نتائج البحث عن (فَأَخْبِرْهُ)
1-العربية المعاصرة (شاب)
شابَ يَشيب، شِبْ، شَيْبًا وشَيْبةً، فهو شائب وأشْيَبُ.* شابَ شعرُه/شابَ رأسُه: ابيضَّ، انتشر فيه الشَّيبُ (شاب عندما ناهز الخمسين- رجلٌ أشيبُ- {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [قرآن] - {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [قرآن]) (*) شابت رءوسُ الجبال: علاها بياض الثلج- لن يحدث هذا حتى يشيب الغرابُ [مثل]: هذا أمرٌ مستحيل، لن يحدث أبدًا.
* شاب الرّجلُ: تقدَّم في السنِّ (من شبَّ على شيء شاب عليه).
أشابَ يُشيب، أشِبْ، إشابَةً، فهو مُشيب، والمفعول مُشاب.
* أشابه الحزنُ: سبَّب له الشَّيبَ وبياضَ الشعر (أشابه الكِبَرُ/الخوفُ).
شيَّبَ يُشيِّب، تشييبًا، فهو مُشيِّب، والمفعول مُشيَّب.
* شيَّبه الحزنُ: أشابه، سبَّب له الشَّيبَ وبياضَ الشّعر (شيَّبه الخَوْفُ/الكِبَرُ- شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا [حديث]: سورة هود ونظائرها).
أُشابَة [مفرد]: جمعه أُشابات وأَشائِبُ:
1 - أخلاط من النَّاس يجتمعون من كلِّ أَوْب وصَوْب، أو الرِّعاع والسُّوقَة.
2 - [في الكيمياء والصيدلة] مادّة مكوَّنة من اتِّحاد معدنين أو أكثر أو من اتّحاد معدن بغير معدن.
إشابة [مفرد]: مصدر أشابَ.
أشيبُ [مفرد]: جمعه شُيّاب وشِيب، والمؤنث شَيْباء، والجمع المؤنث شَيْباوات وشِيب: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من شابَ (*) جَبَلٌ أشيبُ: سقط عليه الثلج- يَوْمٌ أشيبُ: فيه غَيْمٌ وبرد.
شائب [مفرد]: جمعه شُيّاب وشِيب:
1 - اسم فاعل من شابَ.
2 - مَنْ أصابه الشّيب، مبيضّ الشَّعر (رجل شائب).
شَيْب [مفرد]:
1 - مصدر شابَ.
2 - بياض الشَّعر، وقد يسمّى الشَّعْر نفسُه شَيْبًا (الشّيْب من علامات الشيخوخة- الشَّيب حلية العقل وسمة الوقار- بكى للشّيْب ثم بكى عليه.. فكان أعزّ من فَقْدِ الشّبابِ- {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [قرآن]) (*) اشتعل رأسُه شَيْبًا: عمَّ الشَّيبُ رأسَه، تعبيرًا عن الشَّيخوخة.
شَيْبَة [مفرد]: مصدر شابَ.
مَشِيب [مفرد]:
1 - مصدر ميميّ من شابَ.
2 - سِنّ الشَّيب (بلغ فلانٌ المشيبَ- ألا لَيْتَ الشَّبابَ يعود يومًا.. فأخبِرُهُ بما فعلَ المشيبُ).
مُشيب [مفرد]: اسم فاعل من أشابَ.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-المعجم الوسيط (لَيْتَ)
[لَيْتَ]: حرفُ تَمَنٍّ يتعلَّق بالمستحيل غالبًا كقوله:أَلا ليْتَ الشبابَ يعودُ يومًا *** فأُخبرَه بما فعل المشيبُ
وبالممكن قليلًا، نحو: ليْتَ المسافرَ حاضرٌ.
وهي تنصب الاسم وترفع الخبر.
وتقترن بليت "ما" الحرفيةُ فلا تزيلها عن الاختصاص بالأَسماء، فلا يقال: ليتما قام زيد.
ويجوز حينئذ إِعمالُها لبقاء الاختصاص، وإهمالُها حَمْلًا على أَخواتها.
وقد تُنَزَّل منزلةَ وَجَدْتُ، فيقال: ليْتَ زيدًا شاخصًا.
وإِذا اتصلت بليت ياءُ المتكلم قيل فيها: ليتني وليتي، والأخير نادر.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
3-شمس العلوم (النِّقاب)
الكلمة: النِّقاب. الجذر: نقب. الوزن: فِعَال.[النِّقاب]: نِقاب المرأة: ما انتقبت به على محجرها.
والنِّقاب: جمع نَقْب، وهو الطريق في الجبل.
والنِّقاب: الرجل العالم المجرب.
قال:
جوادٌ كريم أخو ما قط *** نِقاب يحدِّث بالغائبِ
وفي الحديث: سأل الحجاج الشعبي عن فريضة الحد فأخبره بقول الصحابة فيها حتى ذكروا قول ابن عباس فقال: إِنْ كان لنقّابًا فما قال فيها النِّقاب؟
ويقال: لقيته نِقابًا: أي مواجهةً.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
4-معجم ما استعجم (البقيع)
البقيع: بفتح أوّله، وكسر ثانيه، وعين مهملة: هو بقيع الغرقد، مقبرة المدينة. قال الأصمعىّ: قطعت غرقدات فى هذا الموضع، حين دفن فيه عثمان بن مظعون، فسمّى بقيع الغرقد لهذا. وقال الخليل: البقيع من الأرض: موضع فيه أروم شجر، وبه سمّى بقيع الغرقد، والغرقد: شجر كان ينبت هناك. وقال السّكونىّ عن العرب: البقيع: قاع ينبت الذّرق.وبقيع الخبجبة، بخاء معجمة وجيم، وباءين، كلّ واحدة منهما معجمة بنقطة واحدة: بالمدينة أيضا، بناحية بئر أبى أيّوب؛ والخبجبة: شجرة كانت تنبت هنالك.
وذكر أبو داود فى باب الركاز من حديث الزّمعىّ، عن عمّته قريبة بنت عبد الله بن وهب، عن أمّها كريمة بنت المقداد، عن ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطّلب، أنّها أخبرتها قالت:
ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبجبة، فإذا جرذ يخرج من جحر دينارا، ثم لم يزل يخرج دينارا، حتّى أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج خرقة حمراء بقى فيها دينار، فكانت ثمانية عشر؛ فذهب بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: خذ صدقتها: فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هل أهويت للجحر بيدك؟ قال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بارك الله لك فيها!
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
5-معجم ما استعجم (الشرف)
الشّرف: بفتح أوّله وثانيه، بعده فاء: ماء لبنى كلاب، وقيل لباهلة، قد تقدّم ذكره فى رسم جبلة، وفى رسم التسرير، قال أوس بن حجر وذكر ناقة:«شرفيّة ممّا توارد منهلا *** بقرينة أو غير ذات قرين»
نسبها إلى الشّرف. يريد أنها من إبل أعدائهم التى يغلبونهم عليها.
ينبئك أن الشّرف من الحمى قول عدىّ بن زيد:
«للشّرف العود فأكنافه *** ما بين جمران فينصوب»
«خير لها إن خشيت حجرة *** من ربّها زيد بن أيّوب»
«متّكئا تخفق أبوابه *** يسعى عليه العبد بالكوب»
يعنى أباه، وكانت له إبل بعث بها ابنه عدىّ إلى الحمى، فردّها زيد، فأغارت خيل لأهل الشام، فاستاقوها، وأتى الصريخ زيدا، فوجده يشرب، فوثب
فأنى ابنه عديّا، فأخبره الخبر، فأتى عدىّ بأناس من الصنائع، فاستنقذها، وقال فى ذلك هذا الشعر.
وجمران: جبل هناك. وينصوب: أرض.
وروى الحربىّ. عن ابن وهب، عن حيوة، عن زهرة، عن سعيد بن المسيّب، قال: ما أحبّ أن أنفخ فى الصلاة وأن لى حمر الشرف. قال:
والشّرف: موضع، وهو هذا المذكور؛ وخصّه لجودة نعمه.
قال الحربىّ: والمشارف: قرى من قرى العرب، تدنو من الرّيف، واحدها مشرف، وقال فى موضع آخر: وهى مثل خيبر، ودومة الجندل، وذى المروة، والرّحبة.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
6-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 1)
عناية العرب بلغتهم:تقدم القول أن العرب كانوا أهل بادية وحاضرة؛ فالبادية من مشارف الشام إلى حدود اليمن يدخل فيها الحجاز ونجد وتهامة واليمامة وأرض عمان؛ وفيها مدن قليلة كمكة ويثرب والطائف، على أن مكة لم تنتقل من الوبر إلى المدر إلا بعد أن بنى قصي بن كلاب دار الندوة؛ وأما الحاضرة
فهي اليمن وما إليها من أرض حضر موت والشحر وفيها بواد فسيحة؛ وفي جنوبي فلسطين بدوي حضري؛ وفي أرض حوران عمرت بصرى، وكان من مدنهم في الشمال البتراء.
كانوا على عزلتهم في ديارهم هذه وعزة نفوسهم التي لم تستذلها الدول العظمة المكتنفة أرضهم، كانوا يرون أنفسهم في غبطة وسرور من حال ألفوها، وشاعرهم ينشد في باديته القفراء مفتخرًا بنعيم عيشه فيقول:
«إذا ما شربنا كل يوم مذيقة، *** وخمس تميرات صغار حوامز»
«فنحن ملوك الناس شرقًا ومغربًا، *** ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز»
«وكم ممتن عيشة لا ينالها، *** ولو نالها أضحى بها جد فائز! »
كانوا وهم في هذه الحال في حرز حريز من أن يتطرق إلى لغتهم الصافية ما يكدرها، ويحرصون عليها حرص الشحيح على ماله، حتى أصبح ذلك خلة راسخة في نفوسهم وملكة ثابتة في طباعهم.
وتعدى ذلك إلى أتباعهم وحواشيهم.
قال الجاحظ: "رأيت عبدًا أسود لبني أسد، قدم علينا من اليمامة فبعثوه ناطورًا في البساتين.
وكان وحشًا لطول تغربه في اليمامة ورعي الإبل، فأصبح بعد أن صار ناطورًا لا يجتمع إلا بالأكراد وفلاحي النبط الفاسدي اللغة، فكان لا يفهم منهم ولا يفهمون منه؛ فلقيته يومًا فأنس بي، وكان مما قال لي: أبا عثمان، لعن الله بلادًا ليس فيها عرب! أبا عثمان، إن هذه العرب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم، فجعلهم في حاشية الأرض، لطمست هذه العجمان آثارهم..
أنف هذا العبد الأسود الزنجي العرق السكني في بلاد ليس فيها عرب، ولعن البلاد الخالية منهم.
ويقول: إن من نعمة الله عليهم أن عزلهم في ناحية من الأرض لتبقى لغتهم سليمة من التحريف.
ويدلنا كلامه على تغير عظيم في اللغة وتباعد بين لغة عرب اليمامة ومستعربي الأمصار حتى عسر التفاهم بينهم.
رأى العرب، وهم في هذه العزلة بل هذه العزة، أنهم فوق الأمم مجدًا وشرف محتد وطيب عنصر وعزة نفس وإباء ضيم.
وهذه امرأة بدوية، وهي ليلى بنت لكيز، لم ترض أن تكون في نساء كسرى ملك العجم، لما حملت إليه مكرهة، فتقول: "
«يكذب الأعجم ما يقربني، *** وعمي بعض حساسات الحيا»
«غللوني قيدوني ضربوا *** ملمس العفة مني بالعصا! »
تنبز كسرى، ملك الملوك، بالأعجم احتقارًا لسلطانه لأنه غير عربي.
وتفر من النعمة السابغة"
والعيش الهني في حرم كسرى، مفضلة عليها سكنى الوبر وعيشه الخشن وطعامه الجشب في ظل الحرية والانطلاق، وحرصًا على الدم العربي أن يشاب بدم غيره، فلا يقربها الأعجم ما دام معها بعض حساسات الحياة، ولو كان له ملك كسرى! وإذا عرض الشك في صحة هذه القصة فإن النعمان، عامل كسرى، قد امتنع أن يزوج إحدى بناته من كسرى، لا جهلًا بمقام كسرى، ولا اعتقادًا منه بأنه أعلى منه شرفًا ومنزلة، ولكنه امتنع خوفًا من العار الذي يلحقه بين العرب من أنه زوج ابنته من غير عربي، وإن كان ملك الملوك، فيحط بذلك منزلة بناته بزواجهن من غير الأكفاء، ولا كفؤ للعربي إلا العربي.
امتنع النعمان فأثار حفيظة كسرى، فقتله بين أرجل الفيلة؛ ولكن أمته العربية الأبية ثارت له لأنه قتل في سبيل الشرف العربي؛ فكانت وقعة ذي قار.
بهذه الخلة قل امتزاجهم بالأمم، فقل التحريف والتبديل في لغتهم؛ وليس هذا وحده، بل انصرفوا بجهودهم كلهم إلى العناية بتحسين اللغة وصقلها، ما شاءت لهم قرائحهم وعلومهم.
لذلك بلغت لغتهم هذا المبلغ من السلعة في المادة وفي مراعاة مقتضى الحال بإيجاز الكلام أو إطنابه، وفي الرواء والعذوبة.
عناية الأئمة بحفظ لغة القرآن والسنة وتدوينها
جاء القرآن بأفصح لغات العرب.
ودان العرب بالإسلام دين القرآن.
وجرت السنة النبوية هذا المجرى؛ فكانت لغة القرآن والسنة أولى بالتدوين والحفظ، لما آن أوانها وأخذت سنة التطور طريقها في اللغة الفصحى، منذ خرج العرب من عزلتهم واختلطوا بالأعاجم، ودخل الأعاجم في سلطانهم.
وكان لهم ما للمسلمين العرب، وعليهم ما عليهم من حرية وإخاء ومساواة.
وبعد أن كثر تسريبهم بالأعجميات لكثرة السبي في أيديهم، يوم اتسعت فتوحاتهم، وشعر أبو الأسود الدؤلي، أقدم أئمة العربية، ببادرة من التغير بدرت على لسان ابنته إذ قالت لأبيها متعجبة وقد نظرت إلى السماء ونجومها في لسلة صافية: "ما أحسن السماء" فرفعت أحسن، وح
فأدركت خطأها وقالت: أنا متعجبة ولست بمستفهمة.
فهب أبو الأسود إلى إمام المسلمين والعرب في العلم والعمل، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذ منه أصول النحو.
فعكف القوم بعد هذا على تقرير قواعد اللغة والنحو واختيار الفصيح من الكلام.
وعمل الأئمة على التقاط فرائد اللغة من البوادي البعيدة عن الأمصار، لبعدها عن مجاورة الأعاجم وفاسدي اللغة.
فكانت رحلة الأئمة إلى بوادي الحجاز وتهامة ونجد واليمامة.
قال الفارابي في أول كتابه المسمى "الألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب لأفصح الألفاظ، وأسهلها على اللسان، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس.
والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين القبائل العربية هم: قيس وتميم وأسد.
فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه.
وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين؛ ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر القبائل.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البوادي ممن كان يسكن أطراف البلاد المجاورة لسائر الأمم حولهم.
فلم يؤخذ عن لخم ولا عن جذام لمجاوراتهم أهل فارس، ولا عن قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا عن تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا عن بكر لمجاورتهم للفرس، ولا عن عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحر
كان الباحث عن اللغة في بوادي العرب يقامر بنفسه، غير مبالٍ بحرها ولا ببردها ولا بخشونة عيشها ورتق مشربها، السنين الطوال ليكتب عن فضائحهم شيئًا من كلامهم.
وروي أن الكسائي أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عنهم.
وكان الإمام منهم يفضل استفادة كلمة واحدة على حمر النعم.
ويروي عن أبي عمرو ابن العلاء قال: "إني كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه علي "فرجة" هل بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلًا يقول: "
«ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال»
فحرك الفاء بالفتح، ثم قال: ألا إنه مات الحجاج؛ قال أبو عمرو: فما أدري بأيهما كنت اشد فرحًا: أبقوله فرجة، بفتح الفاء، أو بقوله مات الحجاج! "
وكان من مزيد عناية القوم باللغة أن ميزان التفاضل بين الأئمة وحملة اللغة كان سعة معرفة الرجل بكلام العرب ولغاتها وغريبها.
وكان الأمراء والملوك والخلفاء وأعيان الأمة يتسابقون إلى تأديب أبنائهم، أي تعليمهم الأدب العربي من اللغة والنحو والشعر وأخبار العرب ومفاخراتهم"
ومنافراتهم، ليحفظوا كلامهم ويقووا به ملكاتهم اللغوية.
وكان أكبر عيب في الشريف العربي أن يلحن في كلامه، فلا يأتي بالحركات الإعرابية أو الحركات اللغوية على وجهها؛ كل ذلك كان في سبيل حفظ اللغة ورونقها وجدتها، وتقوية ملكة الفصاحة في النفوس.
بدء انحراف العامية عن الفصحى
قلنا: إن أبا الأسود الدؤلي رأى بادرة التغير في كلام ابنته، فلجأ إلى أمير المؤمنين علي ووضع أصول النحو.
والظاهر أن بدء الانحراف كان قبل ذلك، وعلى كل حال لم يكن قبل عصر الراشدين.
وأول ما سمع ذلك في الحركات الإعرابية زمن خلافة أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، على ما جاء في طبقات الأدباء لابن الانباري؛ وذلك أنه قدم أعرابي في زمن خلافته فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة وقال: "إن الله برئ من المشركين ورسوله "بالجر، فقال الأعرابي: "أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فبلغ ذلك عمر فدعاه وقال له: أتبرأ من رسول الله يا أعرابي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: "من يقرئني؟ " فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "إن الله يبرئ من المشركين ورسوله" فقلت: "أوفد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فقال عمر: "ليس هذا يا أعرابي".
فقال: "كيف يا أمير المؤمنين؟ " قال عمر: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" ورفع رسوله، فقال الإعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم.
فأمر عمر أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة.
وكان أهل الحاضرة يومئٍذ، كيثرب، فيهم العلماء باللغة وغير العلماء، ولهذا خصص عمر أمره بالعالم باللغة.
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة، فقال: إنني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال زياد: لا تفعل؛ قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنون؛ فقال زياد يرجع كلامه: توفي أبانا وترك بنون؟ ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال: "ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.
وسئل أبو الأسود: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب.
وأما اللحن في بناء الكلمة فكان بعد ذلك العهد.
ويظهر أنه كان في سكان الحاضرة أيضًا، ولم يأتِ زمن الحجاج حتى فشا اللحن في كلمات اللغة، وحتى صار يستهجن الفصيح في كلمات العامة.
قال في الطبقات: "قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن الملهب كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا واضطررناه إلى عرعرة الجبل.
فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام؟ فقيل له: إن يحيي بن المعمر عنده.
فقال: ذاك إذًا.
ويحيي بن المعمر هذا هو من حملة اللغة وأئمتها."
سارت العامة على خطها المنحرف، وامتد سيرها هذا لما كثر توغل العرب الفاتحين في بلاد الأعاجم، وكلما امتد السير زادت بعيدًا عن الفصحى؛ إلا أن هذا الطريق لم يكن ممهدًا بل كانت تعترضه عقبات من عناية العلماء بالفصحى، لما رأوا ما منيت به من التحريف، فأخذوا في محاربة هذا الداء، وصنفوا في تقويم العامية وردها إلى الفصحى وتطهيرها، أو تطهير أقلام الكتبة على الأقل، من اللحن.
ونجد كثيرًا من هذه الجهود في مثل: "أدب الكاتب" لابن القتيبة، و "درة الغواص" للحريري.
فلم يكن، والحال هذه، سير العامية في خطتها الملتوي، شديد الاندفاع كما هو الحال في غير العربية من اللغات.
وإن اللغات الراقية اليوم، التي دونت فصحاها بعد تدوين فصحى العربية بقرون، ترى فصحاها بعيدة عن عاميتها أكثر من بعد فصحى العربية عن عاميتها.
يقول جبر ضومط، أستاذ اللغة العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد أن أثبت أن للإنكليزية والفرنسية والألمانية- وهي في مقدمة اللغات الراقية في هذا العصر- لغة فصحى مكتبية، ولغة عامية دارجة: " فالمكتبية في أعلى درجات الفصاحة، والدارجة في أحط الدرجات في بعض أقسام لوندرة وباريس وبرلين، عواصم هذه اللغات الثلاث. ثم ذكر أنه تعرف بمستشرق اسوجي جاء بيروت لدرس اللغة العربية الدارجة، وكان عارفًا خبيرًا، فأخبره أن عندهم لغتين: فصحى ودارجة، وأن الدارجة الأجنبية أكثر من الدارجة العربية بعدًا عن الفصحى.
وأنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس، أيام الحملات الصليبية إلى سورية، لم تكن كاللغة التي حملها حُفَداؤهم إليها في هذه الأيام؛ وأن اللغة التي نظم بها شكسبير قصائده لا يفهمها العامي الإنكليزي اليوم أكثر مما يفهم العربي قصائد المتنبي وأبي العلاء المعري.
ولكن لغة موليير الفرنسية، فيما أحسب، بعيدة عن لغة أميل زولا بعد لغة ملتون الإنكليزية عن لغة دوسكن.
بينما لم تتغير لغة المتنبي عن لغة شوقي وبينهما ألف عام.
إلا أن لغة المتنبي وابن الأحنف والطائيين تخالف لغة الزاجل في شعره اليوم، بل إن لغة الزاجل اليوم تخالف لغة الزاجل في عصر ابن خلدون.
الحركات الإعرابية
في اللغة العربية
من البديهي أن مفردات اللغة مؤلفة من الألفاظ، وأن مادة اللفظ لا تتعدى حروف الهجاء، ولكن للحروف هيئات في اللفظ من حركات وسكون يطلق عليها، على سبيل التغليب، اسم الحركات؛ وهذه الحركات إما عارضة لمادة الكلمة ومبناها، أو عارضة لآخرها.
وتسمى الأولى حركات المباني كما ترى في حركات: غَمر، وغِمر، وغُمر، وغَمِر، وغُمَر، وغَمَر؛ فهذه كلمات ست، وهي مع اتفاقها في الحروف وفي ترتيبها مختلفة المعاني باختلاف حركاتها اختلافًا من أصل الوضع.
وتسمى الثانية حركات الإعراب أو علامات الإعراب لأنها تعرب عن مراد المتكلم بموقع الكلمة من الجملة، ولكنها لا تؤثر بمعنى الكلمة الوضعي شيئًا.
فسعيد في قولك "رأى سعيد أحمد" وهو سعيد نفسه إذا رفعته فاعلًا أو نصبته مفعولًا به، ولكن حاله واقعًا منه الفعل، غير حاله واقعًا عليه؛ وإنما يعرف اختلاف حاليه من اختلاف حركات الإعراب.
فائدتها
لهذه الحركات أثرها في المعنى التركيبي، خاصة وهي تعطي الجملة إيجازًا بديعًا لا مثيل له، فيما أحسب، في غير العربية.
والإيجاز في اللفظ مع الوفاء بالدلالة على المراد من أعظم ميزات اللغة.
انظر إلى قولنا: "ما أحسن زيد" فإنك تجد لهذه الجملة ثلاثة معان تختلف باختلاف الحركات في أواخر كلمتها، مع بقاء مبانيها وتركيبها اللفظي كما هي، فنقول:
1 - " ما أحسن زيدًا! " تنصبها، وأنت تريد التعجب فيكون ذلك قائمًا مقام قولك: "أعجب كثيرًا لحسن زيد".
2 - "ما أحسن ويد؟ " ترفع أحسن وتخفض زيدًا، وأنت تريد الاستفهام، وهي قائمة مقام قولك: "استفهم واسأل عن أحسن شيء في زيد".
3 - " ما أحسن زيد؟ " تفتح أحسن وترفع زيدًا، وأنت تريد الاستفهام أيضًا، وهي قائمة
مقام قولك: "أي شيء من الإحسان فعله زيد".
ثم انظر إلى قولنا: "هذا كريم أحسن منه عالم" فإذا رفعت كريمًا وعالمًا كان المراد شخصين اثنين أحدهما عالم والآخر كريم، ولكن العالم أحسن منه الكريم؛ وإذا نصبتهما كانا شخصًا واحدًا عالمًا وكريمًا، ولكنه في كرمه أحسن منه في علمه.
وانظر إلى قولنا: "كم كتاب قرأت" فإذا جررت كتابًا كنت تريد الإخبار بكثرة ما قرأت من الكتب، وإذا نصبت كنت تريد الاستفهام عن عدد الكتب التي قرأتها.
قال ابن قتيبة في "مشكلات القرآن" ما نصه: "وللعرب الإعراب الذي جعله الله وشيًا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقًا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين والمعنيين المختلفين: كالفاعل والمفعول، لا يفرق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان أن يكون الفعل لكل واحد منهما، إلا بالإعراب, ولو أن قائلًا قال: هذا قاتل أخي، بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي، بالإضافة، لدل بالتنوين على أنه لم يقتله، وبحذف التنوين على أنه قتله.
ولو أن قارئًا قرأ: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" وترك طريق الابتداء بإنّا، واعمل القول فيها بالنصب، على مذهب من ينصب أن بالقول كما ينصبها بالظن، لقلب المعنى على جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبي محزونًا لقولهم " إن الله يعلم ما يسر
وقال رسول الله، صلوات الله عليه: "لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم" فمن رواه جزمًا أوجب ظاهر الكلام أن لا يقتل إن أرتد، ولا يقتص منه وإن قتل؛ ومن رواه رفعًا انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش أنه لا يرتد أحد منهم عن الإسلام فيستحق القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بينهما؟ ثم قال: "وقد تكتنف الشيء معان فيشتق لكل معنى منها اسم من ذلك الشيء كاشتقاقهم من البطن الخميص "مبطان" وللمنهوم "بطن" وللعليل البطن "مبطون".
انتهى كلام ابن قتيبة.
وإنما اختلف المراد فيما ذكر باختلاف الحركات الإعرابية، مع أن الجمل المذكورة لم يتغير شئ من تركيبها وتنسيقها غير علامات الإعراب.
ولكن المعنى التركيبي قد تغير معها تغيرًا لا يستهان به، كما سمعت من كلام ابن قتيبة.
وكذلك إذا قلت: "علم زيد خالد الكتاب" لا تعلم أيهما المعلم وأيهما المتعلم: فإذا رفعت ونصبت علمت أن المرفوع هو المعلم وأن المنصوب هو المتعلم، تقدم أو تأخر لا فرق، وبقي للتقديم والتأخير فائدة خاصة من البيان، كما شرحه علماء الفصاحة والبلاغة، وإذا طرحت الحركات جانبًا وجعلت الدلالة على الفاعل تقدمه، وعلى المفعول تأخره بأن يكون الفاعل واجب التقديم مطلقًا،
كما إذا كان مقصورين لا تظهر عليهما علامات الإعراب، فاتتك النكات البيانية من المعاني التي يفيدها تقديم ما حقه التأخير أو العكس، وهي إفادات تأتيك من ترتيب الجملة دون زيادة في لفظها؛ وهذا من خصائص العربية فيما أحتسب.
وإني قد أسهبت القول في فوائد الإعراب في اللغة، ليعلم أن القول بتفضيل إهمال الحركات على استعمالها، بحجة أن المعنى لا يفسد بإهمالها، ولأن كل أبناء العربية يفهمون من قولنا "زيد مسافر" بالتسكين، كما يفهمون "زيد مسافر" بالتحريك هو قول باطل.
إنه عجيب حقًا، ولاسيما إذا كان من علامة مدقق ذي علم وغيرةٍ على الفصحى، كصاحب المقتطف الدكتور يعقوب صروف.
وقد ظهر لك مما تقدم أن كثيرًا من الجمل إذا أهمل فيها الإعراب اشتبه على السامع فهمها، لاحتمالها معاني لا يميزها إلا الإعراب، أو إطالتها بكلام مفصل يدل على المعنى المراد.
من أين جاءت؟
من الحقائق التي لا أحسب فيها جدالًا، وإذا كان فهو غير معتمد به، أن العرب الذين تبدوا وقل اختلاطهم بغيرهم من الأمم، كانوا أحفظ للغة وأصون لقديمها من غيرهم، لأن الاختلاط بغير أهل اللغة من أكبر الأسباب في تطورها.
وهذا القديم الذي حفظوه وصانوه بانعزالهم وببداوتهم، إن لم يكن هو نفسه اللغة الأم، أي التي تفرعت عنها اللغات السامية، فهو أقرب اللهجات المتفرعة عنها إليها، لأن المفروض أنه مصون ومحفوظ كل الصون والحفظ أو بعضهما، فلم يكن فيه من التطور ما كان في غيره من الف
وهذه الحقيقة ليست بغريبة عن استنتاج العلماء؛ فقد ذكرها كثير من الباحثين كمسألة لا تحتمل الجدال.
ثم أنه جاء في التاريخ القديم أن اللغة التي انتشرت في المملكة البابلية، قبل زمن حمو رابي بعشرين قرنًا أو أكثر، وهي أم اللغات السامية، كانت ذات حركات للإعراب؛ وأنها قضت أكثر من ألفي عامٍ وهي ذات حياة في سجلات الحكومة ودواوينها وعلى ألسنة العلية من القوم.
وإن كلام العلامة مسبيرو، ظاهر في أن لهجة العامة من سكان المدن والقرى أي أهل الحاضرة، كانت الآرامية.
أما لهجة سكان البوادي، وهم بدو الآراميين، فلم تكن اللغة الآرامية.
إن أهل الحاضرة هم الذين اختلطوا بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم التي كانت فصحى بهذا الامتزاج، وكانت منه اللهجة الآرامية "العامية البابلية"، كما امتزج بعد الإسلام أهل الحاضرة من العرب بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم وكانت منها اللهجة العامية.
هذه اللغة التي ثبتت ألفي عام فأكثر في السجلات الرسمية والدواوين العالية، وعلى ألسنة العلية من القوم، هي ولا ريب اللغة الأم.
وقد كان لها حركات إعرابية، ثم استعجمت في ألسنة العامة من"
أهل الحواضر.
وكان أول ما أضاعته هو حركات الإعراب.
فكانت السريانية القديمة، اللغة المستعجمة المتطورة منها، وهي ليست بذات إعراب؛ لأن ما لا يوجد في الأصل لا يوجد في الفرع.
أما سكان البادية وهم بدو الآراميين أو العرب فلم يفقدوها، فبقيت هذه الحركات ثابتة في لهجاتهم.
وقد حدث مثل ذلك لأهل الحواضر العربية، فأضاعوا حركات الإعراب التي كانت في لغة أهل البوادي منهم باستعجام لغتهم.
وكان أول ما أضاعوه منها هذه الحركات، كما سمعت ما سلف من قضية الأعرابي الذي جاء المدينة في خلافة عمر ليتعلم القرآن، فسمع اللحن في حركات الإعراب وأدى ذلك، بحكم الطبع في ذلك الأعرابي، إلى فهمه غير المراد فأنكره؛ وكما سمعت من قصة ابنة أبي الأسود مع أبيها ا
كان نصيب سكان البوادي الأولين كنصيب سكان البوادي الآخرين في حفظ اللغة بحركاتها الإعرابية ما استطاعوا إليه سبيلًا، وبقدر ما بعدوا عن الأمم الأخرى.
وهكذا نقيس بقياس التمثيل بين العصرين، ونعلم حال القديم الذي لم نره ولا تحققنا خبره، بحال الحديث الذي عرفناه وتحققناه.
ونطمئن إلى القول بأن حركات الإعراب التي كانت في اللغة الأم الأولى قد حفظتها لها البداوة حتى ظهرت في عربيتهم الأخيرة؛ وذلك باستصحاب القهقرى كما يسميه علماء الأصول.
وقد خلت منها اللغات الأخرى الأخوات إلا أثارًا في لغة بطراء ولغة تدمر وأهلها من بقايا العمالقة.
ثم نقول: لكن بدو الآراميين الذين سكنوا البادية العربية، والذين سموا عربًا، لم تذهب منهم هذه الحركات أو أشباهها، بدليل وجودها عند أعقابهم وحفدائهم يوم أخذنا اللغة عنهم، وبدليل أن الذين أخذوها وجدوها راسخة فيهم رسوخ الملكة الطبيعية في النفس، تجري على ألسنتهم في مواقعها دون أدنى قصد أو تعمل ولا كلفة، مما يدل على طول عهدهم بها حتى أصحبت جارية مجرى الطبع.
إن هذه الحركات إذًا متصلة بنا من ميراث اللغة الأولى، أم لغتنا العربية، حفظتها لنا البداوة وحفظها بعد حامليها عن فساد اللسان بالعزلة، وعدم امتزاجهم بالأمم الأخرى.
قلنا: إن هذه الحركات كانت في العرب، واتصلت في الأعقاب على مدى الأحقاب حتى وصلت إلينا.
وسواء أكانت هي كما رأيناها أو اعتراها بعض التحرير، فهي إن لم تكن عينها فليست بعيدة عنها؛ ففي واديها ربيت، وعلى غرارها طبعت، وفي حجرها نشأت، وبدرها غذيت.
والقول بأن العرب عرفوا هذا بمعرفتهم النحو وأنهم احتذوا فيه مثال اليونانيين، فلا أراني كثير الحاجة لدفعه، لأن الإلمام بأحوال العرب قبل الإسلام فضلًا عن الاضطلاع به يكفينا أمره.
وأنى لسكان البادية بمعرفة قواعد النحو كعلم من العلوم؟ وقد سئل أعرابي: أتجر فلسطين؟ فقال: إنني إذًا لقوي، فقيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إنني إذًا لرجل سوء! ففهم هذا البدوي، وهو ممن يوثق بعربيته ويتخذ أئمة اللغة كلامه حجة في النحو واللغة، فهو الجر والهمز بمعناهما اللغوي، ولم يكن للمعنى الاصطلاحي أقل مساس بفهمه وعلمه.
إن الإعرابي القادم من البادية إلى الحاضرة ليتعلم القرآن، وهو بعد لم يبل بفساد اللسان، قد عرف تغير المعنى بتغير حركة "ورسوله" لا من حيث أنه رفع وخفض، بل من حيث أن إفادتها مرفوعة غيرها إذا كانت مخفوضة؛ هكذا فطر طبعه ونمت غريزته.
كيف وضعت الحركات؟
إن الذي اتفق عليه المحققون أن وضع اللغات لم يكن بالتنصيص على لفظ خاص لمعنى خاص، وإنما كان الوضع بالتوسع في الاستعمال على قدر الحاجة وتنوعها بامتداد الزمن وتطاول المدة، وعلى حسب ما هو معروف من سنن التطور.
ويبعد في مثل هذه الحال أن توضع الحركات الإعرابية بمثل هذا النحو من الوضع، وأن تكون على هذه الطريقة، لأن الحركات الإعرابية على ما هو الظاهر ليست مما تدعو إليه الحاجة الماسة بأن تكون ركنًا من أركان التفاهم، فلا يتم بدونها، حتى يقال: إنها جاءت على قدر الح
فكيف كانت إذا هذه الحركات الإعرابية؟ هل هي بقايا كلماتٍ كانت تدل على ما تدل عليه علامات الإعراب، ثم اختزلت بتطاول المدة وصقلت بالاستعمال فصارت كما نراها؟"
يقول بهذا القول كثير من العلماء؛ وقد جاء في المقتطف ما نصه: "يستدل علماء اللغات على أن أصل هذه الحركات كلمات اختصرت على تمادي الزمن، وبقيت الحركات دلالة عليها" هذا قوله.
ولكن هل كانت هذه الكلمات، والتي هي أصل هذه الحركات، خاصة بأم اللغة العربية المعربة، وفي حيزها اختصرت هذا الاختصار؟ أو أنها في أمها الأولى ثم جاءت إليها بالإرث؟ وعلى تقدير أنها كانت في أصل الفرع الأسيوي الأول الذي منه كانت اللغات السامية والآرية والمغولية، فهل أصابها هذا الاختصار كله أو بعضه قبل انفصال السامية (أم العربية) عنه، أو أنه كان من صيغ اللغة السامية؟
ربما يعرف ذلك، ويكشف هذه الغوامض ويحل هذا الإشكال، الباحثون في مقابلة اللغات وتحليلها، إذا تيسر لهم ذلك، وكان في أخوات اللغة العربية وخالاتها ما ينير لهم الطريق بأن كان لهذه الكلمات الإعرابية ما يدل عليها، أو يشير إليها في هذه اللغات.
أما إذا كان مجرد حدسٍ وتخمين، فللحدس والتخمين أيضًا مجال آخر.
وحينئٍذ يجوز لذاهب أن يذهب إلى أن الحركات الإعرابية ربما كانت وضعت بوضع خاص، وذلك بأن يقال: إن أبناء اللغة الأولى كانوا في تمدنهم وعلومهم بمنزلٍة صالحة تدل عليها آثارهم، وقد دلت الآثار أنه كان للبابليين مدارس منظمة يعلمون فيها الحكمة والطب والفلك، وظهر
وأخبرنا التاريخ عن مزيد عنايتهم بلغتهم الفصحى والتي حفظوها واتخذوها لغة رسمية لهم، وكانت مصقولة مهذبة، كما تقدم القول عن العلامة مسبيرو، فلا يبعد، والحال هذه، عن الذين صقلوا لغتهم وهذبوها، أن يكون في جملة ما عملوه في صقلها وتهذيبها وتحريهم البلاغة فيها
ومن ضروب هذا الاختصار وضع العلامات الإعرابية على شكل حركات لا تطول بها الجملة، ولا يتغير بها وضع الكلمة من موقعها فيها، فدلوا بهذه الحركات على مرادهم بها في جملتها، فاعلة أو مفعولة أو غير ذلك، مقدمة أو مؤخرة، لتدل في التقدم والتأخير على معان مراده، وأن
ويكون ذلك منهم حيث قل انتشار الفساد في اللغة، وسرى ذلك في سكان البوادي فحفظوه وجروا عليه.
ولنفرض لذلك مثلًا فنقول: استعمل أبناء اللغة "ما" الاستفهامية بدلًا من "أي شيء" اختصارًا، فاشتبهت "بما" التعجبية ووقعت أفعل بعدها كأحسن في قولك: "ما أحسن زيد"، واشتبه على السامع أي المعنيين يريد المتكلم: ما الاستفهام أو التعجب؟ ونصب القرينة اللفظية تطويل، والمفروض أننا فررنا منه، فحركوا حينئِذ ما وقع بعد التعجب بالنصبـ، وما بعد ما الاستفهامية بالرفع؛ وليس في هذا مشقة ولا إطالة.
وكذلك يتميز الفاعل بالرفع والمفعول به بالنصب، وفي هذا لا يشتبه الفاعل بالمفعول به سواء تقدم أو تأخر.
وتبقى اعتبارات التقدم والتأخر وفوائدها البيانية صحيحة سليمة؛ ولكن هذا إنما يجري حيث يكون الفاعل صالحًا لأن يكون مفعولًا به، أما إذا لم يكن صالحًا لذلك في مثل: "كسر الزجاج الحجر" و "قال الشاعر قصيدة" فإنه يستغنى عن ذلك؛ لكن القسم الأول أكثر في الكلا
ولعل مثل هذا احتجاج إلى مدة متطاولة، وبعد اختلافات كثيرة بين الأصقاع والقبائل في الاستعمال، حتى استقر وثبت منه الأحسن والأصح في الاستعمال، فعم وشاع وذهب ما عداه.
والقول "بالكلمات المختصرة إلى الحركات" تعترضه صعوبات كبيرة في تعليل هذا الاختصار، وتطبيقه على الحركات الإعرابية التي لا يمكن تذليلها إلا بتكلف كثير.
وإذا رأينا أنه من السهل مثلًا أن نقول: إن علامة الرفع (الضمة) قد اختصرت من الكلمة الدالة عليها إلى الواو، الذي هو علامة للرفع أيضًا، ثم اختزل الواو إلى الضمة، فلسنا نرى من السهل تطبيق ذلك على غير هاتين من علامات الرفع، كالألف في المثنى، وثبوت النون في
ويعترض الحدس المفروض للوضع الخاص أن هذه العلامات نراها أول ما يذهب من اللغة عند امتزاج أهلها بغيرهم، وأن صيرورتها إلى الملكة أمر لا يقبله العقل بسهولةٍ وبدون مشقة.
وكيفما كان أحال فقد اتصل إلينا أن أم اللغة العربية أورثت ابنتها هذه نظام الإعراب بالعلامات، فتقف عند هذا القدر المحقق من البحث، ونترك ما عداه إلى المحققين في اللغات، حتى يظهر البحث ما تطمئن إليه النفوس.
والذي تحقق من ذلك أن العرب، وهم بدو الآراميين، قد اتخذوا هذا الميراث، وجرى فيهم مجرى الملكة، وهم في عزلتهم، فلم يتسرب إليهم الإهمال، وحفظته لهم البادية فلم يتأثروا بما تأثر به إخوانهم، وأصبح ملكة راسخة فيهم.
وليس معنى قولنا إنه أصبح ملكة راسخة، أنهم لا يقدرون على اللحن ولا يمكن أن تجري عليه ألسنتهم، كما كنا نتلقاه من مشايخنا زمن الدراسة، بل معناه أن ألسنتهم تجري بلا تعمل ولا كلفة على هذا النظام، شأن من يتمرن عليه في هذه الأيام، فينطلق به لسانه دون تعمل أيضًا؛ وإذا كان لا يسلم متمرن اليوم من الخطأ والغلط الذي يكثر ويقل بحسب مرانه، فلأن مرانه كان ناقصًا من حيث أنه يتمرن في بيئة ملؤها الخطأ والغلط.
وعلى العكس متمرن ذلك الزمن الذي ببيئته ملؤها صواب وصحة.
إن سكان هذه الجزيرة اتخذوا حفظ اللغة على هذا النحو تقليدًا لهم، في التجاوز عنه كل العيب والعار.
ولا ترسخ عادة في قوم ما لم تتخذ تقليدًا عامًا مستحبًا يعاب تاركه على تركه أو تجاوزه.
فكان التمرن عليها راسخًا يشب عليه الصغير ولا يشذ عنه الكبير، فيكون عامًا شاملًا شائعًا بين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وتجاهلهم.
ولم يحجم نقله اللغة من الأئمة، الآخذون اللغة عن الإعراب، أن يعتدوا بلغة الصبيان والمجانين لأنهم آمنون على ملكتهم من الخطأ، فكان بعضهم يحتج لمذهبه بكلام أمثال هؤلاء ولا ينكره عليه منكر.
قال ابن دريد في "أماليه" عن الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون، فوقفت وصدوني عن حاجتي وأقبلت أكتب ما أسمع، وإذا بشيخ أقبل فقال: أتكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع؟ "
لم يحجم الأصمعي، وهو إمام اللغة، عن أن يكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع أي صغار الناس وأراذلهم، لأنه يرى في كلامهم حجة لا تنكر عليه.
وأما قول الشيخ: "أتكتب": مستنكرًا، فما هو إلا استصغار لأمرهم واحتقار لأمرهم واحتقار لشأنهم من حيث أنهم أقزاع أدناع، لا من حيث أنه مخطئ أو مصيب بالأخذ عنهم.
فهو نظير أن تختار لأمرك حاذقًا فيه، ولكنه صغير المنزلة دنئ الحسب مستقذر العيش، مع أنك لا تعدم حاذقًا مثله يكون كريم الحسب رفيع المنزلة ظاهر المروءة.
ويصح لمن يغار عليك أن يلومك على هذا الاختيار، وليس معنى لومه أنه يطعن في حذقه بل كان الطعن عليه من حيث نفسه وحاله.
آخر عهد البادية بها
إن هذه الملكة الراسخة في هؤلاء الأعراب قد أهملت أولًا في القبائل المجاورة للأعاجم بالاختلاط بهم، ولم يسمع عن أحد من العرب الجاهليين أن الأئمة تحرزوا عن الاحتجاج بلغته قبل عد بن زيد العبادي، الذي نشأ بين الفرس وفي خدمة الأكاسرة.
ولما فسدت لغة الأمصار كان ذلك يسري منها إلى البادية بقوة الاختلاط وضعفها، وكانت السلامة تتقهقر أمام هذه القوة، وبقى هذا الغزو مستمرًا إلى أخريات القرن الثالث للهجرة وما بعده بقليل، حتى ذهبت هذه الملكة أو كادت.
وعم اللحن أقطار العربية، باديها وحاضرها، وصينت الفصحى المعربة في دفاتر العلماء والأدباء، وفي المجامع العلمية، وعلى ألسنة الخطباء والشعراء والكتاب.
ولم تزل للعامة في أزجالهم وأغانيهم مكانة باختلاف الأقطار العربية.
والعامية في بلاد المغاربة أصبحت كأنها لغة أخرى غير عامية المشارقة؛ وتختلف عامية الشام، وعن عامية نجد والعراق.
الفصيح والعامي من حيث الاستعمال
لم تخرج العامية في تحريفها وعدم ضبط قواعدها عن كونها لغة عربية.
والتحريف كان معروفًا في الفصحى باختلاف لغات العرب، كما سبق الكلام عليه، وإن كان في الفصيح أشد وأقوى وأبعد مرمى، فهو في العامي أظهر وأكثر، وبه ألصق.
فالعامية بالنسبة إلى الفصحى، وهذه بالنسبة إلى المتقدمين والمحدثين على ضروب: "
1 - ألفاظ انفرد بها المتقدمون من العرب وتركها المحدثون، إما لاستعمالهم مرادفها: كمبشور في الناقة الشديدة السريعة، استعملوا كأنها: علنداة؛ أو لأنها من الحواشي البعيد عن الطبع كقولهم: مخر نبق لينباع؛ قال ابن فارس: وكذلك يعلمون معنى ما تستغربه اليوم من
قولنا: "عبسور" في الناقة و "عيسجور" و "امرأة خناثى" و "فرس أشق أمق خبق.
ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرسم الذي تراه، أو تركها المحدثون لأنها غير مأنوسة عندهم، وإن كانت غير حوشيه كأجبى في الحديث الشريف: "من أجبى فقد أربى.
2 - ألفاظ استعملها المتقدمون وخواص المحدثين ولم تعرفها العامة كقولهم: "طخية عمياء، ومرة سوداء.
3 - ألفاظ استعملها العرب وعرفتها العامة وقل استعمال الخاصة لها، فلم تشع بينها، وهو ما يسمى بالغريب الفصيح في العامي.
4 - ألفاظ للعرب فيها لغتان أو أكثر، أخذت العامة ببعضها والخاصة ببعض آخر "كفز" عند العامة و "قفز" عند الخاصة، و "ما فيها دومري أو تومري" عند العامة و "ما فيها ديار" عند الخاصة.
5 - ألفاظ استعملها العرب قديمهم وحديثهم، وقل استعمال العامة لها، فكانت من أجل ذلك مصونة لم تتبذل.
والفرق بين هذا الضرب والضرب الثاني أن ذاك لم تعرفه العامة أو لم تكد تعرفه، وهذا عرفته ولكنها لم تألفه كـ "أمررت الحبل وأحصدته" أي فتلته.
و "حبل ممر ومحصد" أي مفتول، وقد عرفت العامة منه قولهم "عقدة مرة" أي محكمة العقد.
6 - ألفاظ مثل ذلك ولكنها ابتذلت مد عركتها العامة بألسنتها وامتهنتها بتحريفها، فاجتنبتها الخاصة وأعرضت عنها مثل قول العام: "اصطفل في الأمر" أي افعل ما تشاء، محرفة عن "افتصل" وهو افتصال من الفصل أي اتخذ الفصل الذي تريده من عملك.
7- ألفاظ مثل ذلك كثيرة الدوران في الكلام لا يستغني عنها، فلم يضرها كثرة الاستعمال لمكان الحاجة، كقولك: "شربت ماء، وأكلت طعامًا، وقرأت كتابًا" وهذا أكثر الكلام العربي.
8 - ألفاظ حرفتها العامة باستعمالها إلى مستنكره، فتركت الخاصة استعمالها الأول لمكان الاستكراه في المعنى الثاني كـ "الصرم" بمعنى القطيعة و "الغائط" للمنخفض من الأرض؛ حرفت العامة الكلمة الأولى لمعنى "السرم" والثانية لمعنى "الخرء".
وإذا أردت مزيد تعمقٍ في هذا البحث وفي الفروق بين الفصيح وتحريفه العامي، فعليك بمراجعة كتابنا "رد العامي إلى الفصيح" ففيه ما يقوم بوفاء حاجتك فيه، إن شاء الله.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
7-جمهرة اللغة (بذذ بذ)
بذَّه يَبُذه بذًُّا، إذا غلبه.وكلُّ غالبٍ باذ.
وبذَّت هَيئتُه بذاذة وبذوذةً.
وفي الحديث: (البذاذة من الإيمان).
وفي حديث أبي ذّر، حدثنا به الغَنَوي أو غيره قال: قعد أبو الدّرداء رحمه الله سنةً عن الغزو فأخذ نفقته فجعلها في صرّة ودفعها إلى رجل وقال: اعترض الجيشَ فإذا رأيت رجلًا في هيئته بذاذة يمشي حَجْزَةً فادفعها إليه ففعل الرجل ذلك ودفعها إلى شاب يمشي حَجزة، فلما أخذها رفع رأسه إلى السماء وقال: لم تنس حُديرًا، فاجعل حُديرًا لا ينساك.
فرجع الرجل إلى أبي الدَّرداء فأخبره فقال: ولّى النعمةَ ربَّها.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
8-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عينات)
عيناتمن أشهر قرى حضرموت، على نحو ثلث مرحلة من تريم. وأوّل من اختطّها آل كثير في سنة (629 ه).
وفي سنة (787 ه) هجم آل الصّبرات على عينات وأخربوها، وقتلوا سبعة من آل كثير حواليها، وساعدهم راصع على ذلك.
وفي سنة (817 ه) بنى آل كثير عينات، ثمّ أخربها آل أحمد في تلك السّنة نفسها، وقتلوا ثمانية: اثنين من آل كثير وخمسة عبيد ورام، وكثيرا ما تقلّبت بها الأحوال، وأضرّت بها الحروب الواقعة بين آل كثير وآل يمانيّ والصّبرات والغزّ، حسبما فصّل بعضه في «الأصل»، وقد اندثرت ولم يبق إلّا آثارها البالية، هذه هي عينات القديمة.
وأمّا الجديدة: فأوّل من بنى بها ركن الإسلام، وعلم الأعلام، الشّيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، المتوفّى بها سنة (992 ه)، وقد ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [2 / 58] و «السّنا الباهر» [حوادث 992 ه]، وأفرد مناقبه العلّامة ابن سراج وغيره بالتّأليف، وهو بالحقيقة في غنى ـ بشهرته الّتي تغني ـ عن التّعريف.
«تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه *** بأكبر ما يثنى عليه يعاب »
وفي «الرّياض المؤنقة» للعلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس: (أنّ سيّدنا الشّيخ أبا بكر بن سالم ابتلي بعلّة البرص، وأنّ تلميذه أحمد بن سهل بن إسحاق انتقده.. فأصابه الكثير من ذلك حتّى صار يقال له: هرّ اليمن) اه
ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ بن الأستاذ الحدّاد: (أنّ المتعلّق بالشّيخ مع البعد أحسن من الحاضر عنده؛ لغلبة رؤية البشريّة على الحاضر، وقد قال الشّيخ أبو بكر بن سالم: لو سألت الله ـ أو قال ـ لو تشفّعت في أحد من الكفّار ولعيالي وأخدامي.. لرجوت الإجابة لأولئك الكفّار؛ لأنّ المخامرة تذهب الاحترام) اه مختصرا
ولمّا مات.. وقع رداؤه على ابنه عمر المحضار.
ومن كلامه: (ما ابتلي أهل حضرموت إلّا بقدحهم في الشّيخ أبي بكر بن سالم، وما شكّوا في ولايته إلّا لسوء حظّهم، ولكنّه كفي شرّهم بالعطاء وبغيره، وكلّ من شكّ في الشّيخ أبي بكر.. فهو اليوم يبغضني ويراني خصمه، بل زادوا وطعنوا في العرض، ولكنّنا نرثي لهم، وندعو لهم) اه
وفيه فوائد؛ منها: أنّ الاتّفاق لم ينعقد على فضل الشّيخ أبي بكر إلّا في الزّمان المتأخّر، وإلّا.. فالنّاس كالنّاس، ولا يزالون مختلفين.
توفّي بعينات سنة (997 ه)، وله أعقاب منتشرون بمرخة وبيحان، وروضة بني إسرائيل، وحبّان وخمور والهند، وجاوة ودوعن وغيرها.
ومنهم: السّيّد حسين بن محمّد بن عليّ بن عمر المحضار، وصل إلى مسورة أرض الرّصاص فاقترن بابنة السّلطان، فأقطعه مكانا بمرخة يسمّى الهجر، لا يزال إلى يومنا هذا، والمحاضير فيه على استقلالهم.
وقد سبق في بالحاف وبير عليّ أنّ منصبهم في سنة (1349 ه) أمضى على الوثيقة الّتي وقّع عليها أعيان تلك الجهات وسلاطينها بالسّمع والطّاعة لي وكفاني الله شرّ الفتن برأي مولانا الإمام يحيى حسبما تقدّم.
ومنهم آل درعان: السّيّد أحمد المحضار، وأولاده: مساعد وسالم، لهم أخبار في النّجدة والشّجاعة تنفخ الأدمغة، وتملأ الأفئدة.
ولهم خيل عتيقة؛ منها: الكويخه، لها خبر وعلم.
وللسّيّد أحمد بن درعان هذا وفادة إلى حضرموت، ونزل بالقويرة على نسيبه الإمام أحمد بن محمّد المحضار، وطال ثواؤه حتّى ملّ، وسبب ذلك أنّه لا يمكن انصرافه إلّا بجائزة، وفي عيش الإمام المحضار يبس إذ ذاك، فلم يجد حيلة إلّا أن قال له: نريد إكرامك، لكن ما لدينا شيء إلّا ثمانيه ريال عند غريم مماطل، قال له: أعطني تحويلا عليه وسأخرجها من عينه، فأحاله على صديق لا يزال عنده بالقويرة صباح مساء من آل بروم، فلمّا أقبل على داره وهو بظهر الكويخة.. سرّ وظنّ معه خيرا، ولمّا عرف باطن الأمر.. قال: لا شيء عندي للحبيب أحمد، قال له: ما كان ليكذب، وقد أخبرني بمطلك، ولئن لم تدفعها.. لأوجرنّك سنان هذا الرّمح، فخرج ليهرب، ولكنّ ابن درعان قد أغلق السّدّة وأخذ المفتاح، فصعد إلى سطح داره يصيح، حتّى اجتمع الجيران، فأشرف عليهم ابن درعان وقال: لا أخرج إلّا بالثمانية الريال بعد الغداء، فعملوا له غداء ونقدوه المبلغ، فتوجّه إلى عينات، ثمّ عاد إلى القويرة، ومنها ركب إلى مرخة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر المحضار عزم على حمل السّلاح لصدّ عوادي الظّلمة، فلم يوافقه إخوانه، فنزل برضى منهم بأن يخلفه أخوه الحسين.
«أعزّ وأتقى ابني نزار بن يعرب *** وأوثقهم عقدا بقول لسان »
«وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا *** وأعلاهم فعلا بكلّ مكان »
ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [3 / 210 ـ 212] ووهم في قوله: (إنّه ولي الأمر بعد أبيه)؛ لأنّه لم يله كما قدّمنا إلّا بعد أخيه.
وبعد أن تربّع على كرسيّ المنصبة.. حصل عليه أذى من آل كثير، فسار إلى مكّة وأقام بها سبع سنين قدم في أثناءها رؤساء يافع إلى مكّة وكان حصل عليهم تعب من الزّيديّة، فتأكّدت بينه وبينهم الألفة، وتأطّدت قواعد الحلف، ووعدوه إن نصرهم الله أن يأخذوا بيده، وقد سبق القول بأنّهم وصلوا في أيّامه إلى حضرموت.
توفّي بعينات سنة (1044 ه). ووقعت عمامته على ولده أحمد، وقام بمقام أبيه أحسن قيام إلى أن توفّي، فاجتمع رأي السّادة على تقديم ابنه سالم السّابق ذكره في الغيضة، وكثرت الخيرات في أيّامه، واتّسع جاهه، وأكثره من أرض الظّاهر وجبل يافع، وحصلت له أموال طائلة.
ثمّ إنّ الزّيديّة استولت على يافع فانقطع المدد منها، ولمّا انتهى إليه عزم الزّيديّة على غزو حضرموت.. ارتحل إلى الحجاز، فحجّ ثمّ استقرّ بالغيضة وسار معه بأهله، وبعد أن أقام بالغيضة أحد عشر شهرا.. اجتوتها زوجته فاطمة بنت محمّد بن شيخ بن أحمد فأذن لها في الرّجوع إلى عينات مع ابنه عليّ بن سالم، وتنازل له عن ولاية عينات، وأباح له أمواله بحضرموت، وكان يرسل له فوق ذلك بما يكفيه، لكلف المنصبة.
وكانت له أراض واسعة من عينات إلى العرّ ترعى بها مواشيه ونعمه، وكان يشرك السّادة آل الشّيخ أبي بكر فيما يصل إليه من الفتوح.
وبإثر انصراف الزّيديّة عن حضرموت.. أراده النّاس على الرّجوع إليها، فلم يرض.
وبعضهم يزعم أنّ الشّيخ عمر بامخرمة لحظه بطرف الغيب، إذ يقول:
«سلّم الأمر يا سالم وخلّ الحراره *** خلّ ذا الكون يا بن احمد على الله مداره »
«عاد ربّ السّما يعطف علينا بغاره *** يوم قالوا لنا الزّيدي تولّى (شهاره) »
لأنّ شهارة حافّة معروفة بسيئون، والأمر محتمل؛ فإنّ للشّيخ عمر فراسات كثيرة صادقة، ولكنّ شهارة من ثغور اليمن في غربيّ صنعاء استولى عليها إمام الزّيديّة في أيّام الشّيخ عمر بامخرمة. توفّي الحبيب سالم بن أحمد بالغيضة سنة (1077 ه).
وبإثر موته أحضر ولده عليّ سائر إخوانه وكتب للغائبين منهم، وقال لهم: إنّني لا أقدر على القيام بأعباء المنصبة إلّا بأموال والدي، وقد صارت لكم، فخذوها وأقيموا من تحبّون. فقالوا له: بل أبحناها لك كما كان أباحها لك أبونا، ولا تزد عمّا كنت تنفقه علينا في أيّامه.
وقد أدرك الحبيب عليّ بن سالم عاما من حياة جدّ أبيه الحسين، وفي أيّامه عاد الظّاهر وجبل يافع لأهله بواسطة السّلطان معوضة بن سيف بن عفيف والسّلطان صالح بن أحمد بن هرهرة فدرّت الأموال عليه، وقال لإخوانه: اقتسموا ما تركه أبوكم؛ فقد أغنانا الله عنه. وأبقى ما كان يجريه عليهم. توفّي سنة (1096 ه) عن إحدى وخمسين سنة، وكانت إقامته بالمنصبة ثمانية عشر عاما.
وخلفه ولده أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، فقام بالمنصبة وسنّه نحو العشرين، وأعانه عليها السّيّد شيخ بن أحمد بن الحسين. توفّي أحمد هذا سنة (1111 ه)، بعد أن مكث في المنصبة خمسة عشر عاما.
وخلفه عليها ولده عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم، واتّسع جاهه بسبب اتّساع نفوذ يافع في أيّامه، حتّى لقد كان الشّعيب المشهور بحسن ماء ورده إقطاعا له.
وكان شديد الورع والتّواضع، وساء التّفاهم بينه وبين القطب الحدّاد بسبب واش من الطّغام قال له: إنّ الحدّاد يحاول منصبا مثل منصب جدّك الشّيخ أبي بكر بن سالم، ويزعم أنّه أفضل منه.
فلم يكن من القطب الحدّاد إلّا أن ورده للترضية إلى عينات، وبعد الإيناس قال له: إنّي سائلك: هل خزائن الله ملأى أم لا؟ فقال: بل ملأى.
قال له: وهل ينقصه أن يعطي أحدا مثل ما أعطى الشّيخ أبا بكر؟ فقال له: لا. فقال الحدّاد: إنّ الّذي أعطى الشّيخ أبا بكر يعطينا من الهداية، ويعطيك ويعطي غيرنا مثل ما أعطاه.
فاعتبر السّيّد أحمد وجعل يلطّخ الحدّاد بزباد من وعاء كبير حتّى نفد وهو ذاهب عن شعوره. ثمّ كان يزور الحدّاد في كلّ أسبوع أو في كلّ شهر مع كثرة أشغاله وعظم منصبه، ويستغرق سحابة اليوم في قراءة الكتب النّافعة عليه، وفي أوّل قدمة قدمها على الحدّاد قال ـ أعني الحدّاد ـ [من الوافر]:
«جزاك الله عن ذا السّعي خيرا *** ولكن جئت في الزّمن الأخير»
وإليه الإشارة بقوله من الأخرى [في «ديوانه» 177 من الرّمل]:
«زارني بعد الجفا ظبي النّجود ***...»
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط ما يفيد أنّ صاحب القصّة مع القطب الحدّاد هو السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر، ولعلّ الكاتب وهم في ذلك؛ لأنّ الصّواب هو ما ذكرناه.
والحبيب أحمد بن عليّ هذا هو الّذي كتب للسّلطان عمر صالح بن أحمد ابن الشّيخ عليّ هرهرة ليخرج إلى حضرموت لمّا كثرت بها المظالم والفوضويّة، كذا في «بستان العجائب» [ص 31] للسّيّد محمّد بن سقّاف.
والّذي ب «الأصل» عن الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ابن قاضي في ترجمته للسّيّد شيخ بن أحمد ما يصرّح بأنّه هو الّذي تولّى الأمر بعد أبيه، وأنّه هو الّذي كتب ليافع مساعدة لبدر بن محمّد المردوف على عمر بن جعفر، وأنّه توفّي سنة (1119 ه) وأنّ أخاه عليّا إنّما تولّى بعده، وهذا هو الأثبت.
ثمّ إنّي اطّلعت بعد هذا على «رحلة عمر بن صالح»، وفيها ما حاصله: (كان نهوضنا إلى حضرموت في أوّل شهر القعدة سنة (1117 ه)، كتب إلينا مولانا وسيّدنا وصاحب أمرنا قطب الحقيقة والطّريقة، الشّيخ الحبيب: عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشّيخ أبي بكر بن سالم أن نخرج إلى حضرموت؛ لأنّ السّلطان عمر بن جعفر طغى وبغى، وعظّم شعائر الزّيديّة، واستولى على الشّحر، وهرب السّلطان عيسى بن بدر إلى عينات، فهجم عليه بها هو ومن معه من الزّيديّة، وأخذه منها قهرا، واستولى على حضرموت كلّها، وأرسل بعيسى بن بدر إلى عند الإمام، ثمّ انكفأ على آل همّام ويافع الّذين بالشّحر وحضرموت، فأخرجهم من القلاع، وسلّمها للزّيديّة، واستهان بالسّادة، فعند ذلك عزمنا)... ثمّ استاق (الرّحلة) إلى آخرها.
توفّي الحبيب عليّ بن أحمد بعينات سنة (1142 ه).
وخلفه على المنصبة ابنه أحمد بن عليّ بن أحمد، وكان مضيافا يذبح كلّ يوم ستّا من الأغنام، سوى ما يذبحه للواردين، وله ولوع شديد بالقنص، وكان كريما شفيقا، حتّى لقد غضبت عليه زوجته أمّ أكبر أولاده بنت آل يحيى من زواجه بغيرها، وأبت أن تعود إلّا بمئة دينار، ولمّا حصّلها.. آذنهم فعملوا ضيافة عامّة دعوا إليها أهل عينات أجمعين، فبينا هو ذاهب إليهم.. سمع امرأة تقول من حيث لا تراه: نحن جائعون عارون ولا عيد لي ولا لأيتامي، وأحمد بن عليّ بايدفع لبنت آل يحيى مئة دينار! !
فظهر عليها ورماها بالصّرّة، وقال لها: حلال لك حرام على بنت آل يحيى.
فامتنعت من قبولها لعلمها بالمهمّة، فلم يأخذها منها، وبعث لآل يحيى بالاعتذار، فعظم الأمر عليهم وأخبروا بنتهم، فقالت: إنّي لأعلم أنّه لا يخلف وعدا، ولا يبيت على جنابة، ولا يأكل إلّا مع ضيف، ولن يتأخّر إلّا لمهمّ. وبحثت عن الواقع حتّى عرفته، فذهبت هي وأولادها إليه، فكاد يجنّ جنونه من الفرح؛ لأنّه بها مغرم، وشكرته على صنيعه، وقالت له: إن لم تزر.. زرناك.
وقد ترجمه الجنيد في «النّور المزهر» توفّي سنة (1177 ه)، وفي «شمس الظّهيرة» أنّ وفاته كانت في السّجود وهو يصلّي الظّهر.
وفي كلام سيّدي الأستاذ الّذي جمعه والدي: (أنّ سبب وفاته أنّ سبخة لسعته في جبهته وهو يصلّي الظّهر فمات).
وفيه أيضا: (أنّ العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير كان يتحرّج عن طعامه حتّى جاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم فأخبره بما في نفسه، فقال له: إنّه صاحب الوقت، له الحقّ في أموال المسلمين) اه
وخلفه ولده سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، وكان أبيض السّريرة، لا يعرف شيئا من أمر الدّنيا، وهو الّذي وصلت مواساة صاحب المغرب لسادات حضرموت في أيّامه، واختلفت الرّواية:
فالّذي قاله السّيّد محمّد بن سقّاف أنّه رضي بأكياس الدّراهم الحريريّة المزركشة بالفضة قياضا عمّا له ولأسرته منها.
والّذي قال غيره: أنّه أراد الاستئثار بجميعها، فما زالوا به حتّى اقتنع بالأكياس زيادة عن نصيبه مثل النّاس.
وفي أيّامه طلبت يافع بتريم مواساة من أهلها فثقلت عليهم، فذهب أحد آل شاميّ بهديّة تافهة إلّا أنّها ملوّنة، فعزم على يافع أن لا يأخذوا شيئا فانتهوا، وكذلك الحال كان في العام الّذي بعده. توفّي سنة (1211 ه).
وخلفه ابنه أحمد بن سالم، وكان كثير الخيرات والمبرّات، وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى حضرموت بطلب من بعض السّادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنّما كانوا ينشرون دعوتهم فيستجيب لهم النّاس، وكان ممّن استجاب لهم: آل عليّ جابر بخشامر غربيّ شبام، وبعض السّادة، وبعض آل كثير، وعبد الله عوض غرامة بتريم. فتمكّنوا بذلك من هدم القباب وتسوية القبور.
ولمّا علم الحبيب أحمد بن سالم بوصولهم إلى تريم.. استدعى منصب آل الحامد السّيّد سالم بن أحمد بن عيدروس، واتّفقوا على الدّفاع عن عينات. واستدعى الحبيب أحمد من أطاعه من يافع وآل تميم، والحبيب سالم من أطاعه من الصّيعر والمناهيل.
ولمّا علمت الوهّابيّة وغرامة بذلك.. كتب الأخير كتابا للمنصبين يقول لهم فيه: (إنّ ابن قملا وصل بقوم ـ ما تعقل ـ من القبلة، وقصدهم دخول عينات، وإن دخلوا.. بايخربون قباب مشايخنا ومناصبنا، والأولى أن تصلون أنتم ويكون الاتّفاق، واحتملوا المشقّة في الوصول، وهذه منّا نصيحة ومحبّة وشفقة، وما يشقّ عليكم يشقّ علينا..) في كلام طويل.
وكانوا يعرفون محبّته وموالاته لهم فاطمأنّوا بكتابه، فوصلوا إلى تريم، وألقوا عليهم القبض، وألقوهم تحت المراقبة، وأرسلوا العسكر إلى عينات، وقالوا لأهل عينات: إن أحدثتم أدنى أمر.. بعثنا لكم برؤوس المناصب. فتركوهم يفعلون ما شاؤوا، وخافوا منهم خوفا شديدا، وكلّفوهم غرامة شديدة دفعوا فيها حليّ نسائهم.
ثمّ إنّ آل قملا تصادقوا هم والمقدّم عبد الله بن أحمد بن عبد الله ففتح لهم الطّريق إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام.. فهدموا قبّته.
وبإثر رجوع آل قملا من الجهة الحدريّة.. أطلق غرامة سراح المناصب.
ولا يشكل نسبة كبر الأمر إلى عبد الله عوض غرامة، مع أنّ ذلك كان في أيّام عمّه؛ لاحتمال أنّه غلبه على رأيه أو استماله إليه، وبقي عنده فيه شكّ أو مجاملة فألقى عهدته على عبد الله عوض.
وبإثر وصول الحبيب أحمد بن سالم إلى عينات.. أرسل ولده أبا بكر إلى جبل يافع، وأتى بأقوام، وأذكى نار الحرب على غرامة، وضيّق عليه الخناق.
هذا ما يقوله السّيّد محمّد بن سقّاف، وفيه خلاف أو تفصيل لما في شرح بيت آل تميم من «الأصل»؛ إذ الّذي فيه: أنّ السّيّد أبا بكر بن أحمد إنّما ينهض إلى يافع ليأتي بقوم يحارب بهم السّيّد سالم بن أحمد الحامد، وأنّهم لمّا وصلوا تريم بعد اللّتيّا واللّتي في أوّل رمضان من سنة (1237 ه).. أرضوهم بخمس مئة ريال فرّقوها على سيئون وتريم وعينات، ولم يكن حرب، والله أعلم أيّ ذلك كان. مع أنّه لا يبعد أنّ الحبيب أرسل ابنه أبا بكر إلى يافع مرّتين؛ أوّلا: لحرب غرامة، وثانيا: لحرب السّيّد سالم، ولم يكن بالآخرة قتال.
وفي «الأصل» عن الجنيد: أنّه انتقد على الحبيب أحمد بن سالم هذا كثرة حروبه مع قوّته في العبادة وصيامه للأشهر الحرم، وأنّ الحبيب طاهر بن حسين أجابه بما يزيل سوء ظنّه به، فليكشف منه.
ومن هذا المنصب كانت تولية القضاء لجدّنا محسن بن علويّ بسيئون وأعمالها بوثيقة محرّرة في ذلك بتاريخ محرّم سنة (1236 ه)، وفي ذلك ما يدلّ على نفوذ أمره، واتّساع سلطانه، ودخول يافع تحت طاعته.
وقد حجّ الحبيب أحمد بن سالم، وأكرم شريف مكّة وفادته، وأهداه كسوة فاخرة، وفرسا عربيّة محلّاة، وألفا وخمس مئة من الرّيالات الفرانصة. وكانت له نفقات جليلة، وصدقات جزيلة. توفّي سنة (1242 ه).
ووقع رداؤه على ابنه أبي بكر، وكانت له عبادة ومحاسن وإيثار للسّلم، فاصطلح هو وابن يمانيّ والمناهيل وأهدروا الدّماء الّتي طلّت بينهم، ولكنّ يافعا أساءت عليه الأدب، ونهبوا في عينات، ووصل إلى سيئون ليصلح بينهم.. فلم يقبلوا له كلاما. توفّي سنة (1261 ه).
وقام في مقامه ابنه سقّاف بن أبي بكر بن أحمد بن سالم وفي أيّامه انتشر الجهل، فحرص الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر على كشف غمراته، فبعث بالحبيب عمر بن عبد الله بن يحيى فلم يحسن سياستهم، فردّوه مكسور الخاطر، ثمّ إنّ جدّي المحسن زار شعب المهاجر فلاقى به بعض أبناء الحبيب عبد الله بن حسين، فزيّن له زيارة أبيه، فتوجّهوا معا إلى المسيله، فكلف عليه الحبيب عبد الله أن يذهب إلى عينات ليذكر آل الشّيخ، فاعتذر أوّلا بأنّ معه صغار أولاده، فلم يقبل له عذرا، فذهب وأقام لديهم أربعين يوما، وحصل به نفع عظيم لا يحصل مثله في أعداد من السّنين؛ لأنّ قلوبهم سليمة، وأذهانهم نقيّة.
وفي أيّامه وصل السّيّد عمر بن عليّ بو علامة ـ السّابق ذكره في المكلّا ـ إلى عينات، وسار هو وإيّاه إلى دوعن.
ثمّ حجّ في سنة (1280 ه)، وتوفّي سنة (1283 ه)، وابنه سالم في بندر المكلّا، فنادوا به مع غيابه منصبا ساعة دفن أبيه، وكتبوا له وللنّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ وأولاد عمر بن عوض القعيطيّ وهم مجتمعون بالمكلّا، وعندهم يافع من الجبل ومن حضرموت، وناس من الأعجام المسلمين، يقال لهم: الرّويلة، من كابل، يريدون بذلك إخراج غالب بن محسن الكثيريّ من الشّحر، فتمّ لهم ما يريدون.
وكان الحبيب سالم هذا أدّى نسكه مع أبيه، ثمّ توفّي سنة (1295 ه).
ونادوا بابنه أحمد منصبا مع أنّ سنّه لم يكن يومئذ إلّا تسعا، فكان كما قال مروان بن أبي حفصة [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:
«فبانت خصال الخير فيه وأكملت *** وما بلغت خمسا سنوه وأربعا»
وكان عمّه الفاضل السّيّد محمّد بن سقّاف غائبا بجاوة، فترك كلّ شيء وخفّ إلى حضرموت اهتماما بتعليمه.
وفي حدود سنة (1306 ه) اتّصل ـ بواسطة عمّه محمّد والسّيّد بو بكر منصب الآتي ذكره ـ بسيّدي الأستاذ الأبرّ اتّصالا أكيدا، ولبس منه، وأخذ عنه، وتحكّم له، وعهدي به وهو ماثل بين يدي الأستاذ في مصلّى والدي بعلم بدر من أرباض سيئون مع أنّه من عشيّة اللّيلة الّتي مثل في صباحها بين يدي سيّدي الأبرّ كان يمشي إلى حفل المولد العامّ، وشيوخ العلويّين ـ ومنهم الأستاذ ـ يمشون وراءه كما يقول الوالد مصطفى المحضار عن مشاهدة، وهو المقدّم عليهم في القعود والقيام.
وفي ذلك العهد كان وصول الفاضل الجليل المنصب أبي بكر بن عبد الرّحمن بن أبي بكر، من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن شيخان ابن الشّيخ أبي بكر صاحب لامو إلى حضرة الأستاذ، وهو رجل شهم، ذو أيد وقوّة، فلقد شهدت سيّدي الأستاذ الأبرّ تحت نخلة من بستاننا ظليلة بعد الظّهر إذ سقط عذق والنّاس ملتفّون، وكاد يقع على عمامة سيّدي الأستاذ، فنهض المنصب بو بكر نصف نهضة وتلقّاه بيد واحدة كأنّه كرة، مع أنّه لا ينقص وزنه عن أربعين رطلا.
وله اطّلاع على أسرار الأسماء والحروف، ومعرفة بالأوفاق، وله خطّ جميل.. وكتب «رسالة» ـ أظنّها تتعلّق برحلته واتّصاله بالأستاذ ـ ذكر فيها أخذ الحبيب أحمد بن سالم عن الأستاذ، وفرقان ما بين حاله قبل أخذه وبعده، وأطنب في ذلك بصورة مشوّقة لم يبق بذهني منها إلّا اليسير، ولا لوم؛ فقد كنت يومئذ حوالي السّابعة من عمري، ولو لا أنّ خطّه كان بديعا حسنا، وأنّ الرّسالة كانت مزيّنة بالألوان والنّقوش.. لم يبق لها أثر عندي البتّة، لكنّ وجودها بالصّفة الّتي تستلفت أنظار الصّبيان هو الّذي حمّلني منها ما لا تزال بقاياه بالذّاكرة على بعد العهد وصغر السّنّ، مع أنّي لم أنظرها إلّا وقت وجوده بحضرموت، وهو عام (1306 ه) كما تقدّم.
توفّي الحبيب أحمد بن سالم فجأة سنة (1324 ه)، ووقع رداؤه على ولده عليّ، وكان شابّا نشيطا، مضيافا كثير الإصلاح بين الجنود، وكان السّيّد حسين بن حامد يكرهه ويحسده؛ لامتداد نفوذه وجاهه، وله معه مواقف لم يلن فيها جانبه، ولم يزلّ نعله، ولم يعط المقادة، ولم يسلس الزّمام.
حجّ في سنة (1345 ه)، وأكرم وفادته الملك ابن سعود، وأعطاه خنجرا ومئة جنيه من الذّهب، وتوفّي سنة (1349 ه).
وخلفه ولده المبارك أحمد بن عليّ، وقد اعتنى بتربيته الشّابّ العفيف شيخ بن أحمد بن سالم عمّ أبيه، وأحضره على العلماء، ودبّر أمور دنياه، حتّى لقد مات أبوه مدينا باثني عشر ألف ريال (12000)، ولم يكن ضيفه ولا خرجه بأقلّ من خرج أبيه، ومع ذلك فقد قضى جميع ديون والده، ومرّت الأزمة وفناؤه رحب، وضيفه كرم، وخاطره رخو، وكاهله خفيف بفضل تدبير السّيّد شيخ، فجزاه الله خيرا.
وله فوق ذلك من المحاسن، ولين النّحيزة، وكرم الطّبيعة، واستواء السّرّ والعلانية، والخبرة بأحوال الزّمان، والتّمرّن على سياسة أهله.. ما لا يساهمه أحد فيه.
وللسّادة آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر منصب بعينات، وجاه ضخم لدى الصّيعر والمناهيل وغيرهم.
وفي «شمس الظّهيرة» [1 / 288]: أنّ القائم بمنصب جدّه بعد أبيه هو: السّيّد عيدروس بن سالم، ذو السّيرة الحميدة، توفّي بعينات سنة (1170 ه)، وعقبه هناك
ومنهم: ولده المنصب الجليل سالم بن محسن، وخلفه ولده المنوّر البارّ عبد القادر، توفّي وخلفه ولده صالح.
ومنهم: الفاضل العالم الواعظ السّيّد حسن بن إسماعيل، تخرّج برباط تريم على الفاضل العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، ثمّ عاد إلى عينات وابتنى بها رباطا، هو مقيم به على نشر العلم، وقد انتفع به خلق كثير من أهل تلك النّواحي.
وفي عينات جماعة من آل باوزير؛ منهم: العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير.
وجماعة من آل بافضل؛ منهم: العلّامة الشّيخ رضوان بن أحمد بافضل، من أعيان أهل العلم والصّلاح، وحسبك أنّ سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه على تحرّيه يشهد له بذلك، توفّي سنة (1265 ه).
وأوّل من نقل منهم من تريم إلى عينات: الشّيخ محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بارضوان، المتوفّى سنة (1188 ه).
وفي عينات جماعة من آل بايعقوب، أظنّهم من أعقاب قاضي تريم في عصر السّقّاف الشّيخ بو بكر بن محمّد بن أحمد بايعقوب، وناس من آل باحنان وآل باعبده وغيرهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
9-العباب الزاخر (قحط)
قحطالقحط: لجدبُ. يقال: قحطَ المطرُ بقحطُ قحوطًا: إذا احتبس. وقال أعرابي لعمرُ -رضى الله عنه-: قحدط السحابُ، وقال ابن دريدٍ: قحدطتِ الأرض وقحطتْ وقحطًا. وحكى الفراءُ: قحط -مثالُ سمعَ- وقحط -على ما لم يسم فاعله-. وسنة قحط وقحيط. وزمن قاحط، وأزمن قواحط.
والفراء: قحط -مثالُ سمعَ- وقحطَ -على ما لم يسم فاعله-. وسنة قحط وقحيط. وزمن قاحط، وأزمن قواحط.
ورجل قحطي: وهو الآكولُ الذي يبقي شيئًا من الطعام، وهذا من كلام الحاضرة، نسبوه إلى القحط لكثرةُ الأكلِ.
وقحطانُ: أبو اليمن، وهو قحطان بن عابر بن شالحَ بن أرفخشد بن سام بن نوح -صلواتُ الله على نوح-. وقال ابن دريد: وقد نسبوا إليه قحطاني، وأقحاطي على غير القياس.
وقولُ رؤبة:
«دانتْ له والسخط للسخاط *** نزارهاُ ويامنُ الاقحاط»
أراد: بني قحطان.
وقال ابن دريدٍ: القحطةُ: ضرب من النبتٍ؛ قال؛ وليس يثبت.
وضرب قحيط: أي شديد. والقحط: الضربُ الشديد.
وقال ابن عبادٍ: المقحطُ من الخيلِ: الذي لا يكادُ يعيي من الجري، وأنشد: يعاودُ الشد معنًا مقحطًا وعام مقحط: ذو قحطٍ، قال إبراهيم بن علي بن محمد بن سلمة بن عامر بن هرمة:
«ودواديًا وأواريًا لم يعـفـهـا *** ما مر من مطرٍ وعامٍ مقحط»
وأقحط القومُ: أي أصابهم القحطُ. وأقحط الله الأرض: أصابها بالقحط.
وأقحط الرجلُ: إذا خالط أهله ولم ينزلْ، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: من جامع فأقحط فلا غسل عليه. ومر النبي صلى الله عليه وسلم- من جامع فأقحط فلا غُسْل عليه. ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم- على دار عتبان بن مالكٍ الأنصاري -رضى الله عنه- بقباء فناداه وهو مخالط أهله فأكسلَ واغتسل وآتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاخبره الخبر فقال: إذا أعجلتَ أو أقحطتَ فلا غسل عليك وعليك الوضوء. قال الصغاني مؤلف هذا الكتاب: هذا كان في أول الإسلام ثم نسخَ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: إذا قعد بين شُعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجبَ الغسلُ.
والتركيبُ يدلُ على احتباس الخير ثم يستعارُ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
10-المعجم المفصل في النحو العربي (الترجي)
التّرجّيلغة: مصدر ترجّى الشيء: رغب فيه.
واصطلاحا: توقّع حصول أمر ميسّر التّحقيق، مرغوب فيه، كقوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فالكلمة «لعلّهم» تدلّ على التّرجي وهو الحرف المشبّه بالفعل الذي يستعمل في الممكنات. والفرق بين التّمنّي والتّرجي أنّ التّمنّي مطلب أمر صعب التّحقيق وربما كان مستحيلا، مثل:
«ألا ليت الشباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
أمّا التّرجّي فهو توقع أمر مشكوك فيه، أو مظنون، كالآية السّابقة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
11-المعجم المفصل في النحو العربي (التمني)
التّمنّيلغة: مصدر تمنّى الشيء: أحبّ أن يصير إليه.
اصطلاحا: هو الرّغبة في تحقق طلب ما لا مطمع فيه، أو ما فيه عسر، كقول الشاعر:
«ألا ليتني ألقى المنيّة بغتة***إن كان يوم لقائكم لم يقدر”
ومثل:
«ألا ليت الشّباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
اصطلاحا أيضا: من معاني الحروف التالية:
1 ـ «ليت» وهي الأداة الأساسيّة للتمنّي، كقوله تعالى: {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} «ليت»: حرف تمنّ من الأحراف المشبّهة بالفعل تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الأول اسما لها وترفع الخبر خبرا لها. «قومي» اسم «ليت» منصوب بالفتحة المقدّرة على ما قبل «ياء» المتكلّم وهو مضاف و «الياء» في محل جرّ بالإضافة. وجملة «يعلمون» في محل رفع خبر «ليت».
2 ـ «لو» كقوله تعالى: لو {أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} «لو» حرف تمن فهو لا يحتاج إلى جواب مثل «لو» الشرطيّة، وجوابها منصوب بـ «أن» المضمرة بعد فاء السّببية «فنكون»: الفاء السببيّة «نكون» فعل مضارع ناقص منصوب بـ «أن» المضمرة بعد «فاء» السّبب.
3 ـ «هل» مثل: «ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم»، ومثل: «هل لي أن أسافر إلى القمر».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
12-المعجم المفصل في النحو العربي (حروف التمني)
حروف التّمنّياصطلاحا: هي: «ليت»، «لو»، «هل»، كقول الشاعر: «ألا ليت الشباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
حيث أتت «ليت» وتفيد التّمني وهي موضوعة له. والتّمنّي: هو طلب شيء مستحيل وقوعه أو فيه عسر. أمّا «لو» و «هل» فيفهم منهما التّمنّي من السياق مثل: «وددت لو أكرمتني» وحروف التمني هي من حروف المعاني.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
13-المعجم المفصل في النحو العربي (الطلب غير المحض)
الطّلب غير المحضاصطلاحا: هو الطلب غير المباشر الذي يكون تابعا لمعنى آخر يتضمن طلبا، أو يكون محمولا في ادائه على غيره ويشمل: الاستفهام، العرض، التّحضيض، التّمني، الترجّي، كقول الشاعر: «ألا ليت الشباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
14-المعجم المفصل في النحو العربي (ليت)
ليتهي من الأحرف المشبهة بالفعل تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب المبتدأ اسما لها وترفع الخبر خبرا لها، وهي تفيد التّمنّي، أي: الرّغبة في تحقّق شيء محبوب حصوله سواء أكان ممكنا حصوله، مثل: «ليت الثوب جديد» أو غير ممكن حصوله، كقول الشاعر:
«ألا ليت الشباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
«الشباب»: اسم «ليت» منصوب بالفتحة الظّاهرة على آخره وجملة «يعود» هي جملة مضارعيّة مثبتة تقع خبرا لـ «ليت».
ولا يصحّ أن يكون التّمنّي في شيء محتوم وقوعه، مثل: «ليت السنة الجديدة تأتي» لأنه لا يمكن أن يحصل ذلك إلا بوقت معلوم. وأسلوب «ليت» هو أسلوب إنشائي طلبي، فالانشائي هو الذي لا يحتمل الصّدق والكذب. والطّلب يتضمن: الأمر، والنّهي، والدعاء، والاستفهام، والعرض، والتّحضيض، والتّمنّي، والتّرجّي.
والأسلوب الإنشائي غير الطّلبي هو الذي يتضمن: «التعجب»، مثل: «لله درّه فارسا» والنّداء مثل: يا رجل...
وقد تدخل «ليت» على «أنّ» فتستغني عن اسمها وخبرها، ويكون المصدر المؤول من «أنّ» مع معموليها سادا مسد معمولي «ليت» مثل: «ليت أنّ المسافر يعود».
وتنفرد «ليت» عن باقي أخواتها في جملة أحوال منها:
1 ـ جواز عملها أو بطلانه إذا دخلت عليها «ما» الكافّة، كقول الشاعر:
«ألا ليتما هذا الحمام لنا***إلى حمامتنا أو نصفه فقد»
حيث دخلت «ما» الكافّة على «ليت» فإمّا أن تكفّها عن العمل ويرجع ما بعدها مبتدأ وخبر فيكون الإعراب كالآتي: ليتما»: كافّة ومكفوفة، «هذا»: «الهاء»: للتنبيه، و «ذا»: اسم إشارة مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ. «الحمام» بالضمّ: بدل من «هذا» «أو»: حرف عطف «نصفه» معطوف على «الحمام» «والهاء» في محل جر بالإضافة وخبر «ليت» شبه الجملة «لنا» وإمّا أن يبقى عملها فيكون الإعراب على الوجه الآتي: «ليتما»: حرف مشبّه بالفعل و «ما» زائدة «هذا» في محل نصب اسم «ليت» «الحمام» بالنّصب: بدل من «هذا» «نصفه» بالنصب معطوف على الحمام. وشبه الجملة «لنا» في محل نصب خبر «ليت». وكقول الشاعر:
«يا ليتما أمّنا شالت نعامتها***أيما الى جنّة أيما الى نار»
حيث دخلت «ما» على «ليت» فإما أن يبقى عملها فتعرب «أمّنا» اسم «ليت» منصوب و «نا» في محل جر بالإضافة، وجملة «شالت نعامتها»: خبر «ليت» أو أن يلغى عملها فتعرب «أمّنا» مبتدأ مع الضمير «نا» مضاف إليه، وجملة «شالت نعامتها» خبر المبتدأ.
2 ـ وتدخل «ياء» حرف النّداء على «ليت» فتصير حرفا للتنبيه أو للنداء كالمثل السابق: ألا ليتما... وكقول الشاعر:
«لكنّه شاقة أن قيل: ذا رجب ***يا ليت عدّة حول كلّه رجب»
حيث دخلت «يا» على «ليت». فإمّا أن تكون حرف «نداء» والمنادى محذوف وإمّا أن تكون حرف تنبيه فقط، واسم «ليت» هو كلمة «عدّة»، «رجب» خبرها.
3 ـ وتتّصل «ليت» بياء المتكلّم المسبوقة بنون الوقاية، كقول الشاعر:
«يا ليتني وأنت يا لميس ***في بلدة ليس بها أنيس»
حيث دخل حرف النّداء أو التنبيه على «ليت» واتصلت بها «ياء» المتكلم، فدخلت بينهما نون الوقاية. و «ياء» المتكلم اسم «ليت» وشبه الجملة في «بلدة» خبرها.
4 ـ وتستعمل «ليت» كاسم يقصد منها لفظها فقط دون معناها، كقول الشاعر:
«ليت وهل ينفع شيئا ليت ***ليت شبابا بوع فاشتريت»
حيث وردت «ليت» على ثلاثة أنواع: الأوّل: هي حرف تمنّ ونصب من أخوات «إنّ». والثاني: مقصود بها لفظها فقط، وهي فاعل «ينفع» مرفوع بالضّمّة، والثالث: هي توكيد للأولى حرف تمنّ ونصب، «شبابا» اسم «ليت» الأولى وجملة «بوع» خبرها.
5 ـ وتقبل «ليت» دخول «ألا» الاستفتاحيّة عليها، كقول الشاعر:
«ألا ليت شعري هل إلي أمّ جحدر***سبيل، فأمّا الصبر عنها فلا صبرا»
حيث دخلت «ألا» الاستفتاحيّة على «ليت».
«شعري»: اسمها «والياء»: مضاف إليه وخبرها محذوف تقديره: حاصل.
6 ـ وتدخل «ياء» المتكلم على «ليت» بدون أن تسبقها نون الوقاية، كقول الشاعر:
«زعموا أنني ذهلت وليتي ***أستطيع الغداة عنه ذهولا»
فقد دخلت «ياء» المتكلم على «ليت» دون أن تسبقها نون الوقاية وربما كان ذلك للضرورة الشعريّة، وكقول الشاعر:
«كمنية جابر إذ قال ليتي ***أصادفه وأفقد بعض مالي»
إذ لم تدخل «نون» الوقاية على آخر «ليت» قبل ياء المتكلم.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
15-المعجم المفصل في النحو العربي (المشبه بالفعل)
المشبه بالفعلاصطلاحا: هي الحروف من أخوات «إنّ»، التي تدخل على المبتدأ والخبر، فتنصب الأول اسما لها، وترفع الثّاني خبرا لها، مثل قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ومثل:
«ألا ليت الشباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
16-المعجم المفصّل في الإعراب (ليت)
ليت ـحرف مشبّه بالفعل، من أخوات «إنّ»، بمعنى التمنّي، ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، نحو قول الشاعر:
«ألا ليت الشّباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب»
(«ألا»: حرف استفتاح وتنبيه مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب. «ليت»: من أخوات «إنّ» حرف تمنّ ونصب مبنيّ على الفتحة لا محلّ له من الإعراب.
«الشباب»: اسم «ليت» منصوب بالفتحة الظاهرة.
«يعود»: فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة. وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره: هو. وجملة «يعود» الفعليّة في محل رفع خبر «ليت»).
المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م
17-معجم البلدان (الألاهة)
الأُلاهَةُ:حدث المفضّل بن سلمة قال: كان أفنون، واسمه صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن تغلب، سأل كاهنا عن موته، فأخبره أنه يموت بمكان يقال له الألاهة، وكان أفنون قد سار في رهط إلى الشام فأتوها ثم انصرفوا، فضلّوا الطريق فاستقبلهم رجل فسألوه عن طريقهم فقال: خذوا كذا وكذا فإذا عنّت لكم الألاهة، وهي قارة بالسماوة، وضح لكم الطريق، فلما سمع أفنون ذكر الألاهة تطيّر وقال لأصحابه: إني ميّت! قالوا: ما عليك باس، قال: لست بارحا، فنهش حماره ونهق فسقط، فقال: إني ميّت! قالوا: ما عليك باس، قال: ولم ركض الحمار؟ فأرسلها مثلا، ثم قال يرثي نفسه وهو يجود بها:
«ألا لست في شيء فروحا معاويا، *** ولا المشفقات إذ تبعن الحوازيا»
«فلا خير فيما يكذب المرء نفسه *** وتقواله للشيء: يا ليت ذا ليا! »
«لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي، *** إذا هو لم يجعل له الله واقيا»
«كفى حزنا أن يرحل الركب غدوة، *** وأصبح في عليا الألاهة ثاويا»
وقال عدي بن الرقاع العاملي:
«كلّما ردّنا شطا عن هواها، *** شطنت ذات ميعة حقباء»
«بغراب إلى الألاهة، حتى *** تبعت أمّهاتها الأطلاء»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
18-معجم البلدان (البحرين)
البَحْرين:هكذا يتلفظ بها في حال الرفع والنصب والجر، ولم يسمع على لفظ المرفوع من أحد منهم، إلّا أن الزمخشري قد حكى أنه بلفظ التثنية فيقولون:
هذه البحران وانتهينا الى البحرين، ولم يبلغني من جهة أخرى، وقال صاحب الزيج: البحرين في الإقليم الثاني، وطولها أربع وسبعون درجة وعشرون دقيقة من المغرب، وعرضها أربع وعشرون درجة
وخمس وأربعون دقيقة، وقال قوم: هي من الإقليم الثالث وعرضها أربع وثلاثون درجة، وهو اسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان، قيل هي قصبة هجر، وقيل: هجر قصبة البحرين وقد عدّها قوم من اليمن وجعلها آخرون قصبة برأسها.
وفيها عيون ومياه وبلاد واسعة، وربما عدّ بعضهم اليمامة من أعمالها والصحيح أن اليمامة عمل برأسه في وسط الطريق بين مكة والبحرين.
