَمًا، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ
28- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مُكَلَّفٌ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمُقِرِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كَمَا نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ.
وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا وَرِثَهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ الْحَيَاةِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنَ الْمُقِرِّ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا فَاعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ، وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي نَسَبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضِيَّةُ اعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ.
وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ الْعَاقِلُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا ثَبَتَ إِرْثُهُ وَنَسَبُهُ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَشْبَهَ الصَّغِيرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ يَرِثُ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحِقُ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى التُّهْمَةِ.
وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ مُكَلَّفٍ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُقِرُّ ثُمَّ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ بِتَصْدِيقِهِ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّوَارُثِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا.
وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا أَثْبَتَ نَسَبَهُ فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ لَمْ يَبْطُلْ نَسَبُهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْإِنْكَارِ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا لَهُ وَأَنْكَرَ.
وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَأَنْكَرَ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِمَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ 29- وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَهُ أُمٌّ فَجَاءَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَكَذَا لَوِ ادَّعَتْ أُخْتُهُ الْبُنُوَّةَ، ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهُ بِحَقِّهَا
30- وَإِنْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ، فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مَعَ إِمْكَانِهِ وَلَا مُنَازِعَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْبَتِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلرَّجُلِ قُدُومٌ إِلَيْهَا وَلَا عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا
31- وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِ الْأَخِ أَوِ الْعَمِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَالْمُقِرُّ هُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مُورِثِهِ فِي حُقُوقِهِ وَهَذَا مِنْهَا
وَلَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ نَفَاهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ نَفْيِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ نَفَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ فِي إِلْحَاقِ مَنْ نَفَاهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلْحَاقَ عَارٍ بِنَسَبِهِ
32- وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ وَارِثًا حَائِزًا لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، كَابْنَيْنِ أَقَرَّا بِثَالِثٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ مَعَهُمَا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَرِثُ بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ فِي الْأَصَحِّ بِثُلُثِهِ، وَقِيلَ: بِنِصْفِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ، بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ خَطِيرٌ لَا يُجَاوِزُ فِيهِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إِلاَّ الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ.
وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يَثْبُتُ نَظَرًا إِلَى إِنْكَارِ الْمُورِثِ الْأَصْلَ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُهُ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ الْإِنْكَارُ فَيَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى نَسَبِهِ، وَالثَّالِثُ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحِقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلِابْنِ وَلَا إِرْثَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ الْإِرْثُ، وَلَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ فَيَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَنْتَفِي نَسَبُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ.
وَالثَّالِثُ: يَثْبُتَانِ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَخُ بِالْحَجْبِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِلتَّرِكَةِ لَوْلَا إِقْرَارُهُ
33- وَإِنْ أَقَرَّ بِأَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ مَوْلًى أَعْتَقَهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِهِ وَارِثًا مَعْرُوفًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: خُلُوُّهُ مِنْ مُسْقِطٍ، إِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْمُقِرِّ بِأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ فِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهُ كَإِقْرَارِ الْإِنْسَانِ بِمَنْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ.
وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدْفَعَ بِإِقْرَارِهِ نَسَبًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ دَفَعَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مَيِّتًا، إِلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُمَا لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَبِرَا وَعَقَلَا وَأَنْكَرَا النَّسَبَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُمَا لِأَنَّهُ نَسَبٌ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ طَلَبَا إِحْلَافَ الْمُقِرِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.
