نتائج البحث عن (فَأَسْقِطْ)

1-العربية المعاصرة (غبن)

غبَنَ/غبَنَ في يَغبِن، غَبْنًا وغُبْنًا، فهو غابِن، والمفعول مغبون.

* غبَنه في البيع والشِّراء: غلَبه ونقَصه وخدعه ووكسَه (*) رجَع بصفقة المغبون: خسر ورجع فارغ اليدين، عاد خائبًا.

* غبَن مسكينًا: حرَمه بعض حقّه (غبَن وريثًا في حقِّه: حرمه قِسْطًا من حصَّته في الميراث).

* غبَن الخيّاطُ الثوبَ: ثناه إلى داخله ثم خاطه ليضيقَ أو يقصُر (ثوب مغبون).

* غبَن الشّيءَ: أخفاه في الغَبَن أو المغبِن، خبَّأه للشِّدَّة (غبَن اللصُّ سريقتَه).

* غبَن الرَّجلُ في رأيه: ضعُف.

غبِنَ يَغبَن، غَبَنًا، فهو غابن.

* غبِن رأيُه: نَقَص وضَعُف، وقلّت فطنتُه وذكاؤه (غبِن رأيُه من شدَّة المرَض).

غبِنَ يَغبَن، غَبْنًا، فهو غابِن، والمفعول مَغْبون.

* غبِن موعدَ السَّفر: نَسِيه، أغفله، غلط فيه.

تغابنَ في يتغابن، تغابُنًا، فهو متغابِن، والمفعول مُتَغَابَن فيه.

* تغابن القومُ في البيع: تخادعوا وغلب بعضُهم بعضًا (يتغابَن التجّارُ في الأسواق دائمًا).

تغابُن [مفرد]: مصدر تغابنَ في.

* التَّغابن: اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 64 في ترتيب المصحف، مدنيَّة، عدد آياتها ثماني عشرة آية.

* يوم التَّغابُن: يوم القيامة، سُمّي بذلك؛ لأنّ أهلَ الجنَّة يغبِنون فيه أهلَ النَّار، أو لأنّه يوم تبادل الاتِّهام بين المستكبرين والمستضعفين {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [قرآن].

غَبْن [مفرد]:

1 - مصدر غبَنَ/غبَنَ في وغبِنَ.

2 - [في القانون] ضرر يلحق بالمرء في عقد التزام مُحدَّد.

غَبَن [مفرد]:

1 - مصدر غبِنَ.

2 - موضع يُخفي فيه الشّيء (توصَّل الشُّرطيّ إلى غَبَنِ المسروقات).

3 - ما قُطِع من أطراف الثّوب فأُسْقِط.

غُبْن [مفرد]:

1 - مصدر غبَنَ/غبَنَ في.

2 - [في القانون] غَبْن، ضررٌ يلحق بالمرء في عَقْد التزام مُحدَّد.

غَبِينة [مفرد]: جمعه غبائِنُ: خديعة وغدْر (لحقته في تجارته غَبِينة).

مَغبِن [مفرد]: جمعه مغابِنُ:

1 - إبط (طُعن في مَغْبِنه).

2 - باطن أعلى الفخذِ (تسلّخ مَغْبِنُه).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (الغَبَنُ)

[الغَبَنُ]: الموضع الذي يُخْفَى فيه الشيء.

و- ما قُطِعَ من أَطراف الثوب فأُسقِط.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-معجم ما استعجم (العذيبة)

العذيبة: تأنيث الذي قبله: موضع فى طريق مكّة، بين الجار وينبع؛ قال كثيّر:

«خليلىّ إن أمّ الحكيم تحمّلت *** وأخلت لخيمات العذيب ظلالما»

يريد العذيبة بإسقاط الهاء. وكذلك قال أبو الفتح فى قول أبى الطيّب المتقدّم ذكره: إنه أراد العذيبة، فأسقط الهاء. قال الوحيد»

: لو أراد العذيبة لما صلح أن يقرن بها بارقا، لبعد ما بينهما، وإنّما أراد العذيب الذي بظهر الكوفة.

وبارق هناك أيضا، وبالكوفة منشؤه.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


4-معجم متن اللغة (الغبن)

الغبن: ما قطع من أطراف الثوب فأسقط.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


5-القاموس المحيط (قطعه)

قَطَعَهُ، كمَنعه، قَطْعًا ومَقْطَعًا وتِقِطَّاعًا، بكسرتينِ مُشَدَّدةَ الطاءِ: أبانَهُ،

وـ النَّهْرُ قَطْعًا وقُطوعًا: عَبَرَهُ أو شَقَّه،

وـ فلانًا بالقَطيع: ضَرَبَهُ به،

وـ بالحُجَّة: بَكَّتَه،

كأَقْطَعَه،

وـ لسانَه: أسْكَتَه بإحسانِه إليه،

وـ ماءُ الرَّكِيَّة قُطوعًا وقَطاعًا، بالفتح والكسر: ذَهَبَ،

كانْقَطَع، وأقْطَعَ،

وـ الطيرُ قُطوعًا وقَطاعًا، ويكسرُ: خَرَجَتْ من بلاد البَرْدِ إلى الحَرِّ، فهي قَواطِعُ ذَواهِبُ أو رَواجِعُ،

وـ رَحِمَهُ قَطْعًا وقَطيعَةً، فهو رجلٌ قُطَعٌ، كصُرَدٍ وهُمَزَةٍ: هَجَرَهَا، وعَقَّها.

وبينَهما رَحِمٌ قَطْعاءُ: إذا لم تُوصَلْ،

وـ فلانٌ الحَبْلَ: اخْتَنَقَ، ومنه قوله تعالى: {ثم ليَقْطَعْ}، أي: ليَخْتَنِقْ،

وـ الحَوْضَ: مَلأَهُ إلى نِصْفِه ثم قَطَعَ عنه الماءَ،

وـ عُنُقَ دابَّتِه: باعَها.

وقَطَعَنِي الثَّوْبُ: كفانِي لتَقْطِيعِي،

كقَطَّعَنِي وأقْطَعَنِي. وكفرِحَ وكرُمَ، قَطاعةً: لم يَقْدِرْ على الكلامِ،

وـ لسانُهُ: ذهَبَتْ سَلاطَتُهُ،

وقَطِعَتِ اليدُ، كفرحَ، قَطَعًا وقَطعَةً وقُطْعًا، بالضم: انْقَطَعَتْ بداءٍ عَرَضَ لها.

والأقْطوعةُ، بالضم: شيءٌ تَبْعَثُه الجاريةُ إلى أُخْرَى عَلامَةَ أنها صارَمَتْها.

ولَبَنٌ قاطِعٌ: حامِضٌ.

وقُطِعَ بزيدٍ، كعُنِيَ، فهو مقْطوعٌ به: عَجَزَ عن سَفَرِه بأيِّ سَبَبٍ كان، أو حِيلَ بينَه وبين ما يُؤَمِّلُه.

والمَقْطوعُ: شِعْرٌ في آخرِهِ وَتِدٌ، فأُسْقِطَ ساكِنُه، وسُكِّنَ مُتَحَرِّكهُ.

وناقةٌ قَطوعٌ، كصبورٍ: يُسْرِعُ انْقِطاعُ لَبَنِها.

وقُطَّاعُ الطريقِ: اللُّصوصُ،

كالقُطْعِ، بالضم. وككتِفٍ: من يَنْقَطِعُ صَوْتُه. وكمِحْرابٍ: من لا يَثْبُتُ على مُؤاخاةٍ، وبئرٌ يَنْقَطِعُ ماؤُها سريعًا. وكأميرٍ: الطائفةُ من الغَنَمِ والنَّعَم،

ج: الأَقْطاعُ والقُطْعانُ، بالضم، والقِطاعُ، بالكسر، والأَقاطِيعُ على غيرِ قِياسٍ،

وـ: السَّوْطُ المُنْقَطِعُ طَرَفُه، والنَّظيرُ، والمِثْلُ، ج: قُطَعاءُ، والقضِيبُ تُبْرَى منه السِّهامُ، ج: قُطْعانٌ، بالضم، وأقْطِعَةٌ وقِطاعٌ وأقْطُعٌ وأقاطِعُ وقُطُعٌ، بضمتين،

وـ: ما تَقَطَّعَ من الشجرِ،

كالقِطْعِ، بالكسر، والكثيرُ الاحْتِراقِ.

وهو قَطيعُ القِيامِ، أي: مُنْقَطِعٌ، مَقْطوعُ القِيامِ ضَعْفًا أو سِمَنًا،

وامرأةٌ قَطيعُ الكلامِ: غيرُ سَلِيطةٍ، وقد قَطُعَتْ، ككَرُمَ،

وهو قَطيعُهُ: شَبيهُه في خُلُقِه وقَدِّه.

والقَطيعةُ، كشرِيفةٍ: الهِجْرانُ،

كالقَطْعِ، ومَحالُّ ببَغْدادَ أقْطَعَها المنصورُ أُناسًا من أعْيانِ دَوْلَتِه، لِيَعْمُرُوها ويَسْكُنوها، وهي: قَطيعةُ إسحاقَ الأزْرَقِ،

وـ أمِّ جعفرٍ زُبَيْدَةَ بنتِ جعفرِ بنِ المنصورِ، ومنها: إسحاقُ بنُ محمدِ بنِ إسحاقَ المحدِّثُ،

وـ بني جِدارٍ، بَطْنٍ من الخَزْرَجِ، وقد يُنْسَبُ إلى هذه القَطيعةِ جِدارِيٌّ،

وـ الدقيقِ، ومنها: أحمدُ ابنُ جعفرِ بنِ حَمْدانَ المُحَدِّثُ، وقَطيعَتَا الرَّبيعِ بنِ يونُسَ الخَارِجَةُ والدَّاخِلَةُ، ومنها: إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ ابنِ يَعْمُرَ المُحَدِّثُ،

وـ رَيْسانَةَ،

وـ زُهَيْرٍ،

وـ العَجَمِ بَيْنَ بابِ الحَلْبَةِ وبابِ الأَزَجِ، منها: أحمدُ ابنُ عُمَرَ، وابْنُهُ مُحمدٌ الحافِظانِ،

وـ العَكِّيِّ،

وـ عيسى بنِ عَليٍّ عمِّ المَنْصورِ، ومنها: إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ الهَيْثَمِ،

وـ الفُقَهاءِ، وهذه بالكَرْخ، منها: إبراهيمُ بنُ منصورٍ المحدِّثُ،

وـ أبي النَّجْمِ،

وـ النصارَى.

ومَقْطَعُ الرَّمْلِ،

كَمَقْعَدٍ: حيثُ لا رمْلَ خَلْفَه، ج: مَقاطِعُ.

ومَقاطِعُ الأوْدِيَةِ: مآخيرُها،

وـ من الأنْهارِ: حيثُ يُعْبَرُ فيه منها،

وـ من القرآنِ: مَواضِعُ الوُقُوفِ. وكَمَقْعَدٍ: مَوْضِعُ القَطْعِ،

كالقُطْعَةِ، بالضم، ويُحَرَّكُ.

ومَقْطَعُ الحَقِّ: مَوْضِعُ الْتِقاءِ الحُكْمِ فيه، ومَقْطَعُ الحَقِّ أيضًا: ما يُقْطَعُ به الباطِلُ. وكمِنْبَرٍ: ما يُقْطَعُ به الشيءُ.

والقِطْعُ، بالكسر: نَصْلٌ صَغيرٌ عَريضٌ، ج: أقْطُعٌ وأقطاعٌ وقِطاعٌ،

وـ: ظُلْمَةُ آخِرِ الليلِ، أو القِطْعَةُ منه،

كالقِطَع، كعِنَبٍ، أو من أوَّلِهِ إلى ثُلُثِهِ، والرَّديءُ من السِّهامِ، والبِساطُ، أو النُّمْرُقَةُ، أو طِنْفِسَةٌ يَجْعَلُها الراكِبُ تَحْتَهُ وتُغَطِّي كَتِفَيِ البعيرِ، ج: قُطوعٌ وأقْطاعٌ.

وثوبٌ قِطْعٌ وأقْطاعٌ: مَقْطوعٌ. وبالضم: البُهْرُ، وانقِطاعُ النَّفَسِ، قُطِعَ، كعُنِيَ، فهو مَقْطُوعٌ، وجَمْعُ الأقْطَعِ والقَطيعِ.