روى ابن عباس: البحرين من أعمال العراق وحدّه من عمان ناحية جرّفار، واليمامة على جبالها وربما ضمّت اليمامة الى المدينة وربما أفردت، هذا كان في أيام بني أميّة، فلما ولي بنو العباس صيّروا عمان والبحرين واليمامة عملا واحدا، قاله ابن الفقيه، وقال أبو عبيدة: بين البحرين واليمامة مسيرة عشرة أيام وبين هجر مدينة البحرين والبصرة مسيرة خمسة عشر يوما على الإبل، وبينها وبين عمان مسيرة شهر، قال: والبحرين هي الخطّ والقطيف والآرة وهجر وبينونة والزارة وجواثا والسابور ودارين والغابة، قال: وقصبة هجر الصّفا والمشقّر، وقال أبو بكر محمد بن القاسم: في اشتقاق البحرين وجهان:
يجوز أن يكون مأخوذا من قول العرب بحرت الناقة إذا شقّقت أذنها، والبحيرة: المشقوقة الأذن من قول الله تعالى: ما جَعَلَ الله من بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ 5: 103، والسائبة معناها: ان الرجل في الجاهلية كان يسيب من ماله فيذهب به الى سدنة الآلهة، ويقال: السائبة الناقة التي كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجزّ لها وبر وبحرت أذن ابنتها أي خرقت. والبحيرة:
هي ابنة السائبة، وهي تجري عندهم مجرى أمّها في التحريم، قال: ويجوز ان يكون البحرين من قول العرب: قد بحر البعير بحرا إذا أولع بالماء فأصابه منه داء، ويقال: قد أبحرت الروضة إبحارا إذا كثر إنقاع الماء فيها فأنبت النبات، ويقال للروضة:
البحرة، ويقال للدم الذي ليست فيه صفرة: دم باحريّ وبحرانيّ، قلت: هذا كله تعسف لا يشبه ان يكون اشتقاقا للبحرين، والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: انما سمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال:
وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق، وقال أبو محمد اليزيدي: سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة الى البحرين والى حصنين لم قالوا حصنيّ وبحرانيّ؟
فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا حصنانيّ لاجتماع النونين، وانما قلت: كرهوا أن يقولوا بحريّ فتشبه النسبة الى البحر، وفي قصتها طول ذكرتها في أخبار اليزيدي من كتابي في أخبار الأدباء، وينسب الى البحرين قوم من أهل العلم، منهم محمد بن معمّر البحراني بصريّ ثقة حدّث عنه البخاري، والعباس ابن يزيد بن أبي حبيب البحراني، يعرف بعبّاسوية، حدث عن خالد بن الحارث وابن عيينة ويزيد بن زريع وغيرهم، روى عنه الباغندي وابن صاعد وابن مخلد، وهو من الثقات، مات سنة 258، وزكرياء بن عطية البحراني وغيرهم. واما فتحها فإنها كانت في مملكة الفرس وكان بها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم مقيمين في باديتها، وكان بها من قبل الفرس المنذر بن ساوي بن عبد الله ابن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وعبد الله بن زيد هذا هو الأسبذي، نسب الى قرية بهجر، وقد ذكر
في موضعه. فلما كانت سنة ثمان للهجرة وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي حليف بني عبد شمس الى البحرين ليدعو أهلها الى الإسلام أو الى الجزية، وكتب معه الى المنذر بن ساوي والى سيبخت مرزبان هجر يدعوهما الى الإسلام أو الى ا
ان عمر ولّى أبا هريرة قبل موت العلاء فأتى العلاء توّج من أرض فارس وعزم على المقام بها ثم رجع الى البحرين فأقام هناك حتى مات، فكان أبو هريرة يقول: دفنّا العلاء ثم احتجنا الى رفع لبنة فرفعناها فلم نجد العلاء في اللحد. وقال أبو مخنف: كتب عمر بن الخطاب الى العلاء بن الحضرمي يستقدمه وولى عثمان بن أبي العاصي البحرين مكانه وعمان، فلما قدم العلاء المدينة ولّاه البصرة مكان عتبة بن غزوان فلم يصل إليها حتى مات، ودفن في طريق البصرة في سنة 14 أو في أول سنة 15، ثم ان عمر ولى قدامة ابن مظعون الجمحي جباية البحرين وولى أبا هريرة الصلاة والاحداث، ثم عزل قدامة وحدّه على شرب الخمر، وولى أبا هريرة الجباية مع الاحداث، ثم عزله وقاسمه ماله، ثم ولى عثمان بن أبي العاصي عمان والبحرين فمات عمر وهو واليهما، وسار عثمان الى فارس ففتحها وكان خليفته على عمان والبحرين وهو بفارس أخاه مغيرة بن أبي العاصي. وروى محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: استعملني عمر بن الخطاب على البحرين فاجتمعت لي اثنا عشر ألفا، فلما قدمت على عمر قال لي: يا عدو الله والمسلمين، أو قال: عدو كتابه، سرقت مال الله، قال قلت: لست بعدو الله ولا المسلمين، أو قال: عدو كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين اجتمعت لك هذه الأموال؟ قلت:
خيل لي تناتجت وسهام اجتمعت، قال: فأخذ منى
اثني عشر ألفا، فلما صلّيت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر، قال: وكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضل من ذلك، حتى إذا كان بعد ذلك قال: ألا تعمل يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ولم وقد عمل من هو خير منك يوسف؟ قال اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم، قلت: يوسف نبي ابن نب
«ألا أبلغ أبا بكر ألوكا، *** وفتيان المدينة أجمعينا»
«فهل لك في شباب منك أمسوا *** أسارى في جواث محاصرينا»
ثم ان العلاء عني بالحطم ومن معه وصابره وهما متناصفان، فسمع في ليلة في عسكر الحطم ضوضاء، فأرسل اليه من يأتيه بالخبر، فرجع الرسول فأخبره أن القوم قد شربوا وثملوا، فخرج بالمسلمين فبيّت ربيعة فقاتلوا قتالا شديدا فقتل الحطم. قالوا: وكان المنذر بن النعمان يسمى الغرور، فلما ظهر المسلمون قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفلّ ربيعة بالخط فأتاها العلاء وفتحها، وقتل المنذر معه، وقيل: بل قتل المنذر يوم جواثا، وقيل:
بل استأمن ثم هرب فلحق فقتل، وكان العلاء كتب الى أبي بكر يستمده فكتب أبو بكر الى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالنهوض اليه، فقدم عليه وقد قتل الحطم، ثم أتاه كتاب أبي بكر بالشخوص الى العراق فشخص من البحرين، وذلك في سنة 12، فقالوا: وتحصن المكعبر الفارسي صاحب كسرى الذي وجهه لقتل بني تميم حين عرضوا لعيره بالزارة، وانضمّ اليه مجوس كانوا تجمّعوا بالقطيف وامتنعوا من أداء الجزية، فأقام العلاء على الزارة فلم يفتحها في خلافة أبي بكر وفتحها في خلافة عمر، وقتل المكعبر، وانما سمي المكعبر لأنه كان يكعبر الايدي، فلما قتل قيل ما زال يكعبر حتى كعبر، فسمي المكعبر، بفتح الباء، وكان الذي قتله البراء بن مالك الأنصاري أخو أنس بن مالك. وفتح العلاء السابور ودارين في خلافة عمر عنوة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
19-معجم البلدان (حضرموت)
حَضْرَمَوْت:بالفتح ثم السكون، وفتح الراء والميم:
اسمان مركبان، طولها إحدى وسبعون درجة، وعرضها اثنتا عشرة درجة، فأما إعرابها فإن شئت بنيت الاسم الأول على الفتح وأعربت الثاني بإعراب ما لا ينصرف فقلت: هذا حضرموت، وإن شئت رفعت الأول في حال الرفع وجررته ونصبته على حسب العوامل وأضفته على الثاني فقلت: هذا حضرموت، أعربت حضرا وخفضت موتا، ولك أن تعرب الأول وتخير في الثاني بين الصرف وتركه، ومنهم من يضم ميمه فيخرجه مخرج عنكبوت، وكذلك القول في سرّ من رأى ورامهرمز، والنسبة إليه حضرميّ، والتصغير حضيرموت تصغير الصدر منهما، وكذلك الجمع، يقال: فلان من الحضارمة مثل المهالبة، وقيل: سميت بحاضر ميّت وهو أول من نزلها، ثم خفف بإسقاط الألف، قال ابن الكلبي: اسم حضرموت في التوراة حاضر ميت، وقيل: سميت بحضرموت بن يقطن بن عامر بن شالخ، وقيل: اسم حضرموت عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائلة بن الغوث بن قطن بن عريب ابن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ، وقيل:
حضرموت اسمه عامر بن قحطان وإنما سمي حضرموت لأنه كان إذا حضر حربا أكثر فيها من القتل فلقب بذلك، ثم سكّنت الضاد للتخفيف، وقال أبو عبيدة: حضرموت بن قحطان نزل هذا المكان فسمي به، فهو اسم موضع واسم قبيلة. وحضرموت:
ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود، عليه السلام، ويقربها بئر برهوت المذكورة فيما تقدم، ولها مدينتان يقال لإحداهما تريم وللأخرى شبام، وعندها قلاع وقرى، وقال ابن الفقيه: حضرموت مخلاف من اليمن بينه وبين البحر رمال، وبينه وبين مخلاف صداء ثلاثون فرسخا، وبين حضرموت وصنعاء اثنان وسبعون فرسخا، وقيل: مسيرة أحد عشر يوما، وقال الإصطخري: بين حضرموت وعدن مسيرة شهر، وقال عمرو بن معدي كرب:
«والأشعث الكنديّ، حين إذ سما لنا *** من حضرموت، مجنّب الذكران»
«قاد الجياد، علىّ وجاها أشريا، *** قبّ البطون نواحل الأبدان»
وقال عليّ بن محمد الصليحي الخارج باليمن:
«وألذّ من قرع المثاني عنده، *** في الحرب، ألجم يا غلام وأسرج»
«خيل بأقصى حضرموت أسدها، *** وزئيرها بين العراق ومنبج»
وأما فتحها: فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان قد راس أهلها فيمن راسل فدخلوا في طاعته وقدم عليه الأشعث بن قيس في بضعة عشر راكبا مسلما، فأكرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الانصراف سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يولي عليهم رجلا منهم، فولى عليهم زياد ابن لبيد البياضي الأنصاري وضم إليه كندة، فبقي على ذلك إلى أن مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتدّت بنو وليعة بن شرحبيل بن معاوية، وكان من حديثه أن أبا بكر، رضي الله عنه، كتب إلى زياد بن لبيد يخبره بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ويأمره بأخذ البيعة على من قبله من أهل حضرموت، فقام فيهم زياد خطيبا وعرّفهم موت النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى بيعة أبي بكر، فامتنع الأشعث بن قيس من البيعة واعتزل في كثير من كندة وبايع زيادا خلق آخرون وانصرف إلى منزله وبكر لأخذ الصدقة كما كان يفعل، فأخذ فيما أخذ قلوصا من فتى من كندة، فصيّح الفتى وضجّ واستغاث بحارثة بن سراقة بن معدي كرب بن وليعة ابن شرحبيل بن معاوية بن حجر القرد بن الحارث:
الولّادة يا أبا معدي كرب! عقلت ابنة المهرة، فأتى حارثة إلى زياد فقال: أطلق للغلام بكرته، فأبى وقال: قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا قبل أن تطلقها وأنت كاره! فقال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمة عين! فقام حارثة فحلّ عقالها وضرب على جنبها
فخرجت القلوص تعدو إلى ألّافها، فجعل حارثة يقول:
«يمنعها شيخ بخدّيه الشيب *** ملمّع كما يلمّع الثوب»
ماض على الرّيب إذا كان الريب
فنهض زياد وصاح بأصحابه المسلمين ودعاهم إلى نصرة الله وكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد وجعل من ارتدّ ينحاز إلى حارثة، فجعل حارثة يقول:
«أطعنا رسول الله ما دام بيننا، *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر؟»
«أيورثها بكرا، إذا مات، بعده، *** فتلك، لعمر الله، قاصمة الظهر! »
فكان زياد يقاتلهم نهارا إلى الليل، وجاءه عبد له فأخبره أن ملوكهم الأربعة، وهم: مخوس ومشرح وجمد وأبضعة وأختهم العمرّدة بنو معدي كرب ابن وليعة في محجرهم قد ثملوا من الشراب، فكبسهم وأخذهم وذبحهم ذبحا، وقال زياد:
«نحن قتلنا الأملاك الأربعة: *** جمدا ومخوسا ومشرحا وأبضعه»
وسمّوا ملوكا لأنه كان لكلّ واحد منهم واد يملكه، قال: وأقبل زياد بالسبي والأموال فمرّ على الأشعث بن قيس وقومه فصرخ النساء والصبيان، فحمي الأشعث أنفا وخرج في جماعة من قومه فعرض لزياد ومن معه وأصيب ناس من المسلمين وانهزموا، فاجتمعت عظماء كندة على الأشعث فلما رأى ذلك زياد كتب إلى أبي بكر يستمدّه، فكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية، وكان واليا على صنعاء قبل قتل الأسود العنسي، فأمره بإنجاده، فلقيا الأشعث ففضّا جموعه وقتلا منهم مقتلة كبيرة، فلجؤوا إلى النّجير حصن لهم، فحصرهم المسلمون حتى أجهدوا، فطلب الأشعث الأمان لعدّة منهم معلومة هو أحدهم، فلقيه الجفشيش الكندي واسمه معدان بن الأسود بن معدي كرب، فأخذ بحقوه وقال: اجعلني من العدّة، فأدخله وأخرج نفسه ونزل إلى زياد بن لبيد والمهاجر فقبضا عليه وبعثا به إلى أبي بكر، رضي الله عنه، أسيرا في سنة 12، فجعل يكلم أبا بكر وأبو بكر يقول له: فعلت وفعلت، فقال الأشعث: استبقني لحربك فو الله ما كفرت بعد إسلامي ولكني شححت على مالي فأطلقني وزوّجني أختك أمّ فروة فإني قد تبت مما صنعت ورجعت منه من منعي الصدقة، فمنّ عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وزوّجه أخته أمّ فروة، ولما تزوّجها دخل السوق فلم يمرّ به جزور إلا كشف عن عرقوبها وأعطى ثمنها وأطعم الناس، وولدت له أمّ فروة محمدا وإسحاق وأمّ قريبة وحبّانة، ولم يزل بالمدينة إلى أن سار إلى العراق غازيا، ومات بالكوفة، وصلّى عليه الحسن بعد صلح معاوية.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
20-معجم البلدان (الحيرة)
الحِيرَةُ:بالكسر ثم السكون، وراء: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النّجف زعموا أن بحر فارس كان يتّصل به، وبالحيرة الخورنق بقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل، والسدير في وسط البرّيّة التي بينها وبين الشام، كانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من زمن نصر ثم من لخم النعمان وآبائه، والنسبة إليها حاريّ على غير قياس كما نسبوا إلى النمر نمريّ، قال عمرو بن معدي كرب:
«كأن الإثمد الحاريّ منها *** يسفّ بحيث تبتدر الدموع»
وحيريّ أيضا على القياس، كلّ قد جاء عنهم، ويقال لها الحيرة الرّوحاء، قال عاصم بن عمرو:
«صبحنا الحيرة الروحاء خيلا *** ورجلا، فوق أثباج الركاب»
«حضرنا في نواحيها قصورا *** مشرّفة كأضراس الكلاب»
وأما وصفهم إياها بالبياض فإنما أرادوا حسن العمارة،
وقيل: سمّيت الحيرة لأن تبّعا الأكبر لما قصد خراسان خلّف ضعفة جنده بذلك الموضع وقال لهم حيّروا به أي أقيموا به، وقال الزّجاجي: كان أول من نزل بها مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فلما نز
وقال أبو المنذر هشام بن محمد: كان بدو نزول العرب أرض العراق وثبوتهم بها واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلا أنّ الله عزّ وجل أوحى إلى يوحنا بن اختيار بن زربابل ابن شلثيل من ولد يهوذا بن يعقوب أن ائت بخت نصّر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب وأن يطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتليهم ويستبيح أموالهم وأعلمهم كفرهم بي واتخاذهم آلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، فأقبل يوحنا من نجران حتى قدم على بخت نصر وهو ببابل فأخبره بما أوحي إليه وذلك في زمن معدّ بن عدنان، قال:
فوثب بخت نصر على من كان في بلاده من تجار العرب فجمع من ظفر به منهم وبنى لهم حيرا على النجف وحصّنه ثم جعلهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظة ثم نادى في الناس بالغزو فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بخت نصر فيهم يوحنا فقال: خروجهم إليك من بلدهم قبل نهوضهم إليك رجوع منهم عما كانوا عليه فاقبل منهم وأحسن إليهم، فأنزلهم السواد على شاطئ الفرات وابتنوا موضع عسكرهم فسموه الأنبار، وخلّى عن أهل الحير فابتنوا في موضعه وسموها الحيرة لأنه كان حيرا مبنيّا، وما زالوا كذلك مدة حياة بخت نصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي الحير خرابا زمانا طويلا لا تطلع عليه طالعة من بلاد العرب وأهل الأنبار ومن انضمّ إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب بمكانهم، وكان بنو معدّ نزولا بتهامة وما والاها من البلاد ففرقتهم حروب وقعت بينهم فخرجوا يطلبون المتّسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف أرض الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها قبائل من الأزد كانوا نزلوها من زمان عمرو بن عامر بن ماء السماء بن الحارث الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ومازن هو جمّاع غسان، وغسان ماء شرب منه بنو مازن فسموا غسان ولم تشرب منه خزاعة ولا أسلم ولا بارق ولا أزد عمان فلا يقال لواحد من هذه القبائل غسان وإن كانوا من أولاد مازن، فتخلّفوا بها، فكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ومالك بن الزمير ابن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة في جماعة
من قومهم والحيقان بن الحيوة بن عمير بن قنص بن معدّ بن عدنان في قنص كلها، ثم لحق به غطفان بن عمرو بن طمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى ابن دعمي بن إياد فاجتمعوا بالبحرين وتحالفوا على التّنوخ، وهو المقام، وتعاقدوا على التناصر والتوازر فصاروا يدا على النا
«وغزانا تبّع من حمير، *** نازل الحيرة من أرض عدن»
فصار في الحيرة من جميع القبائل من مذحج وحمير وطيّء وكلب وتميم، ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة إلى طفّ الفرات وغربيه إلا أنهم كانوا بادية يسكنون المظالّ وخيم الشعر ولا ينزلون بيوت المدر، وكانت منازلهم فيما بين الأنبار والحيرة، فكانوا يسمّون عرب الضاحية، فكان أول من ملك منهم في زمن ملوك الطوائف مالك بن فهم أبو جذيمة الأبرش، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات فملك ابنه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا وأبعدهم مغارا وأشدهم نكاية وأظهرهم حزما، وهو أول من اجتمع له الملك بأرض العرب وغزا بالجيوش، وكان به برص وكانت العرب لا تنسبه إليه إعظاما له وإجلالا فكانوا يقولون جذيمة الوضّاح وجذيمة الأبرش، وكانت دار مملكته الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وعين التمر وأطراف البر إلى الغمير إلى القطقطانة وما وراء ذلك، تجبى إليه من هذه الأعمال الأموال وتفد عليه الوفود، وهو صاحب الزّبّاء وقصير، والقصة طويلة ليس ههنا موضعها، إلا أنه لما هلك صار ملكه إلى ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا
من الملوك، وهو أول ملوك هذا البيت من آل نصر، ولذلك يقول ابن رومانس الكلبي وهو أخو النعمان لأمه أمهما رومانس:
«ما فلاحي بعد الألى عمروا ال *** حيرة ما ان أرى لهم من باق»
«ولهم كان كل من ضرب العي *** ر بنجد إلى تخوم العراق»
فأقام ملكا مدة ثم مات عن مائة وعشرين سنة مطاع الأمر نافذ الحكم لا يدين لملوك الطوائف ولا يدينون له، إلى أن قدم أردشير بن بابك يريد الاستبداد بالملك وقهر ملوك الطوائف فكره كثير من تنوخ المقام بالعراق وأن يدينوا لأردشير فلحقوا بالشام وانضموا إلى من هناك من قضاعة، وجعل كل من أحدث من العرب حدثا خرج إلى ريف العراق ونزل الحيرة، فصار ذلك على أكثرهم هجنة، فأهل الحيرة ثلاثة أصناف: فثلث تنوخ، وهم كانوا أصحاب المظال وبيوت الشعر ينزلون غربي الفرات فيما بين الحيرة والأنبار فما فوقها، والثلث الثاني العبّاد، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى تعبدوا لملوكها وأقاموا هناك، وثلث الأحلاف، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها فمن لم يكن من تنوخ الوبر ولا من العباد دانوا لأردشير، فكان أول عمارة الحيرة في زمن بخت نصر ثم خربت الحيرة بعد موت بخت نصر وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة ثم عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي باتخاذه إياها مسكنا فعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن عمرت الكوفة ونزلها المسلمون.
وينسب إلى الحيرة كعب بن عدي الحيري، له صحبة، روى حديثه عمرو بن الحارث عن ناعم بن أجيل بن كعب بن عدي الحيري. والحيرة أيضا: محلة كبيرة مشهورة بنيسابور، ينسب إليها كثير من المحدثين، منهم: أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري صاحب حاجب بن أحمد وأبي العباس الأموي، قال أبو موسى محمد بن عمر الحافظ الأصبهاني: أما أبو بكر الحيري فقد ذكر سبطه أبو البركات مسعود بن عبد الرحيم بن أبي بكر الحيري أن أجداده كانوا من حيرة الكوفة وجاءوا إلى نيسابور فاستوطنوها، قال: فعلى هذا يحتمل أن يكونوا توطنوا محلة بنيسابور فنسبت المحلة إليهم كما ينسب بالكوفة والبصرة كل محلة إلى قبيلة نزلوها، والله أعلم. والحيرة أيضا: قرية بأرض فارس فيما زعموا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
21-معجم البلدان (سردوس)
سَرْدُوسُ:قال ابن عبد الحكم: كانت خلجان مصر سبعة على جوانبها الجنات، منها خليج سردوس، قال عمرو بن العاص: استعمل فرعون هامان على حفر خليج سردوس، فلمّا ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم ويعطونه مالا، فكان يذهب إلى هذه القرية من نحو المشرق ثمّ يردّه إلى قرية من نحو دبر القبلة ثمّ يرده إلى قرية في المغرب ثمّ يردّه إلى قرية في القبلة ويأخذ من كلّ قرية مالا حتى اجتمع له في ذلك مائة ألف دينار فأتى بذلك يحمله إلى فرعون، فسأله فرعون عن ذلك فأخبره بما فعل في حفره، فقال له فرعون: ويحك إنّه ينبغي للسيّد أن يعطف على عباده ويفيض عليهم ولا يرغب فيما في أيديهم، ردّ عليهم أموالهم، فردّ على أهل كلّ قرية ما أخذ منهم جميعه، فلا يعلم في مصر خليج أكثر عطوفا من سردوس لما فعله هامان في حفره، وقال ابن زولاق: لما فرغ هامان من حفر خليج سردوس سأله فرعون عمّا أنفقه عليه فقال:
أنفقت عليه مائة ألف دينار أعطانيها أهل القرى، فقال له: ما أحوجك إلى من يضرب عنقك، آخذ من عبيدي مالا على منافعهم! ردّها عليهم، ففعل.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
22-معجم البلدان (سمرقند)
سَمَرْقَنْدُ:بفتح أوّله وثانيه، ويقال لها بالعربيّة سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنّه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر، وهو قصبة الصّغد مبنيّة
على جنوبي وادي الصغد مرتفعة عليه، قال أبو عون:
سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف، وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب فسميت شمر كنت فأعربت فقيل سمرقند، هكذا تلفظ به العرب في كلامها وأشعارها، وقال يزيد بن مفرّغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
«لهفي على الأمر الذي *** كانت عواقبه النّدامه»
«تركي سعيدا ذا النّدى، *** والبيت ترفعه الدّعامه»
«فتحت سمرقند له، *** وبنى بعرصتها خيامه»
«وتبعت عبد بني علا *** ج، تلك أشراط القيامه»
وبالبطيحة من أرض كسكر قرية تسمى سمرقند أيضا، ذكره المفجّع في كتاب المنقذ من الإيمان في أخبار ملوك اليمن قال: لما مات ناشر ينعم الملك قام بالملك من بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة فجمع جنوده وسار في خمسمائة ألف رجل حتى ورد العراق فأعطاه يشتاسف الطاعة وعلم أن لا طاقة له به لكثرة جنوده وشدّة صولته، فسار من العراق لا يصدّه صادّ إلى بلاد الصين فلمّا صار بالصّغد اجتمع أهل تلك البلاد وتحصّنوا منه بمدينة سمرقند فأحاط بمن فيها من كلّ وجه حتى استنزلهم بغير أمان فقتل منهم مقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهدمت فسميت شمركند، أي شمر هدمها، فعرّبتها العرب فقالت سمرقند، وقد ذكر ذلك دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها ويردّ بها على الكميت ويذكر التبابعة:
«وهم كتبوا الكتاب بباب مرو، *** وباب الصّين كانوا الكاتبينا»
«وهم سمّوا قديما سمرقندا، *** وهم غرسوا هناك التّبّتينا»
فسار شمر وهو يريد الصين فمات هو وأصحابه عطشا ولم يرجع منهم مخبّر، فبقيت سمرقند خرابا إلى أن ملك تبّع الأقرن بن أبي مالك بن ناشر ينعم فلم تكن له همّة إلّا الطلب بثأر جدّه شمر الذي هلك بأرض الصين فتجهّز واستعدّ وسار في جنوده نحو العراق فخرج إليه بهمن بن إسفنديار وأعطاه الطاعة وحمل إليه الخراج حتى وصل إلى سمرقند فوجدها خرابا، فأمر بعمارتها وأقام عليها حتى ردّها إلى أفضل ما كانت عليه، وسار حتى أتى بلادا واسعة فبنى التّبّت كما ذكرنا، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأحرق وعاد إلى اليمن في قصة طويلة، وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا، وفيها بساتين ومزارع وأرحاء، ولها اثنا عشر بابا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كلّ بابين منزل للنوّاب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق، وفي ربضها من المزارع عشرة آلاف جريب، ولهذه المدينة، أعني الداخلة، أربعة أبواب، وساحتها ألفان وخمسمائة جريب، وفيها المسجد الجامع والقهندز وفيه مسكن السلطان، وفي هذه المدينة الداخلة نهر يجري في رصاص، وهو نهر قد بني عليه مسنّاة عالية من حجر يجري عليه الماء إلى أن يدخل المدينة من باب كسّ، ووجه هذا النهر رصاص كلّه، وقد عمل في خندق المدينة مسنّاة وأجري عليها، وهو نهر يجري في وسط السوق بموضع يعرف بباب الطاق،
وكان أعمر موضع بسمرقند، وعلى حافات هذا النهر غلّات موقوفة على من بات في هذا النهر وحفظة من المجوس عليهم حفظ هذا النهر شتاء وصيفا مستفرض ذلك عليهم، وفي المدينة مياه من هذا النهر عليها بساتين، وليس من سكة ولا دار إلّا وبها ماء جار إلّا القليل، وقلّما تخل
ثبت فيها ملك العرب، وأخذ رهانهم وانصرف، فلمّا كانت سنة 87 عبر قتيبة بن مسلم النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثمّ غزا ما وراء النهر عدّة غزوات في سنين سبع وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام فسلب حليها وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصناما من أحرقها هلك! فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأضرمها فاضطرمت فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وبسمرقند عدّة مدن مذكورة في مواضعها، منها: كرمانية ودبوسية وأشروسنة والشاش ونخشب وبناكث، وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند، وقد شبهها حضين بن المنذر الرقاشي فقال:
كأنّها السماء للخضرة وقصورها الكواكب للإشراق ونهرها المجرّة للاعتراض وسورها الشمس للإطباق، ووجد بخط بعض ظرفاء العراق مكتوبا على حائط سمرقند:
«وليس اختياري سمرقند محلّة *** ودار مقام لاختيار ولا رضا»
«ولكنّ قلبي حلّ فيها فعاقني *** وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا»
«وإنّي لممّن يرقب الدّهر راجيا *** ليوم سرور غير مغرى بما مضى»
وقال أحمد بن واضح في صفة سمرقند:
«علت سمرقند أن يقال لها *** زين خراسان جنّة الكور»
«أليس أبراجها معلّقة *** بحيث لا تستبين للنّظر»
«ودون أبراجها خنادقها *** عميقة ما ترام من ثغر»
«كأنّها وهي وسط حائطها *** محفوفة بالظّلال والشّجر»
«بدر وأنهارها المجرّة وال *** آطام مثل الكواكب الزّهر»
وقال البستي:
«للنّاس في أخراهم جنّة، *** وجنّة الدنيا سمرقند»
«يا من يسوّي أرض بلخ بها، *** هل يستوي الحنظل والقند؟»
قال الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية:
بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ، وبين بغداد وبين إفريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مائتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر
فرسخا، وقال الشيخ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن المظفّر الكسّي بسمرقند أنبأنا أبو الحسن عليّ بن عثمان بن إسماعيل الخرّاط إملاء أنبأنا عبد الجبار بن أحمد الخطيب أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخطيب
يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كلّ باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبّحون ويهلّلون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي يا دائم يا دائم يا الله يا صمد احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنّة ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وخارج المدينة على ثلاثة فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ويدعون الله بالذكر لهم، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيّات وحيّة تخرج على صفة الآدميّين تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبّد فيها ليلة تقبّل الله منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يوما فكأنّما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا، ومن مات في هذه المدينة فكأنّما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة، وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفع كلّ شهيد منهم في سبعين من أهل بيته، وقال حذيفة: وددت أن يوافقني هذا الزمان وكان أحبّ إليّ من أن أوافق ليلة القدر، وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، وينسب إلى سمرقند جماعة كثيرة، منهم: محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي نزيل مصر، سمع بدمشق أبا الحسين الميداني، وبمصر أبا مسلم الكاتب وأبا الحسن عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي وأبا الحسين أحمد بن محمد الأزهر التنيسي المعروف بابن السمناوي ومحمد ابن سراقة العامري وأحمد بن محمد الجمّازي وأبا القاسم الميمون بن حمزة الحسيني وأبا الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي وأبا الحسن علي بن محمد ابن سنان، روى عنه أبو الربيع سليمان بن داود بن أبي حفص الجبلي وأبو عبد الله بن الخطّاب وسهل بن بشر وأبو الحسن عليّ بن أحمد بن ثابت العثماني الديباجي وأبو محمد هيّاج بن عبيد الحطّيني، ومات سنة 444 وأحمد بن عمر بن الأشعث أبو بكر السمرقندي، سكن دمشق مدة وكان يكتب بها المصاحف ويقرأ ويقرئ القرآن، وسمع بدمشق أبا علي بن أبي نصر وأبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، روى عنه أبو الفضل كمّاد بن ناصر بن نصر المراغي الحدّادي، حدث عنه ابنه أبو القاسم، قال ابن عساكر:
سمعت الحسن بن قيس يذكر أن أبا بكر السمرقندي كان يكتب المصاحف من حفظه وكان لجماعة من أهل دمشق فيه رأي حسن فسمعت الحسن بن قيس يذكر أنّه خرج مع جماعة إلى ظاهر البلد في فرجة فقدّموه يصلي بهم وكان مزّاحا، فلمّا سجد بهم تركهم في
الصلاة وصعد إلى شجرة، فلمّا طال عليهم انتظاره رفعوا رؤوسهم فلم يجدوه فإذا هو في الشجرة يصيح صياح السنانير فسقط من أعينهم، فخرج إلى بغداد وترك أولاده بدمشق واتصل ببغداد بعفيف الخادم القائمي فكان يكرمه وأنزله في موضع من داره، فكان إذا جاءه الفرّاش بالطعا
سله عن سبب بكائه، فسأله فقال: إن لي بدمشق أولادا في ضيق فإذا جاءني الطعام تذكّرتهم، فأخبره الفرّاش بذلك، فقال: سله أين يسكنون وبمن يعرفون، فسأله فأخبره، فبعث عفيف إليهم من حملهم من دمشق إلى بغداد، فما أحسّ بهم أبو بكر حتى قدم عليه ابنه أبو محمد وقد خلّف أمّه وأخويه عبد الواحد وإسماعيل بالرحبة ثمّ قدموا بعد ذلك فلم يزالوا في ضيافة عفيف حتى مات، وسألت ابنه أبا القاسم عن وفاته فقال في رمضان سنة 489.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
23-معجم البلدان (الطائف)
الطائفُ:بعد الألف همزة في صورة الياء ثم فاء:
وهو في الإقليم الثاني، وعرضها إحدى وعشرون درجة، وبالطائف عقبة وهي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، عمّرها حسين ابن سلامة وسدّها ابنه، وهو عبد نوبيّ وزر لأبي
الحسين بن زياد صاحب اليمن في حدود سنة 430 فعمّر هذه العقبة عمارة يمشي في عرضها ثلاثة جمال بأحمالها، وقال أبو منصور: الطائف العاسّ بالليل، وأما الطائف التي بالغور فسميت طائفا بحائطها المبنيّ حولها المحدق بها، والطائف والطيف في قوله تعالى:
إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ من الشَّيْطانِ 7: 201، ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك، وقوله تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ من رَبِّكَ 68: 19، لا يكون الطائف إلا ليلا ولا يكون نهارا، وقيل في قول أبي طالب بن عبد المطلب:
نحن بنينا طائفا حصينا قالوا: يعني الطائف التي بالغور من القرى. والطائف:
هو وادي وجّ وهو بلاد ثقيف، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا، قرأت في كتاب ابن الكلبي بخط أحمد بن عبيد الله محجج النحوي: قال هشام عن أبي مسكين عن رجل من ثقيف كان عالما بالطائف قال:
كان رجل من الصّدف يقال له الدّمون بن عبد الملك قتل ابن عمّ له يقال له عمرو بحضرموت ثم أقبل هاربا، وقال:
«وحربة ناهك أوجرت عمرا، *** فما لي بعده أبدا قرار»
ثم أتى مسعود بن معتب الثقفي ومعه مال كثير وكان تاجرا فقال: أحالفكم لتزوّجوني وأزوّجكم وأبني لكم طوفا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب، قالوا: فابن، فبنى بذلك المال طوفا عليهم فسمّيت الطائف وتزوّج إليهم فزوّجوه ابنة، قال هشام: وبعض ولد الدمون بالكوفة ولهم بها خطّة مع ثقيف، وكان قبيصة من الدمون هذا على شرطة المغيرة بن شعبة إذ كان على الكوفة، وكانت الطائف تسمّى قبل ذلك وجّا بوجّ بن عبد الحيّ من العماليق وهو أخو أجإ الذي سمّي به جبل طيّء، وهو من الأمم الخالية، قال عرّام:
والطائف ذات مزارع ونخل وأعناب وموز وسائر الفواكه وبها مياه جارية وأودية تنصبّ منها إلى تبالة، وجلّ أهل الطائف ثقيف وحمير وقوم من قريش، وهي على ظهر جبل غزوان، وبغزوان قبائل هذيل، وقال ابن عباس: سمّيت الطائف لأن إبراهيم، عليه السلام، لما أسكن ذرّيته مكة وسأل الله أن يرزق أهلها من الثمرات أمر الله عز وجل قطعة من الأرض أن تسير بشجرها حتى تستقرّ بمكان الطائف فأقبلت وطافت بالبيت ثم أقرّها الله بمكان الطائف فسمّيت الطائف لطوافها بالبيت، وهي مع هذا الاسم الفخم بليدة صغيرة على طرف واد وهي محلّتان: إحداهما على هذا الجانب يقال لها طائف ثقيف والأخرى على هذا الجانب يقال لها الوهط والوادي بين ذلك تجري فيه مياه المدابغ التي يدبغ فيها الأديم يصرع الطيور رائحتها إذا مرّت بها، وبيوتها لاطئة حرجة، وفي أكنافها كروم على جوانب ذلك الجبل فيها من العنب العذب ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان، وأما زبيبها فيضرب بحسنه المثل، وهي طيبة الهواء شمالية ربما جمد فيها الماء في الشتاء، وفواكه أهل مكة منها، والجبل الذي هي عليه يقال له غزوان، وروى أبو صالح: ذكرت ثقيف عند ابن عباس فقال، إن ثقيفا والنّخع كانا ابني خالة فخرجا منتجعين ومعهما أعنز لهما وجدي فعرض لهما مصدق لبعض ملوك اليمن فأراد أخذ شاة منهما فقالا: خذ ما شئت إلا هذه الشاة الحلوب فإنّا من لبنها نعيش وولدها، فقال: لا آخذ سواها، فرفقا به فلم يفعل فنظر أحدهما إلى صاحبه وهمّا بقتله ثم إن أحدهما انتزع له سهما فلق به قلبه فخرّ ميتا، فلما نظرا إلى ذلك قال
أحدهما لصاحبه: إنه لن تحملني وإياك الأرض أبدا فاما أن تغرّب وأنا أشرّق وإما أن أغرّب وتشرق أنت، فقال ثقيف: فاني أغرب، وقال النخع:
فأنا أشرق، وكان اسم ثقيف قسيّا واسم النخع جسرا، فمضى النخع حتى نزل ببيشة من أرض اليمن ومضى ثقيف حتى أتى وادي القرى فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها فكان يعمل نهارا ويأوي إليها ليلا فاتخذته ولدا لها واتخذها امّا له، فلما حضرها الموت قالت له: يا هذا إنه لا أحد لي غيرك وقد أردت أن أكرمك لإلطافك إيّاي، انظر إذا أنا متّ وواريتني فخذ هذه الدنانير فانتفع بها وخذ هذه القضبان فإذا نزلت واديا تقدر فيه على الماء فاغرسها فاني أرجو أن تنال من ذلك فلاحا بيّنا. ففعل ما أمرته به، فلما ماتت دفنها وأخذ الدنانير والقضبان ومضى سائرا حتى إذا كان قريبا من وجّ، وهي الطائف، إذا هو بأمة حبشية ترعى مائة شاة فطمع فيها وهمّ بقتلها وأخذ الغنم فعرفت ما أراد فقالت: إنك أسررت في طمعا لتقتلني وتأخذ الغنم ولئن فعلت ذلك لتذهبنّ نفسك ولا تحصل من الغنم شيئا لأن مولاي سيد هذا الوادي وهو عامر بن الظرب العدواني، وإني لأظنّك خائفا طريدا، قال: نعم، فقالت: فاني أدلك على خير مما أردت، فقال: وما هو؟ قالت:
إن مولاي يقبل إذا طفلت الشمس للغروب فيصعد هذا الجبل ثم يشرف على الوادي فإذا لم ير فيه أحدا وضع قوسه وجفيره وثيابه ثم انحدر رسوله فنادى: من أراد اللحم والدّرمك، وهو دقيق الحوارى، والتمر واللبن فليأت دار عامر بن الظرب، فيأتيه قومه فاسبقه أنت إلى الصخرة وخذ قوسه ونباله وثيابه فإذا رجع ومن أنت فقل رجل غريب فأنزلني وخائف فأجرني وعزب فزوّجني، ففعل ثقيف ما قالت له الأمة وفعل عامر صاحب الوادي فعله، فلما أن أخذ قوسه ونشّابه وصعد عامر قال له: من أنت؟
فأخبره وقال: أنا قسيّ بن منبّه، فقال هات ما معك فقد أجبتك إلى ما سألت، وانصرف وهو معه إلى وجّ وأرسل إلى قومه كما كان يفعل فلما أكلوا قال لهم عامر: ألست سيدكم؟ قالوا: بلى، قال:
وابن سيّدكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تجيرون من أجرت وتزوّجون من زوّجت؟ قالوا: بلى، قال: هذا قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن وقد زوّجته ابنتي فلانة وأمّنته وأنزلته منزلي، فزوّجه ابنة له يقال لها زينب، فقال قومه: قد رضينا بما رضيت، فولدت له عوفا وجشما ثم ماتت فزوّجه أختها فولدت له سلامة ودارسا فانتسبا في اليمن، فدارس في الأزد والآخر في بعض قبائل اليمن، وغرس قسيّ تلك القضبان بوادي وجّ فنبتت فلما أثمرت قالوا: قاتله الله كيف ثقف عامرا حتى بلغ منه ما بلغ وكيف ثقف هذه العيدان حتى جاء منها ما جاء، فسمي ثقيفا من يومئذ، فلم يزل ثقيف مع عدوان حتى كثر ولده وربلوا وقوي جأشهم، وجرت بينهم وبين عدوان هنات وقعت في خلالها حرب انتصرت فيها ثقيف فأخرجوا عدوان عن أرض الطائف واستخلصوها لأنفسهم ثم صارت ثقيف أعز الناس بلدا وأمنعه جانبا وأفضله مسكنا وأخصبه جنابا مع توسطهم الحجاز وإحاطة قبائل مضر واليمن وقضاعة بهم من كل وجه فحمت دارها وكاوحت العرب عنها واستخلصتها وغرست فيها كرومها وحفرت بها أطواءها وكظائمها، وهي من أزد السراة وكنانة وعذرة وقريش ونصر بن معاوية وهوازن جمعا والأوس والخزرج ومزينة وجهينة وغير ذلك من القبائل، ذلك كله يجري والطائف تسمّى وجّا إلى
أن كان ما كان مما تقدّم ذكره من تحويط الحضرمي عليها وتسميتها حينئذ الطائف، وقد ذكر بعض النّساب في تسميتها بالطائف أمرا آخر وهو أنه قال:
لما هلك عامر بن الظرب ورثته ابنتاه زينب وعمرة وكان قسيّ بن منبّه خطب إليه فزوّجه ابنته زينب فولدت له جشما وعوفا ثم ماتت بعد موت عامر فتزوّج أختها وكانت قبله عند صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن فولدت له عامر بن صعصعة، فكانت الطائف بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة، فلما كثر الحيّان قالت ثقيف لبني عامر: إنكم اخترتم العمد على المدن والوبر على الشجر فلستم تعرفون ما نعرف ولا تلطفون ما نلطف ونحن ندعوكم إلى حظ كبير لكم ما في أيديكم من الماشية والإبل والذي في أيدينا من هذه الحدائق فلكم نصف ثمره فتكونوا بادين حاضرين يأتيكم ريف القرى ولا تتكلفوا مؤونة وتقيموا في أموالكم وماشيتكم في بدوكم ولا تتعرضوا للوباء وتشتغلوا عن المرعى، ففعلوا ذلك فكانوا يأتونهم كل عام فيأخذون نصف غلّاتهم، وقد قيل: إن الذي وافقوهم عليه كان الربيع، فلما اشتدّت شوكة ثقيف وكثرت عمارة وجّ رمتهم العرب بالحسد وطمع فيهم من حولهم وغزوهم فاستغاثوا ببني عامر فلم يغيثوهم فأجمعوا على بناء حائط يكون حصنا لهم فكانت النساء تلبّن اللبن والرجال يبنون الحائط حتى فرغوا منه وسموه الطائف لإطافته بهم، وجعلوا لحائطهم بابين: أحدهما لبني يسار والآخر لبني عوف، وسموا باب بني يسار صعبا وباب بني عوف ساحرا، ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعوّدوه فمنعوهم عنه وجرت بينهم حرب انتصرت فيها ثقيف وتفرّدت بملك الطائف فضربتهم العرب مثلا، فقال أبو طالب ابن عبد المطلب:
«منعنا أرضنا من كل حيّ، *** كما امتنعت بطائفها ثقيف»
«أتاهم معشر كي يسلبوهم، *** فحالت دون ذلكم السيوف»
وقال بعض الأنصار:
«فكونوا دون بيضكم كقوم *** حموا أعنابهم من كل عادي»
وذكر المدائني أن سليمان بن عبد الملك لما حجّ مرّ بالطائف فرأى بيادر الزبيب فقال: ما هذه الحرار؟
فقالوا: ليست حرارا ولكنها بيادر الزبيب، فقال:
لله درّ قسيّ بأيّ أرض وضع سهامه وأيّ أرض مهّد عشّ فروخه! وقال مرداس بن عمرو الثقفي:
«فانّ الله لم يؤثر علينا *** غداة يجزّئ الأرض اقتساما»
«عرفنا سهمنا في الكف يهوي *** كذا نوح، وقسّمنا السهاما»
«فلما أن أبان لنا اصطفينا *** سنام الأرض، إنّ لها سناما»
«فأنشأنا خضارم متجرات *** يكون نتاجها عنبا تؤاما»
«ضفادعها فرائح كلّ يوم *** على جوب يراكضن الحماما»
«وأسفلها منازل كلّ حيّ، *** وأعلاها ترى أبدا حراما»
ثم حسدهم طوائف العرب وقصدوهم فصمدوا لهم وجدّوا في حربهم، فلما لم يظفروا منهم بطائل ولا طمعوا منهم بغرّة تركوهم على حالهم أغبط العرب عيشا إلى أن جاء الإسلام فغزاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فافتتحها في سنة تسع من الهجرة
صلحا وكتب لهم كتابا، نزل عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شوال سنة ثمان عند منصرفه من حنين وتحصنوا منه واحتاطوا لأنفسهم غاية الاحتياط فلم يكن إليهم سبيل، ونزل إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، رقيق من رقيق أهل الطائف، منهم: أبو بكرة نفيع بن م
«تشتو بمكة نعمة *** ومصيفها بالطائف»
وذكر الأزرقي أبو الوليد عن الكلبي باسناده قال:
لما دعا إبراهيم، عليه السلام: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات، فاستجاب الله له فجعله مثابة ورزق أهله من الثمرات فنقل إليهم الطائف، وكانت قرية بالشام وكانت ملجأ للخائف إذا جاءها أمن، وقد افتخرت ثقيف بذلك بما يطول ذكره ويسئم قارئه، وسأقف عند قول غيلان بن سلمة في ذلك حيث قال:
«حللنا الحدّ من تلعات قيس *** بحيث يحلّ ذو الحسب الجسيم»
«وقد علمت قبائل جذم قيس، *** وليس ذوو الجهالة كالعليم، »
«بأنّا نصبح الأعداء قدما *** سجال الموت بالكأس الوخيم»
«وأنّا نبتني شرف المعالي، *** وننعش عثرة المولى العديم»
«وأنّا لم نزل لجأ وكهفا، *** كذاك الكهل منّا والفطيم »
وسنذكر في وجّ من القول والشعر ما نوفّق له ويحسن ذكره إن شاء الله تعالى.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
24-معجم البلدان (عبيدان)
عُبَيْدَانُ:بلفظ تصغير عبدان فعلان من العبودية، وقال الفراء: يقال ضلّ به في أمّ عبيد، وهي الفلاة، قال: وقلت للقناني ما عبيد؟ فقال: ابن الفلاة، وأنشد للنابغة:
«ليهن لكم أن قد رقيتم بيوتنا *** مندّى عبيدان المحلّإ باقره»
وقال الحطيئة:
«رأت عارضا جونا فقامت غريرة *** بمسحاتها قبل الظلام تبادره»
«فما فرغت حتى علا الماء دونه، *** فسدّت نواحيه ورفّع دائره»
«وهل كنت إلا نائيا إذ دعوتني *** منادى عبيدان المحلّإ باقره»
قال: يعني الفلاة، وقال أبو عمرو: عبيدان اسم وادي الحية بناحية اليمن يقال كان فيه حية عظيمة قد منعته فلا يؤتى ولا يرعى، وأنشد بيت النابغة، وقال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي في نوادره في قوله:
منادى عبيدان المحلّإ باقره يقول: كنت بعيدا منكم كبعد عبيدان من الناس والوحش أن يردوه أو ينالوه أو يبلغوه فقد دغرتموني، وعبيدان ماء لا يناله الوحش فكيف الإنس فلما لم تبلغه فكأنما حلّئت عنه، قال أبو محمد الأسود رادّا عليه: كيف تكون التحلئة قبل الورود كما مثّله وإنما عبيدان اسم راع لا اسم ماء، وكان من قصته أنه كان رجل من عاد ثم أحد بني سود بن عاد يقال له عتر وكان أمنع عاد في زمانه وكان له راع يقال له عبيدان يرعى له ألف بقرة، فكان إذا وردت بقره لم يورد أحد بقره حتى يفرغ عبيدان، فعاش بذلك دهرا حتى أدرك لقمان بن عاد، وكان من أشدّ عاد كلها وأهيبها، وكان في بيت عاد وعددها يومئذ بنو ضد بن عاد فوردت بقر عاد فنهنهه عبيدان فرجع راعي لقمان فأخبره فأتى لقمان عبيدان فضربه وطرده عن الماء فرجع عبيدان إلى عتر فشكا ذلك إليه فخرج إليه في بني أبيه وخرج لقمان في بني أبيه فهزمتهم بنو ضدّ رهط لقمان وحلّؤوهم عن الماء فكان عبيدان لا يورد حتى يفرغ لقمان من سقي بقره، فكان عبيدان يقبل ببقره ويقبل راعي لقمان ببقره فإذا رأى راعي لقمان عبيدان قال حلّئ بقرك عن الماء حتى يورد راعي لقمان، فضربته العرب مثلا، فلم يزل لقمان يفعل ذلك حتى هلك عتر وارتحل لقمان فنزل في العماليق، وقال جوين بن قطن يحذّر قومه الظلم ويذكر عترا وبقره وتهضّم لقمان له:
«قد كان عتر بني عاد وأسرته *** في الناس أمنع من يمشي على قدم»
«وعاش دهرا إذا أثواره وردت *** لم يقرب الماء يوم الورد ذو نسم»
«أزمان كان عبيدان تبادره *** رعاة عاد وورد الماء مقتسم»
«أشصّ عنه أخو ضدّ كتائبه *** من بعد ما رمّلوا في شأنه بدم»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
25-معجم البلدان (العزى)
العُزَّى:بضم أوله في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 53: 19، اللّات: صنم كان لثقيف، والعزّى:
سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد بن الوليد إليها فهدم البيت وأحرق السّمرة، والعزّى تأنيث الأعزّ مثل الكبرى تأنيث الأكبر، والأعزّ بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة، وقال ابن حبيب: العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان وسدنتها من بني صرمة بن مرّة، قال أبو منذر بعد ذكر مناة واللّات: ثم اتخذوا العزّى وهي أحدث من اللات ومناة، وذلك أني سمعت العرب سمّت بها عبد العزّى فوجدت تميم بن مرّ سمّى ابنه زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة وعبد مناة بن أدّ، وباسم اللّات سمّى ثعلبة بن عكابة ابنه تيم اللات وتيم اللات بن رفيدة بن ثور وزيد اللات بن رفيدة بن ثور بن وبرة بن مرّ بن أدّ ابن طابخة وتيم اللات بن النمر بن قاسط وعبد العزّى ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهي أحدث من الأولين، وعبد العزّى بن كعب من أقدم ما سمّت به العرب، وكان الذي اتخذ العزّى ظالم بن أسعد، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له حراض بازاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبني عليها بسّا، يريد بيتا، وكانوا يسمعون فيه الصوت، وكانت العرب وقريش تسمّي بها عبد العزّى، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقرّبون عندها بالذبائح، قال أبو المنذر: وقد بلغنا أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ذكرها يوما فقال: لقد اهتديت للعزّى شاة عفراء وأنا على دين قومي، وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فانهنّ الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، وكانوا يقولون بنات الله، عز وجل، وهنّ يشفعن إليه، فلما بعث رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، أنزل عليه:
أفرأيتم اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت قريش قد حمت لها شعبا من وادي حراض يقال له سقام يضاهئون به حرم الكعبة، وقد ذكر سقام في موضعه من هذا الكتاب، وللعزّى يقول درهم بن زيد الأوسي:
«إني وربّ العزّى السعيدة والل *** هـ الذي دون بيته سرف»
وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم يقال له الغبغب، وقد ذكر في موضعه أيضا، وكانت قريش تخصها بالإعظام فلذلك يقول زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تألّه في الجاهلية وترك عبادتها وعبادة غيرها من الأصنام:
«تركت اللّات والعزّى جميعا، *** كذلك يفعل الجلد الصّبور»
«فلا العزّى أدين ولا ابنتيها، *** ولا صنمي بني عمرو أزور»
«ولا هبلا أزور وكان ربّا *** لنا في الدهر، إذ حلمي صغير»
وكانت سدنة العزّى بني شيبان بن جابر بن مرّة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور، وكانوا حلفاء بني الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان آخر من سدنها منهم دبيّة بن حرمي السلمي، وله يقول أبو خراش الهذلي وكان قدم عليه فحذاه نعلين ج
«حذاني بعد ما خذمت نعالي *** دبيّة، إنه نعم الخليل»
«مقابلتين من صلوي مشبّ *** من الثيران وصلهما جميل»
«فنعم معرّس الأضياف تدحى *** رحالهم شآمية بليل»
«يقابل جوعهم بمكلّلات *** من القربى يرعّبها الحميل»
فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم، فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتدّ ذلك على قريش ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي ولا بدّ منه؟ فقال:
لا ولكني أخاف ألا تعبدوا العزّى بعدي، فقال له أبو لهب: ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة، وأعجبه شدّة نصبه في عبادتها، قال أبو المنذر: وكان سعيد بن العاصي أبو أحيحة يعتمّ بمكة فإذا اعتم لم يعتمّ أحد بلون عمامته، قال أبو المنذر: حدّثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟
قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال:
فاعضد الثالثة، فأتاها فإذا هو بخنّاسة نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها دبيّة ابن حرمي السلمي ثم الشيباني وكان سادنها، فلما نظر إلى خالد قال:
«أعزّيّ شدّي شدّة لا تكذّبي، *** على خالد ألقي الخمار وشمّري»
«فإنك إلا تقتلي اليوم خالدا، *** فبوئي بذلّ عاجل وتنصّري»
فقال خالد:
«يا عزّ كفرانك لا سبحانك، *** إني رأيت الله قد أهانك»
ثم ضربها ففلّق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجر وقتل دبيّة السادن، وفيه يقول أبو خراش الهذلي يرثيه:
«ما لدبيّة منذ اليوم لم أره *** وسط الشروب ولم يلمم ولم يطف»
«لو كان حيّا لغاداهم بمترعة *** من الرواويق من شيزى بني الهطف»
«ضخم الرّماد عظيم القدر جفنته *** حين الشتاء كحوض المنهل اللّقف»
قال هشام: يطف من الطّوفان أو من طاف يطيف، والهطف: بطن من عمرو بن أسد، واللقف: الحوض المنكسر الذي يغلب أصله الماء فيتثلم، يقال: قد
لقف الحوض، ثم أتى النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره قال: تلك العزى ولا عزّى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم! قال: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزّى ثم اللات ثم مناة، فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالهدية والزيارة وذلك فيما أظن لقربها منهم، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش العزّى، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظما لها ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحيّ، وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن المجيد حيث قال: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا 71: 23، كرأيهم في هذه ولا قريبا من ذلك فظننت أن ذلك كان لبعدها منهم، وكانت قريش تعظمها وكانت غنيّ وباهلة يعبدونها معهم، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد ابن الوليد فقطع الشجر وهدم البيت وكسر الوثن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
26-معجم البلدان (قبر العبادي)
قَبْرُ العِبَادِيّ:منزل في طريق مكة من القادسية إلى العذيب ثم المغيثة ثم القرعاء ثم واقصة ثم العقبة ثم
القاع ثم زبالة ثم شقوق ثم قبر العبادي ثم الثعلبية، وهي ثلث الطريق، قال أهل السير: كان روزبه ابن بزرجمهر بن ساسان من أهل همذان وكان من أهل كسرى على فرج من فروج الروم فأدخل عليهم سلاحا فأخافه الأكاسرة فلم يأمن حتى قدم سعد بن أبي وقّاص ومصّر الكوفة فقدم عليه وبنى له قصره والمسجد الجامع ثم كتب معه إلى عمر، رضي الله عنه، فأخبره بحاله فأسلم وفرض له عمر وأعطاه وصرفه إلى سعد فصرفه إلى أكريائه، والأكرياء يومئذ هم العباد أهل الحيرة، حتى إذا كان بالمكان الذي يقال له قبر العبادي مات فحفروا له ثم انتظروا به من يمرّ بهم ممن يشهدون موته فمرّ بهم قوم من الأقراب وقد حفروا له على الطريق فأروهم إياه ليبرؤوا من دمه وأشهدوهم ذلك فغلب عليه قبر العبادي لمكان الأكرياء ظنّوه منهم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
27-معجم البلدان (المراض)
المِرَاضُ:بالكسر، جمع مريض، يجوز أن يكون من قولهم أرض مريضة إذا ضاقت بأهلها، وأرض مريضة إذا كثر بها الهرج، وبخط الترمذي في شعر الفضل بن عباس اللهبي: المراض، بالفتح، وهو في قوله:
«أتعهد من سليمى درس نؤي *** زمان تخلّلت سلمى المراضا»
«كأنّ بيوت جيرتهم قباب *** على الأزمات تحتل الرياضا»
ورواه الخالع مراض، بفتح الميم، فيكون من راض يروض والموضع مراض، ويجوز أن يكون من الروضة أو من الرياضة، وبالفتح قرأته بخط ابن باقلاء وهو الصحيح إذ هو في قول كثيّر:
«فأصبح من تربي خصيلة قلبه *** له ردّة من حاجة لم تصرّم»
«كذا الطّلع إن يقصد عليه فإنه *** يهمّ، وإن تحزق به يتيمّم»
«وما ذكره تربي خصيلة بعد ما *** ظعنّ بأحواز المراض فيعلم»
وهو واد في شعر الشمّاخ، عن الأديبي، وقال غيره:
مراض موضع على طريق الحجاز من ناحية الكوفة وهناك لقي الوليد بن عقبة بن أبي معيط بجادا مولى عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، فأخبره بقتل عثمان فقال:
«يوم لاقيت بالمراض بجادا، *** ليت اني هلكت قبل بجاد»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
28-معجم البلدان (نجران)
نَجْرَانُ:بالفتح ثم السكون، وآخره نون، والنجران في كلامهم: خشبة يدور عليها رتاج الباب، وأنشدوا:
«وصيت الباب في النجران حتى *** تركت الباب ليس له صرير»
وقال ابن الأعرابي: يقال لأنف الباب الرتاج ولد رونده النّجاف والنجران ولمترسه المفتاح، قال ابن دريد: نجران الباب الخشبة التي يدور عليها، ونجران في عدة مواضع، منها: نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة، قالوا: سمي بنجران بن زيدان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لأنه كان أول من عمرها ونزلها وهو المرعف وإنما صار إلى نجران لأنه رأى رؤيا فهالته فخرج رائدا حتى انتهى إلى واد فنزل به فسمي نجران به، كذا ذكره في كتاب الكلبي بخط صحيح زيدان بن سبإ، وفي كتاب غيره زيد، روى ذلك الزيادي عن الشرقي، وأما سبب دخول أهلها في دين النصرانية قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن لبيد مولى الأخنس عن وهب بن منبه اليماني أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، بالفاء ويروى بالقاف، وكان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل بالقرى فإذا عرف بقرية خرج منها إلى أخرى، وكان لا يأكل إلّا من كسب يديه، وكان بنّاء يعمل في الطين، وكان يعظّم الأحد فلا يعمل فيه شيئا فيخرج إلى فلاة من الأرض فيصلي بها حتى يمسي، ففطن لشأنه رجل من أهل قرية بالشام كان يعمل فيها فيميون عمله، وكان ذلك الرجل اسمه صالح فأحبه صالح حبّا شديدا فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد اتبعه صالح فجلس منه منظر العين مستخفيا منه، فقام فيميون يصلي فإذا قد أقبل نحوه تنّين، وهو الحية العظيمة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فصرخ: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها فخرج إليه صالح وقال: يا فيميون يعلم الله أنني ما أحببت شيئا قط مثل حبك وقد أحببت صحبتك والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئت، أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كان أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا جاءه العبد وبه ضرّ دعا له فشفي، وكان إذا دعي لمنزل أحد لم يأته، وكان لرجل من أهل تلك القرية ولد ضرير فقال لفيميون: إن لي عملا فانطلق معي إلى منزلي، فانطلق معه فلما حصل في بيته رفع الرجل الثوب عن الصبيّ وقال له: يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له! فدعا الله فقام الصبيّ ليس به بأس، فعرف فيميون أنه عرف فخرج من القرية واتبعه صالح حتى وطئا بعض أراضي العرب فعدوا عليهما فاختطفهما سيّارة من العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وكان أهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة لهم عظيمة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه وحليّ النساء، فخرجوا إليها يوما وعكفوا عليها يوما، فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام بالليل في بيت له أسكنه إياه سيّده استسرج له البيت نورا حتى يصبح
من غير مصباح، فأعجب سيّده ما رأى منه فسأله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون: إنما أنتم على باطل وهذه الشجرة لا تضرّ ولا تنفع ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيّده: افعل فإنك إن فعلت هذا دخلنا في دينك وتركنا ما ن
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن منبّه عن أهل نجران، قال: وحدّثني يزيد بن زياد عن محمد ابن كعب القرظي وحدثني أيضا بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام وكان في قرية من قراها قريبا من نجران، ونجران القرية العظيمة التي إليها إجماع تلك البلاد، كان عندهم ساحر يعلّم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به ابن منبه إنما قالوا رجل نزلها وابتنى خيمة بين نجران وبين القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون أولادهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان ابن الثامر إذا مر بتلك الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم وعبد الله تعالى وحده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى فقه فيه فسأله عن الاسم الأعظم فكتمه إياه وقال: إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والثامر أبو عبد الله لا يظنّ إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عنه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتب كل واحد في قدح فلما أحصاها أوقد نارا وجعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى مرّ بالاسم الأعظم فقذفه فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها ولم تضرّه النار شيئا، فأتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم وهو كذا، فقال: كيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظنّ أن تفعل، وجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضرّ إلا قال له: يا عبد الله أتوحّد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك؟
فيقول: نعم، فيدعو الله فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضرّ إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، فرفع أمره إلى ملك نجران فأحضره وقال له:
أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثّلنّ بك! فقال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح من رأسه فيقع على الأرض ويقوم وليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر، لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت ذلك سلّطت عليّ فتقتلني، قال: فوحّد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا كانت في يده فشجّه شجّة غير كبيرة فقتله، قال عبيد الله الفقير إليه: فاختلفوا ههنا، ففي حديث رواه الترمذي من طريق ابن أبي ليلى عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، على غير هذا السياق وإن قاربه في المعنى، فقال: إن الملك لما رمى الغلام في رأسه وضع الغلام يده على صدغه ثم مات، فقال أهل نجران: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه
أحد فإنّا نؤمن بربّ هذا الغلام، قال: فقيل الملك أجزعت أن خالفك ثلاثة؟ فهذا العالم كلهم قد خالفوك! قال: فخدّ أخدودا ثم ألقى فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود، فذلك قوله
العزيز الحميد، وأما الغلام فإنه دفن وذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، روى هذا الحديث الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق ابن معمر، ورواه مسلم عن هدّاب بن خالد عن حماد بن سلمة ثم اتفقا، عن سالم عن ابن أبي ليلى عن صهيب عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفي حديث ابن إسحاق: إن الملك لما قتل الغلام هلك مكانه واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وهو النصرانية وكان على ما جاء به عيسى، عليه السّلام، من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك أصل النصرانية بنجران، قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود فحرق من حرق في النار وقتل من قتل بالسيف ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تعالى: قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود، إلى آخر الآية، قال عبيد الله الفقير إليه: خبر الترمذي ومسلم أعجب إليّ من خبر ابن إسحاق لأن في خبر ابن إسحاق أن الذي قتل النصارى ذو نواس وكان يهوديّا صحيح الدين اتبع اليهودية بآيات رآها، كما ذكرناه في امام من هذا الكتاب، من الحبرين اللذين صحباه من المدينة ودين عيسى إنما جاء مؤيدا ومسددا للعمل بالتوراة فيكون القاتل والمقتول من أهل التوحيد والله قد ذمّ المحرق والقاتل لأصحاب الأخدود فبعد إذا ما ذكره ابن إسحاق وليس لقائل أن يقول إن ذا نواس بدّل أو غيّر دين موسى، عليه السلام، لأن الأخبار غير شاهدة بصحة ذلك، وأما خبر الترمذي أن الملك كان كافرا وأصحاب الأخدود مؤمنين فصحّ إذا، والله أعلم، وفتح نجران في زمن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في سنة عشر صلحا على الفيء وعلى أن يقاسموا العشر ونصف العشر، وفيها يقول الأعشى:
«وكعبة نجران حتم علي *** ك حتى تناخي بأبوابها»
«نزور يزيدا وعبد المسيح *** وقيسا هم خير أربابها»
«وشاهدنا الورد والياسمي *** ن والمسمعات بقصّابها»
«وبربطنا دائم معمل، *** فأيّ الثلاثة أزرى بها؟»
وكعبة نجران هذه يقال بيعة بناها بنو عبد المدان بن الدّيّان الحارثي على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة معتمّون وهم الذين جاءوا إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ودعاهم إلى المباهلة، وذكر هشام بن الكلبي أنها كانت قبّة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أرفد، وكان لعظمها عندهم يسمّونها كعبة نجران، وكانت على نهر بنجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغلّ
من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبّة تستغرقها، ثم كان أول من سكن نجران من بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان يزيد بن عبد المدان، وذلك أن عبد المسيح زوّجه ابنته دهيمة فولدت له عبد الله بن
فأخرجهم عمر، رضي الله عنه، قال: وإنما أجاز عمر إخراج أهل نجران وهم أهل صلح بحديث روي عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فيهم خاصة عن أبي عبيدة بن الجرّاح، رضي الله عنه، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه كان آخر ما تكلم به أنه قال: أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب، وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء أهل نجران إلى عليّ، رضي الله عنه، فقالوا:
شفاعتك بلسانك وكتابتك بيدك، أخرجنا عمر من أرضنا فردّها إلينا صنيعة، فقال: يا ويلكم إن كان عمر رشيد الأمر فلا أغيّر شيئا صنعه! فكان الأعمش يقول: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا.
ونجران أيضا: موضع على يومين من الكوفة فيما بينها وبين واسط على الطريق، يقال إن نصارى نجران لما أخرجوا سكنوا هذا الموضع وسمّي باسم بلدهم، وقال عبيد الله بن موسى بن جار بن الهذيل الحارثي يرثي عليّ بن أبي طالب ويذكر أنه حمل نعشه في هذا الموضع فقال:
«بكيت عليّا جهد عيني فلم أجد *** على الجهد بعد الجهد ما أستزيدها»
«فما أمسكت مكنون دمعي وما شفت *** حزينا ولا تسلى فيرجى رقودها»
«وقد حمل النّعش ابن قيس ورهطه *** بنجران والأعيان تبكي شهودها»
«على خير من يبكى ويفجع فقده، *** ويضربن بالأيدي عليه خدودها»
ووفد على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفد نجران وفيهم السيّد واسمه وهب والعاقب واسمه عبد المسيح والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتابا، فلما ولي أبو بكر، رضي الله عنه، أنفذ ذلك لهم، فلما ولي عمر، رضي الله عنه، أجلاهم واشترى منهم أموالهم، فقال أبو حسّان الزيادي: انتقل أهل نجران إلى قرية تدعى نهر ابان من أرض الهجر المنقطع من كورة البهقباذ من طساسيج الكوفة وكانت هذه القرية من الضواحي وكان كسرى أقطعها امرأة يقال لها ابان وكان زوجها من أوراد المملكة يقال له باني وكان قد احتفر نهر الضيعة لزوجته وسماه نهر ابان ثم ظهر عليها الإسلام وكان أولادها يعملون في تلك الأرض، فلما أجلى عمر، رضي الله عنه، أهل نجران نزلوا
قرية من حمراء ديلم يرتادون موضعا فاجتاز بهم رجل من المجوس يقال له فيروز فرغب في النصرانية فتنصر ثم أتى بهم حتى غلبوا على القرية وأخرجوا أهلها عنها وابتنوا كنيسة دعوها الأكيراح، فشخصوا إلى عمر فتظلّموا منهم فكتب إلى المغيرة في أمرهم فرجع الجواب وقد مات
ونجران أيضا: موضع بالبحرين فيما قيل. ونجران أيضا: موضع بحوران من نواحي دمشق وهي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمّقة بالفسيفساء وهو موضع مبارك ينذر له المسلمون والنصارى، ولنذور هذا الموضع قوم يدورون في البلدان ينادون من نذر نذر نجران المبارك، وهم ركاب الخيل، وللسلطان عليهم قطيعة وافرة يؤدّونها إليه في كل عام، وقيل: هي قرية أصحاب الأخدود باليمن، ينسب إليها يزيد بن عبد الله بن أبي يزيد النجراني يكنى أبا عبد الله من أهل دمشق من نجران التي بحوران، روى عن الحسين بن ذكوان والقاسم بن أبي عبد الرحمن ومسحر السكسكي، روى عنه يحيى بن حمزة وسويد ابن عبد العزيز وصدقة بن عبد الله وأيوب بن حسّان وهشام بن الغاز، وقال أبو الفضل المقدسي النجراني:
والنجراني الأول منسوب إلى نجران هجر وفيهم كثرة، قال عبيد الله الفقير إليه: هذا قول فيه نظر فإن نجران هجر مجهول والمنسوب إليه معدوم، وقال أبو الفضل: والثاني نجران اليمن، منهم: عبيد الله ابن العباس بن الربيع النجراني، حدث عن محمد بن إبراهيم البيلماني، روى عنه محمد بن بكر بن خالد النيسابوري ونسبه إلى نجران اليمن وقال: سمعت منه بعرفات، وقال الحازمي: وممن ينسب إلى نجران بشر بن رافع النجراني أبو الأسباط اليماني، حدث عنه حاتم بن إسماعيل وعبد الرزاق، وينسب إلى نجران اليمن أيضا أبو عبد الملك محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري يقال له النجراني لأنه ولد بها في حياة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، سنة عشر وولّاه الأنصار أمرهم يوم الحرّة فقتل بها سنة 63، روى عنه ابنه أبو بكر، وقد أكثرت الشعراء من ذكر نجران في أشعارها، قال اعرابيّ:
«إن تكونوا قد غبتم وحضرنا، *** ونزلنا أرضا بها الأسواق»
«واضعا في سراة نجران رحلي، *** ناعما غير أنني مشتاق»
وقال عطارد بن قرّان أحد اللصوص وكان قد أخذ وحبس بنجران:
«يطول عليّ الليل حتى أملّه *** فأجلس والنهديّ عندي جالس»
«كلانا به كبلان يرسف فيهما، *** ومستحكم الأقفال أسمر يابس»
«له حلقات فيه سمر يحبها ال *** عناة كما حبّ الظماء الخوامس»
«إذا ما ابن صبّاح أرنّت كبوله *** لهنّ على ساقيّ وهنا وساوس»
«تذكّرت هل لي من حميم يهمّه *** بنجران كبلاي اللذان أمارس»
«فأما بنو عبد المدان فإنهم *** وإني من خير الحصين ليائس»
«روى نمر من أهل نجران أنكم *** عبيد العصا لو صبّحتكم فوارس»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
29-معجم البلدان (النيل)
النِّيلُ:بكسر أوله، بلفظ النيل الذي تصبغ به الثياب، في مواضع: أحدها بليدة في سواد الكوفة قرب حلّة بني مزيد يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير حفره الحجاج بن يوسف وسماه بنيل مصر، وقيل:
إنّ النيل هذا يستمد من صراة جاماسب، ينسب إليه خالد بن دينار النيلي أبو الوليد الشيباني، كان يسكن النيل، حدث عن الحسن العكلي وسالم بن عبد الله ومعاوية بن قرّة، روى عنه الثوري وغيره، وقال محمد بن خليفة السّنبسي شاعر بني مزيد يمدح دبيسا بقصيدة مطلعها:
«قالوا هجرت بلاد النيل وانقطعت *** حبال وصلك عنها بعد إعلاق»
«فقلت: إني وقد أقوت منازلها *** بعد ابن مزيد من وفد وطرّاق»
«فمن يكن تائقا يهوى زيارتها *** على البعاد فإني غير مشتاق»
«وكيف أشتاق أرضا لا صديق بها *** إلا رسوم عظام تحت أطباق؟»
وإياه عنى أيضا مرجا بن نباه بقوله:
«قصدتكم أرجو نوال أكفّكم، *** فعدت وكفّي من نوالكم صفر»
«فلما أتيت النيل أيقنت بالغنى *** ونيل المنى منكم فلاحقني الفقر»
والنيل أيضا: نهر من أنهار الرّقة حفره الرشيد على ضفّة نيل الرّقة، والبليخ: نهر دير زكّى، ولذلك قال الصّنوبري:
«كأنّ عناق نهري دير زكّى، *** إذا اعتنقا، عناق متيّمين»
«وقت ذاك البليخ يد الليالي *** وذاك النيل من متجاورين»
وأما نيل مصر فقال حمزة: هو تعريب نيلوس من الرومية، قال القضاعي: ومن عجائب مصر النيل جعله الله لها سقيا يزرع عليه ويستغنى به عن مياه المطر في أيام القيظ إذا نضبت المياه من سائر الأنهار فيبعث الله في أيام المدّ الريح الشمال فيغلب عليه البحر الملح فيصير كالسّكر له حتى يربو ويعم الرّبى والعوالي ويجري في الخلج والمساقي فإذا بلغ الحدّ الذي هو تمام الريّ وحضر زمان الحرث والزراعة بعث الله الريح الجنوب فكبسته وأخرجته إلى البحر الملح وانتفع الناس بالزراعة مما يروى من الأرض، وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول من النيل لأن مسيرته شهر في الإسلام وشهران في بلاد النوبة وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة فيها إلى أن يخرج في بلاد القمر خلف خطّ الاستواء، وليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلا هو، ويمتد في أشدّ ما يكون من الحرّ حين تنقص أنهار الدنيا، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب بخلاف سائر الأنهار، فإذا زادت الأنهار في سائر الدنيا نقص وإذا نقصت زاد نهاية وزيادة، وزيادته في أيام نقص غيره، وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل ولا يجيء من خراج نهر ما يجيء من خراج ما يسقيه النيل، وقد روي عن عمرو بن العاص أنه قال: إن نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب أن يمدّ له وذلّله له فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله تعالى كلّ نهر أن يمدّه بمائه وفجّر الله تعالى له الأرض عيونا وانتهى جريه إلى ما أراد
الله تعالى، فإذا بلغ النيل نهايته أمر الله تعالى كلّ ماء أن يرجع إلى عنصره ولذلك جميع مياه الأرض تقلّ أيام زيادته، وذكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال: لما فتح المسلمون مصر جاء أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونه من شهور القبط فقالوا: أيها ا
قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي هذا، وإذا في كتابه: بسم الله الرّحمن الرّحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الواحد القّهار يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى عمرو بن العاص البطاقة في النيل وذلك قبل عيد الصليب بيوم وكان أهل مصر قد تأهبوا للخروج منها والجلاء لأنهم لا تقوم مصلحتهم إلا بالنيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد جرى النيل بقدرة الله تعالى وزاد ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وانقطعت تلك السنّة السيئة عن أهل مصر، وكان للنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج المنهي، وخليج الفيوم، وخليج عرشي، وخليج سردوس، وهي متصلة الجريان لا ينقطع منها شيء، والزروع بين هذه الخلجان متّصلة من أول مصر إلى آخرها، وزروع مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما قدّروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها، فإذا استوى الماء كما ذكرناه في المقياس من هذا الكتاب أطلق حتى يملأ أرض مصر فتبقى تلك الأراضي كالبحر الذي لم يفارقه الماء قط والقرى بينه يمشى إليها على سكور مهيأة والسفن تخترق ذلك، فإذا استوفت المياه ورويت الأرضون أخذ ينقص في أول الخريف وقد برد الهواء وانكسر الحرّ فكلما نقص الماء عن أرض زرعت أصناف الزروع واكتفت بتلك الشربة لأنه كلما تأخّر الوقت برد الجوّ فلا تنشف الأرض إلى أن يستكمل الزرع فإذا استكمل عاد الوقت يأخذ في الحرّ والصيف حتى ينضج الزروع وينشفها ويكمّلها، فلا يأتي الصيف إلا وقد استقام أمرها فأخذوا في حصادها، وفي ذلك عبرة وآية ودليل على قدرة العزيز الحكيم الذي خلق الأشياء في أحسن تقويم، وقد قال عزّ من قائل:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وفي النيل عجائب كثيرة وله خصائص لا توجد في غيره من الأنهار، وأما أصل مجراه فيذكر أنه يأتي من بلاد الزنج فيمر بأرض الحبشة مسامتا لبحر اليمن من جهة أرض الحبشة حتى ينتهي إلى بلاد النوبة من جانبها الغربي والبجه من جانبها الشرقي فلا يزال جاريا بين جبلين بينهما قرى وبلدان والراكب فيه يرى الجبلين عن يمينه وشماله وهو بينهما بإزاء الصعيد حتى يصب في البحر، وأما سبب زيادته في الصيف فإن المطر يكثر بأرض الزنجبار وتلك البلاد في هذه الأوقات بحيث ينزل الغيث عندهم كأفواه القرب وتنصبّ المدود إلى هذا النهر من سائر الجهات فإلى أن يصل إلى مصر ويقطع تلك المفاوز يكون القيظ ووجه
الحاجة إليه كما دبره الخالق عز وجل، وقد ذكر الليث بن سعد وغيره قصة رجل من ولد العيص بن إسحاق النبي، عليه السّلام، وتطلّبه مجراه أذكرها بعد إن شاء الله تعالى، قال أميّة: نيل مصر ينبوعه من وراء خط الاستواء من جبل هناك يقال له جبل القمر فإنه يبتدئ في التز
«أما ترى الرعد بكى واشتك *** والبرق قد أومض واستضحكا؟»
«فاشرب على غيم كصبغ الدُّجى *** أضحك وجه الأرض لما بكى»
«وانظر لماء النيل في مدّه *** كأنه صندل أو مسّكا»
أو كما قال أمية بن أبي الصلت المغربي:
«ولله مجرى النيل منها إذا الصّبا *** أرتنا به في مرّها عسكرا مجرا»
«بشطّ يهزّ السّمهريّة ذبّلا، *** وموج يهزّ البيض هنديّة بترا»
ولتميم بن المعز أيضا:
«يوم لنا بالنيل مختصر، *** ولكل وقت مسرة قصر»
«والسّفن تصعد كالخيول بنا *** فيه وجيش الماء منحدر»
«فكأنما أمواجه عكن، *** وكأنما داراته سرر»
وقال الحافظ أبو الحسين محمد بن الوزير في تدرج زيادة النيل إصبعا إصبعا وعظم منفعة ذلك التدرج:
«أرى أبدا كثيرا من قليل، *** وبدرا في الحقيقة من هلال»
«فلا تعجب فكلّ خليج ماء *** بمصر مسبّب لخليج مال»
«زيادة إصبع في كل يوم *** زيادة أذرع في حسن حال»
فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج ولكسره يوم معهود فيجتمع الخاصّ والعامّ بحضرة القاضي وإذا كسر فتحت التّرع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح وعمّ الغيطان والبطاح وانضمّ أهل القرى إلى أعلى مساكنهم من الضياع والمنازل بحيث لا ينتهي إليهم الماء فتعود عند ذلك أرض مصر بأسرها بحرا عامّا غامر الماء بين جبليها المكتنفين لها وتثبت على هذه الحال حسبما تبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله، وأكثر ذلك يحول حول ثمانية عشر ذراعا ثم يأخذ عائدا في صبّه إلى مجرى النيل ومشربه فينقص عما كان مشرفا عاليا من الأراضي ويستقر في المنخفض منها فيترك كل قرارة كالدرهم ويعمّ الرّبى بالزهر المؤنق والروض المشرق، وفي هذا الوقت تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا وأبهاها مخبرا، وقد جوّد أبو الحسن عليّ بن أبي بشر الكاتب فقال:
«شربنا مع غروب الشمس شَمْسًا *** مشعشعة إلى وقت الطلوع»
«وضوء الشمس فوق النيل باد *** كأطراف الأسنّة في الدروع»
ومن عجائب النيل السمكة الرعّادة وهي سمكة لطيفة مسيّرة من مسّها بيده أو بعود يتصل بيده إليها أو بشبكة هي فيها اعترته رعدة وانتفاض ما دامت في يده أو في شبكته، وهذا أمر مستفيض رأيت جماعة من أهل التحصيل يذكرونه، ويقال إن بمصر بقلة من مسّها ومسّ الرعّادة لم
«أضمرت للنيل هجرانا ومقلية *** مذ قيل لي إنما التمساح في النيل»
«فمن رأى النيل رأي العين من كشب *** فما رأى النيل إلا في البواقيل»
والبواقيل: كيزان يشرب منها أهل مصر، وقال عمرو بن معدي كرب:
«فالنيل أصبح زاخرا بمدوده، *** وجرت له ريح الصّبا فجرى لها»
«عوّدت كندة عادة فاصبر لها، *** اغفر لجانبها وردّ سجالها»
وحدّث الليث بن سعد قال: زعموا، والله أعلم،
أن رجلا من ولد العيص يقال له حائذ بن شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام، خرج هاربا من ملك من ملوكهم إلى أرض مصر فأقام بها سنين، فلما رأى عجائب نيلها وما يأتي به جعل الله نذرا أن لا يفارق ساحله حتى يرى منتهاه أو ينظر من أين مخرجه أو يموت
أردت علم أمر النيل، فما الذي جاء بك أنت؟ قال:
جاء بي الذي جاء بك، فلما انتهيت إلى هذا الموضع أوحى الله تعالى إليّ أن قف بمكانك حتى يأتيك أمري، قال: فأخبرني يا عمران أي شيء انتهى إليك من أمر هذا النيل وهل بلغك أن أحدا من بني آدم يبلغه؟ قال: نعم بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه ولا أظنه غيرك يا حائذ، فقال له: يا عمران كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء حتى تجعل بيننا ما أسألك، قال: وما ذاك؟ قال: إذا رجعت وأنا حيّ أقمت عندي حتى يأتي ما أوحى الله لي أن يتوفاني فتدفني وتمضي، قال: لك ذلك عليّ، قال: سر كما أنت سائر فإنه ستأتي دابة ترى أولها ولا ترى آخرها فلا يهولنّك أمرها فإنها دابة معادية للشمس إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها فاركبها فإنها تذهب بك إلى ذلك الجانب من البحر فسر عليه فإنك ستبلغ أرضا من حديد جبالها وشجرها وجميع ما فيها حديد، فإذا جزتها وقعت في أرض من فضة جبالها وشجرها وجميع ما فيها فضة، فإذا تجاوزتها وقعت في أرض من ذهب جميع ما فيها ذهب ففيها ينتهي إليك علم النيل، قال: فودعه ومضى وجرى الأمر على ما ذكر له حتى انتهى إلى أرض الذهب فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب وعليه قبّة لها أربعة أبواب وإذا ماء كالفضة ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقرّ في القبة ثم يتفرق في الأبواب وينصبّ إلى الأرض، فأما ثلثاه فيغيض وأما واحد فيجري على وجه الأرض وهو النيل، فشرب منه واستراح ثم حاول أن يصعد السور فأتاه ملك وقال: يا حائذ قف مكانك فقد انتهى إليك علم ما أردته من علم النيل وهذا الماء الذي تراه ينزل من الجنة وهذه القبة بابها، فقال:
أريد أن أنظر إلى ما في الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حائذ، قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال: هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وهو شبه الرحا، قال: أريد أن أركبه فأدور فيه، فقال له الملك: إنك لن تستطيع اليوم ذلك، ثم قال: إنه سيأتيك رزق من الجنة فلا تؤثر عليه شيئا من الدنيا فإنه لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا، فبينما هو واقف إذ أنزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف: صنف كالزبرجد الأخضر وصنف كالياقوت الأحمر وصنف كاللؤلؤ الأبيض، ثم قال: يا حائذ هذا من حصرم الجنة ليس من يانع عنبها فارجع فقد انتهى إليك علم النيل، فرجع حتى انتهى إلى الدابة فركبها فلما أهوت الشمس إلى الغروب أهوت إليها لتلتقمها فقذفت به إلى جانب البحر الآخر فأقبل حتى انتهى إلى عمران فوجده قد مات في يومه ذلك فدفنه وأقام
على قبره، فلما كان في اليوم الثالث أقبل شيخ كبير كأنه بعض العبّاد فبكى على عمران طويلا وصلى على قبره وترحم عليه ثم قال: يا حائذ ما الذي انتهى إليك من علم النيل؟ فأخبره، فقال: هكذا نجده في الكتاب، ثم التفت إلى شجرة تفاح هناك فأقبل يحدّثه ويطري تفاحها في
قال: لا! قيل: هذا الذي أخرج أباك آدم من الجنة، أما إنك لو سلمت بهذا الذي معك لأكل منه أهل الدنيا فلم ينفد، فلما وقف حائذ على ذلك وعلم أنه إبليس أقبل حتى دخل مصر فأخبرهم بخبر النيل ومات بعد ذلك بمصر، قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف الكتاب: هذا خبر شبيه بالخرافة وهو مستفيض ووجوده في كتب الناس كثير، والله أعلم بصحته، وإنما كتبت ما وجدت.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
30-معجم البلدان (واسط)
واسِطٌ:في عدة مواضع: نبدأ أولا بواسط الحجاج لأنه أعظمها وأشهرها ثم نتبعها الباقي، فأوّل ما نذكر لم سميت واسطا ولم صرفت: فأما تسميتها فلأنها متوسطة بين البصرة والكوفة لأن منها إلى كل واحدة منهما خمسين فرسخا، لا قول فيه غير ذلك إلا ما ذهب إليه بعض أهل اللغة حكاية عن الكلبي أنه كان قبل عمارة واسط هناك موضع يسمّى واسط قصب، فلما عمّر الحجاج مدينته سمّاها باسمها، والله أعلم، قال المنجمون: طول واسط إحدى وسبعون درجة وثلثان، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وثلث، وهي في الإقليم الثالث، قال أبو حاتم:
واسط التي بنجد والجزيرة يصرف ولا يصرف، وأما واسط البلد المعروف فمذكّر لأنهم أرادوا بلدا واسطا أو مكانا واسطا فهو منصرف على كل حال والدليل على ذلك قولهم واسطا بالتذكير ولو ذهب به إلى التأنيث لقالوا واسط، قالوا: وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه، وأنشد سيبويه في ترك الصرف:
«منهنّ أيام صدق قد عرفت بها *** أيام واسط والأيام من هجرا»
ولقائل أن يقول: إنه لم يرد واسط هذه، فيرجع إلى
ما قاله أبو حاتم، قال الأسود: وأخبرني أبو النّدى قال: إن للعرب سبعة أواسط: واسط نجد، وهو الذي ذكره خداش بن زهير حيث قال:
«عفا واسط كلّاؤه فمحاضره *** إلى حيث نهيا سيله فصدائره»
وواسط الحجاز، وهو الذي ذكره كثيّر فقال:
«أجدّوا فأما أهل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»
وواسط الجزيرة، قال الأخطل:
«كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرّباب خيالا؟»
وقال أيضا:
«عفا واسط من أهل رضوى فنبتل *** فمجتمع الحرّين فالصبر أجمل»
وواسط اليمامة، وهو الذي ذكره الأعشى، وواسط العراق، قال: وقد نسيت اثنين، وأول أعمال واسط من شرقي دجلة فم الصلح ومن الجانب الغربي زرفامية، وآخر أعمالها من ناحية الجنوب البطائح وعرضها الخيثمية المتصلة بأعمال باروسما وعرضها من ناحية الجانب الشرقي عند أعمال الطيب، وقال يحيى بن مهدي بن كلال: شرع الحجاج في عمارة واسط في سنة 84 وفرغ منها في سنة 86 فكان عمارتها في عامين في العام الذي مات فيه عبد الملك بن مروان، ولما فرغ منها كتب إلى عبد الملك: إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسمّيتها واسطا، فلذلك سمّي أهل واسط الكرشيّين، وقال الأصمعي: وجّه الحجاج الأطبّاء ليختاروا له موضعا حتى يبني فيه مدينة فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجوّلوا العراق ورجعوا وقالوا: ما أصبنا مكانا أوفق من موضعك هذا في خفوف الريح وأنف البرّيّة، وكان الحجاج قبل اتخاذه واسطا أراد نزول الصين من كسكر وحفر بها نهر الصين وجمع له الفعلة ثم بدا له فعمّر واسطا ثم نزل واحتفر النيل والزاب وسمّاه زابا لأخذه من الزاب القديم وأحيا ما على هذين النهرين من الأرضين ومصر مدينة النيل، وقال قوم: إن الحجاج لما فرغ من حروبه استوطن الكوفة فآنس منهم الملال والبغض له، فقال لرجل ممن يثق بعقله:
امض وابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة وليكن على نهر جار، فأقبل ملتمسا ذلك حتى سار إلى قرية فوق واسط بيسير يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال: كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل له: أربعون فرسخا، قال: فإلى المدائن؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فإلى الأهواز؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فللبصرة؟
قالوا: أربعون فرسخا، قال: هذا موضع متوسط، فكتب إلى الحجاج بالخبر ومدح له الموضع، فكتب إليه: اشتر لي موضعا ابني فيه مدينة، وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان فساومه بالموضع فقال له الدهقان: ما يصلح هذا الموضع للأمير، فقال: لم؟ فقال: أخبرك عنه بثلاث خصال تخبره بها ثم الأمر إليه، قال: وما هي؟ قال: هذه بلاد سبخة البناء لا يثبت فيها، وهي شديدة الحرّ والسموم وإن الطائر لا يطير في الجوّ إلا ويسقط لشدّة الحر ميتا، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة، قال: فكتب بذلك إلى الحجاج، فقال: هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار ونكثر من البناء والغرس فيها ومن الزرع حتى تعذو وتطيب، وأما
قوله إنها سبخة وإن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا، وأما قلة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله تعالى لا إلينا، وأعلمه أننا نحسن مجاورتنا له ونقضي ذمامه بإحساننا إليه، قال: فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء في أول سنة 83 واستتمه
وحدّث عليّ بن حرب الموصلي عن أبي البختري وهب عن عمرو بن كعب بن الحارث الحارثي قال:
سمعت خالي يحيى بن الموفق يحدث عن مسعدة بن صدقة العبدي قال: أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا سماك بن حرب قال: استعملني الحجاج بن يوسف على ناحية بادوريا، فبينما أنا يوما على شاطئ دجلة ومعي صاحب لي إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر فصاح باسمي واسم أبي، فقلت: ما تشاء؟ فقال: الويل لأهل مدينة تبنى ههنا، ليقتلنّ فيها ظلما سبعون ألفا! كرّر ذلك ثلاث مرّات ثم أقحم فرسه في دجلة حتى غاب في الماء، فلما كان من قابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع فإذا أنا برجل على فرس فصاح بي كما صاح في المرّة الأولى وقال كما قال وزاد: سيقتل من حولها ما يستقلّ الحصى لعددهم، ثم أقحم فرسه في الماء حتى غاب، قال: وكانوا يرون أنها واسط وما قتل الحجاج فيها، وقيل إنه أحصي في محبس الحجاج ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين وأحصي من قتله صبرا فبلغوا مائة وعشرين ألفا، ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من الزند ورد والدّوقرة ودير ماسرجيس وسرابيط فضجّ أهل هذه المدن وقالوا:
قد غصبتنا على مدائننا وأموالنا، فلم يلتفت إلى قولهم، قالوا: وأنفق الحجاج على بناء قصره والجامع والخندقين والسور ثلاثة وأربعين ألف ألف درهم، فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن: هذه نفقة كثيرة وإن احتسبها لك أمير المؤمنين وجد في نفسه، قال: فما نصنع؟
قال: الحروب لها أجمل، فاحتسب منها في الحروب بأربعة وثلاثين ألف ألف درهم واحتسب في البناء تسعة آلاف ألف درهم، قال: ولما فرغ منه وسكنه أعجبه إعجابا شديدا، فبينما هم ذات يوم في مجلسه إذ أتاه بعض خدمه فأخبره أن جارية من جواريه وقد كان مائلا إليها قد أصابها لمم فغمّه ذلك ووجّه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال الذي يقال له صديق إبليس، فلما قدم عليه أخبره بذلك فقال: أنا أحل السحر عنها، فقال له: افعل، فلما زال ما كان بها قال الحجاج: ويحك إني أخاف أن يكون هذا القصر محتضرا! فقال له: أنا أصنع فيه شيئا فلا ترى ما تكرهه، فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين وفي يده قلّة مختومة فقال: أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه ما تكرهه أبدا، فقال الحجاج له: يا ابن هلال وما علامة ذلك؟ قال:
أن يأمر الأمير برجل من أصحابه بعد آخر من أشداء أصحابه حتى يأتي على عشرة منهم فليجهدوا أن يستقلوا بها من الأرض فإنهم لا يقدرون، فأمر الحجاج محضره بذلك فكان كما قال ابن هلال، وكان بين يدي الحجاج مخصرة فوضعها في عروة القلة ثم قال:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة فوضعها ثم فكّر منكّسا رأسه ساعة ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال له: خذ قلتك والحق بأهلك، قال: ولم؟ قال:
إن هذا القصر سيخرب بعدي وينزله غيري ويختفر محتفر فيجد هذه القلة فيقول لعن الله الحجاج إنما كان
يبدأ أمره بالسحر، قال: فأخذها ولحق بأهله، قالوا: وكان ذرع قصره أربعمائة في مثلها وذرع مسجد الجامع مائتين في مائتين وصف الرحبة التي تلي صفّ الحدّادين ثلاثمائة في ثلاثمائة وذرع الرحبة التي تلي الجزّارين والحوض ثلاثمائة في مائة والرحبة التي تلي الإضمار ما
لبيك لبيك! وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى افتتح الهند واستنقذ المرأة وأحسن إليها واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخّن أهل قزوين دخّنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجرّد الخيل إليهم فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فكانت قزوين ثغرا حينئذ. وأما قولهم تغافل واسطيّ قال المبرّد: سألت الثوري عنه فقال: إن الحجاج لما بناها قال: بنيت مدينة في كرش من الأرض، كما قدمنا، فسمي أهلها الكرشيّين، فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا يا كرشيّ فتغافل عن ذلك ويري أنه لا يسمع أو أن الخطاب ليس معه، ولقد جاءني بخوارزم أحد أعيان أدبائها وسألني عن هذا المثل وقال لي:
قد أطلت السؤال عنه والتفتيش عن معنى قولهم: تغافل واسطي، فلم أظفر به، ولم يكن لي في ذلك الوقت به علم حتى وجدته بعد ذلك فأخبرته ثم وضعته أنا ههنا، ورأيت أنا واسطا مرارا فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيل يفوت الحصر، وكان الرخص موجودا فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف بحيث أني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين واثنتي عشرة دجاجة بدرهم وأربعة وعشرين فروجا بدرهم والسمن اثنا عشر رطلا بدرهم والخبز أربعون رطلا بدرهم واللبن مائة وخمسون رطلا بدرهم والسمك مائة رطل بدرهم وجميع ما فيها بهذه النسبة، وممن ينسب إليها خلف بن محمد بن علي ابن حمدون أبو محمد الواسطي الحافظ صاحب كتاب أطراف أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، حدث عن أحمد بن جعفر القطيعي والحسين بن أحمد المديني وأبي بكر الإسماعيلي وغيرهم، روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو نعيم الأصبهاني وغيرهما، وأنشدني التنوخي للفضل الرقاشي يقول:
«تركت عيادتي ونسيت برّي، *** وقدما كنت بي برّا حفيّا»
«فما هذا التغافل يا ابن عيسى؟ *** أظنّك صرت بعدي واسطيّا»
وأنشدني أحمد بن عبد الرحمن الواسطي التاجر قال:
أنشدني أبو شجاع بن دوّاس القنا لنفسه:
«يا ربّ يوم مرّ بي في واسط *** جمع المسرة ليله ونهاره»
«مع أغيد خنث الدلال مهفهف *** قد كاد يقطع خصره زنّاره»
«وقميص دجلة بالنسيم مفرّك *** كسر تجرّ ذيوله أقطاره»
وأنشدني أيضا لأبي الفتح المانداني الواسطي:
«عرّج على غربيّ واسط إنني *** دائي الدويّ بها وفرط سقامي»
«وطني وما قضّيت فيه لبانتي، *** ورحلت عنه وما قضيت مرامي»
وقال بشار بن برد يهجو واسطا:
«على واسط من ربها ألف لعنة، *** وتسعة آلاف على أهل واسط»
«أيلتمس المعروف من أهل واسط *** وواسط مأوى كلّ علج وساقط؟»
«نبيط وأعلاج وخوز تجمّعوا *** شرار عباد الله من كل غائط»
«وإني لأرجو أن أنال بشتمهم *** من الله أجرا مثل أجر المرابط»
وقال غيره يهجوهم:
«يا واسطيين اعلموا أنني *** بذمّكم دون الورى مولع»
«ما فيكم كلكم واحد *** يعطي ولا واحدة تمنع»
وقال محمد بن الأجلّ هبة الله بن محمد بن الوزير أبي المعالي بن المطلب يلقب بالجرد يذكر واسطا:
«لله واسط ما أشهى المقام بها *** إلى فؤادي وأحلاه إذا ذكرا! »
«لا عيب فيها، ولله الكمال، سوى *** أنّ النسيم بها يفسو إذا خطر! »
وواسط أيضا: قرية متوسطة بين بطن مرّ ووادي نخلة ذات نخيل، قال لي صديقنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار: كنت ببطن مرّ فرأيت نخلا عن بعد فسألت عنه فقيل لي هذه قرية يقال لها واسط، وقال بعض شعراء الأعراب يذكر واسطا في بلادهم:
«ألا أيها الصّمد الذي كان مرّة *** تحلّل سقّيت الأهاضيب من صمد»
«ومن وطن لم تسكن النفس بعده *** إلى وطن في قرب عهد ولا بعد»
«ومنزلتي دلقاء من بطن واسط *** ومن ذي سليل كيف حالكما بعدي»
«تتابع أمطار الربيع عليكما، *** أما لكما بالمالكية من عهد؟»
وواسط أيضا: قرية مشهورة ببلخ، قال إبراهيم ابن أحمد السراج: حدثنا محمد بن إبراهيم المستملي بحديث ذكره محمد بن محمد بن إبراهيم الواسطي واسط بلخ، قال أبو إسحاق المستملي في تاريخ بلخ:
نور بن محمد بن علي الواسطي واسط بلخ وبشير بن ميمون أبو صيفي من واسط بلخ عن عبيد المكتب وغيره حدث عنه قتيبة، وقال أبو عبيدة في شرح قول الأعشى:
«في مجدل شيّد بنيانه *** يزلّ عنه ظفر الطائر»
مجدل: حصن لبني السّمين من بني حنيفة يقال له واسط.
واسط أيضا: قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قرية يقال لها الكوفة.
وواسط أيضا: قرية بالخابور قرب قرقيسيا، وإياها عنى الأخطل فيما أحسب لأن الجزيرة منازل تغلب:
عفا واسط من أهل رضوى فنبتل وواسط أيضا: بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، قال الحافظ أبو موسى: سمعت أبا عبد الله يحيى بن
أبي علي البنّاء ببغداد، حدثني القاضي أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن شاده الأصبهاني ثم الواسطي، واسط دجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، ومحمد بن عمر بن علي العطار الحربي ثم الواسطي واسط دجيل، روى عن محمد بن ناصر السلامي، روى عنه جماعة، منهم:
محمد بن عبد الغني بن نقطة.
واسط الرّقّة: كان أول من استحدثها هشام بن عبد الملك لما حفر الهنيّ والمريّ، قال أبو الفضل قال أبو علي صاحب تاريخ الرقة: سعيد بن أبي سعيد الواسطي واسم أبيه مسلمة بن ثابت خراسانيّ سكن واسط الرقة وكان شيخا صالحا، حدث أبوه مسلمة عن شريك وغيره، قال أبو علي:
سمعت الميمون يقول ذكروا أن الزهري لما قدم واسط الرقة عبر إليه سبعة من أهل الرقة، وذكر قصة، وواسط هذه: قرية غربي الفرات مقابل الرقة، وقال أبو حاتم: واسط بالجزيرة فهي هذه أو التي بقرقيسيا أو غيرها، قال كثيّر عزة:
«سألت حكيما أين شطّت بها النوى، *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم»
«أجدّوا، فأما آل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»
«فما للنوى؟ لا بارك الله في النوى! *** وعهد النوى عند الفراق ذميم»
«شهدت لئن كان الفؤاد من النوى *** معنّى سقيما إنني لسقيم»
«فإمّا تريني اليوم أبدي جلادة *** فإني لعمري تحت ذاك كليم»
«وما ظعنت طوعا ولكن أزالها *** زمان بنا بالصالحين غشوم»
«فوا حزني لمّا تفرّق واسط *** وأهل التي أهذي بها وأحوم! »
قال محمد بن حبيب: واسط هذه بناحية الرقة، قاله في شرح ديوان كثير، وأنا أرى أنه أراد واسط التي بالحجاز أو بنجد بلا شك ولكن علينا أن ننقل عن الأئمة ما يقولونه، والله أعلم، وقال ابن السكيت في قول كثير أيضا:
«فإذا غشيت لها ببرقة واسط *** فلوى لبينة منزلا أبكاني»
قال واسط بين العذيبة والصفراء.
وواسط أيضا: من منازل بني قشير لبني أسيدة وهم بنو مالك بن سلمة بن قشير وأسيدة وحيدة من بني سعد بن زيد مناة، وبنو أسيدة يقولون هي عربية.
وواسط أيضا: بمكة، وذكر محمد بن إسحاق الفاكهي في كتاب مكة قال: واسط قرن كان أسفل من جمرة العقبة بين المأزمين فضرب حتى ذهب، قال: ويقال له واسط لأنه بين الجبلين اللذين دون العقبة، قال:
وقال بعض المكيين بل تلك الناحية من بركة القسري إلى العقبة تسمى واسط المقيم، ووقف عبد المجيد بن أبي روّاد بأحمد بن ميسرة على واسط في طريق منى فقال له: هذا واسط الذي يقول فيه كثير عزّة:
... وأما واسط فمقيم وقد ذكر، وقال ابن إدريس قال الحميدي: واسط الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى منى، قاله في شرح قول عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي في قصيدته التي أولها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
«ولم يتربّع واسطا وجنوبه *** إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر»
«وأبدلنا ربي بها دار غربة *** بها الجوع باد والعدوّ محاصر»
قال السهيلي في شرح السيرة قال الفاكهي: يقال إن أول من شهده وضرب فيه قبّة خالصة مولاة الخيزران.
وواسط أيضا: بالأندلس بليدة من أعمال قبرة، قال ابن بشكوال: أحمد بن ثابت بن أبي الجهم الواسطي ينسب إلى واسط قبرة، سكن قرطبة، يكنى أبا عمر، روى عن أبي محمد الأصيلي وكان يتولى القراءة عليه، حدث عنه أبو عبد الله بن ديباج ووصفه بالخير والصلاح، قال ابن حبّان: توفي الواسطي في جمادي الآخرة سنة 437 وكفّ بصره.
وواسط أيضا: قرية كانت قبل واسط في موضعها خرّبها الحجاج، وكانت واسط هذه تسمى واسط القصب، وقد ذكرتها مع واسط الحجاج، قال ابن الكلبي:
كان بالقرب من واسط موضع يسمى واسط القصب هي التي بناها الحجاج أولا قبل أن يبني واسط هذه التي تدعى اليوم واسطا ثم بنى هذه فسماها واسطا بها.
وواسط أيضا: قرية قرب مطيراباذ قرب حلّة بني مزيد يقال لها واسط مرزاباذ، قال أبو الفضل: أنشدنا أبو عبد الله أحمد الواسطي، واسط هذه القرية، قال:
أنشدنا أبو النجم عيسى بن فاتك الواسطي من هذه القرية لنفسه من قصيدة يمدح بعض العمّال:
«وما على قدره شكرت له، *** لكنّ شكري له على قدري»
«لأن شكري السّهى وأنعمه ال *** بدر، وأين السهى من البدر! »
وواسط أيضا قال العمراني: واسط مواضع في بلاد بني تميم، وهي التي أرادها ذو الرمة بقوله:
«غربيّ واسط نها *** ومجّت في الكثيب الأباطح »
وقال ابن دريد: واسط مواضع بنجد، ولعلها التي قبلها، والله أعلم.
وواسط أيضا: قرية في شرقي دجلة الموصل بينهما ميلان ذات بساتين كثيرة.
وواسط أيضا: قرية بالفرج من نواحي الموصل بين مرق وعين الرّصد أو بين مرق والمجاهدية، فإني نسيت هذا المقدار.
وواسط أيضا: باليمن بسواحل زبيد قرب العنبرة التي خرج منها علي بن مهدي المستولي على اليمن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
31-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (التمني)
التّمنّي:تمنّى الشيء: أراده، والتمني: تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه.
ولا يخرج معنى التمني عند البلاغيين عن هذا المعنى فهو توقع أمر محبوب في المستقبل، والفرق بينه وبين الترجي أنّه يدخل في المستحيلات، والترجي لا يكون إلا في الممكنات. ولكن البلاغيين ـ مع ذلك ـ يفرقون بين نوعين من التمني:
الأوّل: توقع الأمر المحبوب الذي لا يرجى حصوله لكونه مستحيلا كقوله تعالى: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}، وقول الشاعر:
«ألا ليت الشّباب يعود يوما***فأخبره بما فعل المشيب »
الثاني: توقع الأمر المحبوب الذي لا يرجى حصوله لكونه ممكنا غير مطموع في نيله كقوله تعالى: {يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ}.
والأداة الموضوعة للتمني «ليت» وقد تستعمل ثلاثة أحرف للدلالة عليه:
أحدها: «هل» كقوله تعالى: {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا}.
الثاني: «لو» سواء كانت مع «ودّ» كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}. أو لم تكن، كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}، وقوله: {لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}.
الثالث: «لعل» كقوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى}. ومنه قول الشاعر:
«أسرب القطا هل من يعير جناحه ***لعلّي الى من قد هويت أطير »
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
32-موسوعة الفقه الكويتية (استقبال 1)
اسْتِقْبَال -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِقْبَالُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَقْبَلَ الشَّيْءَ إِذَا وَاجَهَهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لَيْسَتَا لِلطَّلَبِ، فَاسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَاسْتَمَرَّ وَاسْتَقَرَّ وَمِثْلُهُ الْمُقَابَلَةُ.
وَيُقَابِلُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى الِاسْتِدْبَارُ.
وَيَرِدُ الِاسْتِقْبَالُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى: الِاسْتِئْنَافِ، يُقَالُ اقْتَبَلَ الْأَمْرَ وَاسْتَقْبَلَهُ: إِذَا اسْتَأْنَفَهُ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ فَيَقُولُونَ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ أَيْ مُقَابَلَتُهَا وَيَقُولُونَ: اسْتَقْبَلَ حَوْلَ الزَّكَاةِ أَيِ: ابْتَدَأَهُ وَاسْتَأْنَفَهُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إطْلَاقَهُ عَلَى طَلَبِ الْقَبُولِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيجَابَ فِي الْعُقُودِ، فَقَالُوا: يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ: اشْتَرِ مِنِّي، فَإِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِيجَابِ، وَمِثْلُ الْبَيْعِ الرَّهْنُ، فَيَصِحُّ بِنَحْوِ: ارْتَهِنْ دَارِي بِكَذَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- الِاسْتِئْنَافُ:
2- الِاسْتِئْنَافُ: ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادِفٌ لِلِاسْتِقْبَالِ فِي أَحَدِ إطْلَاقَاتِهِ.
ب- الْمُسَامَتَةُ:
3- الْمُسَامَتَةُ بِمَعْنَى: الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَاةِ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الِاسْتِقْبَالَ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ بِلَا انْحِرَافٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الِاسْتِقْبَالِ هَذَا الشَّرْطَ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَخَصُّوا الْمُسَامَتَةَ بِاسْتِقْبَالِ عَيْنِ الشَّيْءِ تَمَامًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَجَعَلُوا الِاسْتِقْبَالَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، لِصِدْقِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْعَيْنِ.
ج- الْمُحَاذَاةُ:
4- الْمُحَاذَاةُ بِمَعْنَى: الْمُوَازَاةِ.وَمَا قِيلَ فِي الْمُسَامَتَةِ يُقَالُ هُنَا أَيْضًا.
د- الِالْتِفَاتُ:
5- الِالْتِفَاتُ صَرْفُ الْوَجْهِ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ.وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِانْحِرَافُ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «فَجَعَلَتْ تَلْتَفِتُ خَلْفَهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَوُّلَ إلَى خَلْفٍ لَا يَكُونُ إلاَّ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ.
6- هَذَا وَالِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ قَدْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ.
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:
7- الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ بِنَاؤُهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ.وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ.وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَةِ إلَى السَّمَاءِ يُعَدُّ قِبْلَةً، وَهَكَذَا مَا تَحْتَهَا مَهْمَا نَزَلَ، فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ وَالْآبَارِ الْعَمِيقَةِ جَازَ مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَوْ زَالَتْ صَحَّتِ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَبَلِ يُعَدُّ مُصَلِّيًا إلَيْهَا.
اسْتِقْبَالُ الْحِجْرِ:
8- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ الْمُصَلِّي الْحِجْرَ دُونَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْقِبْلَةِ احْتِيَاطًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى الْحِجْرِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ».وَفِي رِوَايَةٍ: «سِتُّ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ» وَلِأَنَّهُ لَوْ طَافَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ.وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصَحِّ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَدَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ بِسِتِّ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، فَمَنِ اسْتَقْبَلَ عِنْدَهُمْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَلْبَتَّةَ.عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الطَّوَافِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنْ جَمِيعِهِ احْتِيَاطًا.
حُكْمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:
9- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْلِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الِاسْتِقْبَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى الرَّاجِحِ، اُنْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ.
تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ:
10- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ تَحْوِيلُ الْمُصَلِّي صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَعَمَّدَ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ يَكْفُرُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ مَعَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.
وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا صَلَّى بِلَا تَحَرٍّ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِبِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ- كَالِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرُوطِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ- يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ لَا تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ حَصَلَ وَلَيْسَ فِيهِ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ لِجِهَةٍ فَخَالَفَهَا وَصَلَّى مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ، وَيُعِيدُ أَبَدًا.وَأَمَّا لَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِيًا وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ فَهَلْ يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا يَجْرِي فِي النَّاسِي إِذَا أَخْطَأَ، أَوْ يُجْزَمُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ صَادَفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؟.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ اسْتِقْبَالُهَا بِجَهْلٍ وَلَا غَفْلَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ، فَلَوْ اسْتَدْبَرَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ لَوْ عَادَ عَنْ قُرْبٍ.وَيُسَنُّ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّ تَعَمُّدَ الِاسْتِدْبَارِ مُبْطِلٌ.وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أُمِيلَ عَنْهَا قَهْرًا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ، وَإِنْ قَلَّ الزَّمَنُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ.وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ شُرِطَ اسْتِقْبَالُهَا.كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا تَسْقُطُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا.
هَذَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، حَيْثُ بَقِيَتْ رِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مُعَايِنِ الْكَعْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ أُصْبُعًا مِنْ سَمْتِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:
11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّدْرِ لَا بِالْوَجْهِ، خِلَافًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا الذَّاتُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الذَّاتِ بَعْضُهَا وَهُوَ الصَّدْرُ فَهُوَ مَجَازٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَجَازٍ.وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْبَالُ بِالْقَدَمَيْنِ.
أَمَّا الِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَهَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ.أَمَّا الَّذِي يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِعَجْزِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِقْبَالِ التَّوَجُّهُ بِالصَّدْرِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ التَّوَجُّهُ بِالرِّجْلَيْنِ.
عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَعَرَّضُوا لِأَعْضَاءٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْمُصَلِّي الْقِبْلَةَ فِي مُنَاسِبَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، نَكْتَفِي بِالْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِهَا دُونَ تَفْصِيلٍ لِكَوْنِهَا بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَلْصَقَ، وَلِسِيَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبَ مِنْ جِهَةٍ، وَتَفَادِيًا لِلتَّكْرَارِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.وَمِنْ ذَلِكَ:
اسْتِحْبَابِ الِاسْتِقْبَالِ بِبُطُونِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِالْيَدَيْنِ وَبِأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَبِأَصَابِعِ يُسْرَاهُ فِي التَّشَهُّدِ.وَذَلِكَ حِينَ الْكَلَامِ عَلَى «صِفَةِ الصَّلَاةِ».فَمَنْ أَرَادَهَا بِالتَّفْصِيلِ فَلْيَرْجِعْ إلَى مَوَاطِنِهَا هُنَاكَ.
اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ لِلْقِبْلَةِ:
اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ الْمُعَايِنِ:
12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ إصَابَةُ عَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَلَا يَكْفِي الِاجْتِهَادُ وَلَا اسْتِقْبَالُ جِهَتِهَا، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالْجِهَةِ الْمُعَرَّضَيْنِ لِلْخَطَأِ.وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنِ انْحَرَفَ عَنْ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَهُوَ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَهُ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ- وَأَقَرُّوهُ- أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي مَكَّةَ وَمَا فِي حُكْمِهَا مِمَّنْ تُمْكِنُهُ الْمُسَامَتَةُ لَوِ اسْتَقْبَلَ طَرَفًا مِنَ الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ وَخَرَجَ بَاقِيهِ- لَوْ عُضْوًا وَاحِدًا- عَنِ اسْتِقْبَالِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي التَّوَجُّهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ.
صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ قُرْبَ الْكَعْبَةِ:
13- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ إنِ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِمْ لَهَا، بِخِلَافِ الْبُعْدِ عَنْهَا، فَيُصَلُّونَ فِي حَالَةِ الْقُرْبِ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ قَصُرُوا عَنِ الدَّائِرَةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ غَيْرِ الْمُعَايِنِ:
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَذْهَبِهِمْ فِي إصَابَةِ الْجِهَةِ فِي «اسْتِقْبَالِ الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ».وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالْمَسْجِدِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إصَابَةَ الْعَيْنِ يَقِينًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ نَاشِئًا بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ فَفَرْضُهُ الْخَبَرُ، كَمَا إِذَا وَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَأَخْبَرَهُ أَهْلُ الدَّارِ بِهَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ إصَابَةُ الْعَيْنِ إنْ تَيَقَّنَ إصَابَتَهَا، وَإِلاَّ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ.
15- الِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ.مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لِحَدِيثِ بِلَالٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ».قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ.وَمَتَى صَارَ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا.وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا الْجِهَةَ الَّتِي صَارَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ بِلَا ضَرُورَةٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ وَالْوِتْرُ فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْمَوَاطِنِ السَّبْعِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} قَالُوا: وَالشَّطْرُ: الْجِهَةُ.وَمَنْ صَلَّى فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَدْبِرًا مِنَ الْكَعْبَةِ مَا لَوِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي خَارِجِهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ: ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمَقْبَرَةُ»..إِلَخْ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى.وَتَوَجُّهُ الْمُصَلِّي فِي دَاخِلِهَا إلَى الْجِدَارِ لَا أَثَرَ لَهُ، إذِ الْمَقْصُودُ الْبُقْعَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلْبُقْعَةِ حَيْثُ لَا جِدَارَ.وَإِنَّمَا جَازَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ بِنَائِهَا لِأَنَّ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ مُصَلٍّ لَهَا، وَأَمَّا الْمُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهَا فَهُوَ فِيهَا.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
الِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ:
16- وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفَرْضِ وَالْوِتْرِ عَلَيْهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا:
17- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى جَوَازِ صَلَاةِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِيهَا، وَلِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِهَا فِي الْكَعْبَةِ كَذَلِكَ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّتِهِمْ عَلَى مَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَالْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى النَّفْلِ الْمُطْلَقِ، وَالثَّالِثُ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَذَهَبَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا.
أَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ عَلَى ظَهْرِهَا فَتَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي اسْتِقْبَالُ الْهَوَاءِ أَوِ اسْتِقْبَالُ قِطْعَةٍ مِنَ الْبِنَاءِ وَلَوْ مِنْ حَائِطِ السَّطْحِ.
هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرِيضَةِ.
هَذَا، وَمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ يَرِدُ فِي الْحِجْرِ (الْحَطِيمِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ.
18- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تَجُوزُ فِي الْكَعْبَةِ، تَصِحُّ لِأَيِّ جِهَةٍ وَلَوْ لِجِهَةِ بَابِهَا مَفْتُوحًا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْبِنَاءُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نُقِلَ إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَّى إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ إلَى الْبِنَاءِ.وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارًا مِنْهَا أَيًّا كَانَ، أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْبَابَ إنْ كَانَ مَفْتُوحًا وَكَانَ لَهُ عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْآدَمِيِّ تَقْرِيبًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ هُوَ سُتْرَةُ الْمُصَلِّي فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا.
وَاخْتَارَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا شَاخِصٌ يَتَّصِلُ بِهَا، كَالْبِنَاءِ وَالْبَابِ وَلَوْ مَفْتُوحًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْآجُرِّ غَيْرِ الْمَبْنِيِّ، وَلَا الْخَشَبِ غَيْرِ الْمَسْمُورِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا ارْتِفَاعَ الشَّاخِصِ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ إِذَا سَجَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاخِصٌ، اخْتَارَهَا الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.
اسْتِقْبَالُ الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ:
19- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكْفِي الْمُصَلِّي الْبَعِيدَ عَنْ مَكَّةَ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، فَيَكْفِي غَلَبَةُ ظَنِّهِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَمَامَهُ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ أَنَّهُ مُسَامِتٌ وَمُقَابِلٌ لَهَا.
وَفَسَّرَ الْحَنَفِيَّةُ جِهَةَ الْكَعْبَةِ بِأَنَّهَا الْجَانِبُ الَّذِي إِذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ يَكُونُ مُسَامِتًا لِلْكَعْبَةِ، أَوْ هَوَائِهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْرِيبًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَقَالُوا: شَطْرَ الْبَيْتِ نَحْوَهُ وَقِبَلَهُ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»
وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَمَا فِي حُكْمِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمَقْطُوعِ بِقِبْلَتِهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي اسْتِقْبَالِ الْمَحَارِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَصَّارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ تَلْزَمُ إصَابَةُ الْعَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْجِهَةِ هُنَا الْعَيْنُ؛ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ هُنَا الْعَيْنُ أَيْضًا، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» فَالْحَصْرُ هُنَا يَدْفَعُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْجِهَةِ.وَإِطْلَاقُ الْجِهَةِ عَلَى الْعَيْنِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
اسْتِقْبَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا:
20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ- كَغَيْرِهَا- الِاجْتِهَادُ لِإِصَابَةِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ جَارٍ مَعَ الْأَصْلِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (وَأَرَادُوا بِالْمَدَنِيِّ مَنْ فِي مَسْجِدِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ): يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي فِي الْمَدِينَةِ إصَابَةُ عَيْنِ الْقِبْلَةِ لِثُبُوتِ مِحْرَابِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْوَحْيِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مُشَاهِدًا لِلْبَيْتِ، بَلْ أَوْرَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ- صلى الله عليه وسلم-.
اسْتِقْبَالُ مَحَارِيبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
21- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَحَارِيبَ الصَّحَابَةِ، كَجَامِعِ دِمَشْقَ، وَجَامِعِ عَمْرٍو بِالْفُسْطَاطِ، وَمَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَالْبَصْرَةِ، لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَهَا فِي إثْبَاتِ الْجِهَةِ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِانْحِرَافِ الْيَسِيرِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، وَلَا تَلْحَقُ بِمَحَارِيبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إذْ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَدْنَى انْحِرَافٍ.
وَكَذَلِكَ مَحَارِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَارِيبُ جَادَّتِهِمْ أَيْ مُعْظَمُ طَرِيقِهِمْ وَقُرَاهُمُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا قُرُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ صَلُّوا إلَى هَذَا الْمِحْرَابِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُنْصَبْ إلاَّ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدِلَّةِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ.
لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إنْ فَرَضَ مَنْ كَانَ فِيهَا إصَابَةَ الْعَيْنِ بِبَدَنِهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى قِبْلَتِهِ، مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.
الْإِخْبَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ:
22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةً فِي الْحَضَرِ، فَيَسْأَلُ مَنْ يَعْلَمُ بِالْقِبْلَةِ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِمَّنْ يَكُونُ بِحَضْرَتِهِ.أَمَّا غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ، كَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِإِخْبَارِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلَا يُتْرَكُ اجْتِهَادُهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَرْعُ الْأَبْوَابِ.
وَأَمَّا فِي الْمَفَازَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا النُّجُومُ كَالْقُطْبِ، وَإِلاَّ فَمِنْ أَهْلِهَا الْعَالِمِ بِهَا مِمَّنْ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُومِ فِي الْمَفَازَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّؤَالِ، وَالسُّؤَالُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَرِّي.
اخْتِلَافُ الْمُخْبِرِينَ:
23- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اثْنَيْنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: يَتَسَاقَطَانِ وَيَجْتَهِدُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا إلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اُضْطُرَّ لِلْأَخْذِ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْمُخْبِرَانِ اخْتَلَفَا فِي عَلَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِعَارِضٍ فِيهَا وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّسَاقُطِ.
وَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.
أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ:
24- سَبَقَ مَا يَتَّصِلُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِبْلَةِ بِالْمَحَارِيبِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَهُنَاكَ عَلَامَاتٌ يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا، مِنْهَا:
أ- النُّجُومُ:
وَأَهَمُّهَا الْقُطْبُ، لِأَنَّهُ نَجْمٌ ثَابِتٌ وَيُمْكِنُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ.وَتَخْتَلِفُ قِبْلَةُ الْبِلَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ اخْتِلَافًا كَبِيرًا.
ب- الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ:
يُمْكِنُ التَّعَرُّفُ بِمَنَازِل الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الِاعْتِدَالَيْنِ (الرَّبِيعِيِّ وَالْخَرِيفِيِّ) بِالنِّسْبَةِ لِلشَّمْسِ، وَاسْتِكْمَالُ الْبَدْرِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَمَرِ.وَفِي غَيْرِ الِاعْتِدَالَيْنِ يُنْظَرُ إلَى اتِّجَاهِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِيهِ، وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفَاصِيلُ عَنْ ذَلِكَ.وَيُتَّبَعُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِمَطَالِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغَارِبِهِمَا.
ج- الْإِبْرَةُ الْمِغْنَاطِيسِيَّةُ:
مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْيَقِينِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا تُحَدِّدُ جِهَةَ الشَّمَالِ تَقْرِيبًا، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ وَتُحَدَّدُ الْقِبْلَةُ.
تَرْتِيبُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:
25- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْقِبْلَةِ فِي الْمَفَاوِزِ وَالْبِحَارِ النُّجُومُ كَالْقُطْبِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوُجُودِ غَيْمٍ أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَيَتَحَرَّى.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ خَبَرِ جَمْعٍ بَلَغَ عَدَدُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، لِإِفَادَتِهِ الْيَقِينَ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمٍ بِرُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْمَحَارِيبِ الْمُعْتَمَدَةِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْقُطْبِ.
وَأَمَّا بَيْتُ الْإِبْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ عَنْ يَقِينٍ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ.
تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:
26- تَعَلُّمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْقِبْلَةُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.وَقَدْ يُصْبِحُ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَاجِبًا عَيْنِيًّا، كَمَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَجْهَلُ مَعَهُ اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَيَقِلُّ فِيهَا الْعَارِفُونَ بِهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ.
وَهَلْ يَجُوزُ تَعَلُّمُهَا مِنْ كَافِرٍ؟ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ لَا تَمْنَعُ ذَلِكَ.لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي اتِّجَاهِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْكَافِرُ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ كَتَعَلُّمِ سَائِرِ الْعُلُومِ.
الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ:
27- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ فَقَدَ الْمُصَلِّي مَا ذُكِرَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَحَارِيبِ وَالْمُخْبِرِ وَأَمْكَنَهُ الِاجْتِهَادُ، بِأَنْ كَانَ بَصِيرًا يَعْرِفُ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، إذْ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ.
وَقَالُوا: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ عَنْ الِاجْتِهَادِ صَلَّى حَسَبَ حَالِهِ وَلَا يُقَلِّدُ، كَالْحَاكِمِ لَا يَسَعُهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ.وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ شَرْطَ الِاجْتِهَادِ لَا يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِهِ.
الشَّكُّ فِي الِاجْتِهَادِ وَتَغَيُّرُهُ:
28- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي حَتْمًا، إِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَمِلَ بِالْأَوَّلِ إِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الثَّانِي.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْ جِهَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ.وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، كَالْحَاكِمِ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ عَمِلَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ جَازَ، لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّا لَمْ نُلْزِمْهُ إعَادَةَ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا نُلْزِمُهُ الْعَمَلَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لِمَنْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ فِي الصَّلَاةِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَهَا وُجُوبًا.أَمَّا بَعْدَ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا نَدْبًا لَا وُجُوبًا.قِيَاسًا عَلَى الْقَاضِي إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ الدَّلِيلِ قَبْلَ بَتِّ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ نُقِضَ.أَمَّا إنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ.
الِاخْتِلَافُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ:
29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَ الْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ الِائْتِمَامُ.
وَعِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ، وَأَنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اخْتِلَافُ الْجِهَةِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.
وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْجِهَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الِانْحِرَافِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِلَا خِلَافٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ، وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمَا، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ الْمُفَارَقَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَا تَيَامُنًا وَتَيَاسُرًا، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْمُفَارَقَةِ فَلَا تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمَ الْمَأْمُومُ بِانْحِرَافِ إمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلاَّ بَعْدَ السَّلَامِ فَالْأَقْرَبُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فَتَحَوَّلَ رَأْيُ مَسْبُوقٍ وَلَاحِقٍ اسْتَدَارَ الْمَسْبُوقُ، لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَاسْتَأْنَفَ اللاَّحِقُ، لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ فِيمَا يَقْضِيهِ.وَالْمُقْتَدِي إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَرَاءَ الْإِمَامِ أَنَّ الْقِبْلَةَ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ إنِ اسْتَدَارَ خَالَفَ إمَامَهُ فِي الْجِهَةِ قَصْدًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَإِلاَّ كَانَ مُتِمًّا صَلَاتَهُ إلَى مَا هُوَ غَيْرُ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ مُفْسِدٌ أَيْضًا.
خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ:
30- خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحَرِّي أَوْ بَعْدَهُ، وَسَنَتَنَاوَلُ بِالْبَحْثِ كُلًّا عَلَى حِدَةٍ.
خَفَاءُ الْقِبْلَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالتَّحَرِّي:
31- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِفَقْدِهَا أَوْ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ أَوِ الْتِبَاسٍ مَعَ ظُهُورِهَا، حَيْثُ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَئِذٍ، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهِ، أَشْبَهَ الْحَاكِمَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّحَرِّيَ بِأَنَّهُ بَذْلُ الْجُهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ.وَأَفَادَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّ قِبْلَةَ التَّحَرِّي مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ يُصَلِّي إلَيْهَا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَلَا إعَادَةَ لِسُقُوطِ الطَّلَبِ عَنْهُ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِتَكْرَارِ الصَّلَاةِ إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فِي حَالَةِ التَّحَرِّي وَعَدَمِ الرُّكُونِ إلَى جِهَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ كَانَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَيَقْضِي لِنُدْرَتِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 1)
أَسْرَى -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُسَارَى وَأَسَارَى.وَالْأَسِيرُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَيْدِ.فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِهِ.وَكُلُّ مَحْبُوسٍ فِي قَيْدٍ أَوْ سِجْنٍ أَسِيرٌ.قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الْأَسِيرُ: الْمَسْجُونُ.
2- وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَسْرَى بِأَنَّهُمُ: الرِّجَالُ الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.وَهُوَ تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ بِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُظْفَرُ بِهِمْ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَيُؤْخَذُونَ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ أَوْ فِي نِهَايَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فِعْلِيَّةٍ، مَا دَامَ الْعَدَاءُ قَائِمًا وَالْحَرْبُ مُحْتَمَلَةٌ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ قِتَالَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ إِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلُ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إِلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ.وَفِي الْمُغْنِي: هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقِيلَ: يَكُونُ فَيْئًا.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْأَسِيرِ أَيْضًا عَلَى: مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَعَلَى مَنْ يَظْفَرُونَ بِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَ مُقَاتَلَتِهِمْ لَنَا.يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْأَسِيرِ عَلَى: الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَفِرَ بِهِ الْعَدُوُّ.يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفُكَّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ...وَيَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطْفَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرَّهِينَةُ:
3- الرَّهِينَةُ: وَاحِدَةُ الرَّهَائِنِ وَهِيَ كُلُّ مَا اُحْتُبِسَ بِشَيْءٍ، وَالْأَسِيرُ وَالرَّهِينَةُ كِلَاهُمَا مُحْتَبَسٌ، إِلاَّ أَنَّ الْأَسِيرَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا وَاحْتِبَاسُهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ حَقٍّ.
ب- الْحَبْسُ:
4- الْحَبْسُ: ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، وَالْمَحْبُوسُ: الْمُمْسَكُ عَنِ التَّوَجُّهِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَالْحَبْسُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ.
ج- السَّبْيُ:
5- السَّبْيُ وَالسَّبَاءُ: الْأَسْرُ، فَالسَّبْيُ أَخْذُ النَّاسِ عَبِيدًا وَإِمَاءً وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْيِ عَلَى مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حَيًّا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَطْفَالِهِمْ.وَيُخَصِّصُونَ لَفْظَ الْأَسْرَى- عِنْدَ مُقَابَلَتِهِ بِلَفْظِ السَّبَايَا- بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.
صِفَةُ الْأَسْرِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
6- الْأَسْرُ مَشْرُوعٌ، وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وَلَا يَتَنَافَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي مَنْعِ الْأَسْرِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، أَيِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَتْلِ الْكُفَّارِ.
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَسْرِ:
7- هِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعُ شَرِّهِ، وَإِبْعَادُهُ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ، لِمَنْعِ فَاعِلِيَّتِهِ وَأَذَاهُ، وَلِيُمْكِنَ افْتِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهِ.
مَنْ يَجُوزُ أَسْرُهُمْ وَمَنْ لَا يَجُوزُ:
8- يَجُوزُ أَسْرُ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ شَابًّا أَوْ شَيْخًا أَوِ امْرَأَةً، الْأَصِحَّاءِ مِنْهُمْ وَالْمَرْضَى، إِلاَّ مَنْ لَا يُخْشَى مِنْ تَرْكِهِ ضَرَرٌ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْسَرُ مَنْ لَا ضَرَرَ مِنْهُمْ، وَلَا فَائِدَةَ فِي أَسْرِهِمْ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ إِذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُمْ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَقْتُلُ يَجُوزُ أَسْرُهُ، إِلاَّ الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رَأْيٌ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤْسَرَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعْتُوهِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُمْ وَإِنْ حَرُمَ قَتْلُهُمْ يَجُزْ أَسْرُهُمْ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَسْرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُ الْجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.
9- وَلَا يَجُوزُ أَسْرُ أَحَدٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا عَهْدُ مُوَادَعَةٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ، وَبِالْأَمَانِ لَا تَصِيرُ الدَّارُ مُسْتَبَاحَةً، وَحَتَّى لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُوَادِعِينَ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وُجِدَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، وَمَا لَوْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّ الْأَمَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي حِصْنِ الْحَرْبِيِّينَ.
الْأَسِيرُ فِي يَدِ آسِرِهِ وَمَدَى سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ:
10- الْأَسِيرُ فِي ذِمَّةِ آسِرِهِ لَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، إِذْ الْحَقُّ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْكُولٌ لِلْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَسْرِ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى الْأَمِيرِ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَى، وَلِلْآسِرِ أَنْ يَشُدَّ وَثَاقَهُ إِنْ خَافَ انْفِلَاتَهُ، أَوْ لَمْ يَأْمَنْ شَرَّهُ، كَمَا يَجُوزُ عَصْبُ عَيْنَيْهِ أَثْنَاءَ نَقْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ.
فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَسِيرَ مِنَ الْهَرَبِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ فُرْصَةً لِمَنْعِهِ إِلاَّ قَتْلَهُ فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
11- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا صَارَ فِي يَدِ الْإِمَامِ فَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْآسِرِ فِيهِ إِلاَّ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ، لَا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَعْتَقَ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ.وَلَوْ أَصَابَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالْإِصَابَةِ صَارَ الْأَسِيرُ مَمْلُوكًا لآِسِرِهِ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً.بَلْ قَالُوا: لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ.فَأَسَرَ الْعَسْكَرُ بَعْضَ الْأَسْرَى، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُ الْأُسَرَاءِ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، كَانَ السَّلَبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، إِنْ لَمْ يُقَسِّمِ الْأَمِيرُ الْأُسَرَاءَ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَالسَّلَبُ لِمَوْلَى الْأَسِيرِ الْقَاتِلِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا أَثْنَاءَ الْقِتَالِ مُسْتَنِدًا إِلَى قُوَّةِ الْجَيْشِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْآسِرُ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ مُسْتَنِدًا لَهُ خُمُسٌ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، وَإِلاَّ اخْتَصَّ بِهِ الْآسِرُ.
حُكْمُ قَتْلِ الْآسِرِ أَسِيرَهُ:
12- لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ بِنَفْسِهِ، إِذِ الْأَمْرُ فِيهِ بَعْدَ الْأَسْرِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ، فَلَا يَحِلُّ الْقَتْلُ إِلاَّ بِرَأْيِ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا خِيفَ ضَرَرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ قَتْلُهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلَهُ». فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قِيمَةٍ، لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، إِذْ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةُ الْقَتْلِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ، لِأَنَّ دَمَهُ صَارَ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ.وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْآسِرُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الضَّمَانِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّفْرِقَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا، وَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا يُلْزِمُونَ الْقَاتِلَ بِالضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ اخْتِيَارِ رِقِّهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَانَ فِي الْغَنِيمَةِ.وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ غَنِيمَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْإِمَامُ الْفِدَاءَ، وَإِلاَّ فَدِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ قَتْلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ عُزِّرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلْإِمَامِ أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ.
مُعَامَلَةُ الْأَسِيرِ قَبْلَ نَقْلِهِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:
13- مَبَادِئُ الْإِسْلَامِ تَدْعُو إِلَى الرِّفْقِ بِالْأَسْرَى، وَتَوْفِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسَاءِ لَهُمْ، وَاحْتِرَامِ آدَمِيَّتِهِمْ، لقوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكَيْنَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي أَسْرَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ: «أَحْسِنُوا أُسَارَاهُمْ.وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ» وَقَالَ: «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ...» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَ الْأُسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلًا كَرِيمًا.
وَيَجُوزُ حَبْسُ الْأَسْرَى فِي أَيِّ مَكَانٍ، لِيُؤْمَنَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «الرَّسُولَ حَبَسَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ»
التَّصَرُّفُ فِي الْأَسْرَى قَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:
14- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ- وَقَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ.قَالَ مَالِكٌ: الشَّأْنُ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنَائِمُ وَتُبَاعَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَقْسِمُوا غَنِيمَةً قَطُّ إِلاَّ فِي دَارِ الشِّرْكِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ» فَإِنَّ سُؤَالَهُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْعَزْلِ فِي وَطْءِ السَّبَايَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ قَدْ تَمَّتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ مَسَرَّةِ الْغَانِمِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ لِبَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَانِمُونَ جَيْشًا وَأَمِنُوا مِنْ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ التَّمَلُّكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَفْظًا، بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ بَعْدَ الْحِيَازَةِ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، فَتَمَلَّكَ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ.وَقِيلَ: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ.وَالْمُرَادُ عِنْدَ مَنْ قَالَ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ: الِاخْتِصَاصُ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ لِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ.
15- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى- أَوْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، خَشْيَةَ تَقْلِيلِ الرَّغْبَةِ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ، وَتَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الدَّبَرَةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ.وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا: وَإِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ، لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخَّرَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ».
تَأْمِينُ الْأَسِيرِ:
16- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْإِمَامِ إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لِلْأَسِيرِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا قَالَ.لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْتُهُ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ فَعَدُّوهُ أَمَانًا وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَالْأَمَانُ دُونَ الْمَنِّ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى حُكْمِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي دُونَ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا عَقَدَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنَ الْأَمَانِ جَازَ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْرَ الْأَسِيرِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَقَتْلِهِ.وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، لِأَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَانَهَا».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَمَان).
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى:
17- يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ.
وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَبْلَ إِجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فِي أَحَدِ أُمُورٍ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ، بَيْنَ قَتْلِهِمْ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطِ: الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ، وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إِلاَّ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ.وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ.
18- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ.فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ: وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْفِدَاءُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (سَبْي).
كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
19- وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ.
20- وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ، وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَالسَّبَبُ فِي الِاخْتِلَافِ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إِلاَّ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ.وقوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ.وَأَمَّا فِعْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَدْ قَتَلَ الْأَسَارَى فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِالْأَسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأَسَارَى قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ.
21- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَسْرَى مِنْ نِسَاءِ الْحَرْبِيِّينَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْخُنْثَى وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَا الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ لَهُمْ يُسْتَرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْأَسْرِ لَا يُسْتَرَقُّ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ الِاسْتِتَابَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلاَّ فَالسَّيْفُ.
22- أَمَّا الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْمُقَاتِلُونَ مِنْهُمْ.، فَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْأَعَاجِمِ، وَثَنِيِّينَ كَانُوا أَوْ أَهْلَ كِتَابٍ.وَاتَّجَهَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ.وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
الْفِدَاءُ بِالْمَالِ:
23- الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ فِدَاءِ أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ بِالْمَالِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَسِيرِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- كَمَا نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ- تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَالِ، وَقَيَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْأَسِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ.وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَالِ دُونَ قَيْدٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ لِلْمَالِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسْرَى بِالْمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ، أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَمْ مِنْ مَالِنَا الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ.أَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَفِي جَوَازِ مُفَادَاةِ أَسْرَانَا بِهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُجِيزُونَ بِظَاهِرِ قوله تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَبِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ فَادَى أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ.
24- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، فِي غَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلاَّمٍ عَدَمُ جَوَازِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ قَتْلَ الْأَسَارَى مَأْمُورٌ بِهِ، لقوله تعالى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلاَّ لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمَنَعَةِ، فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إِقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَسِيرِ: لَا تُفَادُوهُ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدْيَيْن مِنْ ذَهَبٍ وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَسْرِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَلَا يَجُوزُ إِعَادَتُهُ لِدَارِ الْحَرْبِ، لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَفِي هَذَا مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ الْفِدَاءِ إِلاَّ بِرِضَى الْغَانِمِينَ.
فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْأَعْدَاءِ:
25- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ تَبَادُلِ الْأَسْرَى، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» «وَفَادَى النَّبِيُّ رَجُلَيْنِ مِنِ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ».«وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي، اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُسِرُوا بِمَكَّةَ» وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ إِهْلَاكِ الْكَافِرِ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ قَصَرَ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُ أَسِيرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ.أَيْ فَلَا يُعَادُ بِالْمُفَادَاةِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ.وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ بَعْدَهَا إِبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَجَازَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، الْحَاجَةُ إِلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ الْأَسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ، أَوِ الْمُفَادَاةُ بِالنُّفُوسِ دُونَ الْمَالِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ مَنْعُ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ.
26- وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ لَا يُفَادَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُسْلِمٍ بِمُسْلِمٍ، إِلاَّ إِذَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلَامِهِ:
27- وَيَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَكْثَرِ بِالْأَقَلِّ وَالْعَكْسُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنْ فِي كُتُبِهِمْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَسَرَانَا، وَيُؤْخَذُ بَدَلَهُ أَسِيرَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذَا سَأَلُوهُ، كَمَا يَجِبُ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ وَقَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَكَيْلَا يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنِ اخْتِيَارٍ.وَهَذَا إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ: كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنَ الرِّجَالِ، يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ.
رُجُوعُ الْإِمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ:
29- لَمْ نَقِفْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبٍ عَلَى مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيمَا عَلِمْتُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً لَهُ الرُّجُوعِ عَنْهَا أَوْ لَا، وَلَا إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ أَوْ لَا.وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً وَظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهَا الْأَحَظُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْأَحَظَّ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَأَهْلَ الْخُمُسِ مَلَكُوا بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَتْلًا جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِدَاءً أَوْ مَنًّا لَمْ يُعْمَلْ بِالثَّانِي، لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ ثُمَّ زَالَ السَّبَبُ، وَتَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الثَّانِي عَمِلَ بِقَضِيَّتِهِ.وَلَيْسَ هَذَا نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، بَلْ بِمَا يُشْبِهُ النَّصَّ، لِزَوَالِ مُوجِبِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ.
مَا يَكُونُ بِهِ الِاخْتِيَارُ:
30- وَأَمَّا تَوَقُّفُ الِاخْتِيَارِ عَلَى لَفْظٍ، فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، وَكَذَا الْفِدَاءُ، نَعَمْ يَكْفِي فِيهِ لَفْظٌ مُلْتَزِمٌ الْبَدَلَ مَعَ قَبْضِ الْإِمَامِ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، بِخِلَافِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لِحُصُولِهِمَا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
إِسْلَامُ الْأَسِيرِ:
31- إِذَا أَسْلَمَ الْأَسِيرُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَقَبْلَ قَضَاءِ الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلَ أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ قَدْ عُصِمَ دَمُهُ.
أَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَفِيهِ رَأْيَانِ: فَالْجُمْهُورُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاحْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِمَامَ فِيهِ مُخَيَّرٌ فِيمَا عَدَا الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ بَقِيَتْ بَاقِي الْخِصَالِ.
وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِرْقَاقِ قَدِ انْعَقَدَ بِالْأَسْرِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَصَارَ كَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ فَقَطْ، فَلَا مَنَّ وَلَا فِدَاءَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ بِهِ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الرِّقِّ.
أَمْوَالُ الْأَسِيرِ:
32- الْحُكْمُ فِي مَالِ الْأَسِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا عِصْمَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ وَمَا مَعَهُ، فَهُوَ فَيْءٌ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ أُسِرَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، أَوْ كَانَ الْأَسْرُ مُسْتَنِدًا لِقُوَّةِ الْجَيْشِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَسْرِهِ وَاسْتُرِقَّ تَبِعَهُ مَالُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، عَصَمَ نَفْسَهُ وَصِغَارَهُ وَكُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، لِحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ، وَكَذَا الْعَقَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَخَرَجَ عَقَارُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً.وَقِيلَ: إنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ.
وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَأَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبُعُ، وَسَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَسِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَخَرَجَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْأَسِيرَ فَيْءٌ لَهُمْ وَكَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ.
33- وَإِذَا وَقَعَ السَّبْيُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجَ مَالًا كَانَ مَعَهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَنْبَغِي لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّ الْأَمِيرَ إِنَّمَا مَلَّكَهُ بِالْقِسْمَةِ رَقَبَةَ الْأَسِيرِ لَا مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ لَا تَتَنَاوَلُ إِلاَّ مَا كَانَ مَعْلُومًا.وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدْ خَلَصَتْ لَهُ أَخْرَجَتْ حُلِيًّا كَانَ مَعَهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَدْرِي هَذَا؟ وَأَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ.لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي مَعَ الْأَسِيرِ كَانَ غَنِيمَةً، وَفِعْلُ الْأَمِيرِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَالِ، فَبَقِيَ الْمَالُ غَنِيمَةً.وَهَذَا الْحُكْمُ يَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ الَّتِي لَهُ لَدَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ.فَإِنْ كَانَتْ لَدَى حَرْبِيٍّ فَهِيَ فَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ.
34- وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَسِيرِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قُضِيَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُغْنَمْ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْغَنِيمَةِ، إِلاَّ إِذَا سَبَقَ الِاغْتِنَامُ رِقَّهُ.وَلَوْ وَقَعَا مَعًا فَالظَّاهِرُ- عَلَى مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- تَقْدِيمُ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (إقامة)
إقَامَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُلُ الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلَاةِ إقَامَةً: نَادَى لَهَا.
وَتُطْلَقُ الْإِقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.
الثَّانِي: إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
أَوَّلًا: أَحْكَامُ الْإِقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْمَكَانِ
أ- إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:
2- يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَلَ وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.وَإِقَامَةُ الْآفَاقِيِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ- تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ الْإِحْرَامُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان- تَمَتُّع- حَجّ- إحْرَام).
ب- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد- دَارُ الْحَرْبِ- دَارُ الْإِسْلَامِ- هِجْرَة).
ثَانِيًا: الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ:
4- هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ، مِنْهَا:
أ- الْأَذَانُ: يُعَرَّفُ الْأَذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْإِعْلَامُ،.
فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِعْلَامٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِعْلَامَ فِي الْإِقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْأَذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ب- التَّثْوِيبُ:
التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ.وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ « الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ».
حُكْمُ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
5- فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْآخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.
قَالَ بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ.وَهُوَ رَأْيُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.
وَاسْتُدِلَّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ، فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْلَ الْجِهَادِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَالَ فِي التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْإِثْمُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ « بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا ».وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ وَلَا الْإِقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ وَحِكْمَتُهَا:
6- تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْأَذَانِ (ر: أَذَان).
أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلَاءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِقْرَارٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ أَفْضَلِ الشَّعَائِرِ.
كَيْفِيَّةُ الْإِقَامَةِ:
7- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ هِيَ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ فِي بَدْءِ الْإِقَامَةِ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ « وَمَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: « إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْإِقَامَةَ مِثْلَ الْأَذَانِ بِزِيَادَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » مَرَّتَيْنِ بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ « عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى » وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ « فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.اللَّهُ أَكْبَرُ..إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ.قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إِلَا أَنَّهُ قَالَ: زَادَ بَعْدَمَا قَالَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ »: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ».
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ »، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَالُ مَرَّةً
وَاحِدَةً.لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».
حَدْرُ الْإِقَامَةِ:
8- الْحَدْرُ هُوَ الْإِسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ »، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَأَصْلُ الْحَذْمِ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فِي الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ.
وَقْتُ الْإِقَامَةِ:
9- شُرِعَتِ الْإِقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهَا، تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لِإِعْلَامِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَإِعْلَامِ الِافْتِتَاحِ.وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الْأَوَّلُ: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْلَ الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَلَ الْوَقْتُ عَقِبَ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ تَحْصُلِ الْإِقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ إِطَالَةُ الْفَصْلِ.
مَا يُشْتَرَطُ لِإِجْزَاءِ الْإِقَامَةِ:
10- يُشْتَرَطُ فِي الْإِقَامَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُولُ الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَدَاءُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى، وَرَفْعُ الصَّوْتِ.وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالْأَذَانِ، لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَذَانِ: إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا الْإِقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ الْحَاضِرِينَ فِعْلًا لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ.وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ « أَذَان ». شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:
11- تَشْتَرِكُ الْإِقَامَةُ مَعَ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالًا، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان)، وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أ- الْإِسْلَامُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُقِيمِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.
ب- الذُّكُورَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.
الْأَوَّلُ: الِاسْتِحْبَابُ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ.وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
ج- الْعَقْلُ:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلَانِ أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا.
د- الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: لَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلًا، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ.
هـ- الْعَدَالَةُ:
فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
الْأَوَّلُ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ.وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الْأَذَان).
و- الطَّهَارَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ بِالصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الْإِعَادَةِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ.وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.
أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلَانُ الْأَذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ.
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الْإِقَامَةِ:
12- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ كَمَا مَرَّ (ف).وَفِي الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُلِّ جُمْلَةٍ فِي الْإِقَامَةِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، الْإِقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَلَ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ.فَإِنْ وَقَفَ الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.
الثَّانِي: قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْلُ الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.أَنَّهُ قَالَ: « الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ ».
وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ، لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ، وَالضَّمُّ.
الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.
أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ لَا غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ « الْإِقَامَةَ جَزْمٌ ».
الثَّانِي: الْإِعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ وَالْمُسْتَحَبِّ.
13- وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».وَفِي الِالْتِفَاتِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الْإِقَامَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ.
الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الِالْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ
الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً.
وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
الثَّالِثُ: لَا يُسْتَحَبُّ أَصْلًا لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي الْأَذَانِ كَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ.وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ.
14- وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَحَسَنَ الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلَا غِنَاءٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ.
15- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ الصَّلَاةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا.وَتُكْرَهُ الْإِقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ.قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: « رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ ».كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا- رضي الله عنه- » أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لَهَا.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ.
مَا يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ
16- يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا: الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْلَ مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلَامُ الْقَلِيلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يُكْرَهُ بَلْ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ.قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، » فَالْأَذَانُ أَوْلَى أَلاَّ يَبْطُلَ، وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.
الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ غَيْرِهَا فِي الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.
أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ.قَالَ: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ.قَالَ حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.
إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:
17- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ.وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: « بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ » وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنَ الذِّكْرِ يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: « أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ »
وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ.
إِعَادَةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:
18- لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلًا هُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ « أَيْ أَهْلَ حَيِّهِ » فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ.
مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
19- يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لِأَنَّ « الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ »..وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُلُّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِقَامَةٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ».وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ »
وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ.
الْإِقَامَةُ لِصَلَاةِ الْمُسَافِرِ:
20- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ:
21- فِي الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلَاةُ الْفَاسِدَةُ فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ لِلْبُطْلَانِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لَا تَأْبَاهُ.
مَا لَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ.فَلَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِلْوَتْرِ وَلَا لِلنَّوَافِلِ وَلَا لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ « جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ».
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ».
إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:
23- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ فَقَالُوا: يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ » فَإِنَّهُ يُحَوْقِلُ « لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ».
وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا »، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا ».وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ » وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.
وَحُكْمُ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ. الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:
24- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِصَلَاةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلَاةِ.
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْلِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِهِ فِي مَهْلٍ »
وَفِي رِوَايَةٍ: « لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ».
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَانِ إِعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْلِ يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْلِ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.
أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ الْمَغْرِبَ » لِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ » وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْلِ الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:
أ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَلَا يَفْصِلُ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ، كَمَا لَا يَفْصِلُ الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى.
ب- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيَفْصِلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ.
ج- وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْلَ بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ وَلَا يُسْتَحَبَّانِ.
الْأُجْرَةُ عَلَى الْإِقَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا- مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ- فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَلْ يُسْتَأْجَرُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا »
وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ.وَلِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ عِيَالَهُ.
الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ النَّاسِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ.وَيَجُوزُ لَهُ الْإِعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة).
الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ:
26- يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى وَالْإِقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ ».
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (انتحار 2)
انْتِحَارٌ -2الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الِانْتِحَارِ:
أَوَّلًا: إِيمَانُ أَوْ كُفْرُ الْمُنْتَحِرِ:
25- وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى خُلُودِ قَاتِلِ نَفْسِهِ فِي النَّارِ وَحِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» وَمِنْهَا حَدِيثُ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بِدَرَنِي عَبْدِي نَفْسَهُ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»
وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ؛ لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْجَنَّةِ جَزَاءُ الْكُفَّارِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِكُفْرِ الْمُنْتَحِرِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْإِنْكَارُ وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ- غَيْرَ الشِّرْكِ- لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ.بَلْ قَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالُوا بِغُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْكَافِرُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِجْمَاعًا.ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ: الْمُسْلِمُ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا وَصَفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ كَسَائِرِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ نُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ.
وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ خُلُودِ الْمُنْتَحِرِ فِي النَّارِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ بِالِانْتِحَارِ، وَاسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّهُ بِاسْتِحْلَالِهِ يَصِيرُ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْكَافِرُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِلَا رَيْبٍ، وَقِيلَ: وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ.
وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ: الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي، بَلِ التَّوْبَةُ مِنَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا، وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا.وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مَا إِذَا تَابَ حَالَةَ الْيَأْسِ، كَمَا إِذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا لَا يَعِيشُ مَعَهُ عَادَةً، كَجُرْحٍ مُزْهِقٍ فِي سَاعَتِهِ، وَإِلْقَائِهِ نَفْسَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ فَتَابَ.أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَبَقِيَ حَيًّا أَيَّامًا مَثَلًا ثُمَّ تَابَ وَمَاتَ، فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ- حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ «لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ»
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَيُسَمَّى فَاسِقًا.
ثَانِيًا: جَزَاءُ الْمُنْتَحِرِ:
26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُتْ مَنْ حَاوَلَ الِانْتِحَارَ عُوقِبَ عَلَى مُحَاوِلَتِهِ الِانْتِحَارَ، لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنَ الْكَبَائِرِ.
كَذَلِكَ لَا دِيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الِانْتِحَارُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ) لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ إِنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُنْتَحِرِ خَطَأً دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَكَانَ عَقْلُهَا (دِيَتُهَا) عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ، وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ
27- اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ- وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ- تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ مِنْ سِوَى الْحَرْبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَمْ لَا، بِقَتْلِ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنْ مُسْلِمٍ- وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ- وَذِمِّيٍّ وَجَنِينٍ وَعَبْدٍ وَنَفْسِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
هَكَذَا عَمَّمُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُنْتَحِرِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ خَطَأً، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا.وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَمْدِ، لِسُقُوطِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ بِمَوْتِهِ، كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِ بِكَفَّارَةٍ.وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَقَاتِلُ نَفْسِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ.كَذَلِكَ رَدَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مُخْرِجٌ قَاتِلَ نَفْسِهِ، لِامْتِنَاعِ تَصَوُّرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا بَطَلَ الْجُزْءُ بَطَلَ الْكُلُّ.
ثَالِثًا: غُسْلُ الْمُنْتَحِرِ:
28- مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، كَأَنْ صَوَّبَ سَيْفَهُ إِلَى عَدُوِّهِ لِيَضْرِبَهُ بِهِ فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ نَفْسَهُ وَمَاتَ، غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ.
وَكَذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ عَمْدًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ غُسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَادَّعَى الرَّمْلِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَغُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ وَدَفْنُهُ فُرُوضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا، لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ.
رَابِعًا: الصَّلَاةُ عَلَى الْمُنْتَحِرِ:
29- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) أَنَّ الْمُنْتَحِرَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَلِأَنَّ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ غُسْلُهُ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ- وَهُوَ رَأْيُ
أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ- لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ «أَنَّ رَجُلًا انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ قَدْ مَاتَ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَنْحَرُ نَفْسَهُ، قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ.إِذَنْ لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ».
وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا تَوْبَةَ لَهُ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ سَائِرُ النَّاسِ.أَمَّا عَدَمُ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ فَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْإِمَامَ، فَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَأَمَّا صَلَاةُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ حِينَ امْتَنَعَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ لَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكُ صَلَاةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
كَمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ»
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَدَمَ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ، لَكِنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ.فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَلَا يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَإِمَامِ كُلِّ قَرْيَةٍ- وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ- الصَّلَاةُ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ عَمْدًا، وَلَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ.
خَامِسًا: تَكْفِينُ الْمُنْتَحِرِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ:
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَدَفْنِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِارْتِكَابِهِ قَتْلَ نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (أيمان 2)
أَيْمَانٌ -227- (وَالْمَقْصُودُ بِالصِّفَةِ): اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ ذَاتٍ أَمْ صِفَةَ فِعْلٍ.
وَصِفَةُ الذَّاتِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا لَا بِضِدِّهَا كَوُجُودِهِ.
وَصِفَةُ الْفِعْلِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا وَبِضِدِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، كَرَحْمَتِهِ وَعَذَابِهِ.
28- وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ اسْمٍ لَهُ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ مُفَصَّلَةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، أَرْجَحُهَا: أَنَّ الِاسْمَ يَجُوزُ الْإِقْسَامُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا أَمْ مُشْتَرَكًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لَا.لَكِنْ لَوْ نَوَى بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ وَارِدٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ إِذَا تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهِ، أَوْ نَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى.وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلَا يَصِحُّ الْإِقْسَامُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِصِفَتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا أَمْ لَا، أَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صِفَتِهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا وَتُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهَا، وَسَوَاءٌ فِي الصِّفَةِ كَوْنُهَا صِفَةَ ذَاتٍ وَكَوْنُهَا صِفَةَ فِعْلٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ.وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَا مَا لَمْ يُرِدْ بِهَا غَيْرَ صِفَتِهِ تَعَالَى.وَأَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ فَفِي الِانْعِقَادِ بِهَا خِلَافٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصِّ بِهِ إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا عِنْدَهُمْ.
وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِاسْمِهِ الَّذِي يَغْلِبُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ مُقَيَّدًا كَالرَّبِّ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ قُبِلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا.وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَا يَغْلِبُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَيِّ وَالسَّمِيعِ، وَكَذَا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَشْمَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمًا لَهُ تَعَالَى كَالشَّيْءِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهَا بِهَذَا النَّوْعِ أَنْ يُرِيدَ الْحَالِفُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
وَلَمْ يُفَصِّلِ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ الصِّفَةَ الْمُضَافَةَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُضَافَةِ- كَأَنْ يُقَالَ: وَالْعِزَّةُ- فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ صِفَتِهِ تَعَالَى.
29- وَأَمَّا الِاسْمُ الَّذِي لَا يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعَوَّامِ (وَالْجَنَابِ الرَّفِيعِ) فَالْجَنَابُ لِلْإِنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنِّيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ مَعَ الِاسْتِحَالَةِ.
أَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا، وَسَكَتَ الْحَنَابِلَةُ عَنْهَا، وَأَطْلَقُوا انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِصِفَتِهِ تَعَالَى الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِصِفَتِهِ الْفِعْلِيَّةِ.
الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَقِّ
أ- الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ:
30- الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الذَّاتِيَّةُ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ، وَالْأَيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أُقْسِمُ بِمَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا.أَمَّا لَوْ قَالَ: أُقْسِمُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ، فَإِنْ أَرَادَ مَا فِيهِ كَانَ يَمِينًا لِلْعُرْفِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ، وَبِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِآيَةِ الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِالتَّوْرَاةِ وَبِالْإِنْجِيلِ وَبِالزَّبُورِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَلَامِهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، لَكِنْ لَوْ أَرَادَ بِالْمُصْحَفِ النُّقُوشَ وَالْوَرَقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا لَمْ يُرِدِ الْأَلْفَاظَ، وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَرَقَهُ وَجِلْدَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ عُرْفًا إِلاَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَلِفُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ يَمِينٌ، وَكَذَا الْحَلِفُ بِسُورَةٍ أَوْ آيَةٍ.
ب- الْحَلِفُ بِالْحَقِّ، أَوْ حَقِّ اللَّهِ:
31- لَا شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ لِلْأَسْمَاءِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّقْيِيدِ، فَعَلَى هَذَا مَنْ قَالَ: وَالْحَقِّ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ كَانَ يَمِينًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَ أَوْ أَرَادَ شَيْئًا مَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ قُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
32- وَأَمَّا (حَقٌّ) الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا فَفِيهِ خِلَافٌ.
فَالْحَنَفِيَّةُ نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَالَ: (وَحَقِّ اللَّهِ) يَكُنْ يَمِينًا.وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنَّ حَقَّهُ تَعَالَى هُوَ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، فَلَيْسَ اسْمًا وَلَا صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَأَنَّ الْحَالِفَ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ.وَاخْتَارَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعَظَمَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَإِنْ قَصَدَ الْحَالِفُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَةِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ.
حَذْفُ الْمُقْسَمِ بِهِ
33- إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ الْمُقْسَمَ بِهِ بَلْ قَالَ: أُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ أَعْزِمُ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ آلَيْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ كَانَ يَمِينًا إِنْ نَوَاهُ- أَيْ نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ- بِخِلَافِ مَا لَوْ حَذَفَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَعْزِمُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ نَوَاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ وَالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ، أَنَّ الْعَزْمَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الْقَصْدُ وَالِاهْتِمَامُ، فَلَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ إِلاَّ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ الْمُقْسَمُ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ (بِاللَّهِ)، مَثَلًا، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقَسَمِ فَيَكْفِي فِيهَا أَنْ يَنْوِيَ الْمُقْسِمَ بِهِ عِنْدَ حَذْفِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ بِاللَّهِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ فِعْلَ الْقَسَمِ أَمْ حَذَفَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) مَثَلًا بَعْدَ نُطْقِهِ بِالْفِعْلِ أَوِ الِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْقَسَمِ، نَحْوَ: قَسَمًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، إِلاَّ إِذَا نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ.
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ
34- اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْحَالِفُ تَحْقِيقَ مَضْمُونِهَا مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَتُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
وَيَجِبُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ بِاللاَّمِ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا، وَبِاللاَّمِ مَعَ قَدْ إِنْ كَانَ مَاضِيًا.يُقَالُ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا.وَأَمَّا النَّفْيُ فَلَا يُؤَكَّدُ فِيهِ الْفِعْلُ، بَلْ يُقَالُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ مَا فَعَلْتُ كَذَا.
فَإِذَا وَرَدَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ لَيْسَ فِيهِ لَامٌ وَلَا نُونُ تَوْكِيدٍ اعْتُبِرَ مَنْفِيًّا بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا فِي قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أَيْ: لَا تَفْتَأُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ أُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ، كَانَ حَالِفًا عَلَى نَفْيِ تَكْلِيمِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا كَلَّمَهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَامٌ وَلَا نُونُ تَوْكِيدٍ قُدِّرَتْ قَبْلَهُ (لَا) النَّافِيَةُ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ خِلَافَهُ، فَإِنْ تَعَارَفُوا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْبَاتًا، كَانَ حَالِفًا عَلَى الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.هَكَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا نَظُنُّ أَنَّهُ مَحَلُّ خِلَافٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ.
الصِّيَغُ الْخَالِيَةُ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ
35- قَدْ يَأْتِي الْحَالِفُ بِصِيَغٍ خَالِيَةٍ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَمِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ، أَوْ خَالِيَةٍ مِنَ الْأَدَاةِ وَحْدَهَا، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَيْمَانًا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
أ- لَعَمْرُ اللَّهِ:
36- إِذَا قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، كَانَ هَذَا قَسَمًا مُكَوَّنًا مِنْ مُبْتَدَأٍ مَذْكُورٍ وَخَبَرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي، أَوْ يَمِينِي، أَوْ أَحْلِفُ بِهِ.وَهِيَ فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: وَعَمْرُ اللَّهِ، أَيْ بَقَائِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الدِّينِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَحَيَاةِ اللَّهِ وَبَقَائِهِ، أَوْ دِينِهِ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ.
ب- وَأَيْمَنُ اللَّهِ:
37- جَاءَ هَذَا الِاسْمُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، وَيَكُونُ إِقْسَامًا بِبَرَكَتِهِ تَعَالَى أَوْ قُوَّتِهِ، وَجَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ نُونَهُ مَضْمُومَةٌ وَأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَسَمٌ فَقَطْ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ إِلاَّ إِذَا جِيءَ بَعْدَهَا بِجُمْلَةِ الْجَوَابِ، مِثْلُ لأَفْعَلَنَّ كَذَا.
ج- عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ:
38- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ قَائِلٌ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا، فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِمَا ذَكَرَهُ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِالنَّذْرِ قُرْبَةً مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ نَذْرًا لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ لِلَّهِ أَنْ أُؤَدِّيَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ فِيهَا صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «النَّذْرُ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَلْزَمُ كَفَّارَةٌ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ.وَلَهُ أَرْبَعُ صُوَرٍ (الْأُولَى) عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّانِيَةُ) لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّالِثَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ (الرَّابِعَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةَ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَصْدُ الِامْتِنَاعَ أَمِ الشُّكْرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ، لَزِمَتْهُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، كَتَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ.وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنِ اخْتَارَ الْقُرْبَةَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، وَإِنِ اخْتَارَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَفَّرَ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ صَاحِبُهَا فِيهَا.
وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالصِّيغَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ صِيغَةُ نَذْرٍ وَلَيْسَتْ صِيغَةَ يَمِينٍ، إِلاَّ الصِّيغَةَ الَّتِي فِيهَا (إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا...إِلَخْ) فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا يَمِينًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَفَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الْأَرْجَحِ، وَقِيلَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِلاَّ فَلَا، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَيْضًا فِي الْأَرْجَحِ.
د- عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ:
39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَهَاتَانِ الصِّيغَتَانِ مِنَ الْأَيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ وَلَمْ يُضِفْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْيَمِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ يَمِينًا بِاللَّهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَيُسْتَدَلُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْيَمِينِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هِيَ الْجَائِزَةُ شَرْعًا، هَذَا إِذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، بَلْ قَالَ الْحَالِفُ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرَادَ إِنْشَاءَ الِالْتِزَامِ لَا الْإِخْبَارَ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمَنْذُورُ يُعْتَبَرُ نَذْرًا لِلْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْتِزَامَ الْيَمِينِ لَهُ أَرْبَعُ صِيَغٍ كَالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمْثِلَتُهَا: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ، وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ يَمِينٌ، إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَلَيَّ يَمِينٌ، لَا يُعْتَبَرُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْيَمِينِ أَيِ الْحَلِفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْبَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ لَغْوٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَغْوٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَرْجَحُ: أَنَّهُ يَمِينٌ بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ.
هـ- عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ مِيثَاقُهُ، أَوْ ذِمَّتُهُ:
40- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قِيلَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا مَثَلًا، فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنَ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فَجَعَلَ الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْكُفَّارِ: بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، أَيْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَإِذَنْ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيَّ مُوجِبُ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي «عَلَيَّ يَمِينٌ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ، أَوْ لأَفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلًا فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إِذَا نَوَى الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَلْ أُرِيدَ بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أُعَاهِدُ اللَّهَ، لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، أَوْ أُعْطِيكَ عَهْدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ كَفَالَتُهُ لأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ احْتِمَالًا ظَاهِرًا.
و- عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ:
41- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَائِلَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، مَقْصُودُهُ: عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَقَدْ سَبَقَ (ر: ف 39).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَهُ صِيَغٌ أَرْبَعٌ كَصِيَغِ النَّذْرِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، حُكْمُهُ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ (ر: ف 39).
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ النُّطْقِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ عَلَّقَ بِالشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ، أَوْ بِتَكْلِيمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الرَّاجِحِ كَمَا سَبَقَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الْأَرْجَحِ عِنْدَهُمْ.
ز- عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ:
42- سَبَقَ حُكْمُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ نَذْرٌ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُنَجَّزَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُنَجَّزَةِ، وَمُعَلَّقَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
ح- عَلَيَّ كَفَّارَةٌ:
43- سَبَقَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَلَى مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِيفَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى حُكْمَ هَذِهِ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ النِّيَّةِ هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَى مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَفَّارَةِ.
ط- تَحْرِيمُ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْلِ:
44- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْإِنْسَانِ الْعَيْنَ أَوِ الْفِعْلَ عَلَى نَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ لُبْسِي لِهَذَا الثَّوْبِ عَلَيَّ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الَّتِي نُسِبَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْفِعْلِ الْمُضَافِ لَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ أَمْ لَا، كَأَنْ قَالَ مُتَحَدِّثًا عَنْ طَعَامِ غَيْرِهِ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الطَّعَامِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الْمَذْكُورَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا، كَأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ شُرْبُ هَذِهِ الْخَمْرِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
فَكُلُّ صِيغَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ تُعْتَبَرُ يَمِينًا، لَكِنْ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مُحَرَّمَةً مِنْ قَبْلُ، أَوْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، بِأَنْ يَنْوِيَ إِنْشَاءَ التَّحْرِيمِ.فَإِنْ نَوَى الْإِخْبَارَ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، أَوْ بِأَنَّ ثَوْبَ فُلَانٍ حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ هُوَ الْإِخْبَارُ.
ثُمَّ إِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلاَّ تَحْرِيمَ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا، كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا فِي نَحْوِ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَقَوْلِهِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}.
وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِهِنَّ يَنْصَرِفُ إِلَى الزَّوَاجِ.وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمُسْكِرِ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى التَّنَاوُلِ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ.
45- وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ لِصِيَغِ التَّحْرِيمِ الَّتِي تُعْتَبَرُ أَيْمَانًا، مَعَ بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ حِنْثٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا:
(1) لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ أَوِ الْمَالُ أَوِ الثَّوْبُ أَوِ الدَّارُ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(2) لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكَ عَلَى نَفْسِي، حَنِثَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ فِي الْجِمَاعِ، وَحَنِثَتْ أَيْضًا بِإِكْرَاهِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ.
(3) لَوْ قَالَ لِقَوْمٍ: كَلَامُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِتَكْلِيمِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَوَقَّفُ الْحِنْثُ عَلَى تَكْلِيمِ جَمِيعِهِمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ: كَلَامُ، الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَلَامُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِ وَاحِدٍ، وَأَكْلِ لُقْمَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكُمْ، أَوْ لَا أُكَلِّمُ الْفُقَرَاءَ، أَوْ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلاَّ بِتَكْلِيمِ الْجَمِيعِ وَأَكْلِ جَمِيعِ الرَّغِيفِ.
(4) لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ إِنِ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَأْكُلُهُ أَوْ يَلْبَسُهُ مَثَلًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِبَتِهَا وَلَا بِالتَّصَدُّقِ بِهَا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَتَأَمَّلْ.
(5) لَوْ قَالَ: كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَلَالُ اللَّهِ أَوْ حَلَالُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَانَ يَمِينًا عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَغْوٌ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا، إِلاَّ إِذَا حَرَّمَ الْأَمَةَ نَاوِيًا عِتْقَهَا، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ، فَمَنْ قَالَ: الْخَادِمُ أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْقَمْحُ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفَعَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَرَامُ، يَلْزَمُهُ بَتُّ طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا- ثَلَاثًا- مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ.هَذَا هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ كَالْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ.وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنِ اسْتَثْنَى الزِّوَجَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ فِيهَا مَا ذُكِرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى طَلَاقًا وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ ظِهَارًا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ وَطْئِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا- وَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ أَقَّتَهُ كُرِهَ، وَلَمْ تَحْرُمِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِقْسَامًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ أَلاَّ تَكُونَ زَوْجَتُهُ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَلاَّ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلَوْ حَرُمَ غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ وَالصَّدِيقِ وَالْأَخِ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَرَّمَ حَلَالًا سِوَى الزَّوْجَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَرْعًا، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ، أَرْجَحُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ تَنْجِيزُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ، وَمِثَالُ الْمُنَجَّزِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلَا زَوْجَةَ لِي، وَكَسْبِي عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَمِثَالُ الْمُعَلَّقِ: إِنْ أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ.وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى التَّحْرِيمَ يَمِينًا حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاة أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.
وَالْيَمِينُ لَا تُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ أَمْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا عَلَى الرَّاجِحِ.
وَلَوْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَهُوَ حَرَامٌ- وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ- كَانَ ذَلِكَ ظِهَارًا وَتَحْرِيمًا لِلْمَالِ، وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْهُمَا.
قِيَامُ التَّصْدِيقِ بِكَلِمَةِ نَعَمْ مَقَامَ الْيَمِينِ
46- الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَالَ: نَعَمْ كَانَ حَالِفًا، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ عَلَيْكَ: عَهْدُ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَقَالَ: نَعَمْ.
فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكَ صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُخَاطَبِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُبْتَدِئُ التَّحْلِيفَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ، كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبَ وَحْدَهُ، وَإِذَا نَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا الْحَلِفَ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهَا حَالِفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ، أَوْ أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟ اسْتِخْبَارًا- فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ إِقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ الِالْتِمَاسُ الْإِنْشَاءَ كَانَ تَطْلِيقًا صَرِيحًا، وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ.
هَذَا مَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاقِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: حَلَفْتَ، أَوْ أَحَلَفْتَ بِاللَّهِ لَا تُكَلِّمُ زَيْدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ.فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِخْبَارِ كَانَ إِقْرَارًا مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَيَحْنَثُ بِالتَّكْلِيمِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَإِنْ كَانَ الِالْتِمَاسُ الْإِنْشَاءَ كَانَ حَلِفًا صَرِيحًا.
وَإِنْ جُهِلَ حَالُ السُّؤَالِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا.
الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ:
47- عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ صِيغَةَ الْيَمِينِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ تَنْحَصِرُ شَرْعًا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.فَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَا يُعْتَبَرُ يَمِينًا شَرْعِيَّةً، وَلَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَحْلِفَ الْإِنْسَانُ بِأَبِيهِ أَوْ بِابْنِهِ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ - عليهم السلام- أَوْ بِالْعِبَادَاتِ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِزَمْزَمَ أَوْ بِالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.سَوَاءٌ أَتَى الْحَالِفُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَقِبَ حَرْفِ الْقَسَمِ أَمْ أَضَافَ إِلَيْهَا كَلِمَةَ: «حَقٍّ» أَوْ «حُرْمَةٍ» أَوْ «حَيَاةٍ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَمْ بِصِيغَةٍ مُلْحَقَةٍ بِمَا فِيهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ، مِثْلُ لَعَمْرُكَ وَلِعَمْرِي وَعَمْرُكَ اللَّهُ وَعَلَيَّ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا.
48- وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ». (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ - عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ».وَفِي رِوَايَةٍ فَقَدْ كَفَرَ (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ ( ( («مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا».
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِك ثَلَاثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ لَا تُعَدْ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا النَّسَائِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: بِئْسَمَا قُلْتَ، ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لَا نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ، فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي: قُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا تَعُدْ لَهُ». (وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ».
49- وَوَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم- اسْتِنْكَارُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوِ ابْنُ عُمَرَ: «لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا»، وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه-: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ- وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ -: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ، احْلِفْ بِاللَّهِ فَأْثَمْ أَوِ ابْرِرْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (بيع منهي عنه 6)
بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -6حُكْمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ:
104- الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَوَازُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ الْمَمْنُوعَ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ.وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: الْمَنْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي الْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ.
فَعَلَى هَذَا، لَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ لَمْ يُفْسَخْ.وَيُجْبَرَانِ عَلَى جَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ الْعَاقِلِ.
105- وَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ.
ثُمَّ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالُوا:
يُكْرَهُ ذَبْحُ الْأُمِّ الَّتِي اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْ لَبَنِهَا، وَيَحْرُمُ ذَبْحُهَا إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لَبَنِهَا، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا التَّصَرُّفُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَيَوَانُ مَأْكُولًا وَذَبْحُ الصَّغِيرِ وَهُوَ مَأْكُولٌ حَلَالٌ قَطْعًا.وَبَيْعُهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْأُمِّ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ بَاطِلٌ- وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِحِلِّهِ- لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَقَعُ الذَّبْحُ حَالًا أَوْ أَصْلًا، فَيُوجَدُ الْمَحْذُورُ، وَشَرْطُ الذَّبْحِ عَلَى الْمُشْتَرِي غَيْرُ صَحِيحٍ.
نَعَمْ، إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ نَذَرَ ذَبْحَهُ، وَشَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الذَّبْحَ، صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي ذَبْحُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ ذَبَحَهُ الْقَاضِي، وَفَرَّقَهُ الذَّابِحُ عَلَى الْفُقَرَاءِ.وَبَيْعُ الْوَلَدِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِغَرَضِ الذَّبْحِ.وَذَبْحُهُمَا كِلَيْهِمَا لَا يَحْرُمُ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب- بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:
106- الْمُرَادُ بِالْعَصِيرِ: عَصِيرُ الْعِنَبِ، أَيْ مَعْصُورُهُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَيْلُولَتَهُ إِلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ شَكَّ كُرِهَ.وَنَحْوُهُ قَوْلُ لِلصَّاحِبَيْنِ- أَشَارَ الْحَصْكَفِيُّ لِتَضْعِيفِهِ- بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلتَّحْرِيمِ.
وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: وَحُرِّمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا.وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ «لُعِنَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: بِعَيْنِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا، وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا».
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى الْحَرَامِ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إِلاَّ لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَهُ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِنْ بِعْتُ الْخَمْرَ.وَلِأَنَّهُ يُعْقَدُ الْبَيْعُ عَلَى عَصْرٍ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إِجَارَةَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ.وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ هَذَا قَوْلَهُ: «بِعِ الْحَلَالَ مِمَّنْ شِئْتَ» وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ.
وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ بِعَيْنِهِ، بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِشُرْبِهِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يُوجَدُ لِلْإِرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ بِالصَّبِّ فِي الْخَلِّ، فَلَيْسَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْلِ، وَصَارَ كَالِاسْتِئْجَارِ لِعَصْرِ الْعِنَبِ، وَهَذَا قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ كَمَا قَالَ الْكَرْلَانِيُّ.لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الْمَذْهَبَ- مَعَ ذَلِكَ- أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَكَلِمَةُ لَا بَأْسَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى.
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ.
اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْبَائِعِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْعَصِيرِ لِلْخَمْرِ:
107- اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنَ الْعَصِيرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ الْآنِفِ الذِّكْرِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ إِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ: إِمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَاكْتَفَوْا بِظَنِّ الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْصِرُ خَمْرًا أَوْ مُسْكِرًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
108- أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِحَالِ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَشُكُّ فِي حَالِهِ، أَوْ يَتَوَهَّمُ:
- فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَالِ الشَّكِّ أَوِ التَّوَهُّمِ مَكْرُوهٌ.
حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِذِمِّيٍّ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:
109- إِنَّ مُقْتَضَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَكَذَا مَا عَلَّلَتْهُ الشُّرُوحُ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ- أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنْهُمَا، وَأَنَّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، يَرَوْنَ جَوَازَ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنَ الْكَافِرِ.وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَلَا فَرْقَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا بِحُرْمَةِ الْبَيْعِ لِلْعَاصِرِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، لِحُرْمَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُ بِشَرْطِهِ، أَيْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ.
الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ وَشُمُولِهِ لِغَيْرِهِ:
110- عَمَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَمْ يُقْصِرُوهُ عَلَى الْعَصِيرِ، بَلْ عَدَّوْهُ إِلَى الْعِنَبِ نَفْسِهِ وَإِلَى الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ، فَهِيَ مِثْلُ الْعَصِيرِ فِي التَّحْرِيمِ، كُلَّمَا قُصِدَ بِهَا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَبَيْعُ نَحْوِ رُطَبٍ، كَعِنَبٍ، لِمُتَّخِذِهِ مُسْكِرًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا قُصِدَ بِهِ الْحَرَامُ، كَعِنَبٍ وَكَعَصِيرٍ لِمُتَّخِذِهِمَا خَمْرًا، وَكَذَا زَبِيبٌ وَنَحْوُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لَا يَجُوزُ.
وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ: - فَذَهَبَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ وَالْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا لَا يُكْرَهُ.- وَنَقَلَ الْقُهُسْتَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ هُوَ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
فَعِنْدَهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا.
حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمُتَّخِذِهِ خَمْرًا، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ:
111- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ.وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النَّهْيَ- الْمُسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِ لَعْنِ الْعَاصِرِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ أَوِ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِمَعْصِيَةٍ مُتَحَقِّقَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ- لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ هُنَا، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ لَازِمِهَا، لَكِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ لَا لَازِمِهَا، بَلْ هُوَ لِخَشْيَةِ تَفْوِيتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَنَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، بِأَنْ عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي الْخَمْرِ بِشِرَاءِ الْعِنَبِ، بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ الْعِلْمُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ.
بَيْعُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلُ مُحَرَّمٍ:
112- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي إِلَى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لَا يَجُوزُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (تثبت)
تَثَبُّتٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّثَبُّتُ لُغَةً: هُوَ التَّأَنِّي فِي الْأَمْرِ وَالرَّأْيِ.
وَاصْطِلَاحًا: تَفْرِيغُ الْوُسْعِ وَالْجَهْدِ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْحَالِ الْمُرَادِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَرِّي:
2- التَّحَرِّي لُغَةً: الْقَصْدُ وَالطَّلَبُ.وَاصْطِلَاحًا: طَلَبُ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
لِلتَّثَبُّتِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
أ- التَّثَبُّتُ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:
3- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِالْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (أَيْ جِهَتَهُ) وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْلِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا. (ر: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ).
ب- التَّثَبُّتُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ:
4- يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ بِالسُّؤَالِ عَنْهُمْ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَدَالَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ. (ر: تَزْكِيَةٌ).
ج- التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
5- يُسْتَحَبُّ التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِتَحْدِيدِ بَدْئِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: رُؤْيَةُ هِلَالِهِ، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ خَالِيَةً مِمَّا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِهِمَا.
الثَّانِي: إِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وَبِهَذَا أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالِ الْغَيْمِ، فَأَوْجَبُوا اعْتِبَارَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَوْجَبُوا صِيَامَ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ، عَمَلًا بِلَفْظٍ آخَرَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
أَيِ: احْتَاطُوا لَهُ بِالصَّوْمِ. (ر: أَهِلَّةٌ).
د- التَّثَبُّتُ مِنْ كَلَامِ الْفُسَّاقِ:
6- يَجِبُ التَّثَبُّتُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْفُسَّاقُ مِنْ أَنْبَاءٍ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَدْ قُرِئَ فَتَثَبَّتُوا بَدَلًا مِنْ تَبَيَّنُوا وَالْمُرَادُ بِالتَّبَيُّنِ: التَّثَبُّتُ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَهَابَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ.فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرَ عُيُونُهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»..
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (حائط)
حَائِطٌالتَّعْرِيفُ
1- الْحَائِطُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَارُ، وَالْبُسْتَانُ، وَجَمْعُهُ حِيطَانٌ وَحَوَائِطُ.وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا يُطْلِقُونَ: «الْحَائِطَ» بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَائِطِ:
أَوَّلًا- الْحَائِطُ بِمَعْنَى الْجِدَارِ:
2- الْجِدَارُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ.
أَمَّا الْجِدَارُ الْخَاصُّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ (وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ لِخَبَرِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ((: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ».
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ».
وَإِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَأَمَّا الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ:
3- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ كَغَرْزِ وَتَدٍ، وَفَتْحِ كَوَّةٍ، أَوْ وَضْعِ خَشَبَةٍ لَا يَتَحَمَّلُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهِ فِي أَبْوَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ الْجِدَارِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِلَا ضَرَرٍ فَأَرَادَ الشُّرَكَاءُ قِسْمَتَهُ جَازَ.وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَاهَا الْآخَرُ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ وَآرَاءٍ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَة:
5- إِذَا تَهَدَّمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَعْمِيرَهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عِمَارَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ أَسَاسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ يَحْتَمِلُ أَسَاسُهُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ عَرِيضًا جَازَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالِابْتِدَاءِ.
التَّلَفُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ:
6- إِذَا مَالَ الْحَائِطُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إِلَى الطَّرِيقِ فَقَدِ اشْتَغَلَ هَوَاءُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ، وَدَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تُقُدِّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا.بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا ثُمَّ مَالَ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا كَهَوَاءِ جَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكًا كَالطَّرِيقِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِهِ؛ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيَلَانٍ.وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي أَبْوَابِ الضَّمَانِ وَالدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ.
تَنْقِيشُ حَائِطِ الْقِبْلَةِ:
7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ النُّقُوشِ عَلَى الْمِحْرَابِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، كَمَا أَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِتَنْقِيشِ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.هَذَا إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَيَغْرَمُ الَّذِي يُخْرِجُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَاظِرًا أَمْ غَيْرَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مَسْجِدٌ).
كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِطِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْشِ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ السُّقُوطِ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ نَقْشِ الْقُرْآنِ وَاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحِيطَانِ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى الِامْتِهَانِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: قُرْآنٌ).
إِجَارَةُ الْحَائِطِ:
9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَ إِجَارَةِ حَائِطٍ لِحَمْلِ خَشَبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا مُبَاحًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلٍ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ أَنْ تَكُونَ لِحَمْلِ خَشَبٍ مَعْلُومٍ وَلِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى دَوَامِهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ دَلَالَةً.وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ إِعَارَتَهُ وَلَا إِجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إِلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إِعَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ إِجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَمَنْعِهِ.
وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ فَلَهُ إِعَادَةُ خَشَبِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ.وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَغْنَى عَنْ وَضْعِهِ لَمْ تَجُزْ إِعَادَتُهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.
الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَنْعِ مِنْهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى بِهِمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ، وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ.
وَكَذَا لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا بِكَوْنِ الْآجُرِّ الصَّحِيحِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا، وَإِقْطَاعُ الْآجُرِّ إِلَى مِلْكِ الْآخَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إِلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ؛ لِمَا رَوَى نِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ «قَوْمًا اخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خُصٍّ فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ تَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقُمُطِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إِلَيْهِ.
هَدْمُ الْحَائِطِ:
11- مَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ وَوَجَبَ هَدْمُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَزَالَ الضَّرَرَ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ بِسُقُوطِهِ.وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إِعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَ إِعَادَتُهُ.وَمَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.وَاسْتَثْنَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَائِطَ الْمَسْجِدِ.
بِنَاءُ الْحَائِطِ الْجَدِيدِ:
12- إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيِ الشَّرِيكَيْنِ حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ:
13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَافِهِ وَلَوْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَكِنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى.
الْإِحْيَاءُ بِتَحْوِيطِ الْأَرْضِ:
14- يُعْتَبَرُ تَحْوِيطُ الْحَائِطِ عَلَى الْأَرْضِ، مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَيُمْلَكُ بِذَلِكَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 24 ص 248 ج 2)
ثَانِيًا- الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ):
مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
15- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا- أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُسَاقَاةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 7)
حَوَالَةٌ -7152- ثُمَّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- فِي حَالَتَيِ الْبُطْلَانِ وَعَدَمِهِ- بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طُرُوءُ الطَّارِئِ الْمُسْقِطِ لِلدَّيْنِ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ قَبْلَهُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلَانِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُ الْمَالِ (الْمُحِيلُ) عَلَى الْمُحَالِ الَّذِي قَبَضَهُ- إِمَّا بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا- وَلَوْ رَدَّهُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي هَذَا الرَّدِّ، فَقَدْ قَبَضَ بِإِذْنٍ، فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَعَ عَنِ الْآذِنِ، وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَقَاءِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّفْعِ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ: فَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عِنْدَهُمْ جَزْمًا، بَلْ يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ حَيْثُ كَانَ.أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ: بِالْبُطْلَانِ وَبِعَدَمِهِ.
أَمَّا أَشْهَبُ- وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ- فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ هُنَا بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ عَارِضٌ- إِلاَّ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ أَوْ عَلَيْهِ، إِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ.
153- وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، جَارِيَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فِي الْبُطْلَانِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ، وَلَا يَأْبَهُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْحَوَالَةِ.
وَآخَرُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ- مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- فَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ، بَلْ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ وَصَحَّتِ الْحَوَالَةُ وَبَرِئَتْ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، فَلَا يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَالْقِيَاسُ الَّذِي كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ نَفْسُهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ: هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ، إِذَا طَرَأَ فَاسِخٌ لِسَبَبِ وُجُوبِهِ، تُقَاسُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدِ عِوَضَيِ الْبَيْعِ، إِذَا طَرَأَ مَا يَفْسَخُهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى زَيْدٌ بِثَوْبِهِ شَيْئًا مَا مِنْ عَمْرٍو، وَبَاعَ زَيْدٌ هَذَا الشَّيْءَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، فَإِنَّ الصَّفْقَةَ الثَّانِيَةَ مَاضِيَةٌ.وَالْجَامِعُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَفْقَةٌ سَبَقَتْهَا أُخْرَى، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الثَّانِيَةِ طُرُوءُ انْفِسَاخِ الْأُولَى.
4- الِانْتِهَاءُ بِالتَّوَى:
154- التَّوَى فِي اللُّغَةِ: وِزَانُ الْهَوَى- وَقَدْ يُمَدُّ- التَّلَفُ وَالْهَلَاكُ.هَكَذَا عُمِّمَ فِي- الْمِصْبَاحِ- وَقَصَرَهُ صَاحِبُ- الصِّحَاحِ- عَلَى هَلَاكِ الْمَالِ.وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَالُ: تَوِيَ الْمَالُ- مِنْ بَابِ فَرِحَ- يَتْوَى، فَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ.
أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُنَا: فَالتَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
155- الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَمْ يَقُلْ بِهِ سِوَى الْحَنَفِيَّةِ.
وَالَّذِينَ وَافَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ خَاصَّةً، لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فَاسِخًا لِلْحَوَالَةِ- إِنْ صَحَّحُوا انْعِقَادَهَا- بَلْ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِيَارِ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَى عُقْدَةِ الْحَوَالَةِ أَوْ فَسْخِهَا.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ نَتِيجَةً لِاعْتِبَارِهَا كَالْقَبْضِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ نِهَائِيًّا، فَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فَلَسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَلَسُ قَائِمًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَا بِجَحْدِهِ لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، إِلاَّ أَنْ غَرَّهُ الْمُحِيلُ، بِأَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا فَقْرَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ جَحْدَهُ، فَكَتَمَهُ عَنِ الْمُحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ، بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، لَمْ يَتَحَوَّلِ الدَّيْنُ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ.
156- نِعْمَ إِذَا شَرَطَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ قِبَلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مَعِينٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُنَا يَخْتَلِفُ نُفَاةُ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى: فَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، يَقُولُونَ إِنَّ لَهُ شَرْطَهُ.وَيُعَلِّلُهُ الْبَاجِيُّ قَائِلًا: (وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِيهَا سَلَامَةَ ذِمَّتِهِ، فَلَهُ شَرْطُهُ).
أَمَّا جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْعَجْزِ شَرْطٌ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ نَفْسُهُ أَيْضًا.
157- يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ التَّوَى نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي.يُخَالِفُهُمْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى وَغَيْرُهُمْ:
فَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ التَّوَى لَا يُعْتَبَرُ نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ، وَبِالتَّالِي لَا رُجُوعَ بِهِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ.وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَدُ إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُحَالُ بِإِفْلَاسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ- إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عِلْمُ الْمُحَالِ بِذَلِكَ وَرِضَاهُ بِهِ- وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ تَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مَقْبُولٌ وَيُعْمَلُ بِهِ، وَلَكِنْ بِشَرِيطَةِ عِلْمِ الْمُحِيلِ بِهَذَا الْإِفْلَاسِ.
وَأَلْحَقُوا بِهِ عِلْمَهُ بِجَحْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (ف 155).
158- وَبِهَذَا يَتَحَرَّرُ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الرُّجُوعِ بِالتَّوَى ثَلَاثَةٌ:
1- إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِهِ: عَلَى خِلَافٍ فِي تَحْدِيدِ أَسْبَابِهِ أَوْ إِطْلَاقِهَا.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (مَا عَدَا زُفَرَ)، وَرَأْيُ بَعْضِ السَّلَفِ.
2- إِطْلَاقُ رَفْضِهِ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ.
3- وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ إِذَا شُرِطَ، وَإِلاَّ فَلَا رُجُوعَ إِلاَّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ- وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ:
يَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ بِالرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى بِمَا يَلِي:
(أ) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ:
159- فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا أَنَّهُ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَوًى)
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَجَاءَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ.
(ب) - الْمَعْقُولُ:
160- قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ أَنْ يَنُوبَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ فِي الْإِيفَاءِ، لَا مُجَرَّدَ نَقْلِ الْوُجُوبِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، إِذِ الذِّمَمُ لَا تَتَفَاوَتُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، هَذَا هُوَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَمَا تَعَارَفُوهُ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ.
وَعَلَى هَذَا، فَبَرَاءَةُ الْمُحِيلِ لَمْ تَثْبُتْ مُطْلَقَةً، بَلْ مَشْرُوطَةً بِعِوَضٍ.فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ هَذَا الْعِوَضُ عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فَشَغَلَهَا كَمَا كَانَ.نَظِيرُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مُسْتَحَقًّا، أَوْ يَتَبَيَّنَ بِهِ عَيْبٌ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ، إِذِ الْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهُ مَا بَذَلَ الثَّمَنَ إِلاَّ لِيَحْصُلَ عَلَى مَبِيعٍ سَلِيمٍ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَشْرُوطِ، عَادَ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ.هَذَا قِيَاسٌ لَا شَكَّ فِي جَلَائِهِ.
أَدِلَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:
وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مُطْلَقًا بِالْأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
أ- السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ:
161- فَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» هَذَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ تَوًى وَغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ مُخَصِّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ.
ب- آثَارُ الصَّحَابَةِ:
162- مِنْ ذَلِكَ: (أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اخْتَرْتَ عَلَيْنَا، أَبْعَدَكَ اللَّهُ) وَرَوَى ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ كَانَ لِأَبِيهِ الْمُسَيِّبِ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ: فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِلْمُسَيِّبِ: أَنَا أُحِيلُكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَحِلْنِي أَنْتَ عَلَى فُلَانٍ، فَفَعَلَا.فَانْتَصَفَ الْمُسَيِّبُ مِنْ عَلِيٍّ، وَتَلِفَ مَالُ الَّذِي أَحَالَهُ الْمُسَيِّبُ عَلَيْهِ.فَأَخْبَرَ الْمُسَيِّبُ بِذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ.
أَدِلَّةُ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:
162 م- الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي التَّوَى إِلاَّ فِي حَالَتَيِ الشَّرْطِ أَوِ الْغُرُورِ يَقُولُونَ:
إِنَّ أَدِلَّةَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَفْضِ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّالِيَيْنِ وَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا:
(1) الْمُحَالُ عَلَى مُفْلِسٍ يَجْهَلُ إِفْلَاسَهُ كَمُشْتَرِي السِّلْعَةِ يَجْهَلُ عَيْبَهَا، إِذِ الْإِفْلَاسُ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.وَهَكَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ (2) الْمُحِيلُ الَّذِي يَكْتُمُ إِفْلَاسَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ يُدَلِّسُ عَيْبَ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ تَقَعَ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَى الْمُدَلِّسِ، وَلَا تَقْتَصِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ.هَكَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنَّمَا خَصُّوا بِالذِّكْرِ فِي قِيَاسِهِمْ حَالَةَ التَّدْلِيسِ مِنْ حَالَاتِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ سَوَاءٌ أَدَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يُدَلِّسْ، لِأَنَّ لِلذِّمَمِ خَفَاءً وَسَرِيَّةً لَا تُعْلَمُ، فَصَارَتْ أَشْبَهَ بِالْمَبِيعِ الَّذِي يُجْهَلُ بَاطِنُهُ، وَهَذَا لَا رَدَّ بِعَيْبِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَنْ تَدْلِيسٍ.
أَسْبَابُ التَّوَى:
163- لِلتَّوَى- فِي الْحَوَالَةِ بِنَوْعَيْهَا الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ- سَبَبَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.وَتَنْفَرِدُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَسْبَابِ أَرْبَعَةً فِي الْجُمْلَةِ.
(أَوَّلًا) مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ.
(ثَانِيًا) جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَلَا بَيِّنَةَ.
(ثَالِثًا) تَفْلِيسُ الْقَاضِي لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ.
(رَابِعًا) تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ، أَوْ ضَيَاعُهَا.
أَوَّلًا- مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ:
164- وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُحَالِ، وَلَا كَفِيلًا بِهِ.
أَمَّا إِذَا تَرَكَ مَا يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُ الْمُحَالِ- مَهْمَا كَانَ مَا تَرَكَهُ، وَلَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ- فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِفْلَاسُهُ، وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ، مَهْمَا تَكُنِ الْأَسْبَابُ وَالْمَعَاذِيرُ.حَتَّى إِنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مَلِيئًا وَلَهُ دَيْنٌ سَيُفْضِي انْتِظَارُ قِسْمَتِهِ إِلَى تَأْخِيرِ أَدَاءِ الْحَوَالَةِ لِمَا بَعْدَ الْأَجَلِ لَا يَكُونُ لِلطَّالِبِ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ، لِبَقَاءِ الْحَوَالَةِ، إِذِ التَّرِكَةُ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْمَقْصُودِ هُنَا، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ.
فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَا يَفِي إِلاَّ بِبَعْضِ دَيْنِ الْمُحَالِ، فَلَا إِفْلَاسَ وَلَا تَوَى إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ.وَلِذَا يَقُولُونَ: (إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدْيُونًا، قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَالِ بِالْحِصَصِ، وَمَا بَقِيَ لَهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).
165- كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ كَفِيلًا بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، لَا يُعَدُّ مُفْلِسًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ- لِأَنَّ الْكَفِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصِيلِ، وَخَلَفٌ عَنْهُ- إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ أَيْضًا مُفْلِسًا، أَوْ يُبَرِّئَهُ الْمُحَالُ- لِأَنَّ هَذَا الْإِبْرَاءَ كَالْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ مَعْنًى- وَهَذَا وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ، حِينَ قَالَ: (إِنَّ الْمُحَالَ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).
هَذَا، وَفِي حَالَةِ الْكَفَالَةِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ التَّوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ لَا غَيْرُ.
166- وَلِهَذَا وَذَاكَ يَقُولُ فِي «الْبَزَّازِيَّةِ»: أَخَذَ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَفِيلًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، لَا يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ حَالَّةً أَمْ مُؤَجَّلَةً، أَمْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ- أَيْ بِالْمَالِ- كَفِيلٌ، وَلَكِنْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ وَرَهَنَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَالُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَالثَّمَنُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ.
ثَانِيًا- جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ:
167- إِذَا جَحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا، فَقَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى بِهَذَا السَّبَبِ.فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا الْجَحْدَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْحَوَالَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَهَا الْمُحَالُ أَمِ الْمُحِيلُ.فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْحَوَالَةِ يَحْلِفُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ: أَنْ لَا حَوَالَةَ عَلَيْهِ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
فَإِذَا قَبِلَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَحْدَهُ هَذَا وَقَضَى بِمَنْعِ الْمُحَالِ عَنْهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنَّهُ تَوَى.
ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِحُجَّةِ التَّوَى بِسَبَبِ هَذَا الْجَحْدِ لَا يَثْبُتُ الْجَحْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمُحَالِ لِأَجْلِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْجَحْدِ بِالْبَيِّنَةِ.
عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِمُقْتَضَاهَا إِلاَّ بِحُضُورِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى غَائِبٍ، لَكِنِ الْمُحَالُ يَكْفِي مَئُونَةَ هَذَا الْقَضَاءِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمُحِيلُ فِي دَعْوَى الْجَحْدِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ.
ثَالِثًا- تَفْلِيسُ الْقَاضِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ:
168- وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ حَالُهُ.
وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْحَالِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ بِالْإِفْلَاسِ عَنْ شَهَادَةِ شُهُودٍ- وَإِنْ كَانَ هَذَا احْتِيَاطًا حَسَنًا- فَإِنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، بَلْ يَكْفِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ.وَفِي مَوْضُوعِنَا هَذَا لَا يَكُونُ التَّفْلِيسُ إِلاَّ بَعْدَ الْحَبْسِ.
169- وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ إِمْكَانُ تَحَقُّقِ التَّوَى بِالتَّفْلِيسِ، مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَوَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: بَلْ يَحْصُلُ التَّوَى بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي لِهَذَا الْمَدِينِ.
رَابِعًا- تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ أَوْ ضَيَاعُهَا:
170- إِذَا أَصَابَ الْوَدِيعَةَ مَثَلًا تَلَفٌ أَوْ ضَيَاعٌ وَلَوْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَدِيعِ- كَمَا لَوِ ادَّعَى ضَيَاعَ الدَّنَانِيرِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ- تَكُونُ النَّتِيجَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخَ الْحَوَالَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا، وَبَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِذَنْ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّسْلِيمَ مُطْلَقًا، بَلْ مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ، فَلَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ مَا.
بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ- كَالْمَغْصُوبِ- فَإِنَّ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِهَا لَا تَنْفَسِخُ بِفَوَاتِهَا، لِأَنَّهَا تَفُوتُ- إِنْ فَاتَتْ- إِلَى خَلَفٍ، مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ الْحَوَالَةُ بِهَذَا الْخَلَفِ، فَإِنْ فَاتَتْ لَا إِلَى خَلَفٍ بِأَنْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً- بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ (ر: ف 144).
آثَارُ التَّوَى:
171- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ التَّوَى فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَثَبَتَ بِأَحَدِ أَسْبَابِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَانِ:
(أَوَّلًا) - انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ، فَتَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا أَحْكَامُهَا.
(ثَانِيًا) - رُجُوعُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ: لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِسَلَامَةِ عَاقِبَةِ الْحَوَالَةِ، أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، فَلَمَّا انْتَفَتِ الشَّرِيطَةُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ.وَإِذَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ جَمِيعُ حُقُوقِ الدَّائِنِينَ تُجَاهَ مَدِينِهِمْ، كَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُقَاضَاةِ.
نَعَمْ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ أَحَالَ الطَّالِبَ عَلَى الْمُحَالِ نَفْسِهِ، فَتَوِيَ الْمَالُ عِنْدَهُ- وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ) حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَحَلٌّ تَوِيَ مَالُ حَوَالَتِهِ-
وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ إِذَا اشْتُرِطَتْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ صَرَاحَةً- رَغْمَ أَنَّ مُقْتَضَاهَا هَذِهِ الْبَرَاءَةَ دُونَ شَرْطٍ- هَلْ يَرْجِعُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ فِي حَالَةِ التَّوَى؟ إِنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حَوَالَةً أَنْ تَثْبُتَ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِسَبَبِ التَّوَى، وَمُقْتَضَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ صَرَاحَةً عَدَمُ هَذَا الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى فَي هَذِهِ الْحَالَةَ.
وَهْم يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ عَوْدِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ حِينَئِذٍ:
(1) فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقَ الْفَسْخِ: أَيْ أَنَّ الْمُحَالَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْحَوَالَةَ مَتَى تَحَقَّقَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَى، وَمِنْ ثَمَّ يُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطِ عُرْفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
(2) وَمِنْ قَائِلٍ: بَلْ عَنْ طَرِيقِ الِانْفِسَاخِ التِّلْقَائِيِّ: دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَدَخُّلِ الْمُحَالِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ أَحَدٍ، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَيَعُودُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ هُنَا- بِنَفْسِ الْعِلَّةِ- تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ تِلْقَائِيًّا عِنْدَ التَّوَى، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.
(3) وَمِنْ قَائِلٍ: إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْجُحُودَ فَالطَّرِيقُ هُوَ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ عَنْ إِفْلَاسٍ فَالطَّرِيقُ هُوَ الِانْفِسَاخُ.
وَلَا يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 3)
زَكَاة -3شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَاشِيَةِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا تَمَامُ الْحَوْلِ، وَكَوْنُهَا نِصَابًا فَأَكْثَرَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهَا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ عَامَّةً عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَيُشْتَرَطُ هُنَا شَرْطَانِ آخَرَانِ:
39- الْأَوَّلُ: السَّوْمُ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ غِذَاؤُهَا عَلَى الرَّعْيِ مِنْ نَبَاتِ الْبَرِّ، فَلَوْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَعْلُوفَةِ تَتَرَاكَمُ الْمَئُونَةُ، فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ».وَحَدِيثِ: «فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ».
فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَا زَكَاةَ فِيهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّائِمَةَ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ، فَلَوْ عَلَفَهَا صَاحِبُهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ مَعْلُوفَةً وَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْكَثِيرِ؛ وَلِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْلِفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَأَيَّامِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ هِيَ الَّتِي تَرْعَى كُلَّ الْحَوْلِ، وَكَذَا إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا قَلِيلًا تَعِيشُ بِدُونِهِ بِلَا ضَرَرٍ بَيِّنٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَإِنْ عُلِفَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْأَنْعَامِ غَيْرِ السَّائِمَةِ كَوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً كُلَّ الْحَوْلِ.قَالُوا: وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَدِيثِ بِالسَّائِمَةِ لِأَنَّ السَّوْمَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مَوَاشِي الْعَرَبِ، فَهُوَ قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهُ.نَظِيرُهُ قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} فَإِنَّهَا تَحْرُمُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحِجْرِ.
40- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ عَامِلَةً، فَالْإِبِلُ الْمُعَدَّةُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ، وَالنَّوَاضِحُ، وَبَقَرُ الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ شَيْءٌ».وَالْحَوَامِلُ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِحَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَالْبَقَرُ الْمُثِيرَةُ هِيَ بَقَرُ الْحَرْثِ الَّتِي تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَلِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ شَيْءٌ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ».
وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ السَّائِمَةِ زِيَادَةُ رِفْقٍ وَمَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لِلْمَالِكِ فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْعَ الزَّكَاةِ، بَلْ تَأْكِيدَ إِيجَابِهَا.
41- الشَّرْطُ الثَّالِثُ: بُلُوغُ السَّاعِي إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَاعٍ فَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ بَلْ يُكْتَفَى بِمُرُورِ الْحَوْلِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ لِلْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً.
وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ شَيْءٌ مِنَ الْمَوَاشِي أَوْ ضَاعَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُزَكَّى الْبَاقِي إِنْ كَانَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلَا.وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ بُلُوغِ السَّاعِي فَلَا زَكَاةَ، وَيَسْتَقْبِلُ الْوَارِثُ حَوْلًا، وَلَا تُجْزِئُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ وُصُولِ السَّاعِي.
قَالُوا: وَإِنْ سَأَلَ السَّاعِي رَبَّ الْمَاشِيَةِ عَنْ عَدَدِهَا فَأَخْبَرَهُ بِعَدَدِهَا فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهَا قَدْ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ بِمَوْتِ شَيْءٍ مِنْهَا- أَوْ بِذَبْحِهِ- فَالْمُعْتَبَرُ الْمَوْجُودُ.
وَإِنْ تَخَلَّفَ السَّاعِي عَنِ الْوُصُولِ مَعَ إِمْكَانِ وُصُولِهِ وَكَانَ تَخَلُّفُهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَأَخْرَجَ الْمَالِكُ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ مُرُورِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ بِبَيِّنَتِهِ.
الزَّكَاةُ فِي الْوَحْشِيِّ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ:
42- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْوَحْشِيِّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يَتَنَاوَلُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهَا فَتَدْخُلُ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ.
وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ أُمَّهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ أَهْلِيَّةً وَالْوَحْشِيُّ أَبَاهُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْبَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي أَحْكَامِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا زَكَاةَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ مُطْلَقًا، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، فَلَا تَتَنَاوَلُهُ نُصُوصُ الشَّرْعِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلِّدِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ الْفُحُولَ أَوِ الْأُمَّهَاتِ، كَمَا إِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا سَامَ.
أ- زَكَاةُ الْإِبِلِ:
43- الْإِبِلُ اسْمُ جَمْعٍ لَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ وَوَاحِدُهُ الذَّكَرُ: جَمَلٌ، وَالْأُنْثَى: نَاقَةٌ، وَالصَّغِيرُ حُوَارٌ إِلَى سَنَةٍ، وَإِذَا فُطِمَ فَهُوَ فَصِيلٌ، وَالْبَكْرُ هُوَ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ.وَلِلْعَرَبِ تَسْمِيَاتٌ لِلْإِبِلِ بِحَسَبِ أَسْنَانِهَا وَرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي السُّنَّةِ وَاسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ، كَابْنِ الْمَخَاضِ، وَهُوَ مَا أَتَمَّ سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُ تَكُونُ غَالِبًا قَدْ حَمَلَتْ، وَالْأُنْثَى بِنْتُ مَخَاضٍ، وَابْنُ اللَّبُونِ وَهُوَ مَا أَتَمَّ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُ تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ، وَالْأُنْثَى بِنْتُ لَبُونٍ، وَالْحِقُّ مَا دَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْأُنْثَى حِقَّةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَالْجَذَعُ هُوَ الَّذِي دَخَلَ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ جَذَعَ أَيْ أَسْقَطَ بَعْضَ أَسْنَانِهِ، وَالْأُنْثَى جَذَعَةٌ.وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ الْإِنَاثُ مِنْهَا فِي الدِّيَةِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ الذُّكُورُ مِنْهَا كَابْنِ اللَّبُونِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا يَلِي.
الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ:
44- بَيَّنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمَقَادِيرَ الْوَاجِبَةَ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَهِيَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورِ فِيمَا يَلِي بِكَمَالِهِ لِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ التَّالِيَةِ:
عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ «أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ((.هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ- يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ- إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ.فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ.وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ.فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا».
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ.وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ.وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ».
45- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْإِبِلِ حَسَبَ الْجَدْوَلِ التَّالِي:
عَدَدُ الْإِبِلِ=الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
مِنْ 1- إِلَى 4=لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ.
مِنْ 5 – 9=فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ.
مِنْ 10 – 14=فِيهَا شَاتَانِ
مِنْ 15 – 19=فِيهَا 3 شِيَاهٍ
مِنْ 20 – 24=فِيهَا 4 شِيَاهٍ
مِنْ 25 – 35=فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ يُجْزِئُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ).
مِنْ 36- 45= بِنْتُ لَبُونٍ
مِنْ 46 – 60=حِقَّةٌ
مِنْ 61 – 75=فِيهَا جَذَعَةٌ
مِنْ 76 – 90=فِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ
مِنْ 91 – 120=فِيهَا حِقَّتَانِ
مِنْ 121 – 129=فِيهَا 3 بَنَاتِ لَبُونٍ
مِنْ 130 – 139=فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ
مِنْ 140 – 149=حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ
مِنْ 150 – 159=فِيهَا 3 حِقَاقٍ
مِنْ 160 – 169=فِيهَا 4 بَنَاتِ لَبُونٍ
وَهَكَذَا فِي مَا زَادَ، فِي كُلِّ 40 بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ 50 حِقَّةٌ.
وَهَذَا الْجَدْوَلُ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَوَّلُهُ إِلَى 120 مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لِتَنَاوُلِ حَدِيثِ أَنَسٍ لَهُ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ.وَاخْتُلِفَ فِيمَا بَيْنَ 121- 129 فَقَالَ مَالِكٌ يَتَخَيَّرُ السَّاعِي بَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ فِيهَا حِقَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ إِلاَّ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ.
46- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرِيضَةَ تُسْتَأْنَفُ بَعْدَ 120، فَفِي كُلِّ خَمْسٍ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا شَاةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْحِقَّتَيْنِ، فَإِنْ بَلَغَ الزَّائِدُ مَا فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ أَوْ بِنْتُ لَبُونٍ وَجَبَتْ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الزَّائِدُ مَا فِيهِ حِقَّةٌ فَتَجِبُ، وَيُمَثِّلُ ذَلِكَ الْجَدْوَلُ التَّالِي:
عَدَدُ الْإِبِلِ=الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
121- 124=حِقَّتَانِ
125 – 129=حِقَّتَانِ وَشَاةٌ
130 – 134=حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ
135 – 139=حِقَّتَانِ وَ 3 شِيَاهٍ
140 – 144=حِقَّتَانِ وَ 4 شِيَاهٍ
145 – 149=حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ
150 – 154=3 حِقَاقٍ
155 – 159=3 حِقَاقٍ وَشَاةٌ
160 – 164=3 حِقَاقٍ وَشَاتَانِ
165 – 169=3 حِقَاقٍ وَ 3 شِيَاهٍ
170 – 174=3 حِقَاقٍ وَ 4 شِيَاهٍ
175 – 185=3 حِقَاقٍ وَبِنْتُ مَخَاضٍ
186 – 195=3 حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ
196 – 199=4 حِقَاقٍ
200 – 204=4 حِقَاقٍ أَوْ 5 بَنَاتِ لَبُونٍ
205 – 209=4 حِقَاقٍ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ وَشَاةٌ
وَهَكَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَخْرِجْ لِي كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ: «فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ».
وَفِي زَكَاةِ الْإِبِلِ مَسَائِلُ فَرْعِيَّةٌ مِنْهَا:
47- أ- أَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ، إِلاَّ ابْنَ اللَّبُونِ إِنْ عَدِمَ بِنْتَ الْمَخَاضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، بِخِلَافِ الْبَقَرِ فَتُؤْخَذُ مِنْهَا الذُّكُورُ كَمَا يَأْتِي.
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ ذُكُورًا أَجْزَأَ الذَّكَرُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ الْوَسَطُ وَلَوِ انْفَرَدَ الذُّكُورُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُونَ نَاقَةً وَسَطًا مِنَ السِّنِّ الْمَطْلُوبِ.
48- ب- أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ إِنْ كَانَتْ أُنْثَى (جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ، أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ) أَجْزَأَتْ بِلَا نِزَاعٍ.
وَأَمَّا الذَّكَرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَ لِصِدْقِ اسْمِ الشَّاةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. 49- ج- إِنْ تَطَوَّعَ الْمُزَكِّي فَأَخْرَجَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ سِنًّا أَعْلَى مِنَ السِّنِّ الْوَاجِبِ جَازَ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ بَدَلَ بِنْتِ الْمَخَاضِ بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، أَوْ عَنْ بِنْتِ اللَّبُونِ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
لِمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمَنْ قَدَّمَ نَاقَةً عَظِيمَةً سَمِينَةً عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ: ذَاكَ الَّذِي عَلَيْكَ.فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ آجَرَكَ اللَّهُ فِيهِ، وَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ».
- د- إِنْ أَخْرَجَ بَدَلَ الشَّاةِ نَاقَةً أَجْزَأَهُ، وَكَذَا عَمَّا وَجَبَ مِنَ الشِّيَاهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ 25، فَإِجْزَاؤُهُ عَمَّا دُونَهَا أَوْلَى.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ بَعِيرًا.
هـ- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي إِبِلِهِ سِنٌّ فَلَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ ذَلِكَ السِّنُّ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي فَوْقَهُ مِمَّا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَيَأْخُذُ مِنَ السَّاعِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي تَحْتَهُ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ وَيُعْطِي السَّاعِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ السِّنُّ الْوَاجِبُ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ مَا وَجَبَ، أَوْ يَدْفَعَ السِّنَّ الْأَدْوَنَ وَزِيَادَةَ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ، كَمَا لَوْ أَدَّى ثَلَاثَ شِيَاهٍ سِمَانٍ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَطٍ، أَوْ بَعْضَ بِنْتِ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ.
نِصَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ:
51- بَيَّنَتِ السُّنَّةُ نِصَابَ زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى مَسْرُوقٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا- رضي الله عنه- إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَمِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً».
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- نَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِهِ «وَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إِلاَّ إِنْ بَلَغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا- يَعْنِي تَبِيعًا- وَأَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا شَيْءَ فِيهَا».
52- وَبِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تُؤْخَذُ زَكَاةُ الْبَقَرِ حَسَبَ الْجَدْوَلِ التَّالِي:
عَدَدُ الْبَقَرِ=الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
1 – 29=لَا شَيْءَ فِيهَا
30 – 39=تَبِيعٌ (أَوْ تَبِيعَةٌ)
40 – 59=مُسِنَّةٌ
60 – 69=تَبِيعَانِ
70 – 79=تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ
80 – 89=تَبِيعَانِ
90 – 99=3 أَتْبِعَةٍ
100 – 109=تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ
110 – 119=تَبِيعٌ وَمُسِنَّتَانِ
120 – 129=4 أَتْبِعَةٍ أَوْ 3 مُسِنَّاتٍ.
وَهَكَذَا فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَعَلَى هَذَا تَجْرِي مَذَاهِبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، مِنْهَا:
53- أ- ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ خِلَافًا لِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ فِي الْبَقَرِ مِنْ (5- 24) فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ تَعْدِلُ نَاقَةً فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ.
54- ب- وَمِنْهَا: أَخْذُ الذَّكَرِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ:
أَمَّا التَّبِيعُ الذَّكَرُ فَيُؤْخَذُ اتِّفَاقًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّبِيعَةِ، لِلنَّصِّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَمَّا الْمُسِنُّ الذَّكَرُ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يُؤْخَذُ إِلاَّ الْمُسِنَّةُ الْأُنْثَى لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهَا.
55- ج- وَمِنْهَا فِي الْأَسْنَانِ، فَالتَّبِيعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْمُسِنَّةُ مَا تَمَّ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّبِيعُ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْمُسِنَّةُ مَا تَمَّ لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ.
56- د- وَمِنْهَا أَنَّ الْوَقْصَ الَّذِي مِنْ (41- 59) لَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَيْسَ عَفْوًا، بَلْ يَجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ، فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَهَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِرَارًا مِنْ جَعْلِ الْوَقْصِ (19) وَهُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاصِ زَكَاةِ الْبَقَرِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْقَاصِهَا تِسْعَةٌ تِسْعَةٌ.
زَكَاةُ الْغَنَمِ:
57- زَكَاةُ الْغَنَمِ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَمِمَّا وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ. (ف 46).
وَبِنَاءً عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ تُؤْخَذُ زَكَاةُ الْغَنَمِ طِبْقًا لِلْجَدْوَلِ التَّالِي:
عَدَدُ الْغَنَمِ=الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
1 – 39=لَا شَيْءَ فِيهَا
40 – 120=شَاةٌ
121- 200=شَاتَانِ
201 – 399=3 شِيَاهٍ
400 – 499=4 شِيَاهٍ
500 – 599=5 شِيَاهٍ
وَهَكَذَا مَا زَادَ عَنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ مَهْمَا كَانَ قَدْرُ الزَّائِدِ.
وَعَلَى هَذَا تَجْرِي مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَوَّلُ هَذَا الْجَدْوَلِ وَآخِرُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
58- وَاخْتُلِفَ فِيهِ فِيمَا بَيْنَ (300- 399) فَقَدْ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ فِيهِ أَرْبَعَ شِيَاهٍ لَا ثَلَاثَةً، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِلَى (500) فَيَكُونُ فِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ جَعَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ حَدًّا لِمَا تَجِبُ فِيهِ الشِّيَاهُ الثَّلَاثَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ عِنْدَهَا فَيَجِبُ أَرْبَعَةٌ.
وَفِي زَكَاةِ الْغَنَمِ مَسَائِلُ خَاصَّةٌ بِهَا.
59- أ- مِنْهَا أَنَّ الشَّاةَ تَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الذَّكَرِ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إِذَا أُمِرَ بِهَا مُطْلَقًا أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ كَالْأُضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَنَمَ إِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلَّهَا أَوْ كَانَ فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَيَتَعَيَّنُ إِخْرَاجُ الْإِنَاثِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الذَّكَرِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَ فِي النِّصَابِ شَيْءٌ مِنَ الْإِنَاثِ. 60- ب- الَّذِي يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ هُوَ الثَّنِيَّةُ، وَالثَّنِيُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ- خِلَافًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ- مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ فَمَا زَادَ، فَتُجْزِئُ اتِّفَاقًا، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ لِلسَّاعِي: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَةَ- وَهِيَ مَا تَمَّ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ- إِنْ كَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ- لَا مِنَ الْمَعْزِ- تُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَذَعُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّ الْجَذَعِ نَحْوًا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تُجْزِئُ الْجَذَعَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي سِنِّ الْجَذَعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَدْنَاهُ سَنَةٌ، وَقِيلَ: عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، وَقِيلَ: سِتَّةٌ.
مَسَائِلُ عَامَّةٌ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ:
61- أ- كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ، فَالْإِبِلُ نَوْعَانِ: الْعِرَابُ وَهِيَ الْإِبِلُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهِيَ ذَاتُ سَنَامٍ وَاحِدٍ، وَالْبَخَاتِيُّ (جَمْعُ بُخْتِيَّةٍ) وَهِيَ إِبِلُ الْعَجَمِ وَالتُّرْكِ، وَهِيَ ذَاتُ سَنَامَيْنِ.
وَالْبَقَرُ نَوْعَانِ: الْبَقَرُ الْمُعْتَادُ، وَالْجَوَامِيسُ.
وَالْغَنَمُ: إِمَّا ضَأْنٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ الصُّوفِ، وَاحِدَتُهَا ضَأْنَةٌ، وَإِمَّا مَعْزٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ الشَّعْرِ، وَاحِدَتُهَا عَنْزٌ، وَالذَّكَرُ تَيْسٌ، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ: شَاةٌ.
وَالْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِي الْجَدَاوِلِ السَّابِقَةِ تَشْمَلُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ نَوْعَيْهِ، وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ إِجْمَاعًا.
أَمَّا مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ.
62- ب- فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ فَزَكَاتُهُ مِنْهُ تُجْزِئُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا إِنْ أَخْرَجَ عَنِ الْإِبِلِ الْعِرَابِ مَثَلًا بُخْتِيَّةً بِقِيمَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَجَائِزٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ رِعَايَةُ الْقِيمَةِ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوَاجِبُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي عِنْدَهُ. 63- ج- أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ:
فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ أَكْثَرِهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ الْوَسَطُ أَيْ أَعْلَى الْأَدْنَى، أَوْ أَدْنَى الْأَعْلَى، وَإِذَا عُلِمَ الْوَاجِبُ فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ شَيْءٍ بِقِيمَتِهِ سَوَاءٌ مِنَ النَّوْعِ الْآخَرِ أَوْ غَيْرِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ، فَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ كُلُّهَا مُهْرِيَّةً أَوْ أَرْحَبِيَّةً أُخِذَ الْفَرْضُ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَتُؤْخَذُ زَكَاةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، كَأَنْوَاعِ الثَّمَرَةِ وَالْحُبُوبِ، قَالُوا: فَلَوْ أَخَذَ عَنِ الضَّأْنِ مَعْزًا، أَوْ عَكْسَهُ جَازَ فِي الْأَصَحِّ بِشَرْطِ رِعَايَةِ الْقِيمَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُؤْخَذُ الضَّأْنُ عَنِ الْمَعْزِ دُونَ الْعَكْسِ، وَعِرَابُ الْبَقَرِ عَنِ الْجَوَامِيسِ دُونَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الضَّأْنَ وَالْعِرَابَ أَشْرَفُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَجَبَتْ وَاحِدَةٌ فِي نَوْعَيْنِ فَمِنَ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا خُيِّرَ السَّاعِي، وَإِنْ وَجَبَ ثِنَتَانِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ وَاحِدَةً إِنْ تَسَاوَيَا، فَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْأَقَلِّ إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهُ نِصَابًا لَوِ انْفَرَدَ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ وَقْصٍ.وَإِذَا زَادَتْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِانْفِرَادِهِ أُخِذَ مِنْهُ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْخُذُ مِنَ الْأَكْثَرِ، وَيُخَيَّرُ السَّاعِي عِنْدَ التَّسَاوِي فَفِي 340 مِنَ الضَّأْنِ وَ 160 مِنَ الْمَعْزِ يُؤْخَذُ ثَلَاثٌ مِنَ الضَّأْنِ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ ضَأْنَةٍ، وَوَاحِدَةٌ مِنَ الْمَعْزِ عَنِ الْمِائَةِ، وَتُؤْخَذُ عَنْزٌ وَاحِدَةٌ عَنِ الْأَرْبَعِينَ ضَأْنَةً وَالسِّتِّينَ مِنَ الْمَعْزِ؛ لِأَنَّ الْمَعْزَ أَكْثَرُ فَإِنْ كَانَتْ 350 مِنَ الضَّأْنِ وَ 150 مِنَ الْمَعْزِ خُيِّرَ السَّاعِي فِي الْمِائَةِ الْمُجْتَمَعَةِ بَيْنَ ضَأْنَةٍ وَعَنْزٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
42-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 4)
زَكَاة -4صِفَةُ الْمَأْخُوذِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ:
64- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْوَسَطِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، لَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ، وَلَا الدَّرِنَةَ، وَلَا الْمَرِيضَةَ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ».الْحَدِيثَ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّاعِي طَلَبَ خِيَارِ الْمَالِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلسَّاعِي: «إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ».
قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لِسَاعِيهِ: لَا تَأْخُذِ الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا الْأَكُولَةَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَالرُّبَى هِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَبِّي وَلَدَهَا.وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ، وَالْأَكُولَةُ الَّتِي تَأْكُلُ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أَسْمَنَ، وَفَحْلُ الْغَنَمِ هُوَ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ.
فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةُ الرَّجُلِ كُلُّهَا خِيَارًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَقِيلَ: يَأْخُذُ السَّاعِي مِنْ أَوْسَطِ الْمَوْجُودِ، وَقِيلَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ شِرَارِ الْمَالِ، وَمِنْهُ الْمَعِيبَةُ، وَالْهَرِمَةُ، وَالْمَرِيضَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً أَوْ هَرِمَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَقِيلَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: يُخْرِجُ صَحِيحَةً مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ.
زَكَاةُ الْخَيْلِ:
65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً وَاتُّخِذَتْ لِلنَّمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَامِلَةً أَوْ غَيْرَ عَامِلَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ» وَقَوْلِهِ: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ».
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِنَاثِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ زَكَاةٌ لِأَنَّهَا تَتَنَاسَلُ بِالْفَحْلِ الْمُسْتَعَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَاتِ أَيْضًا.
وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «فِي الْخَيْلِ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِي الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا» فَحَقُّ ظُهُورِهَا الْعَارِيَّةُ، وَحَقُّ رِقَابِهَا الزَّكَاةُ، وَبِمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُمَيَّةَ اشْتَرَى مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَرَسًا أُنْثَى بِمِائَةِ قَلُوصٍ، فَنَدِمَ الْبَائِعُ، فَلَحِقَ بِعُمَرَ، فَقَالَ: غَصَبَنِي يَعْلَى وَأَخُوهُ فَرَسًا لِي، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنِ الْحَقْ بِي، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَيْلَ لَتَبْلُغُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟، مَا عَلِمْتُ أَنَّ فَرَسًا يَبْلُغُ هَذَا.فَنَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَلَا نَأْخُذُ مِنَ الْخَيْلِ شَيْئًا؟، خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا.فَقَرَّرَ عَلَى الْخَيْلِ دِينَارًا دِينَارًا.وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- كَانَ يُصَدِّقُ الْخَيْلَ، أَيْ يَأْخُذُ زَكَاةً مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ الْمُزَكِّي أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ خَيْلَهُ وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
زَكَاةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ:
66- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَيْسَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا زَكَاةٌ.وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْخَيْلِ فَقَالَ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ...» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ «سُئِلَ عَنِ الْحَمِيرِ، فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ».
ثَانِيًا: زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُمُلَاتِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالْوَرَقِيَّةِ
67- أ- زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ».وَقَوْلِهِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقًّا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ...» الْحَدِيثَ.
فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لِلْكَنْزِ مُطْلَقًا بَيَّنَ الْحَدِيثَ أَنَّهُ لِمَنْ مَنَعَ زَكَاةَ النَّقْدَيْنِ، فَتَقَيَّدَ بِهِ.
مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
68- تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ لِلزَّكَاةِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا مِنَ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَغَيْرِهِمَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ (وَقَدْ يُسَمَّى الْعَيْنَ، وَالْمَسْكُوكَ)، وَفِي التِّبْرِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ، وَالسَّبَائِكِ، وَفِي الْمَصُوغِ مِنْهَا عَلَى شَكْلِ آنِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ شَيْئَانِ:
الْأَوَّلُ: الْحُلِيُّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي يَعُدُّهُ مَالِكُهُ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي التَّحَلِّي اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ لِإِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ زَكَاةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَنَى لِلِاسْتِعْمَالِ كَالْمَلَابِسِ الْخَاصَّةِ، وَكَالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي وُجُوبِهَا وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (حُلِيّ)
أَمَّا الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ وَالنِّصَابُ فَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
الثَّانِي: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمُسْتَخْرَجَانِ مِنَ الْمَعَادِنِ (مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ)، فَيَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِخْرَاجِ إِذَا بَلَغَ الْمُسْتَخْرَجُ نِصَابًا بِدُونِ اشْتِرَاطِ حَوْلٍ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
نِصَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا:
69- نِصَابُ الذَّهَبِ: نِصَابُ الذَّهَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِهَا فِضَّةٌ أَوْ عُرُوضُ تِجَارَةٍ يَكْمُلُ بِهِمَا النِّصَابُ عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النِّصَابَ أَرْبَعُونَ مِثْقَالًا.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُلَيْمَانِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ، فَمَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ قِيمَتُهُ 200 دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ (20) مِثْقَالًا أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ، فَيُحْمَلُ نِصَابُهُ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ».
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا».
نِصَابُ الْفِضَّةِ:
70- يُقَالُ لِلْفِضَّةِ الْمَضْرُوبَةِ (وَرِقٌ) (وَرِقَّةٌ)، وَقِيلَ: تُسَمَّى بِذَلِكَ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ 40 (أَرْبَعُونَ) دِرْهَمًا، وَفِي كِتَابِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ «وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا».
ثُمَّ الدِّرْهَمُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الدِّرْهَمُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا زَادَ عَنْهُ أَوْ نَقَصَ فَبِالْوَزْنِ.
وَقِيلَ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ بِالْعَدَدِ.
النِّصَابُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
71- الْمَغْشُوشُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَهُوَ الْمَسْبُوكُ مَعَ غَيْرِهِ.
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهُ نِصَابًا، لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ».
فَإِذَا بَلَغَهُ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ دَرَجَةِ الْجَوْدَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْمَضْرُوبِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةً، وَلَا تُزَكَّى زَكَاةَ الْعُرُوضِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو مِنْ قَلِيلِ الْغِشِّ، لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إِلاَّ بِهِ، وَالْغَلَبَةُ أَنْ تَزِيدَ الْفِضَّةُ عَلَى النِّصْفِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ بَلْ حُكْمُ الْعُرُوضِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ، وَبَلَغَتْ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُخَلِّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، وَإِلاَّ فَلَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَغْشُوشَةُ رَائِجَةً كَرَوَاجِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ فَإِنَّهَا تُعَامَلُ مِثْلَ الْكَامِلَةِ سَوَاءً، فَتَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِنْ بَلَغَ وَزْنُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ نِصَابًا، أَمَّا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْفِيَةِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زُكِّيَ وَإِلاَّ فَلَا.
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ فِيمَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ بِالْفِضَّةِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا زُكِّيَ الْجَمِيعُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الْآخَرُ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ كَانَا بِضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ يَكْمُلُ مِنْهُمَا نِصَابٌ، كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نِصَابِ ذَهَبٍ وَرُبُعُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَإِلاَّ فَلَا زَكَاةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ نِصَابَ الذَّهَبِ فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ، وَإِنْ بَلَغَتِ الْفِضَّةُ نِصَابَ الْفِضَّةِ فَفِيهَا زَكَاةُ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلذَّهَبِ فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ، لِأَنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ:
72- تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِمَّا وَجَبَتْ فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنِسْبَةِ رُبُعِ الْعُشْرِ (5.2)
وَهَكَذَا بِالْإِجْمَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْصِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّهُ لَا وَقْصَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ (210) دَرَاهِمَ فَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي الزَّائِدِ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ فِي الْمِثَالِ رُبُعُ دِرْهَمٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ».
وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي السَّائِمَةِ لِتَجَنُّبِ التَّشْقِيصِ، وَلَا يَضُرُّ فِي النَّقْدَيْنِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى النِّصَابِ عَفْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خُمُسَ نِصَابٍ.فَإِذَا بَلَغَ الزَّائِدُ فِي الْفِضَّةِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَهَكَذَا، وَكَذَا فِي الذَّهَبِ لَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعِشْرِينَ مِثْقَالًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ.وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ».
وَحَدِيثِ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْكُسُورِ شَيْئًا».
ب- الزَّكَاةُ فِي الْفُلُوسِ:
73- الْفُلُوسُ مَا صُنِعَ مِنَ النُّقُودِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُلُوسَ إِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهَا، وَإِلاَّ فَلَا.
وَحُكْمُ الْفُلُوسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ الْعُرُوضِ.نَقَلَ الْبُنَانِيِّ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى فُلُوسٍ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُدِيرًا فَيُقَوِّمَهَا كَالْعُرُوضِ.قَالُوا: وَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا (أَيْ فُلُوسًا) عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعُرُوضِ، وَالْعُرُوضُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا بِالْقِيمَةِ دَنَانِيرَ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ لِلنَّفَقَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، كَعُرُوضِ الْقُنْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ كَاَلَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ تُزَكَّى زَكَاةَ الْقِيمَةِ، كَسَائِرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا بَلْ تُخْرَجُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْعُرُوضِ.
زَكَاةُ الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الْأُخْرَى:
74- لَا زَكَاةَ فِي الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الْمُقْتَنَاةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ كَالْجَوَاهِرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا مَا صُنِعَ مِنَ التُّحَفِ الثَّمِينَةِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ حَسُنَتْ صَنْعَتُهَا وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ عُرُوضَ تِجَارَةٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى مَا يَأْتِي.
ج- زَكَاةُ الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ (وَرَقِ النَّوْطِ):
75- إِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ وَاجِبَةٌ، نَظَرًا لِأَنَّهَا عَامَّةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرُءُوسُ أَمْوَالِ التِّجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَغَالِبُ الْمُدَّخَرَاتِ، فَلَوْ قِيلَ بِعَدَمِ الزَّكَاةِ فِيهَا لأَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّلِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَلَا سِيَّمَا أَنَّهَا أَصْبَحَتْ عُمْلَةً نَقْدِيَّةً مُتَوَاضَعًا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، وَيَنْبَغِي تَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.
ضَمُّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَضَمُّ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِلَيْهِمَا:
76- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ) إِلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِمَا، وَكَذَا إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا نِصَابٌ، وَمِنَ الْآخَرِ مَالًا يَبْلُغُ النِّصَابَ يُزَكَّيَانِ جَمِيعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ نَفْعَهُمَا مُتَّحِدٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا ثَمَنَانِ، فَمِنْهُمَا الْقِيَمُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَيُتَّخَذَانِ لِلتَّحَلِّي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَكْمُلَ وَحْدَهُ نِصَابًا، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ».
وَالْقَائِلُونَ بِالضَّمِّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الضَّمَّ يَكُونُ بِالْأَجْزَاءِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا ذَهَبًا، وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ 4/3 نِصَابٌ، وَالثَّانِيَ 4/1 نِصَابٌ، فَيَكْمُلُ مِنْهُمَا نِصَابٌ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثُلُثُ نِصَابٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَثُلُثَانِ مِنَ الْآخَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالتَّقْوِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِمَا هُوَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ يُضَمُّ الْأَكْثَرُ إِلَى الْأَقَلِّ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصْفُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَرُبُعُ نِصَابِ ذَهَبٍ تُسَاوِي قِيمَتُهُ نِصْفَ نِصَابِ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
أَمَّا الْعُرُوض فَتُضَمُّ قِيمَتُهَا إِلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَيَكْمُلُ بِهَا نِصَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْعُمْلَةُ النَّقْدِيَّةُ الْمُتَدَاوَلَةُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
43-موسوعة الفقه الكويتية (عين)
عَيْنالتَّعْرِيفُ:
1- تُطْلَقُ الْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ضَبَطَتْهَا كُتُبُ اللُّغَةِ.
وَالْعَيْنُ فِي مَوْضُوعِنَا يُقْصَدُ بِهَا الْعَيْنُ الَّتِي تُسَبِّبُ الْإِصَابَةَ بِهَا، يُقَالُ: عَانَهُ يُعِينُهُ عَيْنًا أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَائِنٌ وَالْمُصَابُ مَعِينٌ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- وَمَا أَعْيَنَهُ،..أَيْ: مَا أَشَدَّ إِصَابَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَالْعَيُونُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- وَالْمِعْيَانُ الشَّدِيدُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَعِينُ وَالْمَعْيُونُ الْمُصَابُ بِهَا وَالْعَائِنَةُ مُؤَنَّثُ الْعَائِنِ.
وَاسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ مَادَّةَ: نَجَأَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَيُقَالُ: نَجَأَهُ نَجَأً أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ وَرَجُلٌ نَجُوءُ الْعَيْنِ أَيْ خَبِيثُهَا شَدِيدُ الْإِصَابَةِ بِهَا، وَأَيْضًا يُقَالُ: رَجُلٌ مَسْفُوعٌ أَيْ أَصَابَتْهُ سَفْعَةٌ- بِالْفَتْحِ- أَيْ عَيْنٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا: رَجُلٌ نَفُوسٌ إِذَا كَانَ حَسُودًا يَتَعَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لِيُصِيبَهَا بِعَيْنٍ وَأَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ مِنْهُ ضَرَرٌ.
وَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَنُوفِيُّ بِأَنَّهَا: سُمٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ وَنَطَقَ بِهِ وَلَمْ يُبَارِكْ فِيمَا تَعَجَّبَ مِنْهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَسَدُ:
2- الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: كُرْهُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا، يُقَالُ: حَسَدْتُهُ النِّعْمَةَ: إِذَا كَرِهْتَهَا عِنْدَهُ.
وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ إِلَى الْحَاسِدِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحَسَدَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ.
ب- الْحِقْدُ:
3- الْحِقْدُ لُغَةً: الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: سُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلَائِقِ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ.وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحِقْدَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ.
ثُبُوتُ الْعَيْنِ:
4- الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أَيْ يَعْتَانُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزِيلُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً وَبُغْضًا فِيكَ، فَهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ حَاسِدٍ شَدِيدِ الْعَدَاوَةِ يَكَادُ يُزْلِقُهُ لَوْلَا حِفْظُ اللَّهِ وَعِصْمَتُهُ لَهُ.
وَقَدْ أَرَادُوا بِالْفِعْلِ أَنْ يُصِيبُوهُ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا مُشْتَهِرِينَ بِذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حُجَجِهِ، بِقَصْدِ إِصَابَتِهِ بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ».
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إِلَى الْمُعَايَنِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ إِذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلَمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَكَمَا يَخْلُقُهُ بِإِعْجَابِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ فَقَدْ يَخْلُقُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ دُونَ سَبَبٍ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، فَقَدْ كَانَ- عليه الصلاة والسلام- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ- رضي الله عنهما- بِمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ- عليهم السلام- بِقَوْلِهِ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»
مَا يُسْتَطَبُّ بِهِ مِنَ الْعَيْنِ:
أ- التَّبْرِيكُ:
5- الْمَقْصُودُ بِالتَّبْرِيكِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ بِالْبَرَكَةِ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ- بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ- يَحُولُ دُونَ إِحْدَاثِ أَيِّ ضَرَرٍ بِالْمَعِينِ وَيُبْطِلُ كُلَّ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَيْنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ سَهْلُ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ قَالَ: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ- أَيْ صُرِعَ- فَأُتِيَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلاَّ بَرَّكْتَ»- مُخَاطِبًا بِذَلِكَ عَامِرًا مُتَغَيِّظًا عَلَيْهِ وَمُنْكِرًا- أَيْ قُلْتَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنَ الْعَيْنِ وَيُذْهِبُ تَأْثِيرَهُ- ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ».
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُولُ لَهُ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرَّهُ، وَأَيْضًا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ» قَالَ الْعَدَوِيُّ: فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يُبَارِكَ لِيَأْمَنَ مِنَ الْمَحْذُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ.
ب- الْغُسْلُ:
6- يَجِبُ عَلَى الْعَائِنِ إِذَا دَعَاهُ الْمَعِينُ لِلِاغْتِسَالِ أَنْ يَغْتَسِلَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا».
قَالَ الذَّهَبِيُّ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتُغْسِلْتُمْ أَيْ إِذَا طَلَبَ مِنْكُمْ مَنْ أَصَبْتُمُوهُ بِالْعَيْنِ أَنْ تَغْسِلُوا لَهُ فَأَجِيبُوهُ وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ الْعَائِنُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى الْمَعِينِ وَيَكْفَأَ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَقِيلَ: يَغْسِلُهُ بِذَلِكَ حِينَ يَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
ج- الرُّقْيَةُ:
7- الرُّقِيُّ مِمَّا يُسْتَطَبُّ بِهِ لِلْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ مَشْرُوعٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أَمَرَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَالَ: «اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ».
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: الرُّقِيُّ وَالتَّعَاوُذُ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا أُخِذَتْ بِقَبُولٍ وَصَادَفَتْ إِجَابَةً وَأَجَلًا، فَالرُّقِيُّ وَالتَّعَوُّذُ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَهَبَ الشِّفَاءَ كَمَا يُعْطِيهِ بِالدَّوَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّمَا يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْعَائِنُ.أَمَّا إِذَا عُرِفَ الْعَائِنُ الَّذِي أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ.
عُقُوبَةُ الْعَائِنِ:
8- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ أَمَّا إِذَا قَتَلَ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: لَا يُقْتَلُ الْعَائِنُ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُنْضَبِطِ الْعَامِّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَالِ الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ.وَالنُّقُولُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْمَذَاهِبِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الْعَائِنَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِذَا عَرَفَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُ عَلَى لُزُومِ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ وَآكِلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ فِي مَنْعِهِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَبَيْتُ الْمَالِ تَكْفِيهِ الْحَاجَةَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَكَفِّ الْأَذَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
44-موسوعة الفقه الكويتية (غيبة)
غِيبَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْغِيبَةُ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ اغْتَابَهُ اغْتِيَابًا: إِذَا ذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهُوَ حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بَهْتٍ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبُهْتَانُ:
2- الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ بَهَتَهُ بَهْتًا مِنْ بَابِ نَفَعَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا لَيْسَ فِيهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ هُوَ: أَنَّ الْغِيبَةَ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَالْبُهْتَانَ وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ أَمْ فِي وُجُودِهِ.
ب- الْحَسَدُ:
3- الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الِاصْطِلَاحِ: تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، سَوَاءٌ تَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَا، بِأَنْ تَمَنَّى انْتِقَالَهَا عَنْ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِيبَةِ: أَنَّ الْحَسَدَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْغِيبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، فَيُرِيدُ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ، فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْقَدْحِ فِيهِ.
ج- الْحِقْدُ:
4- الْحِقْدُ مَعْنَاهُ: الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ هِيَ أَنَّ الْحِقْدَ مِنَ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ.
د- الشَّتْمُ:
5- الشَّتْمُ فِي اللُّغَةِ: السَّبُّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: وَصْفُ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ نَقْصًا وَازْدِرَاءً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ هُوَ: أَنَّ الْغِيبَةَ ذِكْرُ الشَّخْصِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَالشَّتْمُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَفِي حَالِ حُضُورِهِ.
هـ- النَّمِيمَةُ:
6- النَّمِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: السَّعْيُ لِلْإِيقَاعِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْوَحْشَةِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِيقَاعَ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7- الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} وَيَقُولُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ» وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْت إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْته.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» قَالَ الْقَرَافِيُّ: حُرِّمَتْ أَيِ الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إِفْسَادِ الْأَعْرَاضِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ إِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ.وَإِلاَّ فَصَغِيرَةٌ.
مَا تَكُونُ بِهِ الْغِيبَةُ:
8- الْغِيبَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَتَكُونُ بِغَيْرِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ إِنَّمَا حَرُمَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْهِيمَ الْغَيْرِ نُقْصَانَ أَخِيك وَتَعْرِيفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ، فَالتَّعْرِيضُ بِهِ كَالتَّصْرِيحِ، وَالْفِعْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ، وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ وَالْغَمْزُ وَالْهَمْزُ وَالْكِتَابَةُ وَالْحَرَكَةُ وَكُلُّ مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَة- رضي الله عنها-: «دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأْت بِيَدَيَّ: أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ- عليه السلام-: اغْتَبْتِيهَا».
الْأَسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْغِيبَةِ:
9- ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الْغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ، وَثَلَاثَةً تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَاصَّةِ.
أَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ فَهِيَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَشْفِيَ الْغَيْظَ.
الثَّانِي: مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ وَمُجَامَلَةُ الرُّفَقَاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ يُقَبِّحُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ.أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ، فَيُبَادِرُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَبِّحَ هُوَ وَيَطْعَنَ فِيهِ لِيُسْقِطَ أَثَرَ شَهَادَتِهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُنْسَبَ إِلَى شَيْءٍ، فَيُرِيدَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيَذْكُرَ الشَّخْصَ الَّذِي فَعَلَهُ.
الْخَامِسُ: إِرَادَةُ التَّصَنُّعِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ بِتَنْقِيصِ غَيْرِهِ.
السَّادِسُ: الْحَسَدُ.وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، فَيُرِيدُ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ.فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْقَدْحِ فِيهِ.
السَّابِعُ: اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ وَالْمُطَايَبَةُ وَتَزْجِيَةُ الْوَقْتِ بِالضَّحِكِ، فَيَذْكُرُ عُيُوبَ غَيْرِهِ بِمَا يُضْحِكُ النَّاسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاكَاةِ.
الثَّامِنُ: السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ اسْتِحْقَارًا لِلْغَيْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَيَجْرِي أَيْضًا فِي الْغِيبَةِ.
وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ فِي الْخَاصَّةِ،
فَهِيَ أَغَمْضُهَا وَأَدَقُّهَا.وَهِيَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَنْبَعِثَ مِنَ الدِّينِ دَاعِيَةُ التَّعَجُّبِ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَالْخَطَأِ فِي الدِّينِ، فَيَقُولَ: مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِهِ صَادِقًا، وَيَكُونُ تَعَجُّبُهُ مِنَ الْمُنْكَرِ.وَلَكِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَجَّبَ وَلَا يَذْكُرَ اسْمَهُ، فَيُسَهِّلُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ ذِكْرَ اسْمِهِ فِي إِظْهَارِ تَعَجُّبِهِ، فَصَارَ بِهِ مُغْتَابًا وَآثِمًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.
الثَّانِي: الرَّحْمَةُ، وَهُوَ أَنْ يَغْتَمَّ بِسَبَبِ مَا يُبْتَلَى بِهِ غَيْرُهُ، فَيَقُولُ: مِسْكِينٌ فُلَانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُغْتَابًا، فَيَكُونُ غَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرًا وَكَذَا تَعَجُّبُهُ، وَلَكِنْ سَاقَهُ الشَّيْطَانُ إِلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ لِيُبْطِلَ بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ.
الثَّالِثُ: الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ قَدْ يَغْضَبُ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَهُ إِنْسَانٌ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ، فَيُظْهِرُ غَضَبَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُظْهِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلَا يَذْكُرَهُ بِالسُّوءِ.
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعَوَّامِ.فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّعَجُّبَ وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ إِذَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الِاسْمِ وَهُوَ خَطَأٌ.بَلِ الْمُرَخَّصُ فِي الْغَيْبَةِ حَاجَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لَا تُرَخِّصُ الْغِيبَةَ فِي سِوَاهَا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ.فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللَّهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْت، أَمَّا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ، قُمْ يَا فُلَانُ- رَجُلًا مِنْهُمْ- فَأَخْبِرْهُ، قَالَ: فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْت بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلَانٌ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلَامَ، فَلَمَّا جَاوَزْتهمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللَّهِ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلَى مَا يُبْغِضُنِي؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ قُلْت لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَلِمَ تَبْغُضُهُ؟ قَالَ: أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يُصَلِّي صَلَاةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ الرَّجُلُ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ أَسَأْت الْوُضُوءَ لَهَا، أَوْ أَسَأْت الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.قَالَ: فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْت فِيهِ أَوِ انْتَقَصْت مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يُعْطِي سَائِلًا قَطُّ، وَلَا رَأَيْته يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ: فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كَتَمْت مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ، أَوْ مَاكَسْت فِيهَا طَالِبَهَا؟ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قُمْ، إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْك».
أُمُورٌ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ:
10- الْأَصْلُ فِي الْغِيبَةِ التَّحْرِيمُ لِلْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أُمُورًا سِتَّةً تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُجَوِّزَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا وَتِلْكَ الْأُمُورُ هِيَ:
الْأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ.يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ، فَيَذْكُرُ أَنَّ فُلَانًا ظَلَمَنِي وَفَعَلَ بِي كَذَا وَأَخَذَ لِي كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
الثَّانِي: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ.وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا.
الثَّالِثُ: الِاسْتِفْتَاءُ: وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبِي أَوْ أَخِي أَوْ فُلَانٌ بِكَذَا.فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ وَتَحْصِيلِ حَقِّي وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنِّي؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ يَقُولَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، أَوْ فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ تَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْغَرَضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ، لِحَدِيثِ هِنْدٍ- رضي الله عنها- وَقَوْلِهَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ..» الْحَدِيثُ.وَلَمْ يَنْهَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ.
أَوَّلًا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ وَاجِبٌ صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ.
ثَانِيًا.الْإِخْبَارُ بِغِيبَةٍ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مُصَاهَرَةٍ وَنَحْوِهَا.
ثَالِثًا: إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، تَذْكُرُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ نَصِيحَةً لَهُ، لَا لِقَصْدِ الْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ.
رَابِعًا: إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمًا.وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَرَهُ، فَعَلَيْك نَصِيحَتُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ.
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ لَا يَقُومُ لَهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِيَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ أَوْ يَعْرِفَ.فَلَا يَغْتَرَّ بِهِ وَيُلْزِمُهُ الِاسْتِقَامَةَ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ.فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ.
السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ..فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَالْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ وَنَحْوِهَا جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى.
كَيْفِيَّةُ مَنْعِ الْغِيبَةِ:
11- ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُعَالَجُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ بِمُضَادَّةٍ سَبَبِهَا.ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عِلَاجَ كَفِّ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّفْصِيلِ.
أَمَّا عِلَاجُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ: فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ تَعَرُّضَهُ لِسُخْطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِغَيْبَتِهِ، وَذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحْبِطَةٌ لِحَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهَا تَنْقُلُ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنِ اغْتَابَهُ بَدَلًا عَمَّا اسْتَبَاحَهُ مِنْ عِرْضِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ نُقِلَ إِلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُشَبَّهٌ عِنْدَهُ بِآكِلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ أَنْ تُنْقِصَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالْحِسَابِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا النَّارُ فِي الْيَبِسِ بِأَسْرَعَ مِنَ الْغِيبَةِ فِي حَسَنَاتِ الْعَبْدِ» وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّك تَغْتَابُنِي؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ مِنْ قَدْرِك عِنْدِي أَنِّي أُحَكِّمُك فِي حَسَنَاتِي، فَمَهْمَا آمَنَ الْعَبْدُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْغِيبَةِ لَمْ يُطْلِقْ لِسَانَهُ بِهَا خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ.وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا أَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا عَيْبًا اشْتَغَلَ بِعَيْبِ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ» وَمَهْمَا وَجَدَ الْعَبْدُ عَيْبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ ذَمَّ نَفْسِهِ وَيَذُمَّ غَيْرَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي التَّنَزُّهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ كَعَجْزِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ.وَإِنْ كَانَ أَمْرًا خُلُقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ، فَإِنَّ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً فَقَدْ ذَمَّ صَانِعَهَا، قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ: يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ، قَالَ: مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إِلَيَّ فَأُحَسِّنَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَبْدُ عَيْبًا فِي نَفْسِهِ فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يُلَوِّثَنَّ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ ثَلْبَ النَّاسِ وَأَكْلَ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفَ لَعَلِمَ أَنَّ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَهْلٌ بِنَفْسِهِ.وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ.
وَيَنْفَعُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَأَلُّمَ غَيْرِهِ بِغِيبَتِهِ كَتَأَلُّمِهِ بِغِيبَةِ غَيْرِهِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُغْتَابَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا عِلَاجُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ: فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّبَبِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَقْطَعُهُ، فَإِنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا.
كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ.
12- ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُشْتَرَطُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ.وَإِنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا، وَأَنْ يَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ،
وَرَابِعٌ: وَهُوَ رَدُّ الظُّلَامَةِ إِلَى صَاحِبِهَا، أَوْ طَلَبُ عَفْوِهِ عَنْهَا وَالْإِبْرَاءُ مِنْهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ التَّوْبَةُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْغِيبَةَ حَقُّ آدَمِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِحْلَالِهِ مَنِ اغْتَابَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَوْنِهِ هَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اغْتَبْتُك فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، أَوْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا اغْتَابَ بِهِ؟
أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ مَالٍ مَجْهُولٍ.
وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَحُ بِالْعَفْوِ عَنْ غِيبَةٍ دُونَ غِيبَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا فَقَدْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ دُونَ الِاسْتِحْلَالِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَفَّارَةُ أَكْلِك لَحْمَ أَخِيك أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِخَيْرٍ، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ قَوْلَ عَطَاءٍ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ التَّوْبَةِ مِنَ الْغِيبَةِ، وَهُوَ: أَنْ تَمْشِيَ إِلَى صَاحِبِك، فَتَقُولَ لَهُ: كَذَبْت فِيمَا قُلْت وَظَلَمْتُك وَأَسَأْت، فَإِنْ شِئْت أَخَذْت بِحَقِّك، وَإِنْ شِئْت عَفَوْت.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الْعِرْضُ لَا عِوَضَ لَهُ، فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَالِ، فَكَلَامٌ ضَعِيفٌ، إِذْ قَدْ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ وَتَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَتْ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- لِامْرَأَةٍ قَالَتْ لأُِخْرَى إِنَّهَا طَوِيلَةُ الذَّيْلِ: قَدِ اغْتَبْتِيهَا فَاسْتَحِلِّيهَا.فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْلَالِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْغِيبَةِ أَنْ يُبْرِئَ الْمُغْتَابَ مِنْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَإِسْقَاطُ حَقٍّ، فَكَانَ إِلَى خِيرَتِهِ.وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَبَالِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَفُوزَ هُوَ بِعَظِيمِ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْحَثُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الْغِيبَةِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
45-موسوعة الفقه الكويتية (كفر 1)
كُفْر -1التَّعْرِيفُ:
1- الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ.
وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} وَيُقَالُ: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّلَ، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ- بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَلَ الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.
وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسِّلَامُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرِّدَّةُ:
2- الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ.
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ.
ب- الْإِشْرَاكُ:
3- الْإِشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَالُ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ.وَالِاسْمُ: الشِّرْكُ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْإِشْرَاكَ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالْإِشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَيَشْمَلُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
ج- الْإِلْحَادُ:
4- الْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الْإِلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ، أَوِ التَّأْوِيلُ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ:
أَنَّ الْإِلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».
جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
6- جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْلُ الْحَرْبِ ف 11)
وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ.
(ر: جِهَادٌ ف 29).
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ).
الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
7- مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وَوَرَدَ «أَنَّ عَمَّارًا- رضي الله عنه- أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلَالًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»،، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ.
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَوْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ.
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لَا يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَفَعَلَ وَقَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لِأَنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَلَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَلَ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
أَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَالضَّرْبِ وَقَتْلِ الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَالِ وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ.
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِإِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ.
8- وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْلِ أَفَضْلُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ».
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الْأَفْضَلُ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.
أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
9- ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
10- الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (رِدَّةٌ ف 10- 21).
مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
11- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حُصُولُ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا.
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- مَذَاهِبُ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالْمُرْسَلِ كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
فَالْآيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، لَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلَا مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ؟.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْأَوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ.
وَنَقَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.
وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ.
وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ
12- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يُقَاتَلُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَالِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ».
ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»،، فَإِنْ أَبَوُا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25- 30، وَجِهَادٌ ف 24).
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ
13- قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَحْوَالُ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلَا الْغَصْبُ وَلَا النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ- وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا- مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلَا الزَّكَوَاتِ وَلَا شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ.
مُعَامَلَةُ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
14- أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3).
نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:
15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالْآدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نَجَاسَةَ الْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ.
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَلَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ. دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
أَمَّا الْمَسَاجِدُ الْأُخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى- رضي الله عنه- وَفَدَ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَالَ: قُلْ لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَلَ فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.
وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ».
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.
وَإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَلِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ»،، وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُولِ.
تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:
18- قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ- أَيِ الْمُحْتَضِرُ- كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلَامُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.
قَالَ الْجَمَلُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلَافُهُ وَإِنْ كُنَّا لَا نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ.
وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ
19- لَا يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلَايَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ- لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ( (: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
ب- الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22).
أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:
20- أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَالِ مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يُقَرَّ.
وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: «أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا».
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلَامٌ ف 5).
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:
21- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا بِاتِّفَاقِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.
22- وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه- بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ.وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلَامِهَا، لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ.
وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْلَ دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ طَلِّقْهَا، قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلَالٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لِي.
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلَا مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.
23- وَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ.
24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا.
وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ،.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
46-موسوعة الفقه الكويتية (مرض 2)
مَرَضٌ -2التَّأْخِيرُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَرَضِ
23- فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ قِصَاصِ النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ فِي التَّأْخِيرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَانِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِبُرْءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ خِيفَ مِنَ الْقَطْعِ مَعَهُ الْمَوْتُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَأْتِيَ جُرْحُهُ عَلَى النَّفْسِ، فَتُؤْخَذُ النَّفْسُ فِيمَا دُونَهَا.
وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ دِيَةُ الْجُرْحِ الْخَطَأِ لِبُرْئِهِ، خَوْفَ سَرَيَانِهِ لِلْمَوْتِ، فَيَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَتَنْدَرِجُ فِيهَا دِيَةُ الْجُرْحِ.
وَلَا يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ، لِأَنَّ الْمُحَارِبَ إِذَا اخْتِيرَ قَطْعُهُ مِنْ خِلَافٍ، فَلَا يُؤَخَّرُ بَلْ يُقْطَعُ مِنْ خِلَافٍ، وَلَوْ أَدَّى لِمَوْتِهِ، إِذِ الْقَتْلُ أَحَدُ حُدُودِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَقْتَصَّ عَلَى الْفَوْرِ فِي النَّفْسِ جَزْمًا وَفِي الطَّرَفِ عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُوجِبُ الْإِتْلَافِ فَيَتَعَجَّلُ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ.
وَيَقْتَصُّ فِي الْمَرَضِ، وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ الْجَلْدُ فِي الْقَذْفِ.
إِمَامَةُ الْمَرِيضِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ
24- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ إِمَامَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ عَلَى أَقْوَالٍ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اقْتِدَاءٌ ف 40).
زَكَاةُ مَالِ الْمَرِيضِ
25- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِصِفَةِ عَامَّةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، وَالْجُنُونُ أَيْضًا مَرَضٌ، بَلْ مِنْ أَصْعَبِ أَمْرَاضِ النَّفُوسِ جُنُونُهَا- كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ-.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ وَهِيَ: الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَتَمَامُ الْمِلْكِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَرَبِيعَةُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَقَامَ الْوَلِيُّ فِيهِ مَقَامَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَالنَّفَقَاتِ وَالْغَرَامَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْمَجْنُونِ وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَا تُخَرَّجُ حَتَّى يُفِيقَ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 11، وَجُنُونٌ ف 14).
أَثَرُ مَرَضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي خَلْوَةِ النِّكَاحِ
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَرَضِ عِنْدَهُمْ فِي جَانِبِهَا: مَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، أَوْ يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، فَالْمَرَضُ يَتَنَوَّعُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ، وَإِنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ نَقْلًا عَنِ الصدر الشهيد: إِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَرَضَ الزَّوْجِ لَا يُعَرَّى عَنْ تَكَسُّرٍ وَفُتُورٍ عَادَةً، قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: وَكَذَا إِذَا كَانَ يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.
وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى: لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْمَهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَلَا عِبْرَةَ لِلْمَوَانِعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْخَلْوَةُ، خَلْوَةَ الِاهْتِدَاءِ، أَوْ خَلْوَةَ الزِّيَارَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ يَجِبُ كَمَالُ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا وَلَا عِبْرَةَ لِلْمَوَانِعِ أَيًّا كَانَتْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خَلْوَةٌ فِي 14- 17).
قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ وَالْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الْمَرِيضَ يَقْسِمُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ كَالصَّحِيحِ، لِأَنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الْمَرِيضِ كَمَا يَحْصُلُ مِنَ الصَّحِيحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَقَّ عَلَى الْمَرِيضِ الطَّوَافُ بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ ف 10).
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالصَّحِيحَةَ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ.
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ
28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِعُيُوبٍ مِنْهَا الْمَرَضُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِيهَا.
وَذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (طَلَاقٌ ف 93 وَمَا بَعْدَهَا، وَجُنُونٌ ف 22، وَجُذَامٌ ف 4، وَبَرَصٌ ف 3)
طَلَاقُ الْمَرِيضِ
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِ الْمَرِيضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ مَرَضَ مَوْتٍ أَمْ غَيْرَهُ مَا دَامَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ لِلْمَرِيضِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِيهَا دَخَلَ فِي بَابِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ مَوْتٍ بِخَاصَّةٍ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا أَوْ رِضًا طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهِ هَذَا فَإِنَّهُ يُعَدُّ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا حُكْمًا.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (طَلَاقٌ ف 24، 66، مَرَضُ الْمَوْتِ).
خُلْعُ الْمَرِيضِ
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَرَضَ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي مُقَابِلِ الْخُلْعِ إِذَا خَالَعَتْهُ فِي مَرَضِهَا وَمَاتَتْ، مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 98، 19 مَرَضُ الْمَوْتِ).
حَضَانَةُ الْمَرِيضِ
31- الْحَضَانَةُ مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا صِيَانَةُ الْمَحْضُونِ وَرِعَايَتُهُ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَاضِنُ أَهْلًا لِذَلِكَ.
وَلِهَذَا يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا خَاصَّةً لَا تُثْبِتُ الْحَضَانَةُ إِلاَّ لِمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ، وَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِشَأْنِ الْمَحْضُونِ، فَلَا حَضَانَةَ لِمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ لِمَرَضٍ يَعُوقُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ أَوْ عَاهَةٍ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالصَّمَمِ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بِالْحَاضِنِ مَرَضٌ مُعْدٍ أَوْ مُنَفِّرٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى الْمَحْضُونِ كَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (حَضَانَةٌ ف 14).
إِيلَاءُ الْمَرِيضِ
32- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْوَطْءُ، وَيَنْعَقِدُ إِيلَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ، إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَعَجَزَ عَنِ الْفَيْءِ إِلَيْهَا بِالْفِعْلِ- وَهُوَ الْجِمَاعُ- فَإِنَّ الْفَيْءَ يَتَأَتَّى مِنْهُ بِالْقَوْلِ وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِيلَاءٌ ف 24).
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ وَالْأَوْلَادُ الْمَرْضَى وَالْقَرِيبُ الْمَرِيضُ
33- الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ قَبْلَ النَّقْلَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَمْكَنَهُ جِمَاعُهَا أَوْ لَا، مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَا، حَيْثُ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا إِذَا طَلَبَ نَقْلَتَهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّحِيحَةِ لِوُجُودِ التَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَرَضُهَا مَانِعًا مِنَ النَّقْلَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا، لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَإِنْ أَمْكَنَ نَقْلُهَا إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَلَمْ تَنْتَقِلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، لِمَنْعِ نَفْسِهَا عَنِ النَّقْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ تَقْدِرْ أَصْلًا.
وَبِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ إِذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا الْبَذْلَ التَّامَّ، وَالتَّسْلِيمَ الْمُمْكِنَ، وَأَمْكَنَتْهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ).
34- وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الْكِبَارِ الْمَرْضَى فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْوَلَدِ الْكَبِيرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ كَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقِيلَ: تَنْتَهِي النَّفَقَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْبُلُوغِ كَالصَّحِيحِ.
وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْأُنْثَى مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرِيضَةٍ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأُنُوثَةِ عَجْزٌ.
35- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَرِيبَ نَفَقَةُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ عَامٌّ.
أَمَّا الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَرِثُونَ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ لِنَقْصٍ فِي الْخِلْقَةِ كَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ عَلَى الْقَرِيبِ مَا عَدَا الْأَبَوَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا فَقِيرَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَجْزُهُمَا عَنِ الْكَسْبِ، وَلَا يَجِبُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ).
إِقْرَارُ الْمَرِيضِ وَقَضَاؤُهُ
36- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ صِحَّةَ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ فَكَانَ إِقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 24).
37- وَأَمَّا قَضَاءُ الْمَرِيضِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْلِيَةِ الْمَرِيضِ وَكَذَلِكَ عَزْلُهُ وَطَرِيقَةُ عَزْلِهِ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 18، 63، 65).
الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ
38- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْمُتَّصِلَ بِالْمَوْتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، وَتُحْجَرُ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْمَرَضِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (مَرَضِ الْمَوْتِ).
عِيَادَةُ الْمَرِيضِ
39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ تَصِلُ إِلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَفْرَادِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ إِذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ وَإِلاَّ وَجَبَتْ لِأَنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِلاَّ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَتَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (عِيَادَةٌ ف 2).
مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ
40- قَالَ الرَّمْلِيُّ: يُنْدَبُ لِلْمَرِيضِ نَدْبًا مُؤَكَّدًا أَنْ يَذْكُرَ الْمَوْتَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَأَنْ يَسْتَعِدَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِتَرْكِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَتَصْمِيمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ كَأَدَاءِ دَيْنٍ وَقَضَاءِ فَوَائِتَ وَغَيْرِهِمَا، وَمَعْنَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ لِئَلاَّ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ الْمُفَوِّتُ لَهُ.
وَيُسَنُّ لَهُ الصَّبْرُ عَلَى الْمَرَضِ، أَيْ تَرْكُ التَّضَجُّرِ مِنْهُ وَأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ، وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ بِالصَّبْرِ وَتَرْكِ النَّوْحِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُحَسِّنَ خُلُقَهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ الْمُنَازَعَةَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَسْتَرْضِيَ مَنْ لَهُ بِهِ عُلْقَةٌ كَخَادِمٍ وَزَوْجَةٍ، وَوَلَدٍ، وَجَارٍ، وَمُعَامِلٍ، وَصَدِيقٍ.
وَيُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ كَثْرَةُ الشَّكْوَى، إِلاَّ إِذَا سَأَلَهُ طَبِيبٌ أَوْ قَرِيبٌ، أَوْ صَدِيقٌ عَنْ حَالِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، لَا عَلَى صُورَةِ الْجَزَعِ.
وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْأَنِينُ لَكِنَّ اشْتِغَالَهُ بِنَحْوِ التَّسْبِيحِ أَوْلَى مِنْهُ، فَالْأَنِينُ خِلَافُ الْأَوْلَى.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا مَرِضَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَيُكْرَهُ الْأَنِينُ لِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ.
تَدَاوِي الْمَرِيضِ
41- التَّدَاوِي مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِي مُبَاحٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ.
وَمَحَلُّ الِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَطْعِ بِإِفَادَتِهِ، أَمَّا لَوْ قُطِعَ بِإِفَادَتِهِ كَعَصْبِ مَحَلِّ الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ.
وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّدَاوِي أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوي ف 5 وَمَا بَعْدَهَا). عَدْوَى الْمَرَضِ
42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ عَدْوَى الْمَرَضِ أَوْ نَفْيِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ، وَإِنَّمَا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْعَدْوَى.
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَدْوَى ف 3).
التَّضْحِيَةُ بِالْمَرِيضَةِ
43- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْأُضْحِيَّةِ سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ تُنْقِصَ الشَّحْمَ أَوِ اللَّحْمَ، وَمِنْهَا الْمَرَضُ الْبَيِّنُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّةٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا).
أَخْذُ الْمَرِيضَةِ فِي الزَّكَاةِ
44- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَسَطِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّاعِي طَلَبَ خِيَارِ الْمَالِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ شِرَارِ الْمَالِ وَمِنْهُ الْمَعِيبَةُ وَالْهَرِمَةُ وَالْمَرِيضَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً أَوْ هَرِمَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَقِيلَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ، وَقِيلَ: يُخْرِجُ صَحِيحَةً مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ.
حَبْسُ الْمَرِيضِ
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَبْسِ الْمَرِيضِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 109- 110).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
47-موسوعة الفقه الكويتية (مفارقة 1)
مُفَارَقَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْمُفَارَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الْفِعْلِ فَارَقَ وَمَادَّتُهُ: فَرَّقَ، يُقَالُ: فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْقًا وَفُرْقَانًا: إِذَا فَصَلَ وَمَيَّزَ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَفَارَقَهُ مُفَارَقَةً وَفَرْقًا: بَاعَدَهُ، وَتَفَارَقَ الْقَوْمُ: فَارَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفَارَقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ مُفَارَقَةً: بَايَنَهَا، وَالتَّفَرُّقُ وَالِافْتِرَاقُ سَوَاءٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
وَالْفِرَاقُ: الْفُرْقَةُ وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ بِالْأَبْدَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَقْوَالِ مَجَازًا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُتَارَكَةُ:
2- الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: يُقَالُ: تَرَكَ الشَّيْءَ: خَلاَّهُ، وَتَرَكْتُ الشَّيْءَ: خَلَّيْتُهُ، وَتَارَكْتُهُ الْبَيْعَ مُتَارَكَةً أَيْ صَالَحْتُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَرَكْتُ الرَّجُلَ: فَارَقْتُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي فَقِيلَ: تَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ: إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُتَارَكَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ.ب- الْمُجَاوَزَةُ:
3- الْمُجَاوَزَةُ فِي اللُّغَةِ: يُقَالُ جَاوَزْتُ الْمَوْضِعَ جَوَازًا وَمُجَاوَزَةً بِمَعْنَى جُزْتُهُ، وَجَاوَزْتُ الشَّيْءَ إِلَى غَيْرِهِ وَتَجَاوَزْتُهُ تَعَدَّيْتُهُ، وَتَجَاوَزْتُ عَنِ الْمُسِيءِ: عَفَوْتُ عَنْهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْمُجَاوَزَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُفَارَقَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُفَارَقَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلًا: الْمُفَارَقَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
الْمُرَادُ بِالْمُفَارَقَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ تَرْكُ أَحَدِ الْمُصَلِّينَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ الْمُفَارَقَةُ قَدْ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً، وَقَدْ تَكُونُ جَائِزَةً، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
امْتِنَاعُ مُفَارَقَةِ الْمَأْمُومِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ الْمُقْتَدِي إِمَامَهُ بِدُونِ عُذْرٍ فَلَا يَنْتَقِلُ مَنْ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى الِانْفِرَادِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومِيَّةَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبِ ابْتِدَاءً كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ إِمَامِهِ وَانْتَقَلَ مِنَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِغَيْرِ عُذْرٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَهَا إِلَى النَّفْلِ.
وَإِذَا انْتَقَلَ الْمَأْمُومُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الِانْفِرَادِ بِدُونِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهُ مَنْ تَرَكَ الْمُتَابَعَةَ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ.وَلِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ الْتَزَمَ الْقُدْوَةَ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ وَفِيهِ إِبْطَالُ الْعَمَلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- أَيْ كَرَاهَةِ الْمُفَارَقَةِ-، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْمُفَارَقَةِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ إِمَّا سُنَّةٌ عَلَى قَوْلٍ وَالسُّنَنُ لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِمَّا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فَكَذَلِكَ إِلاَّ فِي الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْفِرْقَةَ الْأُولَى فَارَقَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ وَعَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ الصِّحَّةَ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- بِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ نَوَى كَوْنَهُ مَأْمُومًا لَصَحَّ فِي رِوَايَةٍ.فَنِيَّةُ الِانْفِرَادِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَهُوَ الْمَسْبُوقُ إِذَا سَلَّمَ إِمَامُهُ، وَغَيْرُهُ لَا يَصِيرُ مَأْمُومًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِحَالٍ.
جَوَازُ مُفَارَقَةِ الْمَأْمُومِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بِعُذْرٍ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ وَيَنْوِيَ الِانْفِرَادَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْمُفَارَقَةَ مُطْلَقًا وَلَوْ بِعُذْرٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْمُفَارَقَةِ بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَخَّرَ الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلاَّهَا مُعَاذٌ مَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّ قَوْمَهُ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالُوا: نَافَقْتَ يَا فُلَانُ.فَقَالَ: مَا نَافَقْتُ وَلَكِنِّي آتِي رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُخْبِرُهُ.فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلاَّهَا مَعَكَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّنَا فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي وَإِنَّمَا نَحْنُ أَهْلُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَنَحْوِهَا، » وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ بِالْإِعَادَةِ وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ.غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْأَعْذَارِ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا الْمُفَارَقَةُ، فَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ تَطْوِيلُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ طُولًا لَا يَصْبِرُ مَعَهُ الْمَأْمُومُ لِضَعْفٍ أَوْ شُغْلٍ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ الْإِمَامَ وَيَنْوِيَ الِانْفِرَادَ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا لِمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-.
وَهَذَا الْعُذْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ إِمَامَهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَامُ سُنَّةً مَقْصُودَةً كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَوِ الْقُنُوتِ فَلَهُ فِرَاقُهُ لِيَأْتِيَ بِتِلْكَ السُّنَّةِ
وَاعْتَبَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْأَعْذَارَ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ ابْتِدَاءً تَجُوزُ مَعَهَا الْمُفَارَقَةُ أَثَنَاءَ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ نَوَى الِانْفِرَادَ لِعُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ كَتَطْوِيلِ إِمَامٍ وَكَمَرَضٍ وَكَغَلَبَةِ نُعَاسٍ أَوْ غَلَبَةِ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ كَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ خَوْفٍ عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ خَوْفِ فَوْتِ رُفْقَةٍ أَوْ خَرَجَ مِنَ الصَّفِّ مَغْلُوبًا لِشِدَّةِ زِحَامٍ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ صَحَّ انْفِرَادُهُ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-، قَالُوا: وَمَحِلُّ إِبَاحَةِ الْمُفَارَقَةِ لِعُذْرٍ إِنِ اسْتَفَادَ مَنْ فَارَقَ لِتَدَارُكِ شَيْءٍ يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْ غَلَبَةِ نُعَاسٍ أَوْ خَوْفِ ضَرَرٍ وَنَحْوِهِ بِمُفَارَقَةِ إِمَامِهِ تَعْجِيلُ لُحُوقِهِ قَبْلَ فَرَاغِ إِمَامِهِ مِنْ صَلَاتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْجَلُ وَلَا يَتَمَيَّزُ انْفِرَادُهُ عَنْهُ بِنَوْعِ تَعْجِيلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْفِرَادُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ عُذْرُهُ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّفِّ فَلَهُ الْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا لِأَنَّ عُذْرَهُ خَوْفُ الْفَسَادِ بِالْفِدْيَةِ وَذَلِكَ لَا يُتَدَارَكُ بِالسُّرْعَةِ، وَفَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا إِذَا نَوَى الْمَأْمُومُ الْمُفَارَقَةَ فَقَالُوا: وَإِذَا فَارَقَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ لِعُذْرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قِيَامٍ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ قَرَأَ الْمَأْمُومُ لِنَفْسِهِ لِصَيْرُورَتِهِ مُنْفَرِدًا قَبْلَ سُقُوطِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَنْهُ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَلَهُ الرُّكُوعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمَأْمُومِ، وَإِنْ فَارَقَهُ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُكَمِّلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ سِرٍّ كَظُهْرٍ وَعَصْرٍ، أَوْ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مِنَ الْعِشَاءِ مَثَلًا وَفَارَقَ الْإِمَامَ لِعُذْرٍ بَعْدَ قِيَامِهِ وَظَنَّ أَنَّ إِمَامَهُ قَرَأَ لَمْ يَقْرَأْ، أَيْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْقِرَاءَةُ إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الِاحْتِيَاطُ الْقِرَاءَةُ.
وُجُوبُ الْمُفَارَقَةِ
مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَةُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَا يَلِي:
أ- انْحِرَافُ الْإِمَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْحَرَفَ الْإِمَامُ عَنِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا.
وَلَوِ اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمَا وَصَلَّى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا تَرَجَّحَتْ فِي ظَنِّهِ فَتَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ الَّذِي ائْتَمَّ بِالْآخَرِ مُفَارَقَةَ إِمَامِهِ لِلْعُذْرِ الْمَانِعِ لَهُ مِنَ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَهُوَ التَّغَيُّرُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالْمُقْتَدِي إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَهُوَ وَرَاءَ الْإِمَامِ أَنَّ الْقِبْلَةَ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُمْكِنُهُ إِصْلَاحُ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَدَارَ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي الْجِهَةِ قَصْدًا وَهُوَ يَفْسُدُ وَإِلاَّ كَانَ مُتِمًّا صَلَاتَهُ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ مُفْسِدٌ أَيْضًا.
ب- تَلَبُّسُ الْإِمَامِ بِمَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ:
7- لَوْ رَأَى الْمَأْمُومُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الْإِمَامَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَأَنْ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةً أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا بَانِيًا عَلَى مَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ حَدَثَ إِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ مَعَهُ بَلْ فَارَقَهُ وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُسْتَخْلِفًا فَتَصِحُّ لِلْمَأْمُومِينَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِحَدَثِ إِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ بَطَلَتْ عَلَيْهِمْ.
وَقَالُوا: لَوْ رَأَى الْمَأْمُومُ نَجَاسَةً عَلَى إِمَامِهِ وَأَرَاهُ إِيَّاهَا فَوْرًا وَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مِنْ حِينِ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ وَاخْتَارَ ابْنُ نَاجِي الْبُطْلَانَ لِلْجَمِيعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اسْتَمَرَّ الْمَأْمُومُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْمُتَابَعَةِ لَحْظَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ- أَيِ اتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ- لِأَنَّهُ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ خَلْفَ مُحْدِثٍ مَعَ عِلْمِهِ بِحَدَثِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ فِي الْأَفْعَالِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِمَا وَالْمَحَامِلِيُّ وَخَلَائِقُ مِنْ كِبَارِ الْأَصْحَابِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ عَالِمًا بِحَدَثِ نَفْسِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنَ الْمَأْمُومِ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ قَارِئًا وَكَانَ الْإِمَامُ أُمِّيًّا، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ أَوْ أَتَى الْإِمَامُ بِمُنَافٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا بَانِيًا عَلَى مَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّنَحْنُحَ إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَنَحْنَحَ الْإِمَامُ فَبَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ أَمْ لَا؟ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ حَمْلًا عَلَى الْعُذْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُ الْإِمَامِ عَنِ الْمُبْطِلِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِبَادَةِ، لَكِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ: إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةُ حَالِ الْإِمَامِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَتِ الْمُفَارَقَةُ، وَلَوْ لَحَنَ الْإِمَامُ فِي الْفَاتِحَةِ لَحْنًا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَجَبَتْ مُفَارَقَتُهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ وَاجِبًا، وَلَكِنْ هَلْ يُفَارِقُهُ فِي الْحَالِ أَوْ حَتَّى يَرْكَعَ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَحَنَ سَاهِيًا، وَقَدْ يَتَذَكَّرُ فَيُعِيدُ الْفَاتِحَةَ؟ الْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ- أَيِ الْمُفَارَقَةُ فِي الْحَالِ- لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ فِي فِعْلِ السَّهْوِ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ
وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: بَلِ الْأَقْرَبُ الثَّانِي- أَيْ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَرْكَعَ- لِأَنَّ إِمَامَهُ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ رُكُوعِهِ لَمْ تَجِبْ مُفَارَقَتُهُ فِي الْحَالِ.
وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَرَاءَ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ مُحْدِثٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَغَسَلَ فَاهُ وَمَا أَصَابَهُ وَصَلَّى قَبْلَ أَنْ يَسْكَرَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، فَلَوْ سَكِرَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفَارِقْهُ وَتَابَعَ مَعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ عَجَزَ الْإِمَامُ عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ خَلْفَهُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، أَمَّا الْقَارِئُ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ الْإِمَامَ لِلْعُذْرِ وَيُتِمُّ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، وَلَكِنْ قَالَ الْمُوَفَّقُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِقِرَاءَتِهَا فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: - صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ الَّذِي عَجَزَ عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ صَلَاتَهُمْ وَصَلَّى مَعَهُمْ جَازَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَامَ الْإِمَامُ لِرَكْعَةٍ زَائِدَةٍ وَنَبَّهَهُ الْمَأْمُومُونَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَجَبَتْ مُفَارَقَتُهُ وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِتَعَمُّدِهِ تَرْكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ الْمُفَارِقُ لِإِمَامِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ لِزَائِدَةٍ وَتَنْبِيهِهِ وَإِبَائِهِ الرُّجُوعَ وَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ.
أَمَّا إِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَعَ الْجُلُوسِ لَهُ وَقَامَ لَزِمَ رُجُوعُهُ إِذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا، فَإِنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا كُرِهَ رُجُوعُهُ، وَيَحْرُمُ رُجُوعُهُ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ أَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُفَارِقَ إِمَامَهُ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِنَفْسِهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى قَوْلٍ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا سَبَّحَ لِإِمَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْتَدِلَ فَلَمْ يَرْجِعْ تَشَهَّدَ لِنَفْسِهِ وَتَبِعَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ بِقَطْعِ صَفٍّ مِنْ صُفُوفِهَا سَوَاءٌ كَانَ وَرَاءَ الْإِمَامِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الصَّفُّ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ وَبَعُدَ بِقَدْرِ مَقَامِ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ فَتَبْطُلُ صَلَاةُ هَذَا الصَّفِّ الْمُنْقَطِعِ وَهَذَا مَا لَمْ تَنْوِ الطَّائِفَةُ الْمُنْقَطِعَةُ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ، فَإِنْ نَوَتْ مُفَارَقَتَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهَا.
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
8- أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ الْجَمَاعَةَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَا يَجُوزُ قَطْعُ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهَا شَرْطٌ وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا خِلَافًا لِمَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَوْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِخُرُوجِهِ وَقُلْنَا بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا انْحَصَرَ فِي شَخْصٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: إِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فَارَقَ إِمَامَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلْنَا: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالْمُفَارَقَةِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ فَارَقَ الْمَأْمُومُ الْجَمَاعَةَ لِعُذْرٍ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ، وَقَدْ أَدْرَكَهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ فَارَقَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الْجُمُعَةِ فَكَمَزْحُومٍ فِيهَا حَتَّى تَفُوتَهُ رَكْعَتَانِ فَيُتِمُّهَا نَفْلًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِانْفِرَادُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا.
شَرْطُ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فِي قَصْرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ
9- يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِلتَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَ الْمُسَافِرُ مَحَلَّ إِقَامَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِمُفَارَقَتِهِ بُيُوتَ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَتَوَابِعَ الْبُيُوتِ أَيْضًا.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ»، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ رَأَى خُصًّا أَمَامَهُ فَقَالَ: لَوْلَا هَذَا الْخُصُّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ ف 22).
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:
10- مِنْ صُوَرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنَّ الْإِمَامَ يُفَرِّقُ الْجَيْشَ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تُجْعَلُ فِي مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْجَيْشِ، فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَإِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فِي الثُّلَاثِيَّةِ أَوِ الرُّبَاعِيَّةِ فَارَقَهُ الْمَأْمُومُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ بَلْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْفِرْقَةُ الْحَارِسَةُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَالْإِمَامُ يَنْتَظِرُهُمْ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْخَوْفِ ف 6).
شَرْطُ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فِي فِطْرِ الْمُسَافِرِ
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ الَّذِي يُرِيدُ التَّرَخُّصَ بِرُخْصَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِلاَّ بَعْدَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَافِرُ مِنْهُ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَافَرَ وَفَارَقَ عُمْرَانَ الْبَلَدِ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ سَافَرَ وَفَارَقَ عُمْرَانَ الْبَلَدِ بَعْدَ الْفَجْرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ وَفَارَقَ الْعُمْرَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِيهَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُقِيمًا فَلَزِمَهُ الصَّوْمُ فَلَا يُبْطِلُهُ بِاخْتِبَارِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ جَامَعَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَالشَّعْبِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِمَا رَوَى عُبَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمْ يُجَاوِزِ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ.قُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟- صلى الله عليه وسلم- قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ: فَأَكَلَ»، وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ لَيْلًا وَاسْتَمَرَّ فِي النَّهَارِ لأَبَاحَ الْفِطْرَ فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ أَبَاحَهُ.
ثَانِيًا: الْمُفَارَقَةُ فِي الْعُقُودِ:
أَثَرُ الْمُفَارَقَةِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ
لِمُفَارَقَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَثَرٌ فِي لُزُومِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
مُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ:
12- مِنْ أَسْبَابِ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا التَّخَايُرُ، وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ إِبْطَالِهِ، وَأَمَّا مُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَجْلِسَ الْعَقْدِ، وَكَلَامُنَا هُنَا فِي الْمُفَارَقَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّخَايُرُ، فَمُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ مِنْ أَسْبَابِ لُزُومِ الْعَقْدِ، أَمَّا قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَكُونُ جَائِزًا وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَيُسَمَّى الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَقَعُ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ مَا دَامَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَرْزَةَ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ».
حُكْمُ مُفَارَقَةِ الْمُتَبَايِعَيْنِ
13- اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حُكْمِ مُفَارَقَةِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَجْلِسَ الْعَقْدِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمَا هُوَ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ».
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُفَارَقَةُ جَائِزَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْحِلُّ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ظَاهِرُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ تَحْرِيمُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ خَشْيَةً مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ.قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَالَ: هَذَا الْآنَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَهُنَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا وَلَوْ عَلِمَهُ لَمَا خَالَفَهُ.
كَيْفِيَّةُ الْمُفَارَقَةِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْبَيْعُ:
14- الْمُفَارَقَةُ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْبَيْعُ هِيَ الْمُفَارَقَةُ بِالْأَبْدَانِ لَا بِالْأَقْوَالِ، وَتَخْتَلِفُ الْمُفَارَقَةُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ الْعَقْدِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ تَفَرُّقًا يَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ شَرْعًا وَلَا لُغَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ فَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الصَّحْنِ أَوْ مِنَ الصَّحْنِ إِلَى الصُّفَّةِ أَوِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَا فِي سُوقٍ أَوْ صَحْرَاءَ أَوْ فِي بَيْتٍ مُتَفَاحِشِ السِّعَةِ فَبِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ظَهْرَهُ وَيَمْشِيَ قَلِيلًا.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَلَوْ لَمْ يَبْعُدْ عَنْ سَمَاعِ خِطَابِهِ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فِي الْعَادَةِ خِلَافًا لِلْإِقْنَاعِ.
وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ أَوْ دَارٍ صَغِيرَةٍ أَوْ مَسْجِدٍ صَغِيرٍ فَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ أَوْ صُعُودِهِ السَّطْحَ، وَلَا يَحْصُلُ التَّفَرُّقُ بِإِقَامَةِ سِتْرٍ وَلَوْ بِبِنَاءِ جِدَارٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ بَاقٍ.
وَقِيلَ: لَا تَكُونُ الْمُفَارَقَةُ إِلاَّ بِأَنْ يَبْعُدَ عَنْ صَاحِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَلَّمَهُ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالشِّيرَازِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ (أَيْ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ) وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْأَصْحَابِ سِوَى الْإِصْطَخْرِيِّ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّةُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْأَبْدَانِ فَقَالَ: إِذَا أَخَذَ هَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا فَقَدْ تَفَرَّقَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ.
وَلَوْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَجْلِسَهُ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الْآخَرِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ قَصَدَ بِالْمُفَارَقَةِ لُزُومَ الْبَيْعِ أَوْ قَصَدَ حَاجَةً أُخْرَى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْمُفَارَقَةِ هَلْ يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مُكْرَهًا احْتَمَلَ بُطْلَانُ الْخِيَارِ لِوُجُودِ غَايَتِهِ وَهُوَ التَّفَرُّقُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي مُفَارَقَةِ صَاحِبِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي مُفَارَقَتِهِ لِصَاحِبِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي فِي الْحَنَابِلَةِ: لَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى التَّفَرُّقِ فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى انْقِطَاعَ الْخِيَارِ إِنْ أُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى فُرْقَةِ صَاحِبِهِ انْقَطَعَ خِيَارُ صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ وَفَارَقَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُكْرَهِ مِنْهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَزُولُ عَنْهُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ حَتَّى يُفَارِقَهُ، وَإِنْ أُكْرِهَا جَمِيعًا عَلَى الْمُفَارَقَةِ انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِفُرْقَةِ الْآخَرِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ صَاحِبُهُ دُونَهُ.
وَمِنْ صُوَرِ الْإِكْرَاهِ مَا لَوْ تَفَرَّقَا مَعَ فَزَعٍ مِنْ مَخُوفٍ كَسَبُعِ أَوْ ظَالِمٍ خَشَيَاهُ فَهَرَبَا مِنْهُ أَوْ تَفَرَّقَا مَعَ إِلْجَاءٍ كَتَفَرُّقِ بِسَيْلِ أَوْ نَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ تَفَرَّقَا مَعَ حَمْلٍ لَهُمَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ وَالْمُلْجَأِ كَعَدَمِهِ فَيَسْتَمِرُّ خِيَارُهُمَا إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسٍ زَالَ فِيهِ إِكْرَاهٌ أَوْ إِلْجَاءٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ: لَوْ هَرَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ الْآخَرُ فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَتْبَعْهُ الْآخَرُ مَعَ التَّمَكُّنِ بَطَلَ خِيَارُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بَطَلَ خِيَارُ الْهَارِبِ دُونَ الْآخَرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْفَسْخِ بِالْقَوْلِ وَلِأَنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ إِذَا مَشَى عَلَى الْعَادَةِ، فَلَوْ هَرَبَ وَتَبِعَهُ الْآخَرُ يَدُومُ الْخِيَارُ مَا دَامَا مُتَقَارِبَيْنِ، فَإِنْ تَبَاعَدَا بِحَيْثُ يُعَدُّ فُرْقَةً بَطَلَ اخْتِيَارُهُمَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ هَرَبَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ، بَطَلَ خِيَارُهُمَا وَلَزِمَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُ الْعَقْدِ عَلَى رِضَاهُمَا.
وَأَمَّا أَثَرُ الْمُفَارَقَةِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ فَفِي إِبْطَالِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ ف 13).
وَلَوْ تَنَازَعَ الْعَاقِدَانِ فِي التَّفَرُّقِ بِأَنْ جَاءَا مَعًا وَقَالَ أَحَدُهُمَا: تَفَرَّقْنَا، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ صُدِّقَ النَّافِي بِيَمِينِهِ.
وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى حُصُولِ التَّفَرُّقِ وَتَنَازَعَا فِي الْفَسْخِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فَسَخْتُ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ صِدْقَ النَّافِي بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمُ الْفَسْخِ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِ التَّفَرُّقِ وَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ فَدَعْوَاهُ الْفَسْخَ فَسْخٌ.
وَمَا سَبَقَ مِنِ اعْتِبَارِ الْمُفَارَقَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا تَوَلَّى عَقْدَ الْبَيْعِ طَرَفَانِ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّى الْعَقْدَ شَخْصٌ وَاحِدٌ كَالْأَبِ يَبِيعُ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَوْ يَبِيعُ مَالَ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ فَهَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَاعْتِبَارِ الْمُفَارَقَةِ سَبَبًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ: الْأَوَّلُ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا ثُبُوتُهُ، فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْوَلَدِ وَخِيَارٌ لِلْأَبِ، وَيَكُونُ الْأَبُ نَائِبَ الْوَلَدِ، فَإِنْ أَلْزَمَ الْبَيْعَ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَلَدِ لَزِمَ، وَإِنْ أَلْزَمَ لِنَفْسِهِ بَقِيَ الْخِيَارُ لِلْوَلَدِ، فَإِذَا فَارَقَ الْمَجْلِسَ لَزِمَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيَّ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ «أَيِ الْبَيْعُ» إِلاَّ بِالْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ نَفْسَهُ وَإِنْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَعَلَى هَذَا لَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ إِلاَّ بِأَنْ يَخْتَارَ الْأَبُ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ صَرْفًا فَفَارَقَ الْمَجْلِسَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا يَبْطُلُ عَلَى الثَّانِي إِلاَّ بِالتَّخَايُرِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
48-موسوعة الفقه الكويتية (نوم)
نَوْمٌالتَّعْرِيفُ:
1- النَّوْمُ اسْمٌ مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ: نَامَ، يَنَامُ.وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْهُدُوءُ، وَالسُّكُونُ.يُقَالُ: نَامَتِ السُّوقُ: كَسَدَتْ، وَالرِّيحُ: سَكَنَتْ، وَالْبَحْرُ: هَدَأَ.
كَمَا يُقَالُ: اسْتَنَامَ إِلَيْهِ: سَكَنَ: أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عُرِّفَ النَّوْمُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا: هُوَ فَتْرَةٌ طَبْعِيَّةٌ تَحَدُثُ لِلْإِنْسَانِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ، تَمْنَعُ الْحَوَاسَّ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَنِ الْعَمَلِ مَعَ سَلَامَتِهَا، وَتَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِهِ، فَيَعْجِزُ الْمُكَلَّفُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ.
وَمِنْهَا: النَّوْمُ حَالَةٌ طَبْعِيَّةٌ تَتَعَطَّلُ مَعَهَا الْقُوَى بِسَبَبِ تَرَقِّي البُخَارَاتِ إِلَى الدِّمَاغِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ اسْتِرْخَاءُ أَعْصَابِ الدِّمَاغِ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الصَّاعِدَةِ مِنَ الْمَعِدَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- النُّعَاسُ:
2- النُّعَاسُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ نَعَسَ نَعْسًا، وَنُعَاسًا: فَتَرَتْ حَوَاسُّهُ وَهُوَ بِدَايَةُ النَّوْمِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ قَلِيلُ نَوْمٍ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ عِنْدَهُ، أَوْ هُوَ رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَأْتِي مِنْ قِبَلِ الدِّمَاغِ فَتُغَطِّي الْعَيْنَ وَلَا تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كَانَ نَوْمًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ: أَنَّ النُّعَاسَ مَبْدَأُ النَّوْمِ.
ب- السِّنَةُ:
3- السِّنَةُ لُغَةً: هِيَ مِنْ وَسِنَ يَوْسَنُ وَسَنًا وَسِنَةً: أَخَذَ فِي النُّعَاسِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: فُتُورٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَلَا يَفْقِدُ مَعَهُ عَقْلَهُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: أَنَّ السِّنَةَ مَبْدَأُ النَّوْمِ.
ج- الْإِغْمَاءُ:
4- الْإِغْمَاءُ: هُوَ فَقْدُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ.كَالْغَشْيِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ مَغْلُوبًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعَطِّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- النَّوْمُ مِنَ الْأُمُورِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْأَحْيَاءِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَرِدْ أَمْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَوْمٌ، اكْتِفَاءً بِدَوَاعِي الْفِطْرَةِ، فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ إِذًا، وَالْإِبَاحَةُ وَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَلَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ عِنْد بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَلَبِ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ.
وَلَا طَلَبَ فِي الْمُبَاحِ وَلَا كُلْفَةَ لِكَوْنِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَقَدْ تَعْتَرِي النَّوْمَ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ لِأَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ تَتَّصِلُ بِهِ: فَيَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ مَكْرُوهًا.
النَّوْمُ الْوَاجِبُ:
6- النَّوْمُ الْوَاجِبُ: هُوَ مَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ بِهِ أَدَاءَ وَاجِبٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
النَّوْمُ الْمُسْتَحَبُّ:
7- النَّوْمُ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ نَوْمُ مَنْ نَعِسَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ قِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يَدْرِيَ مَا يَقُولُ أَوْ يَفْعَلُ.وَمِنَ النَّوْمِ الْمُسْتَحَبِّ الْقَيْلُولَةُ فِي وَسَطِ النَّهَارِ.
النَّوْمُ الْحَرَامُ:
8- النَّوْمُ الْحَرَامُ هُوَ النَّوْمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ الْوَقْتَ كُلَّهُ، أَوْ يَنَامُ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
النَّوْمُ الْمَكْرُوهُ:
9- يَكُونُ النَّوْمُ مَكْرُوهًا فِي مُوَاطِنَ مِنْهَا: النَّوْمُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالنَّوْمُ أَمَامَ الْمُصَلِّينَ، وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَوِ الْمِحْرَابِ، وَالنَّوْمُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ لَهُ جِدَارٌ يَمْنَعُهُ مِنَ السُّقُوطِ، لِنَهْيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَلِخَشْيَةِ أَنْ يَتَدَحْرَجَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ.
وَمِنَ النَّوْمِ الْمَكْرُوهِ: نَوْمُ الرَّجُلِ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهَا ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّوْمُ وَفِي يَدِهِ رِيحُ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ، وَالنَّوْمُ بِعَرَفَاتٍ وَقْتَ الْوُقُوفِ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَضَرُّعٍ، وَالنَّوْمُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ، وَنَوْمُهُ تَحْتَ السَّمَاءِ مُتَجَرِّدًا مِنْ ثِيَابِهِ مَعَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَنَوْمُهُ بَيْنَ مُسْتَيْقِظِينَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُرُوءَةِ، وَنَوْمُهُ وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ خَالٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «نُهِيَ عَنِ الْوَحْدَةِ: أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ» وَمِنْهُ النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِنْ ظَنَّ تَيَقُّظَهُ فِي الْوَقْتِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ»؛ لِخَوْفِ اسْتِمْرَارِ النَّوْمِ حَتَّى خُرُوجِ الْوَقْتِ.وَمَحِلُّ ذَلِكَ إِذَا ظَنَّ تَيَقُّظَهُ فِي الْوَقْتِ وَإِلاَّ حَرُمَ النُّوْمُ.أَمَّا النَّوْمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّوْمِ مِنْ أَحْكَامٍ: -
يَتَعَلَّقُ بِالنَّوْمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلًا: مَا يُسَنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ:
10- يُسَنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ أُمُورٌ مِنْهَا: تَخْمِيرُ الْإِنَاءِ، وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا.وَإِيكَاءُ السِّقَاءِ، وَإِغْلَاقُ الْبَابِ، وَإِطْفَاءُ الْمِصْبَاحِ، وَإِطْفَاءُ الْجَمْرِ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِيهِنَّ، لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ- أَوْ أَمْسَيْتُمْ- فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ».
وَيُسَنُّ النَّظَرُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَنَفْضُ فِرَاشِهِ، وَوَضْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَأَنْ يَجْعَلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِحَدِيثِ حَفْصَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».
وَيُسَنُّ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوْبَةُ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْفَوْرِ مَطْلُوبَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ آكَدُ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهَا.لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.وَأَنْ يَقُولَ الْأَوْرَادَ الْمَأْثُورَةَ الَّتِي مِنْهَا: «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ».وَأَنْ يَتَوَضَّأَ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ، سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَمْ غَيْرَ جُنُبٍ. (ر: جَنَابَة ف 21، وَاسْتِصْبَاح ف 6).
ثَانِيًا: عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ:
11- يُسْتَحَبُّ بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ أُمُورٌ مِنْهَا:
تِلَاوَةُ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ مِثْلَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ» وَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَنِي سَالِمًا سَوِيًّا، أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
وَمِنْهَا غَسْلُ الْيَدَيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِحَدِيثِ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ ثَلَاثًا وَاجِبٌ تَعَبُّدًا إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ.
ثَالِثًا: السِّوَاكُ قَبْلَ النَّوْمِ وَبَعْدَهُ:
12- يُسْتَحَبُّ الِاسْتِيَاكُ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» وَحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ». (ر: اسْتِيَاك ف 10).
رَابِعًا: وُجُودُ الْمَنِيِّ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ:
13- لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلَامًا، أَوْ إِذَا رَأَى فِي فِرَاشٍ يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يُمْنِيَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْغُسْلِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِلَام ف 6، 7).
خَامِسًا: النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ بِقُيُودٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِد ف 21).
سَادِسًا: النَّوْمُ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ:
15- النَّوْمُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَخَبَرِ: «إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ».
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.
(ر: وُضُوء).
أَثَرُ النَّوْمِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ:
16- النَّوْمُ عَارِضٌ طَبْعِيٌّ يَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ فَيُعَطِّلُ الْعَقْلَ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَيَعْجِزُ عَنِ الْفَهْمِ فِي حَالِ النَّوْمِ.فَإِنِ اسْتَيْقَظَ مِنْهُ أَمْكَنَهُ الْفَهْمُ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّوْمِ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَالْمُبَادَرَةُ بِالْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ تَعَدَّى أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ بِالنَّوْمِ، وَنَدْبًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، وَوُجُوبًا إِنْ تَعَدَّى بِهِ.
(ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ ف 19).
أَمَّا أَثْنَاءَ النَّوْمِ فَجَمِيعُ عِبَارَاتِ النَّائِمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّة لَغْوٌ، فَلَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَلَا نُطْقُهُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَلَا يَصِحُّ إِيجَابُهُ بِعَقْدٍ وَلَا قَبُولُهُ.
وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ وَالتَّكْلِيفِ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُكَلَّفِ: فَهْمُهُ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، أَيْ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْفَهْمُ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِقَدْرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِ الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِالْأَمْرِ كَالنَّائِمِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَيْهِ.
وَلِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».وَمَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الثَّلَاثَةِ: عَدَمُ اعْتِبَارِ عِبَارَاتِهِمْ.
(ر: تَكْلِيف ف 4).
17- وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ: مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنْ أُحْضِرَ الْمَوْقِفَ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ وَلَوْ لَحْظَةً حَتَّى غَادَرَهَا يُجْزِئُ وُقُوفُهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعِبَادَةِ عُمُومًا فَيَصِحُّ الْوُقُوفُ مَعَ النَّوْمِ.
18- وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْحَنَفِيُّ مَسَائِلَ قَالَ: إِنَّ النَّائِمَ فِيهَا كَالْمُسْتَيْقِظِ، وَعَزَاهَا إِلَى فَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيِّ أَوْصَلَهَا إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى: إِذَا نَامَ الصَّائِمُ عَلَى قَفَاهُ وَفُوهُ مَفْتُوحٌ، فَقَطَرَ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فِي فِيهِ: فَسَدَ صَوْمُهُ، وَكَذَا إِنْ قَطَرَ غَيْرُهُ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ فِي فِيهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ جَوْفَهُ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا جَامَعَ الْمَرْأَةَ زَوْجُهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَسَدَ صَوْمُهَا.
الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ.
الرَّابِعَةُ: الْمُحْرِمُ إِذَا نَامَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَحَلَقَ رَأَسَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
الْخَامِسَةُ: الْمُحْرِمُ إِذَا نَامَ وَانْقَلَبَ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
السَّادِسَةُ: إِذَا نَامَ الْمُحْرِمُ عَلَى بَعِيرٍ فَدَخَلَ فِي عَرَفَاتٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.
السَّابِعَةُ: الصَّيْدُ الْمَرْمِيُّ إِلَيْهِ بِسَهْمٍ إِذَا وَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الرَّمْيَةِ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا إِذَا وَقَعَ عِنْدَ يَقْظَانٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَكَاتِهِ.
الثَّامِنَةُ: إِذَا انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى مَتَاعٍ وَكَسَرَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
التَّاسِعَةُ: إِذَا نَامَ الْأَبُ تَحْتَ جِدَارٍ فَوَقَعَ الِابْنُ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحٍ وَهُوَ نَائِمٌ فَمَاتَ الِابْنُ يُحْرَمُ الْأَبُ مِنَ الْمِيرَاثِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
الْعَاشِرَةُ: مَنْ رَفَعَ النَّائِمَ وَوَضَعَهُ تَحْتَ جِدَارٍ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ الْجِدَارُ وَمَاتَ، لَا يَلْزَمُ ضَمَانٌ عَلَى الْوَاضِعِ تَحْتَ الْجِدَارِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَجُلٌ خَلَا بِامْرَأَةٍ وَثَمَّةَ أَجْنَبِيٌّ نَائِمٌ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: رَجُلٌ نَامَ فِي بَيْتٍ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ وَهُوَ نَائِمٌ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً صَحَّتِ الْخَلْوَةُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ نَائِمَةً فِي بَيْتٍ وَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَمَكَثَ عِنْدَهَا سَاعَةً صَحَّتِ الْخَلْوَةُ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: امْرَأَةٌ نَامَتْ فَجَاءَ رَضِيعٌ فَارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِهَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُتَيَمِّمُ إِذَا مَرَّتْ دَابَّتُهُ عَلَى مَاءٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا نَائِمٌ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ وَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ النَّوْمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ وَقَرَأَ فِي قِيَامِهِ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي رِوَايَةٍ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ).
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: إِذَا تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ فِي نَوْمِهِ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنَ الْيَقْظَانِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ هَذَا النَّائِمُ فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي نَوْمِهِ، كَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، وَتَجِبُ فِي أَقْوَالٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ نَائِمٍ فَانْتَبَهَ فَأَخْبَرَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا: أَيْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ.
الْعِشْرُونَ: إِذَا حَلَفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا فَجَاءَ الْحَالِفُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَقَالَ لَهُ: قُمْ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّائِمُ.قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْنَثُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَجَاءَ الرَّجُلُ وَمَسَّهَا بِشَهْوَةٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ صَارَ مُرَاجِعًا.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ نَائِمًا فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَقَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ، يَصِيرُ مُرَاجِعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّجُلُ إِذَا نَامَ وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ وَأَدْخَلَتْ فَرْجَهَا فِي فَرْجِهِ وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِفِعْلِهَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِذَا جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى نَائِمٍ وَقَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ فِي صَلَاتِهِ وَاحْتَلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ.
وَكَذَلِكَ: إِذَا بَقِيَ نَائِمًا يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ صَارَتِ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
19- وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مَسَائِلَ يَنْفَرِدُ بِهَا النَّوْمُ عَنِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَهِيَ:
الْأُولَى: يَجِبُ عَلَى النَّائِمِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَغْرَقَ النَّوْمُ وَقْتَهَا.
الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ صَوْمُ النَّائِمِ الَّذِي اسْتَغْرَقَ نَوْمُهُ النَّهَارَ كُلَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ.وَفِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَضُرُّ كَالْإِغْمَاءِ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا نَامَ الْمُعْتَكِفُ حُسِبَ زَمَنُ النَّوْمِ مِنَ الِاعْتِكَافِ قَطْعًا لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ.
أَثَرُ النَّوْمِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
20- اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ جِنَايَةَ النَّائِمِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ خَطَأً أَوْ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ، فَتُجْرَى فِي فِعْلِهِ فِي كِلَا التَّعْبِيرَيْنِ أَحْكَامُ الْخَطَأِ، فَإِذَا انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى إِنْسَانٍ بِجَنْبِهِ فَقَتْلَهُ فَهُوَ خَطَأٌ أَوْ كَالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ لَا قَصْدَ لَهُ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ عِنْد بَعْضِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ، فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الْخَطَأِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ أَصْلًا.
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى النَّائِمِ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ عِنْدَ النَّوْمِ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا.وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ أَيْضًا.وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ: لِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَتَوَهُّمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَائِمًا وَإِنَّمَا كَانَ مُتَنَاوِمًا لِقَصْدِ اسْتِعْجَالِ الْإِرْثِ.
أَثَرُ النَّوْمِ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ:
21- النَّائِمُ فِي إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ كَالْمُسْتَيْقِظِ تَمَامًا فَيَضْمَنُ.فَإِنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، فَالْمُكَلَّفُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ فِيهَا سَوَاءٌ.
(ر: ضَمَان ف 16).
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
49-الغريبين في القرآن والحديث (سنن)
(سنن)قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} قال الأزهري: أي أهل سنن أي أهل طرائق، والسنة: الطريق.
في الحديث في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقتهم، يقول: آمنوهم واقتصروا بهم على الجزية، وقال ابن عرفة: في قوله: (قد خلت) المعنى قد كانت قبلكم قرون مضت سنتهم بالعقوبة حين عاندوا الأنبياء.
وقوله: (من حمأ مسنون) أي متغير، وقيل: منتن، وقال الأخفش مصبوب.
في الحديث: (ألا رجل يرد عنا من سنن هؤلاء) أي من قصدهم وطريقهم يقال: خل عن سنن الطريق وسننه ومِلكه ومُلكه ومَلكه، والسنة: معناها في كلامهم الطريقة والسنة الصورة.
في حديث أبي هريرة: (إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات) أي تمرح في الطول وفرس سنين وذلك من النشاط، وقال أبو عبيد: الاستنان أن يحضر وليس عليه فارس.
وفي الحديث: (وأعطوا الركب أسنتها (، قال أبو عبيد لا أعرف الأسنة إلا جمع سنان، قال: كان الحديث محفوظًا فكأنها جمع الأسنان، يقال: سن وأسنان من المرعى ثم الأسنة جمع الجمع، وقال أبو سعيد: الأسنة جمع السنان لا جمع الأسنان والعرب تقول: الحمض يسن الإبل على الخلة فالحمض سنان لها على رعي الخلة ومعنى يسنيها يقويها، والسنان الاسم وهو القوة قال الأزهري: ذهب أبو سعيد مذهبًا حسنًا، والذي قاله أبو عبيد صحيح أيضًا، روى أسلمة عن الفراء السن الأكل الشديد.
قال الأزهري: سمعت العرب تقول: أصابت الإبل اليوم سنا من الرعي، إذا مشقت فيه مشقًا صالحًا.
ويجمع السن بهذا المعنى أسنانًا، ثم تجمع الأسنان أسنة.
كما يقال: كن وأكنان وأكنة جمع الجمع، ويصدق ذلك حديث جابر بن عبد الله (فأمكنوا الركاب أسنانها).
وفي حديث عثمان- رضي الله عنه- (وجاوزت أسنان أهل بيتي).
يقال: هذا قرن هذا وسنه وتنه إذا كان مثله في السن.
وفي حديث ابن عمر (يتقى من الضحايا التي لم تسنن) وذكره القتيبي (لم تسنن) بفتح النون، قال: وهي التي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانًا كقوله لم يلبن فلان أي لم يعط لبنًا ولم يسمن: أي لم يعط سمنًا، ويقال: سنت البدنة إذا نبتت أسنانها وسنها الله قال الأزهري: وهم في الرواية، وإنما المحفوظ عن أهل التثبت والضبط: (لم تسنن) بكسر النون- والصواب من العربية لم تسن ولم تسنن، وأراد ابن عمر أن لا يضحي بأضحية إذا لم تثن، فإذا أثنت فقد سنت، وأدنى الأسنان الإثناء، قال وقول القتيبي: سنت الناقة وسنها الله غير صحيح لا يقوله ذو المعرفة بكلام العرب، وكذلك قوله لم يلبن ولم يسمن ومعناهما لم يطعم سمنًا ولم يسق لبنًا.
وفي الحديث: (سنها يعني الخمر- في البطحاء) أي صبها والسن: الصب في سهولة.
ومنه حديث ابن عمر: (كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه) الشن: تفريق الماء، والماء الشنان: المتفرق.
وفي حديث علي رضي الله عنه (صدقني سن بكره) هذا مثل يضرب للصادق في خبره، وأصله أن رجلًا ساوم ببكر أراد شراءه فسأل البائع عن سنه فأخبره بالحق، فقال المشتري: صدقني سن بكره فذهب مثلًا في الصدق يقوله الإنسان على نفسه وإن كان ضارًا له.
قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص} أي بالقحوط، والسنة: هي الأزمة.
ومنه حديث عمر رضي الله عنه: (كان لا يجيز نكاحًا عام سنة يقول: لعل الضيقة تحملهم أن ينكحوا غير الأكفاء.
وكذلك حديثه: (كان لا يقطع في عام سنة) وقيل في قوله: {لم يتسنه} أي لم يتغير بمر السنين عليه مأخوذ من السنة، يقال: سانهت النخلة إذا إذا حملت عامًا وحالت عامًا، والسنة أصلها سنهة، ويقال أخذت الشيء مسانهة ومساناة، وقال ابن عرفة: قرأ أهل الحرمين: (لم يتسنه) بإثبات الهاء في الوقف والوصل وذلك من قوله سنه الطعام إذا تغير، وقال أبو عمرو الشيباني: هو من قولهم: {من حمأٍ مسنون} فأبدلوا من تسنن ياء كما قالوا تظنيت من الظن وقصيت أظافري.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
50-الغريبين في القرآن والحديث (عرر)
(عرر)قوله تعالى: {فتصيبكم منهم معرة} المعرة التي كانت تصيب المؤمنين أنهم لو كبسوا أهل مكة وبين ظهرانيهم قوم مؤمنون لم يتميزوا من الكفار لم يأمنوا أن يطئوا المؤمنين بغير علم فيقتلوهم، فتلزمهم دياتهم، وتلحقهم سبة بأنهم قتلوا من هو على دينهم، والمعرة: الأمر القبيح المكروه، وأما حديث عمر- رضي الله عنه-: (اللهم إني أبرأ إليك من معرة الجيش) فهو أن ينزلوا بقوم فيأكلون منه زرعهم شيئا بغير علم، وقال ابن الأعرابي: المعرة قتال الجيش دون إذن الأمير.