وَيَكْفِي فِي تَصْدِيقِ وَالِدٍ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ كَتَصْدِيقِ وَلَدٍ بِوَالِدِهِ، سُكُوتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِي ذَلِكَ ظَنُّ التَّصْدِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا أَيِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ تَكْرَارُ التَّصْدِيقِ، فَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِنَسَبِهِمَا بِدُونِ تَكْرَارِ التَّصْدِيقِ وَمَعَ السُّكُوتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَفَارِقُ السُّكُوتِ فِي الْأَمْوَالِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي النَّسَبِ.نَعَمْ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ التَّصْدِيقِ ثَبَتَ النَّسَبُ
34- وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ مَنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمُ: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْمَوْلَى، وَكَجَدٍّ يُقِرُّ بِابْنِ ابْنِهِ وَعَكْسِهِ، وَكَأَخٍ يُقِرُّ بِأَخٍ، وَالْعَمِّ يُقِرُّ بِابْنِ أَخٍ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى غَيْرِهِ نَسَبًا فَلَمْ يُقْبَلْ، إِلاَّ وَرَثَةً أَقَرُّوا لِمَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُورِثُهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَيَصِحُّ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ.
وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ وَحْدَهُ وَارِثٌ لِلْمُنْكِرِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْهُمَا لِانْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمٍّ وَعَنِ الْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَرِثَهُ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ دُونَ بَنِي الْعَمِّ، لِأَنَّ الْأَخَ يَحْجُبُهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ لَحِقَهَا لِإِقْرَارِهَا دُونَ زَوْجِهَا لِعَدَمِ إِقْرَارِهِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِامْرَأَتِهِ
ثُبُوتُ نَسَبِ الشَّخْصِ بِإِقْرَارِهِ:
35- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَسَبُ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا إِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسَمَّى فِيهِ لَا عَلَى عَيْنِهِ، فَاعْتَرَفَ الْمُحْضَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ أَوْ أَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ تَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْأَلُ عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ رُجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ لَا فِيمَا لَهُ.
إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ:
36- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ السَّفِيهُ بِنَسَبٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَأُخِذَ بِهِ فِي الْحَالِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ. وَيُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
37- الْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ بِالْبُنُوَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ بِلَا مُقْتَضٍ وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِقْرَار ف 67).
نَسَبُ اللَّقِيطِ:
38- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِلْحَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 11- 14).
ز- الْقُرْعَةُ:
39- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة ف 19).
ح- السَّمَاعُ:
40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ لِلضَّرُورَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمْكُنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ: الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمِيَّةُ.فَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تُشْتَهَرَ وَتُسْمَعَ مِنْ قَوْمٍ كَثِيرٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِي
هَذِهِ الْعَدَالَةُ، وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ بَلْ يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ.
وَالْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، هَذَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ وَعَرَفَا حَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَوْا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَسَبِهِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: وَلَا يَشْهَدُ أَحَدٌ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِالْإِجْمَالِ إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْهَا النَّسَبُ، فَلَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ يَثِقُ الشَّاهِدُ بِهِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.
41- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَائِزَةٌ فِي النَّسَبِ الْمَشْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبٌ، إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُشْتَهَرًا مِثْلَ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ.
42- وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِفَاضَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَغَايَةُ الْمُمْكِنِ رُؤْيَةُ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفِرَاشِ، لَكِنَّ النَّسَبَ إِلَى الْأَجْدَادِ الْمُتَوَفَّيْنَ وَالْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اعْتِمَادِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَوْ مِنَ الْأُمِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ- وَهُوَ الِاسْتِفَاضَةُ- النَّسَبُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ- إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا- بِنْتُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الْأُمِّ بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: قَطْعًا كَالْأَبِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكْرَارُ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قَالَ كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا، بَلْ لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ وَحَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ.
وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَلاَّ يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا.وَلَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ، هَلْ يُمْنَعُ جَوَازُ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَافِ الظَّنِّ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلَانِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ.
وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ.فَعَلَى الْأُولَى يَنْبَغِي أَلاَّ يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ.
وَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا لآِخَرَ: هَذَا ابْنِي وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ أَوْ قَالَ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا وَسَكَتَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلاَّ إِذَا تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الْإِقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ.
43- وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ كَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَلاَّ يَشْهَدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَيَسْمَعَهُ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، يَقُولُ الْخِرَقِيُّ: فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ، يَعْنِي حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَسْمَعَ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إِلَى خَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى فِيهِ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَإِذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ، وَإِنْ سَمِعَ الصَّبِيَّ يَقُولُ: هَذَا أَبِي، وَالرَّجُلُ يَسْمَعُهُ فَسَكَتَ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَبِ إِقْرَارٌ لَهُ، وَالْإِقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ السُّكُوتُ هَهُنَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ جَائِزٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوِي، وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الْإِثْبَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فِي النِّكَاحِ؟ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَلاَّ يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اعْتُبِرَتْ تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالِاسْتِمْرَارِ.
ط- حُكْمُ الْقَاضِي:
44- يُعَدُّ حُكْمُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ سُحْنُونٍ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَجْلِسُ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي اعْتِبَارِهِ مُسْتَنَدًا، فَإِذَا حَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَكَانَ الْحُكْمُ طَرِيقَ الثُّبُوتِ.
وَفِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ يَكْثُرُ التَّنْبِيهُ فِي نَوَازِلِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْإِرْثِ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُمْضَى، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِظْهَارُ بِحُكْمِ قَاضٍ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدٍ غَيْرِهِ مَذْكُورٍ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحَاكِمِ لَمْ يَسَعِ الْقَاضِي- الْمُسْتَظْهَرُ لَدَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ- إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي فُلَانٍ.
قَالَ الْجَزِيرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْصَرَمَتِ الْآجَالُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ التَّعْجِيزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُدْعَى فِيهِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: الدِّمَاءَ، وَالْأَحْبَاسَ، وَالْعِتْقَ، وَالطَّلَاقَ، وَالنَّسَبَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ.
وَضَابِطُهُ كُلُّ حَقٍّ لَيْسَ لِمُدَّعِيهِ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَمِنْهَا دَعْوَى نَسَبٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَعْدَ التَّلَوُّمِ، فَلَا يُعَجَّزُ، فَمَتَى أَقَامَهَا
حُكِمَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَفَصَّلَ الدُّسُوقِيُّ فَقَالَ: فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ طَالِبَ إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ أَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، وَطَلَبَ الْإِمْهَالَ لَهَا وَأُنْظِرَ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنْ عَجَّزَهُ كَانَ حُكْمُهُ بِالتَّعْجِيزِ غَيْرَ مَاضٍ، فَإِذَا قَالَ مُدَّعِي النَّسَبِ: لِي بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَأُمْهِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا فَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا يَحْكُمُ بِتَعْجِيزِ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَكَمَ بِعَجْزِهِ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ مَاضٍ، وَأَمَّا طَالِبُ نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ بِتَعْجِيزِهِ فِي النَّسَبِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عِنْدِي بَيِّنَةٌ تَجْرَحُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، فَإِذَا أُمْهِلَ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ حَكَمَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَعْجِيزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَّزَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْجِيزِيُّ وَارْتَضَاهُ الْبُنَانِيُّ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْمُدَّعِي فِي النَّسَبِ لَيْسَ لِلْقَاضِي تَعْجِيزُهُ أَصْلًا فِيهَا.
وَحُكْمُ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ يَنْفُذُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا النَّسَبُ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ: مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي النَّازِلَةِ الْمَقْضِيِّ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ مِنَ الْقَاضِي، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ مَنْ ثَبَتَتْ غَيْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا وَقْتَ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ عَنِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْقَاضِي.
ي- ثُبُوتُ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ:
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّسَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، وَحَقُّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُنَصِّبِ الْقَاضِي خَصْمًا عَنِ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ:
46- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي نَسَبٍ لِأَبٍ؛ لِخَطَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ بِهَا وَهُوَ الْآدَمِيُّ، لَكِنَّهُ إِنْ حَكَمَ فِي نَسَبٍ مَضَى حُكْمُهُ إِنْ كَانَ صَوَابًا، فَلَا يَنْقُضُهُ الْإِمَامُ وَلَا الْقَاضِي قَالَ أَصْبَغُ: وَلَا يَنْبَغِي التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ لِلْإِمَامِ، زَادَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَصْبَغَ: فَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ.
التَّحْلِيفُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ:
47- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ فِي نَسَبٍ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَبِالْعَكْسِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقِيلَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-لسان العرب (عدس)
عدس: العَدْسُ، بِسُكُونِ الدَّالِ: شِدَّةُ الْوَطْءِ عَلَى الأَرض والكَدْح أَيضًا.وعَدَس الرجلُ يَعْدِسُ عَدْسًا وعَدَسانًا وعُدُوسًا وعَدَسَ وحَدَسَ يَحْدِسُ: ذَهَبَ فِي الأَرض؛ يُقَالُ: عَدَسَتْ بِهِ المَنِيَّةُ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
أُكَلِّفُها هَوْلَ الظلامِ، وَلَمْ أَزَلْ ***أَخا اللَّيلِ مَعْدُوسًا إِليَّ وعادِسا
أَي يَسَارٌ إِليَّ بِاللَّيْلِ.
وَرَجُلٌ عَدُوسُ اللَّيْلِ: قَوِيٌّ عَلَى السُّرَى، وَكَذَلِكَ الأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ، يَكُونُ فِي النَّاسِ والإِبل؛ وَقَوْلُ جَرِيرٌ:
لقَدْ وَلدَتْ غَسَّانَ ثالِثَةُ الشَّوى، ***عَدُوسُ السُّرى، لَا يَقْبَلُ الكَرْمَ جِيدُها
يَعْنِي بِهِ ضَبُعًا.
وَثَالِثَةُ الشَّوَى: يَعْنِي أَنها عَرْجَاءُ فكأَنها عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، كأَنه قَالَ: مَثْلُوثَة الشَّوَى، وَمَنْ رَوَاهُ ثالِبَة الشَّوَى أَراد أَنها تأْكل شَوَى القَتْلى مِنَ الثَّلْبِ، وَهُوَ الْعَيْبُ، وَهُوَ أَيضًا فِي مَعْنَى مَثْلُوبَةٍ.
والعَدَسُ: مِنَ الحُبوب، وَاحِدَتُهُ عَدَسَة، وَيُقَالُ لَهُ العَلَسُ والعَدَسُ والبُلُسُ.
والعَدَسَةُ: بَثْرَةٌ قَاتِلَةٌ تَخْرُجُ كَالطَّاعُونِ وَقَلَّمَا يُسْلَمُ مِنْهَا، وَقَدْ عُدِسَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي رَافِعٍ: «أَن أَبا لَهَبٍ رَمَاهُ اللَّه بالعَدَسَةِ»؛ هِيَ بَثْرَةٌ تُشْبِهُ العَدَسَة تَخْرُجُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْجَسَدِ مِنْ جِنْسِ الطَّاعُونِ تَقْتُلُ صَاحِبَهَا غَالِبًا.