وأصابَهُم قُطْعٌ وقُطْعَةٌ، بضمهما، أو تُكسَرُ الأولَى: إذا انْقَطَعَ ماءُ بِئْرِهِم في القَيْظِ.

والقِطْعَةُ، بالكسر: الطائِفةُ من الشيءِ، وبِلا لامٍ، مَعْرِفَةً: الأُنْثَى من القَطا، وبالضمِّ: بَقِيَّةُ يَدِ الأَقْطَعِ، ويُحَرَّكُ، وطائِفَةٌ تُقْطَعُ مِنَ الشيء،

كالقُطاعَةِ، بالضمِّ، أو هذه مُخْتَصَّةٌ بالأَديمِ، والحُوَّارَى ونُخَالَتُهُ، والطائِفَةُ من الأرضِ إذا كانت مَفْروزَةً، ولُثْغَةٌ في طَيِّئٍ، كالعَنْعَنَةِ في تَمِيمٍ؛ وهو أنْ يَقُولَ: يا أبا الحَكَا، يُريدُ يا أبا الحَكَمِ.

وبنُو قُطْعَةَ: حَيٌّ،

والنِّسْبَةُ: قُطْعِيٌّ، بالسُّكونِ، وكجُهَيْنَةَ: ابنُ عَبْسِ بنِ بَغيضٍ، أبو حَيٍّ، ولَقَبُ عَمْرِو بن عُبَيْدَةَ بن الحارِثِ بن سامَةَ بن لُؤَيٍّ.

وقُطَعاتُ الشَّجَرِ، كَهُمزَةٍ، وبالتحريكِ وبضمتينِ: أطْرافُ أُبَنِها التي تَخْرُجُ منها إذا قُطِعَتْ.

والقُطَاعَةُ بالضم: اللُّقْمَةُ، وما سَقَطَ من القَطْعِ. وكحُمَيْراءَ: ضَرْبٌ من التَّمْرِ، أو الشِّهْريزُ.

واتَّقُوا القُطَيْعاءَ، أي: أن يَنْقَطِعَ بعضُكم من بعضٍ.

والأَقْطَعُ: المَقْطُوعُ اليَدِ، ج: قُطْعَانٌ، بالضم، والأَصَمُّ، والحَمامُ في بَطْنِهِ بَياضٌ.

ومَدَّ ومَتَّ إلينا بِثَدْيٍ غيرِ أقْطَعَ: تَوَسَّلَ بِقَرابَةٍ قَريبَةٍ.

والقاطِعُ: المِقْطَعُ الذي يُقْطَعُ به الثوبُ والأَديمُ ونحوُهُما،

كالقِطاعِ، ككِتابٍ، والقِطاعُ أيضًا: الدَّراهِمُ.

وهذا زَمَنُ القِطاعِ، ويُفْتَحُ، أي: الصِّرامِ.

وأقْطَعَه قَطِيعَةً، أي: طائِفَةً من أرضِ الخَرَاجِ،

وـ فلانًا قُضْبَانًا: أذِنَ له في قَطعِهَا،

وـ الدَّجاجَةُ: أقَفَّتْ،

وـ النَّخْلُ: أصْرَمَ،

وـ القومُ: انْقَطَعَتْ عنهم مِيَاهُ السماءِ،

وـ فلانًا: جاوَزَ به نَهْرًَا،

وـ فلانٌ: انْقَطَعَتْ حُجَّتُه، فهو مُقْطِعٌ، وبفتحِ الطاء: البَعِيرُ الذي جَفَرَ عن الضِّرابِ، ومن لا يُريدُ النِساءَ، ومن لا دِيوانَ له، والبَعيرُ قامَ من الهُزالِ، والغَريبُ أُقْطِعَ عن أهْلِهِ، والرجُلُ يُفْرَضُ لِنُظَرَائِهِ ويُتْرَكُ هو، والمَوْضِعُ الذي يُقْطَعُ فيه النَّهْرُ.

وتَقْطيعُ الرجُلِ: قَدُّهُ وقامَتُهُ،

وـ في الشِّعْرِ: وَزْنُهُ بأجْزاءِ العَرُوضِ،

وـ: مَغَصٌ في البَطْنِ.

وقَطَّعَ الخَيْلَ تَقْطيعًا: سَبَقَها،

وـ اللهُ تعالى عليه العذابَ: لَوَّنَهُ وجَزَّأهُ،

وـ الخَمْرَ بالماءِ: مَزَجَها

فَتَقَطَّعَتْ: امْتَزَجَتْ.

والمُقَطَّعَةُ، كمُعَظَّمَةٍ،

والمُقَطَّعاتُ: القِصارُ من الثيابِ، الواحدُ: ثَوْبٌ، ولا واحدَ له من لَفْظِه، أو بُرودٌ عليها وشْيٌ،

وـ من الشِّعْرِ: قِصارُه وأراجيزُه.

والحديدُ المُقَطَّعُ، كمُعَظَّمٍ: المُتَّخَذُ سِلاحًا، ويقالُ للقَصيرِ: مُقَطَّعٌ مُجَذَّرٌ،

ومُقَطَّعُ الأسحارِ: للأرْنَبِ في: س ح ر.

والمُتَقَطِّعَةُ من الغُرَرِ: التي ارْتَفَعَ بَياضُها من المَنْخَرَيْنِ حتى تَبْلُغَ الغُرَّةُ عَيْنَيْهِ.

وانْقُطِعَ به، مَجْهُولًا: عَجَزَ عن سَفَرِه.

ومُنْقَطَعُ الشيءِ، بفتح الطاءِ: حيثُ يَنْتَهِي إليه طَرَفُه.

وهو مُنْقَطِعُ القَرِينِ، بكسرها: عَديمُ النَّظيرِ.

وقاطَعا: ضِدُّ، واصَلا،

وـ فلانٌ فلانًا بسَيْفَيْهِمَا: نَظَرا أيُّهُمَا أقْطَعُ.

واقْتَطَعَ من مَالِهِ قِطْعَةً: أَخَذَ منه شيئًا.

وجاءَت الخَيْلُ مُقْطَوْطِعَاتٍ: سِراعًا بعضُهَا في إثْرِ بعضٍ.

والقَطَعُ، محرَّكةٌ: جمعُ قُطَعَةٍ، وهي بَقِيَّةُ يَدِ الأقْطَعِ. وكصُرَدٍ: القاطِعُ لِرَحمِهِ، وجمعُ قُطْعَةٍ، بالضم.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


6-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (أجن)

(أجن) - في حَديثِ عَلىِّ، رَضى الله عنه: "أنَّه ارتَّوَى من آجِنِ".

- وفي حَدِيث الحَسَن: "أَنَّه كان لا يَرَى بأْسًا بالوُضُوءِ من الماءِ الآجِن".

الماءُ الآجِنُ والآسِنُ: المُتغَيِّر. والفِعل منه أَجَن يَأجِن ويَأْجُن، إذا تَغيَّر من انْعِقاد العِرمِض عليه أو غَيرِه أَجْنًا وأُجونًا، ويقال: ماء أَجْن أَيضًا، ويُقال: أَجِنَ فهو أَجِن ولَيْسَا بِفَصيحَيْن.

- في حديث ثابت "أنَّ مَلِكا متَمرِّدا دخلت بَقَّةٌ في مَنْخِره، فصارت في دِماغِه، فإذا طنَّت، أي طَارَت حتى سُمِع لِطيَرانها صوتٌ، ضربوا رأسَه بمِيجَنَة".

المِيجَنَة: عَصًا يَضْرب بها القَصَّارُ الثَّوبَ ويقال لها: الكُذَين. وقال الكلبىُّ. المِيجَنَة: الصَّخْرة، وقال الأَسلمىُّ: وجِّن جِلدَتَك: أي اضْرِبْها بالمِيجَنة.

والمِيجَنَة والمِيكَعَة: عود يُدقُّ به جِلدُ البَعِر إذا سُلِخ، يُمرَّنُ به؛ يقال: أصل الكلمة الواو، فلذلك قال: وَجِّن، فعلى هذا

لا تُهمَز المِيجَنة، وقيل: هو من أَجَن القَصَّار الثَّوبَ: أي دَقَّه، فإن كان من هذا جَازَ هَمْزُ المِيجَنة، والجَمْعُ المَآجِن والمَوَاجِن.

- في حديث ابنِ مَسْعود، رضي الله عنه: " أجَنَّك من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تَقولُ هذا؟ ".

: أىْ مِنْ أجْلِ أَنَّك، والعَربُ تَفعَل هذا، تَدَعُ كلمةَ مِنْ مع أَجْل تَقُول: فَعلْت هذا أَجلَك، تُرِيد به من أَجلِك، قال الشّاعر:

« أَجْلَ أَنَّ الله قد فَضَّلكم »

ويقال: من أَجلِك وإجلاكَ، وفَتْح الجيم أكثرُ في أَجَنَّك، وربما تُكْسَر، وقد حُذِف من أَجنَّك اللَّام والألف، كما حُذِف من قَوله تعالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}: أي لكن أَنا هو الله رَبِّى، حُذِفَت همزةُ أنا فالتَقتَ نُونَان، فأُدغِمت إحداهُما في الأُخرى، وفي نَحوِ هذا أنشد الكِسَائِىُّ:

«لهِنَّكِ من عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيَمةٌ *** ملِيحةُ أطرافِ البنان كَعابُ»

يريد: لله أنّك، فأسقَط إحدى اللَّامين من لله وحذف الهمزةَ من أَنَّك. وفي "أنا" في الوَصْل ثَلاثُ لُغات: إحدَاها "أَنَا" كما قال عَزَّ مِنْ قَائلٍ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} الأَصل أَلفٌ ونُونٌ، لكنه يُكتَب في المصحف بأَلِف بعد النُّون، فعلى هذا قراءَةُ مَنْ قَرأ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}.

اللُّغَة الثَّانِيَة: أنَا مُشْبَعةً، كما قال الشاعر:

« أنَا أبو بَرْزَةَ إذْ جَدَّ الوَهَلْ »

وقال آخر:

«أَنَا سَيفُ العَشِيرة فاعْرِفُونى *** حُمَيدًا قد تَذَرَّيتُ السَّنامَا»

فعَلَى هذا قِراءَةُ مَنْ قَرأ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ}.

اللُّغة الثّالِثة: أنْ بِسكُون النُّون، وهو أَضعفُ الوُجوهِ، وحَذفُ الأَلفِ أَقواها.

وقِيل: خُفِّفَت أَنْ ضرَبيْن من التَّخفيف: أحدهما حَذْف

الهَمْزة، والثَّانى حذفُ إحدى النُّونَين، فَوَلِيت النُّونُ الباقِية اللَّامَ، وهما مُتفاوِتَا المَخْرجَينَ، فقُلِبت اللَّام نُونًا، وأُدغِمت في النون، وحَقُّ المُدْغَم أن يُسَكَّن، فالْتَقَى السَّاكنان هي والجِيم، فُحرِّكَت الجِيمُ بالكَسْر فصار: أَجِنّك.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


7-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (أنى)

(أنى) - في حَديِث أَبِى بَرْزَة: "أنَّ رسولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَمرَ

رَجلا أن يُزَوِّجَ ابنَتَه جُلَيْبِيًا، فقال الرجل: حَتَّى أُشاوِرَ أُمَّها، فلما ذَكَره لها. قالت: حَلْقَى، أَلجُلَيْبِيب إِنيه؟ لا، لَعَمْرُ اللهِ".

قال بَعضُ نَحوِيَّى زَمانِنا: إِنيه: لفظ يُستَعْمل في الِإنكار على وَجْهَين: أَحدُهما: أن يقول القائِل: جاءَنى زَيدٌ. فتقول أنت: أزيدُنيه، وإذا قال: رأيتُ زَيدًا فتقول أنت: أزيدَ نِيهْ، وإذا قال: مرَرتُ بزَيْد قلت: أَزيِد نِيه. فتُحرِّكُ التَّنوينَ وتَصِلُه بالياء، ثمَّ تَقِف بالهاء، ومَعْناه: إنكار مَجِىءِ زَيد فكأنّه حين قال: جاء زَيدٌ، تقول أنت: جاء زَيْد على سَبِيلِ الِإنكار! يعني ما جاءَ زَيْد. وقد يَزِيدون إن كما تَقول: أَزيدٌ إنيه، فتَزِيد إن كما زادُوها في النَّفْى المَحْضِ، قال الشاعر:

« ومَا إن طِبُّنا جُبْنٌ وَلِكن »

وقال آخر:

« وما إن طِبُّها إلا اللُّغوب »

: أي ما طِبُّها، وإن زائدة، وكذلك إذا قال: أزيدٌ إنيه، وهو على معنى أزيدٌ نِيهِ يريد إنكارَ مَجِىء زَيْد.