قوله تعالى: {القانع والمعتر} المعتر الذي يتعرض ولا يسأل يقال: اعتره
يعتره، واعتراه يعتريه، والقانع المبرز وجهه للمسألة وعررته أعره أيضا إذا أتيته تطلب معروفه، وفي حديث حاطب بن أبي بلتعة، قال: (كنت عريرا فيهم) أي دخيلا غريبا ولم أكن صميمهم.
وفي حديث سلمان: (كان إذا تعار من الليل، قال كذا وكذا) أي استيقظ ولا أحسبه يكون إلا مع كلام، يقال: تعار في نومه يتعار وكان بعضهم يجعله مأخوذا من عرار الظليم، أخبرنا- ابن عمار عن ابن عمر عن ثعلب قال اختلف الناس في تعار فقال قوم: انتبه، وقال قوم، علم، وقال قوم: تمطي وأن، وفي حديث آخر: (أتيناك بهذا المال لما يعروك في أمور الناس) ويورى: (يعررك) يقال: عره وتعره، وعراه يعروه، واعتراه أي أتاه.
وفي حديث أبي موسى قيل له: (ما عرنا بك أيها الشيخ) أي ما جاءنا بك، وفي حديث طاووس: (إذا استعر عليكم شيء من النعم) أي ند واستعصى، العرارة: الشدة وفي حديث سعد: (أنه كان يدمل أرضه بالعرة) يعني بعذرة الناس، ومنه يقال عر قومه بشر إذا لطخهم به، ويكون من العر وهو الجرب أي أعداهم به، وفي حديث جعفر بن محمد: (كل سبع تمرات في نخلة غير معرورة) أخبرنا ابن عمار عن ابن عمر عن ثعلب، قال: وسألته- يعني ابن الأعرابي- عن هذا فقال: معرورة ومعرة أي ممهدة
بالعرة وهي السماد، وفي حديث آخر: (أن رجلا سأل آخر عن منزله، فأخبره أن يزلن بين حيين من العرب، فقال: نزلت بين المجرة والمعرة) المجرة: مجرة السماء، والمعرة ما وراءها من ناحية القطب الشمالي، سميت معرة لكثرة النجوم فيها، وأصل المعرة موضع العر وهو الجرب، وا
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
51-المعجم الغني (شَبَابٌ)
شَبَابٌ- [شبب]، (مصدر: شَبَّ)، "هُوَ فِي رَيْعَانِ الشَّبَابِ": فِي رَيْعَانِ الفُتُوَّةِ، أيْ مَا بَعْدَ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ. "عُنْفُوَانُ الشَّبَابِ"أَلَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْما *** فأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ الْمَشِيبُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
52-طِلبة الطلبة (ركز)
(ركز):وَعَنْ حَارِثٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ أَبِي بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِعٍ فَلَامَتْهُ أُمِّي وَقَالَتْ اشْتَرَيْتَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ أَنْفُسُهَا مِائَةٌ وَأَوْلَادُهَا مِائَةٌ وَكُفْأَتُهَا مِائَةٌ فَنَدِمَ فَأَتَاهُ فَاسْتَقَالَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ فَقَالَ لَك عَشْرُ شِيَاهٍ فَأَبَى فَقَالَ لَك عَشْرٌ أُخَرُ فَأَبَى فَعَالَجَ الرِّكَازَ فَخَرَجَ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ فَأَتَاهُ الْآخَرُ فَقَالَ خُذْ غَنَمَك وَأَعْطِنِي مَالِي فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَأَضُرَّنَّك فَأَتَى عَلِيًّا وَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ أَدِّ خُمُسَ مَا أَخَذْت لِلَّذِي وَجَدَ الرِّكَازَ وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا أَخَذَ ثَمَنَ غَنَمِهِ الرِّكَازُ الْمَعْدِنُ هُنَا وَالشَّاةُ الْمُتْبِعُ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا وَالْكَفْأَةُ بِالْهَمْزَةِ وَتَسْكِينِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَتَجَ فُلَانٌ إبِلَهُ كَفْأَةً إذَا نَتَجَ كُلَّ عَامٍ نِصْفُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إنْزَاءُ الْفُحُولِ عَلَى النُّوقِ فِي سَنَةٍ عَلَى بَعْضِهَا وَسَنَةٍ أُخْرَى عَلَى بَعْضِهَا وَتَرْكُ الْإِنْزَاءِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى لِأَوْلَادِهَا وَفِي الْغَنَمِ مِنْ عَادَتِهِمْ الْإِنْزَاءُ عَلَيْهَا كُلَّ سَنَةٍ وَذِكْرُ الْكَفْأَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْغَنَمِ يُرِيدُ بِهِ الْإِنْزَاءَ عَلَيْهَا كُلِّهَا فَيَلِدْنَ مِائَةً أُخْرَى فَتَقُولُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا اشْتَرَيْت الْمَعْدِنَ بِمِائَةِ شَاةٍ كِبَارٍ وَلَهَا مِائَةُ أَوْلَادٍ صِغَارٍ وَإِذَا أَنْزَيْتَ عَلَيْهَا حَصَلَتْ مِائَةٌ أُخْرَى فَقَدْ اشْتَرَيْته بِثَلَاثِمِائَةِ شَاةٍ فِي الْمَعْنَى فَاسْتَقَالَهُ أَيْ طَلَبَ مِنْهُ الْإِقَالَةَ وَمُعَالَجَةُ الرِّكَازِ الْعَمَلُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ فَأَتَاهُ الْآخَرُ أَيْ بَائِعُ الرِّكَازِ فَطَلَبَ مِنْهُ الْإِقَالَةَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ لَأَضُرَّنك أَيْ لَأُخْبِرَنَّ بِهِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِبَائِعِ الرِّكَازِ أَدِّ خُمُسَ مَا أَخَذْت لِأَنَّهُ وَاجِدُ الرِّكَازِ وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَهُ وَأَمَّا مُشْتَرِي الرِّكَازِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْئًا لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِثَمَنِ سَبْكِ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ أَيْ أَذَابَهُمَا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ.
طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م
53-طِلبة الطلبة (تجر)
(تجر):وَرُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ نَزَلَ {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] قَالَ لَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ هَلْ لَك أَنْ نُخَاطِرَك عَلَى أَنْ نَضَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك خَطَرًا الْمُخَاطَرَةُ بيمان بستن وَالْخَطَر آن مَال كه بروى بيمان بندند فَإِنْ غَلَبَتْ الرُّومُ أَيْ كَانُوا غَالِبِينَ أَخَذْت خَطَرَنَا وَإِنْ غَلَبَتْ فَارِسٌ أَخَذْنَا خَطَرَك فَخَاطَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ أَيْ قَدْرِ الْمَالِ وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ أَيْ زِدْ فِي الْمُدَّةِ وَكَانَ خَاطَرَهُمْ عَلَى خَمْسِ سِنِينَ فَجَعَلَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ فَصَارَتْ الرُّومُ غَالِبِينَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ خَاطَرَهُمْ عَلَى سَبْعِ سِنِينَ ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى تِسْعِ سِنِينَ فَكَانَتْ غَلَبَتُهُمْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى قَوْله تَعَالَى {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وَهُوَ يَقَعُ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ غَلَبَتْ الرُّومُ فَأَعْطَوْهُ خَطَرَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَكْلِهِ وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُنَاحَبَةُ» وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَجَدْت فِي الْمَغْنَمِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ طَسْتًا لَا يُدْرَى أَشَبَهٌ هُوَ أَمْ ذَهَبٌ فَابْتَعْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَانِي بِهَا تُجَّارُ الْحِيرَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَيْ طَلَبُوا مِنِّي شِرَاهَا بِضِعْفِ مَا اشْتَرَيْته بِهِ وَالتُّجَّارُ جَمْعُ تَاجِرٍ وَفِيهِ لُغَتَانِ ضَمُّ التَّاءِ وَتَشْدِيدُ الْجِيمِ عَلَى وَزْنِ الْكُفَّارِ وَكَسْرُ التَّاءِ وَتَخْفِيفُ الْجِيمِ عَلَى وَزْنِ الْقِيَامِ وَالْحِيرَةُ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَسْكُنُهَا. قَالَ: فَدَعَانِي سَعْدٌ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَائِدُ جَيْشِ غُزَاةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَقَالَ: لَا تَلُمْنِي وَرُدَّ الطَّسْتَ، أَيْ لَا تَعْتِبْ عَلَيَّ بِاسْتِرْدَادِهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْإِضْرَارِ بِالْغُزَاةِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرْضَى بِهِ فَقُلْت لَهُ: لَوْ كَانَتْ مِنْ شَبَهٍ مَا قَبِلْتهَا مِنِّي؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يَسْمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنِّي بِعْتُك طَسْتًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأُعْطِيت بِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيُرَى بِالضَّمِّ: أَيْ يُظَنُّ أَنِّي قَدْ صَانَعْتُك فِيهَا الْمُصَانَعَةُ: الْمُدَارَاةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ هَاهُنَا أَيْ تَبَرَّعْت عَلَيْك بِمَا هُوَ لِلْغَانِمِينَ قَالَ: فَأَخَذَهَا مِنِّي فَأَتَيْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ رَعِيَّتِي تَخَافُنِي فِي آفَاقِ الْأَرْضِ قَالَ: وَمَا زَادَنِي عَلَى هَذَا.
طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م
54-طِلبة الطلبة (عجو)
(عجو):وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ قَالَ سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَرْبَةً مَا كُنْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ أَرَادَ أَنَّهُ سَكِرَ بِهِ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ فَمَا اهْتَدَى إلَى أَهْلِهِ فَأَخْبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ نَبِيذَ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ وَالْعَجْوَةُ ضَرْبٌ مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا.
طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م
55-تاج العروس (كفأ)
[كفأ]: كَافَأَهُ على الشيء مُكَافَأَةً وكِفَاءً كَقِتَالٍ أَي جَازَاهُ، تقول: مالي به قِبَلٌ ولا كِفَاءٌ؛ أَي مالي به طاقَةٌ على أَنِّي أُكافِئُه وكافأَ [فُلانًا] مُكافأَةً وكِفَاءً: مَاثَلَه، وتقول: لا كِفَاءَ له، بالكسر، وهو في الأَصل مصدرٌ؛ أَي لا نَظِيرَ له، وقال حَسَّانُ بن ثابت:وجبريل رسول الله فينا *** وَرُوح القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
أَي جبريلُ عليهالسلام ليس له نَظِيرٌ ولا مَثيلٌ. وفي الحديث: «فَنَظَر إِليهم فَقال: مَنْ يُكَافِئُ هؤلاءِ»، وفي حديث الأَحنف: لا أَقَاوِمُ من لا كِفَاءَ لَهُ. يعني الشيطانَ، ويروى: لا أُقاوِلُ وكافَأَه: رَاقَبَهُ ومن كلامهم: الحَمْدُ للهِ كِفَاءَ الوَاجِبِ؛ أَي قدر مَا يَكُونُ مُكَافِئًا لَهُ، والاسْمُ الكَفَاءَةُ والكَفَاءُ بفتحهما ومَدِّهما، وهذا كِفَاؤُهُ بالكسر والمدّ، قال الشاعر:
فَأَنْكَحَها لَا فِي كِفَاءٍ وَلَا غِنًى *** زِيَادٌ أَضَلَّ اللهُ سَعْيَ زِيَادِ
وَكِفْأَتُه بكسر فسكون وفي بعض النسخ بالفتح والمدّ وكَفِيئُهُ كأَميرٍ وكُفْؤُهُ كقُفْلٍ وكَفْؤُهُ بالفتح عن كراع وَكِفْؤُهُ بالكسر وكُفُوءُه بالضم والمدّ أَي مِثْلُه يكون ذلك في كلّ شيء، وفي اللسان: الكُفْءُ: النظير والمساوِي، ومنه الكَفَاءَة في النّكاح، وهو أَن يكون الزَّوْجُ مُساوِيًا للمرأَةِ في حَسَبِها ودِينِها ونَسَبِها وَبيْتِها وغَيْر ذلك. قال أَبو زيد: سمعتُ امرأَةً من عُقَيْلٍ وزَوْجَها يقرآنِ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفًا أَحَدٌ فأَلقى الهمزةَ وحوَّل حَركتَها على الفاءِ، وقال الزجاج في قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْؤًا أَحَدٌ أَربعة أَوْجُهٍ، القراءَةُ منها ثلاثةٌ: كُفُؤًا بضم الكاف والفاءِ، وكُفْأً بضم الكاف وسكون الفاءِ، وكِفْأً بكسر الكاف وسكون الفاءِ، وقد قرئ بها، وكِفَاءٌ بكسر الكاف والمدّ، ولم يُقْرَأْ بها، ومعناه: لم يكن أَحدٌ مِثلًا لله تعالى جَلَّ ذِكْرُهُ، ويقال: فُلانٌ كَفِيءُ فلانٍ وَكُفُؤُ فلانٍ، وقد قرأَ ابن كَثيرٍ وأَبو عمرو وابنُ عامرٍ والكسائيُّ وعاصمٌ كُفُؤًا مُثقَّلًا مهموزًا، وقرأَ حَمزة بسكون الفَاء مهموزًا، وإِذا وَقَف قرأَ كُفَا، بغير همزة، واختُلِف عن نافع فَرُوِي عنه كُفُؤًا، مثل أَبي عمرٍو، وروي كُفْأً مثل حمزة. الجمع: أَي من كلّ ذلك أَكْفَاءٌ. قال ابنُ سيِده: ولا أَعرف للكَفْءِ جمعًا على أَفْعُلٍ ولا فُعُولٍ وحَرِيٌّ أَن يَسَعه ذلك، أَعني أَن يكون أَكْفاء جَمْعَ كَفْءٍ المَفْتوح الأَوّل. وكِفَاءٌ جمع كَفِيءٍ، ككِرام وكَريم، والأَكفاء، كقُفْلٍ وأَقْفالٍ، وحِمْل وأَحمال، وعُنُقٍ وأَعْنَاق.
وكَفَأَ القومُ: انصرفوا عن الشيءِ وكَفَأَهُ كمَنَعه عنه كَفْأً: صَرَفَه وقيل كَفَأْتُهم كَفْأً إِذا أَرادوا وَجْهًا فَصَرفْتَهم عنه إِلى غيره فانكَفَئوا، [أَي]: رَجَعُوا. وكَفَأَ الشيءَ والإِناءَ يَكْفَؤُه كَفأً وكَفَّأَه فَتَكَفَّأَ، وهو مَكْفُوءٌ: كَبَّهُ. حكاه صاحب الواعي عن الكسائي، وعبدُ الواحد اللغوي عن ابن الأَعرابي، ومثله حُكِيَ عن الأَصمعي، وفي الفَصِيح: كَفَأْتُ الإِناءَ: كَبَبْتُه وعن ابنِ دُرُسْتَوَيْه: كَفَأه بمعنى: قَلَبَهُ حكاه يعقوب في إِصلاح المنطق، وأَبو حاتمٍ في تَقْوِيم المفسد، عن الأَصمعي، والزجّاج في فعلت وأَفعلت، وأَبو زيد في كتاب الهمز، وكل مِنهما صحيحٌ. قال شيخنا: وزعم ابنُ دُرستويه أَن معنى قَلَبه أَمَالَه عن الاستواءِ، كَبَّه أَو لَمْ يَكُبَّهُ، قال: ولذلك قيل: أَكْفأَ في الشِّعْر، لأَنه قَلَبَ القوافِيَ عن جِهَة استوائِها، فلو كان مِثْلَ كَبَبْتُه كما زعم ثعلبٌ لَمَا قِيل في القَوافي، لأَنها لا تُكَبُّ، ثم قال شيخنا: وهذا الذي قاله ابنُ دُرستويه لا مُعَوَّل عليه، بل الصحيح أَن كَبَّ وقَلَبَ وكَفَأَ مُتَّحِدَةٌ في المعنى، انتهى.
ويقال: كَفَأَ الإِناءَ كَأَكْفَأَهُ رباعيًّا، نقله الجوهريُّ عن ابنِ الأَعرابيّ، وابنُ السكيت أَيضًا عنه، وابنُ القُوطِيّة وابنُ القطاع في الأَفعال، وأَبو عُبيدٍ البكريُّ في فَصْل المَقال، وأَبو عُبَيْدٍ في المُصَنَّف، وقال: كَفَأَتُه، بغير أَلفٍ أَفصحُ، قاله شيخنا، وفي المحكم أَنها لُغةٌ نادرةٌ، قال: وأَباها الأَصمعيُّ. واكْتَفَأَهُ أَي الإِناءَ مثل كَفَأَه. وكَفَأَه أَيضًا بمعنى تَبِعَهُ في أَثَرِه، وكَفَأَ الإِبلَ واكتَفأَها: أَغارَ عليها فذَهب بها، وفي حديث السُّلَيْك بن السُّلَكَةِ: أَصابَ أَهْلِيهم وأَموالَهم فاكْتَفَأَهَا.
وكَفَأَت الغَنَمُ في الشِّعْبِ أَي دَخَلَتْ فيه. وأَكفَأَها: أَدخَلَهَا، والظاهر أَن ذِكْرَ الغَنمِ مِثالٌ، فيقال ذلك لجميعِ الماشيةِ.
وكَفأَ فُلَانًا: طَرَدَه، والذي في اللسان: وكَفأَ الإِبلَ والخَيْلَ: طَرَدَها. وكَفَأَ القَوْمُ عن الشيء انْصَرَفُوا عنه ورجعوا، ويقال: كان الناسُ مُجتمعِينَ فانكَفَأُوا وانْكَفَتُوا إِذا انْهَزَمُوا.
وأَكْفَأَ في سَيْره عَن القَصْدِ: جَارَ. وأَكْفَأَ وكَفَأَ: مَالَ كانْكَفَأَ وكَفَأَ وأَكْفَأَ: أَمَالَ [وقَلَبَ] قال ابنُ الأَثير: وكُلُّ شيْءٍ أَملْتَه فقد كَفَأْتَه، وعن الكسائيّ: أَكْفَأَ الشيْءَ. أَمالَه، لُغَيَّةٌ، وأَبَاها الأَصمعيُّ، ويقال: أَكْفأْتُ القَوْسَ إِذَا أَملْتَ رأْسَها ولم تَنْصِبْهَا نَصْبًا حين ترمي عنها، وقال بعض: حين ترمي عليها، قال ذو الرمة:
قَطَعْتُ بِهَا أَرْضًا تَرَى وَجْهَ رَكْبِهَا *** إِذَا مَا عَلَوْهَا مُكْفَأً غَيْرَ سَاجعٍ
أَي مُمَالًا غَيْرَ مُستقيمٍ، والساجعُ القاصدُ: المُستَوِي المُستقِيم. والمُكْفَأُ: الجائر، يَعني جائرًا غيرَ قاصِد، ومنه السَّجْعُ في القَولِ. وفي حديث الهرَّة أَنه [كان] يُكفِئُ لها الإِناءَ؛ أَي يُمِيلُه لِتَشربَ منه بسُهولةِ. وفي حديث الفَرَعَةِ: خَيْرٌ مِنْ أَن تَذْبَحَه يَلْصَقُ لَحْمُه بِوَبَرِه وتُكْفِئُ إِناءَكَ وتُولِهُ نَاقَتَكَ. أَي تَكُبُّ إِناءَك [لأنه] لا يَبْقَى لَك لَبَنٌ تَحْلُبُه فِيه، وتُولِهُ ناقَتَكَ؛ أَي تَجْعَلُها وَالِهَةً بِذَبْحِك ولَدَها.
ومُكْفِئُ الظُّعْنِ: آخِرُ أَيَّامِ العَجُوز.
وأَكْفَأَ في الشِّعْرِ إِكفاءً: خَالَف بَيْنَ ضُروب إِعْرَابِ القَوَافِي التي هي أَواخرُ القَصيدة، وهو المخالفةُ بين حَركاتِ الرَّوِيِّ رَفْعًا ونصْبًا وجَرًّا أَو خَالَفَ بَيْنَ هِجَائِها أَي القوافي، فلا يَلْزَم حَرْفًا واحدًا، تَقَاربَتْ مخارِجُ الحُروف أَو تَباعدَتْ، على ما جَرَى عليه الجوهريُّ، ومثله بأَن يَجعل بعضَها مِيمًا وبعضَها طاءً، لكن قد عاب ذلك عليه ابنُ بَرّيّ.
مثالُ الأَوّلِ:
بُنَيَّ إِنَّ البِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ *** المَنْطِقُ اللَّيِّنُ والطُّعَيِّمُ
ومثال الثّاني:
خَلِيلَيَّ سِيرَا واتْرُكا الرَّحْلَ إِنَّنِي *** بِمَهْلَكَةٍ والعَاقِبَاتُ تَدُورُ
مع قوله:
فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قَالَ قَائِلٌ *** لِمَنْ جَمَلٌ رِخْوُ المِلَاطِ نَجِيبُ
وقال بعضهم: الإِكفاءُ في الشعر هو التعاقبُ بين الراءِ واللام والنون.
قلت: وهو أَي الإِكفاء أَحَدُ عيُوبِ القافية السّتَّة التي هي: الإِيطاءُ، والتَّضمينُ، والإِقواءُ، والإِصرافُ، والإِكفاءُ، والسِّنادُ، وفي بعض شُروح الكافي: الإِكفاءُ هو اختلافُ الرَّوِيِّ بحُروفٍ مُتَقَارِبَةِ المخارج؛ أَي كالطَّاءِ مع الدَّالِ، كقوله:
إِذَا رَكِبْتُ فاجْعلاني وَسَطَا *** إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ العُنَّدَا
يريد العُنَّتَ، وهو من أَقبح العيوب، ولا يجوز لأَحد من المُحدَثين ارتكابه، وفي الأَساس: ومن المجاز: أَكْفَأَ في الشِّعْرِ: قَلَب حَرْفَ الرَّوِيِّ من راءٍ إِلى لامٍ، أَو لامٍ إِلى ميمٍ، [ونحوِه من الحروفِ المُتقارِبةِ المَخْرَجِ، أَو مخالفةِ إِعرابِ القوافي]، انتهى. أَوْ أَكفأَ في الشعر إِذا أَقْوَى فيكونان مُتَرادِفَيْنِ، نقله الأَخفشُ عن الخَليل وابن عبدِ الحَقّ الإِشْبِيلي في الواعي وابن طريف في الأَفعال، قيل: هما واحد، زاد في الواعي: وهو قَلْبُه القافية من الجَرِّ إِلى الرفع وما أَشبه ذاك، مأْخوذٌ من كَفَأْتُ الإِناء: قَلَبْتُه، قال الشاعر [النابغة الذبياني]:
أَفِدَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا *** لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
زَعَمَ الغُدَافُ بِأَنَّ رِحْلَتَنَا غَدًا *** وَبِذَاكَ أَخْبَرَنا الغُدَافُ الأَسْوَدُ
وقال أَبو عُبيدٍ البكريُّ في فَصْلِ المَقال: الإِكفاءُ في الشعر إِذا قُلْتَ بَيْتًا مرفوعًا وآخرَ مخفوضًا، كقول الشاعر:
وهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ *** سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَها بَغْلُ
فَإِن نُتِجَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحَرَى *** وَإِنْ يَكُ إِقْرَافٌ فَمِنْ قِبَلِ الفَحْلِ
أَوْ أَفْسَدَ في آخِرِ البَيْتِ أَيَّ إِفْسَادٍ كانَ قال الأَخفش: وسأَلت العربَ الفُصحاءَ عنه، فإِذا هم يَجعلونه الفسادَ في آخرِ البيت والاختلافَ، من غير أَن يَحُدُّوا في ذلك شيئًا، إِلا أَني رأَيتُ بعضَهم يَجعله اختلافَ الحروفِ، فأَنشدته:
كَأَنَّ فَا قَارُورَةٍ لم تُعْفَصِ *** مِنْها حِجَاجَا مُقْلَةٍ لَمْ تُلْخَصِ
كَأَنَّ صِيرَانَ المَهَا المُنَقِّزِ
فقال: هذا هو الإِكفاءُ، قال: وأَنشده آخرُ قَوافِيَ على حُروفٍ مُختلفةٍ، فعَابِه، ولا أَعلمه إِلَّا قال له: قد أَكْفَأْتَ. وحكى الجوهريُّ عن الفرَّاءِ: أَكفَأَ الشاعرُ، إِذا خالف بين حَركات الرَّويِّ، وهو مِثْلُ الإِقواءِ، قال ابنُ جِنّي: إِذا كان الإِكفاءُ في الشّعْرِ محمولًا على الإِكفاء في غيرِه، وكان وَضْعُ الإِكفاء إِنما هو للخلافِ ووقوعِ الشيْءِ على غيرِ وَجْهِهِ لمْ يُنْكَرْ أَنْ يُسَمُّوا به الإِقواءَ في اختلافِ حرف الرَّوِيّ جميعًا، لأَن كلَّ واحدٍ منهما واقعٌ على غيرِ استواءٍ، قال الأَخفش: إِلا أَني رأَيتهم إِذا قَرُبتْ مَخَارجُ الحُروف، أَو كانت من مَخرَجٍ واحدٍ ثم اشتَدَّ تَشابُهُهَا لم يَفْطُنْ لها عَامَّتُهم، يعني عامَّةَ العربِ، وقد عاب الشيخُ أَبو محمد بن بَرِّيٍّ على الجوهريِّ قولَه: الإِكفاءُ في الشعر: أَن يُخالَفَ بين قَوَافِيه فتَجْعَل بعضَها ميمًا وبعضَها طاءً، فقال: صوابُ هذا أَن يقول: وبعضَها نُونًا، لأَن الإِكفاءَ إِنما يكون في الحروف المتقارِبة في المَخْرَجِ، وأَمَّا الطاءُ فليستْ من مَخْرَج المِيمِ. والمُكْفَأُ في كلامِ العربِ هو المقلوبُ، وإِلى هذا يَذهبون، قال الشاعر:
وَلَمَّا أَصَابَتْنِي مِنَ الدَّهْرِ نَزْلَةٌ *** شُغِلْتُ وَأَلْهَى النَّاسَ عَنِّي شُؤُنُهَا
إِذَا الفَارِغُ المَكْفِيُّ مِنْهُمْ دَعَوْتُهُ *** أَبَرَّ وَكَانَتْ دَعْوَةً تَسْتَدِيمُهَا
فجَعَل الميمَ مع النونِ لِشَبهها بها، لأَنهما يَخرُجانِ من الخَياشيمِ، قال: وأَخبرني من أَثِقُ به من أَهلِ العلمِ أَن ابْنَةَ أَبِي مُسافِعٍ قالتْ تَرثي أَباها [وقُتِلَ] وهو يَحْمِي جِيفَةَ أَبي جَهْلِ بنِ هِشامِ:
وَمَا لَيْتُ غَرِيفٍ ذُو *** أَظَافِيرَ وَإِقْدَامْ
كَحِبِّي إِذْ تَلَاقَوْا وَ *** وُجُوهُ القَوْمِ أَقْرَانْ
وَأَنْتَ الطَّاعِنُ النَّجْلَاء *** مِنْهَا مُزْبِدٌ آنْ
وَبِالْكَفِّ حُسَامٌ صَا *** رِمٌ أَبْيَضُ خَذَّامْ
وَقَدْ تَرْحَلُ بِالرَّكْبِ *** فَمَا تُخْنِي بِصُحْبَانْ
قال: جَمَعوا بين الميمِ والنونِ لقُرْبهما، وهو كثيرٌ، قال: و [قد] سمعت من العرب مِثل هذا ما لا أُحْصِي، قال الأَخفش: وبالجُمْلة فإِنّ الإِكفاءَ المخالفةُ، وقال في قوله:
مُكْفَأً غَيْرَ سَاجِعِ
المُكْفَأُ هاهنا: الذي ليس بِمُوافِقٍ. وفي حديثِ النَّابِغة: أَنه كان يُكْفِئُ في شِعْرِه، وهو أَن يخالِف بين حركاتِ الرَّوِيّ رفعًا ونصبًا وجرًّا، قال: وهو كالإِقْواءِ، وقيل: هو أَن يُخَالف بين قَوافِيه فلا يَلْزَم حرفًا واحدًا كذا في اللسان.
وأَكفأَت الإِبِلُ: كَثُرَ نِتَاجُهَا وكذلك الغنم، كما يُفيده سِياقُ المُحكم وأَكفأَ إِبِلَهُ وغَنَمَه فُلانًا: جَعَلَ له مَنَافِعَهَا أَوْبَارَها. وأَصوَافَهَا وأَشعارَها وأَلبانَها وأَولَادَها.
والكَفْأَةُ بالفتح ويُضَمُّ أَوَّلُه: حَمْلُ النَّخْلِ سَنَتَهَا، وهو في الأَرْضِ: زِرَاعَةُ سَنَتِهَا قال الشاعر:
غُلْبٌ مَجَالِيحُ عِنْدَ المَحْلِ كُفْأَتُهَا *** أَشطانُها فِي عَدَابِ البَحْرِ تَسْتَبقُ
أَراد به النَّخيلَ، وأَراد بأَشطانِها عُروقَها، والبَحْرُ هنا الماءُ الكثيرُ، لأَن النخْلَ لا يَشْرب في البَحْرِ، وقال أَبو زيد: استكْفَأْتُ فلانًا نَخْلَه إِذا سأَلْتَه ثَمَرها سَنَةً، فجعل للنخْلِ كَفْأَةً، وهو ثَمَرةُ سَنَتِها، شُبِّهَتْ بِكَفْأَةِ الإِبل، قلت: فيكون من المجاز.
والكَفْأَة في الإِبِلِ والغَنم نِتَاجُ عَامِهَا واستكْفأْتُ فُلانًا إِبلَه؛ أَي سأَلْتُه نِتَاجَ إِبلِه سَنَةً فأَكْفَأَنِيهَا؛ أَي أَعطاني لَبَنَها وَوَبَرَها وأَولادَها منه، تقول: أَعطِني كُفْأَةَ ناقَتك، تضمُّ وتفتَحُ، وقال غيره: ونَتَجَ الإِبلَ كَفْأَتَيْنِ، وأَكفَأَها إِذا جَعلها كُفْأَتينِ، وهو أَن يَجعلها نِصْفَيْنِ تَنْتِجُ كُلَّ عامٍ نِصْفًا وَتَدَعُ نِصْفًا، كما يصنعُ بالأَرض بالزِّراعة، فإِذا كان العام المُقْبِل أَرسلَ الفحلَ في النِّصف الذي لم يُرسِله فيه من العامِ الفارِطِ لأَن أَجْوَد الأَوقات عند العَرب في نِتاجِ الإِبل أَن تُتْرَك الناقة بعد نِتاجِها سَنةً لا يُحْمَلُ عليها الفَحْلُ، ثم تُضرَب إِذا أَرادَتِ الفَحْلَ، وفي الصحاح: لأَن أَفضلَ النِّتاجِ أَن يُحْمَلَ على الإِبلِ الفُحُولَةُ عامًا وَتُتْرَكَ عامًا، كما يُصْنَع بالأَرضِ في الزِّراعة، وأَنشد قولَ ذي الرُّمَّة:
تَرَى كُفْأَتَيْهَا تُنفِضانِ وَلَمْ يَجِدْ *** لَهَاثِيلَ سَقْبٍ فِي النِّتَاجَيْنِ لَامِسُ
وفي الصحاح: «كِلَا كَفْأَتَيْهَا» يعني أَنها نُتِجت كُلُّها إِنَاثًا، وهو محمودٌ عندهم، قال كعبُ بن زُهَيْر:
إِذَا ما نَتَجْنَا أَرْبَعًا عَامَ كُفْأَةٍ *** بَغَاها خَنَاسِيرًا فَأَهْلَكَ أَرْبَعَا
الخَنَاسِيرُ: الهَلاكُ، أَو كُفْأَة الإِبِل: نِتَاجُهَا بَعْدَ حِيَال سَنَةٍ أَو بعد حِيالِ أَكْثَرَ مِن سَنةٍ، يقال من ذلك: نَتَجَ فُلانٌ إِبلَه كَفْأَةً وكُفْأَةً، وأَكْفأَت في الشاءِ: مِثْلُه في الإِبل وقال بعضهم مَنَحَهُ كَفْأَةَ غَنَمِهِ، ويُضَمُّ أَي وَهَبَ له ألْبَانَهَا وَأَوْلَادَهَا وأَصْوَافَها سَنَةً وَرَدَّ عَلَيْهِ الأُمَّهَاتِ ووهَبْتُ له كُفْأَة ناقتي، تُضمّ وتُفتح، إِذا وهَبْتُ له وَلَدَها ولَبنَها وَوَبَرها سَنَةً، واستكْفَأَه فأَكْفَأَه: سأَلَه أَن يَجْعل له ذلك. وعن أَبي زيدٍ: استكفأَ زَيْدٌ عَمْرًا نَاقَتَه، إِذا سأَله أَن يَهبها له وَولَدَها ووَبَرَها سَنةً، ورُوي عن الحارث بن أَبي الحارث الأَزدِيِّ مُن أَهْلِ نَصِيبَيْن أَن أَباه اشترى مَعْدِنًا بمائة شاةِ مُتْبِع، فأَتى أُمَّه فاستأْمَرَهَا، فقالت: إِنك اشتريتَه بثلاثِمائة شاةٍ: أُمُّها مائةٌ، وأَولادُها مائةُ شاةٍ، وكُفْأَتُها مائةُ شاةٍ. فندِمَ فاستقالَ صاحِبَه فَأَبَى أَن يُقِيله، فقَبض المَعْدِن فأذابَه وأَخرج منه ثَمنَ أَلْفِ شاةٍ، فأَتَى به صاحِبُه إِلى عليٍّ رضي الله عنه ـ أَي وشَى به وسَعَى ـ وقال: إِن أَبا الحارث أصابَ رِكَازًا. فسأَله عليٌّ رضي الله عنه، فأَخبره أَنه اشتراه بمائةِ شاةٍ مُتْبِع، فقال عليٌّ: ما أَرى الخُمُسَ إِلَّا على البائع، فأَخذَ الخُمُسَ من الغنم، والمعنى: أَن أُمَّ الرجلِ جعَلَتْ كُفْأَة مائةِ شاةٍ في كلّ نِتاجٍ مائةً، ولو كانتْ إِبلًا كان كفأَةُ مائةٍ من الإِبل خَمْسينَ، لأَن الغَنَمَ يُرْسَل الفَحْلُ فيها وقْتَ ضِرابِها أَجْمَعَ، وتَحْمِلُ أَجمعَ، وليستْ مِثلَ الإِبلِ يُحْمَل عليها سنَةً، وسَنَةً لا يُحْمَل عليها، وأَرادت أُم الرجلِ تَكثيرَ ما اشتَرَى به ابنُها، وإِعلامَه أَنَّه غُبِن فيما ابتاعَ، فَفطَّنَتْه أَنه كان اشتَرَى المَعدِنَ بثلاثِمائةِ شاةٍ، فَنَدم الابنُ واستقالَ بائعَه، فأَبَى وبارك اللهُ له في المعدِنِ، فحسَده البائعُ وسَعَى به إِلى عليٍّ رضي الله عنه، فأَلزَمَه الخُمُسَ، وأَضرَّ البائعُ بنفسِه في سِعَايته بصاحبه إِليه، كذا في لسان العرب.
والكِفَاءُ بالكسر والمدّ كَكِتَابٍ: سُتْرَةٌ مِنْ أَعْلَى البَيْتِ إِلى مِنْ مُؤَخَّرِه، أَو هو الشُّقَّةُ التي تكون في مُؤَخَّرِ الخِبَاءِ، أَو هو كسَاءٌ يُلْقَى على الخِبَاءِ كالإِزار حَتَّى يَبْلُغَ الأَرْضَ، ومنه: قَدْ أَكْفَأْتُ البَيْتَ إِكْفَاءُ، وهو مُكْفَأٌ، إِذَا عَمِلْتَ له كِفَاءً، وكِفَاءُ البيتِ مُؤَخَّرْه، وفي حديث أُمِّ مَعْبَدٍ: رأَى شَاةً، في كِفَاءِ البَيْتِ، هو من ذلك، والجمعُ أَكْفِئَةٌ، كحِمارٍ وأَحْمِرَةٍ.
ورجلٌ مُكْفَأُ الوجْهِ: مُتَغَيِّرُه سَاهِمُه ورأَيتُ فلانًا مُكْفَأَ الوَجْهِ، إِذا رَأَيْتَه كاسِفَ اللوْنِ سَاهِمًا، ويقال: رأَيته مُتَكَفِّئَ اللوْنِ ومُنْكَفِتَ اللوْنِ؛ أَي مُتَغَيِّرَهُ. ويقال: أَصبح فلانٌ كَفِيءَ اللوْنِ مُتَغَيِّرَهُ، كأَنه كُفِئَ فهو كَفِيءُ اللَّوْنِ كأَمِيرٍ ومُكْفَؤُهُ كَمُكْرَم؛ أَي كَاسِفُهُ ساهِمُه أَي مُتَغَيِّرُهُ لِأَمْرٍ نَابَه، قال دُرَيدُ بنُ الصِّمَّةِ.
وَأَسْمَرَ مِنْ قِدَاحِ النَّبْعِ فَرْعٍ *** كَفِيءِ اللَّوْنِ مِنْ مَسٍّ وَضَرْسِ
أَي متغيّر اللَّوْنِ من كثرة ما مُسِحَ وعُصِرَ.
وكَافَأَهُ: دَافَعهُ وقَاوَمَه، قال أَبو ذَرٍّ في حديثه: لنا عَبَاءَتَانِ نُكافِئُ بهما عَنَّا عَيْنَ الشمسِ وإِني لأَخْشَى فَضْلَ الحِسَابِ. أَي نُقابِل بهما الشمْسَ ونُدافِع، من المُكافَأَة: المُقَاوَمةِ.
وكَافَأَ الرجلُ بَين فَارِسَيْنِ بِرُمْحِهِ إِذا وَالَى بينهما طَعَنَ هذا ثُمَّ هذا. وفي حديث العَقيقة عن الغلام شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ بفتح الفاءِ، قال ابنُ الأَعرابيّ مُشْتَبِهَتانِ، وقيل: مُتقارِبَتَان، وقيل: مُسْتَوِيتانِ وتُكْسَر الفَاءُ عن الخَطَّابِي، واختار المحدِّثون الفَتْحَ، ومعنى مُتَساوِيَتَان كُل [واحدة] منهما مُسَاوِيَةٌ لِصَاحِبَتِها فِي السِّنِّ فمعنى الحديث: لا يُعَقُّ إِلّا بِمُسِنَّةٍ، وأَقلَّه أَن يكون جَذَعًا كما يُجْزِئ في الضَّحايا، قال الخَطَّابي: وأَرى الفَتْحَ أَولَى، لأَنه يريد شَاتَيْنِ قد سُوِّى بينهما؛ أَي مُسَاوًى بينهما، قال: وأَما الكَسْر فمعناه أَنهما مُتساوِيتان، فيُحْتَاج أَن يَذْكُر أَيَّ شَيْءٍ سَاوَيَا، وإِنما لو قال مُتَكافِئتان كان الكَسْرُ أَوْلَى، وقال الزّمخشري: لا فَرْقَ بين المُكافِئَتين والمُكَافَأَتَيْنِ، لأَن كلّ واحدٍة إِذا كافَأَت أُختَها فقد كُوفِئَت، فهي مُكافِئَة ومُكَافَأَة، أَو يكون معناه مُعَادِلَتَان لما يَجِب في الزكاةِ والأُضْحَيَّة من الأَسنانِ، قال: ويحتمل مع الفتح أَن يُرادَ مَذبوحتانِ، من كَافَأَ الرجلُ بين البَعِيرينِ إِذا نَحرَ هذا ثم هذا معًا من غير تفريقٍ، كأَنه يُريد يَذْبَحُهما في وقتٍ واحدٍ، وقيل: تُذْبَحُ إِحداهما مُقابلةَ الأُخرَى، وكلُّ شيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حتى يكونَ مِثلَه فهو مُكافِئٌ له، والمُكافَأَةُ بين الناسِ من هذا، ويقال: كافَأْتُ الرجلَ أَي فعَلْتُ به مثل ما فَعَل بِي ومنه الكُفْءُ من الرجال للمرأَةِ، تقول: إِنه مثلُها في حَسبها.
وقرأَتُ في قُرَاضة الذَّهب لأَبي الحسنِ عليّ بنِ رَشيق القَيْرَوَانِيّ قولَ الكُمَيْت يَصِف الثور والكِلاب:
وَعاثَ فِي عَانَةٍ مِنْهَا بِعَثْعثَةٍ *** نَحْرَ المُكَافِئِ والمَكْثُورُ يَهْتَبِلُ
قال: المُكافِئُ: الذي يَذبحُ شاتَيْنِ إِحداهما مُقَابِلَة الأُخرى للعَقِيقة.
وَانْكَفَأَ: مَالَ، كَكَفَأَ، وأَكْفَأَ وفي حديث الضَّحِيَّة: ثُمَّ انْكَفَأَ إِلى كَبْشَيْنِ أَمْلَحيْنِ فذَبحَهما. أَي مَالَ رَجَعَ، وفي حديث آخَرَ: فوضَع السَّيْفَ في بَطْنِه ثم انْكَفَأَ عليه.
وانْكَفَأَ لَوْنُه كَأَكْفَأَ وكَفَأَ وتَكَفَّأَ وانْكَفَت؛ أَي تَغَيَّرَ وفي حَدِيث عُمَر أَنه انْكَفَأَ لَوْنُه عَامَ الرَّمَادَةِ؛ أَي تَغيَّر عَن حالِه حين قال: لا آكُلُ سَمْنًا ولا سَمِينًا. وفي حَدِيث الأَنصاريّ: مَا لِي أَرَى لَوْنَك مُنكفِئًا؟ قال: من الجُوع. وهو مجاز.
والكَفِيءُ كأَمِير والكِفْءُ، بالكسر: بَطْنُ الوَادِي نقله الصاغاني وابنُ سيِده.
والتَّكَافُؤُ: الاستِواءُ وتكافَأَ الشَّيْئَانِ: تَماثَلا، كَكَافَأَ، وفي الحديث «المُسلمونَ تَتَكَافَأُ دِماؤُهم» قال أَبو عُبيدٍ: يريد تَتَساوى في الدِّيَاتِ والقِصاص، فليس لِشَرِيفٍ على وَضِيع فَضْلٌ في ذلك.
* ومما بقي على المصنف:
قول الجوهري: تَكَفَّأَتِ المرأَةُ في مِشْيَتِها: تَرَهْيَأَتْ ومَادَتْ كما تَتَكفَّأُ النخْلَةُ العَيْدَانَةُ، نقلَه شيخُنا. قلت: وقال بِشْر بنُ أَبي خَازِم:
وَكَأَنَّ ظُعْنَهُمُ غَدَاةَ تَحَمَّلُوا *** سُفُنٌ تَكَفَّأُ فِي خَلِيجٍ مُغْرَبِ
هكذا استشهَد به الجوهريُّ، واستَشْهد به ابنُ منظور عند قوله: وكَفَأَ [الشيءَ] والإِناءَ يَكْفَؤُه كَفْأً [وَكَفَّأَه] فَتَكَفَّأَ، وهو مَكْفُوءٌ [واكْتَفَأَهُ مثلُ كَفَأَهُ] قَلَبَهُ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الكَفَاءُ، كسحابٍ: أَيْسَرُ المَيل في السَّنام ونَحْوِه، جَمَلٌ أَكْفأُ وناقة كَفْآءُ، عن ابنِ شُمَيْلٍ: سَنامٌ أَكْفَأُ: هو الذي مالَ على أَحدِ جَنْبِي البعيرِ، وناقة كَفْآءُ، وجَملٌ أَكْفَأُ، وهذا من أَهْوَنِ عُيوبِ البعير، لأَنه إِذا سَمِنَ استقامَ سَنامُه.
ومن ذلك في الحديث أَنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إِذا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا. التَّكَفُّؤُ: التمايُلُ إِلى قُدَّامٍ كما تَتَكَفَّأُ السفينةُ في جَرْيها. قال ابن الأثير: رُوي مهموزًا وغيرَ مهموزٍ، قال: والأَصل الهمْزُ، لأَن مصدر تَفَعَّلَ من الصحيح كتقدَّم تقدُّمًا وتَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا، والهمزة حرفٌ صَحيحٌ، فأَما إِذا اعتلَّ انكَسرت عَيْن المُستقبَل منه نحو تَخَفَّى تَخَفِّيًا وتَسمَّى تَسمِّيًا، فإِذا اخُفِّفَتِ الهمزةُ التحَقَتْ بالمعتلِّ، وصارَ تَكَفِّيًا، بالكسر، وهذا كما جاءَ أَيضًا: أَنه كان إِذا مَشَى كأَنَّه يَنحَطُّ في صَبَبٍ، وفي رواية: إِذا مَشَى تَقَلَّع. وبعضه يُوافقُ بَعْضًا ويُفَسّره، وقال ثعلبٌ في تفسير قوله: كأَنّما ينحط في صَبَبٍ: أَراد أَنَّه قَوِيُّ البَدنِ، فإِذا مَشى فكأَنما يَمْشِي على صُدُورِ قَدَميْهِ من القُوَّةِ، وأَنشد:
الوَاطِئينَ عَلَى صُدُورِ نِعالِهِمْ *** يَمْشُونَ فِي الدَّفَنِيِّ والأَبْرَادِ
والتَّكَفِّي في الأَصل مهموزٌ، فتُرِكَ هَمْزُه، ولذلك جُعِل المصدر تَكَفِّيًا.
وفي حديث القِيامة «وتَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً واحدَة يَكْفَؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِه كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَه في السَّفَرِ» وفي رواية «يَتَكَفَّؤُهَا» يريد الخُبْزَةَ التي يَصْنَعها المُسافِرُ، ويضعُها في المَلَّةِ، فإِنها لا تُبْسَط كالرُّقَاقَةِ وَإِنَّها تُقلبُ على الأَيْدي حتى تَستَوي.
وفي حديث الصِّراط «آخِرُ مَنْ يَمُرُّ رَجُلٌ يَتَكَفَّأُ به الصِّراطُ» أَي يَتَمَيَّلُ وَيَنْقَلِب.
وفي حديث [دعاء] الطعام: غير مُكْفَإٍ ولا مُوَدَّع، وفي رواية غير مَكْفِيّ؛ أَي غير مَرْدُود ولا مقلوب، والضميرُ راجعٌ للطعام، وقيل من الكِفَايَة، فيكون من المُعتل، والضميرُ لله سبحانه وتعالى، ويجوز رجوع الضمير للحمد.
وفي حديثٍ آخر: كانَ لا يقبَل الثَّناءَ إلَّا من مُكَافِئٍ أَي من رجل يَعْرِف حقيقةَ إِسلامه ولا يَدْخل عنده في جُملةِ المُنافقين الّذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، قاله ابنُ الأَنباري، وقيل: أَي منْ مُقارِب غير مُجَاوِزٍ حَدَّ مثلِه، ولا مُقَصِّرٍ عما رفَعه الله تعالى إِليه، قاله الأَزهري، وهناك قول ثالث للقُتَيْبِيِّ لم يرتضه ابنُ الأَنباري، فلم أَذكُرْه، انظره في لسان العرب.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
56-تاج العروس (فوت)
[فوت]: فَاتَهُ الأَمْرُ فَوْتًا وفَوَاتًا: ذَهَبَ عَنْهُ وفي المِصْباح: فَاتَ الأَمْرُ، والأَصلُ: فات وقْتُ فِعْلِه، ومِنْهُ فاتَتِ الصَّلاةُ، إِذَا خَرَج وَقْتُهَا ولم تُفْعَل فيه.وفَاتَهُ الشيءُ: أَعْوَزَهُ. قال شيخُنا: وهذا وإِن عَدَّهُ بعضُهُمْ تَحقيقًا فهو لا يَصْلُحُ في كلِّ تَرْكِيبٍ، إِنَّمَا يأْتي في مثلِ الصَّلاةِ، وأَما الفَواتُ في غيرِه فاسْتُعْمِلَ بمعنى السَّبْقِ، والذَّهَابِ عَنْهُ، ونَحْوِه. انتهى.
وليس عنده فَوْتٌ ولا فَواتٌ، عن اللِّحْيَانيّ.
وفي اللسان والأَساس: الفَوْتُ: الفَوَاتُ، فاتَني كذا؛ أَي سَبَقَنِي. وجَارَيْتُه حتّى فُتُّه؛ أَي سَبَقْتُه. وقال أَعرابيٌّ: الحَمْدُ للهِ الذي لا يُفاتُ، ولا يُلاتُ، كافْتَاتَهُ، وهذا الأَمر لا يُفْتَاتُ؛ أَي لا يَفُوتُ، روى الأَصمعيُّ بيتَ ابنِ مُقبل:
يا حارِ أَمْسَيْتُ شَيْخًا قد وَهَى بَصَرِي *** وافْتِيتَ ما دُونَ يَوْمِ البَعْثِ من عُمُرِي
قال: هو من الفَوْتِ.
قال الجوهريّ: الافْتِيَاتُ: افْتِعَالٌ من الفَوْتِ، وهو السَّبْقُ إِلى الشَّيْءِ دونَ ائْتِمَارِ منْ يُؤْتَمرُ، وقال ابنُ الأَثِيرِ: الافْتِيَاتُ: الفَرَاغُ. وسَيَأْتِي بيانُ ذلك قريبًا.
ويقال: فَاتَهُ الشيْءُ، وأَفَاتَهُ إِيَّاهُ غَيْرُه، وفي حديث أَبي هريرة: قال: «مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ جِدَارٍ مائِل، فأَسْرَعَ المَشْيَ، فقِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَسْرَعْتَ المَشْيَ، فقال: إِنِّي أَكْرَهُ موْتُ الفَواتِ
يعني: مَوْتَ الْفَجْأَة، هو من قَوْلِك: فاتَنِي فلانٌ بكذا: سَبَقنِي به.
وعن ابن الأَعْرَابِيّ: يُقَالُ للموتِ الفَجْأَةِ: الموتُ الأَبْيَضُ، والجارِفُ، واللَّافِتُ، والفَاتِلُ، وهو المَوْتُ، الفَوَاتُ، والفُوَاتُ، وهو أَخْذَةُ الأَسَفِ وقد تَقَدَّم هذا بعينه قريبًا.
ويقال: هُو فَوْت فَمِهِ، وفَوْتَ رُمْحِه، وَفوتَ يَدِهِ؛ أَي حيثُ يراهُ ولا يَصِلُ إِلَيْهِ. وتَقُولُ: هُوَ مِنّي فَوْتَ الرُّمْحِ؛ أَي حيثُ لا يَبْلُغُه، وقال أَعرابيٌّ لصاحبه: ادْنُ دُونَك، فلمّا أَبْطَأَ قالَ: جعل اللهُ رزْقَكَ فَوْتَ فَمِكَ؛ أَي تَنْظُرُ إِليه قَدْرَ ما يَفُوتُ فَمَك، ولا تَقْدِرُ عليه.
وفي اللسان: وهو مني فَوْتَ اليَدِ؛ أَي قدر مَا يَفُوتُ يَدِي، حكاها سيبويه في الظُّرُوفِ المخصوصة. وفي الأَساس: وأَفلتنا فلانٌ فوت اليد وفُويت الظُّفر.
والفَوْتُ: الخَلَلُ، والفُرْجَةُ بينَ الإِصْبعَيْنِ، وعبارة غيره: بَيْن الأَصابعِ، والجَمْع أَفْوَاتٌ.
وفُلانٌ لا يُفْتَاتُ عَلَيْهِ أَي لا يُعْمَل شَيْءٌ دونَ أَمْرِه
وزَوَّجتْ عائشةُ ابنَةَ أَخِيها عبدِ الرحمن بنِ أَبي بَكْرٍ ـ وهو غائب ـ من المُنْذِرِ بن الزُّبَيْرِ، فلمّا رجَعَ من غَيْبَتِهِ قال: «أَ مِثْلِي يُفْتاتُ عَلَيْهِ في أَمْرِ بَنَاتِه؟» أَي يُفْعَلُ في شَأْنِهِنَّ شَيْءٌ بغيرِ أَمْرِهِ؟ نَقِمَ عليها نِكاحَها ابْنَتَه دُونَه، ويقال لكلِّ من أَحدثَ شَيْئًا في أَمْرِك دونَك: قد افْتَاتَ عَلَيْكَ فيه.
والافْتِياتُ: الفَرَاغُ، يقال: افْتَاتَ بأَمْرِهِ؛ أَي مَضَى عَلَيْهِ ولم يَسْتَشِرْ أَحَدًا. لم يهمِزه الأَصْمَعِيّ. ورُوي عن ابن شُمَيْل، وابن السِّكِّيتِ: افْتَأَتَ فُلانٌ بِأَمْرِهِ ـ بالهمز ـ إِذا اسْتَبَدَّ به، قال الأَزهريّ: قد صَحَّ الهمزُ عنهما في هذا الحرف، وما عَلِمْتُ الهَمْزَ فيه أَصْلِيًّا.
قلت: وقد تَقَدَّم ذلك بعينه في أَوَّل الفصل، فراجعْه.
وافْتَاتَ الكَلَامَ: ابْتَدَعَهُ وارْتَجلَه، كافْتَلَتَه. نقله الصاغانيّ.
وافْتَاتَ عَلَيْه في الأَمرِ: حَكَمَ، وكلُّ من أَحْدَثَ دونَكَ شَيْئًا فقد فَاتَكَ به، وافْتَاتَ عَلَيْكَ فِيه.
ويقال: افْتَاتَ عليه، إِذا انْفَرَدَ برأْيه دُونَه في التَّصَرُّفِ في شَيْءٍ، ولَمَّا ضُمِّنَ معنَى التَّغَلُّبِ عُدِّيَ بعلَى.
وتَفَاوَتَ الشَّيئانِ؛ أَي تَبَاعَدَ ما بَيْنَهُمَا، تَفاوُتًا، مُثَلَّثَةَ الوَاوِ حكاهما ابنُ السِّكِّيتِ، وقد قال سيبويه: ليس في المصادر تَفَاعِلٌ. وقالَ الكِلَابِيُّون في مصدره: تَفَاوَتًا، ففتحوا الواو، وقال العَنْبَرِيُّ: تَفَاوِتًا، بكسرِ الواو، وحكى أَيضًا أَبو زيد تَفَاوَتًا وتَفَاوِتًا ـ بفتح الواو وكسرها ـ وهو على غير قياس، لأَن المصدرَ من تَفَاعَل يَتَفَاعَلُ: تَفَاعُلٌ، مضمُوم العينِ، إِلّا ما رُوِي من هذا الحرفِ، كذا في الصحاح.
قال شيخنا، أَما الضَّمُّ فهو القياسُ، وعليه اقْتَصَرَ الفيّوميُّ في المصباح، وأَما الكسرُ فقالُوا: إِنه مَحمولٌ على المُعْتَلّ من هذا الوزنِ كالتوابي والتَّوَانِي، ولا يعرف في الصحيح في غير هذا المصدر، وأَما الفَتْحُ فإِنه على جِهَةِ التخفيف، والتَّثْلِيثُ حكاه ابنُ قُتَيْبَةَ في أَدَبِ الكاتِبِ، وصَرَّحَ بأَنَّهُ لا نَظِيرَ له، وصرَّحَ به ابنُ سِيدَه وابنُ القطّاع.
والفُوَيْتُ، كزُبَيْرٍ: المُتَفَرِّدُ برَأْيِهِ لا يُشَاوِرُ أَحَدًا، وفي بعض النسخ المُنْفَرِد، للمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، يقال: رَجُلٌ فُوَيْتٌ، وامرأَة فُوَيْتٌ، كذلك، عن الرِّيَاشيّ، وهَمزهما أَبو زيد.
وفي التَّنْزِيل العَزِيز: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ المَعْنَى: مَا تَرَى في خَلْقِهِ تعالى السَّماءَ اخْتِلافًا ولا اضْطِرابًا، وعن الَّليْثِ: فَاتَ يَفُوتُ فَوْتًا فهو فَائِتٌ، كما يَقُولون بَوْنٌ بَائِنٌ، وبَيْنَهُم تَفَاوُتٌ وتَفَوُّتٌ، وقُرِئَ: {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} وَتَفَوُّتٍ، فالأَوّلُ: قِرَاءَةُ أَبي عَمْرو، قال قَتَادَةُ: المَعْنَى: من اختلافٍ، وقال السُّدِّيُّ: من تَفَوُّتٍ، وهو في قراءَة حَمْزَة والكسائيِّ، أَيْ من عَيْبٍ، يقُول النّاظر: لوْ كان كَذَا وكذَا لكَانَ أَحْسَنَ، وقال الفَرّاءُ: هما بمعنًى واحدٍ.
ويُقَال: تَفَوَّتَ عَلَيْه في مالِهِ أَي فَاتَه به، وفي الحديث: «أَنَّ رَجُلًا تَفَوَّتَ علَى أَبيهِ في مَالِهِ، فَأَتَى أَبُوهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَر له ذلِكَ، فقَالَ: ارْدُدْ عَلَى ابْنِكَ مالَهُ، فإِنّمَا هو سَهْمٌ من كِنَانَتِك» قوله: تَفَوَّتَ: مَأْخُوذٌ من الفَوْتِ، تَفَعَّلَ منه، ومعناه أَنَّ الابْنَ لم يَسْتَشِرْ أَباهُ، ولم يستَأْذِنْه في هِبَة مالِ نَفسِه، فأَتى الأَبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأَخْبَرَه، فقَالَ: ارْتَجِعْه من المَوْهوبِ له، وارْدُدْهُ على ابْنِك، فإِنه وما في يَدِه تحتَ يَدِك، وفي مَلَكَتكَ، ولَيْسَ له أَنْ يَسْتَبِدّ بأَمْرٍ دُونَك، فضَرَبَ، كونَه سَهْمًا من كنانَته، مَثَلًا لكونه بعضَ كَسْبِه، وأَعْلَمَه أَنه ليس للابنِ أَن يَفْتَاتَ على أَبِيهِ بمالِه، وهو من الفَوْتِ: السَّبْقِ، تقول: تَفَوَّت فلانٌ على فلانٍ في كَذَا، وافْتَاتَ عَلَيْهِ، إِذا انفَرَدَ برأْيِه دونه في التَّصَرُّف فيه، ولَمَّا ضُمِّن معنى التَّغَلُّبِ عُدِّيَ بعلَى، وقد تقدم.
* ومِمّا يُسْتَدرَكُ عَليْه:
افْتَاتَ برأْيِه: اسْتَبَدّ به.
وفاته في كذا: سَبَقَه، وقد سبق ذكرهما.
وزعموا أَنّ رَجُلًا خرج من أَهلِه فَلما رَجَعَ، قالَت له امرأَتُه: لو شَهِدْتَنَا لأَخْبَرْنَاكَ وحَدَّثْنَاكَ بما كان، فقالَ لها: لم تُفاتِي، فَهَاتِي.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
57-تاج العروس (ليت)
[ليت]: لَيْتَ، بفتح اللام: كلمةُ تَمَنٍّ أَي حرفٌ دَالٌّ على التَّمَنِّي، وهو طَلَبُ ما لا طَمَعَ فيه، أَو ما فيه عُسْرٌ، تقول: لَيْتَنِي فعلتُ كذا وكذا، وهي من الحُروفِ النّاصبة تَنْصِبُ الاسمَ وتَرْفَعُ الخَبَرَ مثل كأَنَّ وأَخواتِها، لأَنّها شابَهت الأَفْعالَ بقُوّةِ أَلفاظِها، واتصالِ أَكْثَرِ المُضْمَرات بها، وبمعانيها، تقولُ: ليتَ زيْدًا ذاهبٌ، وأَما قول الشاعر:يا لَيتَ أَيّامَ الصِّبَا رَواجِعَا
فإِنما أَراد يا ليتَ أَيامَ الصّبا لَنا رَواجِعَ، نصَبَه على الحالِ، كذا في الصّحاح.
ووجَدْتُ في الحاشيةِ ما نصّه: رواجعا نُصِب على إِضْمارَ فعْلٍ، كأَنه قال: أَقْبَلَتْ، أَو عَادَتْ، أَو ما يليق بالمعنى، كذا قال سيبويه، تَتَعَلَّقُ بالمُسْتَحِيلِ غالبًا، وبالمُمْكِن قَليلًا وهو نصّ الشيخ ابنِ هِشامٍ في المُغْني، ومثَّلَه بقول الشاعر:
فيا ليتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْمًا *** فَأُخْبِرَهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ
وقد نظر فيه الشيخ بهاءُ الدّين السُّبْكِيّ في «عروس الأَفْراحِ»، ومنع أَن يكون هذا من المُسْتَحِيل. نقلَه شيخنا.
وقد حَكى النَّحْوِيُّون عن بعضِ العَربِ أَنها تُنَزَّلُ مَنْزلَةَ وَجَدْتُ فيعدِّيها إِلى مفعولين، ويُجْرِيها مُجْرَى الأَفعال فيُقالُ: ليتَ زَيْدًا شاخِصًا فيكون البيت على هذه اللغة، كذا في الصحاح.
قال شيخنا: وهذه لغةٌ مشهورة حكاها الفَرّاءُ وأَصحابه عن العرب، ونقلها الشيخُ ابنُ مالكٍ في مُصَنَّفاتِه، واستدلوا بشواهد حَمَلَها بقيُّةُ البَصْرِيِّين على التأْويل.
ويُقال: لَيْتِي ولَيْتَنِي، كما قالوا: لَعَلَّنِي ولَعَلِّي وإِنّي وإِنَّنِي، قال ابن سِيدَه: وقد جاءَ في الشِّعر لَيْتِي، أَنشد سِيبوِيه لزَيْدِ الخَيْل:
تَمَنّى مَزْيَدٌ زَيْدًا فَلَاقَى *** أَخًا ثِقَةً إِذا اخْتَلَفَ العَوالِي
كمُنْيَةِ جَابِرٍ إِذْ قَال لَيْتِي *** أُصادفُه وأُتْلِف بَعْضَ مالِي
قلت: هكذا في النوادر، والذي في الصّحاح «أَغْرَمُ جُلَّ مالِي» في المصراعِ الأَخير.
وقال شيخنا ـ عند قولِ المصَّنِّف، ويقال: لَيْتِي ولَيْتَنِي ـ: أَراد أَنَّ نونَ الوِقاية تلحقُها كإِلْحاقِها بالأَفعال حِفْظًا لفتحتها، ولا تَلْحَقُها إِبقاءً لها على الأَصل، وظاهِرُه التَّساوي في الإِلحاقِ وعَدَمِه، وليس كذلك، وفي تنظِير الجَوْهَرِيّ لها بلَعَلّ أَنهما في هذا الحُكْمِ سواءٌ، وأَنّ النونَ تَلْحَقُ لعلّ كلَيْتَ، ولا تَلْحَقُها، وليس كذلك، بل الصَّوابُ أَنّ إِلحاقَ النّون لليتَ أَكثْرُ، بخلاف لعلّ، فإِنّ الراجِحَ فيها عدَمُ إِلحاقِ النونِ، إِلى آخرِ ما قال.
واللِّيتُ، بالكَسْرِ: صَفْحَةُ العُنُق، وقِيل: اللِّيتانِ: أَدْنَى صَفْحَتَيِ العُنُقِ من الرَّأْسِ، عليهما يَنْحَدرُ القُرْطانِ، وهما وراءَ لِهْزِمَتَيِ اللَّحْيَيْنِ، وقيل: هما موضعُ المِحْجَمَتَينِ، وقيل: هما ما تحتَ القُرْطِ من العُنُقِ، والجمع أَلْياتٌ ولِيتَةٌ، وفي الحديث: «يُنْفَخُ في الصُّورِ فلا يَسْمَعُه أَحَدٌ إِلّا أَصْغَى لِيتًا» أَي أَمالَ صَفْحَةَ عُنُقِه.
ولَاتَهُ يَلِيتُه ويَلُوتُه لَيْتًا؛ أَي حَبَسَه عن وَجْهِ وصَرَفَه قال الراجز:
ولَيْلة ذاتِ نَدًى سَرَيْتُ *** ولم يَلِتْنِي عن سُرَاها لَيْتُ
وقيل: معنى هذا: لم يَلِتْنِي عن سُرَاها أَن أَتَنَدّمَ، فأَقولَ: لَيْتَنِي ما سَرَيْتُها. وقيل: معناه: لم يَصْرِفْني عن سُرَاها صارِفٌ؛ أَي لم يَلِتْنِي لائِتٌ، فوُضِع المَصْدَرُ موضعَ الاسْمِ. وفي التَّهْذِيب: أَي لَمْ يَثْنِني عنها نَقْصٌ ولا عَجْزٌ عنها. كأَلَاتَهُ عن وَجْهِه، فَعَل وأَفْعَلَ بمعنًى واحدٍ.
ولَاتَه حَقَّهُ يَلِيتُه لَيْتًا، وأَلاتَهُ نَقَصَهُ، والأَوّل أَعْلَى، وفي التنزيل العزيز: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا} قال الفَرّاءُ: معناهُ لا يَنْقُصْكُمْ، ولا يَظْلِمْكُم من أَعمالِكُم شيْئًا، وهو مِن لَاتَ يَلِيتُ، قال: والقُرّاءُ مُجْتَمعُون عليها، قال الزَّجّاج: لاتَه يَلِيتُه وأَلاتَهُ يُلِيتُه، إِذا نَقَصَه.
وفي اللسان: يقال: ما أَلَاتَه من عَمَلِه شَيْئًا: ما نَقَصَه، كما أَلِتَه بكَسْر اللامِ وفَتْحِها، وقُرئَ قولُه: {وَما أَلَتْناهُمْ} بكسر اللام {مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
قال الزّجّاج: لاتَهُ عن وَجْهِه أَي حَبَسَه، يَقُول: لا نُقْصانَ ولا زِيَادةَ، وقيل في قوله ـ {ما أَلَتْناهُمْ} ـ قال: يَجُوز أَن تكونَ من أَلَتَ ومن أَلاتَ.
وقال شَمِرٌ، فيما أَنشده من قول عُرْوَة بنُ الوَرْد:
فَبِتُّ أُلِيتُ الحَقَّ والحَقُّ مُبْتَلَى
أَي أُحِيلُه وأَصْرِفُه، ولاتَه عن أَمره لَيْتًا، وأَلاتَهُ: صَرَفَه.
وعن ابن الأَعرابيّ: سمعتُ بعضَهم يقول: الحمدُ للهِ الذي لا يُفاتُ ولا يُلاتُ. ولا تَشْتَبِهُ عليه الأَصْواتُ. يُلاتُ: من أَلاتَ يُلِيتُ، لغةٌ في لَات يَلِيتُ إِذا نَقَص، ومعناه:
لا يُنْقَصُ ولا يُحْبَسُ عنه الدُّعاءُ.
وقال خَالدُ بنُ جُنْبَة: لا يُلاتُ؛ أَي لا يَأْخُذُ فيه قولُ قائلٍ؛ أَي لا يُطِيعُ أَحدًا، كذا في اللّسانِ.
والتّاءُ في قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ زائِدَةٌ كما زِيدَت في ثُمَّتَ ورُبَّتَ، وهو قول المُؤَرِّج، كذا في الصّحاح، واللسان، أَو شَبَّهوها أَي لات بلَيْسَ، قاله الأَخْفَش، كذا بخطّ الجَوْهَرِيّ في الصّحاح، وفي الهامش صوابُه: سيبويه، فَأُضْمِرَ وعِبارَةَ الصحاح: وأَضْمَرُوا فيها اسْم الفَاعِلِ.
قال: ولا تَكُون لاتَ إِلّا مَع حِينَ قال ابنُ بَرِّيّ: هذا القَوْلُ نسبَه الجوهريّ إِلى الأَخْفَش، وهو لسِيَبَوَيْه، لأَنه يَرى أَنَّها عامِلَةٌ عَمَلَ ليس، وأَما الأَخْفَشُ فكان لا يُعمِلُها، ويرفَعُ ما بعدَها بالابتداءِ إِن كان مَرْفوعًا، وينصبه بإِضمارِ فِعْل إِن كان مَنْصُوبًا، قال: وقد تُحْذَفُ أَي لفظةُ «حين» في الشعر، وهي أَي تلكَ اللَّفْظَة مُرادَةٌ فتُقَدّر، وهو قول الصّاغانيّ، والجَوْهَرِيّ، وإِياهُما تَبِعَ المُصَنّف كقول مازِنِ بنِ مَالِكٍ: حَنَّتْ ولاتَ هَنَّتْ وَأَنَّى لَكَ مَقْرُوعُ فحذفَ الحِينَ، وهو يُريدُه.
ووجَدْتُ في الهامش أَنَّ هذا ليْسَ بشعرٍ، وإِنّما هو كَلامٌ تُمُثِّلَ بِه، وله حكايةٌ طويلةٌ.
قال شيخُنا: وقد تعَقَّبُوه، يعني القولَ الذي تبع فيهِ الشَّيْخَيْنِ، فقالوا: إِن أَرادُوا الزّمانَ المحذوفَ مَعْمُولُه فلا يَصِحُّ، إِذ لا يَجُوز حَذْفُ معمولَيْها، كما لا يجوز جَمْعُهُما، وإِن أَرادُوا أَنّها مْهْمَلَةٌ وأَن الزّمان لا بد منه لتصحيح استعمالها، فلا يَصِحُّ أَيضًا، لأَنَّ المُهْمَلَة تَدْخُل على عيرِ الزّمان.
قلت: هو الذي صَرّحَ به أَئمةُ العربيّة، قال أَبو حَيّان ـ في ارْتِشافِ الضَّرَبِ من لسانِ العَرَبِ ـ: وقد جَاءَت لاتَ غيرَ مضافٍ إِليها «حين» ولا مَذْكُورٍ بعدها «حين»، ولا ما رَادَفَهُ في قول الأَزَدِيّ.
تَرَكَ الناسُ لنَا أَكْنَافَنَا *** وتَوَلَّوْا لاتَ لَمْ يُغْنِ الفِرارُ
إِذْ لَوْ كانت عامِلَةً لم يُحْذَف الجُزآنِ بعدَها، كما لا يُحْذفانِ بعد «ما»، و«لا» العاملتَيْنِ عَملَ ليس، وصَرّحَ به ابنُ مالكٍ في التَّسْهيل والكافيةِ وشُروحِهما، ثم قال: وقد أَجْحَفُوا بهذا اللّفظِ في حقيقته وعَملِه، فكان الأَوْلَى تَرْكَهُ أَو عدمَ التَّعَرُّضِ لبَسْطِ الكلام فيه، وإِنما يَقتصرون على قَوْلِهم: ولاتَ النّافيةُ العاملةُ عَملَ ليس.
وحاصلُ كلامِ النُّحاةِ فيها يَرجعُ، إِلى أَنهم اختَلَفُوا في كلٍّ من حقِيقَتِها وَعَملِها: فقالوا: في حقيقتها أَربعةُ مذاهِب:
الأَوّل: أَنّها كلمةٌ واحدةٌ، وأَنّها فِعْلٌ ماضٍ، واختَلَفَ هؤلاءِ على قولين:
أَحدهما: أَنها في الأَصل لاتَ بمعنى نَقَص. ومنه {[لا] يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ}، ثُمّ استُعْمِلَتْ للنَّفْيِ، كَقَلَّ، قاله أَبو ذَرٍّ الخُشَنّي في شَرْحِ كتاب سيبويهِ، ونَقَلَه أَبو حيَّان في الارْتِشَاف، وابنُ هِشامٍ في المُغْنِي، وغير واحد.
ثانيهما: أَنَّ أَصْلَها لَيسَ بالسّين، كفَرِح، فأُبْدِلت سينُها تاءً، ثم انْقَلَبت اليَاءُ أَلِفًا، لتحرُّكِها وانفِتاح ما قبلها، فلمّا تَغَيَّرتْ اختَصَّتْ بالحِين، وهذا نقله المُراديّ عن ابنِ الرّبيع.
والمذهب الثاني: أَنها كلمتان: لا النّافيةُ، لحِقَتْها تاءُ التَّأَنيث، لتأْنِيثِ اللّفظ، كما قاله ابنُ هشامٍ والرَّضِيّ، أَو لتأْكيد المُبَالَغَةِ في النَّفْيِ، كما في شَرْح القَطْرِ لمُصَنِّفه، وهذا هو مذهب الجُمهور.
الثالث: أَنها حرْفٌ مُستَقِلٌّ، ليس أَصلُه «ليسَ» ولا «لا»، بل هو لَفْظٌ بسيطٌ موضوعٌ على هذه الصّيغة، نقله الشيخ أَبو إِسحاقَ الشَّاطِبيُّ، في شرح الخُلاصة، ولم يَذْكُرْه غيْرُه من أَهل العَرَبِيّة على كثرةِ استِقْصائِها.
الرابع: أَنّها كلمةٌ وبعضُ كَلِمَةٍ، «لا» النافيةُ، والتاءُ مزيدةٌ في أَوّل «حين»، ونُسِبَ هذا القول لأَبِي عُبَيْد وابنِ الطَّرَاوَةِ، ونقله عنهُما في المُغْنِي، وقال: استدَلَّ أَبو عُبيدٍ بأَنه وجَدَها مُتّصِلَةً في «الإِمام»؛ أَي مُصحَف عُثْمان، ولا دَليلَ فيه، لأَن في خَطّه أَشياءَ خارجة عن القِياس، ويشهد للجُمْهور أَنّه يوقف عليها بالتّاءِ والهاءِ، وأَنّها تُرْسَم مُنفصلَةً من حين، وأَنَّ تاءَها قد تُكْسَر على أَصل التقاءِ الساكنين، وهو معنى قول الزمخشريّ: «وقرئ بالكسر كجَيْرِ»، ولو كان ماضِيًا لم يكن للكَسْرِ وَجْهٌ.
قلتُ: وقد حُكِيَ أَيضًا فيها الضَّمُّ وقُرئ بهن، فالفَتْح تخفيفًا، وهو الأَكثرُ، والكَسْرُ على أَصلِ التقاءِ السَّاكنَيْن، والضَّمُّ جَبْرًا لوَهْنِها بلزومِ حَذْف أَحدِ مَعْمُولَيْهَا، قاله البَدْرُ الدَّمامِينيّ في شرح المُغْنِي، فهي مثَلَّثةُ التاءِ، وإِن أَغْفَلُوه.
ثم قال شيخنا: وأَما الاختلاف في عملها، ففيه أَربعةُ مَذاهِبَ أَيضًا:
الأَول: أَنّها لا تَعملُ شيْئًا، فإِن وَلِيَها مرفوعٌ فمبتدأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَو مَنْصُوبٌ فمَفْعُولٌ حُذِف فِعْلُه الناصِبُ له، وهو قولُ الأَخفش، والتقدير عنده: لا أَرَى حينَ مَنَاصٍ، نَصْبًا، ولا حِينُ مناصٍ كائِنٌ لَهمُ، رَفْعًا.
والثاني: أَنها تعملُ عَمَلَ إِنّ، وهو قَوْلٌ آخَرُ للأَخْفَشِ والكُوفِيّينَ.
والثّالث: أَنها حرفُ جَرٍّ عند الفَرّاءِ، على ما نقله عنه الرَّضِيّ وابنُ هشامٍ وغيرهما.
والرابع: أَنّها تعملُ عملَ لَيْسَ، وهو قول الجُمْهُور، وقيّده ابنُ هِشام بِشَرْطَيْن: كون معمُولَيْها اسمَى زَمَان، وحذف أَحدِهما. انتهى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
58-تاج العروس (دفر)
[دفر]: الدَّفْرُ، بفتح فَسُكون: الدَّفْعُ في الصَّدرِ، والمَنْعُ، يمانِيَةٌ.وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: دَفَرْته في قَفَاه دَفْرًا؛ أَي دَفَعْته. ورُوِيَ عن مُجَاهِد في قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} قال: يُدْفَرُون في أَقفيِتَهم دَفْرًا؛ أَي دفْعًا.
والدَّفَرُ، بالتَّحْريك: وُقُوعُ الدُّودِ في الطعامِ واللَّحْم.
والدَّفَرُ: الذُّلُّ، عن ابْنِ الأَعرابّي، وبه فُسِّر قَوْلُ سَيِّدنا عُمَرَ لَمَّا سأَل كَعْبًا عن وُلاةِ الأَمْرِ فأَخْبَره قال: «وا دَفْرَاه» قِيل: أَراد وا ذُلّاه. والدَّفَر: النَّتْنُ خاصّةً، ولا يَكُون الطِّيبَ البَتَّةَ، ويُسَكَّنُ ومنهم مَنْ فَسَّر قولَ سيِّدنا عُمَرَ به؛ أَي وا نَتْنَاه.
ونَقَل شيخُنا عن نوادر أَبي عَلِيّ القَالِيّ ما نَصُّه: الدَّفْر، بسكون الفاءِ: حِدَّة الرّائِحَة في النَّتْن والطِّيب، وبفتح الفاءِ في النّتْن خاصّةً، قال شيخنا، وأَكثرُ أَئِمّة الأَندَلُس على هذا التّفصيل.
قلْتُ: الذي نُقِل عن أَئِمَّة هذا الفَنّ: أَنّ الذي يَعُمّ شِدّةَ ذَكَاءِ الرَائِحَةِ طَيِّبةً كانت أَو خَبِيثَةً هو الذَّفَرُ، بالذال المعجمة مُحَرَّكةً، ومنه قِيل: مِسْكٌ أَذْفَر، وسيأْتي، فليُنْظَر هذا مع نَقْل النوادِر. نعمْ نُقِل الفَرْقُ عن ابن الأَعرابيّ، لكنّه في الدَّفْرِ، بالتَّسْكِين بمعنى الذُّلّ. والدَّفَر محرّكةً بمعنى النَّتْن، ولا يُعرَف هذا إِلّا عنه، كما في اللِّسَان وغيره.
دَفِرَ الرجُلُ، كفَرِحَ، فهو دَفِرٌ وأَدفَرُ، وقيل: دَفِرٌ، على النَّسَب، لا فِعْل له. قال نَافِعُ بنُ لَقِيط الفَقْعَسِيّ:
ومُؤَوْلَق أَنْضَجْتُ كَيَّةَ رَأْسِه *** فَتَرَكْتُه دَفِرًا كرِيحِ الجَوْرَبِ
وهي دَفِرَةٌ ودَفْرَاءُ.
ودَفَارِ، كقَطَامِ: الأَمَةُ، ويقال لها إِذا شُتِمَت: يا دَفَارِ؛ أَي يَا مُنْتِنَةُ، وهي مَبْنِيَّة على الكسر، وأَكثرُ ما ترِدُ في النّداءِ.
ودَفَارِ: الدُّنْيَا، كأُمِّ دفَارِ وأُمِّ دَفْرٍ، الأَخيرتان كُنْيَتَان لها.
وحَرَّكَ أَبُو عليّ القالِيّ الأَخِيرَةَ في الأَمالي، وغَلَّطه السُّهَيْليّ في الرَّوْض. وزاد ابنُ الأَعرابيّ أُمّ دَفْرَة.
والمُدَافِرُ: موضع.
ومِدْفارٌ، كمِحْرَاب: موضع لبني سُلَيْمٍ.
والدَّفْرُ، وأُمُّ دَفْرٍ: الدّاهِيَةُ، وقيل: به سُمِّيَت الدُّنْيا أُمَّ دَفْرٍ؛ أَي لِمَا فيها من الآفَات والدَّواهِي.
وكَتِيبَةٌ دَفْرَاءُ: بها صَدأُ الحَدِيدِ. وفي الأَساس: يُرادُ بها رِيحُ الحَدِيد.
وجَيْشٌ مِدْفَرٌ: مِصَكٌّ، كأَنَّه من الدَّفْر وهو الدّفْر وهو الدّفْع والمَنْع.
* ومما يُسْتَدرك عليه:
عن ابن الأَعْرَابِي: أَدفَرَ الرّجلُ، إِذا فاحَ رِيحُ صُنَانِه.
وقال غَيْرُه: دَفْرًا دافِرا لِمَا يَجِئُ به فُلانٌ. على المُبَالغة؛ أَي نَتْنًا.
ودِفْرَى، كذِكْرَى: قَرْيَة بمِصر، كأَنَّها شُبِّهت بالدُّنيا لنَضَارتها، وقد دخَلْتُها.
ودَفَرٌ، محرّكةً: ثَمرُ شَجَرٍ صِينِيّ وشِحْرِيّ.
ودَفْرِيّةُ: قريةٌ أُخرَى بمصر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
59-تاج العروس (عر عرر عرعر)
[عرر]: العَرُّ، بالفَتح، والعُرّ، والعُرّة، بضمّهما: الجَرَب، هكذا ذَكَرَه غيرُ واحد من أَئمّة اللغة، وزادَ المصنِّف في البصائر: لأَنّه يَعُرُّ البَدَنَ؛ أَي يعترِضه. أَو العَرّ، بالفَتْح: الجَرَب، والعُرّ، بالضّمّ: قُرُوحٌ في أَعناقِ الفُصْلان، وقد عُرّت عَرًّا فهي مَعْرُورَةٌ، قاله ابن القَطّاع، وقيل العُرّ: دَاءٌ يَتمعَّط منه وَبَرُ الإِبلِ حتّى يَبْدُوَ الجِلْدُ ويَبْرُقَ، وقد عَرَّت الإِبلُ تَعُرّ، بالضَّمّ، وتَعِرّ، بالكسر، عَرًّا، فيهما، فهي عارَّة، وعُرَّت، بالضّمّ عَرًّا فهي مَعْرُورة، وتَعَرْعرتْ، وهذه عن تكملة الصَّاغانيّ. وجمَلٌ أَعَرُّ، وعارٌّ؛ أَي جَربٌ. وقال بعضهم: العُرّ، بالضّمّ: قُرُوحٌ مثْل القَوْباءِ تَخرجُ بالإِبلِ متفرِّقَةً في مَشافِرهَا وقَوَائِمِها، يَسِيل منها مثلُ الماءِ الأَصفرِ، فتُكوَى الصِّحاح لئلّا تُعْدِيَهَا المِرَاضُ، تقول منه: عُرَّت الإِبلُ فهي مَعْرورَة، قال النابِغَة:فَحَمَّلْتَني ذَنْبَ امرِئ وتَرَكْتَه *** كذِي العُرِّ يُكَوْى غَيْرُه وهْوَ رَاتعُ
قال ابن دُرَيْد: مَنْ رَوَاه بالفَتْح فقد غَلطَ، لأَنّ الجَرَبَ لا يُكْوَى منه.
واسْتَعَرَّهم الجَرَبُ: فَشَا فيهم وظهرَ.
وعَرَّه: ساءَه، قال رؤبةُ بن العجّاج:
ما آيِبٌ سَرَّكَ إِلّا سَرَّنِي *** نُصْحًا ولا عَرَّكَ إِلّا عَرَّنِي
وقال قَيْسُ بنُ زُهير:
يا قَوْمَنَا لَا تَعُرُّونَا بدَاهيَةِ *** يا قَوْمَنَا واذْكُرُوا الآباءَ والقُدَمَا
وعَرَّه بشَرٍّ: لَطَخَه به، قيل: هو مأْخوذٌ من عَرَّ أَرْضَه يَعُرُّها، إِذَا زَبَّلها، كما سيأْتِي، قال أَبو عُبَيْد: وقد يكون عَرَّهم بشَرٍّ، من العرّ، وهو الجَرَب؛ أَي أَعْدَاهُم شَرُّه. وقال الأَخطل:
ونَعْرُرْ بقوم عُرّةً يَكْرَهونَها *** ونَحْيَا جَميعًا أَوْ نَمُوتُ فنُقْتَلُ
ورَجلٌ عَرٌّ، هكذا في النسخ، وفي أُصول اللغةِ: أَعَرّ، بَيِّن العَرَرِ، مُحَرّكةً، والعُرُورِ، بالضّمّ؛ أَي أَجْرَبُ، وقيل: العرَرُ والعُرُورُ: الجَرَبُ نَفْسُه: كالعَرّ، قال أَبو ذُؤيب:
خَلِيلِي الذي دَلَّى لِغَيٍّ خَليلَتِي *** جِهَارَا فكُلٌّ قدْ أَصَابَ عُرُورهَا
وحكى التَّوَّزيّ: يقال: نَخْلةٌ مِعْرَارٌ؛ أَي جَرْباءُ، قال: وهي الّتي يُصيبها مثْلُ العَرِّ، وهو الجَرَبُ؛ هكذا حكاه أَبو حنيفةَ عنه. قال: واسْتَعَار الجَرَبَ والعَرّ جميعًا للنَّخْل، وإِنّما هما في الإِبل. وحَكَى التَّوّزيّ، إِذَا ابتَاع الرَّجلُ نَخْلًا اشترطَ على البائع، فقال: ليس لي مِقْمارٌ ولا مِئْخارٌ ولا مِبْسَارٌ ولا مِعْرارٌ ولا مِغْبَارٌ. وكلّ ذلك مَذْكور في مَحَلّه.
والمَعَرَّة، بالفَتْح: الإِثْم، وقال شَمِرٌ: المَعَرّة: الأَذَى، وقال محمّد بن إِسحاقَ بن يَسار: المَعَرّة: الغُرْمُ والدِّيَةُ قال الله تَعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يقول: لَوْلَا أَنْ تُصيبُوا منهم مُؤْمِنًا بغير عِلْم فَتَغْرَمُوا دِيَتَه، فأَمّا إِثْمُه فإِنّه لم يَخْشَه عليهم. وقال ثعلب: المَعَرَّة: مَفْعَلَةٌ من العَرّ، وهو الجَرَب؛ أَي يُصِيبكم منهم أَمْرٌ تكرهونَهُ في الدِّيات.
وقيل: المَعَرّة التي كانت تُصِيبُ المُؤْمنين أَنّهم لَوْ كَبَسُوا أَهْل مكّة وبين ظَهْرَانَيْهم قومٌ مُؤْمِنون لم يَتَمَيَّزُوا من الكُفّار، لم يأْمَنُوا أَنْ يَطَأَوا المؤْمنين بغيرِ عِلْمٍ فَيَقْتُلُوهم، فتَلْزَمَهُم دِيَاتُهم، وتَلْحَقَهم سُبَّةٌ بأَنَّهُم قَتَلُوا مَنْ هو على دِينِهم، إِذْ كانُوا مُخْتلطين بهم. يقولُ الله تَعَالَى: لَوْ تَمَيَّز المُؤْمِنُون من الكُفّارِ لَسَلّطْناكم عليهم وعَذَّبناهم عذابًا أَلِيمًا، فهذه المَعرّةُ التي صان الله المؤمنين عنها هي غُرْم الدِّيَات ومَسبَّة الكُفّار إِيّاهُم. وقيل: المَعَرَّة: الخِيَانَةُ، هكذا في سائر أُصُول القَامُوس بالخَاءِ المعجمة، والصَّواب الذي لا مَحيدَ عنه: الجِنَايَة، ومِثْلُه في التكملِة واللّسّان. وزاد في الأَخِير: أَي جِنَايَته كجنَايَة العَرّ وهو الجَرَب، وأَنشد:
قُلْ لِلْفَوارس منْ غَزِيَّةَ إِنَّهُمْ *** عنْدَ القتَالِ مَعَرَّةُ الأَبْطَالِ
والمَعَرَّة: كَوْكَبٌ دُونَ المَجَرَّة وفي الحديث: «أَنَّ رَجُلٌا سَأَل آخَرَ عن مَنْزِله، فأَخْبَره أَنّه يَنْزِل بَيْنَ حَيَّيْنِ مِن العَرَب فقال: نَزَلْتَ بين المَعَرَّةِ والمَجَرَّةِ» المَجَرّةُ التي في السَّمَاءِ:
البَيَاضُ المعروف. والمَعرة: ما وَرَاءَها من ناحِيَةِ القُطْب الشَّمَاليّ، سُمِّيت مَعَرَّةً لكثرة النُّجُوم فيها. أَراد: بين حَيَّيْن عَظيمين، لكثرة النُجوم. وأَصل المَعَرَّة موضعُ العَرِّ وهو الجَرَب، ولهذا سَمَّوْا السماءَ الجَرْباءَ، لكثرة النُّجوم فيها.
تَشْبِيهًا بالجَرَب في بَدَن الإِنْسَان. وفي حديث عُمَرَ بنِ الخَطّابِ رضي الله عنه « [اللهم] إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ من مَعَرَّةِ الجَيْش». قال شَمِرٌ: معناه أَنْ يَنْزِلُوا بِقَوْم فيَأْكُلُوا من زُرُوعهم شَيئًا بغير عِلْمٍ. وقيل: هو قِتَالُ الجَيْشِ دُونَ إِذْنِ الأَمِيرِ. وقيل: وَطْأَتُهُم مَنْ مَرُّوا به مِنْ مُسْلِمٍ أَو مُعَاهَد، وإِصابَتهم إِيّاهم في حَرِيمِهم وأَمْوالِهِم [وزروعهم] بِما لَمْ يُؤذَنْ لهم فيه. والمَعَرَّة: تَلوُّنُ الوَجْهِ غَضَبًا. قال أَبو منصور: جاءَ أَبو العَبّاس بهذا الحرْف مُشَدَّد الراءِ، فإِن كان مِنْ تَمعَّر وَجْهُه فلا تَشْدِيد فيه، وإِن كان مَفْعَلة من العَرّ فالله أَعلم.
وحِمَارٌ أَعَرُّ: سَمِينُ الصَّدْرِ والعُنُق وقيل: إِذا كان السِّمَنُ في صَدْرِه وعُنُقِه أَكثرَ منه في سائرِ خَلْقِهِ.
وعَرَّ الظَّلِيمُ يَعِرُّ. بِالكَسْر، عِرَارًا، بالكَسْر، وكذا عارَّ يُعَارّ مُعَارَّةً وعِرَارًا. ككِتَاب، وهو صَوْتُه: صاحَ، قال لَبِيد:
تَحَمَّلَ أَهْلُهَا إِلا عِرَارًا *** وعَزْفًا بَعْدَ أَحْيَاءٍ حِلالِ
وفي الصّحاح: زَمَرَ النَّعَامُ يَزْمِرُ زِمَارًا. قلتُ: ونَقَلَ ابنُ القَطّاع عن بعضهِم: إِنما هو عارَ الظَّلِيمُ يَعُور.
والتَّعَارُّ: السَّهَرُ والتَّقَلُّب على الفِرَاش لَيْلًا. قال أَبو عُبَيْد: وكان بعض أَهْل اللُّغَةِ يَجْعَله مَأْخُوذًا من عِرَارِ الظَّلِيمِ، وهو صَوْتُه. قال: ولا أَدْرِي أَهُوَ مِنْ ذلِك أَمْ لا؟
وفي حديث سَلْمَانَ الفَارِسيّ: «كان إِذا تَعَارَّ من اللَّيْلِ قال: سُبْحَانَ رَبِّ النَّبِيِّين، وإِلهِ المُرْسَلِين»، وهو لا يكونُ إِلّا يَقَظَةً معَ كَلام وصَوْتٍ. وقيل: تَمَطَّى وأَنَّ.
والعُرُّ، بالضَّمّ: جَبَلُ عَدَنَ، قاله الصاغانيّ.
والعُرّ: الغُلامُ. والعُرَّة، بهاءٍ: الجَارِيَةُ، وضبطهما الصاغانيّ بالفَتح، ومثله في اللّسان. ويقال: العَرَارُ والعَرُّ، بفتحهما: المُعَجَّلُ عن وَقْت الفِطَامِ، وهي بهاءٍ، عَرَّةٌ وعَرَارَةٌ. وقال ابن القَطَّاع: عَرَّ الغُلامَ عَرًّا وعَرَارَةً وعِرَارَةً وعِرَارًا وعَرَّةً: عَجلْتَ فِطامَه.
وفي التنزيلَ: {وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قيل: هو الفَقِير، وقيل: هو المُعْتَرض هكذا في النسخ. وفي المُحْكَم والتَّهْذيب المُتَعَرِّض للمعروفِ مِنْ غير أَنْ يَسْأَلَ، ومنهحديثُ عَليٍّ رَضِي الله عنه: «فإِنّ فيهم قانِعًا ومُعْتَرًّا».
يقال: عَرَّه، عَرًّا وعَرَاهُ، واعْتَرَّه، واعْتَرَاهُ، واعْتَرّ به إِذا أَتاهُ فطلَبَ مَعْرُوفَه. قال ابنُ أَحْمَرَ:
تَرْعَى القَطَاةُ الخِمْسَ قَفُّورَهَا *** ثمَّ تَعُرُّ الماءَ فيمَنْ يَعُرّ
أَي تأْتي الماءَ وتَرِدُهُ. والقَفُّور: ما يُوجَد في القَفْرِ، ولم يُسْمَع القَفُّورُ في كلام العَرَب إِلّا في شِعْرِ ابنِ أَحْمَرَ. وقال ابنُ القَطّاع: المُعْتَرُّ: الزائِرُ، من قولك: عَرَرْتُ الرَّجُلَ عَرًّا: نَزَلْتُ به. انتهى. وقال جماعة من أَهْلِ اللُّغَةِ في تفسير قوله تعالَى: {الْقانِعَ}: هو الَّذِي يَسْأَلُ. {وَالْمُعْتَرَّ}: الذي يُطِيفُ بك يَطْلُب ما عنْدَك: سَأَلَك أَوْ سَكَتَ عن السُّؤال.
والعَرِيرُ: الغَرِيبُ في القَوْمٍ فعِيلٌ بمعنَى فاعل، وأَصلُه من قَوْلك: عَرَرْته عَرّا فأَنا عارٌّ: إِذا أَتَيْتَهُ تَطْلُب معروفَه، واعتَرَرْتُه بمعناه. ومنهحديث حاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: أَنّه لما كَتَبَ إِلى أَهْلِ مَكَّة كتابًا يُنْذِرُهُمْ فيه بسَيْر سَيِّدنا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِليهم أَطْلَعَ الله رَسُولَه على الكتَاب، فَلَمَّا عُوتِبَ فيه قال: «كنتُ رجلًا عَرِيرًا في أَهلِ مَكَّةَ، فأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِليهم، ليَحْفَظُوني في عَيْلاتِي عِنْدَهم» أَراد غَرِيبًا مُجَاورًا لهم دَخِيلًا، ولم أَكُنْ من صَمِيمِهم، ولا لِيَ فيهم شُبْكَةُ رَحِم. وفي رواية: «غَرِيرًا» بالغين المعجمة. وفي اللسان في «غ ر ر» ما نصّه: «قال بعضُ المتأَخِّرين: هكذا الرِوَايَة كنت غَرِيًّا؛ أَي مُلْصَقًا، يقال: غَرِيَ فلانٌ بالشَّيْءِ: إِذَا لَزِمَهُ، ومنه الغِرَاءُ الذي يُلْصَق به. قال: وذَكَرَه الهَرَوِيُّ في الغَرِيبَيْنِ في العَيْن المهملة: «كنتُ عَرِيرًا». قال: وهذا تصحيف منه. قال ابنُ الأَثير: أَما الهَرَوِيّ فلمْ يُصَحِّف ولا شَرَح إِلّا الصّحِيحَ، فإِنّ الأَزْهَريّ والجَوْهَرِيّ والخَطّابيّ والزّمَخْشَرِيّ ذكروا هذِه اللفْظَة بالعَيْن المهملة في تَصَانيِفِهم، وشَرَحُوها بالغَرِيب، وكَفَاكَ بواحد منهم حُجَّةً للهَرَوِيّ فيما رَوَى وشَرَحَ.
والمَعْرُورُ: المَنْزُولُ به، وهو أَيضًا المَقْرُورُ الَّذِي أَصابَه القُرُّ. والمَعْرُورُ أَيضًا: مَنْ أَصابَهُ ما لا يَسْتَقِرُّ عَلَيْه، أَوْ أَتاهُ ما لَا قِوَامَ لَهُ معه.
ومَعْرُورُ بنُ سُوَيْدٍ المُحَدِّثُ شَيْخُ الأَعْمَش.
والبَرَاءُ بنُ مَعْرُورِ بنِ صَخْرِ بنِ خَنْسَاءَ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ أَبو بِشْر، نَقِيبُ بَنِي سَلِمَةَ، صَحَابِيٌّ، وقد تَقَدَّم ذِكْره في الهمزة، ولِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ له هُنَا.
وأَما سَيّارُ بنُ مَعْرُور الذِي حَدَّثَ عنه سِمَاكُ بنُ حَرْب فاخْتُلِفَ فيه، فقِيلَ: هو بالغَيْنِ المعجمة. قال الحافِظُ في التَّبْصِير: وحَكَى ابنُ مَعِين أَنَّ أَبا الأَحْوَصِ صَحَّفه بالعَيْنِ المُهْمَلة. انتهى. قلْتُ: وقد ضَبَطَهُ الذَّهَبيّ بالمعجمة، وقال: رَوَى عَنْ عُمَرَ. وقال ابنُ المَدِينيّ: مجهولٌ، لَمْ يَرْوِ عنه غَيْرُ سِمَاك.
والمَعْرُورَةُ، بهاءٍ؛ التي أَصَابَتْها عَيْنٌ في لَبَنِها، نقله الصاغانيّ.
والعَرَّةُ، بالفَتْح: الشِّدَّة، كالمَعَرَّةِ، وقيل: الشِّدَّةُ في الحَرْبِ نقله الصَّاغانيّ. وقال ابن الأَعْرابيّ: العَرَّةُ: الخَلَّةُ القَبيحَةُ.
والعُرَّةُ، بالضّمّ: زَرْقُ الطَّيْرِ وعَرَّ الطَّيْرُ يَعُرّ: سَلَحَ.
كالعُرِّ بغير هاءٍ، والعُرَّةُ أَيضًا: عَذِرَةُ الناسٍ والبَعَرُ والسِّرْجِينُ. ومنهالحديث: «إِيّاكُمْ ومُشارَّةَ النّاسِ، فإِنّهَا تُظْهِر العُرَّة»، استُعِيرَ للمَساوِئ والمثَالِبِ. وفي حديث سَعْد: «أَنَّه كان يَعُرّ أَرْضَه» أَي يَدْمُلُها بالعَذِرَةِ ويُصْلِحُهَا بِهَا. وكذا حديث عُمَرَ: «كان لا يَعُرّ أَرْضَهُ» أَي لا يُزَبِّلُهَا بالعُرَّةِ. وقد أَعرَّتِ الدارُ، إِذا كَثُرَ بها العُرّةُ كأَعْذَرَتْ.
والعُرَّة: شَحْمُ السِّنَام ويقال: عُرّةُ السَّنَام: هي الشَّحْمَةُ العُلْيَا. والعُرَّةُ: الإِصابَةُ بمَكْرُوهٍ. وقد عَرَّه يَعُرُّه عَرًّا، بالفَتْح، إِذا أَصابَهُ بِه. والعُرَّةُ: الجُرْمُ، كالمَعَرَّة، والعُرَّةُ: رَجُلٌ يَكون شَيْنَ القَوْم. وقد عَرَّهُمْ يَعُرُّهُم: شَأنَهم: يُقَال: فُلانٌ عُرَّةُ أَهْلهِ؛ أَي شَرُّهُمْ، وقال ابنُ دُرَيْد: العُرَّةُ، بِالضمّ: الرَّجُلُ المَعْرُورُ بالشَّرّ.
والعَرَارُ، كسَحاب: القَوَدُ، وكلُّ شيْءٍ باءَ بشَيْءٍ فهو لَهُ عَرَارٌ. قال الأَعْشَى:
فقد كانَ لهم عَرَارُ وذاتُ العَرَارِ: وَادٍ من أَوْدِيَةِ نَجْد.
والعَرَارُ: بَهَارُ البَرِّ، وهو نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ. قال ابنُ بَرِّيٍّ: وهو النَّرْجسُ البَّرِّيُّ. قال الصِّمَّةُ بنُ عبد الله القُشَيْريّ:
أَقولُ لصاحِبي والعِيسُ تَهْوِي *** بِنَا بَيْنَ المُنيفَةِ فالضِّمَارِ
أَلَا يا حَبَّذَا نَفَحاتُ نَجْدٍ *** ورَيَّا رَوْضِه بَعْدَ القِطَارِ
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وما شَعَرْنَا *** بأَنْصافٍ لَهُنَّ ولا سَرَارِ
تَمتَّعْ مِنْ شَمِيم عَرَارِ نَجْدٍ *** فَما بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ
وبِهَاءٍ واحِدَتُه، قال الأَعْشَى:
بَيْضَاءُ غُدْوَتُهَا وصَفْ *** رَاءُ العَشِيَّةِ كالعَرَارَهْ
معناه أَنّ المرأَةَ الناصِعَةَ البَيَاضِ الرَّقِيقَةَ البَشَرَةِ، تَبْيَضُّ بالغَدَاةِ ببَيَاضِ الشَّمْسِ، وتَصْفَرّ بالعَشِيّ باصْفِرَارِهَا.
والعَرَارَةُ: الشِّدَّةُ. والعَرَارَةُ: الرِّفْعةُ والسُّؤْدَدُ. قال الأَخْطَل:
إِنَّ العَرَارَةَ والنُّبُوحَ لِدَارِمٍ *** والمُسْتَخِفّ أَخُوهُمُ الأَثْقَالا
وقال الطِّرِمّاح:
إِنَّ العَرَارَةَ والنُّبُوحَ لطَيِّئ *** والعِزُّ عندَ تَكامُلِ الأَحْسابِ
والعَرَارَةُ: النِّساءُ يَلِدْنَ الذُّكُورَ، والشَّرِيَّةُ: النِّساءُ يَلِدْنَ الإِنَاثَ. يُقَال: تَزَوَّج في عَرَارَةِ نِسَاءٍ. والعَرَارَةُ: سُوءُ الخُلُقِ، ومنه: رَكِبَ فلانٌ عُرْعُرَهُ، إِذا ساءَ خُلُقُه، كما سيأْتي قريبًا.