وعَدَسْ وحَدَسْ: زَجْرٌ لِلْبِغَالِ، والعامَّة تَقُولُ: عَدْ؛ قَالَ بَيْهَس بنُ صُرَيمٍ الجَرْمِيُّ:
أَلا لَيْتَ شِعْري، هَلْ أَقُولَنْ لِبَغْلَتي: ***عَدَسْ بَعْدَ ما طالَ السِّفارُ وكَلَّتِ؟
وأَعربه الشَّاعِرُ لِلضَّرُورَةِ فَقَالَ وَهُوَ بِشْرُ بنُ سُفْيَانَ الرَّاسِبيُّ:
فاللَّهُ بَيْني وبَيْنَ كلِّ أَخٍ ***يَقولُ: أَجْذِمْ، وقائِلٍ: عَدَسا
أجذم: زَجْرٌ لِلْفَرَسِ، وعَدَس: اسْمٌ مِنْ أَسماء الْبِغَالِ؛ قَالَ:
إِذا حَمَلْتُ بِزَّتي عَلَى عَدَسْ، ***عَلَى الَّتِي بَيْنَ الحِمارِ والفَرَسْ،
فَلَا أُبالي مَنْ غَزا أَو مَنْ جَلَسْ "وَقِيلَ: سَمَّتِ الْعَرَبُ الْبَغْلَ عَدَسًا بالزَّجْرِ وسَببهِ لَا أَنه اسْمٌ لَهُ، وأَصلُ عَدَسْ فِي الزَّجْرِ فَلَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ وَفَهِمَ أَنه زَجْرٌ لَهُ سُمِّيَ بِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْحِمَارِ: سَأْسَأْ، وَهُوَ زَجْرٌ لَهُ فَسُمِّيَ بِهِ؛ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
وَلَوْ تَرى إِذ جُبَّتي مِنْ طاقِ، ***ولِمَّتي مِثلُ جَناحِ غاقِ،
تَخْفِقُ عندَ المَشْيِ والسِّباقِ "وَقِيلَ: عَدَسْ أَو حَدَسْ رَجُلٌ كَانَ يَعْنُف عَلَى البغالِ فِي أَيام سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ إِذا قِيلَ لَهَا حَدَسْ أَو عَدَس انْزَعَجَتْ، وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ.
وَرَوَى الأَزهري عَنِ ابْنِ أَرقم حَدَسْ مَوْضِعَ عَدَسْ قَالَ: وَكَانَ الْبَغْلُ إِذا سَمِعَ بَاسِمِ حَدَسْ طَارَ فَرَقًا فَلَهِجَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ عَدَسْ؛ قَالَ: وَقَالَ يَزيدُ بنُ مُفَزِّغٍ فَجَعَلَ الْبَغْلَةَ نَفْسَهَا عَدَسًا فَقَالَ:
عَدَسْ، مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمارَةٌ، ***نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلينَ طَلِيقُ
فإِنْ تَطْرُقي بابَ الأَمِيرِ، فإِنَّني ***لِكُلِّ كريمٍ ماجِدٍ لَطَرُوقُ
سَأَشْكُرُ مَا أُولِيتُ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ، ***ومِثْلي بِشُكْرِ المُنْعِمِينَ خَلِيقُ
وعَبَّادٌ هَذَا: هُوَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبي سُفْيَانَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ وَلَّاهُ سِجِسْتانَ وَاسْتَصْحَبَ يَزِيدَ بنَ مُفَرِّغٍ مَعَهُ، وَكَرِهَ عُبَيْدُ اللَّه أَخو عَبَّادٍ اسْتِصْحَابَهُ لِيَزِيدَ خَوْفًا مِنْ هِجَائِهِ، فَقَالَ لِابْنِ مفرَّغ: أَنا أَخاف أَن يشتغلَ عَنْكَ عبادٌ فَتَهْجُوَنا فأُحِبُّ أَن لَا تَعْجَل عَلَى عَبَّادٍ حَتَّى يَكْتُبَ إِليَّ، وَكَانَ عبادٌ طَوِيلُ اللِّحْيَةِ عَرِيضُهَا، فَرَكَبَ يَوْمًا وَابْنُ مُفَرَّغٍ فِي مَوْكِبِه فهَبَّتِ الرِّيحُ فنَفَشَتْ لِحْيَتُهُ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفَرِّغٍ:
أَلا لَيْتَ اللِّحى كانتْ حَشِيشًا، ***فنَعْلِفَها خيولَ المُسْلِمِينا