ووجه آخر: أن تقول: أزيدٌ نِيه، يعنِي تَقُول بمَجِىء زيدٍ عندي، وزيدٌ لا يُستَبْعَد مَجِيئُه عندِى، كأنه يَعنِي هو مَعروفٌ بهذا الفِعْل، قال: وقيل لأعرابى: كان إذا أَخصَبت البادِيةُ يدخُلُها فَقِيل:

دخلتَ البادِيَة، فقال: أأنا إنيه؟ يعني، أتَقولُون لِى هذا القَوْل، وأنا مَعْروف بهذا الفِعْل، إلى هنا قوله.

وقد سَألتُ أبا الفَضْل بنَ نَاصِر ببَغدادَ في السَّفْرة الثانية عن هذا اللَّفْظِ، وحَكيَت له قولَ هَذا النَّحوِىِّ، فلم يرتَضِهْ وقال: إنما هو ألِجُلَيْبِيبٍ ابْنَه، تَعنِي ابنَتِى، فأَسقَط منه الياءَ ووقَف عليه بالهاءِ، وأُخْرِج إلىّ من مُسنَد الِإمام أحمد بن حَنْبَل بخَطَّ أبي الحَسَن بن الفُراتِ هَكَذا مُعْجَمًا مُقيَّدا في مواضِعَ، وقال: إنما خَطُّ ابنِ الفُرات حُجَّة، وقد كَتبَه عن القَطيعِى، عن عبدِ الله بن أحمد، عن أبيه، وهم أعلَمُ بالرواية. قلت: والرِّوَايَة إذا كانت بغَيْر عِلم لا تكون حُجَّة، فكيف وقد بلَغَنى بإسنادٍ لا أذكُرُه، عن الِإمام أحمد، أنَّه قِيل له: هل يَكُون في الحَدِيث شىءٌ لا يَعرِفون مَعْنَاه؟، فقال: كَثِير.

وأخبرنا به أحمدُ بنُ على الأُسْوارِىّ إذنًا عن كتاب أحمد بن جعفر الفَقِيه، عن أبي بَكْر المُقْرِى بِمِثْله، قال: سَمِعتُ أَبَا عُبَيد عَلِىَّ بنَ الحُسَيْن بن حَزْبُويَه قال: سمعتُ إبراهيمَ الحَربِى يقول: قُلتُ: لأَحمدَ ابنِ حَنْبَل: يا أَبا عَبدِ الله رُبَّما جاءَكم عن النّبِىّ الله - صلى الله عليه وسلم -. شَىءٌ لا تَعرفُوَنه؟ فقال: كَثيرٌ.

ووجدتُ بخَطِّ أبي نِزار قال: سَمِعتُ أبا بَكْر بنَ عاصِم يقول: سَمِعتُ أبا عُبَيْد بن حَزْبُويَه يقول: سمعت إبراهيم الحربىَّ يقول: سألتُ أحمدَ بن حنبل، فقلت: ربما جاءَكُم عن النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - شَىءٌ لم تَعرِفُوه فقال: كَثِيرٌ.

وقد تَخْتَلِف النُّسَخ لمُسْنَد أحمد بِهَذا، فرأيتُه في مواضِعَ من نسخة: ابْنَة وفي روايةَ ابْنِيَهْ. وَوَجَدْتُه في مُسنَد أَبى يَعْلَى الأَنِيه، وفي كِتاب مَعانى الأَخْبارِ لأبىِ بَكْرِ بن أبي عاصِم قالت: حَلْقَى ألِجُلَيْبِيبٍ أَلاهِيَهْ، مَرَّتَين وقيل: إنَّ أَبَا إِسحاقَ بن حَمْزة رَواه، آمنة على أَنَّها اسمُ البِنْت، وقيل في رواية: الَأَمة

وهذا الاخْتِلافُ يَدُلُّ على عدم مَعِرفَتِهم بَحقِيقَتهِ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


8-المعجم العربي لأسماء الملابس (الغبن)

الغَبَن: الغَبَن بالتحريك: ما قُطع من أطراف الثوب فأُسقط؛ ومنه قول الأعشى:

يُساقِطها كسقاط الغَبَن.

والغَبَن أيضًا: ما ثُنى من الثوب لينقص من طوله.

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


9-معجم البلدان (بوان)

بُوَانُ:

بالنون، ذو بوان: موضع بأرض نجد، قال الزّفيان:

«ماذا تذكّرت من الأظعان *** طوالعا من نحو ذي بوان؟»

وقد ذكر بعضهم أنه أراد بوانة المذكورة بعد، فأسقط الهاء للقافية.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


10-معجم البلدان (الري)

الرَّيّ:

بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، فإن كان عربيّا فأصله من رويت على الراوية أروي ريّا فأنا راو إذا شددت عليها الرّواء، قال أبو منصور:

أنشدني أعرابي وهو يعاكمني:

ريّا تميميّا على المزايد

وحكى الجوهري: رويت من الماء، بالكسر، أروى ريّا وريّا وروى مثل رضى: وهي مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محطّ الحاجّ على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخا ومن قزوين إلى أبهر اثنا عشر فرسخا ومن أبهر إلى زنجان خمسة عشر فرسخا، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة الريّ طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وست وثلاثون دقيقة، وارتفاعها سبع وسبعون تحت ثماني عشرة درجة من السرطان خارجة من الإقليم الرابع داخلة في الإقليم الخامس، يقابلها مثلها من الجدي في قسمة النسر الطائر ولها شركة في الشعرى والغميصاء رأس الغول من قسمة سعد بلع، ووجدت في بعض تواريخ الفرس أن كيكاوس كان قد عمل عجلة وركّب عليها آلات ليصعد إلى السماء فسخر الله الريح حتى علت به إلى السحاب ثمّ ألقته فوقع في بحر جرجان، فلمّا قام كيخسرو بن سياوش بالملك حمل تلك العجلة وساقها ليقدم بها إلى بابل، فلمّا وصل إلى موضع الريّ قال الناس: بريّ آمد كيخسرو، واسم العجلة بالفارسيّة ريّ، وأمر بعمارة مدينة هناك فسميت الريّ بذلك، قال العمراني: الرّي بلد بناه فيروز ابن يزدجرد وسمّاه رام فيروز، ثمّ ذكر الرّي المشهورة بعدها وجعلهما بلدتين، ولا أعرف الأخرى، فأمّا الرّي المشهورة فإنّي رأيتها، وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجر المنمق المحكم الملمع بالزرقة

مدهون كما تدهن الغضائر في فضاء من الأرض، وإلى جانبها جبل مشرف عليها أقرع لا ينبت فيه شيء، وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها، واتفق أنّني اجتزت في خرابها في سنة 617 وأنا منهزم من التتر فرأيت حيطان خرابها قائمة ومنابرها باقية وتزاويق الحيطان بحالها لقرب عهدها

«الرّيّ دار فارغه *** لها ظلال سابغة»

«على تيوس ما لهم *** في المكرمات بازغه»

«لا ينفق الشّعر بها *** ولو أتاها النّابغه»

وقال إسماعيل الشاشي يذمّ أهل الرّيّ:

«تنكّب حدّة الأحد *** ولا تركن إلى أحد»

«فما بالرّيّ من أحد *** يؤهل لاسم الأحد»

وقد حكى الاصطخري أنّها كانت أكبر من أصبهان لأنّه قال: وليس بالجبال بعد الريّ أكبر من أصبهان، ثمّ قال: والرّيّ مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها وإن كانت نيسابور أكبر عوصة منها، وأمّا اشتباك البناء واليسار والخصب والعمارة فهي أعمر، وهي مدينة مقدارها فرسخ ونصف في مثله، والغالب على بنائها الخشب والطين، قال: وللرّيّ قرى كبار كلّ واحدة أكبر من مدينة، وعدّد منها قوهذ والسّدّ ومرجبى وغير ذلك من القرى التي بلغني أنها تخرج من أهلها ما يزيد على عشرة آلاف رجل، قال: ومن رساتيقها المشهورة قصران الداخل والخارج وبهزان والسن وبشاويه ودنباوند، وقال ابن الكلبي: سميت الريّ بريّ رجل من بني شيلان ابن أصبهان بن فلوج، قال: وكان في المدينة بستان فخرجت بنت ريّ يوما إليه فإذا هي بدرّاجة تأكل تينا، فقالت: بور انجير يعني أن الدّرّاجة تأكل تينا، فاسم المدينة في القديم بورانجير ويغيره أهل الرّيّ فيقولون بهورند، وقال لوط بن يحيى:

كتب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، إلى عمار بن ياسر وهو عامله على الكوفة بعد شهرين من فتح

نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زيد الخيل الطائي إلى الرّيّ ودستبى في ثمانية آلاف، ففعل وسار عروة لذلك فجمعت له الديلم وأمدوا أهل الرّيّ وقاتلوه فأظهره الله عليهم فقتلهم واستباحهم، وذلك في سنة 20 وقيل في سنة 19، وقال أبو نجيد وكان مع المسلمين في هذه الوقا

«دعانا إلى جرجان والرّيّ دونها *** سواد فأرضت من بها من عشائر»

«رضينا بريف الرّيّ والرّيّ بلدة *** لها زينة في عيشها المتواتر»

«لها نشز في كلّ آخر ليلة *** تذكّر أعراس الملوك الأكابر»

قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهديّ الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الرّيّ التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا، وجرى ذلك على يد عمار بن أبي الخصيب، وكتب اسمه على حائطها، وتمّ عملها سنة 158، وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آجر، والفارقين: الخندق، وسمّاها المحمديّة، فأهل الرّيّ يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزينبدى في داخل المدينة المعروفة بالمحمدية، وقد كان المهدي أمر بمرمّته ونزله أيّام مقامه بالرّيّ، وهو مطلّ على المسجد الجامع ودار الإمارة، ويقال: الذي تولّى مرمّته وإصلاحه ميسرة التغلبي أحد وجوه قواد المهدي، ثمّ جعل بعد ذلك سجنا ثمّ خرب فعمره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثمّ خرّبه أهل الرّيّ بعد خروج رافع عنها، قال:

وكانت الرّيّ تدعى في الجاهليّة أزارى فيقال إنّه خسف بها، وهي على اثني عشر فرسخا من موضع الرّيّ اليوم على طريق الخوار بين المحمدية وهاشمية الرّيّ، وفيها أبنية قائمة تدل على أنّها كانت مدينة عظيمة، وهناك أيضا خراب في رستاق من رساتيق الرّيّ يقال له البهزان، بينه وبين الرّيّ ستة فراسخ يقال إن الرّيّ كانت هناك، والناس يمضون إلى هناك فيجدون قطع الذهب وربّما وجدوا لؤلؤا وفصوص ياقوت وغير ذلك من هذا النوع، وبالرّيّ قلعة الفرّخان، تذكر في موضعها، ولم تزل قطيعة الرّيّ اثني عشر ألف ألف درهم حتى اجتاز بها المأمون عند منصرفه من خراسان يريد مدينة السلام فلقيه أهلها وشكوا إليه أمرهم وغلظ قطيعتهم فأسقط عنهم منها ألفي ألف درهم وأسجل بذلك لأهلها، وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء قال: في التوراة مكتوب الرّيّ باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق، وقال الأصمعي: الرّيّ عروس الدنيا وإليه متجر الناس، وهو أحد بلدان الأرض، وكان عبيد الله ابن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الرّيّ إن خرج على الجيش الذي توجّه لقتال الحسين ابن عليّ، رضي الله عنه، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الرّيّ والقعود، وقال:

«أأترك ملك الرّيّ والرّيّ رغبة، *** أم ارجع مذموما بقتل حسين»

«وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الرّيّ قرّة عين»

فغلبه حبّ الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين، رضي الله عنه، ما كان. وروي عن جعفر الصادق، رضي الله عنه، أنّه قال: الرّيّ وقزوين وساوة ملعونات مشؤومات، وقال إسحاق بن سليمان: ما رأيت بلدا أرفع للخسيس من الرّيّ،