والعَرَرُ، مُحَرَّكةً: صِغَرُ السَّنَامِ أَو قِلَّتُه، بأَنْ يكونَ قَصِيرًا، أَو ذَهَابُه، وهو من عُيُوبِ الإِبل. وهو أَعَرُّ، وهي عَرّاءُ وعَرَّةٌ، وقد عَرَّ سَنَامُهُ يَعَرُّ، بالفَتْح، إِذا نَقَصَ، قال:
تَمَعُّكَ الأَعَرِّ لاقَى العَرَّاءْ
أَي تَمَعَّكَ كما يَتَمَعَّكُ الأَعَرُّ، والأَعَرُّ يُحِبُّ التَمَعُّكَ لذَهابِ سَنامِه، يَلْتَذُّ بذلك. وقال أَبو ذُؤَيْبٍ.
وكانُوا السَّنَامَ اجْتُثَّ أَمْسِ فقَوْمُهم *** كعَرّاءَ بَعْدَ النَّيِّ رَاثَ رَبِيعُها
وقال ابنُ السكِّيت: الأَجَبُّ: الَّذِي لا سَنَامَ لَهُ من حادِث، والأَعَرُّ: الّذِي لا سَنامَ لَهُ من خِلْقَة.
والعُرَاعِرُ، بالضَّمِّ: الشَّرِيفُ. قال مُهَلْهِلٌ:
خَلَعَ المُلُوكَ وسَارَ تَحْتَ لِوَائِه *** شَجَرُ العُرَى وعُرَاعِرُ الأَقْوَامِ
شَجَرُ العُرى: الّذِي يَبْقَى على الجَدْبِ، وقِيلَ: هُمْ سُوقَةُ النَّاسِ. والعُرَاعِرُ هنا اسمٌ للجَمْع، وقيل: هو للجِنْس، الجمع: عَرَاعِرُ، بالفَتْح. قال الكُمَيْتُ:
ما أَنْتَ منْ شَجَرِ العُرَى *** عِنْدَ الأُمورِ ولا العَرَاعِرْ
والعُرَاعِرُ: السَّيِّدُ، مأْخُوذٌ من عُرْعُرَةِ الجَبَلِ، والعُرَاعِرُ مِنَ الإِبِل: السَّمِينُ يُقَال: جَزُورٌ عُرَاعِرٌ: أَي سَمِينَةٌ.
وعُرَاعِرٌ: موضع يُجْلَب منه المِلْحُ ومنه: مِلْحٌ عُرَاعِرِيّ. قال النابغة:
زَيْدُ بنٌ زَيْدٍ حاضِرٌ بعُرَاعِرٍ *** وعَلى كُنَيْبٍ مالِكُ بنُ حِمَارِ
قلتُ: وهو ماءٌ لكَلْب بناحيَةِ الشام، وآخَرُ بعَدَنَةَ في شَمال الشَّرَبَّةِ.
وعُرْعُرَةُ الجَبَل، والسَّنَامِ، وكلِّ شَيْءٍ، بالضَّمّ: رَأْسُهُ ومُعْظَمُه، في التهذيب: عُرْعُرَةُ الجَبَلِ: غِلَظُهُ ومُعْظَمُه وأَعْلاهُ. وفي الحديث: كتبَ يَحْيَى بنُ يَعْمرَ إِلى الحَجّاج: «إِنَّا نَزَلْنَا بعُرْعُرةِ الجَبَل والعَدُوُّ بحَضيضه» فعُرْعُرَتُه: رَأْسُه.
وحَضِيضُه: أَسْفَلُه. وفي حديث عُمَرَ بنِ عَبْد العَزِيز: أَنّه قال: «أَجْمِلوا في الَّطلَب، فلو أَنّ رِزْقَ أَحَدِكُمْ في عُرْعُرَةِ جَبَلٍ أَو حَضِيضِ أَرْضٍ لأَتاه قَبْلَ أَنْ يَمُوت». وعُرْعُرَةُ كُلِّ شَيْءٍ: رَأْسُه وأَعْلاه.
وعَرْعَرَ عَيْنَهُ: فَقَأَهَا، وقيل: اقْتَلَعَها، عن اللّحيانيّ.
وعَرْعَرَ صِمَامَ القَارُورَةِ عَرْعَرَةً: اسْتَخْرَجَه وحَرَّكَه وفَرَّقَه، قال ابنُ الأَعرابيّ: عَرْعَرْتُ القَارُورَةَ: إِذا نَزَعَتْ منها سِدَادَها. ويُقَال، إِذَا سَدَدْتها. وسِدَادُها: عُرْعُرُها.
ووِكاؤُهَا: عَرْعَرَتُها. وفي التَّهذيب: غَرْغَرَ رأْسَ القارُورة، بالغين المعجمة.
والعَرْعَرُ، كجَعْفَر: شَجَرُ السَّرْوِ، فارِسِيَّةٌ، وقيل: هو السَّاسَمُ، ويُقال له: الشِّيزَى، ويُقَال: هو شَجرٌ يُعْمَلُ به القَطِرَانُ، ويُقال: شَجَرٌ عظيمٌ جَبَلِيّ لا يزال أَخْضَرَ، يُسَمِّيه الفُرْسُ السَّرْوَ. وقال أَبو حَنِيفَة: لِلْعَرْعَرِ ثَمرٌ أَمْثالُ النَّبْقِ، يَبْدُو أَخْضرَ، ثم يَبْيَضُّ، ثم يَسْوَدُّ حتَّى يكونَ كالحُمَمِ، ويَحْلُو فيُؤْكَل، واحِدَتُه عَرْعَرَةٌ، وبه سُمِّيَ الرَّجلُ.
وعَرْعَرٌ: موضع، بل عِدَّةُ مَواضِعَ نُجْدِيَّة وغيرها. وعَرْعَرٌ: وَادٍ بنَعْمَانَ، قُرْبَ عَرَفَةَ. قال امرُؤ القَيْس:
سَمَالَكَ شَوْقٌ بَعْدَ أَنْ كانَ أَقْصَرَا *** وحَلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ ظَبْيٍ فَعَرْعَرَا
ويُرْوَى: بَطْنَ قَوّ.
والعَرْعَرَةُ، بهاءٍ: سِدَادُ القَارُورَةِ، ويضَم، حكاه الصاغانيّ ويقال: العَرْعَرَة، بالفَتْح: وِكَاءُ القارُورَةِ، والعُرْعُرُ، بالضَّمْ: سِدَادُها، وقد تَقَدّم. والعَرْعَرَةُ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ من الإِنْسانِ. والعَرْعَرَةُ: التّحْرِيكُ والزَّعْزَعَةُ، وقال يعني قارُورَةً صَفْرَاءَ من الطِّيبِ:
وصَفْرَاءَ في وَكْرَيْنِ عَرْعَرْتُ رَأْسَها *** لأُبْلِي إِذَا فارَقْتُ في صاحِبي عُذْرَا
والعَرْعَرَة: لُعْبَةٌ للصِّبْيَان، كعَرْعَارِ، مبنيةً على الكسر، وهو مَعْدَولٌ عن عَرْعَرَة، مثل قَرْقَارِ من قَرْقَرة. قال النابغة:
يَدْعُو وَلِيدُهم بها عَرْعَارِ
لأَنّ الصَّبيّ إِذَا لم يَجِدْ أَحَدًا رَفَع صَوْتَه فقال: عَرْعَارِ، فإِذَا سَمِعُوه خَرَجُوا إِليه فلَعِبُوا تلك اللّعْبةَ. قال ابنُ سِيدَه: وهذا عند سيبويه من بَنَات الأَرْبَعَة، وهو عندي نادِر؟، لأَنّ فَعَالِ إِنّمَا عُدِلَت عن أَفْعَلَ في الثُلاثِيّ ومَكَّنَ غيرُه عَرْعَار في الاسْمِيَّة، فقالوا: سَمِعْتُ عَرْعارَ الصِّبيْانِ؛ أَي اخْتِلاطَ أَصْواتِهم. وأَدْخَلَ أَبو عُبَيْدَةَ عليه الأَلْفَ واللام وأَجْرَاهُ كُرَاعُ مُجْرَى زَيْنَبَ وسُعَادَ.
والعُرْعُرَةُ، بالضَّمّ: ما بَيْنَ المَنْخِرَيْن، نقله الصاغانيّ، وقال غَيْرُه: هو أَعْلى الأَنْف. والعُرْعُرَةُ: الرَّكَبُ؛ أَي فَرْجُ المرأَةِ، نقله الصاغانيّ.
ورَكِبَ عُرْعُرَهُ: ساءَ خُلُقُه، مُقْتَضى سِياقِه أَنْ يَكُونَ بالضّمّ، ومثلُه في اللسان، وهو كما يُقَال: رَكِبَ رَأْسَهُ.
وقال أَبو عَمْرٍو في قَوْلِ الشاعر يذكر امْرَأَةً:
ورَكِبَتْ صَوْمَها وعُرْعُرَها
أَي ساءَ خُلُقُها. وقال غَيْرُه: معناه رَكِبَت القَذِرَ من أَفْعَالِها. وأَرادَ بعُرْعُرِهَا عُرَّتَها، وكذلِك الصَّوْمُ عُرَّةُ النَّعَامِ.
وفي التكملة: وحَكَى ابنُ الأَعْرابيّ: رَكِبَ عَرْعَرَهُ، إِذا ساءَ خُلُقُهُ هكذا قال بفَتْحِ العَيْن، فإِذا كانَ كذا فالمُرَادُ الشَّجَر.
وعَرَارِ، كقَطَام: اسمُ بَقَرَةٍ، ومنه المَثَلُ: «باءَتْ عَرَارِ بكَحْلٍ». وهُمَا بَقَرَتانِ انْتطَحَتا فماتَتا جَمِيعًا؛ أَي باءَتْ هذِه بهذِهِ. يُضْرَبُ هذا لِكُلِّ مُسْتَوِيَيْنِ، قال ابنُ عَنْقَاءَ الفَزَارِيُّ فِيمَنْ أَجْرَاهُمَا:
باءَتْ عَرَارٌ بكَحْلٍ والرِّفَاقُ معًا *** فلا تَمَنَّوْا أَمانِيَّ الأَباطِيلِ
وفي التهذيب: وقال الآخَرُ فيما لم يُجْرِهِما:
باءَتْ عَرَارِ بكحْلَ فيما بَيْنَنا *** والحَقُّ يَعْرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ
قال: وكَحْل وعَرارِ ثَوْرٌ وبَقَرَةٌ، كانا فِي سِبْطَيْنِ من بَنِي إِسْرَائِيلَ، فعُقِرَ كَحْلٍ، وعُقِرَتْ به عَرَارِ، فوقَعَتْ حَرْبٌ بينهما حتى تَفَانَوْا، فَضُرِبَا مَثَلًا في التَّسَاوِي.
وفي كِتَابِ التَّأْنِيث والتَّذْكير لابنِ السِّكِّيت: العَارُورَةُ: الرَّجُلُ المَشْؤُومُ، والعَارُورَةُ: الجَمَلُ لا سَنامَ لَه. وفي هذا الباب: رَجُلٌ صارُورَةٌ، وقد تَقَدَّم.
والعَرَّاءُ: الجارِيَةُ العَذْرَاءُ.
والعُرَّى، وكعُزَّى، بالزَّاي: المَعِيبَةُ من النِّسَاءِ، أَوْرَدَه الصاغانيُّ وابنُ مَنْظُور. وقال الصاغانيّ في التكملة: قولُ الجَوْهَرِيِّ في العَرَارَةِ: إِنّهُ اسمُ فَرَسٍ، قال الكَلْحَبَةُ العَرِينِيّ:
تسائِلُني بَنُو جُشَمَ بنِ بَكْرٍ *** أَغَرّاءُ العَرَارَةُ أَم بَهيمُ؟
تَصْحِيفٌ، وإِنّمَا اسْمُها العَرَادَة، بالدَّال المُهْمَلَة، وكذا في الشِّعْر الَّذِي ذَكَرَه، ولعلَّه أَخَذه من ابنِ فارسٍ اللُّغَويّ في المُجْمَلِ، لأَنَّه هكَذا وَقَعَ فيه، وقد ذكَرَهُ في الدّال المُهْمَلَةِ على الصِّحَّةِ، قُلْتٌ: فهذا نَصُّ الصاغانِيّ مع تَغْيِير يَسِيرٍ، وقد سَبَقَهُ ابنُ بَرِّيّ في حَواشِي الصّحاح. والّذِي في اللّسَان: والعَرَارَةُ: الحَنْوَةُ التي يَتَيمَّن بها الفُرْسُ، قال أَبو مَنْصُورٍ: وأُرَى أَنَّ فَرَسَ كَلْحَبَة اليَرْبُوعِيّ سُمِّيَتْ عَرَارَةً بِهَا.
واسْمُ كَلْحَبَةَ هُبَيْرَةُ بنُ عَبْدِ مَنَاف. وهو القائلُ في فَرَسِه عَرَارَة هذه:
تُسَائِلُنِي بَنُو جُشَمَ بن بَكْرٍ *** أَغَراءُ العَرَارَةُ أُم بَهِيمُ؟
كُمَيْتٌ غَيْرُ مُحْلِفَةٍ ولكِنْ *** كَلوْنِ الصِّرْفِ عُلَّ بِهِ الأَدِيمُ
ومَعْنَى قوله: تُسَائِلُني: أَي على جِهَةِ الاسْتِخْبار، وعندهُمْ منها أَخبارٌ، وذلك، أَنَّ بَنِي جُشَمَ أَغارَتْ على بَلِيٍّ وأَخَذُوا أَمْوَالَهم، وكان الكَلْحَبَة [نازِلًا] عندهم، فقاتَلَ هو وابْنُه حَتَّى رَدُّوا أَمْوَالَ بَلِيٍّ عَلَيْهِم، وقُتِلَ ابنُهُ. وقوله: كُمَيْتٌ غَيْرُ مُحْلِفَةٍ، الكُمَيْتُ المُحْلِفُ: هو الأَحَمُّ والأَحْوَى، وهما يَتَشَابَهَان في اللَّوْنِ حتى يَشُكَّ فِيهما البَصيرَانِ، فيَحْلِفُ أَنَّه كُمَيتٌ أَحَمُّ، ويَحْلِفُ الآخَرُ أَنّه كُمَيْتٌ أَحْوَى، فيَقُول الكَلْحَبَةُ: فَرَسي هذه ليست من هذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ، ولكنّها كَلَوْنِ الصِّرْف، وهو صِبْغٌ أَحْمَرُ تُصْبَغُ به الجُلُود. انتهى. قلتُ وقرأْتُ في «أَنْسَاب الخَيْل» لابن الكَلْبِيّ ما نَصُّه: ومنها العَرَادَة: فَرَسُ كَلْحَبَة، وهو هُبَيْرَةُ بنُ عَبْدِ مَنَافٍ اليَرْبُوعِيُّ، وذلك أَنّه أَغَارَ على خَزِيمةَ بن طارِق، فأَسَرَه أَسِيدُ بنُ حِناءَة أَخُو بَنِي سَلِيطِ بنِ يَرْبُوع، وأُنَيْف بنُ جَبَلَةَ الضَّبِّيُّ، وكان أُنَيْفٌ نَقِيلَا في بَنِي يَرْبُوع. فاخْتَصَما فيه، فجَعَلا بينهما رَجُلًا من بني حُمَيْرَى بن رِيَاحِ بنِ يَرْبُوعِ يُقَال له الحارث بنُ قُرّانَ، وكانَت أُمُّهُ ضَبِّيَّةً. فحَكَمَ أَنّ ناحِيَةَ حَزيمة لأُنَيْفِ بن جَبَلَةَ، وعلى أُنَيْفٍ لأَسِيدِ بنِ حِنّاءَةَ مِائة من الإِبل. فقال في ذلك كَلْحَبَةُ اليَرْبُوعِيّ:
فإِنْ تَنْجَ منها يا خَزِيمُ بنَ طارِق *** فقد تَرَكَتْ ما خَلْفَ ظَهْرِك بَلْقَعَا
إِذَا المَرْءُ لم يَغْشَ الكَرِيهةَ أَوْشَكَتْ *** حِبَالُ المَنَايَا بالفَتَى أَنْ تَقطَعَا
فأَدْرَكَ إِبْطَاءَ العِرَادَةِ صَنْعَتِي *** فقد تَرَكَتْنِي من خَزِيمَةَ إِصْبَعَا
وقال:
تُسَائِلُني بَنُو جُشَمَ بنِ بَكْرٍ *** أَغَرَّاءُ العَرَادَةُ أَمْ بَهِيمُ
هِيَ الفَرسُ التي كَرَّتْ عليكُمْ *** عَلَيْهَا الشَّيْخُ، كالأَسَدِ، الظَّلِيمُ
وعارَرْت: تَمَكَّثْتُ، نقله الصاغانيّ ولم يَعْزُه، وهو قولُ الأَخْفَش وقرأْتُ في شَرْح ديوان الحَمَاسَة، في شرح قول أَبي خِرَاشٍ الهُذَلِيّ:
فعارَيْتُ شَيْئًا والرِّدَاءُ كأَنَّما *** يُزَعْزِعُهُ وِرْدٌ من المُومِ مُرْدِمُ
قال أَبو سَعِيدٍ السُكَّرِيّ شارحُ الديوان: ويُرْوَى: فعارَرْت، ومعناه تَحَرَّنْتُ قليلًا، ومن قال: عارَيْت؛ أَي انْصَرَفْتُ قليلًا، والوِرْدُ: البِرْسَامُ. وقال الأَخْفَش: عارَرْتُ؛ تَلبَّثتُ شيئًا، يقال: عارَّ الرَّجُلُ، إِذا انْتَبَه.
ومَعَرَّةُ، بفَتْحِ وتَشْدِيد الراءِ: د، بَيْنَ حَمَاةَ وحَلَبَ، وهي بلدُ الفُسْتُقِ، وتُضَاف إِلى النُّعْمَان بن بَشِير الأَنْصَاريّ، اجتازَ بها فماتَ له بها وَلَدٌ، فأَقَام أَيّامًا حَزِينًا، فنُسِبَت إِليه، كذا ذكره البَلاذُرِيّ في كتاب البلْدان. نقله الفَرضيّ، نقله الحافظ. وذُكِرَ ذلك في «ن موضع م» وسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ الله تعالَى.
قلتُ: وقد نُسِبَ إِلى هذه المَدِينة أَبو العَلاءِ أَحْمَدُ ابن [عبد الله] بن سُلَيْمَانَ الأَدِيبُ التَّنُوخِيُّ، الذي استَشْهَدَ بقوله المصنِّفُ في خُطْبَةِ هذا الكتاب، وأَقارِبُه. ومَيْمُونُ بن أَحمدَ المَعَرِّيّ، عن يُوسُفَ بنِ سَعِيدِ بن مُسْلم، وآخَرُون.
ومَعَرَّةُ عَلْيَاءَ: مَحَلَّةٌ بها. ومَعَرَّةُ: كُورَةٌ على مَرْحَلَة من حَلَب، وهي مَعَرَّةُ مَصْرِينَ. ومَعَرَّةُ: قرية، قُرْبَ كَفِرْطابَ.
ومَعَرَّةُ: قرية قُرْبَ أَفامِيَةَ.
ومَعَرُّ، بلا هاءٍ، وضبَطه الحافظ في التَّبْصِير بالتَّخْفِيف: إِحْدَى عَشْرَةَ قَرْيَةً، كلُّهَا بالشّام، وقال الحافِظُ: كُلُّهَا بأَعْمَالِ حَماةَ، ما عَلِمْتُ أَحدًا يُنسَبُ إِليْهَا.
ومَعَرِّينُ، بزيادة ياءٍ ونون؛ د، بنَوَاحِي نَصِيبِينَ.
ومَعَرِّينُ: قرية، بشَيْزَرَ، و: قرية، أُخْرَى بحَمَاةَ، وبجَبَلِهَا مَشْهَدٌ يُزارُ، ومَعَرِّينُ أَيضًا: قرية شَمالِيَّ عَزّازٍ، بالقُرْبِ من الرَّقَّةِ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
العُرَّةُ، بالضَّمّ: ما يَعْتَرِي الإِنْسَانَ من الجُنُونِ قال امرُؤ القَيْسِ:
ويَخْضِدُ في الآرِيِّ حَتَّى كأَنَّمَا *** بِه عُرّةٌ أَو طائِفٌ غيرُ مُعْقِبِ
وعارَّه مُعَارَّةً وعِرَارًا: قاتَلَهُ وآذَاهُ. وقال أَبو عَمْرو: العِرَارُ: القِتَالُ. يقال: عارَرْتُه، إِذَا قَاتَلْتَه.
ومن جُمْلَة مَعَانِي المَعَرَّة: الشِّدّةُ، والمَسَبَّةُ، والأَمْرُ القَبِيحُ، والمَكْرُوهُ.
وما عَرَّنا بِكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ؟: ما جاءَنَا بك.
وفي المَثَلِ: «عُرَّ فَقْرُهُ بفِيهِ لَعَلَّه يُلْهِيهِ» يقولُ: دَعْهُ ونَفْسَهُ لا تُعِنْهُ لعَلّ ذلك يَشْغَلُه عَمّا يَصْنَعُ. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: معناه: خَلِّه وغَيَّه إِذا لمْ يُطِعْكَ في الإِرشاد فَلَعَلَّه يَقَعُ في هَلَكَة تُلْهِيه وتَشْغَلُه عَنْك.
وعُرَّا الوادِي، بالضَّمّ: شاطِئاهُ.
ونَخْلَةٌ مَعْرورةٌ: مُزَبَّلة بالعُرَّة.
وفلان عُرَّةٌ، وعارُورٌ، وعارُورَةٌ؛ أَي قَذِرٌ.
والعُرَّةُ: الأُبْنَةُ في العَصَا، والجَمْع عُرَرٌ.
والعَرَرُ، بالتَّحْرِيك: صِغَرُ أَلْيَةِ الكَبْشِ. وقيل: كَبْشٌ أَعَرُّ: لا أَلْيَةَ له، ونَعْجَةٌ عَرّاءُ.
ويقال: لَقِيتُ مِنْهُ شَرًّا وعَرًّا، وأَنْتَ شَرٌّ مِنْهُ وأَعَرُّ.
وعَرَّهُ بِشَرٍّ: ظَلَمَه وسَبَّهُ وأَخَذَ مالَهُ، فهو مَعْرُورٌ.
وقال ابن الأَعْرَابِيّ: عُرَّ فُلانٌ: إِذَا لُقِّبَ بلَقَب يَعُرُّه.
وعَرَّه يَعُرَّه، إِذا لَقَّبَهُ بما يَشِينُهُ.
وعَرَّ يَعُرُّ، إِذا صادف نَوْبَتَه في المَاءِ وغَيْرِه.
وعُرَّةُ الجَرَبِ، وعُرَّةُ النّسَاءِ: فضِيحَتُهُنّ وسُوءُ عِشْرَتِهِن.
وقال إِسحاقُ: قلتُ لأَحْمَدَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ ذَكر العُرَّة.
فقال: أَكْرَهُ بَيْعَهُ وشِرَاءَهُ. فقال أَحْمَدُ، أَحْسَنَ، وقال ابنُ راهُوَيْه كما قالَ.
وفي حديث: «لَعَنَ الله بائعَ العُرَّةِ ومُشْتَرِيهَا.
وفي حديثِ طاوُوس: «إِذا اسْتَعَرَّ عَلَيْكُم شيءٌ من الغَنَم»: أَي نَدَّ واسْتَعْصَى، من العَرارَةِ، وهي الشِّدَّةُ وسُوءُ الخُلُقِ.
والعَرَاعِرُ: أَطْرَافُ الأَسْنِمَةِ، في قول الكُمَيْت:
سَلَفَيْ نِزَارٍ إِذْ تَحَوَّ *** لَتِ المَنَاسِمُ كالعَرَاعِرْ
والعَرَارَة: الجَرَادَةُ قيل: وبها سُمِّيَتْ فَرَسُ الكَلْجَبَة، قال بِشْرٌ:
عَرَارَةَ هَبْوةٍ فِيها اصْفِرَارُ
ويقال: هو في عَرَارَةِ خَيْرٍ؛ أَي في أَصْلِ خَيْر.
وقال الفَرّاءُ: عَرَرْتُ بِكَ حاجَتِي: أَنْزَلتُهَا.
وعَرَارٌ، كسَحَاب: اسمُ رَجُل، وهو عَرَارُ بنُ عَمْرِو بنِ شَأْسِ الأَسَديُّ، قال فيه أَبوه:
وإِنَّ عَرَارًا إِنْ يَكُنْ غَيْرَ واضح *** فإِنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذَا المَنْكِبِ العَمَمْ
والعَرَارَةُ، بالفتح: مَوْضِع.
وعُرَّ بَعِيرَكَ: أَي أَدْنِهِ إِلى المَاءِ.
وعِرَارُ بنُ سُوَيْدٍ الكُوفِيّ، ككِتَاب، شيخٌ لحَمّادِ بنِ سَلَمَةَ: وعِرَارُ بنُ عبدِ اللهِ اليَامِيُّ شَيْخٌ لشُجَاع بنِ الوَلِيد.
والعَلاءُ بنُ عِرَارٍ، عن ابْنِ عُمرَ. وعائشةُ بنتُ عِرَارٍ، عن مُعاذَةَ العَدَوِيّةِ. ولَيْثُ بنُ عِرَارٍ، عن عُمَرَ بن عبد العزيز.
والحَكَمُ بن عُرْعُرَةَ النُّمَيْرِيّ، من أَبْصَرِ الناسِ في الخَيْل، وفَرَسُه الجَمُوم.
وعَرْعَرَةُ بنُ البِرِنْدِ، ضَعَّفَه ابنُ المَدِينِيّ.
وعِرَارُ بنُ عِجْلِ بن عَبْدِ الكَريم، من آلِ قَتَادَةَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
60-تاج العروس (عز عزز عزعز)
[عزز]: عَزَّ الرَّجلُ يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً، بكَسْرِهما، وعَزَازَةً، بالفَتْح: صار عَزِيزًا، كتَعَزَّزَ، ومنه الحديث قال لعائشة: «هل تَدْرِين لمَ كانَ قَوْمُك رَفَعُوا بابَ الكَعْبَةِ، قالت: لا، قال: تَعَزُّزًا لا يدخُلُهَا إِلاَّ مَنْ أَرادُوا»؛ أَي تَكَبُّرًا وتَشدُّدًا على الناس، وجاءَ في بعض نُسَخ مُسْلِم: تَعَزُّرًا، بالرّاءِ بعد الزّاي من التَّعْزِير وهو التَّوقِيرُ. وقال أَبو زَيْد: عَزَّ الرَّجل يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً، إِذ قَوِيَ بعد ذِلَّةٍ وصار عَزِيزًا. وأَعَزّه الله تعالى: جَعَلَه عَزِيزًا وعَزَّزَه تَعْزِيزًا كذلك، ويقَال: عَزَزْتُ القَوْمَ وأَعزَزْتُهم وعَزَّزْتُهُم قَوَّيتُهُم وشَدَّدْتُهُمْ وفي التَّنزِيل: فَعَزَّزْنا {بِثالِثٍ} أَي قَوَّيْنَا وشَدّدَنا» وقد قُرِئَت: فعَزَزْنَا بالتَّخفِيفِ كقولك: شَدَدنا. والعِزّ في الأَصْل القُوَّةُ والشِّدّة والغَلَبَة والرِّفعة والامْتِنَاعُ. وفي البَصَائِر: العِزَّةُ: حالةٌ مانِعَةٌ للإِنْسَان من أَن يُغْلَبَ، وهي يُمْدَح بها تَارَةً، ويُذَمّ بها تَارَةً، كعِزَّة الكُفَّار {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي} عِزَّةٍ {وَشِقاقٍ} ووَجْهُ ذلك أَنَّ العِزَّةُ لله ولِرسُولِه، وهي الدّائِمَة البَاقِيَة، وهي العِزّة الحَقِيقِيّة، والعِزّةُ التي هي للكُفّار هي التَّعَزُّز، وفي الحَقِيقَة ذُلّ لأَنّه تَشَبُّع بما لم يُعْطَه، وقد تُسْتَعَار العِزّة للحَمِيَّة والأَنَفَة المَذْمُومة، وذلِك في قَوْله تَعَالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ} الْعِزَّةُ (بِالْإِثْمِ).وعَزَّ الشّيْءُ يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً وعَزَازَة: قَلَّ فلا يَكَادُ يُوجَد، وهذا جامِعٌ لكَلّ شَيْء، فهو عَزِيزٌ قَلِيلٌ. وفي البَصَائِر: هو اعْتِبَار بما قِيل: كُلّ مَوْجُودٍ مَمْلُولَ وكُل مَفْقُودٍ مَطْلُوبٌ، الجمع: عِزَازٌ، بالكَسْرِ، وأَعِزَّةٌ وأَعِزَّاءُ. قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَعِزَّةٍ {عَلَى الْكافِرِينَ}؛ أَي جَانِبهُم غَلِيظٌ على الكَافِرِين، لَيّنٌ على المُؤْمِنِين، وقال الشاعر:
بِيضُ الوُجُوهِ كَريمَةٌ أَحْسَابُهُم *** في كلِّ نائِبَةٍ عِزَازُ الآنُفِ
ولا يُقال عُزَزَاءُ، كَراهِيَةَ التَّضْعِيف، وامْتِنَاع هذا مُطَّرِد في هذا النَّحْو المُضَاعَف. قال الأَزْهَرِيّ: يَتَذَلَّلُون للمُؤْمِنين وإِن كَانُوا في شَرَفِ الأَحْسَاب دُونَهُم.
وعَزَّ المَاءُ يَعِزُّ، بالكَسْر؛ أَي سَالَ وكَذلك هَمَى وفَزَّ وفَضّ. وعَزّت القَرْحَةُ تَعِزّ، بالكَسْر، إِذا سَالَ مَا فِيهَا ويقال: عَزَّ عَلَيَّ أَن تَفْعَلَ كذا، وعَزّ عليّ ذلِك؛ أَي حَقَّ واشْتَدّ وشَقّ، وكذا قَولهم: عَزّ عَلَيَّ أَن أَسوءَك؛ أَي اشتَدّ، كما في الأَسَاس، يَعِزّ ويَعَزّ، كيَقِلّ ويَمَلّ؛ أَي بالكسر وبالفَتْح، يقال: عَزّ يَعَزُّ، بالفَتْح، إِذا اشْتَدَّ.
وعَزَزْتُ عليه أَعِزّ، من حَدّ ضَرَب؛ أَي كَرُمْت عليه، نقله الجوهريّ.
وأُعْزِزْتُ بما أَصابَكَ، بالضّمّ؛ أَي مَبْنِيًّا للمَجْهُول؛ أَي عَظُم عَلَيّ. ويقال: أَعزِزْ عَلَيَّ بذلك؛ أَي أَعْظِمْ، ومعناه عَظُمَ عَلَيّ، ومنه حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ الله عنه لمَّا رَأَى طَلْحَةَ قَتِيلًا قال: «أَعزِزْ عَلَيَّ أَبا محمَّد أَنْ أَرَاك مُجَدَّلًا تحتَ نُجُومِ السَّمَاءِ».
والعَزُوزُ، كصَبور: النّاقَةُ الضَّيِّقَةُ الإِحْلِيل لا تَدِرّ حتى تُحلَب بِجهْد، وكذلك الشَّاة، الجمع: عُزُزٌ، بضمَّتَيْن، كصَبُور وصُبُر، ويقولون: ما العَزُوز كالفَتُوح، ولا الجَرُور كالمَتُوح؛ أَي لَيْسَت الضَّيِّقَة الإِحْلِيلِ كالواسِعَتِه، والبَعِيدةُ القَعْرِ كالقَرِيبَتِه، وقد عَزَّتْ تَعُزُّ، كمَدَّ يَمُدُّ، عُزُوزًا، كقُعُود، وعِزَازًا، بالكَسْر، وعَزُزَت، ككَرُمَت، قَال ابنَ الأَعْرَابِيّ: عَزُزَت، الشَّاةُ والنَّاقَةُ عُزُزًا شَدِيدًا، بضَمَّتَيْن، إِذا ضاقَ خَلِفُهَا ولها لَبَنٌ كَثِيرٌ. قال الأَزهَرِيُّ: أَظهَر التَّضْعِيف في عَزُزَتْ، ومِثْلُه قَلِيل، وقد أَعَزَّت، إِذا كانَتْ عَزُوزًا، وكذلِك تَعَزَّزَت، والاسم العَزَز والعَزَازُ.
وعَزّه يَعُزّه عَزًّا كمَدَّه: قَهَرَه وغَلَبهَ في المُعَازَّةِ؛ أَي المُحَاجَّةِ. قال الشاعِرُ يَصِف جَمَلًا:
يَعُزُّ على الطَّرِيق بمَنْكِبَيْه *** كما ابتَرَكَ الخَلِيعُ على القِدَاحِ
أَي يَغْلِب هذا الجَمَلُ الإِبلَ على لُزُوم الطَّرِيقِ، فشَبَّهَ حِرْصَه عليه وإِلحَاحَه في السَّيْر بِحِرْص هذا الخَلِيعِ على الضَّرْب بالقِدَاحِ لعلّه يَسْتَرْجِع بعضَ ما ذهب من مالِه، والخَلِيع: المَخْلُوع المَقْمُور مالَه. والاسم العِزَّة، بالكَسْر، وهي القُوَّة والغَلَبة، كعَزْعَزَه عَزْعَزَةً. وعَزَّه في الخِطَابِ؛ أَي غَلَبَه في الاحْتِجَاج، وقيل: غَالَبَه كعَازَّه مُعَازَّةً، وقوله تعالى: {وَ} عَزَّنِي {فِي الْخِطابِ} أَي علبنِي، وقُرِئَ: وعَازَّنِي؛ أَي غَالَبَنِي، أَو عَزَّنِي: صَارَ أَعزَّ مِنّي في المُخَاطَبة والمُحَاجَّة، ويقال: عَازَّني فعَزَزْتُه؛ أَي غَالَبَنِي فغَلَبْتُه، وضَمّ العَيْنِ في مثل هذا مُطَّرِدٌ ولَيْس في كلّ شيْءٍ يُقَال فاعَلَني فَفعَلْتُه.
والعَزّة، بالفَتْح: بِنْتُ الظَّبْيَة، وقال الراجز:
هَانَ على عَزَّةَ بِنْتِ الشَّحّاجْ *** مَهْوَى جِمَالِ مالِكٍ في الإِدْلَاجْ
وبهَا سُمِّيَت المَرْأَة عَزَّة، وهي بنتُ جَمِيل الكِنانِيّة صاحِبة كُثَيِّر، وجَمِيلٌ هو أَبو بَصْرة الغِفَارِيّ.
والعَزَازُ، كسَحَاب: الأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وفي كِتَابِه صلى الله عليه وسلم لوَفْدِ هَمْدانَ: «علَى أَنّ لهم عَزَازَها» وهو ما صَلُبَ من الأَرْض وخَشُنَ واشتَدَّ، وإِنَّمَا يَكُون في أَطْرافهَا، ويقال: العَزَاز: المَكَانُ الصُّلبُ السَّرِيعُ السَّيْلِ. قال ابنُ شُمَيْل: العَزَازُ: ما غَلُظَ من الأَرْض وأَسْرَعَ سَيْلُ مَطَرِه، يكونُ من القِيعَانِ والصَّحاصِح وأَسْنادِ الجِبَالِ والآكامِ وظُهُورِ القِفَافِ. قال العَجّاج:
من الصَّفَا العَاسِي ويَدْهَسْنَ الغَدَرْ *** عَزَازَهُ ويَهْتَمِرْن مَا انْهَمَرْ
وقال أَبو عَمرو في مَسايِلِ الوَادِي: أَبعَدُهَا سَيْلًا الرَّحَبَةُ، ثمّ الشُّعْبَةُ، ثمّ التَّلْعَة، ثمّ المِذْنَبُ ثمّ العَزَازَةُ. وفي الحَدِيث «أَنَّه نَهَى عن البَوْل في العَزَاز» لئلًا يَتَرشَّشَ عليه.
وفي حَدِيث الحَجَّاج في صِفَة الغَيْث: وأَسَالت العَزَازَ.
وأَعَزَّ الرَّجلُ إِعْزَازًا: وَقَعَ فيها؛ أَي في أَرْضٍ عَزَازٍ وسارَ فيها، كما يُقَال أَسْهَلَ، إِذا وَقَع في أَرْضٍ سَهْلَةٍ.
وعن أَبِي زَيد: أَعَزَّ فُلانًا: أَكْرمَه وأَحَبَّه، وقد ضَعَّفَ شَمِرٌ هذِه الكلمةَ عن أَبي زَيْد.
وعن أَبي زَيْد أَيضًا: أَعَزَّت الشَّاةُ من المَعْزِ والضَّأْن، إِذا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وعَظُمَ ضَرْعُهَا، قال: وكذلِك أَرْأَتْ ورَمَّدَتْ واضْرَعَت، بمعنًى وَاحِدٍ. وأَعَزَّت البَقَرَةُ إِذا عَسُرَ حَمْلُهَا وقال ابنُ القَطَّاع: ساءَ حَمْلُهَا.
وعَزَاز، كسَحَاب: موضع باليَمَن. وعَزَاز: بلد بالرِّقّة قُرْبَ حَلَبَ شَمَاليَّها. قالوا: إِذا تُرِكَ تُرَابُها على عَقْربٍ قَتَلَهَا بالخَوَاصّ، فإِن أَرضَها مُطلْسمه، وقد نسِب إِليها الشِّهَابُ العَزَازِيّ أَحدُ الشّعراءِ المُجِيدِين، كان بعدَ السَّبْعِمائَة، وقد ذَكَرَه الحَافِظُ في التَّبْصِير.
والعَزَّاءُ، بالمدّ: السَّنَةُ الشَّدِيدَةُ، قال:
ويَعْبِطُ الكُومَ في العَزَّاءِ إِن طُرِقَا
ويقال: هُوَ مِعْزازُ المَرَضِ، كمِحْرَاب؛ أَي شَدِيدُه.
والعُزَّى، بالضَّمّ: العَزِيزَةُ من النِّساءِ وقال ابنُ سِيدَه: العُزَّى تَأْنِيث الأَعَزّ، بمنزلة الفُضْلَى من الأَفْضَل، فإِن كان ذلك فاللامُ في العُزَّى ليست بزائِدَة، بل هي فِيهِ على حَدّ اللاّم في الحَارِث والعَبَّاس، قال: والوَجْهُ أَن تكُون زائِدَةً، لأَنَّا لم نَسْمَع في الصِّفَات العُزَّى، كما سَمِعْنَا فيها الصُّغْرَى والكُبْرَى.
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ} الْعُزّى جاءَ في التَّفْسِير أَنّ الَّلاتَ صَنَمٌ كان لِثَقِيف، والعُزَّى: صَنَمٌ كان لُقرَيْش وبَنِي كِنَانَةَ، قال الشاعر:
أَمَا ودِمَاءٍ مَائِرَاتٍ تَخالُهَا *** على قُنَّةِ العُزَّى وبِالنَّسْرِ عَنْدَمَا
أَو العُزَّى: سَمُرَةٌ عَبدَتْهَا غَطَفانُ بنُ سَعْدِ بنِ قَيْس عَيْلان، أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَها منهم ظَالِمُ بنُ أَسعَد، فوقَ ذات عِرْق إِلى البُسْتَان بتِسْعَة أَميال، بالنَّخْلَة الشّامِية، بقرب مكّة، وقيل بالطَّائف، بَنَى عليها بَيْتًا وسَمَّاه بُسًّا، بالضَّمّ، وهو قَولُ ابنِ الكَلبِيّ، وقال غيره: اسمُه بُسّاءُ، بالمَدّ كما سَيَأْتِي، وأَقامُوا لها سَدَنَة مُضاهَاةً للكَعْبَة، وكانُوا يَسْمَعُون فيها الصَّوْتَ، فبَعَث إِليها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بنَ الوَلِيد رَضِيَ الله عنه عامَ الفَتْح، فهَدَم البَيْتَ، وقتل السادِنَ وأَحْرَقَ السَّمُرَةَ.
وقرَأْتُ في شَرْح دِيوانِ الهُذَلِيّين لأَبِي سَعِيد السُّكَّريّ ما نَصُّه: أَخبَرَ هِشَامُ بنُ الكَلبيّ عن أَبِيه عن أَبِي صَالِح، عن ابنِ عَبَّاس قال: كانت العُزَّى شَيْطَانةً تأْتي ثَلاثَ سَمُرَات ببَطْن نَخْلَة فلما افتَتَح النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بعَثَ خالدَ بنَ الوَلِيد فقال: ائْتِ بَطْنَ نَخْلَةَ، فإِنك تَجِدُ بها ثَلاثَ سَمُرَّاتٍ، فاعْضِد الأُولَى، فأَتَاهَا فعَضدَها، ثم أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: هل رأَيتَ شَيْئًا: قال: لا، قال: فاعْضِد الثَّانِيَة، فَأَتَاهَا فعَضَدَها، ثم أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأَيتَ شَيْئًا؟ قال: لا، قال: فَاعْضِد الثَّالِثَةَ. فأَتَاهَا، فإِذَا هو بزِنْجِيّة نَافِشَةٍ شَعرَهَا وَاضِعَةٍ يَدَيْهَا على عَاتِقها تَحْرِق بأَنْيَابها وخَلْفَها دُبَيّة السُّلَمِيّ وكان سادِنَها فَلَمَّا نظر إِلى خَالِد قال:
أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدّةً لا تُكَذِّبِي *** على خالدٍ أَلقِي الخِمَارَ وشَمِّرِي
فإِنَّكِ إِن لمْ تَقتُلي اليومَ خالِدًا *** فبُوئِي بذُلٍّ عاجِلٍ وتَنَصَّرِي
فقال خالدٌ:
يا عُزَّ كفُرانَكِ لا سُبْحَانَكِ *** إِني وجدتُ الله قد أَهَانَكِ
ثمّ ضَرَبَهَا ففَلقَ رأْسَها، فإِذا هي حُمَمَةٌ، ثمّ عَضَدَ السَّمُرَةَ وقَتَل دُبَيَّةَ السّادِنَ، ثمّ أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخبَرَه. فقال: تِلك العُزَّى ولا عُزَّى للعَرب بَعْدَهَا أَبدًا، أَمَا إِنّها لا تُعْبَد بعدَ اليومِ أَبدًا» قال: وكان سَدَنةُ العُزَّى بني شَيْبَانَ بن جَابر بنِ مُرَّةَ، من بني سُلَيم، وكان آخِرَ مَن سَدَنها منهم دُبَيّةُ بنُ حَرَميّ.
والعُزَيْزَى، مُصَغَّرًا مَقْصُورًا ويُمَدّ: طَرَفُ وَرِكِ الفَرَسِ، أَو ما بَيْن العَكْوَةِ والجَاعِرَة، وهما عُزَيْزَيَانِ، ومن مَدّ يقول: عُزَيْزَوَانِ وقِيل: العُزَيْزَوَانِ: عَصَبَتَانِ في أُصولِ الصَّلَوَيْن، فُصِلَتا من العَجْب وأَطرافِ الوَرِكَيْن: وقال أَبو مَالِك: العُزَيْزَى: عَصَبَةٌ رَقِيقةٌ مُركّبةٌ في الخَوْرَانِ إِلى الوَرِكِ، وأَنشد في صِفَةِ فَرَسٍ:
أُمِرَّت عُزَيْزاهُ ونِيطَتْ كُرُومُه *** إِلى كَفَلٍ رَابٍ وصُلْبٍ مُوَثَّقِ
المُرَادُ بالكُرُوم رأْسُ الفَخِد المُسْتَدِير كأَنّه جَوْزَةٌ.
وسَمّت العَرَبُ عِزّانَ، بالكَسْر، وأَعزَّ، وعَزَازَةَ، بالفَتْح، وعَزُّون، كحَمْدُون، وعَزِيزًا، كأَمِير، وعُزَيْزًا كزُبَيْر، وأَعَزُّ بنُ عُمَرَ بنِ مُحَمَّد السُّهْرَوَرْدِيّ البَكريّ، حدّثَ عن أَبي القاسم بنِ بَيَان وغَيرِه، مات سنة 557.
والأَعزُّ بنُ عَلِيّ بن المُظَفّر البَغْدَادِيّ الظَّهيْرِيّ، بفَتْح الظّاءِ المَنْقُوطة، أَبو المَكَارِم، رَوَى عن أَبي القَاسِم بن السَّمَرقَنْدِيّ، قيل اسمُه المُظَفّر، ووَلدُه أَبو الحَسَن عَليّ من شُيوخِ الدِّمياطيِّ، سَمِع أَباه أَبا المَكَارم المَذْكُور في سنة 83 وقد رأَيته في مُعْجَم شُيُوخِ الدِّمياطِيّ هكذا، وقد أَشَرْنَا إِليه في: ظَهْر. وأَبو نَصْر الأَعزّ بنُ فَضَائِل بن العُلَّيْق سَمِعَ شُهْدَة الكَاتِبَة، وعنه أُمّ عبد الله زَيْنَب بِنتُ الكَمَال وأَبُو الأَعزِّ قَرَاتَكِينُ، سَمِع أَبا محمّد الجَوهريّ، مُحَدِّثون.
قلْت: وفاتَه عبدُ الله بنُ أَعزّ، شيخٌ لأَبِي إِسحاقَ السَّبِيعِيّ، ذكره ابنُ مَاكُولَا. ويَحْيَى بنُ عبد الله بن أَعَزَّ، روى عن أَبي الوَقْت ذكَره ابنُ نُقْطَة. وأَعزّ بن كَرَم الحَرْبِيّ، عن يَحْيَى بن ثابت بن بُنْدار، وابنه عبد الرحمن، رَوَى عن عبدِ الله بن أَبي المَجْد الحَرْبِيّ، والحَسَنُ بنُ محمّد بنِ أَكْرَم بن أَعَزَّ الموسويّ، ذكره ابنُ سَلِيم. والأَعزُّ بن قَلاقِس، شاعِرُ الإِسْكَنْدَرِيّةِ، مَدَحَ السِّلَفيّ وسَمِع منه، واسمه نَصْر، وكُنْيَتُه أَبو الفُتُوح. والأَعزّ بنُ عبد السّيّد بن عبد الكريم السُّلَميّ، رَوَى عن أَبِي طَالِب بن يُوسف، وعُمَرُ بن الأَعَزّ بن عُمر، كتبَ عنه ابنُ نُقْطَة، والأَعزّ بنُ مَأْنُوس، ذكرَه المُصَنِّف في أَنس، وأَبُو الفَضَائِل أَحمدُ بنُ عبد الوهّاب بن خَلَف بن بَدْر ابن بِنْتِ الأَعزّ العلائِيّ، وُلِد بالقاهرة سنة 648 وتوفي سنة 699 والأَعزّ الذي نُسِب إِليه هو ابن شُكْر وَزِيرُ الملكِ الكامل.
وعَزَّانُ، بالفَتْح: حِصْنٌ على الفُراتِ، بل هي مَدِينَة كانت للزَّبَّاءِ، ولأُخْتِهَا أُخرَى يقال لها عَدَّانُ. وعَزّانُ خَبْتٍ.
وعَزَّانُ ذَخِرٍ، ككَتِف: مِن حُصُون اليَمَن. قلْت: هي من حصون تَعِزّ في جبل صَبِر، وتَعِزّ كتَقِلّ: قَاعِدَةُ اليَمَنِ، وهي مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ ذَاتُ أَسوارٍ وقُصَور، كانَتْ دَارَ مُلْكِ بَنِي أَيُّوبَ ثمّ بَنِي رَسُولٍ من بَعْدِهِم.
ويقال: عَزْعَزَ بالعَنْزِ فلَم تَتَعَزْعَزْ؛ أَي زَجَرَهَا فلم تَتَنَحَّ، وعَزْعَزْ زَجْرٌ لها، كذا في اللّسَان والتَّكْمِلَة.
واعْتَزَّ بفُلانٍ: عَدَّ نَفْسَه عَزِيزًا به، واعتَزّ به وتَعَزَّزَ، إِذا تَشَرَّفَ، ومنه المُعْتَزُّ بالله أَبو عبد الله مُحَمَّدُ بن المُتَوَكّل العَبّاسِيّ، وُلِدَ سنة 224 وبُويِعَ له سنة 252 وتُوُفِّي في رجب سنة 255 وابنه عَبْدُ الله بنُ المُعْتَزّ الشّاعِر المَشْهُور.
واستَعَزَّ عَلَيْه المَرَضُ، إِذا اشْتَدَّ عَليْه وغَلبَه، وكذلك استعَزّ به، كما في الأَسَاس، واستعَزَّ الله به: أَمَاتَه، واستَعَزَّ الرَّمْلُ: تَمَاسَكَ فلم يَنْهَلْ وعَزَّزَ المَطَرُ الأَرْضَ، وكذا عَزَّزَ المَطَرُ منها تَعْزِيزًا، إِذا لَبَّدَهَا وشَدَّدَهَا فلا تَسُوخُ فيها الأَرجُلُ، قال العَجّاج:
عَزَّزَ مِنْه وهو مُعْطِي الإِسْهَالْ *** ضَرْبُ السَّوارِي مَتْنَه بالتَّهْتَالْ
وعَزَوْزَى، كشرَوْرَى، وضَبَطَه الصَّاغَانِيّ بضَمّ الزّاي الأُولَى: موضع بين الحَرَمَيْن الشَّرِيفَيْن، فيما يقال، هكذا قاله الصاغَانِيّ. والمَعَزَّةُ: فَرَسُ الخَمْخَامِ بن حَمَلَةَ بن أَبي الأَسود.
وعِزّ، بالكَسْر: قَلْعَةٌ برُسْتَاقِ بَرْذَعَةَ، من نَوَاحِي أَرَّانَ.
والعِزّ أَيضًا؛ أَي بالكَسْر: المَطَرُ الشَّدِيدُ، وقيل: هو العَزِيز الكَثِير الذي لا يَمْتَنِع منه سَهْلٌ ولا جَبَل إِلاّ أَسَالَه.
والأَعزّ: العَزِيزُ، وبه فُسِّر قَوْلُه تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ} الْأَعَزُّ {مِنْهَا الْأَذَلَّ} أَي العَزِيزُ منها ذَلِيلًا. ويُقَال: مَلِكٌ أَعزّ وعَزِيزٌ بمَعْنًى وَاحِدٍ، قال الفرزدق:
إِنّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لنا *** بَيْتًا دعَائِمُه أَعَزُّ وأَطْوَلُ
اي عَزِيزةٌ طَوِيلَةٌ، وهو مثل قَوْلِه تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وإِنّمَا وَجّهَ ابنُ سِيدَه هذا على غَيْر المُفَاضَلَةِ، لأَن الّلام ومن مُتَعَاقِبَتَان، وليس قَوْلُهُم: الله أَكْبَر بحُجَّة، لأَنّه مَسْمُوع، وقد كَثُر استِعْمَاله على أَنّ هذا وُجِّه على كبِير أَيضًا.
والمَعْزُوزَةُ: الشَّدِيدَةُ. يُقَال: أَرض مَعْزُوزَةٌ [وعزازة قد لبدها المطر، وعززها. وقال أَبو حنيفة: العز المطر الكثير. والمعزوزة: الأَرض الممطورة، يُقال: أَرض مَعْزوزة] *: أَصابها عِزّ من المَطَر، وفي قَوْلِ المُصَنّف نَظَرٌ، فإِن الشَّدِيدَةَ والمَمْطُورَةَ كِلاهُمَا من صِفَةِ الأَرضِ، كما عَرفْت، فلا وَجْهَ لتَخْصِيصِ أَحَدِهما دُونَ الآخرِ، مع القُصُورِ في ذِكْر نَظَائِر الأُولَى، وهي العَزَازَة والعَزَّاءُ، كما نبّه عليه في المستدركات.
وأَبو بَكْر مُحَمَّدُ بنُ عُزَيْز، كَزُبَيْر، وقد أَغْفَل ضَبطَه قُصُورًا، فإِنّه لا يُعْتَمد هنا على الشُّهْرَة مع وُجود الاخْتِلافِ، العُزَيْزِيّ السِّجِسْتَانِيّ المُفَسِّر، مُؤَلّف غَرِيبِ القُرْآن والمُتَوفَّى سنة 330 والبَغَادِدَةُ؛ أَي البَغْدَادِيُّون، يَقُولُون هو مُحَمَّدُ بنُ عُزَيْز، بالرّاءِ، ومنهُم الحَافِظُ أَبو الفَضْل محمَّدُ بنُ ناصِر السّلاميّ، والحَافِظ أَبو بَكْر محمدُ ابنُ عبد الغَنِيّ بنِ نُقْطَة، وابن النّجّار صاحب التاريخ، وأَبو محمّد بن عُبيد الله، وعبد الله بن الصّبّاح البَغْدَادِيّ، فهؤلاءِ كلُّهم ضَبطُوا بالرَّاءِ، وتَبِعَهم من المَغَارِبَة الحُفَّاظِ أَبو عليّ الصّدفِيّ، وأَبو بَكْر بن العَرَبِيّ، وأَبو عامر العَبْدَرِيّ، والقاسِم التُّجِيبيّ، في آخرين، وإِليه ذَهَب الصَّلاحُ الصَّفَدِيّ في الوَافِي بالوَفَيات، وهو تَصْحِيف، وَبَعْضُهم؛ أَي من البَغَادِدَة، والمُرَادُ به الحَافِظُ ابنُ نَاصِر، قد صَنّفَ فِيهِ رِسَالَةً مستقلَّةً، وجَمعَ كلامَ الناسِ، ورجَّحَ أَنَّه بالرَّاءِ، وقد ضَرَبَ في حَدِيدٍ بَارِدٍ لأَن جميع ما احتَجَّ به فيها راجِعٌ إِلى الكِتَابةِ لا إِلى الضَّبْط من قبل الحُرُوفِ، بل هو من قبلِ الناظِرِين في تلك الكِتَابَات، ولَيْسَ في مَجموعه ما يُفيد العِلْمَ بأَنَّ آخِرَه رَاءٌ، بل الاحْتِمَال يَطْرق هذِه المَواضِعَ التي احتَجَّ بها، إِذ الكاتِبُ قد يَذْهَلُ عن نَقْط الزَّاي فتَصِيرُ رَاءً، ثمّ ما المَانعُ أَن يكون فَوْقَها نُقْطَة فجَعَلَهَا بعضُ من لا يُمَيِّز علامَةَ الإِهْمَال، ولنَذْكُر فيه أَقْوَالَ العُلَمَاءِ ليَظْهَر لك تَصْوِيبُ ما ذَهَب إِليه المُصَنِّف، قال الحَافِظُ الذَّهَبِيّ في المِيزَان فِي تَرْجَمَتِه: قال ابنُ ناصر وغيرُه: من قَاله بزَاءَيْن مُعْجَمَتَيْن فقَد صَحّف، ثمّ احتَجّ ابنُ ناصِر لقَوْله بأُمور يَطول شَرحُها تُفِيد العِلْم بأَنّه بِرَاءٍ، وكذا ابنُ نُقْطَة وابنُ النّجّار، وقد تَمَّ الوَهمُ فيه على الدارَقطنيّ وعبدِ الغَنِيّ، والخَطِيب، وابنِ مَاكُولَا فقالوا: عزيز، بزاي مكرَّرة، وقد بَسطْنا القولَ في ذلك في تَرجَمَتِه في تاريخ الإِسلام، قال الحافِظُ ابنُ حَجَر في التَّبْصِير: هذا المكانُ هو مَحَلُّ البَسْطِ فيه، لأَنّه مَوضِعُ الكَشْفِ عنه، وقد اشتَهَر على الأَلسِنَةِ كِتَابُ غَرِيبِ القرآن للعُزَيْزِيّ، بزاءَين معجمتين.
وقَضِيّة كَلام ابنِ نَاصِر ومَنْ تَبِعَه أَن تَكُونَ الثَانِيَةُ رَاءً مهملَة، والحُكْم على الدار قطنيّ فيه بالوَهَم مع أَنّه لَقِيَه وجَالَسه وسَمِع مَعَه ومنه، ثمّ تَبِعَه النُّقَّادُ الذِين انتَقَدُوا عليه، كالخَطِيب، ثم ابن مَاكُولَا وغَيْرهمَا، في غَايَة البُعْدِ عِنْدِي.
والذي احتَجَّ به ابنُ ناصِرِ هُو أَنّ الإِثباتَ من اللّغَويِّين ضَبَطُوه بالرّاءِ. قال ابنُ نَاصِر: رأَيْت كِتَابَ المَلَاحن لأَبِي بكر بنِ دُرَيْد، وقد كَتَبَ عَلَيْه لمحمّد بن عُزَيْز السِّجِسْتَانِيّ، وقَيْده بالرَّاءِ، قال: ورأَيت بخَطّ إِبراهِيمَ بنِ مُحَمَّد الطَّبَرِيّ تُوزونَ، وكان ضابِطًا، نُسخةً من غَرِيبِ القرآن، كَتَبَها عن المُصنّف، وقيّد التَّرْجمة: تأْلِيف محمّد بن عُزَيْر ـ بالرّاءِ غير معجمة ـ قال: ورأَيتُ بخَطّ محمّدِ بنِ نَجْدة الطَّبَرِيّ اللّغوي نُسْخَة من الكِتَابِ كذلِك. قال ابنُ نُقْطَة: ورأَيْتُ نُسْخَةً من الكِتَاب بخَطّ أَبِي عامر العَبْدَرِيّ، وكان من الأَئمة في اللُّغَة والحَدِيث قال فيها. قال عبد المحسن السِّنجيّ: رأَيتُ نُسْخَةً من هذا الكتاب بخَطّ محمّد بن نَجْدة، وهو مُحَمَّد ابن الحُسين الطّبَريّ، وكان غاية في الإِتْقَان، تَرجمتُها: كتاب غريب القرآن لمحمّد بن عُزَير، الأَخِيرَة راءٌ غَيْرُ مُعْجَمَة. قال أَبو عامر: قال لي عبد المُحسن: ورأَيتُ أَنا نُسْخَةً من كتاب الأَلْفاظ رواية أَحمد بن عُبيد بن ناصِح، لمحمّد بن عُزَيْر السِّجِسْتَانِي، آخره راءٌ، مكتوب بخطّ ابن عُزَيْرٍ نَفسهِ الذي لا يَشُكّ فيه أَحدٌ من أَهل المَعْرِفة.
هذا آخر ما احتَجَّ به ابنُ نَاصِر وابنُ نُقطة. وقد تقدَّم ما فيه. ثمّ قال الحافظ: فكيف يَقْطع على وَهم الدارقطنيّ الذي لَقِيَه وأَخذَ عنه ولم يَنْفَرِد بذلك حتى تابَعَه جَمَاعةٌ.
هذا عندي لا يَتّجِه، بل الأَمر فيه على الاحتمال، وقد اشتهر في الشّرق والغَرْب بزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ إِلاّ عندَ مَن سَمَّيْنَاه، ووجد بخَطّ أَبي طَاهِر السِّلفِيّ أَنّه بزَاءَيْن. وقيل فيه: براءٍ آخره، والأَصح بزَاءَين. قال: والقَلْبُ إِلى ما اتَّفَقَ عليه الدارقطنيّ [وأَتْبَاعه] أَميّلُ، إِلاّ أَن يَثبت عن بَعْضِ أَهل الضّبط أَنّه قَيَّدَه بالحُرُوف لا بالقَلَم. قال: ومِمَّن ضَبَطَه من المَغَارِبة بزَاءَيْن مُعْجَمَتَيْن أَبو العَبَّاس أَحمد بنُ عبد الجَلِيل بن سُلَيْمَان الغَسَّانيّ التُّدْمِيرِيّ، كما نَقَلَه ابنُ عبد الملك في التَّكْمِلَة، وتعقّب ذلِك عليه بكَلَام ابنِ نُقْطَة، ثمّ رجعَ في آخرِ الكلام أَنه على الاحْتِمَال. قلت: ونسبَه الصَّفدِيّ إِلى الدّار قُطْنيّ، قال: وهو مُعاصِرُه وأَخَذَا جَمِيعًا عن أَبي بَكْر بنِ الأَنْبَارِيّ؛ أَي فهو أَعرَفُ باسْمه ونَسَبِه من غيره.
وعُزَيْز أَيضًا؛ أَي كزُبَيْر كُحْلٌ معروف مَعْرُوف من الأَكْحَالِ، نقله الصَّاغَانِيّ.
وحَفْر عزَّى، ظاهره أَنه بفَتْح العَيْن، وهكذا هو مَضْبُوط بخَطّ الصّاغَانِيّ، والذي ضَبَطَه من تَكَلَّم على البِقَاع والبُلْدَان أَنه بكَسْرِ العَيْن وقالوا: هو ناحِيَةٌ بالمَوْصِلِ.
وتَعَزَّزَ لَحمُه، وفي الأَساس واللّسَان: لَحْمُ النّاقَةِ: اشتَدَّ وصَلُبَ، وقال المُتَلَمِّس:
أُجُدٌ إِذا ضَمَرَت تَعَزَّزَ لَحْمُها *** وإِذا تُشَدّ بنِسْعِهَا لا تَنْبِسُ
والعَزِيزَةُ في قَوْلِ أَبي كَبِيرٍ ثابِتِ بن عَبْد شَمْس الهُذَلِيّ من قَصِيدةٍ فائِيّة عِدَّتُها ثَلَاثَةٌ وعِشْرُون بَيْتًا:
حتّى انتهَيْتُ إِلى فِرَاشِ عَزِيزَةٍ *** سَوْدَاءَ رَوْثَةُ أَنْفِهَا كالمِخْصَفِ
وأَولُهَا:
أَزُهَيْرَ هَل عن شَيْبَةٍ من مَصْرِفِ *** أَم لا خُلُودَ لبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ
يريد زُهَيْرَة وهي ابنتُه، وقَبْل هذا البَيْت:
ولقد غَدَوتُ وصاحِبِي وَحْشِيّةٌ *** تَحت الرِّداءِ بَصِيرَةٌ بالمُشْرِفِ
يريد بالوَحْشِيّة الرِّيحَ. يقول: الرِّيح تَصْفُقُنِي. وبَصِيرَة الخ؛ أَي هذِه الرِّيح مَنْ أَشرَفَ لها أَصَابَتْه إِلاّ أَن يَستَتِرَ تدخُل في ثِيَابِه، والمُرَاد بالعَزِيزة العُقَاب، وبالفِرَاش وَكْرها، ورَوْثَة أَنْفِهَا؛ أَي طَرَف أَنْفِهَا. يَعْنِي مِنْقَارَها، أَراد: لم أَزَلْ أَعْلُو حتى بَلَغْت وَكْرَ الطَّيْر. والمِخْصَفُ: الذي يُخْصَف به، كالإِشْفَى، ويُرْوَى عَزِيبَة، وهي التي عَزَبَت عَمَّن أَرادَهَا، ويُرْوَى أَيضًا غَرِيبَة، بالغَيْن والراءِ، وهي السوداءُ، كما نَقله السُّكّرِيّ في شَرْح ديوان الهُذَليّين.
ويَقُولُون للَّرجُل: تُحِبُّني، فيقُول: لَعَزَّ مَا؛ أَي لَشَدَّ ما ولَحَقَّ مَا، كذا في الأَساس. ويقولون: فلان جئْ به عَزًّا بَزًّا؛ أَي لا مَحَالَةَ؛ أَي طَوْعًا أَو كَرْهَا. وقال ثَعْلَب في الكَلَام الفَصِيح: «إِذا عَزَّ أَخُوك فهُنْ»، والعَرَبُ تَقُولُه، وهو مَثلٌ؛ أَي إِذا تَعظَّمَ أَخُوك شامِخًا عليك فَهُن، فالتَزِمْ له الهَوَانَ، وقال الأَزهريّ: المَعْنَى: إِذا غَلَبَكَ وقَهَرَك ولم تُقَاوِمْه فلِنْ له: أَي تواضع له فإِن اضْطِرابك عليه يَزِيدُك ذُلًّا وخَبَالًا. قال أَبو إِسحاق: الذي قاله ثَعْلَب خَطَأٌ، وإِنَّمَا الكلام: إِذا عَزَّ أَخُوك فهِنْ. بكَسْر الهاءِ. مَعْنَاه: إِذا اشْتَدّ عَلَيْك فهِنْ له ودَارِه. وهذا من مَكارِم الأَخلاقِ. وأَمّا هُنْ، بالضّمّ، كما قَالَه ثَعْلَب، فهو من الهَوَانِ، والعَرب لا تَأْمُر بذلِك، لأَنهم أَعِزَّة أَبَّاؤُون للضَّيْم.
قال ابنُ سِيدَه: إِن الذي ذَهبَ إِليه ثَعْلَبٌ صَحِيحٌ، لِقَوْل ابنِ أَحمَر:
وقارِعَةٍ من الأَيّام لولَا *** سَبِيلُهُمُ لَزَاحَتْ عنك حِينَا
دَبَبْتُ لهَا الضَّرَاءَ فَقُلتُ أَبقَى *** إِذا عَزَّ ابنُ عَمِّك أَن تَهُونَا
«ومن عَزَّ بَزَّ» أَي مَنْ غَلَبَ سَلَب، وهو أَيضًا من الأَمثال، وقد تقدّم في ب ز ز.
والعَزِيزُ كأَمِير، المَلِك، مأْخُوذ من العِزّ، وهو الشِّدّة والقَهْر؛ وسُمِّيَ به لِغَلَبَتِه على أَهْلِ مَمْلَكَتِه؛ أَي فلَيْس هو من عِزَّةِ النَّفْس. والعَزِيزُ أَيضًا: لَقَبُ مَنْ مَلَكَ مِصْر مع الإِسْكَنْدَرِيَّة، كما يُقَال النَّجَاشِيّ لمَنْ مَلَك الحَبَشَة، وقَيْصَر لمَنْ مَلَك الرّومَ، وبهما فُسِّر قوله تعالى: {يا أَيُّهَا} الْعَزِيزُ {مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
الْعَزِيزُ: من صِفات الله تعالى وأَسمائِه الحُسْنَى، قال الزَّجَّاج: هو المُمتَنِع فلا يَغْلِبُه شيْءٌ. وقال غَيْرَه: هو القَوِيّ الغالِبُ كلَّ شيْءٍ، وقيل: هو الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ومن أَسمائِه عَزَّ وجَلَّ: المُعِزّ، وهو الذي يَهَب العِزَّ لمَنْ يَشَاءُ من عِبَادِه. والتَّعَزُّز: التَّكَبُّر: ورجل عَزِيزٌ: مَنِيعٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر، وقَوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ} عَزِيزٌ {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أَي حُفِظَ وعَزّ من أَن يَلحَقَه شَيْءٌ من هذا. وعِزٌّ عَزِيزٌ، على المُبَالَغَة، أَو بمعنى مُعِزّ، قال طَرَفَةُ:
ولو حَضَرَتْه تَغْلِبُ ابنَةُ وَائِلٍ *** لَكانُوا له عِزًّا عَزِيزًا ونَاصِرَا
وكَلِمَةٌ شَنْعَاءُ لاهْل الشِّحْر، يَقُولُون: بعِزِّي لَقَدْ كان كَذا وكذا، وبِعِزِّك، كقَوْلِك: لعَمْرِي ولَعَمْرُك. وفي حَدِيثِ عُمَر: «اخْشَوْشِنُوا وتَمَعْزَزُوا»؛ أَي تَشَدَّدُوا في الدّيْن وتَصَلَّبُوا. من العِزّ القُوّةِ والشِّدَة. والمِيمُ زَائِدَة، كتَمَسْكَن من السُّكُون، وقيل: هو من المَعَز وهو الشدّة، وسَيَأْتِي في مَوْضِعِه ويُرَوى و: تَمَعْدَدُوا. وقد ذُكِر في مَوضعه. وعَزَّزتُ القَوْمَ: قَوَّيتُهُم. والأَعِزَّاءُ: الأَشِدَّاءُ وليس من عِزَّة النَّفْسِ. ونقلَ سِيبَوَيْه: وقالُوا: عَزَّ ما أَنَّك ذَاهِبٌ، كقَولِك: حَقًّا أَنّك ذَاهِب.
والعَزَز، مُحَرَّكة: المَكَانُ الصُّلْبُ السَّرِيع السَّيْل. وأَرضٌ عَزَازَةٌ وعَزَّاءُ: مَعْزُوزَة، أَنشدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ:
عَزَازَة كلِّ سائِلِ نَفْعِ سَوْءٍ *** لكُلِّ عَزَازَةٍ سالَتْ قَرَارُ
وفَرسٌ مُعْتَزَّةٌ: غَلِيظَةُ اللَّحْمِ شَدِيدَتُه.
وقولهم: تعزَّيت عنه؛ أَي تَصَبَّرْت، أَصلها تَعَزَّزْت؛ أَي تَشدَّدْت مثل تَظَنَّيْت من تَظَنَّنْت، ولها نَظَائِر تُذْكَر في مَوْضِعها. والاسمُ منه العَزَاءُ. وفي الحدِيث: «مَن لم يَتَعَزَّ بعَزَاءِ الله فلَيْس مِنّا» فسّره ثَعْلَب فقال: معناه مَنْ لم يَرُدَّ أَمرَه إِلى الله فلَيْس مِنَّا.
والعَزّاءُ: السنة الشَّدِيدَة.
وعَزَّه يَعُزّه عَزًّا: أَعانه، نقلَه ابنُ القَطّاع، قال: وبه فَسَّر من قرأَ: فَعَزَّزْنا {بِثالِثٍ}.
يقال: فلانٌ عَنْزٌ عَزُوز، كصَبُور: لها دَرٌّ جَمٌّ، وذلك إِذا كان كثِيَر المَالِ شَحِيحًا. وعازَّ الرجُلُ إِبلَه وغَنَمَه مُعَازَّةً، إِذا كانت مِرَاضًا لا تَقدِرُ أَن تَرْعَى فاحْتَشّ لها ولَقَّمَها، ولا تكون المُعازَّةُ إِلاّ في المَالِ، ولم يُسْمَع في مَصْدَرِه عِزَازًا.
وسَيْلٌ عِزٌّ، بالكَسْر: غالبٌ. والمُعْتَزّ: المُسْتَعِزّ.
وعِزَّ، بالكَسْر مَبْنِيًّا على الفَتْح: زَجْرٌ للغَنَم، وهذِه عن الصّاغَانِيّ. وعَزِيز، كأَمِير: بَطْن من الأَوْس من الأَنْصار.
وفي شرح أَسماءِ الله الحُسْنَى لابن بَرْجَان: العَزُوزُ، كصَبور: من أَسماءِ فَرْج المرأَة البِكْر. وعُزَّى، على اسمِ الصَّنَم: لَقبُ سَلمَة بنِ أَبي حَيَّةَ الكاهِن العُذرِيّ.
والعُزَّيَانِ، مُثَنًّى، هُمَا بظاهر الكُوفَة حيث قَبْرُ أَمِيرٍ المُؤمِنِين عليٍّ رضي الله عنه، زَعمُوا أَنهما بَناهُما بَعْضُ ملُوكِ الحِيرَةِ. وخَيَالانِ من أَخْيِلَةِ حِمَى فَيْد، يَطؤُهُمَا طَرِيقُ الحَاجّ، بينَهُمَا وبين فَيْدٍ سِتَّةَ عَشَر مِيلًا.
واستَعَزّ فُلانٌ بحَقّي؛ أَي غَلَبَنِي، واستُعِزَّ بفُلان أَي غُلِب في كل شيْءٍ من عاهَةٍ أَو مَرَضٍ أَو غيرِه. وقال أَبو عَمْرو: استُعِزّ بالعَلِيل، إِذا اشْتَدّ وَجَعُه وغُلِب على عَقْلِه. وفي الحديث: «لما قَدِم المَدِينَةَ نَزَل على كُلْثُومِ بنِ الهَدْمِ، وهو شاكٍ، ثمّ استُعِزّ بكُلْثومٍ فانتَقَلَ إِلى سَعْد بنِ خَيْثَمَة» ويقال أَيضًا: استُعِزّ به، إِذا مَاتَ.
وعَزَّز بهم تَعْزِيزًا: شَدَّدَ عليهم ولم يُرَخِّص. ومنه حَدِيثُ ابنِ عُمَر: «إِنكم لمُعَزَّز بكم، عليكم جَزاءٌ وَاحِدٌ» أَي مُثَقَّل عليكم الأَمرُ.
ومحمّد بن عِزّانَ، بالكَسْر، رَوَى عن صالحٍ مَوْلَى مَعْنِ بن زائدة. وعَزَّاز بن أَوْس، كشَدَّاد: مُحَدّث. وعُزَيْز، كزُبَيْر: محمّد بن عُزَيْز الأَيليّ، وعبد الله بن محمد بن عُزَيْزِ المَوْصِليّ. وأَحمَد بن إِبراهيم بن عُزَيْز الغُرناطِيّ. ومَيْسَرَةُ ابن عُزَيز: مُحَدِّثون. وكأَمِير، أَبو هُرَيْرَة عَزِيز بن محمّد المَالِقيِّ الأَندلُسِيِّ. وعَزِيز بن مُكْنِف، وعَزِيز بنُ محمّدِ بنِ أَحمدَ النَّيْسَابُورِيّ، ومُصْعَب بن عبد الرحمن بن شُرَحْبِيل ابن [أَبي] عَزِيز، وعَبْدُ الله بنُ يَحيى بن معاوِيَة بن عَزِيز بن ذي هِجْرَان السّبائي المِصْرِيّ، وعُمر بن مُصْعَب بن أَبي عَزِيزٍ الأَندلسيّ: مُحَدِّثون.
وأَبو إِهَابِ بنُ عَزيز بن قَيْسٍ الدّارِميّ: أَحَدُ سُرَّاقِ غَزَالِ الكَعْبَة، وابنَتَاه أُمّ حُجَيْر وأُم يَحْيَى، وقع ذكرُ الأَخيرةِ في صَحِيح البخاريّ، المَشْهُورُ فيه الفَتْح: وقَيَّده أَبو ذَرّ الهَرَوِيّ في روَايتِه عن المُسْتَمْلي والحَمَوِيّ بالضّمّ. وأَبو عَزِيز بن عُمَيْر العَبْدَرِيّ، قُتِل يَوْمَ أُحُد كافِرًا، وحَفِيده مُصْعَب بن عُمَيْر بن أَبي عَزِيز قُتِل بالحَرَّة. وهانئُ بن عَزيزٍ أَوّل من قُتِل من مُشْرِكِي مكّة، ذكره ابنُ دُرَيْد. ويَحْيَى بنُ يَزِيد بن حُمْرَان بن عَزِيز الكِلابيّ، من صَحَابَة المَنْصُور، وشُمَيْسة بنت عَزِيز، لها رواية. وعَزِيزَة ابنةُ علِيّ بن يَحْيَى بن الطَّرَّاح، عن جَدّهَا، ماتَت سنة 600 وعَزِيزة بنت مُشَرِّف، ماتت سنة 619 وعَزِيزةُ. لَقبُ مُسندة مِصر أُمّ الفضل هاجَرُ القُدْسية.
وبالضّمّ أَبو بكر محمّدُ بنُ عمر بن إِبراهيم بن عُزَيْزة الأَصْبَهَانيّ من شيوخ السِّلفَيّ، وأَخوه عبد الله، وابنه أَبو الخَيْر عُمَر بن محمّد، حدّث عنهما أَبو موسى المَدِينيّ، وعَنْهما، يعني: أَخبرَنا العُزَيْزِيّان، وولده أَبو الوفاءِ محمّد بن عُمر، حَدَّث أَيضًا، وأَبو المَكَارم أَحمد بن هِبة الله بن عُزَيْزَة الشّاهد، وابن عمه محمّد بن عبد الله بن محمود، حَدّثَا. والشِّهاب عليّ بن أَبي القاسم بن تميم الدِّهِسْتانيّ العَزِيزِيّ، بالفَتْح، سَمع من أَبي اليُمْن بنِ عَسَاكرَ، مَولده سنة 627. وعُزَيْزِيّ بلفظ النَّسب، اسم شَيْذَلةَ الواعِظِ المشهور، يأْتي للمصنِّف في شَ ذَ ل. وأَبو عبد رَبّ العِزّة، بالكَسْر، رَوَى عن معاويةَ، وعنه عَبْدُ الرحمن بن يَزِيد بن جابر. وعبد العُزَّى اسمُ أَبي لَهَبٍ، وعبد العُزَّى بن غَطَفان أَخو رَيْث ويُسَمَّى عبد الله. وعَبْد العُزَّى وَالدُ أَبي الكنُود وجَعْدةَ الشَّاعرَين. وعزازة بنُ عبدَّ الدائم شَيْخٌ لأَبي أَحمد العَسكريّ. والحُسين بن علي المُعْتَزّي المِصْريّ، روَى عن جعفر بن عبد الواحد الهَاشِمِيّ، وذكره المَالِينيّ ومُعْتَزَّة بنتُ الحُصَيْن الأَصْبَهانِيَّة، روتْ عن عبد المَلك بن الحُسين بن عَبْد رَبِّه العَطَّار، ماتتْ بعد الخَمْسِمِائَة. والعَزِيزِيّة، بالفَتْح: اسمٌ لثلاثِ قُرًى بمِصْر بالشَّرقِيَّة والمُرتاحِيّة والسَّمَنُّودِيّة. ومُنْيَة العِزّ، اسمٌ لأَربعِ قُرًى بمِصْر أَيضًا، بالدَّقَهْلِيّة وبالشَّرقِيَّة وبالمُنُوفِيَّة وبالأَشْمُونين، وكُوْم عَزّ الملك ومُنية عِزّ الملك، ومُنْيَة عَزُّونَ: قُرًى بالديار المِصريّة.
وأَبو العِزّ محمّد بن أَحمد بن أَحمد بن عبد الرحمن القاهرِيّ شَيخُ شُيوخِنا، أَجازَه المُعمَّر محمّدُ بنُ عُمر الشّوبريّ والشَّمس البابِليّ والشَّمْس بن سُليمان المَغْرِبيّ، سمعَ منه شيوخُنا: الشِّهابانِ: أَحمدُ بنُ عبد الفتاح المجيريّ، وأَحمد بن الحسن الخَالِديّ، والمحمَّدانِ: ابنُ يَحْيى بن حِجازيّ، وابن أَحْمَد بن محمّد الأَحمديّ، وغيرهم، وهو من أَعظَم مُسْندي مصرَ، كأَبِيه. وعبد الله بن عُزَيِّز، مُصَغَّرًا مثقَّلًا، من شُيُوخ العِزّ عبد السلام البَغْدَادِيّ الحَنَفِيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
61-تاج العروس (دغم)
[دغم]: دَغَمَهُمُ الحَرُّ والبَرْدُ، كمَنَعَ وسَمِعَ، دَغْمًا ودَغَمانًا: غَشِيَهُم، كأَدْغَمَهُم، ولم يَذْكُرِ الجَوْهَرِيُّ البَرْدَ ولا المَصْدَرَيْن.ودَغَمَ أَنْفَهُ دَغْمًا، كمَنَعَ: كَسَرَهُ إلى باطِنٍ هَشْمًا، كما في الصِّحاحِ.
ودَغَمَ الإناءَ دَغْمًا: غَطَّاهُ، كما في المُحْكَمِ.
والدُّغْمَةُ، بالضمِّ، والدَّغَمُ، مُحرَّكةً، مِن لَوْنِ الخَيْلِ أَنْ يَضْرِبَ وجْهُه وجَحافِلُهُ إلى السَّوادِ مُخالِفًا للَوْنِ سائِرِ جَسَدِهِ، ويكونُ ذلِكَ؛ أَي وجْهُه ممَّا يلِي جَحافِلَهَ، أَشَدُّ سَوادًا من سائِرِ جَسَدِهِ، وقد ادْغامَّ ادْغِيمامًا، وهو أَدْغَمُ وهي دَغْماءُ بَيِّنا الدَّغَمِ عن الأصْمَعِيّ، فارسيَّتُه ديزَجْ، وفي الصِّحاحِ: وهو الذي تُسَمِّيه الأَعاجِمُ: دِيزَجْ.
ووَجَدْت في هامِشِ الصِّحاحِ ما نَصّه: قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: قالَ الحجَّاجُ يومًا لسَائِسِ دَوابِّه: أَسْرِجِ الأَدْغَمَ، فلم يَدْرِ ما هو ولم يقْدِرْ على مُراجَعَتِه، فَخَرَجَ فلَقِيَ أَعْرابيًّا فأَخْبَرَه الخَبَرَ فقالَ: أَعنْدَكَ دِيزَجْ؟ فقالَ: نَعَم، فأَسْرَجَه. وقالَ أَبو عُبَيْدَةَ: وقد يكونُ مِن الخَيْلِ أَدْغَمُ خالِصٌ ليسَ فيه مِن الخُضْرَةِ شيءٌ، قالَ الحضينُ بنُ المُنْذرِ الرقاشيُّ:
عَشِيَّة جَاؤُوا بابن زَحْر وجِئْتُم *** بأَدْغَم مَرْقُومِ الذِّراعَيْن دِيْزَج
والأَدْغَمُ: الأَسْودُ الأَنْفِ، وجَمْعُه الدُّغْمانُ، قالَ أعْرَابيٌّ:
وضَبَّة الدُّغْمانِ في رُوسِ الأَكَمْ *** مُخْضَرَّةٌ أَعْيُنُها مثلُ الرَّخَمْ
والأَدْغَمُ: مَنْ يَتَكَلَّمُ من قِبَلِ أَنْفِهِ وهو الأخَنُّ.
وأَدْغَمَهُ اللهُ تعالى مِثْلُ أَرْغَمَهُ، وقيلَ: أَدْغَمَهُ سَوَّدَ وَجْهَه، وأَرْغَمَهُ: أَسْخَطَهُ.
وأَدْغَمَ الفَرَسُ اللِّجَامَ. أَدْخَلَه في فيهِ وأَدْغَمَ اللِّجامَ في فمِهِ كَذلِكَ؛ قالَ ساعِدَةُ بنُ جُؤَيَّة:
بمُقْرَباتٍ بأَيْدِيهِمْ أَعِنَّتُها *** خُوصٍ إذا فَزِعُوا أُدْغِمْنَ باللُّجُمِ
قالَ الجوْهَرِيُّ والأزْهرِيُّ: ومنه أَدْغَمَ الحَرْفَ في الحَرْفِ إذا أَدْخَلَهُ.
وقالَ بعضُهم: بلِ اشْتِقاقُ هذا مِن إدْغامِ الحُروفِ، والأَوَّل هو الوَجْه، كادَّغَمَهُ على افْتَعَلَه، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
وأَدْغَمَ فلانٌ: إذا بادَرَ القَوْمَ مَخافَةَ أَنْ يَسْبِقوهُ فأَكَلَ الطَّعامَ بِلا مَضْغٍ.
والدُّغْمانُ، بالضمِّ: الأَسْودُ؛ أَو هو الأَسْودُ مَعَ عِظَمٍ.
وأَيْضًا: اسمُ رجُلٍ.
ويُفْتَحُ كسَحْبان.
ورجُلٌ راغِمٌ داغِمٌ: إتْباعٌ.
وأَرْغَمَهُ اللهُ تعالى وأَدْغَمَهُ بمعْنًى وقيلَ: بل بَيْنهم فَرْقٌ كما تقدَّمَ.
وفي الدُّعاءِ: رَغْمًا دَغْمًا شِنَّغْمًا كجِرْدَحْلٍ بالسِّيْن والشِّيْن كما سَيَأْتي، إتْباعاتٌ. يقالُ: فَعَلْتُ ذلِكَ على رَغْمِه ودَغْمِه وشَغْمِه؛ ويقالُ: شِنَّغْمِه وسِنَّغْمِه وسَيَأْتي.
والدُّغامُ، كغُرابِ: وَجَعٌ يأْخُذُ في الحَلْقِ، وكَذلِكَ الشُّوالُ، كذا في النوادِرِ.
ودُغَيْمُ، كزُبَيْرٍ: اسم رجُلٍ.
والدُّغْمُ بالضمِّ: البِيضُ، وهو جَمْعُ الأَدْغَمِ كأَحْمَر وحُمْر كأَنه ضِدٌ.
قلْتُ: وقد تَصَحَّفَ ذلِكَ على المصنِّفِ، وإِنَّما هو الدُّعْمُ بالعَيْنِ المهْمَلَةِ فتأَمَّلْ ذلِكَ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
دَغَمَ الغيثُ الأَرضَ يَدْغَمُها وأَدْغَمَها إِذا غَشِيَها وقَهَرَها.
وأَدْغَمَهُ: أَسَاءَهُ وأَسْخَطَهُ، وهو مجازٌ.
والدَّغْمَاءُ مِن النِّعاجِ: التي اسْوَدَّتْ نُخْرتُها، وهي الأَرْنَبَةُ، وحَكَمَتْها وهي الذَّقَنُ.
وفي الحدِيْث: أَنَّه ضَحَّى بكبْشٍ أَدْغَمَ، هو الذي يكونُ فيه أَدْنَى سَواد وخُصوصًا في أَرْنَبَتِه وتحْتَ حَنَكِهِ.
وقالوا في المَثَلِ: الذِّئْبُ أَدْغَمُ، لأَنَّ الذِّئْبَ وَلَغَ أَو لم يَلَغْ فالدُّغْمَةُ لازِمَة له، لأَنَّ الذِّئابَ دُغْمٌ، فرُبَّما اتُّهِمَ بالوُلوغِ وهو جائِعٌ؛ يُضْرَبُ مَثَلًا لمَنْ يُغْبَطُ بمَا لم يَنَلْه، كذا في الصِّحاحِ.
ودَغُّومٌ، كتَنُّورٍ: رجُلٌ.
وحَكَى الرّشاطيُّ عن الهَمَدانيّ في الأَنْسابِ أَنّ كلَّ ما في العَرَبِ دُعْمِيٌّ فبالعَيْنِ المهْمَلَةِ إِلَّا دُغْمِيُّ بنُ عَوْفِ بنِ عَدِيِّ بنِ مالِكِ الحِمْيريُّ، نَقَلَه الحافِظُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
62-لسان العرب (كفأ)
كفأ: كافَأَهُ عَلَى الشَّيْءِ مُكافأَةً وكِفَاءً: جَازَاهُ.تَقُولُ: مَا لِي بهِ قِبَلٌ وَلَا كِفاءٌ أَي مَا لِي بِهِ طاقةٌ عَلَى أَن أُكَافِئَهُ.
وَقَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: وَرُوحُ القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ أَي جبريلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَيْسَ لَهُ نَظِير وَلَا مَثيل.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَنَظَر إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَن يَكافِئُ هَؤُلَاءِ».
وَفِي حَدِيثِ الأَحنف: «لَا أُقاوِمُ مَن لَا كِفَاء لَهُ»، يَعْنِي الشيطانَ.
وَيُرْوَى: لَا أُقاوِلُ.
والكَفِيءُ: النَّظِيرُ، وَكَذَلِكَ الكُفْءُ والكُفُوءُ، عَلَى فُعْلٍ وفُعُولٍ.
وَالْمَصْدَرُ الكَفَاءةُ، بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ.
وَتَقُولُ: لَا كِفَاء لَهُ، بِالْكَسْرِ، وَهُوَ فِي الأَصل مَصْدَرٌ، أَي لَا نَظِيرَ لَهُ.
والكُفْءُ: النَّظِيرُ والمُساوِي.
وَمِنْهُ الكفَاءةُ فِي النِّكاح، وَهُوَ أَن يَكُونَ الزَّوْجُ مُساويًا للمرأَة فِي حَسَبِها ودِينِها ونَسَبِها وبَيْتِها وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وتَكافَأَ الشَّيْئانِ: تَماثَلا.
وَكافَأَه مُكافَأَةً وكِفَاءً: ماثَلَه.
وَمِنْ كَلَامِهِمْ: الحمدُ لِلَّهِ كِفاء الْوَاجِبِ أَي قَدْرَ مَا يَكُونُ مُكافِئًا لَهُ.
وَالِاسْمُ: الكَفاءَةُ والكَفَاءُ.
قَالَ:
فَأَنْكَحَها، لَا فِي كَفَاءٍ وَلَا غِنىً، ***زِيادٌ، أَضَلَّ اللهُ سَعْيَ زِيادِ
وَهَذَا كِفَاءُ هَذَا وكِفْأَتُه وكَفِيئُه وكُفْؤُه وكُفُؤُه وكَفْؤُه، بِالْفَتْحِ عَنْ كُرَاعٍ، أَي مِثْلُهُ، يَكُونُ هَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: سَمِعْتُ امرأَة مِنْ عُقَيْل وزَوجَها يَقْرآن: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفىً أَحَدٌ، فأَلقى الْهَمْزَةَ وحَوَّل حَرَكَتَهَا عَلَى الْفَاءِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}؛ أَربعةُ أَوجه الْقِرَاءَةِ، منها ثلاثة: كُفُوًا، بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ، وكُفْأً، بِضَمِّ الْكَافِ وإِسكان الْفَاءِ، وكِفْأً، بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَقَدْ قُرئ بِهَا، وكِفاءً، بِكَسْرِ الْكَافِ وَالْمَدِّ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا.
وَمَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِثْلًا لِلَّهِ، تَعَالَى ذِكْرُه.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ كَفِيءُ فُلَانٍ وكُفُؤُ فُلَانٍ.
وَقَدْ قرأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأَبو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ كُفُؤًا، مُثْقَلًا مَهْمُوزًا.
وقرأَ حَمْزَةُ كُفْأً، بِسُكُونِ الْفَاءِ مَهْمُوزًا، وَإِذَا وَقَفَ قرأَ كُفَا، بِغَيْرِ هَمْزٍ.
وَاخْتَلَفَ عَنْ نَافِعٍ فَرُوِيَ عَنْهُ: كُفُؤًا، مِثْلَ أَبي عَمْرو، وَرُوِيَ: كُفْأً، مِثْلَ حَمْزَةَ.
والتَّكافُؤُ: الاسْتِواء.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم».
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُرِيدُ تَتساوَى فِي الدِّياتِ والقِصاصِ، فَلَيْسَ لشَرِيف عَلَى وَضِيعٍ فَضْلٌ فِي ذَلِكَ.
وَفُلَانٌ كُفْءُ فلانةَ إِذَا كَانَ يَصْلُح لَهَا بَعْلًا، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ: أَكْفَاء.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَعرف للكَفْءِ جَمْعًا عَلَى أَفْعُلٍ وَلَا فُعُولٍ.
وحَرِيٌّ أَن يَسَعَه ذَلِكَ، أَعني أَن يَكُونَ أَكْفَاء جمعَ كَفْءٍ، المفتوحِ الأَول أَيضًا.
وَشَاتَانِ مُكافَأَتانِ: مُشْتَبِهتانِ، عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
وَفِي حَدِيثِ العَقِيقةِ عَنِ الْغُلَامِ: «شاتانِ مُكافِئَتانِ»أَي مُتَساوِيَتانِ فِي السِّنِّ؛ أي لَا يُعَقُّ عَنْهُ إِلَّا بمُسِنَّةٍ، وأَقلُّه أَن يَكُونَ جَذَعًا، كَمَا يُجْزِئُ فِي الضَحايا.
وَقِيلَ: مُكافِئَتانِ أَي مُسْتوِيتانِ أَو مُتقارِبتانِ.
وَاخْتَارَ الخَطَّابِيُّ الأَوَّلَ، قَالَ: وَاللَّفْظَةُ مُكافِئَتانِ، بِكَسْرِ الْفَاءِ، يُقَالُ: كافَأَه يُكافِئهُ فَهُوَ مُكافِئهُ أَي مُساوِيه.
قَالَ: والمحدِّثون يَقُولُونَ مُكافَأَتَانِ، بِالْفَتْحِ.
قَالَ: وأَرى الْفَتْحَ أَولى لإِنه يُرِيدُ شَاتَيْنِ قَدْ سُوِّيَ بَيْنَهُمَا أَي مُساوًى بَيْنَهُمَا.
قَالَ: وأَما بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ أَنهما مُساوِيتَان، فيُحتاجُ أَن يَذْكُرَ أَيَّ شَيْءٍ ساوَيَا، وإِنما لَوْ قَالَ مُتكافِئتان كَانَ الْكَسْرُ أَولى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا فَرْق بَيْنَ المكافِئَتيْنِ والمُكافَأَتَيْنِ، لأَن كُلَّ وَاحِدَةٍ إِذَا كافَأَتْ أُختَها فَقَدْ كُوفِئَتْ، فَهِيَ مُكافِئة ومُكافَأَة، أَو يَكُونُ مَعْنَاهُ: مُعَادَلَتانِ، لِما يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ والأُضْحِيَّة مِنَ الأَسنان.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ مَعَ الْفَتْحِ أَن يُرَادَ مَذْبُوحَتان، مَنْ كافَأَ الرجلُ بَيْنَ الْبَعِيرَيْنِ إِذَا نَحَرَ هَذَا ثُمَّ هَذَا مَعًا مِنْ غَيْرِ تَفْريق؛ كأَنه يُرِيدُ شَاتَيْنِ يَذْبحهما فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: تُذْبَحُ إِحداهما مُقابلة الأُخرى، وكلُّ شيءٍ ساوَى شَيْئًا، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ، فَهُوَ مُكافِئٌ لَهُ.
والمكافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذَا.
يُقَالُ: كافَأْتُ الرجلَ أَي فَعَلْتُ بِهِ مثلَ مَا فَعَلَ بِي.
وَمِنْهُ الكُفْءُ مِنَ الرِّجال للمرأَة، تَقُولُ: إِنه مِثْلُهَا فِي حَسَبها.
وأَما قَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْأَلِ المرأَةُ طَلاقَ أُختها لتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتها فإِنما لَهَا مَا كُتِبَ لَهَا.
فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِتَكْتَفِئَ: تَفتَعِلُ، مِنْ كَفَأْتُ القِدْرَ وَغَيْرَهَا إِذَا كَبَبْتها لتُفْرِغَ مَا فِيهَا؛ والصَّحْفةُ: القَصْعةُ.
وَهَذَا مَثَلٌ لإِمالةِ الضَّرَّةِ حَقَّ صاحِبَتها مِنْ زَوْجِهَا إِلَى نَفْسِها إِذَا سأَلت طلاقَها ليَصِير حَقُّ الأُخرى كلُّه مِنْ زوجِها لَهَا.
وَيُقَالُ: كافَأَ الرجلُ بَيْنَ فَارِسَيْنِ برُمْحِه إِذَا والَى بَيْنَهُمَا فَطَعَنَ هَذَا ثُمَّ هَذَا.
قَالَ الْكُمَيْتُ:
نَحْر المُكافِئِ، والمَكْثُورُ يَهْتَبِلُ والمَكْثُورُ: الَّذِي غَلَبه الأَقْرانُ بِكَثْرَتِهِمْ.
يهْتَبلُ: يَحْتالُ لِلْخَلَاصِ.
وَيُقَالُ: بَنَى فُلَانٌ ظُلَّةً يُكافِئُ بِهَا عينَ الشمسِ ليَتَّقيَ حَرَّها.
قَالَ أَبو ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِهِ: «وَلَنَا عَباءَتانِ نُكافِئُ بِهِمَا عَنَّا عَيْنَ الشمسِ» أَي نُقابِلُ بِهِمَا الشمسَ ونُدافِعُ، مِنَ المُكافَأَة: المُقاوَمة، وإنِّي لأَخشَى فَضْلَ الحِساب.
وكَفَأَ الشيءَ والإِنَاءَ يَكْفَؤُه كَفْأً وكَفَّأَهُ فَتَكَفَّأَ، وَهُوَ مَكْفُوءٌ، واكْتَفَأَه مِثْلُ كَفَأَه: قَلَبَه.
قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ:
وكأَنَّ ظُعْنَهُم، غَداةَ تَحَمَّلُوا، ***سُفُنٌ تَكَفَّأُ فِي خَلِيجٍ مُغْرَبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ بِعَيْنِهِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى تَكَفَّأَتِ المرأَةُ فِي مِشْيَتِها: تَرَهْيَأَتْ ومادَتْ، كَمَا تَتَكَفَّأُ النَّخْلَةُ العَيْدانَةُ.
الْكِسَائِيُّ: كَفَأْتُ الإِناءَ إِذَا كَبَبْتَه، وأَكْفَأَ الشيءَ: أَمَاله، لُغَيّة، وأَباها الأَصمعي.
ومُكْفِئُ الظُعْنِ: آخِرُ أَيام العَجُوزِ.
والكَفَأُ: أَيْسَرُ المَيَلِ فِي السَّنام وَنَحْوِهِ؛ جملٌ أَكْفَأُ وَنَاقَةٌ كَفْآءُ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: سَنامٌ أَكْفَأُ وَهُوَ الَّذِي مالَ عَلَى أَحَدِ جَنْبَي البَعِير، وَنَاقَةٌ كَفْآءُ وجَمَل أَكْفَأُ، وَهُوَ مِنْ أَهْوَنِ عِيوب الْبَعِيرِ لأَنه إِذَا سَمِنَ اسْتَقامَ سَنامُه.
وكَفَأْتُ الإِناءَ: كَبَبْته.
وأَكْفَأَ الشيءَ: أَمالَه، وَلِهَذَا قِيلَ: أَكْفَأْتُ القَوْسَ إِذَا أَملْتَ رأَسَها وَلَمْ تَنْصِبْها نَصْبًا حَتَّى تَرْمِيَ عَنْهَا.
غَيْرُهُ: وأَكْفَأَ القَوْسَ: أَمَالَ رأَسَها وَلَمْ يَنْصِبْها نَصْبًا حِينَ يَرْمِي عَلَيْهَا.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
قَطَعْتُ بِهَا أَرْضًا، تَرَى وَجْهَ رَكْبِها، ***إِذَا مَا عَلَوْها، مُكْفَأً، غيرَ ساجِعِ
أَي مُمالًا غيرَ مُستَقِيمٍ.
والساجِعُ: القاصِدُ المُسْتَوِي المُسْتَقِيمُ.
والمُكْفَأُ: الْجَائِرُ، يَعْنِي جَائِرًا غَيْرَ قاصِدٍ؛ وَمِنْهُ السَّجْعُ فِي الْقَوْلِ.
وَفِي حَدِيثِ الهِرّة: «أَنه كَانَ يُكْفِئُ لَهَا الإِناءَ»؛ أي يُمِيلُه لتَشْرَب مِنْهُ بسُهولة.
وَفِي حَدِيثِ الفَرَعَة: «خيرٌ مِنْ أَن تَذْبَحَه يَلْصَقُ لَحْمُهُ بوَبَرِه»، وتُكْفِئُ إِناءَك، وتُولِهُ ناقَتَكَ أَي تَكُبُّ إِناءَكَ لأَنه لَا يَبْقَى لَكَ لَبن تحْلُبه فِيهِ.
وتُولِهُ ناقَتَكَ أَي تَجْعَلُها والِهَةً بِذبْحِك ولَدَها.
وَفِي حَدِيثِ الصِّرَاطِ: «آخِرُ مَن يَمرُّ رجلٌ يَتَكَفَّأُ بِهِ الصراطُ»، أَي يَتَميَّل ويَتَقَلَّبُ.
وَفِي حَدِيثِ دُعاء الطَّعَامِ: «غيرَ مُكْفَإٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنىً عَنْهُ رَبَّنا»، أَي غَيْرَ مَرْدُودٍ وَلَا مَقْلُوبٍ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّعَامِ.
وَفِي رِوَايَةٍ غيرَ مَكْفِيٍّ، مِنِ الْكِفَايَةِ، فَيَكُونُ مِنَ المعتلِّ.
يَعْنِي: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ المُطْعِم وَالْكَافِي، وَهُوَ غَيْرُ مُطْعَم وَلَا مَكْفِيٍّ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا مُوَدَّعٍ أَي غيرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ إِلَيْهِ والرَّغْبةِ فِيمَا عِنْدَهُ.
وأَما قَوْلُهُ: رَبَّنا، فَيَكُونُ عَلَى الأَول مَنْصُوبًا عَلَى النِّدَاءِ الْمُضَافِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ المؤَخَّر أَي ربُّنا غيرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ الْكَلَامُ رَاجِعًا إِلَى الْحَمْدِ كأَنه قَالَ: حَمْدًا كَثِيرًا مَبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مكفيٍّ وَلَا مُودَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنىً عَنْهُ أَي عَنِ الْحَمْدِ.
وَفِي حَدِيثِ الضَّحِيَّةِ: «ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا»، أَي مالَ وَرَجَعَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فأَضَعُ السيفَ فِي بطنِه ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ».
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «وَتَكُونُ الأَرضُ خُبْزةً وَاحِدَةً يَكْفَؤُها الجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحدُكم خُبْزَته فِي السَّفَر».
وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَكَفَّؤُها، يُرِيدُ الخُبْزة الَّتِي يَصْنَعُها المُسافِر ويَضَعُها فِي المَلَّة، فإِنها لَا تُبْسَط كالرُّقاقة، وإِنما تُقَلَّب عَلَى الأَيدي حَتَّى تَسْتَوِيَ.
وَفِي حَدِيثِ صِفَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنه كَانَ إِذَا مشَى تَكَفَّى تَكَفِّيًا».
التَّكَفِّي: التَّمايُلُ إِلَى قُدَّام كَمَا تَتَكَفَّأُ السَّفِينةُ فِي جَرْيها.
قَالَ ابْنُ الأَثير: رُوِيَ مَهْمُوزًا وَغَيْرَ مَهْمُوزٍ.
قَالَ: والأَصل الْهَمْزُ لأَن مَصْدَرَ تَفَعَّلَ مِنَ الصَّحِيحِ تَفَعُّلٌ كَتَقَدَّمَ تَقَدُّمًا، وتَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا، وَالْهَمْزَةُ حَرْفٌ صَحِيحٌ، فأَما إِذَا اعْتَلَّ انْكَسَرَتْ عَيْنُ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ نَحْوَ تَحَفَّى تَحَفِّيًا، وتَسَمَّى تَسَمِّيًا، فإِذا خُفِّفت الهمزةُ الْتَحَقَتْ بِالْمُعْتَلِّ وَصَارَ تَكَفِّيًا بِالْكَسْرِ.