وَهَجَاهُ بأَنواع مِنَ الْهِجَاءِ، فأَخذه عُبَيْدُ اللَّه بْنُ زِيَادٍ فَقَيَّدَهُ، وَكَانَ يَجْلِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعَذِّبُهُ بأَنواع الْعَذَابِ وَيَسْقِيهِ الدَّوَاءَ المُسْهِل وَيَحْمِلُهُ عَلَى بَعِيرٍ ويَقْرُنُ بِهِ خِنْزيرَة، فإِذا انْسَهَلَ وَسَالَ عَلَى الْخِنْزِيرَةِ صاءَتْ وَآذَتْهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ كَتَبَ إِلى مُعَاوِيَةَ أَبياتًا يَسْتَعْطِفُهُ بِهَا وَيَذْكُرُ مَا حَلَّ بِهِ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّه أَرسل بِهِ إِلى عَبَّادٍ بِسِجِسْتَانَ وَبِالْقَصِيدَةِ الَّتِي هَجَاهُ بِهَا، فَبَعَثَ خَمْخَامَ مولاه على الزَّنْدِ وَقَالَ: انْطَلَقَ إِلى سِجِسْتَانَ وأَطلق ابْنُ مُفَرَّغٍ وَلَا تستأْمر عَبَّادًا، فأَتى إِلى سِجِسْتَانَ وسأَل عَنِ ابْنِ مُفَرَّغٍ فأَخبروه بِمَكَانِهِ فَوَجَدَهُ مُقَيَّدًا، فأَحضر قَيْنًا فكَّ قُيُودَهُ وأَدخله الْحَمَّامَ وأَلبسه ثِيَابًا فَاخِرَةً وأَركبه بَغْلَةً، فَلَمَّا رَكِبَهَا قَالَ أَبياتًا مِنْ جُمْلَتِهَا: عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: صَنَعَ بِي مَا لَمْ يَصْنَعْ بأَحدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ أَحدثته، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وأَيّ حَدَث أَعظم مِنْ حَدَثٍ أَحدثته فِي قَوْلِكَ:
أَلا أَبْلِغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ***مُغَلْغَلَةً عَنِ الرجُل اليَماني
أَتَغْضَبُ أَن يُقال: أَبُوكَ عَفٌّ، ***وتَرْضى أَنْ يقالَ: أَبُوكَ زاني؟
قأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَك مِنْ زِيادٍ ***كَرَحْمِ الفِيلِ مِنْ ولَدِ الأَتانِ
وأَشْهَدُ أَنها حَمَلَتْ زِيادًا، ***وصَخْرٌ مِنْ سُمَيَّةَ غيرُ دَانِي
فَحَلَفَ ابْنُ مُفَرِّغَ لَهُ أَنه لَمْ يَقُلْهُ وإِنما قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخو مَرْوَانَ فَاتَّخَذَهُ ذَرِيعَةً إِلى هِجَاءِ زِيَادٍ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ وَقَطَعَ عَنْهُ عَطَاءَهُ.
وَمِنْ أَسماء الْعَرَبِ: عُدُسٌ وحُدُسٌ وعُدَسٌ.
وعُدُسٌ: قَبِيلَةٌ، فَفِي تَمِيمٍ بِضَمِّ الدَّالِ، وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ بِفَتْحِهَا.
وعَدَّاسٌ وعُدَيسٌ: اسْمَانِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وعُدَسٌ مِثْلُ قُثَمٍ اسْمُ رَجُلٍ، وَهُوَ زُرارَةُ بنُ عُدَسٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ عُدُسٌ، بِضَمِّ الدَّالِّ.
رَوَى ابْنُ الأَنباري عَنْ شُيُوخِهِ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْعَرَبِ عُدَسٌ فإِنه بِفَتْحِ الدَّالِ، إِلا عُدُسَ بْنَ زَيْدٍ فإِنه بِضَمِّهَا، وَهُوَ عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ دارِمٍ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي زُرارة بْنِ عُدَسٍ بِالضَّمِّ لأَنه مِنْ وَلَدِ زَيْدٍ أَيضًا.
قَالَ: وَكُلُّ مَا فِي الْعَرَبِ سَدُوس، بِفَتْحِ السِّينِ، إِلَّا سُدُوسَ بْنَ أَصْمَعَ فِي طَيِءٍ فإِنه بِضَمِّهَا.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م