وفي أخبارهم: الريّ ملعونة وتربتها تربة ملعونة ديلمية وهي على بحر عجاج تأبى أن تقبل الحق، والرّيّ سبعة عشر رستاقا منها دنباوند وويمة وشلمبة، حدث أبو عبد الله بن خالويه عن نفطويه قال: قال رجل من بني ضبّة وقال المدائني:

فرض لأعرابي من جديلة فضرب عليه البعث إلى الري وكانوا في حرب وحصار، فلمّا طال المقام واشتدّ الحصار قال الأعرابي: ما كان أغناني عن هذا! وأنشأ يقول:

«لعمري لجوّ من جواء سويقة *** أسافله ميث وأعلاه أجرع»

«به العفر والظّلمان والعين ترتعي *** وأمّ رئال والظّليم الهجنّع»

«وأسفع ذو رمحين يضحي كأنّه *** إذا ما علا نشزا، حصان مبرقع»

«أحبّ إلينا أن نجاور أهلنا *** ويصبح منّا وهو مرأى ومسمع»

«من الجوسق الملعون بالرّيّ كلّما *** رأيت به داعي المنيّة يلمع»

«يقولون: صبرا واحتسب! قلت: طالما *** صبرت ولكن لا أرى الصبر ينفع»

«فليت عطائي كان قسّم بينهم *** وظلّت بي الوجناء بالدّوّ تضبع»

«كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها *** يدا سابح في غمرة يتبوّع»

«أأجعل نفسي وزن علج كأنّما *** يموت به كلب إذا مات أجمع؟»

والجوسق الملعون الذي ذكره ههنا هو قلعة الفرّخان، وحدث أبو المحلّم عوف بن المحلم الشيباني قال: كانت لي وفادة على عبد الله بن طاهر إلى خراسان فصادفته يريد المسير إلى الحجّ فعادلته في العماريّة من مرو إلى الريّ، فلمّا قاربنا الرّيّ سمع عبد الله بن طاهر ورشانا في بعض الأغصان يصيح، فأنشد عبد الله بن طاهر متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:

«ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر، *** وغصنك ميّاد، ففيم تنوح؟»

«أفق لا تنح من غير شيء، فإنّني *** بكيت زمانا والفؤاد صحيح»

«ولوعا فشطّت غربة دار زينب، *** فها أنا أبكي والفؤاد جريح»

ثمّ قال: يا عوف أجز هذا، فقلت في الحال:

«أفي كلّ عام غربة ونزوح؟ *** أما للنّوى من ونية فنريح؟»

«لقد طلّح البين المشتّ ركائبي، *** فهل أرينّ البين وهو طليح؟»

«وأرّقني بالرّيّ نوح حمامة، *** فنحت وذو الشجو القديم ينوح»

«على أنّها ناحت ولم تذر دمعة، *** ونحت وأسراب الدّموع سفوح»

«وناحت وفرخاها بحيث تراهما، *** ومن دون أفراخي مهامه فيح»

«عسى جود عبد الله أن يعكس النوى *** فتضحي عصا الأسفار وهي طريح»

«فإنّ الغنى يدني الفتى من صديقه، *** وعدم الغنى بالمقترين نزوح»

فأخرج رأسه من العمارية وقال: يا سائق ألق زمام البعير، فألقاه فوقف ووقف الخارج ثمّ دعا بصاحب

بيت ماله فقال: كم يضمّ ملكنا في هذا الوقت؟

فقال: ستين ألف دينار، فقال: ادفعها إلى عوف، ثمّ قال: يا عوف لقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث جئت، قال: فأقبل خاصة عبد الله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيّها الأمير شاعرا في مثل هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها! قال: إليكم عني فإنّي قد استحييت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول: عسى جود عبد الله، وفي ملكي شيء لا ينفرد به، ورجع عوف إلى وطنه فسئل عن حاله فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى والراحة من النوى، وقال معن بن زائدة الشيباني:

«تمطّى بنيسابور ليلي وربّما *** يرى بجنوب الرّيّ وهو قصير»

«ليالي إذ كلّ الأحبّة حاضر، *** وما كحضور من تحب سرور»

«فأصبحت أمّا من أحبّ فنازح *** وأمّا الألى أقليهم فحضور»

«أراعي نجوم اللّيل حتى كأنّني *** بأيدي عداة سائرين أسير»

«لعلّ الذي لا يجمع الشمل غيره *** يدير رحى جمع الهوى فتدور»

«فتسكن أشجان ونلقى أحبّة، *** ويورق غصن للشّباب نضير»

ومن أعيان من ينسب إليها أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم صاحب الكتب المصنفة، مات بالرّيّ بعد منصرفه من بغداد في سنة 311، عن ابن شيراز، ومحمد بن عمر بن هشام أبو بكر الرازي الحافظ المعروف بالقماطري، سمع وروى وجمع، قال أبو بكر الإسماعيلي: حدّثني أبو بكر محمد بن عمير الرازي الحافظ الصدوق بجرجان، وربّما قال الثقة المأمون، سكن مرو ومات بها في سنة نيف وتسعين ومائتين، وعبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد ابن أبي حاتم الرازي أحد الحفّاظ، صنف الجرح والتعديل فأكثر فائدته، رحل في طلب العلم والحديث فسمع بالعراق ومصر ودمشق، فسمع من يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان والحسن بن عرفة وأبيه أبي حاتم وأبي زرعة الرازي وعبد الله وصالح ابني أحمد بن حنبل وخلق سواهم، وروى عنه جماعة أخرى كثيرة، وعن أبي عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد محمد بن محمد ابن أحمد بن إسحاق الحاكم الحافظ يقول: كنت بالرّيّ فرأيتهم يوما يقرؤون على محمد بن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فلمّا فرغوا قلت لابن عبدويه الورّاق: ما هذه الضحكة؟ أراكم تقرؤون كتاب التاريخ لمحمد بن إسماعيل البخاري عن شيخكم على هذا الوجه وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم! فقال: يا أبا محمد اعلم أن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما هذا الكتاب قالا هذا علم حسن لا يستغنى عنه ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا أبا محمد عبد الرحمن الرازي حتى سألهما عن رجل معه رجل وزادا فيه ونقصا منه، ونسبه عبد الرحمن الرازي، وقال أحمد بن يعقوب الرازي: سمعت عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت مع أبي في الشام في الرحلة فدخلنا مدينة فرأيت رجلا واقفا على الطريق يلعب بحيّة ويقول: من يهب لي درهما حتى أبلع هذه الحيّة؟ فالتفت إليّ أبي وقال: يا بني احفظ دراهمك فمن أجلها تبلع الحيّات! وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الرحمن بن أحمد الحافظ القزويني: أخذ عبد الرحمن بن أبي حاتم علم أبيه وعلم أبي زرعة وصنّف

منه التصانيف المشهورة في الفقه والتواريخ واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وكان من الأبدال ولد سنة 240، ومات سنة 327، وقد ذكرته في حنظلة وذكرت من خبره هناك زيادة عمّا ههنا، وإسماعيل بن عليّ بن الحسين بن محمد بن زنجويه أبو سعد الرازي المعروف بال

كان عالما بالحديث ومعرفة الرجال ما رأيت مثله في معناه، وأبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم ابن الحكم بن عبد الله الحافظ الرازي، قال الحافظ أبو القاسم: قدم دمشق سنة 347 فسمع بها أبا الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي والد تمام، وبنيسابور أبا حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال وأبا الحسن علي بن أحمد الفارسي ببلخ وأبا عبد الله بن مخلد ببغداد وأبا الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني بمصر وعمر بن إبراهيم بن الحدّاد بتنّيس وأبا عبد الله المحاملي وأبا العباس الأصمّ، وحدث بدمشق في تلك السنة فروى عنه تمام وعبد الرحمن بن عمر بن نصر والقاضيان أبو عبد الله الحسين بن محمد الفلّاكي الزّنجاني وأبو القاسم التنوخي وأبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد الجارودي الحافظ وحمزة بن يوسف الخرقاني وأبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الزنجاني الهمداني وعبد الغني بن سعيد والحاكم أبو عبد الله وأبو العلاء عمر بن علي الواسطي وأبو زرعة روح بن محمد الرازي ورضوان بن محمد الدّينوري، وفقد بطريق مكّة سنة 375، وكان أهل الريّ أهل سنّة وجماعة إلى أن تغلب أحمد بن الحسن المارداني عليها فأظهر التشيع وأكرم أهله وقرّبهم فتقرّب إليه الناس بتصنيف الكتب في ذلك فصنف له عبد الرحمن بن أبي حاتم كتابا في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيّام المعتمد وتغلبه عليها في سنة 275، وكان قبل ذلك في خدمة كوتكين ابن ساتكين التركي، وتغلب على الرّيّ وأظهر التشيع بها واستمرّ إلى الآن، وكان أحمد بن هارون قد عصى على أحمد بن إسماعيل الساماني بعد أن كان من أعيان قواده وهو الذي قتل محمد بن زيد الراعي فتبعه أحمد بن إسماعيل إلى قزوين فدخل أحمد بن هارون بلاد الديلم وأيس منه أحمد بن إسماعيل فرجع فنزل بظاهر الري ولم يدخلها، فخرج إليه أهلها وسألوه أن يتولّى عليهم ويكاتب الخليفة في ذلك ويخطب ولاية الرّيّ، فامتنع وقال: لا أريدها لأنّها

مشؤومة قتل بسببها الحسين بن علي، رضي الله عنهما، وتربتها ديلمية تأبى قبول الحقّ وطالعها العقرب، وارتحل عائدا إلى خراسان في ذي الحجة سنة 289، ثمّ جاء عهده بولاية الرّيّ من المكتفي وهو بخراسان، فاستعمل على الرّيّ من قبله ابن أخيه أبا صالح منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد فوليها ستّ سنين، وهو الذي صنف له أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم كتاب المنصوري في الطبّ، وهو الكنّاشة، وكان قدوم منصور إليها في سنة 290، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


11-معجم البلدان (العذيبة)

العُذَيبَةُ:

تصغير العذبة، وقال ابن السكيت: ماء بين ينبع والجار، والجار: بلد على البحر قريب من المدينة، وقال في موضع آخر: العذيبة قرية بين الجار وينبع، وإياها عنى كثير عزّة فأسقط الهاء:

«خليليّ إن أمّ الحكيم تحمّلت *** وأخلت بخيمات العذيب ظلالها»

«فلا تسقياني من تهامة بعدها *** بلالا وإن صوب الربيع أسالها»

«وكنتم تزينون البلاد ففارقت *** عشية بنتم زينها وجمالها»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


12-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (التوليد)

التّوليد:

ولّد الرجل غنمه توليدا كما يقال نتّج إبله، وقال المدني: «التوليد في اللغة مصدر: «ولّدت القابلة المرأة» إذا تولت ولادتها، وولّدت الشيء عن غيره أنشأته عنه، وهو المنقول عنه الى الاصطلاح».

تحدث البلاغيون والنقاد عن التوليد عند كلامهم على السرقة، وكان هدف بعضهم نفيها عنه، فقال ابن رشيق: «هو أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر آخر تقدّمه أو يزيد فيه زيادة فلذلك يسمّى التوليد وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضا سرقة، اذا كان ليس آخذا على وجهه». ومنه قول امرئ القيس:

«سموت اليها بعد ما نام أهلها***سموّ حباب الماء حالا على حال »

فقال عمر بن أبي ربيعة وقيل وضّاح اليمن:

«فاسقط علينا كسقوط النّدى ***ليلة لاناه ولا زاجر»

فولد منه معنى مليحا اقتدى فيه بمعنى امرئ القيس من غير أن يشركه في شيء من لفظه أو ينحو منحاه إلا في المحصول وهو لطف الوصول الى حاجته في خفية. وأما الذي فيه زيادة فكقول جرير يصف الخيل:

«يخرجن من مستطير النقع دامية***كأنّ آذانها أطراف أقلام »

فقال عديّ بن الرقاع يصف قرن الغزال:

«تزجي أغنّ كأنّ أبرة روقه ***قلم أصاب من الدّواة مدادها »

فولّد بعد ذكر القلم اصابته مداد الدواة بما يقتضيه المعنى إذ كان القرن أسود.