وكلُّ شيءٍ أَمَلْته فَقَدْ كَفَأْتَه، وَهَذَا كَمَا جاءَ أَيضًا أَنه كَانَ إِذَا مَشَى كأَنَّه يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذَا مَشَى تَقَلَّع، وبعضُه مُوافِقٌ بَعْضًا وَمُفَسِّرُهُ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: كأَنما يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ: أَراد أَنه قَوِيُّ البَدَن، فَإِذَا مَشَى فكأَنما يَمْشِي عَلَى صُدُور قَدَمَيْه مِنَ القوَّة، وأَنشد:
الواطِئِينَ عَلَى صُدُورِ نِعالِهِمْ، ***يَمْشُونَ فِي الدَّفَئِيِّ والأَبْرادِ
والتَّكَفِّي فِي الأَصل مَهْمُوزٌ فتُرِك هَمْزُهُ، وَلِذَلِكَ جُعِل الْمَصْدَرُ تَكَفِّيًا.
وأَكْفَأَ فِي سَيره: جارَ عَنِ القَصْدِ.
وأَكْفَأَ فِي الشِّعْرِ: خالَف بَيْنَ ضُروبِ إِعْرابِ قَوافِيه، وقيل: هي المُخالَفةُ بَيْنَ هِجاءِ قَوافِيهِ، إِذَا تَقارَبَتْ مَخارِجُ الحُروفِ أَو تَباعَدَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الإِكْفَاءُ فِي الشِّعْرِ هُوَ المُعاقَبَةُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، وَالنُّونِ وَالْمِيمِ.
قَالَ الأَخفش: زَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ الإِكْفَاءَ هُوَ الإِقْواءُ، وَسَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهل الْعِلْمِ.
قَالَ: وسَأَلتُ العَربَ الفُصَحاءَ عَنِ الإِكْفَاءِ، فَإِذَا هُمْ يَجْعَلُونَهُ الفَسادَ فِي آخِر الْبَيْتِ والاخْتِلافَ مِنْ غَيْرِ أَن يَحُدُّوا فِي ذَلِكَ شَيْئًا، إلَّا أَني رأَيت بَعْضَهُمْ يَجْعَلُهُ اخْتِلَافَ الحُروف، فأَنشدته:
كأَنَّ فَا قارُورةٍ لَمْ تُعْفَصِ، ***مِنْهَا، حِجاجا مُقْلةٍ لَمْ تُلْخَصِ،
كأَنَّ صِيرانَ المَها المُنَقِّزِ فَقَالَ: هَذَا هُوَ الإِكْفَاءُ.
قَالَ: وأَنشد آخَرُ قوافِيَ عَلَى حُرُوفٍ مُخْتَلِفَةٍ، فعابَه، وَلَا أَعلمه إلَّا قَالَ لَهُ: قَدْ أَكْفَأْتَ.
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الفرَّاءِ: أَكْفَأَ الشَّاعِرُ إِذَا خالَف بَيْنَ حَركات الرَّوِيّ، وَهُوَ مِثْلُ الإِقْواءِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: إِذَا كَانَ الإِكْفَاءُ فِي الشِّعْر مَحْمُولًا عَلَى الإِكْفاءِ فِي غَيْرِهِ، وَكَانَ وَضْعُ الإِكْفَاءِ إِنما هُوَ للخلافِ ووقُوعِ الشيءِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، لَمْ يُنْكَر أَن يُسَمُّوا بِهِ الإِقْواءَ فِي اخْتلاف حُروف الرَّوِيِّ جَمِيعًا، لأَنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا واقِعٌ عَلَى غَيْرِ اسْتِواءٍ.
قَالَ الأَخفش: إِلَّا أَنِّي رأَيتهم، إِذَا قَرُبت مَخارِجُ الحُروف، أَو كَانَتْ مِنْ مَخْرَج وَاحِدٍ، ثُمَّ اشْتَدَّ تَشابُهُها، لَمْ تَفْطُنْ لَهَا عامَّتُهم، يَعْنِي عامَّةَ الْعَرَبِ.
وَقَدْ عَابَ الشَّيْخُ أَبو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ قَوْلَهُ: الإِكْفاءُ فِي الشِّعْرِ أَن يُخالَف بَيْنَ قَوافِيه، فيُجْعَلَ بعضُها مِيمًا وَبَعْضُهَا طَاءً، فَقَالَ: صَوَابُ هَذَا أَن يَقُولَ وَبَعْضُهَا نُونًا لأَن الإِكْفَاءَ إِنما يَكُونُ فِي الْحُرُوفِ المُتقارِبة فِي الْمَخْرَجِ، وأَما الطَّاءُ فَلَيْسَتْ مِنْ مَخْرَجِ الْمِيمِ.
والمُكْفَأُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ المَقْلُوب، وَإِلَى هَذَا يَذْهَبُونَ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
ولَمَّا أَصابَتْنِي، مِنَ الدَّهْرِ، نَزْلةٌ، ***شُغِلْتُ، وأَلْهَى الناسَ عَنِّي شُؤُونُها
إِذَا الفارِغَ المَكْفِيَّ مِنهم دَعَوْتُه، ***أَبَرَّ، وكانَتْ دَعْوةً يَسْتَدِيمُها
فَجَمَعَ الْمِيمَ مَعَ النُّونِ لِشِبْهِهَا بِهَا لأَنهما يَخْرُجَانِ مِنَ الخَياشِيم.
قَالَ وأَخبرني مَنْ أَثق بِهِ مِنْ أَهل الْعِلْمِ أَن ابْنَةَ أَبِي مُسافِعٍ قَالَتْ تَرْثِي أَباها، وقُتِلَ، وَهُوَ يَحْمِي جِيفةَ أَبي جَهْل بْنِ هِشام:
وَمَا لَيْثُ غَرِيفٍ، ذُو ***أَظافِيرَ، وإقْدامْ
كَحِبِّي، إذْ تَلَاقَوْا، وَ ***وُجُوهُ القَوْمِ أَقْرانْ
وأَنتَ الطَّاعِنُ النَّجلاءَ، ***مِنْها مُزْبِدٌ آنْ
وبالكَفِّ حُسامٌ صارِمٌ، ***أَبْيَضُ، خَدّامْ
وقَدْ تَرْحَلُ بالرَّكْبِ، ***فَمَا تُخْنِي بِصُحْبانْ
قَالَ: جَمَعُوا بَيْنَ الْمِيمِ وَالنُّونِ لقُرْبهما، وَهُوَ كَثِيرٌ.
قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ مثلَ هَذَا مَا لَا أُحْصِي.
قَالَ الأَخفش: وَبِالْجُمْلَةِ فإِنَّ الإِكْفاءَ المُخالَفةُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: مُكْفَأً غير ساجِعِ: المُكْفَأُ ههنا: الَّذِي لَيْسَ بِمُوافِقٍ.
وَفِي حَدِيثِ النَّابِغَةِ أَنه كَانَ يُكْفِئُ فِي شِعْرِه: «هُوَ أَن يُخالَفَ بَيْنَ حَرَكَاتِ الرَّويّ رَفْعًا ونَصبًا وَجَرًّا».
قَالَ: وَهُوَ كالإِقْواء، وَقِيلَ: هُوَ أَن يُخالَف بَيْنَ قَوافِيه، فَلَا يَلْزَمَ حَرْفًا وَاحِدًا.
وكَفَأَ القومُ: انْصَرَفُوا عَنِ الشيءِ.
وكَفَأَهُم عَنْهُ كَفْأً: صَرَفَهم.
وَقِيلَ: كَفَأْتُهُم كَفْأً إِذَا أَرادوا وَجْهًا فَصَرَفْتَهم عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فانْكَفَؤُوا أَي رَجَعُوا.
وَيُقَالُ: كَانَ الناسُ مُجْتَمِعِينَ فانْكَفَؤُوا وانْكَفَتُوا، إِذَا انْهَزَمُوا.
وانْكَفَأَ القومُ: انْهَزَمُوا.
وكَفَأَ الإِبلَ: طَرَدَها.
واكْتَفَأَها: أَغارَ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ السُّلَيْكِ بْنِ السُّلَكةِ: «أَصابَ أَهْلِيهم وأَموالَهم»، فاكْتَفَأَها.
والكَفْأَةُ والكُفْأَةُ فِي النَّخل: حَمْل سَنَتِها، وَهُوَ فِي الأَرض زِراعةُ سنةٍ.
قَالَ:
غُلْبٌ، مَجالِيحُ، عنْدَ المَحْلِ كُفْأَتُها، ***أَشْطانُها، فِي عِذابِ البَحْرِ، تَسْتَبِقُ
أَراد بِهِ النخيلَ، وأَرادَ بأَشْطانِها عُرُوقَها؛ والبحرُ ههنا: الماءُ الكَثِير، لأَن النَّخِيلَ لَا تَشْرَبُ فِي الْبَحْرِ.
أَبو زَيْدٍ يُقَالُ: اسْتَكْفَأْتُ فُلَانًا نَخْلَةً إِذَا سأَلته ثَمَرَهَا سَنَةً، فَجَعَلَ لِلنَّخْلِ كَفْأَةً، وَهُوَ ثَمَرُ سَنَتِها، شُبِّهت بكَفْأَةِ الإِبل.
واسْتَكْفَأْتُ فُلَانًا إِبِلَه أَي سأَلتُه نِتاجَ إِبِلِه سَنةً، فَأَكْفَأَنِيها أَي أَعْطاني لَبَنها ووبرَها وأَولادَها مِنْهُ.
وَالِاسْمُ: الكَفْأَة والكُفْأَة، تَضُمُّ وَتَفْتَحُ.
تَقُولُ: أَعْطِني كَفْأَةَ ناقَتِك وكُفْأَةَ ناقَتِك.
غَيْرُهُ: كَفْأَةُ الإِبل وكُفْأَتُها: نِتاجُ عامٍ.
ونَتَجَ الإِبلَ كُفْأَتَيْنِ.
وأَكْفأَها إِذَا جَعَلَها كَفْأَتين، وَهُوَ أَن يَجْعَلَها نِصْفَيْنِ يَنْتِجُ كُلَّ عَامٍ نِصْفًا، ويَدَعُ نِصْفًا، كَمَا يَصْنَعُ بالأَرض بِالزِّرَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الْعَامُ المُقْبِل أَرْسَلَ الفحْل فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُرْسِله فِيهِ مِنَ العامِ الفارِطِ، لأَنَّ أَجْوَدَ الأَوقاتِ، عِنْدَ الْعَرَبِ فِي نِتاجِ الإِبل، أَن تُتْرَكَ الناقةُ بَعْدَ نِتاجِها سَنَةً لَا يُحْمَل عَلَيْهَا الفَحْل ثُمَّ تُضْرَبُ إِذَا أَرادت الْفَحْلَ.
وَفِي الصِّحَاحِ: لأَنّ أَفضل النِّتاج أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الإِبل الفُحولةُ عامًا،
وتُتْرَكَ عَامًا، كَمَا يُصْنَع بالأَرض فِي الزِّرَاعَةِ، وأَنشد قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:
تَرَى كُفْأَتَيْها تُنْفِضَانِ، ولَم يَجِدْ ***لَها ثِيلَ سَقْبٍ، فِي النِّتاجَيْنِ، لامِسُ
وَفِي الصِّحَاحِ: كِلا كَفْأَتَيْها، يَعْنِي: أَنها نُتِجَتْ كُلُّهَا إِناثًا، وَهُوَ مَحْمُودٌ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
إِذَا مَا نَتَجْنا أَرْبَعًا، عامَ كُفْأَةٍ، ***بَغاها خَناسِيرًا، فأَهْلَكَ أَرْبَعا
الخَناسِيرُ: الهَلاكُ.
وَقِيلَ: الكَفْأَةُ والكُفْأَةُ: نِتاجُ الإِبل بَعْدَ حِيالِ سَنةٍ.
وَقِيلَ: بعدَ حِيالِ سنةٍ وأَكثرَ.
يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: نَتَجَ فُلَانٌ إِبِلَهُ كَفْأَةً وكُفْأَةً، وأَكْفَأْتُ فِي الشاءِ: مِثلُه فِي الإِبل.
وأَكْفَأَتِ الإِبل: كَثُر نِتاجُها.
وأَكْفَأَ إبلَه وغَنَمَهُ فُلَانًا: جَعل لَهُ أَوبارَها وأصْوافَها وأَشْعارَها وأَلْبانَها وأَوْلادَها.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنَحَه كَفْأَةَ غَنَمِه وكُفْأَتَها: وَهَب لَهُ أَلبانَها وأَولادها وأصوافَها سَنَةً ورَدَّ عَلَيْهِ الأُمَّهاتِ.
ووَهَبْتُ لَهُ كَفْأَةَ ناقتِي وكُفْأَتها، تُضَمُّ وَتُفْتَحُ، إِذَا وَهَبْتَ لَهُ ولدَهَا ولبنَها وَوَبَرَهَا سَنَةً.
واسْتَكْفَأَه، فأَكْفَأَه: سَأَلَه أَن يَجْعَلَ لَهُ ذَلِكَ.
أَبو زَيْدٍ: اسْتَكْفَأَ زيدٌ عَمرًا ناقَتَه إِذَا سأَله أَن يَهَبَها لَهُ وَوَلَدَهَا وَوَبَرَهَا سَنَةً.
وَرُوِيَ عَنِ """"الحرث بن أَبي الحَرِث الأَزْدِيِّ مِنْ أَهل نَصِيبِينَ: أَن أَباه اشْتَرَى مَعْدِنًا بمائةِ شَاةٍ مُتْبِع، فأَتَى أُمَّه، فاسْتَأْمَرَها، فَقَالَتْ: إِنَّكَ اشْتَرَيْتَهُ بِثَلَثِمِائَةِ شَاةٍ: أُمُّها مائةٌ، وأَولادُها مِائَةُ شَاةٍ، وكُفْأَتُها مِائَةُ شَاةٍ، فَنَدِمَ، فاسْتَقالَ صاحِبَه، فأَبَى أنْ يُقِيلَه، فَقَبَضَ المَعْدِنَ، فأَذابَه وأَخرج مِنْهُ ثَمَنَ أَلْفِ شاةٍ، فأَثَى بِهِ صاحِبُه إِلَى عَلِيٍّ، كَرُّم اللَّهُ وَجْهَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبا الحرث أَصابَ رِكازًا؛ فسأَله عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فأَخبره أَنه اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِع.
فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَرَى الخُمُسَ إِلَّا عَلَى البائِعِ، فأَخذَ الخُمُس مِنَ الْغَنَمِ؛ أَراد بالمُتْبِع: الَّتِي يَتْبَعُها أَولادُها.
وَقَوْلُهُ أَثَى بِهِ أَي وَشَى بِهِ وسَعَى بِهِ، يَأْثُوا أَثْوًا.
والكُفْأَةُ أَصلها فِي الإِبل: وَهُوَ أَن تُجْعَلَ الإِبل قَطْعَتَيْن يُراوَحُ بَيْنَهُمَا فِي النِّتاجِ، وأَنشد شَمِرٌ:
قَطَعْتُ إبْلي كُفْأَتَيْنِ ثِنْتَيْن، ***قَسَمْتُها بقِطْعَتَيْنِ نِصْفَيْن
أَنْتِجُ كُفْأَتَيْهِما فِي عامَيْن، ***أَنْتِجُ عَامًا ذِي، وهذِي يُعْفَيْن
وأَنْتِجُ المُعْفَى مِنَ القَطِيعَيْن، ***مِنْ عامِنا الجَائي، وتِيكَ يَبْقَيْن
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: لمْ يَزِدْ شَمِرٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ أُمَّ الرَّجُلِ جعلَت كُفْأَةَ مائةِ شاةٍ فِي كُلِّ نِتاجٍ مِائَةً.
وَلَوْ كَانَتْ إِبِلًا كَانَ كُفْأَةُ مائةٍ مِنَ الإِبلِ خَمْسين، لأَن الغنمَ يُرْسَلُ الفَحْلُ فِيهَا وَقْتَ ضِرابِها أَجْمَعَ، وتَحْمِلُ أَجْمَع، وليستْ مِثلَ الإِبلِ يُحْمَلُ عَلَيْهَا سَنةً، وَسَنَةً لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا.
وأَرادتْ أُمُّ الرَّجُلِ تَكْثِيرَ مَا اشْتَرى بِهِ ابنُها، وإعلامَه أَنه غُبِنَ فِيمَا ابْتاعَ، فَفَطَّنَتْه أَنه كأَنه اشْتَرَى المَعْدِنَ بِثَلَثِمِائَةِ شاةٍ، فَنَدِمَ الابنُ واسْتَقالَ بائعَه، فأَبَى، وبارَكَ اللهُ لَهُ فِي المَعْدِن، فَحَسَده الْبَائِعُ عَلَى كَثْرَةِ الرِّبح، وسَعَى بِهِ إِلَى عَليٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْخُمُسَ، فَأَلْزَمَ الخُمُسَ البائِعَ، وأَضرَّ السَّاعِي بِنَفْسِه فِي سِعايَته بصاحِبِه إِلَيْهِ.
والكِفاءُ، بِالْكَسْرِ والمَدّ: سُتْرةٌ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَعْلاه إِلَى أَسْفَلِه مِنْ مُؤَخَّرِه.
وَقِيلَ: الكِفاءُ الشُّقَّة الَّتِي تَكُونُ فِي مُؤَخَّرِ الخِبَاءِ.
وَقِيلَ: هُوَ شُقَّةٌ أَو شُقَّتان يُنْصَحُ إِحْدَاهُمَا بالأُخرى ثُمَّ يُحْمَلُ بِهِ مُؤَخَّر الخِبَاء.
وَقِيلَ: هُوَ كِساءٌ يُلْقَى عَلَى الخِبَاءِ كالإِزارِ حَتَّى يَبْلُغَ الأَرضَ.
وَقَدْ أَكْفَأَ البيتَ إكْفاءً، وَهُوَ مُكْفَأٌ، إِذَا عَمِلْتَ لَهُ كِفَاءً.
وكِفَاءُ البيتِ: مؤَخَّرُه.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ: «رأَى شَاةً فِي كِفَاءِ الْبَيْتِ»، هُوَ مِنْ ذَلِكَ، والجمعُ أَكْفِئةٌ، كَحِمارٍ وأَحْمِرَةٍ.
ورجُلٌ مُكْفَأُ الوجهِ: مُتَغَيِّرُه ساهِمُه.
ورأَيت فُلَانًا مُكْفَأَ الوَجْهِ إِذَا رأَيتَه كاسِفَ اللَّوْنِ ساهِمًا.
وَيُقَالُ: رأَيته مُتَكَفِّئَ اللَّوْنِ ومُنْكَفِتَ اللّوْنِ أَي مُتَغَيِّرَ اللّوْنِ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه انْكَفَأَ لونُه عامَ الرَّمادة»؛ أي تَغَيّر لونُه عَنْ حَالِهِ.
وَيُقَالُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ كَفِيءَ اللّونِ مُتَغَيِّرَه، كأَنه كُفِئَ، فَهُوَ مَكْفُوءٌ وكَفِيءٌ.
قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّة:
وأَسْمَرَ، مِنْ قِداحِ النَّبْعِ، فَرْعٍ، ***كَفِيءِ اللّوْنِ مِنْ مَسٍّ وضَرْسِ
أَي مُتَغَيِّرِ اللونِ مِنْ كَثْرَةِ مَا مُسِحَ وعُضَّ.
وَفِي حَدِيثِ الأَنصاريِّ: «مَا لِي أَرى لَوْنَك مُنْكَفِئًا؟ قَالَ: مِنَ الجُوعِ».
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ لَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكافِئٍ».
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى رَجُلٍ نِعْمةً فكافَأَه بالثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَبِلَ ثَنَاءَه، وَإِذَا أَثْنَى قَبْلَ أَن يُنْعِمَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْها.
قَالَ ابْنُ الأَثير، وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: هَذَا غلط، إذ كَانَ أَحد لَا يَنْفَكُّ مِنْ إِنْعام النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعَثَه رَحْمةً لِلنَّاسِ كافَّةً، فَلَا يَخرج مِنْهَا مُكافِئٌ وَلَا غَيْرُ مُكافِئٍ، والثَّنَاءُ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الإِسلام إِلَّا بِهِ.
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنه لَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ رَجُلٍ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي جُمْلة المُنافِقين الَّذِينَ يَقولون بأَلسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.
قَالَ: وَقَالَ الأَزهريّ: وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: إِلَّا مِنْ مُكافِئٍ أَي مُقارِبٍ غَيْرِ مُجاوِزٍ حَدَّ مثلِه، وَلَا مُقصِّر عَمَّا رَفَعَه اللَّهُ إليه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
63-لسان العرب (فوت)
فوت: الفَوْتُ: الفَواتُ.فاتَني كَذَا أَي سَبَقَني، وفُتُّه أَنا.
وَقَالَ أَعرابي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُفات وَلَا يُلاتُ.
وفاتَني الأَمرُ فَوْتًا وفَواتًا: ذهَب عَنِّي.
وفاتَه الشيءُ، وأَفاتَه إِياه غَيْرَهُ؛ وَقَوْلُ أَبي ذؤَيب:
إِذا أَرَنَّ عَلَيْهَا طارِدًا، نَزِقَتْ، ***والفَوْتُ، إِن فاتَ، هَادِي الصَّدْرِ والكَتَدُ
يَقُولُ: إِن فاتَتْه، لَمْ تَفُتْه إِلا بقَدْرِ صَدْرها ومَنكِبها، فالفَوْتُ فِي مَعْنَى الْفَائِتِ.
وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَوْتٌ وَلَا فَواتٌ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
وتَفَوَّتَ الشيءُ، وتَفاوَتَ تَفاوُتًا، وتَفاوَتًا، وتَفاوِتًا: حَكَاهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ}؛ الْمَعْنَى: مَا تَرى فِي خَلْقِه تَعَالَى السماءَ اختِلافًا، وَلَا اضْطرابًا.
وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ تَفاعَلٌ وَلَا تَفاعِلٌ.
وتَفاوَتَ الشَّيْئَانِ أَي تَباعد مَا بَيْنَهُمَا تَفاوُتًا، بِضَمِّ الْوَاوِ؛ وَقَالَ الْكِلَابِيُّونَ فِي مَصْدَرِهِ: تَفاوَتًا، فَفَتَحُوا الْوَاوَ؛ وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: تَفاوِتًا، بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، لأَن الْمَصْدَرَ مِنْ تَفاعل يَتَفاعَلُ تَفاعُلٌ، مَضْمُومُ الْعَيْنِ، إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ.
اللَّيْثُ: فاتَ يَفُوتُ فَوْتًا، فَهُوَ فائتٌ، كَمَا يَقُولُونَ: بَوْنٌ بائنٌ، وَبَيْنَهُمْ تَفاوُتٌ وتَفَوُّتٌ.
وقرئَ: مَا تَرَى فِي خلقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفاوُتٍ وتَفَوُّتٍ؛ فالأُولى قراءَة أَبي عَمْرٍو؛ قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى مِنِ اخْتلافٍ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِن تَفَوُّتٍ: مِن عَيْبٍ، فَيَقُولُ النَّاظِرُ: لَوْ كان كذا وكذا، كان أَحسنَ؛ وَقَالَ الفراءُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَبَيْنَهُمَا فَوْتٌ فائتٌ، كَمَا يُقَالُ بَوْنٌ بائنٌ.
وَهَذَا الأَمْرُ لَا يُفْتاتُ أَي لَا يَفُوتُ، وافْتاتَ عَلَيْهِ فِي الأَمْرِ: حكَمَ.
وكلُّ مَنْ أَحدَثَ دُونَكَ شَيْئًا: فَقَدْ فاتَكَ بِهِ، وافْتاتَ عَلَيْكَ فِيهِ؛ قَالَ مَعْنُ بْنُ أَوْسٍ يُعاتِبُ امرأَته:
فإِنَّ الصُّبْحَ مُنْتَظَرٌ قَريبٌ، ***وإِنَّكِ، بالمَلامة، لنْ تُفاتي
أَي لَا أَفُوتُك، وَلَا يَفوتُك مَلامي إِذا أَصْبَحْت، فدَعِيني ونَومي إِلى أَن نُصْبِحَ، وَفُلَانٌ لَا يُفْتاتُ عَلَيْهِ أَي لَا يُعْمَلُ شيءٌ دُونَ أَمره.
وزَوَّجَتْ عائشةُ ابنةَ أَخيها عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرٍ، وَهُوَ غَائِبٌ، مِن الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبير، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَيبته، قَالَ: أَمِثْلي يُفْتاتُ عَلَيْهِ فِي أَمْر بناتِه؟ أَي يُفْعَلُ فِي شَأْنهن شيءٌ بِغَيْرِ أَمره؛ نَقِمَ عَلَيْهَا نكاحَها ابْنَته دُونَهُ.
وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا فِي أَمْرِكَ دُونَكَ: قَدِ افْتاتَ عَلَيْكَ فِيهِ؛ وَرَوَى الأَصمعي بَيْتَ ابْنِ مُقْبِلٍ:
يَا حُرُّ أَمْسَيْتُ شَيْخًا قَدْ وَهَى بَصَري، ***وافْتِيتَ، مَا دُونَ يومِ البَعْثِ، مِنْ عُمُري
قَالَ الأَصمعي: هُوَ مِنَ الفَوْتِ.
قَالَ: والافْتِيات الفَراغ.
يُقَالُ: افْتاتَ بأَمره أَي مَضى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَشِرْ أَحدًا؛ لَمْ يَهْمِزْهُ الأَصمعي.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ شُمَيْلٍ وَابْنِ السِّكِّيتِ: افْتَأَت فلانٌ بأَمره، بِالْهَمْزِ، إِذا اسْتَبَدَّ بِهِ.
قَالَ الأَزهري: قَدْ صَحَّ الْهَمْزُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْحَرْفِ، وَمَا عَلِمْتُ الْهَمْزَ فِيهِ أَصليًّا، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي الْهَمْزِ أَيضًا.
الْجَوْهَرِيُّ: الافْتِياتُ افْتِعالٌ مِنَ الفَوْت، وَهُوَ السَّبْقُ إِلى الشيءِ دُونَ ائْتِمار مَنْ يُؤْتَمر.
تَقُولُ: افْتاتَ عَلَيْهِ بأَمر كَذَا أَي فاتَه بِهِ، وتَفَوَّتَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَي فَاتَهُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رَجُلًا تَفَوَّتَ عَلَى أَبيه فِي مَالِهِ، فأَتى أَبوه النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذَكَر لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: ارْدُدْ عَلَى ابْنِكَ مالَه، فإِنما هُوَ سَهْمُ مِنْ كِنانَتِك»؛ قَوْلُهُ: تَفَوَّتَ، مأْخوذٌ مِنَ الفَوْت، تَفَعَّلَ مِنْهُ؛ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الابنَ لَمْ يَسْتَشِرْ أَباه، وَلَمْ يستأْذنه فِي هِبَةِ مَالِ نَفْسِهِ، فأَتى الأَبُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَخبره، فَقَالَ: ارْتَجِعْه مِنَ المَوْهُوب لَهُ، وارْدُدْه عَلَى ابْنِكَ، فإِنه وَمَا فِي يَدِهِ تَحْتَ يَدِكَ، وَفِي مَلَكَتِك، فَلَيْسَ لَهُ أَن يَسْتَبِدَّ بأَمْرٍ دُونَكَ، فَضَرَب، كونَه سَهمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، مَثَلًا لِكَوْنِهِ بعضَ كَسْبِهِ، وأَعلمه أَنه لَيْسَ لِلِابْنِ أَن يَفتات عَلَى أَبيه بِمَالِهِ، وَهُوَ مِنَ الفَوْت السَّبقِ.
تَقُولُ: تَفَوَّتَ فلانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي كَذَا، وافتاتَ عَلَيْهِ إِذا انْفَرَدَ برأْيه دُونَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ.
ولمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّغَلُّبِ عُدِّيَ بِعَلَى.
وَرَجُلٌ فُوَيْتٌ، مُنْفَرِدٌ برأْيه، وَكَذَلِكَ الأُنثى.
وزَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ أَهله، فَلَمَّا رَجَع قَالَتْ لَهُ امرأَتُه: لَوْ شَهِدْتَنا لأَخْبَرناك، وحَدَّثْناك بِمَا كَانَ، فَقَالَ لَهَا: لَنْ تُفاتي، فَهَاتِي.
والفَوْتُ: الخَلَل والفُرْجَةُ بَيْنَ الأَصابع، وَالْجَمْعُ أَفْواتٌ.
وَهُوَ مِنِّي فَوْتَ اليدِ أَي قَدْرَ مَا يَفُوتُ يَدِي؛ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ فِي الظُّرُوفِ الْمَخْصُوصَةِ.
وَقَالَ أَعرابي لِصَاحِبِهِ: ادْنُ دُونَك، فَلَمَّا أَبطَأَ قَالَ لَهُ: جَعَلَ اللَّهُ رِزْقكَ فَوْتَ فمِكَ أَي تَنْظُر إِليه قَدْرَ مَا يَفوتُ فَمَكَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ وَتَقُولُ: هُوَ مِنِّي فَوْتَ الرُّمْحِ أَي حَيْثُ لَا يَبْلُغه.
ومَوْتُ الفَواتِ: مَوْتُ الفَجْأَةِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ جِدارٍ مائِلٍ، فأَسْرَعَ المَشْيَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْرَعْتَ المَشْيَ، فقال: إِني أَكْرَه موتَ الفَواتِ»، يَعْنِي مَوْتَ الفُجاءَة؛ وَفِي رِوَايَةٍ:
أَخافُ موتَ الفَواتِ؛ هُوَ مِن قَوْلِكَ: فَاتَنِي فُلَانٌ بِكَذَا؛ أي سَبَقَني بِهِ.
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِمَوتِ الفَجْأَةِ: المَوتُ الأَبْيضُ، والجارِفُ، واللَّافِتُ، والفاتِلُ، وَهُوَ المَوْتُ الفَواتُ والفُوَاتُ، وَهُوَ أَخْذَةُ الأَسَفِ، وَهُوَ الوَحِيّ؛ وَيُقَالُ: مَاتَ فلانٌ مَوْتَ الفَواتِ أَي فُوجِئَ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
64-لسان العرب (سطح)
سطح: سَطَحَ الرجلَ وَغَيْرَهُ يَسطَحه، فَهُوَ مسْطوحٌ وسَطِيح: أَضْجَعَه وَصَرَعَهُ فَبَسَطَهُ عَلَى الأَرض.وَرَجُلٌ مَسْطُوحٌ وسَطِيحٌ: قَتيلٌ منبَسِطٌ؛ قَالَ اللَّيْثُ: السَّطِيحُ المَسْطُوحُ هُوَ الْقَتِيلُ: وأَنشد:
حَتَّى يَراه وَجْهها سَطِيحا والسَّطِيح: الْمُنْبَسِطُ، وَقِيلَ: الْمُنْبَسِطُ الْبَطِيءُ الْقِيَامُ مِنَ الضَّعْفِ.
والسَّطِيح: الَّذِي يُولَدُ ضَعِيفًا لَا يقدر
عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَهُوَ أَبدًا مُنْبَسِطٌ.
والسَّطِيح: الْمُسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهُ مِنَ الزِّمَانَةِ.
وسَطِيحٌ: هَذَا الْكَاهِنُ الذِّئْبيُّ، مِنْ بَنِي ذِئْب، كَانَ يَتَكَهَّنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه كَانَ إِذا غَضِبَ قَعَدَ مُنْبَسِطًا فِيمَا زَعَمُوا؛ وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْنَ مَفَاصِلِهِ قَصَبٌ تَعْمِدُه، فَكَانَ أَبدًا مُنْبَسِطًا مُنْسَطِحًا عَلَى الأَرض لَا يَقْدِرُ عَلَى قِيَامٍ وَلَا قُعُودٍ، وَيُقَالُ: كَانَ لَا عَظْمَ فِيهِ سِوَى رأْسه.
رَوَى الأَزهري بإِسناده عَنِ مَخْزُوم بْنِ هانئٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبيه: وأَتت لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ؛ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَجَسَ إِيوانُ كِسْرى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَربع عَشْرَةَ شُرْفةً، وخَمِدَتْ نَارُ فارِسَ وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ مِائَةَ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَة ساوَةَ؛ ورأَى المُوبِذانُ إِبلًا صِعابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَة وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصبح كِسْرَى أَفزعه مَا رأَى فَلَبِسَ تَاجَهُ وأَخبر مرازِبَتَه بِمَا رأَى، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ؛ فَقَالَ المُوبِذانُ: وأَنا رأَيت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فِي الإِبل، فَقَالَ لَهُ: وأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: حَادَثَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَرَبِ.
فَبَعَثَ كِسْرَى إِلى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: أَنِ ابْعَثْ إِليَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ لِيُخْبِرَنِي عَمَّا أَسأَله؛ فَوَجَّه إِليه بِعَبْدِ المَسيح بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيلَة الغسَّانيّ، فأَخبره بِمَا رأَى؛ فَقَالَ: عَلِمَ هَذَا عِنْدَ خَالِيَ سَطِيح، قَالَ: فأْتِه وسَلْه وأْتنِي بِجَوَابِهِ؛ فَقَدِمَ عَلَى سَطِيح وَقَدْ أَشْفى عَلَى الْمَوْتِ، فأَنشأَ يَقُولُ:
أَصَمّ أَم يَسْمَعُ غِطرِيفُ اليَمنْ؟ ***أَم فادَ فازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ العَنَنْ؟
يَا فاصِلَ الخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ ***، أَتاكَ شَيْخُ الحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ
رسولُ قَيْلِ العُجْمِ يَسْري للوَسَنْ، ***وأُمُّه مِنْ آلِ ذِئْبِ بنِ حَجَنْ
أَبْيضُ فَضْفاضُ الرِّداءِ والبَدَنْ، ***تَجُوبُ بِي الأَرْضَ عَلَنْداةٌ شَزَنْ،
تَرْفَعُنِي وَجْنًا وتَهْوِي بِي وَجَنْ ***، حَتَّى أَتى عارِي الْجَآجِي والقَطَنْ،
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ، ***تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغاءُ الدِّمَنْ
، كأَنما حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رأْسه، فَقَالَ: عبدُ الْمَسِيحِ، عَلَى جَمَل مُسيح، إِلى سَطيح، وَقَدْ أَوْفى عَلَى الضَّريح، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الإِيوان، وخُمُود النِّيرَانِ، ورُؤيا المُوبِذان، رَأَى إِبلًا صِعابًا، تَقُود خَيْلًا عِرابًا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذا كَثُرَتِ التِّلاوَة، وبُعِثَ صَاحِبُ الهِراوة، وغاضَتْ بُحَيْرَة سَاوَةْ، فَلَيْسَ الشَّامَ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلوكٌ ومَلِكات، عَلَى عددِ الشُّرُفاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، ثُمَّ قُبِضَ سطيحٌ مَكَانَهُ، وَنَهَضَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فإِنك، مَا عُمِّرْتَ، شِمِّيرُ ***لَا يُفْزِعَنَّك تَفْريقٌ وتَغْييرُ
إِن يُمْسِ مُلْكُ بَنِي ساسانَ أَفْرَطَهُمْ، ***فإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوارٌ دَهارِيرُ
فَرُبَّما رُبَّما أَضْحَوا بمنزلةٍ، ***تَخافُ صَولَهُمُ أُسْدٌ مَهَاصِيرُ
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرام، وإِخْوَتُهُمْ، ***وهُرْمُزانٌ، وسابورٌ، وسَابُورُ
والناسُ أَوْلادُ عَلَّاتٍ، فَمَنْ عَلِمُوا ***أَن قَدْ أَقَلَّ، فمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وَهُمْ بَنُو الأُمِّ لمَّا أَنْ رَأَوْا نَشَبًا، ***فذاكَ بالغَيْبِ محفوظٌ ومنصورُ
والخيرُ والشَّرُّ مَقْرُونانِ فِي قَرَنٍ، ***فالخَيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذورُ
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخبره بِقَوْلِ سَطِيحٍ؛ فَقَالَ كِسْرَى: إِلى أَن يَمْلِكَ مِنَّا أَربعة عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمور، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَربع سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وانْسَطَحَ الرجلُ: امتدَّ عَلَى قَفَاهُ وَلَمْ يَتَحَرَّكِ.
والسَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ عَلَى وَجْهِ الأَرض كَمَا تَقُولُ فِي الْحَرْبِ: سَطَحُوهم أَي أَضْجَعُوهم عَلَى الأَرض.
وتَسَطَّحَ الشيءُ وانْسَطَحَ: انْبَسَطَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ للمرأَة الَّتِي مَعَهَا الصِّبْيَانُ: «أَطْعِمِيهم وأَنا أَسْطَحُ لَكِ»أَي أَبْسُطه حَتَّى يَبْرُدَ.
والسَّطْحُ: ظَهْرُ الْبَيْتِ إِذا كَانَ مُسْتَوِيًا لِانْبِسَاطِهِ؛ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعلاه، وَالْجَمْعُ سُطوح، وفعلُك التَّسطيحُ.
وسَطَحَ البيتَ يَسْطَحُه سَطْحًا وسَطَّحه سوَّى سَطْحه.
ورأَيت الأَرضَ مَساطِحَ لَا مَرْعَى بِهَا: شُبِّهَتْ بِالْبُيُوتِ الْمَسْطُوحَةِ.
والسُّطَّاحُ مِنَ النَّبْتِ: مَا افْتَرَشَ فَانْبَسَطَ وَلَمْ يَسْمُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.
وسَطَحَ اللهُ الأَرضَ سَطْحًا: بَسَطَهَا.
وتَسطِيحُ الْقَبْرِ: خِلَافُ تَسْنِيمِه.
وأَنفٌ مُسَطَّحٌ: منبسِط جِدًّا.
والسُّطَّاحُ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: نَبتَةٌ سُهْلِيَّة تَنسَطِح عَلَى الأَرض، وَاحِدَتُهُ سُطَّاحة.
وَقِيلَ: السُّطَّاحة شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي الدِّيَارِ فِي أَعطان الْمِيَاهِ مُتَسَطِّحَة، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَلَيْسَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ؛ قَالَ الأَزهري: والسُّطَّاحة بَقْلَةٌ تَرْعَاهَا الْمَاشِيَةُ ويُغْسَلُ بوَرَقِها الرؤوس.
وسَطَحَ النَّاقَةَ: أَناخها.
والسَّطيحة والسَّطيح: المَزادة الَّتِي مِنْ أَدِيمَيْن قُوبل أَحدُهما بِالْآخَرِ، وَتَكُونُ صَغِيرَةً وَتَكُونُ كَبِيرَةً، وَهِيَ مِنْ أَواني الْمِيَاهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ أَسفاره فَفَقَدوا الماءَ، فأَرْسَل عَلِيًّا وَفُلَانًا يَبْغِيان الْمَاءَ فإِذا هما بامرأَة بين سَطِيحَتَيْن»؛ قَالَ: السَّطِيحة المَزادة تَكُونُ مِنْ جِلْدَيْنِ أَو المَزادة أَكبر مِنْهَا.
والمِسْطَحُ: الصَّفاة يحاط عليها بالحجارة فيجتمع فِيهَا الْمَاءُ؛ قَالَ الأَزهري: والمِسْطَحُ أَيضًا صَفِيحة عَرِيضَةٌ مِنَ الصَّخْر يُحَوَّط عَلَيْهَا لِمَاءِ السَّمَاءِ؛ قَالَ: وَرُبَّمَا خَلَقَ اللَّهُ عِنْدَ فَمِ الرَّكِيَّة صَفاةً مَلْساء مُسْتَوِيَةً فَيُحَوَّطُ عَلَيْهَا بِالْحِجَارَةِ وتُسْقَى فِيهَا الإِبلُ شِبْهَ الحَوْض؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاح:
فِي جنبي مريٍّ ومِسْطَحِ
والمِسْطَحُ: كُوز ذُو جَنْبٍ وَاحِدٍ، يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ.
والمِسْطَحُ والمِسْطَحَةُ: شِبْهُ مِطْهَرة لَيْسَتْ بمربعة، والمِسْطَحُ [المَسْطَحُ]، تُفْتَحُ مِيمُهُ وَتُكْسَرُ: مَكَانٌ مستوٍ يُبْسَطُ عَلَيْهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ ويُسَمَّى الجَرِينَ، يَمَانِيَةٌ.
والمِسْطَحُ: حَصِيرٌ يُسَفُّ مِنْ خُوصِ الدَّوْم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ:
إِذا الأَمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأَنه، ***مِنَ الحَرِّ فِي حَدِّ الظَّهِيرَةِ، مِسْطَحُ
الأَزهري: قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ المِسْطَحُ والمِحْوَرُ والشُّوبَقُ.
والمِسْطَحُ: عمودٌ مِنْ أَعمِدَة الخِباءِ والفُسْطاط؛ وَفِي حَدِيثِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ حَمَلَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ»، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فضربتْ إِحداهما الأُخرى بمسْطَح، فأَلقت جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ؛ وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّة؛ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النَّضْرِيُّ، وَفِي حَوَاشِي ابْنِ بَرِّيٍّ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ:
تَعرَّضَ ضَيطارُو خُزاعَةَ دونَنا، ***وَمَا خَيرُ ضَيطارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ سِلَاحٌ يُقَاتِلُ بِهِ غَيْرَ مِسْطَح.
والضَّيْطارُ: الضَّخْمُ الَّذِي لَا غَناءَ عِنْدَهِ.
والمِسْطَحُ: الْخَشَبَةُ المُعَرَّضة عَلَى دِعامَتَيِ الكَرْم بالأُطُرِ؛ قَالَ ابْنُ شُمَيْل: إِذا عُرِّشَ الكَرْمُ، عُمِدَ إِلى دَعَائِمَ يَحْفِرُ لَهَا فِي الأَرض، لِكُلِّ دِعامةٍ شُعْبَتان، ثُمَّ تؤْخذ شُعْبَةٌ فتُعَرَّضُ عَلَى الدِّعامَتين، وتسمَّى هَذِهِ الْخَشَبَةُ الْمُعَرَّضَةُ المِسْطَح، وَيُجْعَلُ عَلَى المَساطِح أُطُرٌ مِنْ أَدناها إِلى أَقصاها؛ تُسَمَّى المَساطِحُ بالأُطُر مَساطِحَ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
65-لسان العرب (دفر)
دفر: الدَّفْرُ: الدَّفْعُ.دَفَرَ فِي عُنُقِهِ دَفْرًا: دَفَعَ فِي صَدْرِهِ وَمَنَعَهُ؛ يَمَانِيَةٌ.
ابْنُ الأَعرابي: دفَرْتُه فِي قَفَاهُ دَفْرًا أَي دُفَعْتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}؛ قَالَ يُدْفَرونَ فِي أَقفيتهم دَفْرًا أَي دَفْعًا.
والدَّفَرُ: وُقُوعُ الدُّودِ فِي الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ.
والدَّفَرُ: النَّتْنُ خَاصَّةً وَلَا يَكُونُ الطِّيبَ البتةَ.
ابْنُ الأَعرابي: أَدْفَرَ الرجلُ إِذا فَاحَ رِيحُ صُنَانِهِ.
غَيْرُهُ: الذَّفَرُ، بِالذَّالِ وَتَحْرِيكِ الْفَاءِ، شِدَّةُ ذَكَاءِ الرَّائِحَةِ، طَيِّبَةً كَانَتْ أَو خَبِيثَةً؛ وَمِنْهُ قِيلَ: مِسْك أَذْفَرُ، وَرَجُلٌ أَدْفَرُ ودَفِرٌ، الأَخيرة عَلَى النَّسَبِ لَا فِعْلَ لَهُ؛ قَالَ نَافِعُ بْنُ لَقِيطٍ الفَقْعَسِيُّ:
ومُؤَوْلِقٍ أَنْضَجْتُ كَيَّةَ رَأْسِه، ***فَتَرَكْتُهُ دَفِرًا كَريحِ الجَوْرَبِ
وامرأَة دَفْرَاءُ ودَفِرَةٌ.
وَيُقَالُ للأَمة إِذا شُتِمَتْ: يَا دَفَارِ، مِثْلُ قَطَامِ، أَي يَا مُنْتِنَةُ.
وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: «أَلْقِي إِلَيَّ ابْنَةَ أَخي يَا دَفارِ» أَي يَا مُنْتِنَةُ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ وأَكثر مَا تَرِدُ فِي النِّدَاءِ.
والدَّفْرُ وأُمُّ دَفْرٍ: مِنْ أَسماء الدَّوَاهِي.
ودَفارِ وأُمُّ دَفارِ وأُمُّ دَفْرٍ، كُلُّهُ: الدُّنْيَا.
ودَفْرًا دَافِرًا لِمَا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَي نَتْنًا.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا قَبَّحْتَ أَمْرَهُ: دَفْرًا دَافِرًا، وَيُقَالُ: دَفْرًا لَهُ أَي نَتْنًا.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: الدَّفْرُ الذُّلُّ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا سأَل كَعْبًا عَنْ وُلاةِ الأَمْرِ فأَخبره قَالَ: وَا دَفْرَاهُ "قيل: أَراد وَا ذُلَّاهْ، وأَما غَيْرُهُ فَفَسَّرَهُ بالنَّتْنِ أَي وا نَتْنَاه؛ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ: " إِنما الحاجُّ الأَشْعَثُ الأَدْفَرُ الأَشْعَرُ "؛ والدَّفَرُ: النَّتِنُ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ: وَلَا أَعرف هَذَا الْفَرْقَ إِلَّا عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وَمِنْهُ قِيلٌ لِلدُّنْيَا أُم دَفْرٍ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
66-لسان العرب (عرر)
عرر: العَرُّ والعُرُّ والعُرَّةُ: الجربُ، وَقِيلَ: العَرُّ، بِالْفَتْحِ، الْجَرَبُ، وَبِالضَّمِّ، قُروحٌ بأَعناق الفُصلان.يُقَالُ: عُرَّت، فَهِيَ مَعْرُورة؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " ولانَ جِلْدُ الأَرضِ بَعْدَ عَرِّه "أَي جَرَبِه، وَيُرْوَى غَرّه، وسيأْتي ذِكْرُهُ؛ وَقِيلَ: العُرُّ داءٌ يأْخذ الْبَعِيرَ فَيَتَمَعَّطُ عَنْهُ وَبَرُه حَتَّى يَبْدُوَ الجلدُ ويَبْرُقَ؛ وَقَدْ عَرَّت الإِبلُ تَعُرُّ وتَعِرُّ عَرًّا، فَهِيَ عَارَّةٌ، وعُرَّتْ.
واستعَرَّهم الجربُ: فَشَا فِيهِمْ.
وَجَمَلٌ أَعَرُّ وعارٌّ أَي جَرِبٌ.
والعُرُّ، بِالضَّمِّ: قُرُوحٌ مِثْلُ القُوَباء تَخْرُجُ بالإِبل مُتَفَرِّقَةً فِي مَشَافِرِهَا وَقَوَائِمِهَا يَسِيلُ مِنْهَا مثلُ الْمَاءِ الأَصفر، فتُكْوَى الصِّحاحُ لِئَلَّا تُعْدِيها المِراضُ؛ تَقُولُ مِنْهُ: عُرَّت الإِبلُ، فَهِيَ مَعْرُورة؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
فحَمَّلْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وتَرَكْتَه، ***كذِي العُرِّ يُكْوَى غيرُه، وَهْوَ راتِعْ
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَقَدْ غَلِطَ لأَن الجرَب لَا يُكْوى مِنْهُ؛ وَيُقَالُ: بِهِ عُرَّةٌ، وَهُوَ مَا اعْتَراه مِنَ الْجُنُونِ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
ويَخْضِدُ فِي الآرِيّ حَتَّى كأَنما ***بِهِ عُرَّةٌ، أَو طائِفٌ غيرُ مُعْقِب
وَرَجُلٌ أَعَرُّ بيّنُ العَرَرِ والعُرُورِ: أَجْرَبُ، وَقِيلَ: العَرَرُ والعُرُورُ الجرَبُ نَفْسُهُ كالعَرِّ؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
خَلِيلي الَّذِي دَلَّى لِغَيٍّ خَلِيلَتي ***جِهارًا، فكلٌّ قَدْ أَصابَ عُرُورَها
والمِعْرارُ مِنَ النَّخْلِ: الَّتِي يُصِيبُهَا مِثْلُ العَرّ وَهُوَ الْجَرَبُ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ عَنْ التَّوَّزِيّ؛ وَاسْتَعَارَ العَرّ وَالْجَرَبَ جَمِيعًا لِلنَّخْلِ وإِنما هُمَا فِي الإِبل.
قَالَ: وَحَكَى التَّوَّزِيُّ إِذا ابْتَاعَ الرَّجُلُ نَخْلًا اشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ فَقَالَ: لَيْسَ لِي مِقْمارٌ وَلَا مِئْخارٌ وَلَا مِبْسارٌ وَلَا مِعْرارٌ وَلَا مِغْبارٌ؛ فالمِقْمارُ: البيضاءُ البُسْر الَّتِي يَبْقَى بُسْرُها لَا يُرْطِبُ، والمِئْخارُ: الَّتِي تُؤَخِّرُ إِلى الشِّتَاءِ، والمِغْبارُ: الَّتِي يَعْلُوها غُبارٌ، والمِعْرار: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا سأَل آخَرَ عَنْ مَنْزِلِهِ فأَخْبَره أَنه يَنْزِلُ بَيْنَ حَيّين مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ: نَزَلْتَ بَيْنَ المَعَرّة والمَجَرّة»؛ المَجرّةُ" الَّتِي فِي السَّمَاءِ البياضُ الْمَعْرُوفُ، والمَعَرَّة "مَا وراءَها مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ؛ سُمِّيَتْ مَعَرّة لِكَثْرَةِ النُّجُومِ فِيهَا، أَراد بَيْنَ حَيَّيْنِ عَظِيمَيْنِ لِكَثْرَةِ النُّجُومِ.
وأَصل المَعَرَّة: مَوْضِعُ العَرّ وَهُوَ الجرَبُ وَلِهَذَا سَمَّوا السماءَ الجَرْباءَ لِكَثْرَةِ النُّجُومِ فِيهَا، تَشْبِيهًا بالجَرَبِ فِي بَدَنِ الإِنسان.
وعارَّه مُعارّة وعِرارًا: قاتَلَه وَآذَاهُ.
أَبو عَمْرٍو: العِرارُ القِتالُ، يُقَالُ: عارَرْتُه إِذا قَاتَلْتَهُ.
والعَرَّةُ والمَعُرَّةُ: الشِّدَّةُ، وَقِيلَ: الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ.
والمَعَرَّةُ: الإِثم.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ مِنْ الْجَرَبِ، أَي يُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ أَمر تَكْرَهُونه فِي الدِّيات، وَقِيلَ: المَعَرَّة الجنايةُ أَي جِنايَتُه كَجِنَايَةِ العَرِّ وَهُوَ الْجَرَبُ؛ وأَنشد:
قُلْ لِلْفوارِس مِنْ غُزَيّة إِنهم، ***عِنْدَ الْقِتَالِ، مَعَرّةُ الأَبْطالِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسحاق بْنِ يَسَارٍ: المَعَرَّةُ الغُرْم؛ يَقُولُ: لَوْلَا أَن تُصِيبُوا مِنْهُمْ مُؤْمِنًا بِغَيْرِ عِلْم فتَغْرموا دِيَته فأَما إِثمه فإِنه لَمْ يخْشَه عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ شَمِرٌ: المَعَرّةُ الأَذَى.
ومَعَرَّةُ الجيشِ: أَن يَنْزِلُوا بِقَوْمٍ فيأْكلوا مِنْ زُروعِهم شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ وَهَذَا الَّذِي أَراده" عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إِني أَبْرَأُ إِليك مِنْ مَعَرّةِ الجَيْش، وَقِيلَ: هُوَ قِتَالُ الْجَيْشِ دُونَ إِذْن الأَمير.
وأَما قَوْلُهُ تعالى: {لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ فالمَعَرَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُصِيب الْمُؤْمِنِينَ أَنهم لَوْ كَبَسُوا أَهلَ مَكَّةَ وَبَيْنَ ظَهْرانَيْهم قومٌ مُؤْمِنُونَ لَمْ يَتَمَيَّزُوا مِنَ الكُفّار، لَمْ يأْمنوا أَن يَطَأُوا الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَقْتُلُوهُمْ، فَتَلْزَمُهُمْ دِيَاتُهُمْ وَتَلْحَقُهُمْ سُبّةٌ بأَنهم قَتَلُوا مَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِمْ إِذ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِهِمْ.
يَقُولُ اللَّهُ تعالى: {لَوْ تميزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الكُفّار لسَلّطْناكم عَلَيْهِمْ وَعَذَّبْنَاهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ فَهَذِهِ المَعَرّةُ الَّتِي صانَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهَا هِيَ غُرْم الدِّيَاتِ ومَسَبّة الكُفار إِياهم، وأَما مَعَرّةُ الجيشِ الَّتِي تبرّأَ مِنْهَا عُمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهِيَ وطْأَتُهم مَنْ مَرُّوا بِهِ مِنْ مُسْلِمٍ أَو معاهَدٍ، وإِصابتُهم إِياهم فِي حَرِيمِهم وأَمْوالِهم وزُروعِهم بِمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِيهِ.
والمَعَرّة: كوكبٌ دُونَ المَجَرَّة.
والمَعَرّةُ: تلوُّنُ الْوَجْهِ مِن الْغَضَبِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: جَاءَ أَبو الْعَبَّاسِ بِهَذَا الْحَرْفِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، فإِن كَانَ مِنْ تَمَعّرَ وجهُه فَلَا تَشْدِيدَ فِيهِ، وإِن كَانَ مَفْعَلة مِنَ العَرّ فَاللَّهُ أَعلم.
وحِمارٌ أَعَرُّ: سَمينُ الصَّدْرِ والعُنُقِ، وَقِيلَ: إِذا كَانَ السِّمَنُ فِي صَدْرِهِ وعُنُقِه أَكثرَ مِنْهُ فِي سَائِرِخَلْقِهِ.
وعَرَّ الظليمُ يَعِرُّ عِرارًا، وعارَّ يُعارُّ مُعارَّةً وعِرارًا، وَهُوَ صَوْتُهُ: صاحَ؛ قَالَ لَبِيدٌ:
تحَمَّلَ أَهُلها إِلَّا عِرَارًا ***وعَزْفًا بَعْدَ أَحْياء حِلال
وزمَرَت النعامةُ زِمارًا، وَفِي الصِّحَاحِ: زَمَرَ النعامُ يَزْمِرُ زِمارًا.
والتَّعارُّ: السَّهَرُ والتقلُّبُ عَلَى الْفِرَاشِ لَيْلًا مَعَ كَلَامٍ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: «أَنه كَانَ إِذا تعارَّ مِنَ اللَّيْلِ»، قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّ النبيِّين، وَلَا يَكُونُ إِلا يَقَظَةً مَعَ كلامٍ وصوتٍ، وَقِيلَ: تَمَطَّى وأَنَّ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهل اللُّغَةِ يَجْعَلُهُ مأْخُوذًا مِنْ عِرارِ الظَّلِيمِ، وَهُوَ صَوْتُهُ، قَالَ: وَلَا أَدري أَهو مِنْ ذَلِكَ أَم لَا.
والعَرُّ: الغلامُ.
والعَرّةُ: الْجَارِيَةُ.
والعَرارُ والعَرارة: المُعجَّلانِ عَنْ وَقْتِ الْفِطَامِ.
والمُعْتَرُّ: الْفَقِيرُ، وَقِيلَ: المتعَرِّضُ لِلْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَن يَسأَل.
وَمِنْهُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: فإِن فِيهِمْ قانِعًا ومُعْتَرًّا.
عَراه واعْتَراه وَعَرَّهُ يعُرُّه عَرًّا واعْتَرَّه واعْتَرَّ بِهِ إِذا أَتاه فَطَلَبَ مَعْرُوفَهُ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:
تَرْعَى القَطاةُ الخِمْسَ قَفُّورَها، ***ثُمَّ تَعُرُّ الماءَ فِيمَنْ يَعُرُّ
أَي تأْتي الْمَاءَ وَتَرِدُهُ.
القَفُّور: مَا يُوجَدُ فِي القَفْر، وَلَمْ يُسْمَع القَفّورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلا فِي شِعْرِ ابْنِ أَحمر.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فأَكَلَ وأَطْعَمَ القانعَ والمُعْتَرَّ».
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهل اللُّغَةِ: القانعُ الَّذِي يسأْل، والمُعْتَرُّ الَّذِي يُطِيف بِكَ يَطْلُب مَا عِنْدَكَ، سأَلَك أَو سَكَتَ عَنِ السُّؤَالِ.
وَفِي حَدِيثِ حَاطِبُ بْنُ أَبي بَلْتَعة: «أَنه لَمَّا كَتَب إِلى أَهل مَكَّةَ كِتَابًا يُنْذِرُهم فِيهِ بِسَيْرِ سيدنا رسول الله، صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِليهم أَطْلَع اللهُ رسولَه عَلَى الْكِتَابِ، فَلَمَّا عُوتِبَ فِيهِ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا عَريرًا فِي أَهل مَكَّةَ فأَحْبَبْت أَن أَتقربَ إِليهم ليحْفَظُوني فِي عَيْلاتي عِنْدَهُمْ»؛ أَراد بِقَوْلِهِ" عَريرًا؛ أي غَريبًا مُجاوِرًا لَهُمْ دَخيلًا وَلَمْ أَكن مِنْ صَميمهم وَلَا لِي فِيهِمْ شُبْكَةُ رَحِمٍ.
والعَرِيرُ، فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وأَصله مِنْ قَوْلِكَ عَرَرْته عَرًّا، فأَنا عارٌّ، إِذا أَتيته تَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ، واعْتَرَرْته بِمَعْنَاهُ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَن أَبا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَعطاه سَيْفًا مُحَلًّى فنزَعَ عُمَرُ الحِلْيةَ وأَتاه بِهَا وَقَالَ: أَتيتك بِهَذَا لِمَا يَعْرُرُك مِنْ أُمور النَّاسِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: الأَصل فِيهِ يَعُرُّك، ففَكّ الإِدغامَ، وَلَا يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا الاتساعِ إِلا فِي الشَّعَرِ، وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: لَا أَحسبه مَحْفُوظًا ولكنه عِنْدِي: لِمَا يَعْرُوك، بِالْوَاوِ؛ أي لِمَا يَنُوبُك مِنْ أَمر النَّاسِ وَيَلْزَمُكَ مِنْ حَوَائِجِهِمْ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: لَوْ كَانَ مِنَ العَرّ لَقَالَ لِمَا يعُرُّك.
وَفِي حَدِيثِ أَبي مُوسَى: «قَالَ لَهُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ يَعُودُ ابنَه الحَسَنَ: مَا عَرَّنا بِكَ أَيّها الشَّيْخُ؟»أَي مَا جَاءَنَا بِكَ.
وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: عُرَّ فَقْرَه بفِيه لَعَلَّهُ يُلْهِيه؛ يَقُولُ: دَعْه ونَفْسَه لَا تُعِنْه لَعَلَّ ذَلِكَ يَشْغَلُه عَمَّا يَصْنَعُ.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: مَعْنَاهُ خَلِّه وغَيِّه إِذا لَمْ يُطِعْكَ فِي الإِرشاد فَلَعَلَّهُ يَقَعُ فِي هَلَكة تُلْهيه وَتَشْغَلُهُ عَنْكَ.
والمَعْرورُ أَيضًا: الْمَقْرُورُ، وَهُوَ أَيضًا الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ.
وَرَجُلٌ مَعْرورٌ: أَتاه مَا لَا قِوَام لَهُ مَعَهُ.
وعُرّا الْوَادِي: شاطِئاه.
والعُرُّ والعُرّةُ: ذَرْقُ الطَّيْرِ.
والعُرّةُ أَيضًا: عَذِرةُ النَّاسِ والبعرُ والسِّرْجِينُ؛ تَقُولُ مِنْهُ: أَعَرَّت الدارُ.
وعَرَّ الطيرُ يَعُرُّ عَرَّةً: سَلَحَ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِيَّاكم ومُشارّةَ النَّاسِ فإِنها تُظْهِرُ العُرّةَ، وَهِيَ القذَر وعَذِرة النَّاسِ، فاستعِير للمَساوِئِ والمَثالب.
وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «أَنه كَانَ يُدْمِلُ أَرْضَه بالعُرّة فَيَقُولُ: مِكْتَلُ عُرّةٍ مكْتَلُ بُرٍّ».
قَالَ الأَصمعي: العُرّةُ عَذِرةُ النَّاسِ، ويُدْمِلُها: يُصْلِحها، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنه كَانَ يَحْمِل مكيالَ عُرّةٍ إِلى أَرض لَهُ بِمَكَّةَ.
وعَرَّ أَرْضه يَعُرُّها أَي سَمَّدَها، والتَّعْرِيرُ مِثْلُهُ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ لَا يَعُرُّ أَرْضَه أَي لَا يُزَبِّلُها بالعُرَّة.
وَفِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «كُلْ سَبْعَ تَمَراتٍ مِنْ نَخْلةٍ غيرِ مَعْرورةٍ»أَي غَيْرِ مُزَبَّلة بالعُرّة، وَمِنْهُ قِيلَ: عَرَّ فلانٌ قومَه بشرٍّ إِذا لَطَّخَهُمْ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ عَرَّهُمْ بشرٍّ مِنَ العَرّ وَهُوَ الجَربُ؛ أي أَعْداهم شرُّه؛ وَقَالَ الأَخطل:
ونَعْرُرْ بِقَوْمٍ عُرَّةً يَكْرَهُونَهَا، ***ونَحْيا جَمِيعًا أَو نَمُوت فنُقْتَل
وفلانٌ عُرّةٌ وعارُورٌ وعارُورةٌ أَي قَذِرٌ.
والعُرّةُ: الأُبْنةُ فِي العَصا وَجَمْعُهَا عُرَرٌ.
وجَزورٌ عُراعِرٌ، بِالضَّمِّ، أَي سَمِينة.
وعُرَّةُ السَّنَامِ: الشحمةُ العُليا، والعَرَرُ: صِغَرُ السَّنَامِ، وَقِيلَ: قصرُه، وَقِيلَ: ذهابُه وَهُوَ مِنْ عُيُوبِ الإِبل، جَمَلٌ أَعرُّ وَنَاقَةٌ عَرَّاءُ وَعَرَّةٌ؛ قَالَ: " تَمَعُّكَ الأَعَرّ لاقَى العَرّاء "أَي تَمَعَّك كَمَا يَتَمَعَّكُ الأَعَرُّ، والأَعَرُّ يُحِبُّ التمعُّكَ لِذَهَابِ سَنَامِهِ يَلْتَذُّ بِذَلِكَ؛ وَقَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
وَكَانُوا السَّنامَ اجتُثَّ أَمْسِ، فقومُهم ***كعرّاءَ، بَعْدَ النَّيّ، راثَ رَبِيعُها
وعَرَّ إِذا نَقَصَ.
وَقَدْ عَرَّ يَعَرُّ: نَقَصَ سنامُه.
وكَبْشٌ أَعَرُّ.
لَا أَلْية لَهُ، وَنَعْجَةٌ عَرّاء.
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الأَجَبُّ الَّذِي لَا سَنَامَ لَهُ مِنْ حادِثٍ، والأَعَرُّ الَّذِي لَا سَنَامَ لَهُ مِنْ خلْقة.
وَفِي كِتَابِ التأْنيث وَالتَّذْكِيرِ لِابْنِ السِّكِّيتِ: رَجُلٌ عارُورةٌ إِذا كان مشؤومًا، وَجَمَلٌ عارُورةٌ إِذا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَنَامٌ، وَفِي هَذَا الْبَابِ رَجَلٌ صارُورةٌ.
وَيُقَالُ: لَقِيتُ مِنْهُ شَرًّا وعَرًّا وأَنت شرٌّ مِنْهُ وأَعَرُّ، والمَعَرَّةُ: الأَمر الْقَبِيحُ الْمَكْرُوهُ والأَذى، وَهِيَ مَفْعلة مِنَ العَرّ.
وعَرَّه بشرٍّ أَي ظلَمه وَسَبَّهُ وأَخذ مالَه، فَهُوَ مَعْرُورٌ.
وعَرَّه بِمَكْرُوهٍ يعُرُّه عَرًّا: أَصابَه بِهِ، وَالِاسْمُ العُرَّة.
وعَرَّه أَي سَاءَهُ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:
مَا آيبٌ سَرَّكَ إِلا سرَّني ***نُصحًا، وَلَا عَرَّك إِلا عَرَّني
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الرَّجَزُ لِرُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ وَلَيْسَ لِلْعَجَّاجِ كَمَا أَورده الْجَوْهَرِيُّ؛ قَالَهُ يُخَاطِبُ بِلَالَ بْنَ أَبي بُرْدَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
أَمْسى بِلالٌ كالرَّبِيعِ المُدْجِنِ ***أَمْطَرَ فِي أَكْنافِ غَيْمٍ مُغْيِنِ،
ورُبَّ وَجْهٍ مِنْ حِرَاءٍ مُنْحَنِ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ:
يَا قَوْمَنا لَا تَعُرُّونا بداهيَةٍ، ***يَا قومَنا، واذكُروا الآباءَ والقُدمَا
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: عُرَّ فلانٌ إِذا لُقِّبَ بِلَقَبٍ يعُرُّه؛ وعَرَّه يعُرُّهُ إِذا لَقَّبه بِمَا يَشِينُه؛ وعَرَّهم يعُرُّهم: شانَهُم.
وَفُلَانٌ عُرّةُ أَهله أَي يَشِينُهم.
وعَرَّ يعُرُّ إِذا صادَفَ نَوْبَتَهُ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، والعُرَّى: المَعِيبةُ مِنَ النِّسَاءِ.
ابْنُ الأَعرابي: العَرَّةُ الخَلّةُ الْقَبِيحَةُ.
وعُرّةُ الجربِ وعُرّةُ النِّسَاءِ: فَضيحَتُهنّ وسُوءُعشْرتهنّ.
وعُرّةُ الرِّجَالِ: شرُّهم.
قال إِسحق: قُلْتُ لأَحمد سَمِعْتُ سُفْيَانَ ذكَر العُرّةَ فَقَالَ: أَكْرَهُ بيعَه وشراءَه، فَقَالَ أَحمد: أَحْسَنَ؛ وَقَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا قَالَ، وإِن احْتَاجَ فَاشْتَرَاهُ فَهُوَ أَهْون لأَنه يُمْنَحُ.
وكلُّ شيءٍ باءَ بشيءٍ، فَهُوَ لَهُ عَرَار؛ وأَنشدَ للأَعشى: " فَقَدْ كَانَ لَهُمْ عَرار "وَقِيلَ: العَرارُ القَوَدُ.
وعَرارِ، مِثْلُ قَطَامِ: اسْمُ بَقَرَةٍ.
وَفِي الْمَثَلِ: باءَتْ عَرَارِ بِكَحْلَ، وَهُمَا بَقَرَتَانِ انْتَطَحَتَا فَمَاتَتَا جَمِيعًا؛ بَاءَتْ هَذِهِ بِهَذِهِ؛ يُضْرَب هَذَا لِكُلِّ مُسْتَوِيَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيُّ فِيمَنْ أَجراهما:
باءَتْ عَرارٌ بكَحْلٍ والرِّفاق مَعًا، ***فَلَا تَمَنَّوا أَمانيَّ الأَباطِيل
وَفِي التَّهْذِيبِ: وَقَالَ الْآخَرُ فِيمَا لَمْ يُجْرِهما:
باءَتْ عَرارِ بكَحْلَ فِيمَا بَيْنَنَا، ***والحقُّ يَعْرفُه ذَوُو الأَلْباب
قَالَ: وكَحْل وعَرارِ ثورٌ وَبَقَرَةٌ كَانَا فِي سِبْطَينِ مِنْ بَنِي إِسرائيل، فعُقِر كَحْل وعُقِرت بِهِ عَرارِ فَوَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَفانَوْا، فضُربا مَثَلًا فِي التَّسَاوِي.
وتزوّجَ فِي عَرارة نِساءٍ أَي فِي نساءٍ يَلِدْن الذُّكُورَ، وَفِي شَرِيَّةِ نِسَاءٍ يَلِدْنَ الإِناث.
والعَرَارةُ: الشِّدَّةُ؛ قَالَ الأَخطل:
إِن العَرارةَ والنُّبُوحَ لِدارِمٍ، ***والمُسْتَخِفُّ أَخُوهمُ الأَثْقالا
وَهَذَا الْبَيْتُ أَورده الْجَوْهَرِيُّ للأَخطل وَذَكَرَ عَجُزَهُ: والعِزُّ عِنْدَ تكامُلِ الأَحْساب "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَدْرُ الْبَيْتِ للأَخطل وَعَجُزُهُ لِلطِّرِمَّاحِ، فَإِنَّ بَيْتَ الأَخطل كَمَا أَوردناه أَولًا؛ وَبَيْتُ الطِّرِمَّاحِ:
إِن الْعَرَارَةَ وَالنُّبُوحَ لِطَيِءٍ، ***وَالْعِزُّ عِنْدَ تَكَامُلِ الأَحساب
وَقَبْلَهُ:
يَا أَيها الرَّجُلُ الْمُفَاخِرُ طَيِّئًا، ***أَعْزَبْت لُبَّك أَيَّما إِعْزاب
وفي حديث طاووس: إِذا اسْتَعَرَّ عَلَيْكُمْ شيءٌ مِنَ الغَنم "أَي نَدَّ واسْتَعْصَى، مِنَ العَرارة وَهِيَ الشِّدَّةُ وَسُوءُ الْخُلُقِ، والعَرَارةُ: الرِّفْعة والسُودَدُ.
وَرَجُلٌ عُراعِرٌ: شَرِيفٌ؛ قَالَ مُهَلْهِلٌ:
خَلَعَ المُلوكَ، وسارَ تَحْتَ لِوائِه ***شجرُ العُرا، وعُراعِرُ الأَقْوامِ
شَجَرُ الْعُرَا: الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْجَدْبِ، وَقِيلَ: هُمْ سُوقة النَّاسِ.
والعُراعِرُ هُنَا: اسْمٌ لِلْجَمْعِ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْجِنْسِ، وَيُرْوَى عَراعِر، بِالْفَتْحِ، جَمْعُ عُراعِر، وعَراعِرُ الْقَوْمِ: ساداتُهم، مأْخوذ مِنْ عُرْعُرة الْجَبَلِ، والعُراعِرُ: السَّيِّدُ، وَالْجَمْعُ عَراعِرُ، بِالْفَتْحِ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
مَا أَنْتَ مِنْ شَجَر العُرا، ***عِنْدَ الأُمورِ، وَلَا العَراعِرْ
وعُرْعُرة الْجَبَلِ: غِلَظُهُ وَمُعْظَمُهُ وأَعلاه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَتَبَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ إِلى الْحَجَّاجِ: إِنا نَزَلْنَا بعُرْعُرةِ الْجَبَلِ والعدوُّ بحَضِيضِه»؛ فعُرْعُرتُه رأْسه، وحَضِيضُه أَسفلُه.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنه قَالَ: «أَجْمِلوا فِي الطَلب فَلَوْ أَن رِزْقَ أَحدِكم فِي عُرْعُرةِ جبلٍ أَو حَضِيض أَرض لأَتاه قَبْلَ أَن يَمُوتَ».
وعُرْعُرةُ كُلِّ شيءٍ، بِالضَّمِّ: رأْسُه وأَعلاه.
وعَرْعَرةُ الإِنسان: جلدةُ رأْسِه.
وعُرْعرةُ السنامِ: رأْسُه وأَعلاه "وغارِبُه، وَكَذَلِكَ عُرْعُرةُ الأَنف وعُرْعُرةُ الثورِ كَذَلِكَ؛ والعراعِرُ: أَطراف الأَسْمِنة فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ:
سَلَفي نِزار، إِذْ تحوّلت ***المَناسمُ كالعَراعرْ
وعَرْعَرَ عينَه: فقأَها، وَقِيلَ: اقْتَلَعَهَا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
وعَرْعَرَ صِمامَ الْقَارُورَةِ عَرْعرةً: اسْتَخْرَجَهُ وَحَرَّكَهُ وَفَرَّقَهُ.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: عَرْعَرْت القارورةَ إِذا نَزَعْتَ مِنْهَا سِدادَها، وَيُقَالُ إِذا سَدَدْتها، وسِدادُها عُرعُرُها، وعَرعَرَتُها وِكاؤها.
وَفِي التَّهْذِيبِ: غَرْغَرَ رأْسَ الْقَارُورَةِ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، والعَرْعَرةُ التَّحْرِيكُ والزَّعْزعةُ، وَقَالَ يَعْنِي قَارُورَةً صفْراء مِنَ الطِّيبِ:
وصَفْراء فِي وَكْرَيْن عَرْعَرْتُ رأْسَها، ***لأُبْلِي إِذا فارَقْتُ فِي صاحبِي عُذْرا
وَيُقَالُ لِلْجَارِيَةِ العَذْراء: عَرَّاء.
والعَرْعَر: شجرٌ يُقَالُ لَهُ الساسَم، وَيُقَالُ لَهُ الشِّيزَى، وَيُقَالُ: هُوَ شَجَرٌ يُعْمل بِهِ القَطِران، وَيُقَالُ: هُوَ شَجَرٌ عَظِيمٌ جَبَليّ لَا يَزَالُ أَخضرَ تُسَمِّيهِ الفُرْسُ السَّرْوُ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: للعَرْعَر ثمرٌ أَمثال النَّبْقِ يَبْدُو أَخضر ثُمَّ يَبْيَضُّ ثُمَّ يَسْوَدُّ حَتَّى يَكُونَ كالحُمَم ويحلُو فَيُؤْكَلُ، وَاحِدَتُهُ عَرْعَرةٌ، وَبِهِ سُمِّيَ الرَّجُلُ.
والعَرَارُ: بَهارُ البَرِّ، وَهُوَ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَهُوَ النَّرْجِسُ البَرِّي؛ قَالَ الصِّمَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ:
أَقولُ لصاحِبي والعِيسُ تَخْدِي ***بِنَا بَيْنَ المُنِيفة فالضِّمَار: ِ
تمَتَّعْ مِن شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ، ***فَمَا بَعْدَ العَشِيَّة مِن عَرارِ
أَلا يَا حَبّذا نَفَحاتُ نَجْدٍ، ***ورَيّا رَوْضه بَعْدَ القِطَار
شهورٌ يَنْقَضِينَ، وَمَا شَعَرْنا ***بأَنْصافٍ لَهُنَّ، وَلَا سِرَار [سَرَار]
وَاحِدَتُهُ عَرارة؛ قَالَ الأَعشى:
بَيْضاء غُدْوَتها، وصَفْراء ***العَشِيّة كالعَراره
مَعْنَاهُ أَن المرأَة الناصعةَ الْبَيَاضِ الرقيقةَ الْبَشَرَةِ تَبْيَضّ بِالْغَدَاةِ بِبَيَاضِ الشَّمْسِ، وتَصْفَرّ بِالْعَشِيِّ بِاصْفِرَارِهَا.
والعَرَارةُ: الحَنْوةُ الَّتِي يَتَيَمّن بِهَا الفُرْسُ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وأَرى أَن فرَس كَلْحَبةَ اليَرْبوعي سُمِّيَتْ عَرَارة بِهَا، وَاسْمُ كَلْحَبَةَ هُبَيرة بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ؛ وَهُوَ الْقَائِلُ فِي فَرَسِهِ عَرَارَةَ هَذِهِ:
تُسائِلُني بَنُو جُشَمَ بنِ بكْرٍ: ***أَغَرّاءُ العَرارةُ أَمْ يَهِيمُ؟
كُمَيتٌ غيرُ مُحْلفةٍ، وَلَكِنْ ***كلَوْنِ الصِّرْفِ، عُلَّ بِهِ الأَدِيمُ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تُسَائِلُنِي بَنُو جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ أَي عَلَى جِهَةِ الِاسْتِخْبَارِ وَعِنْدَهُمْ مِنْهَا أَخبار، وَذَلِكَ أَن بَنِي جُشَمَ أَغارت عَلَى بَلِيٍّ وأَخذوا أَموالهم، وَكَانَ الكَلْحَبةُ نَازِلًا عِنْدَهُمْ فقاتَلَ هُوَ وابنُه حَتَّى رَدُّوا أَموال بَلِيٍّ عَلَيْهِمْ وقُتِلَ ابنُه، وَقَوْلُهُ: كُمَيْتٌ غَيْرُ مُحْلِفَةٍ، الْكُمَيْتُ الْمُحْلِفُ هُوَ الأَحَمُّ والأَحْوى وَهُمَا يَتَشَابَهَانِ فِي اللَّوْنِ حَتَّى يَشُكّ فِيهِمَا البَصِيران، فَيَحْلِفُ أَحدُهما أَنه كُمَيْتٌ أَحَمُّ، وَيَحْلِفَ الآخرُ أَنه كُمَيت أَحْوَى، فَيَقُولُ الْكَلْحَبَةُ: فرسِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ وَلَكِنَّهَا كَلَوْنِ الصِّرْف، وَهُوَ صِبْغٌ أَحمر تُصْبَغُ بِهِ الْجُلُودُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَصَوَابُ إِنشاده أَغَرّاءُ العَرادةُ، بِالدَّالِ، وَهُوَ اسْمُ فَرَسِهِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي فَصْلِ عرد، وأَنشدالْبَيْتَ أَيضًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ وَقِيلَ: العَرَارةُ الجَرادةُ، وَبِهَا سُمِّيَتِ الْفَرَسُ؛ قَالَ بِشْرٌ: " عَرارةُ هَبْوة فِيهَا اصْفِرارُ "وَيُقَالُ: هُوَ فِي عَرارة خيرٍ أَي فِي أَصل خَيْرٍ.
والعَرَارةُ: سوءُ الْخُلُقِ.
وَيُقَالُ: رَكِبَ عُرْعُرَه إِذا ساءَ خُلُقه، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ رَأْسَه؛ وَقَالَ أَبو عَمْرِو فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ يَذْكُرُ امرأَة: " ورَكِبَتْ صَوْمَها وعُرْعُرَها "أَي سَاءَ خُلُقها، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ رَكِبَتِ القَذِرَ مِنْ أَفْعالها.
وأَراد بعُرْعُرها عُرَّتَها، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ عُرَّةُ النَّعَامِ.
وَنَخْلَةٌ مِعْرارٌ أَي محْشافٌ.
الْفَرَّاءُ: عَرَرْت بِكَ حَاجَتِي أَي أَنْزَلْتها.
والعَرِيرُ فِي الْحَدِيثِ: «الغَرِيبُ»؛ وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ:
وبَلْدة لَا يَنالُ الذئْبُ أَفْرُخَها، ***وَلَا وَحَى الوِلْدةِ الدَّاعِين عَرْعارِ
أَي لَيْسَ بِهَا ذِئْبٌ لبُعْدِها عَنِ النَّاسِ.
وعِرَار: اسْمُ رَجُلٍ، وَهُوَ عِرَار بْنُ عَمْرُو بْنُ شَاسٍ الأَسدي؛ قَالَ فِيهِ أَبوه:
وإِنَّ عِرَارًا إِن يَكُنْ غيرَ واضحٍ، ***فإِني أُحِبُّ الجَوْنَ ذَا المَنكِب العَمَمْ
وعُرَاعِر وعَرْعَرٌ والعَرَارةُ، كُلُّهَا: مَوَاضِعُ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعد ما كَانَ أَقْصرَا، ***وحَلَّت سُلَيْمى بَطْنَ ظَبْيٍ فعَرْعَرَا
وَيُرْوَى: بَطْنَ قَوٍّ؛ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ يَقُولُ: سَمَا شوقُك أَي ارْتَفَعَ وَذَهَبَ بِكَ كلَّ مَذْهَبٍ لِبُعْدِ مَن تُحِبُّه بعد ما كَانَ أَقصر عَنْكَ الشَّوْقُ لقُرْب المُحِبّ ودُنوِّه؛ وَقَالَ النابغة:
زيدُ بن زيد حاضِرٌ بعُراعِرٍ، ***وَعَلَى كُنَيْب مالِكُ بْنُ حِمَار
وَمِنْهُ مِلْحٌ عُراعِرِيّ.
وعَرْعارِ: لُعْبة لِلصِّبْيَانِ، صِبْيانِ الأَعراب، بُنِيَ عَلَى الْكَسْرَةِ وَهُوَ مَعْدُولٌ مِنْ عَرْعَرَة مِثْلُ قَرْقارٍ مِنْ قَرْقَرة.
والعَرْعَرة أَيضًا: لُعْبةٌ للصبيان؛ قال النابعة: " يَدْعُو ولِيدُهُم بِهَا عَرْعارِ "لأَن الصَّبِيَّ إِذا لَمْ يَجِدْ أَحدًا رفَع صوتَه فَقَالَ: عَرْعارِ، فإِذا سَمِعُوه خَرَجُوا إِليه فلَعِبوا تِلْكَ اللُّعْبَةَ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنْ بَنَاتِ الأَربع، وَهُوَ عِنْدِي نَادِرٌ، لأَن فَعالِ إِنما عَدَلَتْ عَنِ افْعل فِي الثُّلَاثِيِّ ومَكّنَ غيرُه عَرْعار فِي الِاسْمِيَّةِ.
قَالُوا: سَمِعْتُ عَرْعارَ الصِّبْيَانِ أَي اختلاطَ أَصواتهم، وأَدخل أَبو عُبَيْدَةَ عَلَيْهِ الأَلف وَاللَّامَ فَقَالَ: العَرْعارُ لُعْبةٌ لِلصِّبْيَانِ؛ وَقَالَ كُرَاعٌ: عَرْعارُ لُعْبَةٌ لِلصِّبْيَانِ فأَعْرَبه، أَجراه مُجْرَى زَيْنَبَ وسُعاد.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
67-لسان العرب (وضر)
وضر: الوَضَرُ: الدَّرَنُ والدَّسَمُ.ابْنُ سِيدَهْ: الوَضَرُ وسَخُ الدسمِ وَاللَّبَنِ وغُسالَةُ السِّقاء وَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهِمَا؛ وأَنشد:
إِن تَرْحضُوها تَزدْ أَعْراضُكم طَبَعًا ***أَو تَتْرُكوها فَسُودٌ ذاتُ أَوْضارِ
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ للفُنْدُورَةِ وَضْرَى وَقَدْ وَضِرَت القصعةُ تَوْضَرُ وَضَرًا أَي دَسِمَتْ؛ قَالَ أَبو الْهِنْدِيِّ وَاسْمُهُ عَبْدُ المؤْمن بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
سَيُغْنِي أَبا الهِنْدِيِّ عَنْ وَطْبِ سالمٍ ***أَبارِيقُ، لَمْ يَعْلَقْ بِهَا وَضَرُ الزُّبْدِ
مُفَدَّمَةٌ قَزًّا، كأَنَّ رِقابَها ***رِقابُ بناتِ الماءِ تَفْزَعُ للرَّعْدِ
الوَطْبُ: زِقُّ اللَّبَنِ، وَهُوَ فِي الْبَيْتِ زِقُّ الْخَمْرِ.
والمُفَدَّم: الإِبريق الَّذِي عَلَى فَمِهِ فِدَامٌ، وَهُوَ خِرْقَةٌ مِنْ قَزٍّ أَو غَيْرِهِ.
وَشَبَّهَ رِقَابَهَا فِي الإِشراف وَالطُّولِ بِرِقَابِ بَنَاتِ الْمَاءِ، وَهِيَ الغَرانِيقُ، لأَنها إِذا فَزِعَت نَصَبَتْ أَعناقها.
وَوَضِرَ الإِناءُ يَوْضَرُ وَضَرًا إِذا اتَّسَخَ، فَهُوَ وَضِرٌ، وَيَكُونُ الوَضَرُ مِنَ الصُّفْرَة والحُمرة والطِّيب.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «رأَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَضَرًا مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ: مَهْيَمْ»؛ الْمَعْنَى أَنه رأَى بِهِ لَطْخًا مِنْ خَلُوق أَو طِيبٍ لَهُ لَوْنٌ فسأَل عَنْهُ فَأَخبره أَنه تزوَّج، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْعَرُوسِ إِذا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ.
والوَضَرُ: الأَثر مِنْ غَيْرِ الطِّيبِ.
قَالَ: والوَضَرُ مَا يَشُمُّهُ الإِنسان مِنْ رِيحٍ يَجِدُهُ مِنْ طَعَامٍ فَاسِدٍ.
أَبو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِبَقِيَّةِ الهِناءِ وَغَيْرِهِ الوَضَرُ.
وَفِي الْحَدِيثِ فَجَعَلَ يأْكل وَيَتَتَبَّعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ أَي دَسَمَها وأَثَرَ الطعامِ فِيهَا.
وَفِي حَدِيثِ أُمّ هَانِئٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «فَسَكَبْتُ لَهُ فِي صَحْفَة إِني لأَرَى فِيهَا وَضَرَ الْعَجِينِ»؛ وامرأَة وَضِرَةٌ ووَضْرَى؛ قَالَ:
إِذا مَلا بَطْنَه أَلْبانُها حَلَبًا ***باتَتْ تُغَنِّيهِ وَضْرَى ذاتُ أَجْراسِ
أَراد ملأَ فأَبدل لِلضَّرُورَةِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
68-لسان العرب (سنن)
سنن: السِّنُّ: وَاحِدَةُ الأَسنان.ابْنُ سِيدَهْ: السِّنُّ الضِّرْسُ، أُنْثَى.
وَمِنَ الأَبَدِيّاتِ: لَا آتِيكَ سِنَّ الحِسْلِ أَي أَبدًا، وَفِي الْمُحْكَمِ: أَي مَا بَقِيَتْ سِنُّه، يَعْنِي وَلَدَ الضَّبِّ، وسِنُّه لَا تَسْقُطُ أَبدًا؛ وَقَوْلُ أَبي جَرْوَلٍ الجُشَمِيّ، وَاسْمُهُ هِنْدٌ، رَثَى رَجُلًا قُتِلَ مِنْ أَهل الْعَالِيَةِ فَحَكَمَ أَولياؤُه فِي دِيَتِهِ فأَخذوها كُلَّهَا إِبلًا ثُنْيانًا، فَقَالَ فِي وَصْفِ إِبل أُخذت فِي الدِّيَةِ:
فجاءتْ كسِنِّ الظَّبْيِ، لَمْ أَرَ مِثْلَها ***سَنَاءَ قَتِيلٍ أَو حَلُوبَةَ جائِعِ
مُضاعَفَةً شُمَّ الحَوَارِكِ والذُّرَى، ***عِظامَ مَقِيلِ الرأْسِ جُرْدَ المَذارِعِ
كسِنِّ الظَّبْيِ أَي هِيَ ثُنْيانٌ لأَن الثَّنِيَّ هُوَ الَّذِي يُلقي ثَنِيَّتَه، والظَّبْيُ لَا تَنْبُتُ لَهُ ثَنِيَّة قَطُّ فَهُوَ ثَنِيٌّ أَبدًا.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْمُفَضَّلِ: لَا آتِيكَ سِنِي حِسْلٍ.
قَالَ: وَزَعَمُوا أَن الضب يعيش ثلثمائة سَنَةٍ، وَهُوَ أَطول دَابَّةٍ فِي الأَرض عُمْرًا، وَالْجُمْعُ أَسْنانٌ وأَسِنَّةٌ؛ الأَخيرة نَادِرَةٌ، مِثْلُ قِنٍّ وأَقْنانٍ وأَقِنَّة.
وَفِي الْحَدِيثِ: « إِذا سَافَرْتُمْ فِي خِصْبٍ فأَعْطُوا الرُّكُبَ أَسِنَّتَها، وإِذا سَافَرْتُمْ فِي الْجَدْبِ فاسْتَنْجُوا».
وَحَكَى الأَزهري فِي التَّهْذِيبِ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ أَنه قَالَ: لَا أَعرف الأَسِنَّة إِلَّا جَمْع سِنان لِلرُّمْحِ، فإِن كَانَ الْحَدِيثُ مَحْفُوظًا فكأَنها جَمْعُ الأَسْنان، يُقَالُ لِمَا تأْكله الإِبل وَتَرْعَاهُ مِنَ العُشْب سِنٌّ، وَجَمْعُ أَسْنان أَسِنَّة، يُقَالُ سِنّ وأَسْنان مِنَ المَرْعَى، ثُمَّ أَسِنَّة جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ: الأَسِنَّة جَمْعُ السِّنان لَا جَمْعُ الأَسنان، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ الحَمْضُ يَسُنُّ الإِبلَ عَلَى الخُلَّةِ أَي يقوِّيها كَمَا يقوِّي السِّنُّ حدَّ السِّكِّينِ، فالحَمْضُ سِنانٌ لَهَا عَلَى رَعْيِ الخُلَّة، وَذَلِكَ أَنها تَصْدُق الأَكلَ بَعْدَ الحَمْضِ، وَكَذَلِكَ الرِّكابُ إِذا سُنَّت فِي المَرْتَع عِنْدَ إِراحة السَّفْرِ ونُزُولهم، وَذَلِكَ إِذا أَصابت سِنًّا مِنَ الرِّعْيِ يَكُونُ ذَلِكَ سِنانًا عَلَى السَّيْرِ، ويُجْمَع السِّنَانُ أَسِنَّةً، قَالَ: وَهُوَ وَجْهُ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: وَمَعْنَى يَسُنُّها أَي يقوِّيها عَلَى الخُلَّة.
والسِّنانُ: الِاسْمُ مِنْ يَسُنُّ وَهُوَ القُوَّة.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: ذَهَبَ أَبو سَعِيدٍ مَذْهَبًا حَسَنًا فِيمَا فَسَّرَ، قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ أَبو عُبَيْدٍ عِنْدِي صَحِيحٌ بيِّن.
وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ: السِّنُّ الأَكل الشَّدِيدُ.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَسَمِعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ أَصابت الإِبلُ اليومَ سِنًّا مِنَ الرَّعْي إِذا مَشَقَتْ مِنْهُ مَشْقًا صَالِحًا، وَيُجْمَعُ السِّنّ بِهَذَا الْمَعْنَى أَسْنانًا، ثُمَّ يُجْمَعُ الأَسْنانُ أَسِنَّةً كَمَا يُقَالُ كِنٌّ وأَكنانٌ، ثُمَّ أَكِنَّة جَمْعُ الْجَمْعِ، فَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذا سِرْتم فِي الخِصْب فأَمْكِنوا الرِّكابَ أَسْنانَها "؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي الأَسِنَّة إِنها جَمْعُ الأَسْنان، والأَسْنان جَمْعُ السِّنِّ، وَهُوَ الأَكل والرَّعْي، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ فِي جَمْعِهِ أُسُنًّا، وَهُوَ نَادِرٌ أَيضًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ أَعطوا الرُّكُبَ أَسِنَّتَها أَعطوها مَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنَ النَّحْرِ لأَن صَاحِبَهَا إِذا أَحسن رَعْيَها سَمِنت وحَسُنت فِي عَيْنِهِ فَيَبْخَلُ بِهَا مِنْ أَن تُنْحَر، فَشَّبَهَ ذَلِكَ بالأَسِنَّة فِي وُقُوعِ الِامْتِنَاعِ بِهَا، هَذَا عَلَى أَن الْمُرَادَ بالأَسنَّة جَمْعُ سِنَانٍ، وإِن أُريد بِهَا جَمْعُ سِنٍّ فَالْمَعْنَى أَمْكنوها مِنَ الرَّعي؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « أَعْطُوا السِّنَّ حظَّها مِنَ السّنِ» أَي أَعطوا ذَوَاتَ السِّنِّ حَظَّهَا مِنَ السِّنِّ وَهُوَ الرِّعْيُ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: « فأَمْكِنُوا الرِّكابَ أَسْنانًا »أَي تَرْعَى أَسْنانًا.
وَيُقَالُ: هَذِهِ سِنٌّ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَتَصْغِيرُهَا سُنَيْنة، وَتُجْمَعُ أُسُنًّا وأَسْنانًا.
وَقَالَ القَنَاني: يقال له بُنَيٌّ سَنِينَةُ ابْنِك.
ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ هُوَ أَشبه شَيْءٍ بِهِ سُنَّة وأُمَّةً، فالسُّنَّة الصُّورة وَالْوَجْهُ، والأُمَّةُ الْقَامَةُ.
وَالْحَدِيدَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا الأَرض يُقَالُ لَهَا: السِّنَّة والسِّكَّة، وَجَمْعُهَا السِّنَنُ والسِّكَكُ.
وَيُقَالُ للفُؤُوس أَيضًا: السِّنَنُ.
وسِنُّ الْقَلَمِ: مَوْضِعُ البَرْيِ مِنْهُ.
يُقَالُ: أَطِلْ سِنَّ قَلَمِكَ وسَمِّنْها وحَرِّفْ قَطَّتَك وأَيْمِنْها.
وسَنَنْتُ الرَّجُلَ سَنًّا: عَضَضْتُه بأَسناني، كَمَا تَقُولُ ضَرَسْتُه.
وسَنَنْتُ الرجلَ أَسُنُّه سَنًّا: كَسَرْتُ أَسنانه.
وسِنُّ المِنْجَل: شُعْبَة تَحْزِيزِهِ.
والسِّنُّ مِنَ الثُّوم: حَبَّةٌ مِنْ رأْسه، عَلَى التَّشْبِيهِ.
يُقَالُ: سِنَّةٌ مِنْ ثُوم أَي حبَّة مِنْ رأْس الثُّومِ، وسِنَّة مِنْ ثومٍ فِصَّةٌ مِنْهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بالسِّنّ عَنِ العُمُر، قَالَ: والسِّنُّ مِنَ الْعُمُرِ أُنْثى، تَكُونُ فِي النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ؛ قَالَ الأَعور الشَّنِّيُّ يَصِفُ بَعِيرًا:
قَرَّبْتُ مثلَ العَلَم المُبَنَّى، ***لَا فانِيَ السِّنِّ وَقَدْ أَسَنّا
أَراد: وَقَدْ أَسنَّ بعضَ الإِسنان غَيْرَ أَن سِنَّه لَمْ تَفْنَ بعدُ، وَذَلِكَ أَشدّ مَا يَكُونُ الْبَعِيرُ، أَعني إِذا اجْتَمَعَ وَتَمَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ:
مَا تُنْكِرُ الحَرْبُ العَوانُ مِنِّي؟ ***بازِلُ عامَيْنِ حَديثُ سِنِّي
إِنما عَنى شدَّته واحْتناكه، وإِنما قَالَ سِنّي لأَنه أَراد أَنه مُحْتَنِك، وَلَمْ يَذْهَبْ فِي السِّنّ، وَجَمْعُهَا أَسْنان لَا غَيْرَ؛ وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الأَثير قَالَ: فِي حَدِيثِ علي، عَلَيْهِ السَّلَامُ: « بَازِلُ عَامَيْنِ حديثُ سِنِّي».
قَالَ: أَي إِني شَابٌّ حَدَثٌ فِي العُمر كَبِيرٌ قَوِيٌّ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ.
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: « وجاوزتُ أَسْنانَ أَهل بَيْتِي»؛ أي أَعمارهم.
يُقَالُ: فُلَانٌ سِنُّ فُلَانٍ إِذا كَانَ مِثْلَهُ فِي السِّنِّ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ذِي يَزَنَ: « لأُوطِئَنَّ أَسْنانَ الْعَرَبِ كَعْبَه »؛ يُرِيدُ ذَوِي أَسنانهم وَهُمُ الأَكابر والأَشراف.
وأَسَنَّ الرجلُ: كَبِرَ، وَفِي الْمُحْكَمِ: كَبِرَتْ سِنُّه يُسِنُّ إِسْنانًا، فَهُوَ مُسِنٌّ.
وَهَذَا أَسَنُّ مِنْ هَذَا أَي أَكبر سِنًّا مِنْهُ، عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ.
قَالَ ثَعْلَبٌ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ أَبي جَهْمَة اللَّيْثِيُّ وأَدركته أَسَنَّ أَهل الْبَلَدِ.
وَبَعِيرٌ مُسِنّ، وَالْجُمَعُ مَسانُّ ثَقِيلَةٌ.
وَيُقَالُ: أَسَنَّ إِذا نَبَتَتْ سِنُّه الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُسِنًّا مِنَ الدَّوَابِّ.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ قَالَ: « بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى الْيَمَنِ فأَمرني أَن آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَربعين مُسِنَّةً، والبقرَةُ والشاةُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ المُسِنّ إِذا أَثْنَتا، فإِذا سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهما بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ أَسَنَّتْ، وَلَيْسَ مَعْنَى إِسْنانها كِبَرَها كَالرَّجُلِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ طُلوع ثَنِيَّتها، وتُثْني البقرةُ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَكَذَلِكَ المِعْزَى تُثْني فِي الثَّالِثَةِ، ثُمَّ تَكُونُ رَباعِيَة فِي الرَّابِعَةِ ثُمَّ سِدْسًا فِي الْخَامِسَةِ ثُمَّ سَالِغًا فِي السَّادِسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنه قَالَ: يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا الَّتِي لَمْ تُسْنَنْ "، بِفَتْحِ النُّونِ الأُولى، وَفَسَّرَهُ الَّتِي لَمْ تَنْبُتْ أَسنانها كأَنها لَمْ تُعْطَ أَسْنانًا، كَقَوْلِكَ: لَمْ يُلْبَنْ أَي لَمْ يُعْطَ لَبَنًا، وَلَمْ يُسْمَنْ أَي لَمْ يُعْطَ سَمْنًا، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: سُنَّتِ البَدَنة إِذا نَبَتَتْ أَسنانها، وسَنَّها اللَّهُ؛ وَقَوْلُ الأَعشى:
بحِقَّتِها رُبِطَتْ في اللَّجِينِ، ***حَتَّى السَّدِيسُ لَهَا قَدْ أَسَنّ
أَي نَبت وَصَارَ سِنًّا؛ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْقُتَيْبِيِّ، قَالَ: وَقَدْ وَهِمَ فِي الرِّوَايَةِ وَالتَّفْسِيرِ لأَنه رَوَى الْحَدِيثَ" لَمْ تُسْنَنْ، بِفَتْحِ النُّونِ الأُولى، وإِنما حَفِظَهُ عَنْ مُحَدِّث لَمْ يَضْبِطْه، وأَهل الثَّبْتِ والضَّبْطِ رَوَوْهُ لَمْ تُسْنِنْ، بِكَسْرِ النُّونِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَمْ تُسِنَّ، فأَظهر التَّضْعِيفَ لِسُكُونِ النُّونِ الأَخيرة، كَمَا يُقَالُ لَمْ يُجْلِلْ، وإِنما أَراد ابْنُ عُمَرَ أَنه لَا يُضَحَّى بأُضحية لَمْ تُثْنِ أَي لَمْ تَصِرْ ثَنِيَّة، وإِذا أَثْنَتْ فَقَدْ أَسَنَّتْ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
وأَدنى الأَسْنان: الإِثْناءُ، وَهُوَ أَن تَنْبُتَ ثَنِيَّتاها، وأَقصاها فِي الإِبل: البُزُول، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ السُّلُوغ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنْ جَبَلة بْنِ سُحَيْم قَالَ: سأَل رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: أَأُضَحِّي بالجَدَعِ؟ فَقَالَ: ضَحّ بالثَّنِيِّ فَصَاعِدًا "، فَهَذَا يُفَسِّرُ لَكَ أَن مَعْنَى قَوْلِهِ يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا التي لم تُسْنِنْ، أَراد بِهِ الإِثْناءَ.
قَالَ: وأَما خَطَأُ القُتَيْبيّ مِنَ الْجِهَةِ الأُخرى فَقَوْلُهُ سُنِّنَتِ الْبَدَنَةُ إِذا نَبَتَتْ أَسْنانُها وسَنَّها اللَّهُ غيرُ صَحِيحٍ، وَلَا يَقُولُهُ ذُو الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يُلْبَنْ وَلَمْ يُسْمَنْ أَي لَمْ يُعْطَ لَبَنًا وسَمْنًا خطأٌ أَيضًا، إِنما مَعْنَاهُمَا لَمْ يُطْعَمْ سَمْنًا وَلَمْ يُسْقَ لَبَنًا.
والمَسَانُّ مِنَ الإِبل: خلافُ الأَفْتاءِ.
وأَسَنَّ سَدِيسُ النَّاقَةِ أَي نَبَتَ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ وأَنشد بَيْتَ الأَعشى:
بِحِقَّتِها رُبِطَت في اللَّجِينِ، ***حَتَّى السَّدِيسُ لَهَا قَدْ أَسَنّ
يَقُولُ: قيمَ عَلَيْهَا مُنْذُ كانتِ حِقَّةً إِلى أَن أَسْدَسَتْ فِي إِطعامها وإِكرامها؛ وَقَالَ القُلاخُ:
بِحِقِّه رُبِّطَ فِي خَبْطِ اللُّجُنْ ***يُقْفَى بِهِ، حَتَّى السَّدِيسُ قَدْ أَسَنّ
وأَسَنَّها اللهُ أَي أَنْبَتها.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: « أَنه خَطَبَ فَذَكَرَ الرِّبَا فَقَالَ: إِن فِيهِ أَبوابًا لَا تَخْفى عَلَى أَحدٍ مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِ »، يَعْنِي الرقيقَ والدوابَّ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْحَيَوَانِ، أَراد ذَوَاتَ السِّنّ.
وسِنُّ الْجَارِحَةِ، مؤَنثة ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ للعُمُر اسْتِدْلَالًا بِهَا عَلَى طُولِهِ وَقِصَرِهِ، وَبَقِيَتْ عَلَى التأْنيث.
وسِنُّ الرَّجُلِ وسَنينُه وسَنينَتُه: لِدَتُه، يُقَالُ: هُوَ سِنُّه وتِنُّه وحِتْنُه إِذا كَانَ قِرْنَه فِي السِّنّ.
وسَنَّ الشيءَ يَسُنُّه سَنًّا، فهو مَسْنون وسَنين وسَنَّته: أَحَدَّه وصَقَله.
ابْنُ الأَعرابي: السَّنّ مَصْدَرُ سَنَّ الحديدَ سَنًّا.
وسَنَّ لِلْقَوْمِ سُنَّةً وسَنَنًا.
وسَنَّ عَلَيْهِ الدِّرْعَ يَسُنُّها سَنًّا إِذا صَبَّها.
وسَنَّ الإِبلَ يسُنُّها سَنًّا إِذا أَحْسَن رِعْيَتها حَتَّى كأَنه صَقَلَهَا.