والتوليد عند المصري ضربان: من الالفاظ والمعاني، فالذي من الألفاظ على ضربين أيضا: توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره وتوليده من لفظ نفسه. والأول: هو أن يزوّج المتكلم كلمة من لفظه الى كلمة من غيره فيتولد بينهما كلام يناقض غرض صاحب الكلمة الأجنبية وذلك في الالفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة. مثاله ما حكي أنّ مصعب بن الزبير وسم خيله بلفظة «عدّة» فلما قتل وصار الى العراق رآها الحجاج فوسم بعد لفظة «عدّة» لفظة «الفرار» فتولد بين اللفظتين غير ما أراده مصعب.

وهذا ما سمّاه ابن منقذ التلطف وعرّفه بقوله: «هو أن يلفق كلاما مع كلام آخر فيولد من الكلامين كلاما ثالثا» وذكر المثال نفسه.

ومن لطيف التوليد قول بعض العجم، وهو توليد المتكلم ما يريد من لفظ نفسه:

«كأنّ عذاره في الخدّ لام ***ومبسمه الشهيّ العذب صاد»

«وطرّة شعره ليل بهيم ***فلا عجب إذا سرق الرقاد»

فإنّ هذا الشاعر ولّد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص، وولّد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج. قال المصري: «وهذا من أغرب ما سمعت في ذلك، وهو النوع الثاني من التوليد اللفظي».

ومن توليد الالفاظ توليد المعنى من تزويج الجمل المفيدة، ومثاله ما حكي أنّ أبا تمام أنشد أبا دلف:

«على مثلها من أربع وملاعب ***أذيلت مصونات الدموع السواكب »

فقال: «من أراد نكتة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» فولّد بين الكلامين كلاما ينافي غرض أبي تمام من وجهين:

أحدهما: خروج الكلام من النسيب الى الهجاء بسبب ما انضم اليه من الدعاء.

الثاني: خروج الكلام من أن يكون بيتا من شعر الى أن صار قطعة من نثر. وهذا هو الضّرب الأول من التوليد وهو ما تولد من اللفظ، وأما الضرب الثاني منه وهو ما تولد من المعاني فكقول القطامي:

«قد يدرك المتأني بعض حاجته ***وقد يكون مع المستعجل الزّلل “

وقال من بعده:

«عليك بالقصد فيما أنت فاعله ***إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق »

فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله ومعنى عجز البيت مولّد بينهما.

وتحدّث ابن الأثير الحلبي عن التوليد بما يشبه كلام المصري وتقسيمه، وقال السبكي: «هو أنّ المتكلم يدرج ضربا من البديع بنوع آخر فيتولد منهما نوع ثالث».

وقال الحموي: «هذا النوع أعني التوليد ليس تحته كبير أمر وهو على ضربين: من الالفاظ والمعاني.

فالذي من الالفاظ تركه أولى من استعماله لأنّه سرقة ظاهرة وما ذاك إلا أنّ الناظم يستعذب لفظة من شعر غيره فيقتضبها ويضمنها غير معناها الأول في شعره كقول امرئ القيس في وصف الفرس:

«وقد أغتدي والطير في وكناتها***بمنجرد قيد الأوابد هيكل »

فاستعذب أبو تمام «قيد الأوابد» فنقلها الى الغزل فقال:

«لها منظر قيد الأوابد لم يزل ***يروح ويغدو في خفارته الحبّ »

والتوليد من المعاني هو الأجمل والأستر، وهو الغرض هنا. وذلك أنّ الشاعر ينظر الى معنى من معاني من تقدمه ويكون محتاجا الى استعماله في بيت من قصيدة له فيورده ويولّد منه معنى آخر كقول القطامي:

«قد يدرك المتأني بعض حاجته ***وقد يكون مع المستعجل الزّلل »

وقال من بعده ونقص الالفاظ وزاد تمثيلا وتوكيدا وتذييلا:

«عليك بالصّبر فيما أنت طالبه ***إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق »

فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله ومعنى عجزه نوع من التذييل».

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


13-موسوعة الفقه الكويتية (إحداد)

إِحْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِحْدَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْإِحْدَادِ امْتِنَاعُهَا مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الِاعْتِدَادُ:

2- وَهُوَ تَرَبُّصُ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مُحَدَّدَةً شَرْعًا لِفِرَاقِ زَوْجِهَا بِوَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْدَادِ أَنَّ الِاعْتِدَادَ طَرَفٌ لِلْإِحْدَادِ، فَفِي الْعِدَّةِ.تَتْرُكُ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِمَوْتِ زَوْجِهَا.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ بِالزَّوْجَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الرَّجُلِ.وَقَدْ أَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، بَلْ يُطْلَبُ مِنْهَا أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمُطَلِّقِهَا وَتَتَزَيَّنَ لَهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.عَلَى أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَأْيًا بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا الْإِحْدَادُ إِذَا لَمْ تَرْجُ الرَّجْعَةَ.

4- وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الْأَوَّلِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ، لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ.فَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا.

الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي جَدِيدِهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (وَقِيلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنَّهَا الْمَذْهَبُ) إِلاَّ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي فَارَقَهَا نَابِذًا لَهَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُحِدَّ عَلَيْهِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى فِي جَدِيدِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُحِدَّ.

5- وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ بَقَاءَ الزَّوَاجِ الْفَاسِدِ نِقْمَةٌ، وَزَوَالُهُ نِعْمَةٌ، فَلَا مَحَلَّ لِلْإِحْدَادِ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا تَبَعًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي الْبَاجِيُّ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْمُتَوَفِّي شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، كَالتَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ.

6- أَمَّا إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى قَرِيبٍ غَيْرِ زَوْجٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَيَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: «لَمَّا أَتَى أُمَّ حَبِيبَةَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ دَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ ذِرَاعَيْهَا وَعَارِضَيْهَا، وَقَالَتْ: كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيَّةً، سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْقَرِيبِ.

إِحْدَادُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ:

7- الْمَفْقُودُ: هُوَ مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ مِنْ مَمَاتِهِ.فَإِذَا حُكِمَ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ وَفَاةٍ مِنْ حِينِ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ أَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهَا.وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.

بَدْءُ مُدَّةِ الْإِحْدَادِ:

8- يَبْدَأُ الْإِحْدَادُ عَقِيبَ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِوَقْتِهَا، أَوْ تَأَخَّرَ عِلْمُهَا، وَعَقِيبَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ مَعْلُومَيْنِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ، أَوْ طَلَّقَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا فَيَبْدَأُ الْإِحْدَادُ مِنْ حِينِ عِلْمِهَا.وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ، وَيَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِحْدَادِ وَبَقِيَتْ مُحِدَّةً بِلَا قَصْدٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهَا.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْإِحْدَادِ:

9- شُرِعَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَفَاءً لِلزَّوْجِ، وَمُرَاعَاةً لِحَقِّهِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الرَّابِطَةَ الزَّوْجِيَّةَ أَقْدَسُ رِبَاطٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا وَلَا أَدَبًا أَنْ تَنْسَى ذَلِكَ الْجَمِيلَ، وَتَتَجَاهَلَ حَقَّ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا.وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ أَنْ يَمُوتَ زَوْجُهَا مِنْ هُنَا، ثُمَّ تَنْغَمِسُ فِي الزِّينَةِ وَتَرْتَدِي الثِّيَابَ الزَّاهِيَةَ الْمُعَطَّرَةَ، وَتَتَحَوَّلَ عَنْ مَنْزِلِ الزَّوْجِيَّةِ، كَأَنَّ عِشْرَةً لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا.وَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا حَوْلًا كَامِلًا تَفَجُّعًا وَحُزْنًا عَلَى وَفَاتِهِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

هَكَذَا قَرَّرَ عُلَمَاءُ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْإِحْدَادِ.فَقَدْ ذَكَرُوا «أَنَّ الْحِدَادَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَمَاتِ زَوْجٍ وَفَّى بِعَهْدِهَا، وَعَلَى انْقِطَاعِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً فَحَسْبُ، وَلَكِنَّهَا أَيْضًا أُخْرَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا»«وَشُرِعَ الْإِحْدَادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَشَوُّفَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا تَزَيَّنَتْ يُؤَدِّي إِلَى التَّشَوُّفِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَهُوَ حَرَامٌ.وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ».

مَنْ تُحِدُّ وَمَنْ لَا تُحِدُّ؟

10- تَبَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهَا الْإِحْدَادُ فِي الْجُمْلَةِ.وَهُنَاكَ حَالَاتٌ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا: الْكِتَابِيَّةُ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ، وَالصَّغِيرَةُ.

11- أَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ- فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِمَةِ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..الْحَدِيثَ».

12- وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا تُحِدُّ، وَعَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ فِعْلِ مَا يُنَافِي الْإِحْدَادَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ.وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: لَا.مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، الْحَدِيثَ» وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ سِنِّهَا، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ السُّؤَالِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ».فَإِنْ بَلَغَتْ فِي الْعِدَّةِ حَدَّتْ فِيمَا بَقِيَ.وَمِثْلُهَا الْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ إِذَا أَفَاقَتْ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ، وَحَكَى الشَّافِعِيَّةُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

مَا تَتَجَنَّبُهُ الْمُحِدَّةُ:

13- تَجْتَنِبُ الْمُحِدَّةُ كُلَّ مَا يُعْتَبَرُ زِينَةً شَرْعًا أَوْ عُرْفًا، سَوَاءٌ أَكَانَ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوِ الثِّيَابِ أَوْ يَلْفِتُ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا، كَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ.وَهَذَا الْقَدْرُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ فَاعْتَبَرَهَا الْبَعْضُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا الْآخَرُونَ.وَذَلِكَ كَبَعْضِ الْمَلَابِسِ الْمَصْبُوغَةِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَلَابِسِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْمَصْبُوغَةِ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ.

وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ نَجِدُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ- فِيمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ- نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلَافِ الْعُرْفِ: فَمَا اعْتُبِرَ فِي الْعُرْفِ زِينَةً اعْتَبَرُوهُ مُحَرَّمًا، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرِ اعْتُبِرَ مُبَاحًا.وَالْمَمْنُوعُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إِمَّا إِلَى الْبَدَنِ، أَوِ الثِّيَابِ، أَوِ الْحُلِيِّ، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، أَوِ الْبَيْتُوتَةِ.

14- فَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ فَالَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهَا كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ مُرَغِّبًا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ لِلزِّينَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ الْأَشْيَاءُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لِلزِّينَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَتَعَاطَاهُ الْمَرْأَةُ لِلتَّدَاوِي كَالْكُحْلِ وَالِامْتِشَاطِ بِمُشْطٍ وَاسِعٍ لَا طِيبَ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الِامْتِشَاطِ بِمُشْطِ الْأَسْنَانِ وَهُوَ بِلَا طِيبٍ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الزِّينَةِ عِنْدَهُمْ.عَلَى أَنَّ مَنْ لَا كَسْبَ لَهَا إِلاَّ مِنَ الِاتِّجَارِ بِالطِّيبِ أَوْ صِنَاعَتِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى جَوَازِ مَسِّهَا لَهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدْءِ التَّطَيُّبِ بَعْدَ لُزُومِ الْإِحْدَادِ، أَمَّا لَوْ تَطَيَّبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهَلْ عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ بَعْدَ لُزُومِ الْإِحْدَادِ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ اخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ.وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ.

15- وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا مِنَ الزِّينَةِ الْمَمْنُوعَةِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا أَبُو سَلَمَةَ، فَنَهَاهَا أَنْ تَمْتَشِطَ بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ.قَالَتْ: قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» أَيْ تَجْعَلِينَ عَلَيْهِ مِنَ السِّدْرِ مَا يُشْبِهُ الْغُلَافَ. 16- وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا كُلُّ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ زِينَةً، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللَّوْنِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوْبُ الْأَسْوَدُ مَحْظُورًا إِذَا كَانَ يَزِيدُهَا جَمَالًا، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ قَوْمِهَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مَلَابِسِ الزِّينَةِ.وَلَكِنْ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ مِنَ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُمَا يَفُوحُ مِنْهُمَا الطِّيبُ، لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَأَنْ نَكْتَحِلَ، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ، وَأَنْ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا».

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْ لُبْسِهِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُهُ حَتَّى تَجِدَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَوْجَبُ مِنَ الْإِحْدَادِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُ النِّقَابِ، فَإِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا؛ فَلْتُسْدِلِ النِّقَابَ وَتُبْعِدْهُ عَنْ وَجْهِهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُحِدَّةَ كَالْمُحْرِمَةِ وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَهَا اسْتِعْمَالُ النِّقَابِ مُطْلَقًا.

17- أَمَّا الْحُلِيُّ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الذَّهَبِ بِكُلِّ صُوَرِهِ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا أَنْ تَنْزِعَهُ حِينَمَا تَعْلَمَ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَسَاوِرِ وَالدَّمَالِجِ وَالْخَوَاتِمِ، وَمِثْلُهُ الْحُلِيُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ.وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يُتَّخَذُ لِلْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْعَاجِ وَغَيْرِهِ.وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لُبْسَ الْحُلِيِّ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِيِّ عَلَى الْمُحِدَّةِ.وَقَصَرَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْإِبَاحَةَ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِحِلِّهِ النِّسَاءُ.وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحِدَّةِ التَّعَرُّضُ لِلْخُطَّابِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِلِ تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: «وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْحُلِيَّ».

مَا يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ:

18- لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا، لِمَا رَوَى «جَابِرٌ قَالَ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلَاثًا، فَخَرَجَتْ تَجُذَّ نَخْلَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا.فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: اخْرُجِي فَجُذِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَالَ: «اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْلِ، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا بَادَرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِهَا».

وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا، وَلَا الْخُرُوجُ لَيْلًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الْفَسَادِ، بِخِلَافِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْمَعَاشِ وَشِرَاءِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلاَّ بِهَا، كَالْيَمِينِ وَالْحَدِّ، وَكَانَتْ ذَاتَ خِدْرٍ، بَعَثَ إِلَيْهَا الْحَاكِمُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْهَا فِي مَنْزِلِهَا.وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً جَازَ إِحْضَارُهَا لِاسْتِيفَائِهِ.فَإِذَا فَرَغَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا.

عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُحِدَّةِ أَنْ تَحْضُرَ الْعُرْسَ، وَلَكِنْ لَا تَتَهَيَّأُ فِيهِ بِمَا لَا تَلْبَسُهُ الْمُحِدَّةُ.

اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ فِي عِدَّةِ وَفَاتِهَا الْأَشْيَاءُ التَّالِيَةُ

يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثَوْبًا غَيْرَ مَصْبُوغٍ صَبْغًا فِيهِ طِيبٌ وَإِنْ كَانَ نَفِيسًا.وَيُبَاحُ لَهَا مِنَ الثِّيَابِ كُلُّ مَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ مَهْمَا كَانَ لَوْنُهُ.وَلَمَّا كَانَ الْإِحْدَادُ خَاصًّا بِالزِّينَةِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، فَلَا تُمْنَعُ مِنْ تَجْمِيلِ فِرَاشِ بَيْتِهَا، وَأَثَاثِهِ، وَسُتُورِهِ وَالْجُلُوسِ عَلَى أَثَاثٍ وَثِيرٍ.

وَلَا بَأْسَ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالتَّفَثِ مِنْ ثَوْبِهَا وَبَدَنِهَا، كَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ إِلَخْ، وَالِاغْتِسَالِ بِالصَّابُونِ غَيْرِ الْمُطَيِّبِ، وَغَسْلِ رَأْسِهَا وَيَدَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ أَنْ تُقَابِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مَنْ لَهَا حَاجَةٌ إِلَى مُقَابَلَتِهِ مَا دَامَتْ غَيْرَ مُبْدِيَةٍ زِينَتَهَا وَلَا مُخْتَلِيَةٍ بِهِ.

سَكَنُ الْمُحِدَّةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ عِنْدَمَا بَلَغَهَا نَعْيُ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَيْتُ مِلْكًا لِزَوْجِهَا، أَوْ مُعَارًا لَهُ، أَوْ مُسْتَأْجَرًا.وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِيَّةِ وَالْبَدَوِيَّةِ، وَالْحَائِلِ وَالْحَامِلِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَحَدِيثُ «فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ وَأَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةَ.قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ.قَالَتْ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ».رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.

وَذَهَبَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-.

وَحَاصِلُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَهِيَ قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} نَسَخَتِ الْآيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلًا، وَهِيَ قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.وَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَا زَادَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَأَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّ إِسْكَانِهَا بِالتَّرِكَةِ.

مُسَوِّغَاتُ تَرْكِ مَسْكَنِ الْإِحْدَادِ:

20- إِنْ طَرَأَ عَلَى الْمُحِدَّةِ مَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَهَا عَنِ الْمَسْكَنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ فِيهِ، جَازَ لَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَأَنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ عَدُوًّا، أَوْ أُخْرِجَتْ مِنَ السَّكَنِ مِنْ مُسْتَحِقٍّ أَخْذَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَارِيَّةً أَوْ إِجَارَةً انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ مُنِعَتِ السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أَوْ طُلِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.وَإِذَا انْتَقَلَتْ تَنْتَقِلُ حَيْثُ شَاءَتْ إِلاَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُهَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فِي مَكَانِ وُجُوبِهَا، فَإِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ يَجِدُهُمْ فِيهِ.وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَاجِبَ سَقَطَ لِعُذْرٍ وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ لَهُ بِبَدَلٍ فَلَا يَجِبُ، وَلِعَدَمِ النَّصِّ عَلَى اخْتِيَارِ الْأَقْرَبِ.

أَمَّا الْبَدَوِيَّةُ إِذَا انْتَقَلَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ هِيَ مَعَهُمْ أَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَأْمَنُ مَعَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عَنِ السَّكَنِ الَّذِي بَدَأَتْ فِيهِ الْإِحْدَادَ كَذَلِكَ.وَإِذَا مَاتَ رُبَّانُ السَّفِينَةِ، أَوْ أَحَدُ الْعَامِلِينَ فِيهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ زَوْجَتُهُ، وَلَهَا مَسْكَنٌ خَاصٌّ بِهَا فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ فِيهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ.

أُجْرَةُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ، وَنَفَقَتُهَا:

21- اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ أَجْرُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ هَلْ هُوَ عَلَيْهَا أَمْ مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أُجْرَةَ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، مِنْ مَالِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَوْرِيثِهَا، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْمُحِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ- عِنْدَهُمْ- فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ مَالِهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا سُكْنَاهَا مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ مَالِهَا، لِلدَّلِيلِ السَّابِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَسْكُنُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَسْكَنٍ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا وَعَجَّلَ أُجْرَتَهُ فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا حَتَّى لَوْ بِيعَتِ الدَّارُ، فَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مُدَّةُ إِحْدَادِهَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا مِنْ مَالِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ عَلَى مَالِ التَّرِكَةِ بِشَيْءٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَامِلُ وَالْحَائِلُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحِدَّةَ تَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ السَّكَنِ مِنَ التَّرِكَةِ، بَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ.وَتُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ وَالدُّيُونِ الْمُرْسَلَةِ فِي الذِّمَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَائِلًا أَمْ حَامِلًا، مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ.

وَفِي غَيْرِ الْأَظْهَرِ أَنَّ أُجْرَةَ السُّكْنَى عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ، فَتَلْزَمُهَا، كَالنَّفَقَةِ.وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ أُجْرَةُ سُكْنَى يَوْمِ الْوَفَاةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَسْكُنُ فِيمَا يَمْلِكُهُ أَوْ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ قَبْلَ الْوَفَاةِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ، فَالْحَائِلُ أُجْرَةُ سُكْنَاهَا فِي الْإِحْدَادِ مِنْ مَالِهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا.وَأَمَّا الْحَامِلُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: لَهَا أُجْرَةُ السُّكْنَى مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَكَانَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، كَالْمُفَارَقَةِ فِي الْحَيَاةِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ.هَذَا عَنْ أُجْرَةِ سُكْنَى الْمُحِدَّةِ، أَمَّا نَفَقَتُهَا فَمَوْطِنُ بَحْثِهِ مُصْطَلَحُ (عِدَّةٌ)؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّفَقَةِ تَابِعٌ لِلِاعْتِدَادِ لَا لِلْإِحْدَادِ.

حَجُّ الْمُحِدَّةِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ تَفُوتُ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ.فَإِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ بِالْقُرْبِ، أَيْ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ، رَجَعَتْ لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ.وَمَتَى رَجَعَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ، أَتَتْ بِهِ فِي مَنْزِلِهَا.وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَبَاعَدَتْ بِأَنْ قَطَعَتْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا فِي الرُّجُوعِ مَشَقَّةً، فَلَا يَلْزَمُهَا.فَإِنْ خَافَتْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمَخَاطِرَ فِي الرُّجُوعِ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي رُجُوعِهَا.وَإِنْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لَزِمَتْهَا الْإِقَامَةُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَسْبَقُ.

وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْحَجِّ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا، فَلَا يَنْبَغِي لِمُعْتَدَّةٍ أَنْ تَحُجَّ، وَلَا تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقَدْ تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- مِنْ قَصْرِ النَّجَفِ.فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ بِأَنْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، بَقِيَتْ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَلَا تَرْجِعُ لِمَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ سَابِقٌ عَلَى الْعِدَّةِ.وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بَعْدَ مُوجِبِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا تَمْضِي عَلَى إِحْرَامِهَا الطَّارِئِ، وَأَثِمَتْ بِإِدْخَالِ الْإِحْرَامِ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَسْكَنِهَا.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّافِعِيَّةُ الْمَسَافَةَ الَّتِي تَقْطَعُهَا الْمُحِدَّةُ الْمُحْرِمَةُ بِالْأَيَّامِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ.وَلَكِنْ قَالُوا: إِنْ فَارَقَتِ الْبُنْيَانَ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الرُّجُوعِ وَالتَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِيهِ وَهُوَ السَّفَرُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَعُدَتْ.

23- وَمِثْلُ الْحَجِّ كُلُّ سَفَرٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْشِئَ ذَلِكَ السَّفَرَ وَهِيَ مُحِدَّةٌ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدَّ.

وَحَاصِلُ مَا تُفِيدُهُ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ الزَّوْجُ بِالسَّفَرِ لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَلَغَهَا الْخَبَرُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ؛ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي السَّفَرِ تَمْضِي مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ لِتَعْتَدَّ وَتُحِدَّ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ.وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصِدِهَا فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا وَبَيْنَ الْعَوْدَةِ، وَالْعَوْدَةُ أَوْلَى.إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ الْعَوْدَةَ، وَلَوْ بَلَغَتْ مَقْصِدَهَا، مَا لَمْ تُقِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْرَمَتْ فَإِنَّهَا تَمْضِي عِنْدَهُمْ فِي حَجَّتِهَا.

اعْتِكَافُ الْمُحِدَّةِ:

24- الْمُعْتَكِفَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، كَمَا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، أَوْ إِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، أَوْ لِفِتْنَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ.

وَإِذَا خَرَجَتِ الْمُعْتَكِفَةُ لِهَذِهِ الضَّرُورَاتِ، فَهَلْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا؟ وَهَلْ تَلْزَمُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهَا إِذَا لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِلْعِدَّةِ، فَمَكَثَتْ فِي الِاعْتِكَافِ، عَصَتْ وَأَجْزَأَهَا الِاعْتِكَافُ.قَالَهُ الدَّارِمِيُّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: «تَمْضِي الْمُعْتَكِفَةُ عَلَى اعْتِكَافِهَا إِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ.وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.أَمَّا إِذَا طَرَأَ اعْتِكَافٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلَا تَخْرُجُ لَهُ، بَلْ تَبْقَى فِي بَيْتِهَا حَتَّى تُتِمَّ عِدَّتَهَا، فَلَا تَخْرُجُ لِلطَّارِئِ، بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى السَّابِقِ» (ر: اعْتِكَافٌ).