والسَّنَنُ: اسْتِنان الإِبل وَالْخَيْلِ.
وَيُقَالُ: تَنَحَّ عَنْ سَننِ الْخَيْلِ.
وسَنَّنَ المَنْطِقَ: حَسَّنه فكأَنه صقَله وَزَيَّنَهُ؛ قَالَ الْعَجَّاجِ:
دَعْ ذَا، وبَهّجْ حَسَبًا مُبَهَّجا ***فَخْمًا، وسَنِّنْ مَنْطِقًا مُزَوَّجًا
والمِسَنُّ والسِّنانُ: الحجَر الَّذِي يُسَنُّ بِهِ أَو يُسنُّ عَلَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: حجَر يُحدَّد بِهِ؛ قَالَ إِمرؤُ الْقَيْسِ:
يُباري شَباةَ الرُّمْحِ خَدٌّ مُذَلَّقٌ، ***كَصَفْحِ السِّنانِ الصُّلَّبيِّ النَّحِيضِ
قَالَ: وَمِثْلُهُ لِلرَّاعِي:
وبيضٍ كسَتْهنَّ الأَسِنَّةُ هَفْوَةً، ***يُداوى بِهَا الصادُ الَّذِي فِي النّواظِرِ
وأَراد بالصادِ الصَّيَدَ، وأَصله فِي الإِبل داء يُصيبها في رؤوسها وأَعينها؛ وَمِثْلُهُ لِلَبِيدٍ:
يَطْرُدُ الزُّجَّ، يُباري ظِلَّهُ ***بأَسِيلٍ، كالسِّنانِ المُنْتَحَلْ
والزُّجُّ: جَمْعُ أَزَجَّ، وأَراد النعامَ، والأَزَجُّ: الْبَعِيدُ الخَطو، يُقَالُ: ظَلِيمٌ أَزجُّ وَنَعَامَةٌ زَجَّاء.
والسِّنانُ: سِنانُ الرُّمْحِ، وَجَمْعُهُ أَسِنَّة.
ابْنُ سِيدَهْ: سِنانُ الرُّمْحِ حَدِيدَتُهُ لصَقالتها ومَلاستها.
وسَنَّنَه: رَكَّبَ فيه السِّنان.
وأَسَنْت الرمحَ: جَعَلْتَ لَهُ سِنانًا، وَهُوَ رُمح مُسَنٌّ.
وسَنَنْتُ السِّنانَ أَسُنُّه سَنًّا، فَهُوَ مَسنون إِذا أَحدَدْته عَلَى المِسنِّ، بِغَيْرِ أَلف.
وسَنَنتُ فُلَانًا بِالرُّمْحِ إِذا طَعَنْتُهُ بِهِ.
وسَنَّه يَسُنُّه سَنًّا: طَعَنَهُ بالسِّنان.
وسَنَّنَ إِليه الرُّمْحَ تسْنينًا: وَجَّهه إِليه.
وسَننْت السِّكِّينَ: أَحددته.
وسَنَّ أَضراسَه سَنًّا: سَوَّكها كأَنه صَقَلها.
واسْتَنَّ: اسْتَاكَ.
والسَّنُونُ: مَا استَكْتَ بِهِ.
والسَّنين: مَا يَسقُط مِنَ الْحَجَرِ إِذا حَكَكْتَهُ.
والسَّنُونُ: مَا تَسْتنُّ بِهِ مِنْ دَوَاءٍ مؤَلف لِتَقْوِيَةِ الأَسنان وتَطريتها.
وَفِي حَدِيثِ السِّوَاكِ: « أَنه كَانَ يَستنُّ بعودٍ مِنْ أَراك »؛ الاستِنان: استعمالُ السِّوَاكِ، وَهُوَ افتِعال مِنَ الإِسْنان؛ أي يُمِرُّه عَلَيْهَا.
وَمِنْهُ حَدِيثُ الْجُمُعَةِ: " وأَن يَدَّهِن ويَسْتنَّ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي وَفَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فأَخذتُ الجَريدة فسَننْتُه بِهَا »أَي سَوَّكته بِهَا.
ابْنُ السِّكِّيتِ: سَنَّ الرجلُ إِبله إِذا أَحسن رِعْيتها والقيامَ عَلَيْهَا حَتَّى كأَنه صَقَلَهَا؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
نُبِّئْتُ حِصْنًا وحَيًّا مِنْ بَنِي أَسَدٍ ***قَامُوا فَقَالُوا: حِمانا غيرُ مقْروبِ
ضَلَّتْ حُلومُهُمُ عَنْهُمْ، وغَرَّهُمُ ***سَنُّ المُعَيديِّ فِي رَعْيٍ وتَعْزيبِ
يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ مَعَدٍّ لَا يغُرَّنكم عزُّكم وأَنَّ أَصغر رَجُلٍ مِنْكُمْ يَرْعَى إِبله كَيْفَ شَاءَ، فإِن الحرث بْنَ حِصْن الغَسّاني قَدْ عَتب عَلَيْكُمْ وَعَلَى حِصْن بْنِ حُذيفة فَلَا تأْمنوا سَطوَته.
وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: سَنُّوا المالَ إِذا أَرسلوه فِي الرِّعْي.
ابْنُ سِيدَهْ: سَنَّ الإِبلَ يَسُنُّها سَنًّا إِذا رَعَاهَا فأَسْمنها.
والسُّنّة: الْوَجْهُ لصَقالتِه ومَلاسته، وَقِيلَ: هُوَ حُرُّ الْوَجْهِ، وَقِيلَ: دَائِرَتُهُ.
وَقِيلَ: الصُّورة، وَقِيلَ: الْجَبْهَةُ وَالْجَبِينَانِ، وَكُلُّهُ مِنَ الصَّقالة والأَسالة.
وَوَجْهٌ مَسْنون: مَخروطٌ أَسيلٌ كأَنه قَدْ سُنَّ عَنْهُ اللَّحْمَ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَجُلٌ مَسْنون: الْوَجْهِ إِذَا كَانَ فِي أَنفه وَوَجْهِهِ طولٌ والمَسْنون الْمَصْقُولُ، مِنْ سَننْتُه بالمِسَنِّ سَنًّا إِذا أَمررته عَلَى المِسنِّ.
وَرَجُلٌ مُسْنُونُ الْوَجْهِ: حَسَنُه سهْله؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
وسُنَّة الْوَجْهِ: دَوَائِرُهُ.
وسُنَّةُ الْوَجْهِ: صُورته؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تُريك سُنَّةَ وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفةٍ ***مَلساءَ، لَيْسَ بِهَا خالٌ وَلَا نَدَبُ
وَمِثْلُهُ للأَعشى:
كَريمًا شَمائِلُه مِنْ بَنِي ***مُعاويةَ الأَكْرَمِينَ السُّنَنْ
وأَنشد ثَعْلَبٌ:
بَيْضاءُ فِي المِرْآةِ، سُنَّتُها ***فِي الْبَيْتِ تحتَ مَواضعِ اللّمْسِ
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه حَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَامَ رَجُلٌ قَبِيحُ السُّنَّة »؛ السُّنَّةُ: الصُّورَةُ وَمَا أَقبل عَلَيْكَ مِنَ الْوَجْهِ، وَقِيلَ: سُنّة الْخَدِّ صَفْحَتُهُ.
والمَسْنونُ: المُصوَّر.
وَقَدْ سَنَنْتُه أَسُنُّه سَنًّا إِذا صَوَّرْتُهُ.
والمَسْنون: المُمَلَّس.
وَحُكِيَ أَن يَزيد بْنَ مُعَاوِيَةَ قَالَ لأَبيه: أَلا تَرَى إِلى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ يُشَبّبُ بِابْنَتِكَ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا قَالَ؟ فَقَالَ: قَالَ:
هِيَ زَهْراءُ، مثلُ لُؤلؤةِ الغَوَّاص، ***مِيزَتْ مِنْ جوهرٍ مكنونِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقَ؛ فَقَالَ يَزِيدُ: إِنه يَقُولُ:
وإِذا مَا نَسَبْتَها لَمْ تَجِدْها ***فِي سَناءٍ، مِنَ المَكارم، دُونِ
قَالَ: وَصَدَقَ؛ قَالَ: فأَين قَوْلُهُ:
ثُمَّ خاصَرْتُها إِلى القُبَّةِ الخَضْراءِ، ***تَمْشي فِي مَرْمَرٍ مَسنونِ
قَالَ مُعَاوِيَةُ: كَذَبَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وتُرْوَى هَذِهِ الأَبيات لأَبي دَهْبَلٍ، وَهِيَ فِي شِعْرِهِ يَقُولُهَا فِي رَمْلة بِنْتِ مُعَاوِيَةَ؛ وأَول الْقَصِيدِ:
طالَ لَيْلي، وبِتُّ كالمَحْزونِ، ***ومَلِلْتُ الثَّواءَ بالماطِرُونِ
منها:
عَنْ يَساري، إِذا دخَلتُ من الباب، ***وإِن كنتُ خَارِجًا عَنْ يَميني
فلذاكَ اغْترَبْتُ فِي الشَّأْم، حَتَّى ***ظَنَّ أَهلي مُرَجَّماتِ الظُّنونِ
منها:
تَجْعَلُ المِسْكَ واليَلَنْجُوج والنَّدَّ ***صِلَاءً لَهَا عَلَى الكانُونِ
منها:
قُبَّةٌ منْ مَراجِلٍ ضَرَّبَتْها، ***عندَ حدِّ الشِّتاءِ فِي قَيْطُونِ
القَيْطُون: المُخْدَع، وَهُوَ بَيْتٌ فِي بَيْتٍ.
ثُمَّ فارَقْتُها عَلَى خَيْرِ مَا كانَ ***قَرينٌ مُفارِقًا لقَرِينِ
فبَكَتْ، خَشْيَةَ التَّفَرُّق للبَينِ، ***بُكاءَ الحَزينِ إِثرَ الحَزِينِ
فاسْأَلي عن تَذَكُّري واطِّبائيَ، ***لَا تَأْبَيْ إِنْ هُمُ عَذَلُوني
اطِّبائي: دُعائي، وَيُرْوَى: واكْتِئابي.
وسُنَّةُ اللَّهِ: أَحكامه وأَمره وَنَهْيُهُ؛ هَذِهِ عَنِ اللحياني.
وسَنَّها اللَّهُ لِلنَّاسِ: بَيَّنها.
وسَنَّ اللَّهُ سُنَّة أَي بَيَّن طَرِيقًا قَوِيمًا.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}؛ نَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ عَلَى إِرادة الْفِعْلِ أَي سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الَّذِينَ نَافَقُوا الأَنبياءَ وأَرْجَفُوا بِهِمْ أَن يُقْتَلُوا أَين ثُقِفُوا أَي وُجِدُوا.
والسُّنَّة: السِّيرَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَو قَبِيحَةً؛ قَالَ خَالِدُ بْنُ عُتْبة الْهُذَلِيُّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سِيرةٍ أَنتَ سِرْتَها، ***فأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُها
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: سُنَّةُ الأَوَّلين أَنهم عَايَنُوا الْعَذَابَ فَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ أَن قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ.
وسَنَنْتُها سَنًّا واسْتَنَنْتُها: سِرْتُها، وسَنَنْتُ لَكُمْ سُنَّةً فَاتَّبِعُوهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: « مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنةً فَلَهُ أَجْرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سيّئَةً »يُرِيدُ مَنْ عَمِلَهَا ليُقْتَدَى بِهِ فِيهَا، وَكُلُّ مَنِ ابتدأَ أَمرًا عَمِلَ بِهِ قَوْمٌ بَعْدَهُ قِيلَ: هُوَ الَّذِي سَنَّه؛ قَالَ نُصَيْبٌ:
كأَني سَنَنتُ الحُبَّ، أَوَّلَ عاشِقٍ ***مِنَ الناسِ، إِذ أَحْبَبْتُ مِنْ بَيْنِهم وَحْدِي
وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ السُّنَّة وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا، والأَصل فِيهِ الطَّرِيقَةُ والسِّيرَة، وإِذا أُطْلِقَت فِي الشَّرْعِ فإِنما يُرَادُ بِهَا مَا أَمَرَ بِهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَهى عَنْهُ ونَدَب إِليه قَوْلًا وَفِعْلًا مِمَّا لَمْ يَنْطق بِهِ الكتابُ الْعَزِيزُ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي أَدلة الشَّرْعِ: الكتابُ والسُّنَّةُ أَي الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « إِنما أُنَسَّى لِأَسُنَ» أَي إِنما أُدْفَعُ إِلى النِّسْيانُ لأَسُوقَ الناسَ بِالْهِدَايَةِ إِلى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وأُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ أَن يَفْعَلُوا إِذا عَرَضَ لَهُمُ النسيانُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنْ سَنَنْتُ الإِبلَ إِذا أَحْسنت رِعْيتَها وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه نَزَلَ المُحَصَّبَ وَلَمْ يَسُنَّهُ »أَي لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّة يُعْمَلُ بِهَا، قَالَ: وَقَدْ يَفْعل الشَّيْءَ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فَلَا يَعُمُّ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَفْعل لِمَعْنًى فَيَزُولُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى حَالِهِ مُتَّبَعًا كقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ لِلْخَوْفِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْقَصْرُ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" ابْنِ عَبَّاسٍ: رَمَلَ رسولُ الله، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ بسُنَّة أَي أَنه لَمْ يَسُنَّ فِعْلَه لِكَافَّةِ الأُمّة وَلَكِنْ لِسَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَن يُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّةَ أَصحابه، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ يَرَى أَن الرَّمَلَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ سنَّة.
وَفِي حَدِيثِ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامة: « اسْنُنِ اليومَ وغَيِّرْ غَدًا» أَي اعْمَلْ بسُنَّتك الَّتِي سَنَنْتها فِي القِصاصِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذا شِئْتَ أَن تُغَيِّرَ فَغَيِّرْ أَي تُغَيِّرَ مَا سَننْتَ، وَقِيلَ: تُغَيِّر مِنْ أَخذ الغِيَر وَهِيَ الدِّيَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « إِن أَكبر الْكَبَائِرِ أَن تُقاتل أَهل صَفْقَتِك وتُبَدِّلَ سُنَّتَك »؛ أَراد بِتَبْدِيلِ السُّنة أَن يَرْجِعَ أَعرابيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْمَجُوسِ: « سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهل الْكِتَابِ»؛ أي خُذُوهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وأَجْرُوهم فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مُجْراهم.
وَفِي الْحَدِيثِ: « لَا يُنْقَضُ عَهْدُهم عَنْ سُنَّةِ ماحِلٍ» أَي لَا يُنْقَضُ بسَعْيِ سَاعٍ بِالنَّمِيمَةِ والإِفساد، كَمَا يُقَالُ لَا أُفْسِدُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ بِمَذَاهِبِ الأَشرار وطُرُقهم فِي الْفَسَادِ.
والسُّنَّة: الطَّرِيقَةُ، والسَّنن أَيضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَلا رجلٌ يَرُدُّ عَنَّا مِنْ سَنَنِ هَؤُلَاءِ».
التَّهْذِيبُ: السُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ الْمَحْمُودَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: فُلَانٌ مِنْ أَهل السُّنَّة؛ مَعْنَاهُ مِنْ أَهل الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَهِيَ مأْخوذة مِنَ السَّنَنِ وَهُوَ الطَّرِيقُ.
وَيُقَالُ للخَطّ الأَسود عَلَى مَتْنِ الْحِمَارِ: سُنَّة.
والسُّنَّة: الطَّبِيعَةُ؛ وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الأَعشى:
كَرِيمٌ شَمَائِلُه مِنْ بَنِي ***مُعاويةَ الأَكْرَمينَ السُّنَنْ
وامْضِ عَلَى سَنَنِك أَي وَجْهك وقَصْدك.
وَلِلطَّرِيقِ سَنَنٌ أَيضًا، وسَنَنُ الطَّرِيقِ وسُنَنُه وسِنَنُه وسُنُنُه: نَهْجُه.
يُقَالُ: خَدَعَك سَنَنُ الطَّرِيقِ وسُنَّتُه.
والسُّنَّة أَيضًا: سُنَّة الْوَجْهِ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: تَرَك فلانٌ لَكَ سَنَنَ الطَّرِيقِ وسُنَنَه وسِنَنَه أَي جِهَتَه؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَعرف سِنَنًا عَنْ غَيْرِ اللِّحْيَانِيِّ.
شَمِرٌ: السُّنَّة فِي الأَصل سُنَّة الطَّرِيقِ، وَهُوَ طَرِيقٌ سَنَّه أَوائل النَّاسِ فصارَ مَسْلَكًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وسَنَّ فلانٌ طَرِيقًا مِنَ الْخَيْرِ يَسُنُّه إِذا ابتدأَ أَمرًا مِنَ البِرِّ لَمْ يَعْرِفْهُ قومُه فاسْتَسَنُّوا بِهِ وسَلَكُوه، وَهُوَ سَنِين.
وَيُقَالُ: سَنَّ الطريقَ سَنًّا وسَنَنًا، فالسَّنُّ الْمَصْدَرُ، والسَّنَنُ الِاسْمُ بِمَعْنَى المَسْنون.
وَيُقَالُ: تَنَحَّ عَنْ سَنَنِ الطَّرِيقِ وسُنَنه وسِنَنِه، ثَلَاثُ لُغَاتٍ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: سَنَنُ الطَّرِيقِ وسُنُنُه مَحَجَّتُه.
وتَنَحَّ عَنْ سَنَنِ الْجَبَلِ أَي عَنْ وَجْهِهِ.
الْجَوْهَرِيُّ: السَّنَنُ الطَّرِيقَةُ.
يُقَالُ: اسْتَقَامَ فُلَانٌ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ.
وَيُقَالُ: امْضِ عَلَى سَنَنِك وسُنَنِك أَي على وجهك.
والمُسَنْسَنُ [المُسَنْسِنُ]: الطَّرِيقُ الْمَسْلُوكُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: طَرِيقٌ يُسْلَكُ.
وتَسَنَّنَ الرجلُ فِي عَدْوِه واسْتَنَّ: مَضَى عَلَى وَجْهِهِ؛ وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
ظَلِلْنا بمُسْتَنِّ الحَرُورِ، كأَننا ***لَدى فَرَسٍ مُسْتَقْبِلِ الريحِ صائِم
عَنَى بمُسْتَنِّها موضعَ جَرْي السَّرابِ، وَقِيلَ: مَوْضِعُ اشْتِدَادِ حَرِّهَا كأَنها تَسْتَنُّ فِيهِ عَدْوًا، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ.
مَخْرَجَ الرِّيحِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهُوَ عِنْدِي أَحسن إِلَّا أَن الأَول قَوْلُ المتقدِّمين، وَالِاسْمُ مِنْهُ السَّنَنُ.
أَبو زَيْدٍ: اسْتَنَّت الدابةُ عَلَى وَجْهِ الأَرض.
واسْتَنَّ دَمُ الطَّعْنَةِ إِذا جَاءَتْ دُفْعةٌ مِنْهَا؛ قَالَ أَبو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:
مُسْتَنَّة سَنَنَ الفُلُوِّ مُرِشَّة، ***تَنْفي الترابَ بقاحِزٍ مُعْرَوْرِفِ
وَطَعَنه طَعْنةً فَجَاءَ مِنْهَا سَنَنٌ يَدْفَعُ كلَّ شيءٍ إِذا خَرَجَ الدمُ بحَمْوَتِه؛ وَقَوْلُ الأَعشى:
وَقَدْ نَطْعُنُ الفَرْجَ، يومَ اللِّقاءِ، ***بالرُّمْحِ نحْبِسُ أُولى السَّنَنْ
قَالَ شَمِرٌ: يريدُ أُولى القومِ الَّذِينَ يُسرعون إِلى الْقِتَالِ، والسَّنَنُ الْقَصْدُ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: سَنَنُ الرَّجُلِ قَصْدُهُ وهِمَّتُه.
واسْتَنَّ السَّرابُ: اضطرب.
وسَنَّ الإِبلَ سَنًّا: سَاقَهَا سَوْقًا سَرِيعًا، وَقِيلَ: السَّنُّ السَّيْرُ الشَّدِيدُ.
والسَّنَنُ: الَّذِي يُلِحُّ فِي عَدْوِه وإِقْباله وإِدْباره.
وَجَاءَ سَنَنٌ مِنَ الْخَيْلِ أَي شَوْطٌ.
وَجَاءَتِ الرياحُ سَنائِنَ إِذا جَاءَتْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَطَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَخْتَلِفُ.
وَيُقَالُ: جَاءَ مِنَ الْخَيْلِ والإِبل سَنَنٌ مَا يُرَدُّ وجْهُه.
وَيُقَالُ: اسْنُنْ قُرونَ فرسك "أَي بُدَّهُ حَتَّى يَسِيلَ عَرَقُه فيَضْمُرَ، وَقَدْ سُنَّ لَهُ قَرْنٌ وقُرون وَهِيَ الدُّفَعُ مِنَ العَرَق؛ وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
نُعَوِّدُها الطِّرادَ فكلَّ يوْمٍ ***تُسَنُّ، عَلَى سَنابِكِها، القُرونُ
والسَّنينة: الرِّيحُ؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ خَالِدٍ.
الخُنَعِيُّ فِي السَّنَائن الرِّياحِ: وَاحِدَتُهَا سَنِينةٌ، والرِّجَاعُ جَمْعُ الرَّجْعِ، وَهُوَ ماءُ السَّمَاءِ فِي الغَدير.
وَفِي النَّوَادِرِ: رِيحٌ نَسْناسة وسَنْسانَةٌ بَارِدَةٌ، وَقَدْ نَسْنَسَتْ وسَنْسَنَتْ إِذا هَبَّتْ هُبُوبًا بَارِدًا.
وَيَقُولُ: نَسْناسٌ مِنْ دُخان وسَنْسانٌ، يُرِيدُ دُخَانَ نَارٍ.
وبَنى الْقَوْمُ بُيُوتَهُمْ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ أَي عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ.
وسَنَّ الطينَ: طَيَّنَ بِهِ فَخَّارًا أَو اتَّخَذَهُ مِنْهُ.
والمَسْنون: المُصَوَّرُ.
والمَسْنون: المُنْتِن.
وَقَوْلُهُ تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}؛ قَالَ أَبو عَمْرٍو: أَي مُتَغَيِّرٍ مُنْتِنٍ؛ وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: سُنَّ الماءُ فَهُوَ مَسْنُون أَي تَغَيَّرَ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَسْنون مَصْبوب عَلَى سُنَّةِ الطَّرِيقِ؛ قَالَ الأَخفش: وإِنما يَتَغَيَّرُ إِذا أَقام بِغَيْرِ مَاءٍ جَارٍ، قَالَ: وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَن مَسْنُونَ اسْمُ مَفْعُولٍ جارٍ عَلَى سُنَّ وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَسْنُونٌ طَوَّلَهُ، جعله طويلًا مستويًا.
يُقَالُ: رَجُلٌ مَسنون الْوَجْهِ أَي حَسَنُ الْوَجْهِ طَوِيلُهُ؛ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّطْبُ، وَيُقَالُ المُنْتِنُ.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: المَسنونُ المَصبوب.
وَيُقَالُ: الْمَسْنُونُ المَصْبوب عَلَى صُورَةٍ، وَقَالَ: الْوَجْهُ المَسنون سمِّي مَسنونًا لأَنه كَالْمَخْرُوطِ.
الْفَرَّاءُ: سُمِّيَ المِسَنُّ مِسَنًّا لأَن الْحَدِيدَ يُسَنُّ عَلَيْهِ أَي يُحَكُّ عَلَيْهِ.
وَيُقَالُ لِلَّذِي يَسِيلُ عِنْدَ الْحَكِّ: سَنِينٌ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ السَّائِلُ إِلا مُنْتِنًا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}؛ يُقَالُ الْمَحْكُوكُ، وَيُقَالُ: هُوَ الْمُتَغَيِّرُ كأَنه أُخذ مِنْ سَنَنْتُ الْحَجَرَ عَلَى الحجَر، وَالَّذِي يَخْرُجُ بَيْنَهُمَا يُقَالُ لَهُ السَّنِينُ، وَاللَّهُ أَعلم بِمَا أَراد.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ بَرْوَعَ بنتِ واشِقٍ: « وَكَانَ زَوْجُهَا سُنَّ فِي بِئْرٍ» أَي تَغَيَّرَ وأَنْتنَ، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}؛ أَي مُتَغَيِّرٍ، وَقِيلَ: أَراد بسُنَّ أَسِنَ بِوَزْنِ سَمِعَ، وَهُوَ أَن يَدُورَ رأْسه مِنْ رِيحٍ كَرِيهَةٍ شَمَّهَا وَيُغْشَى عَلَيْهِ.
وسَنَّتِ العينُ الدمعَ تَسُنُّه سَنًّا: صَبَّتْهُ، واسْتَنَّتْ هِيَ: انْصَبَّ دَمْعُهَا.
وسَنَّ عَلَيْهِ الماءَ: صَبَّه، وَقِيلَ: أَرسله إِرسالًا لَيِّنًا، وسَنَّ عَلَيْهِ الدرعَ يَسُنُّها سَنًّا كَذَلِكَ إِذا صَبَّهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ شَنَّ.
وَيُقَالُ: شَنَّ عَلَيْهِمُ الغارةَ إِذا فَرَّقَهَا.
وَقَدْ شَنَّ الماءَ عَلَى شَرَابِهِ أَي فرَّقه عَلَيْهِ.
وسَنَّ الماءَ عَلَى وَجْهِهِ أَي صبَّه عَلَيْهِ صَبًّا سَهْلًا.
الْجَوْهَرِيُّ: سَنَنْتُ الماءَ عَلَى وَجْهِي أَي أَرسلته إِرسالًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، فإِذا فَرَّقْتَهُ بِالصَّبِّ قُلْتَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ.
وَفِي حَدِيثِ بَوْلِ الأَعرابي فِي الْمَسْجِدِ: « فَدَعَا بدلوٍ مِنْ مَاءٍ فسَنَّه عَلَيْهِ »أَي صَبَّهُ.
والسَّنُّ.
الصبُّ فِي سُهولة، وَيُرْوَى بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْخَمْرِ: " سُنَّها فِي البَطْحاء.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: « كَانَ يَسُنُّ الماءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَشُنُّه»؛ أي كَانَ يَصُبُّهُ وَلَا يُفَرِّقُهُ عَلَيْهِ.
وسَنَنْتُ الترابَ: صَبَبْتُهُ عَلَى وَجْهِ الأَرض صَبًّا سَهْلًا حَتَّى صَارَ كالمُسَنّاة.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ مَوْتِهِ: « فسُنُّوا عليَّ الترابَ سَنًّا »أَي ضَعُوهُ وَضْعًا سَهْلًا.
وسُنَّت الأَرض فَهِيَ مَسنونة وسَنِينٌ إِذا أُكل نَبَاتُهَا؛ قَالَ الطِّرِمّاحُ:
بمُنْخَرَقٍ تَحِنُّ الريحُ فِيهِ، ***حَنِينَ الجِلْبِ [الجُلْبِ] في البلدِ السَّنِينِ
يَعْنِي المَحْلَ.
وأَسْنان المنْجَل: أُشَرُهُ.
والسَّنُونُ "والسَّنِينة: رِمالٌ مُرْتَفِعَةٌ تَسْتَطِيلُ عَلَى وَجْهُ الأَرض، وَقِيلَ: هِيَ كَهَيْئَةِ الحِبال مِنَ الرمل.
التهذيب: والسَّنائن رِمَالٌ مُرْتَفِعَةٌ تَسْتَطِيلُ عَلَى وَجْهِ الأَرض، وَاحِدَتُهَا سَنِينة؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ: " وأَرْطاةِ حِقْفٍ بَيْنَ كِسْرَيْ سَنائن "وَرَوَى المؤرِّج: السِّنانُ الذِّبّانُ؛ وأَنشد:
أَيَأْكُلُ تَأْزِيزًا ويَحْسُو خَزِيرَةً، ***وَمَا بَيْنَ عَيْنَيهِ وَنِيمُ سِنانِ؟
قَالَ: تأْزِيزًا مَا رَمَتْه القدْر إِذا فَارَتْ.
وسَانَّ البعيرُ الناقةَ يُسانُّها مُسانَّةً وسِنانًا: عَارَضَهَا للتَّنَوُّخ، وَذَلِكَ أَن يَطْرُدَها حَتَّى تَبْرُكَ، وَفِي الصِّحَاحِ: إِذا طَرَدَها حَتَّى يُنَوِّخَها ليَسْفِدَها؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ يَصِفُ نَاقَتَهُ:
وتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنها ***فَنِيقٌ ثَناها عَنْ سِنانٍ فأَرْقَلا
يَقُولُ: سانَّ ناقتَه ثُمَّ انْتَهَى إِلى العَدْوِ الشَّدِيدِ فأَرْقَلَ، وَهُوَ أَن يَرْتَفِعَ عَنِ الذَّمِيلِ، وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ أَيضًا لضابئِ بن الحرث البُرْجُمِيِّ؛ وَقَالَ الأَسدِيُّ يَصِفُ فَحْلًا:
للبَكَراتِ العِيطِ مِنْهَا ضاهِدا، ***طَوْعَ السِّنانِ ذارِعًا وعاضِدَا
ذَارِعًا: يُقَالُ ذَرَعَ لَهُ إِذا وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ عنقِه ثُمَّ خَنَقه، والعاضِدُ: الَّذِي يأْخذ بالعَضُدِ طَوْعَ السِّنانِ؛ يَقُولُ: يُطاوعه السِّنانُ كَيْفَ شَاءَ.
وَيُقَالُ: سَنَّ الفَحْلُ النَّاقَةَ يَسُنُّها إِذا كبَّها عَلَى وَجْهِهَا؛ قَالَ:
فاندَفَعَتْ تأْفِرُ واسْتَقْفاها، ***فسَنَّها للوَجْهِ أَو دَرْباها
أَي دَفَعَهَا.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: المُسانَّةُ أَن يَبْتَسِرَ الفحلُ الناقةَ قَهْرًا؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:
وأَنت إِذا مَا كنتَ فاعِلَ هَذِهِ ***سِنَانًا، فَمَا يُلْقَى لِحَيْنك مَصْرَعُ
أَي فاعلَ هَذِهِ قَهْرًا وابْتِسارًا؛ وَقَالَ آخَرُ: " كالفَحْل أَرْقَلَ بَعْدَ طُولِ سِنَانِ "وَيُقَالُ: سَانَّ الفحلُ الناقَةَ يُسانُّها إِذا كَدَمَها.
وتَسانَّتِ الفُحُولِ إِذا تَكادَمت.
وسَنَنْتُ الناقةَ: سَيَّرتُها سَيْرًا شَدِيدًا.
وَوَقَعَ فُلَانٌ فِي سِنِّ رأْسِهِ أَي فِي عَدَدِ شَعْرِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقِيلَ: فِيمَا شَاءَ واحْتَكَم؛ قَالَ أَبو زَيْدٍ: وَقَدْ يُفَسَّرُ سنُّ رأْسه عَدَدُ شعره من الْخَيْرِ.
وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: وَقَعَ فُلَانٌ فِي سِنِّ رأْسِه وَفِي سِيِّ رأْسه وسَواءِ رأْسِه بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَرَوَى أَبو عُبَيْدٍ هَذَا الْحَرْفَ فِي الأَمثال: فِي سِنِّ رأْسه، وَرَوَاهُ فِي المؤلَّف: فِي سِيِّ رأْسه؛ قَالَ الأَزهري: وَالصَّوَابُ بِالْيَاءِ أَي فِيمَا سَاوَى رَأْسَه مِنَ الخِصْبِ.
والسِّنُّ: الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
حَنَّتْ حَنِينًا، كثُؤَاجِ السّنِّ، ***فِي قَصَبٍ أَجْوَفَ مُرْثَعِنِ
اللَّيْثُ: السَّنَّةُ اسْمُ الدُّبَّة أَو الفَهْدَةِ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَمِنْ أَمثالهم فِي الصادِقِ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ: « صَدَقَني سِنَّ بَكْرِه»؛ وَيَقُولُهُ الإِنسانُ عَلَى نَفْسِهِ وإِن كَانَ ضَارًّا لَهُ؛ قَالَ الأَصمعي: أَصله أَن رَجُلًا ساوَمَ رَجُلًا ببَكْرٍ أَراد شراءَه فسأَل البائعَ عَنْ سِنِّه فأَخبره بِالْحَقِّ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: " صَدَقَني سِنَّ بِكْرِهِ، فَذَهَبَ مَثَلًا، وَهَذَا الْمَثَلُ يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنه تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ.
وَمِنْ أَمثالهم: اسْتَنَّتِ الفِصالُ حَتَّى القَرْعَى؛ يضرب مَثَلًا لِلرَّجُلِ يُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي قَوْمٍ لَيْسَ مِنْهُمْ، والقَرْعى مِنَ الفِصَال: الَّتِي أَصابها قَرَعٌ، وَهُوَ بَثْرٌ، فإِذا اسْتَنَّتِ الْفِصَالُ الصِّحَاحُ مَرَحًا نَزَتِ القَرْعَىنَزْوَها تَشَبَّهُ بِهَا وَقَدْ أَضعفها القَرَعُ عَنِ النَّزَوانِ.
واسْتَنَّ الفَرَسُ: قَمَصَ.
واسْتَنَّ الفرسُ في المِضْمارِ إِذا جرى فين نَشاطه عَلَى سَنَنه فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
والاسْتنانُ: النَّشَاطُ؛ وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ: اسْتَنَّتِ الفِصَالُ حَتَّى القَرْعى، وَقِيلَ: اسْتَنَّتِ الفِصال أَي سَمِنَتْ وصَارَتْ جُلُودها كالمَسَانِّ، قَالَ: والأَول أَصح.
وَفِي حَدِيثِ الْخَيْلِ: « اسْتَنَّت شَرَفًا أَو شَرَفَيْنِ »؛ اسْتَنَّ الفَرَسُ يَسْتَنُّ اسْتِنانًا؛ أي عَدَا لَمَرحه ونَشاطه شَوْطًا أَو شَوْطَيْنِ وَلَا راكِبَ عَلَيْهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « إِنّ فَرَسَ المُجاهِد ليَسْتَنُّ فِي طِوَله».
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ: « رأَيت أَباه يَسْتَنُّ بسَيْفِه كَمَا يَسْتَنُّ الجملُ »أَي يَمْرَحُ ويَخْطُرُ بِهِ.
والسِّنُّ والسِّنْسِنُ والسِّنْسِنَةُ: حَرْفُ فَقْرةِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ: السَّنَاسِنُ رؤوس أَطراف عِظَامِ الصَّدْرِ، وَهِيَ مُشَاش الزَّوْرِ، وَقِيلَ: هِيَ أَطراف الضُّلُوعِ الَّتِي فِي الصَّدْرِ.
ابْنُ الأَعرابي: السَّنَاسِنُ والشَّنَاشِنُ العِظامُ؛ وَقَالَ الجَرَنْفَشُ:
كَيْفَ تَرَى الغزْوة أَبْقَتْ مِنِّي ***سَناسِنًا، كحَلَقِ المِجَنِ
أَبو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ: السَّنَاسِنُ رؤوس المَحالِ وحُروفُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَاحِدُهَا سِنْسِنٌ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " يَنْقَعْنَ بالعَذْبِ مُشاشَ السِّنْسِنِ قَالَ الأَزهري: ولحمُ سَناسِنِ الْبَعِيرِ مِنْ أَطيب اللُّحْمَانِ لأَنها تَكُونُ بَيْنَ شَطَّي السَّنَام، ولحمُها يَكُونُ أَشْمَطَ طَيّبًا، وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الْفَرَسِ جَوانِحُه الشاخِصَةُ شِبْهُ الضُّلُوعِ ثُمَّ تَنْقَطِعُ دُونَ الضُّلُوعِ.
وسُنْسُنُ: اسْمٌ أَعجمي يُسَمِّي بِهِ السَّوَادِيُّونَ.
والسُّنَّةُ: ضَرْبٌ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ معروفة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
69-مقاييس اللغة (بكر)
(بَكَرَ) الْبَاءُ وَالْكَافُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَرْعَانِ هُمَا مِنْهُ.فَالْأَوَّلُ أَوَّلُ الشَّيْءِ وَبَدْؤُهُ.
وَالثَّانِي مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ تَشْبِيهٌ.
فَالْأَوَّلُ الْبُكْرَةُ وَهِيَ الْغَدَاةُ، وَالْجَمْعُ الْبُكَرُ.
وَالتَّبْكِيرُ وَالْبُكُورُ وَالِابْتِكَارُ الْمُضِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَالْإِبْكَارُ: الْبُكْرَةُ، كَمَا أَنَّ الْإِصْبَاحَ اسْمُ الصُّبْحِ.
وَبَاكَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا بَكَرْتَ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَبَكَرْتُ الْوِرْدَ إِبْكَارًا، وَأَبْكَرْتُ الْغَدَاءَ، وَبَكَرْتُ عَلَى الْحَاجَةِ وَأَبْكَرْتُ غَيْرِي، بَكَرْتُ وَأَبْكَرْتُ.
وَيُقَالُ رَجُلٌ بَكُِرٌ صَاحِبُ بُكُورٍ.
كَمَا يُقَالُ حَذُِرٌ.
قَالَ الْخَلِيلُ: غَيْثٌ بَاكُورٌ وَهُوَ الْمُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ الْوَسْمِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا السَّارِي فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ.
قَالَ:
جَرَّتِ الرِّيحُ بِهَا عُثْنُونَهَا *** وَتَهَادَتْهَا مَدَالِيجُ بُكُرْ
يُقَالُ: سَحَابَةٌ مِدْلَاجٌ بَكُورٌ.
وَيُقَالُ بَكَّرَتِ الْأَمْطَارُ تَبْكِيرًا وَبَكَرَتْ بُكُورًا، إِذَا تَقَدَّمَتْ.
الْفَرَّاءُ: أَبْكَرَ السَّحَابُ وَبَكَرَ، وَبَكَّرَ، وَبَكَرَتِ الشَّجَرَةُ وَأَبْكَرَتْ وَبَكَّرَتْ تُبَكِّرُ تَبْكِيرًا وَبَكَرَتْ بُكُورًا، وَهِيَ بَكُورٌ، إِذَا عَجَّلَتْ بِالْإِثْمَارِ وَالْيَنْعِ، وَإِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا ذَاكَ فَهِيَ مِبْكَارٌ، وَجَمْعُ بَكُورٍ بُكُرٌ، قَالَ الْهُذَلِيُّ:
ذَلِكَ مَا دِينُكَ إِذْ جُنِّبَتْ *** فِي الصُّبْحِ مِثْلَ الْبُكُرِ الْمُبْتِلِ
وَالتَّمْرَةُ بَاكُورَةٌ، وَيُقَالُ هِيَ الْبَكِيرَةُ وَالْبَكَائِرُ.
وَيُقَالُ أَرْضٌ مِبْكَارٌ، إِذَا كَانَتْ تُنْبِتُ فِي أَوَّلِ نَبَاتِ الْأَرْضِ.
قَالَ الْأَخْطَلُ:
غَيْثٌ تَظَاهَرَ فِي مَيْثَاءَ مِبْكَارِ.
فَهَذَا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ.
فَمِنْهُ الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ، مَا لَمْ يَبْزُلْ بَعْدُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي فَتَاءِ سِنِّهِ وَأَوَّلِ عُمُرِهِ، فَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا بَزَلَ فَهُوَ جَمَلٌ.
وَالْبَكْرَةُ الْأُنْثَى، فَإِذَا بَزَلَتْ فَهِيَ نَاقَةٌ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَجَمْعُهُ بِكَارٌ، وَأَدْنَى الْعَدَدِ ثَلَاثَةُ أَبْكُرٍ.
وَمِنْهُ الْمَثَلُ: صَدَقَنِي سِنُّ بَكْرِهِ وَأَصْلُهُ أَنَّ رَجُلًا سَاوَمَ آخَرَ بِبَكْرٍ أَرَادَ شِرَاءَهُ وَسَأَلَ الْبَائِعَ عَنْ سِنِّهِ، فَأَخْبَرَهُ بِغَيْرِ الصِّدْقِ فَقَالَ: بَكْرٌ - وَكَانَ هَرِمًا - فَفَرَّهُ الْمُشْتَرِيَ، فَقَالَ: صَدَقَنِي سِنُّ بَكْرِهِ.
قَالَ التَّمِيمِيُّ: يُسَمَّى الْبَعِيرُ بَكْرًا مِنْ لَدُنْ يُرْكَبُ إِلَى أَنْ يُرْبِعَ، وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ.
وَالْقَعُودُ الْبَكْرُ.
قَالَ: وَيَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْوَى مِنْ بَكْرِ هَبَنَّقَةَ.
"وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُحَمَّقُ ; وَكَانَ بَكْرُهُ يَصْدُرُ عَنِ الْمَاءِ مَعَ الصَّادِرِ وَقَدْ رَوِيَ، ثُمَّ يَرِدُ مَعَ الْوَارِدِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْكَلَأِ."
قَالَ الْخَلِيلُ: وَالْبِكْرُ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُمْسَسْ قَطُّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَاحِدًا فَهِيَ بِكْرٌ أَيْضًا.
قَالَ الْخَلِيلُ: يُسَمَّى بِكْرًا أَوْ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً.
وَيُقَالُ أَشَدُّ النَّاسِ بِكْرٌ ابْنُ بِكْرَيْنِ.
قَالَ: وَبَقَرَةٌ بِكْرٌ فَتِيَّةٌ لَمْ تَحْمِلْ.
وَالْبِكْرُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَوَّلُهُ.
وَيَقُولُ: مَا هَذَا الْأَمْرُ بِبَكِيرٍ وَلَا ثَنِيٍّ، عَلَى مَعْنَى مَا هُوَ بِأَوَّلَ وَلَا ثَانٍ.
قَالَ:
وُقُوفٌ لَدَى الْأَبْوَابِ طُلَّابُ حَاجَةٍ *** عَوَانًا مِنَ الْحَاجَاتِ أَوْ حَاجَةً بَكْرًا
وَالْبِكْرُ: الْكَرْمُ الَّذِي حَمَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
قَالَ الْأَعْشَى:
تَنَخَّلَهَا مِنْ بِكَارِ الْقِطَافِ *** أُزَيْرِقُ آمِنُ إِكْسَادِهَا
قَالَ الْخَلِيلُ: عَسَلٌ أَبْكَارٌ تُعَسِّلُهُ أَبْكَارُ النَّحْلِ، أَيْ أَفْتَاؤُهَا، وَيُقَالُ بَلِ الْأَبْكَارُ مِنَ الْجَوَارِي يَلِينَهُ.
فَهَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي، وَلَيْسَ بِالْبَعِيدِ مِنْ قِيَاسِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالْبَكَرَةُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّهَا أُعِيرَتِ اسْمَ الْبَكْرَةِ مِنَ النُّوقِ كَانَ مَذْهَبًا، وَالْبَكَرَةُ مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ هَادِيَهَا إِذْ قَامَ مُلْجِمُهَا *** قَعْوٌ عَلَى بَكْرَةٍ زَوْرَاءَ مَنْصُوبُ
وَثَمَّ حَلَقَاتُ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ تُسَمَّى بَكَرَاتٍ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَصْلُهُ وَاحِدٌ.
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
70-مقاييس اللغة (عر)
(عَرَّ) الْعَيْنُ وَالرَّاءُ أُصُولٌ صَحِيحَةٌ أَرْبَعَةٌ.فَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى لَطْخِ شَيْءٍ بِغَيْرِ طَيِّبٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ، وَالثَّالِثُ يَدُلُّ عَلَى سُمُوٍّ وَارْتِفَاعٍ، وَالرَّابِعُ يَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ شَيْءٍ.
وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنَّا لَا نَعُدُّ النَّبَاتَ وَلَا الْأَمَاكِنَ فِيمَا يَنْقَاسُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
فَالْأَوَّلُ الْعَرُّ وَالْعُرُّ.
قَالَ الْخَلِيلُ: هُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ هُوَ الْجَرَبُ.
وَكَذَلِكَ الْعُرَّةُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ لَطْخٌ بِالْجَسَدِ.
وَيُقَالُ الْعُرَّةُ الْقَذَرُ بِعَيْنِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ بَائِعَ الْعُرَّةِ وَمُشْتَرِيهَا.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرُّ الْجَرَبُ.
وَالْعُرُّ: تَسَلُّخُ جِلْدِ الْبَعِيرِ.
وَإِنَّمَا يُكْوَى مِنَ الْعَرِّ لَا مِنَ الْعُرِّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ: جَمَلٌ أَعَرُّ، أَيْ أَجْرَبُ.
وَنَاقَةٌ عَرَّاءُ.
قَالَ النَّضْرُ: جَمَلٌ عَارٌّ وَنَاقَةٌ عَارَّةٌ، وَلَا يُقَالُ: مَعْرُورٌ فِي الْجَرَبِ، لِأَنَّ الْمَعْرُورَةَ الَّتِي يُصِيبُهَا عَيْنٌ فِي لَبَنِهَا وَطَرْقِهَا.
وَفِي مَثَلٍ: نَحِّ الْجَرْبَاءَ عَنِ الْعَارَّةِ.
قَالَ: وَالْجَرْبَاءُ: الَّتِي عَمَّهَا الْجَرَبُ، وَالْعَارَّةُ: الَّتِي قَدْ بَدَأَ فِيهَا ذَلِكَ، فَكَأَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَبْعُدَ بِإِبِلِهِ الْجَرْبَاءِ عَنِ الْعَارَّةِ، فَقَالَ صَاحِبُهُ مُبَكِّتًا لَهُ بِذَلِكَ، أَيْ لِمَ يُنَحِّيهَا وَكُلُّهَا أَجْرَبُ.
وَيُقَالُ: نَاقَةٌ مَعْرُورَةٌ قَدْ مَسَّتْ ضَرْعَهَا نَجَاسَةٌ فَيَفْسُدُ لَبَنُهَا.
وَرَجُلٌ عَارُورَةٌ، أَيْ قَاذُورَةٌ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
فَكُلًّا أَرَاهُ قَدْ أَصَابَ عُرُورُهَا.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعَرُّ: الْقَرْحُ، مِثْلَ الْقُوَبَاءِ يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَأَكْثَرُ مَا يُصِيبُ الْفُِصْلَانَ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: أُعَرَّ فُلَانٌ، إِذَا أَصَابَ إِبِلَهُ الْعُرُّ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْعُرَّةُ: الْقَذَرُ، يُقَالُ هُوَ عُرَّةٌ مِنَ الْعُرَرِ، أَيْ مَنْ دَنَا مِنْهُ لَطَّخَهُ بِشَرٍّ.
قَالَ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْعُرَّةُ فِي الَّذِي لِلطَّيْرِ أَيْضًا.
قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
فِي شَنَاظِي أُقَنٌ بَيْنَهَا *** عُرَّةُ الطَّيْرِ كَصَوْمِ النَّعَامِ
الشَّنَاظِيُّ: أَطْرَافُ الْجَبَلِ، الْوَاحِدُ شُنْظُوَةٌ.
وَلَمْ تُسْمَعْ إِلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ.
وَيُقَالُ: اسْتَعَرَّهُمُ الشَّرُّ، إِذَا فَشَا فِيهِمْ.
وَيُقَالُ عَرَّهُ بِشَرٍّ يَعُرُّهُ عَرًّا، إِذَا رَمَاهُ بِهِ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَعَرَّةُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ إِثْمٍ.
قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ -: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].
وَلَعَلَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ: رَجُلٌ فِيهِ عَرَارَةٌ، أَيْ سُوءُ خُلُقٍ.
فَأَمَّا الْمُعْتَرُّ الَّذِي هُوَ الْفَقِيرُ وَالَّذِي يَعْتَرُّكَ وَيَتَعَرَّضُ لَكَ، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ مِنْ هَذَا، كَأَنَّهُ إِنْسَانٌ يُلَازُّ وَيُلَازِمُ.
وَالْعَرَارَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ، فَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى، قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: الْعُرْعُرُ: سُوءُ الْخُلُقِ.
قَالَ مَالِكٌ الدُّبَيْرِيُّ:
وَرَكِبْتُ صَوْمَهَا وَعُرْعُرَهَا *** فَلَمْ أُصْلِحْ لَهَا وَلَمْ أَكَدِ
يَقُولُ: لَمْ أُصْلِحْ لَهُمْ مَا صَنَعُوا.
وَالصَّوْمُ: الْقَذِرُ.
يُرِيدُ ارْتَكَبَتْ سُوءَ أَفْعَالِهَا وَمَذْمُومَ خُلُقِهَا.
وَمِنَ الْبَابِ الْمِعْرَارُ، مِنَ النَّخْلِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْمِعْرَارُ: الْمِحْشَافُ.
وَيُقَالُ: بَلِ الْمِعْرَارُ الَّتِي يُصِيبُهَا [مِثْلُ الْعَرِّ، وَهُوَ] الْجَرَبُ.
وَمِنَ الْبَابِ الْعَرِيرُ، وَهُوَ الْغَرِيبُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرِيرًا عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ عُرَّ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ، أَيْ أُلْصِقَ بِهِمْ.
وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى بَابِ الْمُعْتَرِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ حَاطِبٍ، حِينَ قِيلَ لَهُ: لِمَ كَاتَبْتَ أَهْلَ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ عَرِيرًا فِيهِمْ أَيْ غَرِيبًا لَا ظَهْرَ لِي.
وَمِنَ الْبَابِ الْمَعَرَّةُ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ مَا وَرَاءَ الْمَجَرَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ.
سُمِّيَ مَعَرَّةً لِكَثْرَةِ النُّجُومِ فِيهِ.
قَالَ: وَأَصْلُ الْمَعَرَّةِ مَوْضِعُ الْعَرِّ، يَعْنِي الْجَرَبَ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّمَاءَ الْجَرْبَاءَ، لِكَثْرَةِ نُجُومِهَا.
وَسَأَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَنْ مَنْزِلِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَيْنَ حَيَّيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: نَزَلْتَ بَيْنَ الْمَجَرَّةِ وَالْمَعَرَّةِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: الصَّوْتُ.
فَالْعِرَارُ: عِرَارُ الظَّلِيمِ، وَهُوَ صَوْتُهُ.
قَالَ لَبِيدٌ:
تَحَمَّلَ أَهْلُهَا إِلَّا عِرَارًا *** وَعَزْفًا بَعْدَ أَحْيَاءٍ حِلَالِ
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: عَارَّ الظَّلِيمُ يُعَارُّ.
وَلَا يُقَالُ عَرَّ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْعِرَارُ: صَوْتُ الذَّكَرِ إِذَا أَرَادَ الْأُنْثَى.
وَالزِّمَارُ: صَوْتُ الْأُنْثَى إِذَا أَرَادَتِ الذَّكَرَ.
وَأَنْشَدَ:
مَتَّى مَا تَشَأْ تَسْمَعْ عِرَارًا بِقَفْرَةٍ *** يُجِيبُ زِمَارًا كَالْيَرَاعِ الْمُثَقَّبِ
قَالَ الْخَلِيلُ: تَعَارَّ الرَّجُلُ يَتَعَارُّ، إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ.
قَالَ: وَأَحْسَبُ عِرَارَ الظَّلِيمِ مِنْ هَذَا.
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ سَبَّحَ.
وَمِنَ الْبَابِ: عَرْعَارِ، وَهِيَ لُعْبَةٌ لِلصِّبْيَانِ، يَخْرُجُ الصَّبِيُّ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ صِبْيَانًا رَفَعَ صَوْتَهُ فَيَخْرُجَ إِلَيْهِ الصِّبْيَانُ.
قَالَ الْكُمَيْتُ:
حَيْثُ لَا تَنْبِضُ الْقِسِيُّ وَلَا تَلْ *** قَى بِعَرْعَارٍ وِلْدَةٍ مَذْعُورًا
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
مُتَكَنِّفَيْ جَنْبَيْ عُكَاظَ كِلَيْهِمَا *** يَدْعُو وَلِيدَهُمُ بِهَا عَرْعَارِ
يُرِيدُ أَنَّهُمْ آمِنُونَ، وَصِبْيَانُهُمْ يَلْعَبُونَ هَذِهِ اللُّعْبَةَ.
وَيُرِيدُ الْكُمَيْتُ أَنَّ هَذَا الثَّوْرَ لَا يَسْمَعُ إِنْبَاضَ الْقِسِيِّ وَلَا أَصْوَاتَ الصِّبْيَانِ وَلَا يَذْعَرُهُ صَوْتٌ.
يُقَالُ عَرَعَرَةٌ وَعَرْعَارِ، كَمَا قَالُوا قَرْقَرَةٌ وَقَرْقَارِ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ صِبْيَةِ الْعَرَبِ.
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ الدَّالُّ عَلَى سُمُوٍّ وَارْتِفَاعٍ.
قَالَ الْخَلِيلُ: عُرْعُرَةُ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْلَاهُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعُرْعُرَةُ: الْمُعَرَّفَةُ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
وَالْعُرْعُرَةُ: طَرَفُ السَّنَامِ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: عُرْعُرَةُ السَّنَامِ: عَصَبَةٌ تَلِي الْغَرَاضِيفَ.
وَمِنَ الْبَابِ: جَمَلٌ عُرَاعِرٌ، أَيْ سَمِينٌ.
قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ جَوْفَاءُ جَوْنَةٌ تَلَقَّمُ.
أَوْصَالَ الْجَزُورِ الْعُرَاعِرِ.
وَيَتَّسِعُونَ فِي هَذَا حَتَّى يُسَمُّوا الرَّجُلَ الشَّرِيفَ عُرَاعِرَ.
قَالَ مُهَلْهَلٌ:
خَلَعَ الْمُلُوكَ وَسَارَ تَحْتَ لِوَائِهِ *** شَجَرُ الْعُرَى وَعُرَاعِرُ الْأَقْوَامِ
وَمِنَ الْبَابِ: حِمَارٌ أَعَرُّ، إِذَا كَانَ السِّمَنُ فِي صَدْرِهِ وَعُنُقِهِ.
وَمِنْهُ الْعَرَارَةُ وَهِيَ السُّودُدُ.
قَالَ:
إِنَّ الْعَرَارَةَ وَالنُّبُوحَ لِدَارِمٍ *** وَالْمُسْتَخِفُّ أَخُوهُمُ الْأَثْقَالَا
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَارَةُ الْعِزُّ، يُقَالُ هُوَ فِي عَرَارَةِ خَيْرٍ، وَتَزَوَّجَ فُلَانٌ فِي عَرَارَةِ نِسَاءٍ، إِذَا تَزَوَّجَ فِي نِسَاءٍ يَلِدْنَ الذُّكُورَ.
"فَأَمَّا الْعَرَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ فِي صِغَرِ السَّنَامِ فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا قُلْنَاهُ; لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ لُصُوقِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، كَأَنَّهُ مِنْ صِغَرِهِ لَاصِقٌ بِالظَّهْرِ."
"يُقَالُ جَمَلٌ أَعَرُّ وَنَاقَةٌ عَرَّاءُ، إِذَا لَمْ يَضْخُمُ سَنَامُهَا وَإِنْ كَانَتْ سَمِينَةً ; وَهِيَ بَيِّنَةُ الْعَرَرِ وَجَمْعُهَا عُرٌّ."
قَالَ:
أَبَدَأْنَ كُومًا وَرَجَعْنَ عُرَّا.
"وَيَقُولُونَ: نَعْجَةٌ عَرَّاءُ، إِذَا لَمْ تَسْمَنُ أَلْيَتُهَا; وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالشَّيْءِ الَّذِي كَأَنَّهُ قَدْ عُرَّ بِهَا، أَيْ أُلْصِقُ."
وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ، وَهُوَ مُعَالَجَةُ الشَّيْءِ.
تَقُولُ: عَرْعَرْتُ اللَّحْمَ عَنِ الْعَظْمِ، وَشَرْشَرْتُهُ، بِمَعْنًى.
قَالُوا: وَالْعَرَعَرَةُ الْمُعَالَجَةُ لِلشَّيْءِ بِعَجَلَةٍ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ يَعْسُرُ عِلَاجُهُ.
تَقُولُ: عَرْعَرْتَ رَأْسَ الْقَارُورَةِ، إِذَا عَالَجْتَهُ لِتُخْرِجَهُ.
وَيُقَالُ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ ذَبَحَ كَبْشًا وَدَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنِّي دَعَوْتُ هَؤُلَاءِ فَعَالِجِي هَذَا الْكَبْشَ وَأَسْرِعِي الْفَرَاغَ مِنْهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَدَعَا بِالْقَوْمِ، فَقَالَ لَهَا: مَا صَنَعْتِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ فَرَغْتُ مِنْهُ كُلِّهِ إِلَّا الْكَاهِلَ فَأَنَا أُعَرْعِرُهُ وَيُعَرْعِرُنِي.
قَالَ: تَزَوَّدِيهِ إِلَى أَهْلِكِ.
فَطَلَّقَهَا.
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَخَضْرَاءَ فِي وَكْرَيْنِ عَرْعَرْتُ رَأْسَهَا *** لِأُبْلِيَ إِذَا فَارَقَتْ فِي صُحْبَتِي عُذْرَا
فَأَمَّا الْعَرْعَرُ فَشَجَرٌ.
وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ [غَيْرُ] مَحْمُولٍ عَلَى الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْأَمَاكِنِ نَحْوَ عُرَاعِرَ، وَمَعَرِّينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
71-تهذيب اللغة (سطح)
سطح: قال الليث: السَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ على وجه الأرض، كما تقول في الحرب: سَطَحُوهُم أي أَضْجَعُوهُم على الأَرْضِ، والسَّطِيحُ المسطوح هو القَتِيلُ، وأنشد:* حتى تَراهُ وَسْطَهَا سَطيحًا*
وسَطِيحٌ الذِّئْبِيُّ كان في الجاهلية يتكَهَّنُ سُمِّي سطيحًا، لأنه لم يكن له بين مَفَاصِلِه قَصَبٌ فكان لا يقدر على قيام ولا قعود، وكان مُنْسَطِحًا على الأرض، وحَدَّثنا بقصته محمدُ ابنُ إسْحَاق السّعْدِيّ قال: حدثنا علي بن حرب المَوْصِليّ، قال: حدثنا أبو أيوب يَعْلَى بن عمْران البَجَلِيّ، قال: حدثني مخزوم بن هانىء المخزومي عن أبيه، وأَتَتْ له خمسون ومائة سنة قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَجَس إيوانُ كِسْرَى، وسقطت منه أربعَ عشرة شُرْفَةً، وخَمِدَت نارُ فارِس، ولم تَخْمَد قبل ذلك مائة عام، وغاضت بُحَيْرَة سَاوَةَ، ورأى المُوبِذَان إِبِلًا صِعابًا تقود خَيْلًا عِرابًا قد قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وانتشرت في بلادها فلمّا أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فلَبِس تاجه وأخبر مَرازِبَتَه بما رأى، فورد عليه كتَابٌ بخمود النار، فقال المُوبِذَانُ: وأنا رأيت في هذه الليلة وقَصَّ عليه رؤياه في الإبل، فقال له الملك: وأيُّ شيء يكون هذا؟ قال: حادث من ناحية العرب، فبعث كسرى إلى النعمان بن المنذر أن ابْعَثْ إليّ برجل عَالِمٍ ليخبرني عمَّا أسأله، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن نُفَيْلَة الغَسَّانِي، فأخبره بما رأى، فقال: عِلْم هذا عند خالي سَطِيح، قال: فأته وسَلْه وأتِني بجوابه، فقدم على سَطِيح وقد أَشْفَى على الموت فأنْشَأَ يقول:
أَصَمُّ أم يَسْمَعُ غِطْرِيفُ اليمَن *** أم فَادَ فازْلَمَّ به شَأْوُ العَنَن
يا فَاصِلَ الْخُطَّة أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ *** أَتَاكَ شَيْخُ الحَيِّ من آل سَنَنْ
رَسُولُ قَيْل العُجْم يَسْرِي لِلْوَسَن *** وأمّه من آل ذئْب بن حَجَن
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّداء والبَدَنْ *** تَجُوبُ بي الأرضَ عَلَى ذات شَجَن
تَرْفَعُني وَجْنَاءُ تَهْوِي من وَجَن *** حتى أَتَى عاري الجبين والقَطَن
لا يَرْهَبُ الرَّعدَ ولا ريْبَ الزَّمن *** تَلُفُّهُ في الرِّيح بَوْغَاءٌ الدِّمَن
كأَنَّما حُثْحِثَ من حِضْنَي ثَكَن فلما سمع سَطِيح شِعْرَه رفع رأسَه فقال: عبد المسيح على جَمَلٍ مُشيح يهوي إلى سَطيح وقد أوفى على الضَّرِيح، بَعَثَكَ مَلِك من بني سَاسَان لارْتجَاسِ الإيوان وخمود النيران ورُؤْيا المُوبِذان، رأى إبِلًا صِعَابًا تقود خَيْلًا عِرَابًا.
يا عبدَ المسيح، إذا كَثُرَت التِّلاوة، وبُعِثَ صاحبُ الهِرَاوَة، وغاضت بُحَيرةُ سَاوَة، فليس الشأم لِسَطيح شَأمًا، يَمْلكُ منهم ملوك ومَلِكات على عَدَدِ الشُّرُفات، وكلّ ما هو آتٍ آت، ثم قُبِضَ سَطِيحٌ مكانه، ونهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:
شَمِّر فإنك ما عُمِّرْتَ شِمِّيرُ *** لا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وتَغْيِيرُ
إن يُمْسِ مُلْكُ بني ساسان أفرطهم *** فإنَّ ذا الدَّهْرِ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
فرُبَّما رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ *** تخَافُ صَوْلَهُم أُسْدٌ مَهَاصِير
منهم أخو الصَّرْح بَهْرَامٌ وإخْوَتهُم *** وهْرْمُزَانٌ وسَابُورٌ وسَابُورُ
والناسُ أولاد عَلَّاتٍ فمن عَلِمُوا *** أَنْ قد أقلَّ فَمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وهُم بَنُو الأُمِّ لَمَّا أن رَأَوْا نَشَبًا *** فذاك بالغَيْبِ مَحْفُوظٌ ومَنْصُورُ
والخيرُ والشَّرُّ مقرونان في قَرَنٍ *** فالخيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذُورُ
فلمّا قدم على كِسْرى أخبره بقول سطيح فقال كِسْرى: إلى أن يَمْلِكَ مِنَّا أربعةَ عشرَ مَلِكًا تكون أمُورٌ، فملك منهم عَشَرَة في أربع سنين، ومَلَك الباقون إلى زَمَن عُثمان.
قلت: وهذا الخبر فيه ذكر آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وهو حديث حسن غريب.
وقال الليث: السَّطحُ: ظَهْرُ البيت إذا كان مُسْتَوِيًا، وفِعْلُكه التَّسْطِيح.
قال: والمِسْطَح والمِسْطَحَةُ: شبه مِطْهَرَة ليست بمُربَّعة، قال: ويُسَمَّى هذا الكوزُ الذي يُتَّخَذُ للسفر ذُو الجَنْبِ الواحِدِ مِسْطَحًا.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنّ حَمَلَ بن مالك قال للنبي صلى الله عليه وسلم، كنتُ بين جَارَتَين لي فضَرَبَت إحداهما الأخرى بمِسْطح فألقت جَنينًا ميِّتًا وماتت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وجعل في الجنين غُرَّة.
قال أبو عُبَيد: المِسْطح: عُودٌ من عِيدان الخِباءِ أو الفُسْطاط.
وأنشد قول عوف بن مالك النَّضْرِيّ:
تَعرَّض ضَيْطَارُو فُعَالة دوننا *** وما خَيْرُ ضَيْطَارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يقول: ليس له سلاح يقاتل به غير مِسْطح.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، ففقدوا الماء، فأرسل عَلِيًّا وفلانًا يبغيان الماء فإذا هما بامرأة بين سطيحتين.
قال أبو عُبَيد: قال الأصمعي والكِسَائي: السَّطِيحةُ: المزادَةُ تكون من جلدين، والمزادة أكبر منها.
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: السَّطِيحة من المزاد: إذا كانت من جلدين قُوبِل أحدهما بالآخر فَسُطح عليه فهي سطيحة.
وقال غيره: المِسْطحُ: حصيرٌ يُسَفُّ من خُوصِ الدَّوْمِ، ومنه قولُ تَمِيم بن مُقبل:
إذا الأمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأنه *** من الحَرِّ في حَدِّ الظهيرة مِسطَحُ
والمِسْطَح: أيضًا: صفيحة عريضة من الصخر يُحَوَّط عليه لماء السماء، ورُبما خلق الله عند فم الرَّكِيَّة صفَاةً ملساء مستويةً فيُحَوَّط عليها بالحجارة، ويُسقَى فيها للإبل شبه الحوض، ومنه قول الطّرمّاح:
*.
.
.
في جَنْبَيْ مَدِيِّ ومِسْطَح *
والمِسْطَح أيضًا: مكان مُسْتَوٍ يُجَفَّفُ عليه التمر ويُسَمَّى الجَرِين.
والسُّطَّاحَة: بقلة ترعاها الماشية، ويُغسَل بورقها الرؤوس.
وقال الفرّاء: هو المِسْطح والمِحْورُ والشُّوبق.
قال ابن شميل: إذا عُرِّش الكرْمُ عُمِدَ إلى دعائم يُحْفَر لها في الأرض، لكل دعامة شُعْبَتان، ثم تؤخَذُ خَشَبَةٌ فَتُعَرَّضُ على الدّعامَتَيْن، وتُسَمَّى هذه الخشبة المعروضة المِسْطح، ويجعل على المساطِح أُطُرٌ من أدناها إلى أقصاها تُسمَّى المساطِح بالأُطُر مساطِح.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
72-تهذيب اللغة (كفأ)
كفأ: {ابن هانئ عن أبي زيد}: سمعْتُ امْرَأَةً من عُقَيْلٍ وَزَوْجَهَا يَقْرءان {لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفىً أحد} [الإخلاص: 3، 4] فألْقَى الهَمْزَةَ وحَوَّلَ حَرَكَتها على الفَاءِ.وقال الزجاج في قوله: {ولم يكن له كفؤًا أحد} [الإخلاص: 3]، فيها أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، القِراءَةُ منها بثلاثةٍ، {كُفُؤًا}، بضم الكافِ والفاءِ، {كُفْؤًا}، بضم الكاف وسكونِ الفاءِ، وَ {كِفْأً} بكسر الكاف وسكون الفاءِ، ويجوزُ: {كِفَاءً} بكسرِ الكاف والمَدِّ، ولم يُقْرَأ بها، ومَعْناهُ: ولم يكنْ أحَدٌ مِثلًا لله جل وعزَّ، ويقال: فلانٌ كَفِيءُ فلانٍ وكُفُؤُ فلانٍ، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ وأبو عمرٍو، والكسائي وعاصم {كُفُؤًا} مُثقَّلًا مهموزًا وقرأ حمزة.
{كُفْؤًا}، بسكون الفاءِ مَهْمُوزًا، وإذا وَقَفَ قرأ:
(كُفَى) بغير همزٍ، واختلف عن نافع، فرُوِيَ عنه (كُفُؤًا) مثل أبي عمرٍو ورُوِي (كُفْؤًا) مثل حمزة.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِمَاؤهُمْ».
قال أبو عبيد: يُرِيدُ: تَتَسَاوَى في الدِّيَاتِ والقِصَاصِ فليس لشريفٍ على وضيعٍ فَضْلٌ في ذلك، وفي حديثٍ آخر في العَقيقَةِ «عَنِ الغُلَامِ شَاتَانِ مُتَكافِئَتَانِ» يريدُ: مُتَساوِيَتَانِ، وكلُّ شيءٍ ساوَى شيئًا حتى يكونَ مثلَه فهو مُكَافِئٌ له، والمُكَافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ من هذا، يقالُ: كافأْتُ الرجُل أي فعلتُ به مِثْلَ ما فعلَ بِي، ومنه: الكُفء من الرِّجَالِ للمَرْأَةِ، يقولُ: إنَّهُ مِثْلُها في حَسبها، وأَمَّا قوله عليهالسلامُ: «لا تَسْأَلِ المرأةُ طَلَاقَ أُخْتَها لِتَكْتفِئَ ما في صَحْفَتها، فإنَّمَا لها ما كُتِبَ لها فإنّ معنى قوله: لتكْتفئَ تَفْتعِلُ من كفَأْتُ القِدْرَ وغيرَها إذا كبَبْتَها لِتُفْرغَ ما فيها، والصَّحْفَةُ: القَصْعَةُ، وهذا مَثَلٌ لإمالةِ الضَّرَّةِ حَقَّ صاحِبَتِها من زَوْجِها إلى نَفْسِها لِيَصِيرَ حقُّ الأخْرى كلُّه من زوجِهَا لها.
(أبو عبيد عن الكسائي): كَفَأْتُ الإناءَ إذا كبَبْتَهُ، وأَكْفَأْتُ الشيءَ إذا أَمَلْتَه، ولهذا قيلَ أَكْفَأتُ القوسَ إذا أمَلْتَ رأسَهَا ولم تَنْصِبْها نَصْبًا حتى تَرْمِي عنها، وأنشد:
قطَعْتُ بها أرْضًا تَرَى وَجْهَ رَكْبِها *** إذَا ما عَلَوْهَا مُكْفَأً غَيْرَ ساجعِ
أي: مُمَالًا غير مستقيمٍ.
وقال أبو زيد: كَفَأْتُ الإناءَ كَفْأً إذا قلبْتَهُ، وأكْفَأْتُ في مَسِيرِي إذا ما جُرْتَ عن القَصْدِ، وقال في قوله:.
.
.
.
مُكْفَأً غير سَاجِعِ السّاجِعُ: القاصدُ، والمُكْفَأُ: الجائرُ.
قال: وأكْفَأْتُ الشِّعْرَ إكْفَاءً إذا خالفْتَ بقوافِيه.
(أبو عبيد عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ) قال: والإكْفَاءُ: اختلافُ إعرابِ القوافِي.
(أبو زيد): اسْتَكْفَأَ زيدٌ عمرًا ناقَتَه سأَلَه أَنْ يهَبَهَا له، وَوَلَدَها وَوَبَرَها سنَةً.
وكَفَأْتُ القومَ كَفْأً إذا ما أَرَادُوا وَجْهًا فَصَرَفْتَهُم عنه إلى غيره.
(أبو عبيد عن أبي عبيدة والكسائي): أَكْفَأْتُ إبِلي فلانًا إذا جَعَلْتَ له أَوْبَارَها وأَلْبَانَها.
وأَكْفَأْتُ إِبِلِي أيضًا كَفْأَتَيْنِ، وبعضُهُم يقولُ: كُفْأَتَيْن، وهو أَنْ تجْعَلَ نِصْفَيْنِ، يَنْتِجُ كلَّ عامٍ نِصْفًا كما يَصْنَعُ بالأرضِ بالزّراعة.
(ابن السكيت عن أبي عمرٍو): يقال: نَتَج فلان إبِلَهُ كفأَةً، وكُفأَةً، وهو أَنْ يُفَرِّقَ إِبِلَهُ، فَيُضْرِبُ الفَحْلَ العامَ إحْدَى الفِرْقَتَيْنِ ويَدَع الأخْرَى، فإذا كان العامُ المُقْبِلُ أَرْسَلَ الفَحْلَ في الفِرْقَةِ التي لم تكن أَضْرَبَها الفَحْلَ في العام الماضي، وتَرَكَ
التي كانَ أَضْرَبَها الفَحْلَ في العام الآخَرِ؛ لأن أفضلَ النِّتاج أن يُحْمَل على الإبِلِ الفَحْلُ عامًا وأنشد قولَ ذي الرمةِ في ذلك:
تَرَى كَفْأَتَيْها تُنْفِضَانِ ولم يَحِدْ *** له ثِيلَ سَقْبٍ في النِّتَاجَيْنِ لامِسُ
يَعْنِي أَنها نُتِجَتْ إناثًا كلُّها.
وأنشد لكعب بن زهير:
إذا ما نَتَجْنَا أَرْبَعًا عامَ كُفْأَةٍ *** بَغَاهَا خَنَاسِيرًا فأهْلَكَ أَرْبَعا
قال: وكَفَأتُ الإناءَ بغير ألِفٍ.
وقال ابن الأعرابي: أكْفَأْتُ: لُغَةٌ.
قال: وكَفَيْتُه ما أَهَمَّه.
قال: وأَكْفَأْتُ البَيْتَ فهو مُكْفَأٌ إذا عَمِلْتَ له كِفَاءً، وكِفَاءُ البَيْتِ: مُؤَخَّرُهُ.
ورَوَى حَمَّادُ بن سَلَمَة عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ عن الحارثِ بن أبي الحارث الأزْدِي من أهل نَصِيبِينَ أنّ أباه اشتَرَى مَعْدِنًا بمئةِ شاةٍ مُتْبعٍ فأَتَى أمه فاستأْمَرَهَا فقالت: إنّكَ اشتريته بثلاثمئةِ شاة أُمُّها: مئةٌ وأولادُها: مئةُ شاةٍ، وكُفْأَتُها: مئةُ شاةٍ فنَدِمَ فاسْتَقَالَ صاحبَه فأَبَى أَن يُقِيلَهُ، فقَبَضَ المَعْدِنَ فأذابَه وأَخْرج منه ثمَنَ أَلْفَيْ شاة.
فأتى به صاحبُه إلى عليٍّ رضياللهعنه، فقال: إنَّ أبا الحارث أصابَ رِكَازًا، فسأله عليّ فأخبَرَهُ أنه اشتراهُ بمئةِ شاةٍ مُتُبعٍ، فقال عليّ: ما أرى الخُمْسَ إلا عَلَى البائع.
فأخَذَ الخُمْسَ من الغَنَمِ.
أراد بالمُتْبعِ التي يَتْبَعُها أولادُها.
وقوله: أثى به أي وَشَى به وسَعَى به يأثُو أَثْوًا.
والكُفْأَةُ: أَصْلُها في الإبل كما قال أبو عمرٍو، والكسائي، وأبو عبيدةَ، وهو أنْ تُجْعَلَ الإبلُ قِطعتين، يُرَاوَحُ بينَهما في النِّتَاجِ.
وأنشد شمر:
قَطَعْتُ إِبِلِي كُفْأَتَينِ ثِنْتَيْن *** قَسمْتُها بِقِطعَتَيْنِ نِصْفَيْنِ
أَنْتِجُ كُفْأَتَيْهمَا في عامَيْن *** أَنتِجُ عامًا ذِي وهذِي يُعْفَيْنْ
وأَنتِجُ المُعْفَى من القَطِيعَيْن *** مِن عامِنا الجَائِي، وتِيكَ يَبْقَيْن
(قلت): لم يَزِدْ شمرٌ على هذا التفسير والمعنَى أَنَّ أَمَّ الرَّجُل جَعَلَتْ كُفْأَةَ مئةِ شاةٍ، كلّ نِتَاجِ: مئةً، ولو كانت إبلًا كان كُفْأَةُ مئةٍ من الإبل خمسينَ، لأنَّ الغنمَ يُرْسَلُ الفَحْلُ فيها وَقْتَ ضِرَابِهَا أَجمَع، وليستْ كالإبل يُحمَلُ الفحْلُ عليها سَنةً، وسَنَةً لا.
وأَرادت أُمُّ الرَّجُلِ تكْثِيرَ ما اشتَرَى به ابنُهَا، وإعْلَامَهُ أنه مَغْبُونٌ فيما ابتَاعَ، ففَطَّنَتْهُ أَنَّه كأَنّه اشترى المَعدِنَ بثلاثمئة شاةٍ فنَدِمَ ابنُها، واستقال بائعَه فأَبَى، وبارَك اللهُ له في المعدِنِ فحسده البائعُ على كثرةِ الرِّبح، وسَعَى به إلى عليّ رضي اللهُ عنه، ليأْخُذَ منه الْخُمسَ، فألْزَمَ الخُمْسَ البائعَ، وأَضَرَّ الساعي بنفْسه.
(أبو نصر): يقال: ما لِي به قِبَلٌ ولا كِفَاءٌ أي طاقةٌ على أَنْ أُكَافِئَه.
وأنشد:
ورُوحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ
وقال الليث: قال بعضُهم: الإكْفَاءُ في الشِّعر هو المُعاقَبةُ بين الرَّاء واللّام، أو النُّون والميمِ.
(قلت): والقَولُ فيه ما قال أبو عمرٍو.
وقال الليث: ورأيتُ فلانًا مُكْفَأَ الوجه إذا رأيتَهُ كاسف اللَّونِ ساهِمًا.
ويقال: كان الناسُ مُجتمِعين فانكفَأُوا وانْكَفَتُوا إذا انْهَزَمُوا.
وقال أبو زيدٍ: اسْتَكْفَأْتُ فلانًا نخلةً إذا سأَلْتَهُ ثمرَها سنَةً، فجَعَل للنَّخْل كَفْأَةً، وهو ثمرُ سَنَتها، شُبِّهَتْ بكَفْأَة الإبل.
وأنشد:
غُلْبٌ مَجَالِيحُ عند المَحْلِ كُفْأَتُها *** أَشْطَانُها في عِذَاب البحْرِ تَستَبِقُ
أراد به النَّخْلَ، وأراد بأشطانِها: عُروقَها.
وفي صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنّه كَان إذا مَشَى تَكَفَّأَ تَكفُّؤًا».
فالتَّكفُّؤُ: التَّمايُلُ كما تتكفَّأُ السَّفينةُ في الماء يمينًا وشمالًا، وكلّ شيء أَمَلْتَهُ فقد كَفَأْتَه.
ويقال: أصبح فلانٌ كَفِئَ اللّون: مُتَغَيِّره كأنّه كُفِئَ، فهو مَكفوءٌ وكَفِئٌ.
وقال دريدُ بن الصِّمَّةِ:
وأَسْمَرَ مِن قِدَاحِ النَّبْعِ فَرْعٍ *** كَفِيءِ اللّوْن من مَسٍّ وضَرْسِ
أي: مُتَغيِّرِ اللَّون من كثرةِ ما مُسِحَ وعُضَّ.
ويقال: كافَأَ الرجلُ بينَ فارسَينِ برُمحِه إذا وَالَى بينهما، فطَعَنَ هذا ثم هذا.
وقال الكميت: نَحْرَ الْمُكافِئِ والمَكْثُورُ يَهْتَبِلُ والْمَكْثُورُ: الذي غلبَه الأقرانُ بكثرتهم، يَهتَبِلُ: يَحْتالُ للخلاص.
ويقال: بنى فلان ظُلَّةً يُكافئ بها عينَ الشمس لِيتَّقِيَ حرّها.
وقال أبو ذر: «لنا عَبَاءَتَان نُكافئُ بهما عنا عين الشمس أي نقابل بهما الشمس، وإني لأخشى فضل الحساب».
وقال ابن شميل: سَنَامٌ أَكْفَأ: وهو الذي مالَ عَلَى أَحد جنبَي البعيرِ، وناقةٌ كَفَآء وجملٌ أَكْفَأُ، وهو من أهون عيوبِ
البعيرِ، لأنه إذا سَمِنَ استقام سنَامُه.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
73-تهذيب اللغة (وضر)
وضر: قال الليث: الوَضَرُ: وَسَخُ الدَّسَم واللّبن، وغُسالةُ السِّقَاء والقَصْعَة ونحوه، وأَنشدَ:إن تَرْحَضُوها تَزِد أعْراضُكمْ طَبَعًا *** أو تتركوها فسُودٌ ذاتُ أَوْضارِ
ثعلب عن ابن الأعرابيّ: يقال للغُنْدُورة: وَضْرَى، يعني أمّ سويد.
وقال شمر: يقال: وَضِرَ الإناء يَوْضَر وَضَرًا: إذا اتّسخ، ويكون الوَضَر من الصُّفرة والحُمْرة والطِّيب، ثم ذكر حديثَ
عبد الرّحمن بن عوْف حين رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم به وَضَرًا من صُفْرة فقال له: «مَهْيَم» المعنى: أنه رأى به لَطْخًا من خَلوق أو طِيب له لون، فسأله عنه فأَخبَرَه أنّه تزوّج.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
74-تهذيب اللغة (سن)
سن: قال أبو الحسن اللّحياني: أسنَنْتُ الرُّمْح: إذا جعلتَ له سِنانًا وهو رُمْح مُسَنٌ.قال: وسَنَنْتُ السِّنان أسُنُّه سَنًّا فهو مَسْنون: إذا أحدَدته على المِسَن بغير ألف.
وكذلك قال اليزيديّ فيما روى عنه أبو عبيد، وزاد عنه: سَننتُ الرمحَ: ركبت فيه السِّنان، بغير ألف أيضًا.
وقال
اللحياني: سننت الرجل أسُنُّه سَنًّا: إذا طَعَنْته بالسِّنان.
وسَنَنْتُ الرجلَ: إذا عَضضْتَه بأسنانِك، كما تقول: ضرَسْته.
وسَنَنْتُ الرجَل: إِذا كسرتَ أسنانَه، أَسُنُّه سَنًّا.
والسُّنّة الطريقةُ المستقيمة المحمودة، ولذلك قيل: فلانٌ من أهل السنّة، وسَننتُ لكمْ سُنّة فاتبعوها.
وفي الحديث: «من سَنَ سُنّةً حَسنةً فله أجرُها وأجرُ من عَمل بِها ومن سَنّ سُنّةً سَيِّئةً» يُريد من عَمِل بها ليُقتَدَى به فيها.
وسنَنْتُ فلانًا بالرُّمْح: إذا طَعَنْتَه به.
وسنَنْتُ إلى فلان الرُّمْحَ تَسنِينًا: إذا وجّهتَه إليه.
ويقال: أسَنّ فُلانٌ: إذا كَبر، يُسنُ إسْنانًا، فهو مُسِنّ.
وبعير مُسِنّ.
والجميع مَسانٌ ثقيلةً.
ويقال: أسَنْ: إذا نبَت سِنهُ الّذي يَصيرُ به مُسِنًا من الدوابّ.
قال شَمر: السُنّة في الأصل: سُنّهُ الطريق.
وهو طريقٌ سنه أوائل الناس فصار مَسلَكًا لمَن بعدَهم.
وسَنَ فلانٌ طريقًا من الخير يَسُنّه: إذا ابتدأ أمرًا من البِرّ لم يَعرِفه قَومُه، فاستَنُّوا به وسلَكُوه وهو يَسْتنُ الطَّريقَ سَنًّا وسنَنًا؛ فالسَّنُ المصدَر، والسَنَنُ: الاسم بمعنى المسنُون.
وقال شمر: قال ابن شميل: سنن الرَّجُل: قَصْدُه وهمّتُه.
وسُنّت الأرضُ فهي مَسْنونة وسنين: إذا أُكل نباتُها، قال الطَّرِمّاح:
بمُنخَرِقٍ تحِنُّ الرِّيحُ فِيه *** حَنينَ الجُلْبِ في البَلدِ السَّنِين
يعني المَحْلَ.
وفي حديث مُعاذ قال: بَعثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأَمَرني أن آخذَ من كلّ ثلاثينَ من البقر: تَبِيعًا، ومن كلِّ أربعين مُسِنّة.
والبَقَرةُ والشاةُ يَقَع عليها اسمُ المُسِنّ إذا أَثْنَيا، فإذا سَقَطتْ ثنِيتها، بعد طلوعها فقد أسَنَّتْ، وليس معنى أسنانِها كِبَرها كالرّجل، ولكن معناه طُلوعُ ثنِيّتها.
وتُثْنى البَقرةُ في السّنة الثالثة، وكذلك المِعْزَى تُثْنى في الثالثة، ثم تكون رَبَاعِيةً في الرابعة، ثم سِدْسًا في الخامسة، ثم سالِفًا في السادسة؛ وكذلك البقرُ في جميع ذلك.
وروى مالك عن نافعٍ عن ابن عُمَر أنّه قال: يتّقى من الضّحايا الّتي لم تُسْنن، هكذا حدَّثنيه محمدُ بنُ إسحاق عن أبي زُرْعة عن يحيى عن مالك.
وذَكر القُتَيبي هذا الحديثَ في «كتابه»: «لم تُسْننْ» بفتح النون الأولى، وفسّرهُ: التي لم تَنبُت أَسنانُها كأنها لم تُعطَ أسنانًا، كقولك: لم يُلْبَن، أي: لم يُعطَ لبنًا، ولم يُسمَن، أي: لم يُعطَ سَمْنًا.
وكذلك يقال: سُنِّنتِ البَدَنةُ: إذا نبتتْ أسنانُها، وسَنّها الله.
قال: وقولُ الأعشى:
* حتّى السَّدِيسُ لها قد أَسَنّ *
أي: نَبَت وصارَ سِنًّا؛ هذا كلّه قول القتيبيّ، وقد أخطأ فيما رَوَى وفسّر من وجهين: أحدهما: أنّه رُوِي في الحديث: «لم تُسنَن» بفتح النون الأولى ولم تُسن فأَظهَر التضعيفَ لسكون النون الأخيرة، كما يقال: لم تُحلل، وإنما أراد ابن عمر أنه يتقى أن يُضَحَّى بضحيّته لم تُثْنِ، أي: لم تَصِر ثَنِيّة، وإذا أَثْنَتْ فقد أسَنَتْ؛ وعلى هذا قولُ الفقهاء، وأدنى الأسنَان: الإثناء، وهو أن تَنْبُت ثَنِيّتاها، وأقصاها في الإبل البُزُول، وفي البقر والغنم الصُّلُوع.
والدّليل على صحة ما ذكرتُه ما حدّثنا به محمد بن إسحاق عن الحَسن بنِ عفان عن أسباط، عن الشّيباني، عن جَبَلة بن سُحَيم قال: سألَ رجلٌ ابْنَ عمرَ فقال: أضحِّي بالجَذَع؟ فقال: ضَحِّ بالثَّنِيِّ فصاعِدًا؛ فهذا يسِّر لك أنّ معنى قوله: «يُتّقى من الضّحايا التي لم تُسْنِنْ» أراد به الإثناء.
وأما خطأ القُتَيْبي من الجهة الأخرى فقولُه: سُنت البَدَنة إذا نبتتْ أسنانُها، وسَنَّها الله؛ وهذا باطلٌ، ما قاله أحد يَعرِف أدنى شيء من كلام العرب.
وقولُه أيضًا: «لم يُلْبَنْ ولم يُسْمَنْ، أي: لم يعْطَ لَبنًا وسَمْنًا» خطأ أيضًا، إنما معناهما: لم يُطعَم سَمْنًا، ولم يُسْق لَبَنًا.
الحراني عن ابن السكّيت: السَّنُ: مصدرُ سَنّ الحَديدَ سَنًّا، وسَنَ لِلقَوم سُنّة وَسَننًا وسَنَ عليه الدِّرْعَ يَسُنّها سَنًّا: إذا صَبّها.
وسَن الإبِل يَسُنّها سَنًّا: إذا أحسَن رِعْيَتَها حتّى كأنه صَقَلها.
قال: والسَنَنُ: استِنانُ الإبل والخيل.
ويقال: تَنَحَّ عن سَنَن الخَيْل، وجاء: «من الإبل والخيل» سنَنٌ ما يُرَدّ وجهُه.
ويقال: تَنَحَّ عن سَنَن الطريق وسُنَنه.
وقال أبو عُبَيد: قال الفراء: سَنَن الطريق وسُنَنُه: محجّتُه.
وقال ابن السكيت: قال الأصمعيّ: يقال: سَنّ عليه دِرْعَه: إذا صَبَّها، ولا يقال: شنّ.
قال: ويقال: شَنّ عليهِ القارةَ، أي: فرَّقها.
شَنّ الماءَ على شرابِه، أي: فرّقه عليه.
وسَنّ الماءَ على وَجْهِه، أي: صَبّه عليه صَبًّا سَهْلًا.
وقولُ الله جلّ وعزّ: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]، قال ابن السكيت: سمعتُ أبا عمرو يقول في قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}، أي: متغيِّر.
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال: سُنَ الماءُ فهو مَسْنون، أي: تغيِّر.
وقال الزّجّاج في قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]، أي: مَصْبوب على سُنّة الطريق.
وقال اللّحياني: قال بعضهم: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): متغيِّر.
وقال بعضهم: طوّله جَعَله طويلًا مسنونًا؛ يقال: رجل مسنون
الوجه، أي: حَسَنُ الوَجْه طويلة.
وقال الفرّاء: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) هو المتغيِّر، كأنّه أُخِذَ من سَنَنْتُ الحَجَر على الحَجَر، والّذي يَخرُج بينَهما يقال له السَّنِينَ والله أعلم بما أراده.
قال الفرّاء: يسمَّى المِسَنُ مِسَنًّا لأن الحديد يُسَنّ عليه، أي: يُحَدّ عليه، ويقال للذي يسيل عند الحَكّ: سَنِين.
قال: ولا يكون ذلك السائلُ إلا مُنتِنًا.
وقال في قوله: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) يقال: المحكوك.
وقال ابن عباس: هو الرَّطْب.
ويقال: المُنْتِن.
وقال أبو عبيدة: المَسْنُون المصْبُوب على صُورة.
وقال: الوَجْه المَسْنون سمّيَ مَسْنونًا لأنه كالمخروط.
وقال أبو بكر: قولهم فلان من أهل السُّنة معناه: من أهل الطَّرِيقة المستقيمة المحمودة، وهي مأخوذة من السَّنَن وهو الطريق؛ يقال: خُذْ على سَنَن الطريق وسُنَنِه.
والسُّنّة أيضًا: سُنّة الوَجْه.
والحديدةُ الّتي يُحرَث بها الأرضُ يقال لها: السِّنّة والسِّكّة وجمعُها السِّنَن.
ويقال للفُؤُوس أيضًا: السِّنَن، ويقال: هذه سِنٌ وهي مؤنّثة وتصغيرُها سُنَيْنَة، وتُجْمَع أَسُنًّا وأَسْنانًا.
قال اللّحياني: قال القَنَاني: يقال له بُنَيٌ سَنِينةُ أبيك.
ويقال: هو سنّةٌ وتِنُهُ وحِتْتُهُ: إذا كان قِرْنَه في السِّن.
قال ابن السكّيت: الفحلُ سَانَ الناقةَ سِنانًا ومُسَانّةً حتّى نَوَّخها، وذلك أن يَطرُدَها حتى تَبْرك، قال ابن مُقبِل:
وتُصبِح عن غِبِّ السُّرَى وكأنها *** فَنِيق ثَنَاهَا عَنْ سِنانٍ فَارْقَلَا
يقال: سَانَ ناقَتَه ثم انتَهى إلى العَدْوِ الشّديد فأَرْقَل، وهو أن يرتقِع عن الذَّميل.
وقال الأَسَديّ يصف فَحْلًا:
لِلْبَكَرات العِيطِ منها ضاهِدَا *** طَوْعَ السِّنان ذَارِعًا وعاضِدا
«ذارعًا» يقال: ذَرْع له: إذا وَضَعَ يَده تحت عُنُقه ثم خَنَقه.
والعاضدُ: الّذي يأخذ بالعَضُد «طَوْع السِّنان» يقول: يُطاوِعه السِّنان كيف شاء.
ويقال: سَنَ الفحلُ الناقَة يَسُنُّها سَنًّا: إذا كَبَّها على وجهِها.
قال:
فاندَفَعَتْ تأْبزُ واستقْفَاهَا *** فسَنَّها للوَجْه أَوْ دَرْبَاهَا
أي: دَفَعَها.
ورُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سافرتم في الخِصْب فأَعْطُوا الركبَ سنّتَها، وإذا سافرتم في الجَدْب فَاسْتَنْجُوا».
قال أبو عُبيد: لا أعرف الأسِنّة إلّا جَمْع سنان؛ الرمح فإن كان الحديث محفوظًا فكأنها جمع الأسنان يقال: سِنٌ وأَسْنان من المَرْعَى، ثم أسِنّة جمعُ الجمع.
وقال أبو سَعِيد: الأَسنّة جمع السِّنان لا جَمْع الأسْنان.
قال: والعَرَب تقول:
الحَمْضُ يَسُنّ الإبِلَ على الخُلَّة فالحَمْض سِنانٌ لها على رعْي الخُلة وذلك أنها تَصدُق الأكل بعد الحَمْض، وكذلك الرِّكابُ إذا سُنّت في المرتَعِ عند إراحة السَّفْر ونزُولهم، وذلك إذا أصابت سِنًّا من المرَّعْى يكون ذلك سِنانًا على السَّيْر، ويُجمع السِّنانُ أسِنّة، وهو وجهُ العربيّة.
قال: ومعنى: «يَسُنّها» أي: يقوِّيها على الْخلة.
قال: والسِّنان: الاسم من سَنَ يَسُنُ، وهو القوّة.
قلت: قد ذهب أبو سَعِيد مَذهَبًا حَسَنًا فيما فَسّر، والذي قاله أبو عُبَيد أصحُّ وأبيَن.
قال الفراء فيما روى عن ثعلب عن سلَمة: السِّنّ: الأَكل الشَّديد.
قال: وسمعتُ غيرَ واحدٍ من العَرَب يقول: أصابت الإبلُ اليومَ سِنًّا من الرّعْي: إذا مَشَقَتْ منه مَشْقًا صالحًا، ويُجمَع السنّ بهذا المعنى أَسْنانًا، ثم يُجمع الأَسنان أسنّة، كما يقال: كنّ ويُجمَع أكنانًا، ثم أكنّة جمع الجمع.
فهذا صحيح من جهة العربيّة، ويقوّيه حديثٌ رواه هِشام بن حسان عن جابر بن عبدِ الله قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سِرْتم في الخِصبِ فأَمكنوا الرِّكابَ أَسْنانها».
قلتُ: فهذا اللّفظ يدلّ على صحة ما قاله أبو عُبَيد في الأسنة: إنها جمع الأَسْنان.
والأَسنان: جمعُ السّنّ وهو الأَكل والرّعي.
حدّثنا محمد بنُ سعيد قال: حَدَّثنا الحَسَن بنُ علي قال: حدَّثنا يزيد بنُ هارون قال: حدَّثنا هشام، عن الحَسَن عن جابرِ بنِ عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم في الخِصْبِ فأعْطُوا الرُّكُبَ أَسِنتَها، ولا تعدوا المنازل، وإذا كان الجَدْب فاستَنْجُوا؛ وعليكم بالدُّلْجَة فإِنّ الأرض تُطْوَى باللّيل، وإذا تغوّلت بكم الغِيلان فبادِرُوا بالأذان، ولا تَنزِلوا على جَوادٌ الطّريق، ولا تُصلُّوا عليها فإِنَّها مَأوَى الحيّات والسِّباع، ولا تَقْضوا عليها الحاجاتِ، فإنها المَلاعِنُ».
ويقال: سَانَ الفحلُ الناقةَ يُسانُّها سِنانًا: إذا كدّتها.
وتَسانَّت الفُحول: إذا تكادَمَتْ.
ويقال: هذه سُنّة الله، أي: حُكمُه وأمرُه ونهيُه؛ قال الله جلّ وعزّ: {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]، «سنة الله» لأنه أريد به الفِعْل؛ أي: سَنَ اللهُ ذلك في الّذين نافَقوا الأنبياءَ، وأَوجَفوا بهم أن يُقتَلوا أينَ ثُقِفُوا، أي: وُجِدوا.
وقال ابن السكّيت: يقال: هو أشبهُ شيءٍ به سُنّةً وأُمّةً، فالسُّنّة: الصُّورَة والوَجْه.
والأُمّةُ: القامةُ.
وقال اللّيث: يقال: سِنٌ من ثُوم، أي: حَبَّةٌ من رأسِ الثُّوم.
وأَسْنان المِنْجَل: أُشَره.
وسُنّة الوجه: دوائره.
وقال أبو عُبيد: من أمثال الصادق في حديثِه قولهم: صَدَقني سِن بَكْرِهِ.
قال: وقال الأصمعيّ: أصلُه أنّ رجلًا ساوَمَ رجلًا ببَكْر أراد شِراءَه، فسأل البائعَ عن سنَه، فأَخبَرَه بالحقّ؛ فقال المشترِي: صَدَقَني سِنُ بَكْرِه؛ فذَهَبَ مثلًا.
وهذا المَثَل يُروَى عن عليّ بن أبي طالب أنّه تكلّم به بالكوفَة.
وقال اللّيث: السَّنّة: اسمُ الدُّبّة أو الفَهْد روَى للمؤرّج: السِّنانُ: الذِّبَان.
وأنشَد:
أيأكل تأزيزًا ويحسو حريرَةً *** وما بين عينين وَنِيمُ سِنانِ
قال: تأزيزًا: ما رَمَتْ به القِدْر: إذا فارت.
قال: والمُسْتَسِنُ: طريقٌ يُسْلَك، قال: سُنْسُنُ اسمٌ أعجمي يُسمَّى به أهل السَّوادِ، والسُّنَّة: الطريقة المستقيمة.
ويقال للخطِّ الأسوَد على مَتْن الحِمار: سُنّة.
وسَنَ اللهُ سُنّةً، أي: بَيّن طريقًا قويمًا.
ويقال: اسْنُنْ قُرونَ فرَسِك، أي: بُدَّه حتى يَسِيلَ عَرقُه فيَضْمُرَ.
وقد سُنَ له قَرْن وقُرون، وهي الدُّفع من العَرَق، وقال زُهَير:
نُعَوِّدُها الطِّرادَ فكلَّ يوْم *** يُسَنُ على سَنابِكِها القُرونُ
ويقال: سَنَ فلانٌ رِعْيَتَه: إذا كان حَسَن القيام عليها، ومنه قولُ النّابغة:
* سَنُ المُعَيْدِيِّ في رَعْيٍ وتَقْرِيبِ*
والسنائن: رمالٌ تستطيل على وجه الأرض، واحدتُها سَنِينة.
وقال الطَرمّاح:
* وأَرْطاةِ حِقْفٍ بين كِسْرَىْ سَنائنِ *
وقال مالك بنُ خالد الخُناعيّ في السّنائن الرِّياح:
أبَيْنا الدِّياتِ غيرَ بِيضٍ كأنَّها *** فضول رجاع زفزفتْها السَّنائِن
قال: السَّنائِن: الرّياح، واحدُها سَنِينة.
والرِّجاع: جمعُ الرَّجْع، وهو ماءُ السَّماء في الغَدِير.
وقال أبو زيد: جاءت الرّياح سَنائن: إذا جاءت على وَجْه واحدٍ لا تختلف.
الفرّاء والأصمعيّ: السِّنُ: الثَّوْر الوَحْشيّ.
وقال الراجز:
حَنَّت حَنِينًا كثُوَاجِ السِّنِ *** في قَصَب أجوَفَ مُرْثَعِنِ
والسَّنُون: ما يُستَنّ به من دَواء مؤلَّف يقوِّي الأسنان ويطرِّيها.
أبو عُبَيد عن أبي زيد يقال: وقع فلان في سِنّ رأسِه، أي: فيما شاءَ واحتكم.
قال أبو عبيد: وقد يُفَسَّر سِنُ رأسِه: عَدَدُ شَعْرِه من الخير.
وقال أبو الْهَيْثَم: وقع فلانٌ في سِنِ رأسِه، وفي سِيّ رَأسِه، وسَوَاءِ رأسِه بمعنًى واحد.
رَوَى أبو عبيد هذا الحرفَ في الأمثال: «في سِنِ رأسِه»، أي: فيما شاء واحتَكم.
ورواه في «المؤلَّف»: «في سيِّىءِ رأسِه» والصواب بالياء، أي: فيما سَاوَى رَأسَهُ من الخِصْبِ.
يقال: جاء من الإبلِ سَنَنٌ لا يردّ وجهُه، وكذلك من الخَيْل، وطعَنَه طعنةً فجاءَ من دَنّها سَنَنٌ يَدْفع كلَّ شيء إذا أَخْرَجَ الدَّمَ بِحَمْوَيه.
والطَّرِيق سَنَنٌ أيضًا، وقال الأعْشَى:
وقَدْ نَطْعَنُ العَزْجَ يَومَ اللِّقَا *** ءِ بالرُّمْحِ نَحْبِسُ أُولَى السَّنَن
قال شَمِر: يُريدُ أُولى القوْم الذين يُسْرِعون إلى القتال.
قال: وكلُّ مَن ابتَدَأَ أَمْرًا عَمِل به قومٌ بعدَه قيل: هو الَّذي سَنَّه.
قال نُصَيب:
كأنِّي سَنَنْتُ الحُبَّ أَوَّلَ عاشِقٍ *** من الناسِ أَوْ أَحْبَبْتُ بينهم وَحْدي
أبو زيد: اسْتَنَّت الدابةُ على وَجْهِ الأرض، واسْتَنَ دَمُ الطَّعْنَةِ: إذا جاءت دَفْعَةٌ منها، وقال أبو كَبِير الْهُذَلِيّ:
مُسْتَنَّةً سَنَنَ الفُلُوِّ مُرِشّة *** تَنْقِي التُّرَابَ بِفَاخِرٍ مُعْرَوْرَفِ
ومن أمثالهم: استَنَّتْ الفُصْلَانُ حتى القَرْعَى؛ يُضْرَبُ مثلًا للرجل يُدْخِل نفسَه في قوم ليس منهم.
والقَرْعَى من الفِصَال:
التي أصَابَهَا قَرَع وهو بَثْر، فإذا استَنَّت الفصالُ الصّحاحُ مَرَحًا نَزَت القَرْعَى نَزْوَها تشَبَّهُ بها، وقد أضعَفَها القَرَعُ عن النَّزَوَان.
والسُّنَّةُ: ضَرْبٌ من تَمْرِ المَدِينة معروفة.
أبو تراب: قال ابن الأعرابي: السَّنَاسِن والشَّنَاشِنُ: العِظام، وقال الجَرَنْفَش:
كيفَ تَرَى الْغَزْوَةَ أَبْقَتْ مِنّي *** شَنَاشِنًا كَخَلَقِ المِجَنِ
أبو عُبيد عن أبي عمرو: السَّنَاسِن: رؤُوس المَحال، واحِدُها سِنْسِن.
قلت: ولحمُ سَنَاسِنِ البَعير من أطيَب اللُّحْمَان، لأنها تكون بين شَطَّيِ السَّنام.
ولحمُهَا يكون أشمط طيّبًا.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