عُقُوبَةُ غَيْرِ الْمُلْتَزِمَةِ بِالْإِحْدَادِ:

25- يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْإِحْدَادِ أَنَّ الْمُحِدَّةَ الْمُكَلَّفَةَ لَوْ تَرَكَتِ الْإِحْدَادَ الْوَاجِبَ كُلَّ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ فَلَا حَرَجَ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَقَدْ أَثِمَتْ مَتَى عَلِمَتْ حُرْمَةَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.وَلَكِنَّهَا لَا تُعِيدُ الْإِحْدَادَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ قَدْ مَضَى، وَلَا يَجُوزُ عَمَلُ شَيْءٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ مَعَ الْعِصْيَانِ، كَمَا لَوْ فَارَقَتِ الْمُعْتَدَّةُ الْمَسْكَنَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا مُلَازَمَتُهُ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنَّهَا تَعْصِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا. (ف 24) وَعَلَى وَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفَةِ إِلْزَامُهَا بِالْإِحْدَادِ فِي مُدَّتِهِ وَإِلاَّ كَانَ آثِمًا. وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ عُقُوبَةٌ مُحَدَّدَةٌ لِمَنْ تَرَكَتِ الْإِحْدَادَ، وَلَكِنَّهَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا عَصَتْ.

هَذَا وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعَزِّرَ الْمَرْأَةَ الْمُكَلَّفَةَ عَلَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ إِذَا تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّعْزِيرِ.

26- وَإِذَا أَمَرَ الْمُطَلِّقُ أَوِ الْمَيِّتُ قَبْلَ الْمَوْتِ، الزَّوْجَةَ بِتَرْكِ الْإِحْدَادِ، فَلَا تَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ، فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِسْقَاطَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنِ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا لِئَلاَّ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 1)

إِسْقَاطٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْقَاطِ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ، يُقَالُ: سَقَطَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوَانِ: إِذَا وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِلُ: أَلْقَتِ الْجَنِينَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، أَوِ الْحَقِّ، لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لِأَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى وَلَا يَنْتَقِلُ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَبِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ: الْحَطُّ، إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إِسْقَاطِ الْحَامِلِ الْجَنِينَ.وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (إِجْهَاضٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِبْرَاءُ:

2- الْإِبْرَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، أَمَّا مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا فَيَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.وَتَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: هُوَ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، إِسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدِينِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ لِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ لَا لِبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهِهِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ.وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ.غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ يَقُولُ: الْإِسْقَاطُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.

ب- الصُّلْحُ:

3- الصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى: الْمُصَالَحَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالسِّلْمِ.

وَشَرْعًا: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.

وَيَجُوزُ فِي الصُّلْحِ إِسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ أَمْ سُكُوتٍ.فَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَلِ فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ إِسْقَاطًا، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

ج- الْمُقَاصَّةُ:

4- يُقَالُ تَقَاصَّ الْقَوْمُ: إِذَا قَاصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي الْحِسَابِ، فَحَبَسَ عَنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.

وَالْمُقَاصَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ هِيَ إِسْقَاطُ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مِثْلِ مَا عَلَيْهِ.فَهِيَ إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُقَاصَّةُ أَخَصَّ مِنَ الْإِسْقَاطِ.وَلَهَا شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.

د- الْعَفْوُ:

5- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ وَتَرْكُ الْمُطَالَبَةِ، يُقَالُ: عَفَوْت عَنْ فُلَانٍ إِذَا تَرَكْتَ مُطَالَبَتَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.أَيِ التَّارِكِينَ مَظَالِمَهُمْ عِنْدَهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا.فَالْعَفْوُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ مُسَاوٍ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ.

هـ- التَّمْلِيكُ:

6- التَّمْلِيكُ: نَقْلُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْقُولُ عَيْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، أَمْ مَنْفَعَةً كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ، أَمْ بِدُونِهِ كَالْهِبَةِ.وَالتَّمْلِيكُ بِعُمُومِهِ يُفَارِقُ الْإِسْقَاطَ بِعُمُومِهِ، إِذْ التَّمْلِيكُ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا، كَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ فِيهِ الْقَبُولَ.

صِفَةُ الْإِسْقَاطِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- الْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ حَقًّا لِغَيْرِهِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَتَرْكِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ الشُّفْعَةَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلصَّغِيرِ، إِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَالِهِ بِمَا فِيهِ حَظٌّ وَغِبْطَةٌ لَهُ.وَكَالطَّلَاقِ الَّذِي يَرَاهُ الْحَكَمَانِ إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الرَّجُلِ إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا.

وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ.وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّصَدُّقِ بِحَقِّ الْقِصَاصِ.وَفِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ.، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ هُنَا وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِنْظَارُ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَكَذَلِكَ عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا.

وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالطَّلَاقِ بِدُونِ سَبَبٍ يَسْتَدْعِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ».

الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْقَاطِ:

8- تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَا تَأْتِي عَفْوًا، بَلْ تَكُونُ لَهَا بَوَاعِثُ، قَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ اسْتِجَابَةً لِأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.

وَالْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَاعِثُ الشَّرْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ.

فَمِنَ الْبَوَاعِثِ الشَّرْعِيَّةِ:

الْعَمَلُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ.

وَمِنْهَا: الْإِبْقَاءُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ.

وَمِنْهَا: مُعَاوَنَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُمْ إِنْ وُجِدَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا: إِرَادَةُ نَفْعِ الْجَارِ، كَمَا فِي وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِذِكْرِهِ.

أَمَّا الْبَوَاعِثُ الشَّخْصِيَّةُ:

فَمِنْهَا: رَجَاءُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَةَ إِلَى إِبْرَاءِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ.

وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ، إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي أَدَاءِ الْمَالِ الْمُكَاتَبِ، عَلَيْهِ، فَعَجَّلَ أَدَاءَ النُّجُومِ (الْأَقْسَاطِ)، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَوْ أَبَى السَّيِّدُ أَخْذَ الْمَالِ جَعَلَهُ الْإِمَامُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ.

وَمِنْهَا: الِانْتِفَاعُ الْمَادِّيُّ، كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ.

أَرْكَانُ الْإِسْقَاطِ

9- رُكْنُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الطَّرَفَانِ- الْمُسْقِطُ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْمُسْقَطُ عَنْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ الْحَقُّ قِبَلَهُ- وَالْمَحَلُّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ.

الصِّيغَةُ:

10- مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ.وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ:

11- الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ، هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْقَاطِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَوْلِ، مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ سُكُوتٍ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ قَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ تُعْرَفُ بِهَا، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ، وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلَاقٌ، وَعَنِ الْقِصَاصِ عَفْوٌ، وَعَنِ الدَّيْنِ إِبْرَاءٌ.

وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْإِسْقَاطَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً، أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ.ر: (طَلَاق، عِتْق).

أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا هُوَ الْإِسْقَاطُ.وَمَا بِمَعْنَاهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا مُتَعَدِّدَةً تُؤَدِّي مَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: التَّرْكِ وَالْحَطِّ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ وَالْإِبْرَاءِ فِي بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ وَالْإِحْلَالِ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ حِينَ لَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّمْلِيكُ، وَيَكُونُ الْمَقَامُ دَالًّا عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكَهُ لَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ عَفَا عَنِ الدَّيْنِ، صَحَّ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَكَانَ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ.وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ.

قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ.

وَكَمَا يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الْمُعَنْوَنَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ فَاقِدِ النُّطْقِ.

كَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالسُّكُوتِ، كَمَا إِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَسَكَتَ مَعَ إِمْكَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ سُكُوتَهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ.

وَيَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ.

الْقَبُولُ:

12- الْأَصْلُ فِي الْإِسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ.

وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُقَابَلْ بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَالطَّلَاقِ، فَلَا يَحْتَاجُ الطَّلَاقُ إِلَى قَبُولٍ.

13- وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَلُ بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى قَبُولِ دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.

وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ.وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ، فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي.

وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ».وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

14- وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ.وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ.بَلْ إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ.

وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ الْكَفِيلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولٍ.

15- وَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِمَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ.

وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- عَلَى رَأْيِهِمْ- نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ.

وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

رَدُّ الْإِسْقَاطِ:

16- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لَا تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَبِالْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.وَلَا يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ.

17- أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، نَظَرًا لِجَانِبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَلِمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلرَّدِّ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ الَّتِي يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمُرُوءَاتِ.

18- هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

أ- إِذَا أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.

ب- إِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَقِيلَ يَرْتَدُّ.

ج- إِذَا طَلَبَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ فَأَبْرَأَهُ الدَّائِنُ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

د- إِذَا قَبِلَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ خُرُوجًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ.

وَأَمَّا الْقَبُولُ إِذَا تَمَّ فَلَا مَعْنَى لِلرَّدِّ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَدِينِ الْبَرَاءَةَ يُعْتَبَرُ قَبُولًا.

19- وَمَعَ اتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مِنْ حَيْثُ تَقْيِيدُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُمَا قَوْلَانِ.وَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رَدَّ لَا يَرْتَدُّ فِي الصَّحِيحِ.

التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالْإِضَافَةُ فِي الْإِسْقَاطَاتِ:

20- التَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا، كَإِنْ وَإِذَا، وَانْعِقَادُ الْحُكْمِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ.

21- وَالتَّقْيِيدُ بِالشُّرُوطِ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا.

22- أَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ إِلاَّ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ الْبَدْءُ بِهِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْقَاطَاتِ هُوَ:

أَوَّلًا: تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الشَّرْطِ:

23- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى الشَّرْطِ الْكَائِنِ بِالْفِعْلِ (أَيِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الْإِسْقَاطِ)، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْجَزِ، كَقَوْلِ الدَّائِنِ لِغَرِيمِهِ: إِنْ كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا، وَكَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: بَاعَنِي فُلَانٌ دَارَكَ بِكَذَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَذَا فَقَدْ أَجَزْتُهُ، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ اشْتَرَى هَذَا الشِّقْصَ بِكَذَا فَقَدْ أَسْقَطْتُ الشُّفْعَةَ.

كَذَلِكَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيقُ عَلَى مَوْتِ الْمُسْقِطِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً، كَقَوْلِهِ لِمَدِينِهِ: إِذَا مِتَّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ.

وَهَذَا فِيمَا عَدَا مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى مَوْتِهِ، إِذْ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ عَدَمِ وُقُوعِهِ.

أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ إِلَى الْآتِي:

24- (أ) إِسْقَاطَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ.وَهَذِهِ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَضَعُوا هُنَا ضَابِطًا فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ مُلَائِمًا أَمْ غَيْرَ مُلَائِمٍ.وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهَا، كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ.وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَحْيَانًا بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ.وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ، فَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْمِعْرَاجِ: غَيْرُ الْمُلَائِمِ هُوَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلطَّالِبِ أَصْلًا، كَدُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ- بَعْدَ الْكَلَامِ عَنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ- قَالَ: وَجْهُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلَهُ تَعَامُلٌ، فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا التَّقْسِيمِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حِلًّا مَحْضًا، يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ قَطْعًا كَالْعِتْقِ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَالْفَسْخِ وَالْإِبْرَاءِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى.وَقَدْ وَرَدَ الْكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ الْمَالِكِيِّ، وَمِنْهَا: إِذَا طَلَبَتِ الْحَاضِنَةُ الِانْتِقَالَ بِالْأَوْلَادِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَقَالَ الْأَبُ: إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ عَلَيْكَ، لَزِمَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ لِلْأَبِ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِذَلِكَ.وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ: إِنِ اشْتَرَيْتَ ذَلِكَ الشِّقْصَ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكَ شُفْعَتِي عَلَى دِينَارٍ تُعْطِينِي إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْكَ فَلَا جُعْلَ لِي عَلَيْكَ، جَازَ ذَلِكَ.

25- (ب) إِسْقَاطَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبَةِ.وَمَا يَلْحَقُ بِهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ.

فَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقُهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُمَا إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهِمَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَأَمَّا الْخُلْعُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، بِاعْتِبَارِهِ طَلَاقًا، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.

وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهَا بِالشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيِّ: الْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ (أَيْ كَالْمُكَاتَبَةِ) لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ.

26- (ج) الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ.وَمَنَعَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ صُوَرٍ يَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، وَهِيَ:

(1) لَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ صَحَّ.

(2) تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ ضِمْنًا، كَمَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ، ثُمَّ كَاتَبَهُ فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ مِنَ النُّجُومِ (أَيِ الْأَقْسَاطِ).

(3) الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطِ بِالشَّرْطِ:

27- يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَاسِدًا مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يَبْطُلُ التَّصَرُّفُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ.وَنَتْرُكُ التَّفَاصِيلَ لِمَوَاضِعِهَا.

لَكِنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ أَنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.

وَيَتَبَيَّنُ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الضَّوَابِطِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي أَوْرَدَهَا غَيْرُهُمْ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ، الْفَاسِدِ.

وَقَالُوا أَيْضًا: مَا لَيْسَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ وَابْنُ عَابِدِينَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ وَلَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَمِنْهَا: الطَّلَاقُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ وَالْإِيصَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَرْبِطُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ، وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ، وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَهُمْ: لَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا وَاشْتَرَطَتِ الرَّجْعَةَ، لَزِمَ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.وَلَوْ صَالَحَ الْجَانِي وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَرْحَلَ مِنَ الْبَلَدِ، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالصُّلْحُ لَازِمٌ، وَكَانَ سَحْنُونٌ يُعْجِبُهُ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ.

وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: إِذَا قُيِّدَ الْخُلْعُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ صَحَّ الْخُلْعُ وَلَغَا الشَّرْطُ.وَفِي الْمُغْنِي: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا تُبْطِلُهُمَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.

ثَالِثًا: إِضَافَةُ الْإِسْقَاطِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ:

28- مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ تَمَّامِ الصِّيغَةِ، وَلَا تَقْبَلُ إِرْجَاءَ حُكْمِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَالزَّوَاجِ وَالْبَيْعِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَكُونُ طَبِيعَتُهَا تَمْنَعُ ظُهُورَ أَثَرِهَا إِلاَّ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَالْوَصِيَّةِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقَعُ حُكْمُهُ مُنْجَزًا، كَالطَّلَاقِ تَنْتَهِي بِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا تَنْتَهِي الزَّوْجِيَّةُ إِلاَّ عِنْدَ حُصُولِهِ.

وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُنْجَزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ أَضَافَهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ أَشْبَهُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ.

وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ.وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.

مَنْ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ (الْمُسْقِطُ):

29- الْإِسْقَاطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَسَاسًا، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهَا مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَإِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا شُبْهَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.

وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ نَتِيجَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الشِّرَاءِ.عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ:

30- الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَنَازَلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ، فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ.وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا.فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنَ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ عِوَضٍ لَهُ.

وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلَا عَلَى الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.ر: (حَجْر، وَسَفَه، وَأَهْلِيَّة).

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْمُكْرَهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مِنَ الْمُكْرَهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ.وَيُنْظَرُ فِي (إِكْرَاهٌ).

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ إِسْقَاطُهُ لِكُلِّ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ بِأَقَلَّ لِلْوَارِثِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.ر: (وَصِيَّة).

وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ.وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيّ).

وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ، وَبِالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَفِي إِبْرَاءٍ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيلِ، إِذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ لَهُ: أَبْرِئْ نَفْسَكَ.وَيُرَاعَى فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَمَا أُذِنَ فِيهِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (وَكَالَة).

وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلَا إِسْقَاطُ الْمَهْرِ وَلَا الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلَا تَرْكُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (ر: وِصَايَة وِلَايَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 2)

إِسْقَاطٌ -2

الْمُسْقَطُ عَنْهُ:

31- الْمُسْقَطُ عَنْهُ هُوَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ تَقَرَّرَ قِبَلَهُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا، وَأَغْلَبُ الْإِسْقَاطَاتِ يَكُونُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ أَوْ لَهُ مَعْرُوفًا، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا نَتَصَوَّرُ الْجَهَالَةَ فِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ وَفِي الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مَعْلُومًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ شَخْصًا أَوْ رَجُلًا مِمَّا لِي قِبَلَهُ لَا يَصِحُّ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيَّ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَهَالِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ مُعَيَّنِينَ، وَعِبَارَةً عَنْ أَشْخَاصٍ مَعْدُودِينَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ.

كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَوْ أُبْرِئَ غَيْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَصِحُّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أُبْرِئَ قَاتِلٌ مِنْ دِيَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ فِي ذَلِكَ، لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.أَمَّا لَوْ أُبْرِئَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ، أَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْمُبَرَّأَ مِنْ قَاتِلٍ أَوْ عَاقِلَةٍ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، لِانْصِرَافِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، حَيْثُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْإِنْكَارِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِ الدَّيْنِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ بِتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمِصْرِيِّينَ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: يَخْتَارُ وَاحِدَةً لِلطَّلَاقِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا.

مَحَلُّ الْإِسْقَاطِ:

32- الْمَحَلُّ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ يُسَمَّى حَقًّا، وَهُوَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ، وَمَنَافِعَهَا، وَالدُّيُونَ، وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ.

وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ- بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ- يُصْبِحُ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَيُمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ.

وَالْإِسْقَاطُ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ قَابِلًا لِلْإِسْقَاطِ، بَلْ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْبَلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ، كَكَوْنِهِ مَجْهُولًا، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَهَكَذَا.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ

أَوَّلًا- الدَّيْنُ:

33- يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِسْقَاطُ خَاصًّا بِدَيْنٍ أَمْ عَامًّا لِكُلِّ الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُعَلَّقًا أَمْ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.وَكَمَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ.

وَكَمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِدُونِ عِوَضٍ، يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ نَظِيرَ عِوَضٍ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَلِكَ، وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ:

أ- أَنْ يُعْطِيَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ نَظِيرَ الْإِبْرَاءِ وَيُبَرَّأُ الْمَدِينُ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

ب- يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَاصَّةِ، وَالْمُقَاصَّةُ بِالتَّرَاضِي تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا بِعِوَضٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا مِنَ اتِّحَادِ الدَّيْنِ قَدْرًا وَوَصْفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.

ج- كَذَلِكَ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ نَظِيرَ عِوَضِ صُورَةِ الصُّلْحِ.وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ الْإِسْقَاطَ إِلَى قِسْمَيْنِ: بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ مِنَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ الصُّلْحَ عَنَ الدَّيْنِ.

د- فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَيَكُونُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا.

هـ- وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ فِي صُوَرِ التَّعْلِيقِ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي سَيَّارَتَكَ أَسْقَطْتُ عَنْكَ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ.

و- وَالْإِبْرَاءُ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْخُلْعِ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِوَضِ.

ثَانِيًا: الْعَيْنُ

34- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ.وَذَلِكَ كَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ.وَالْعِتْقُ مَشْرُوعٌ بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ.كَذَلِكَ الْوَقْفُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْمُقْرِي: وَقْفُ الْمَسَاجِدِ إِسْقَاطُ مِلْكٍ إِجْمَاعًا، وَفِي غَيْرِهَا قَوْلَانِ.

وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الْعَيْنِ نَظِيرَ عِوَضٍ عَمَّنْ عَقَدَ الصُّلْحَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ، أَمْ سُكُوتٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةُ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ.بَلْ إِنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ أَجَازَ الصُّلْحَ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِمَالٍ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يُجِيزُونَ الصُّلْحَ عَنْ إِنْكَارٍ.

وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ كَالْبَيْعِ، إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ كَالْإِجَارَةِ إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ كَالْهِبَةِ إِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الْعَيْنِ.وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَالٍ شُرُوطُهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (صُلْح).

ثَالِثًا: الْمَنْفَعَةُ:

35- الْمَنَافِعُ حُقُوقٌ تَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، أَمْ كَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ (أَيِ الْعَيْنِ) بِمُقْتَضَى عَقْدٍ، كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهِ، وَالِاخْتِصَاصِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ مَالِكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا أَوْ مُسْتَحِقِّ مَنْفَعَتِهَا، إِذْ كُلُّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَصُوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:

أ- مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ، فَمَاتَ الْمُوصِي، وَبَاعَ الْوَارِثُ الدَّارَ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، جَازَ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ.

ب- مَنْ وَصَّى بِعَيْنِ دَارٍ لِزَيْدٍ، وَبِالْمَنْفَعَةِ لِعَمْرٍو، فَأَسْقَطَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ حَقَّهُ، سَقَطَ بِالْإِسْقَاطِ.

ج- مَنْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَبْطَلْتُ حَقِّي فِي الْمَسِيلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ دُونَ الرَّقَبَةِ بَطَلَ حَقُّهُ قِيَاسًا عَلَى حَقِّ السُّكْنَى.

د- يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِبُيُوتِ الْمَدَارِسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَسْقَطَهُ صَاحِبُهُ.فَإِنْ أَسْقَطَهُ مُدَّةً مَخْصُوصَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَائِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَعُودُ لَهُ.

هـ- أَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِدُونِ عِوَضٍ.

36- أَمَّا إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَيْسَ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ، أَمْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ

وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَإِنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَهُمْ.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَة، ارْتِفَاق، إِعَارَة، وَصِيَّة، وَقْف).

37- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ: مَا لَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ مَنْ أَوْصَى لَهُ مُوَرِّثُهُمْ بِسُكْنَى دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ التَّرِكَةِ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ جَازَ ذَلِكَ صُلْحًا، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسَلُّمِ الدَّارِ لَهُ جَازَ.

رَابِعًا: الْحَقُّ الْمُطْلَقُ

38- يَنْقَسِمُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الْآتِي:

حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ، أَوْ هُوَ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

وَحَقٌّ خَالِصٌ لِلْعِبَادِ، وَهُوَ مَصَالِحُهُمُ الْمُقَرَّرَةُ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.

وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ (حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ) مَوْكُولٌ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ثُبُوتًا وَإِسْقَاطًا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

39- ذِكْرُ حَقِّ اللَّهِ هُنَا فِيمَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلْإِسْقَاطِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، أَمَّا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

وَحُقُوقُ اللَّهِ: إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ كَالصَّلَاةِ، أَوْ جَامِعَةٌ لِلْبَدَنِ وَالْمَالِ كَالْحَجِّ.وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ.وَإِمَّا كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.

وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِلَ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطَ الْحَدُّ، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ.

وَبِإِيجَازٍ نَذْكُرُ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ كَمَا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ:

40- حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي الْجُمْلَةِ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّرْعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ، تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَكَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ.وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُلِّ عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً.وَمِنْ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطِ الصَّوْمِ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ.

وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْعَبْدِ.

كَذَلِكَ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَمَّنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ، إِذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ إِنَّ الْقَرَافِيَّ يَقُولُ: يَكْفِي فِي سُقُوطِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ظَنُّ الْفِعْلِ، لَا وُقُوعُهُ تَحْقِيقًا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ لِلضَّرُورَةِ، كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ، لِقَوْلِ الرَّاوِي: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ».وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ: مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلَاقِ، لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالِافْتِدَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ لِيَتَخَلَّصَ الْعَبْدُ مِنْ دَوَامِ الرِّقِّ.وَكُلُّ ذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي بَابَيِ: الرُّخْصَةِ وَالْأَهْلِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.

حُقُوقُ الْعِبَادِ

41- الْمَقْصُودُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ هُنَا، مَا عَدَا الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَالدُّيُونِ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ.وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ- سَقَطَ.

فَالشَّفِيعُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِذَا أَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ وَتَرَكَ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ، وَوَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، فَإِذَا عَفَا وَأَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْغَانِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَيَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ مِنْهُمَا هَذَا الْحَقُّ أَنْ يُسْقِطَهُ.وَهَكَذَا مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ حَقٌّ، وَهُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، كَانَ مِنْ حَقِّهِ إِسْقَاطُهُ، إِلاَّ لِمَانِعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا إِسْقَاطُهَا نَظِيرَ عِوَضٍ فَبَيَانُهُ كَالْآتِي:

42- فَرَّقَ الْكَثِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِقَاعِدَةٍ هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.

وَفَرَّقَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهُ أَصَالَةً، فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.

وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، فَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ بَطَلَتْ وَرَجَعَ بِهِ، وَلَوْ صَالَحَ الْمُخَيَّرَةَ بِمَالٍ لِتَخْتَارَهُ بَطَلَ وَلَا شَيْءَ لَهَا، وَلَوْ صَالَحَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِمَالٍ لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَمْ يَلْزَمْ، وَلَا شَيْءَ لَهَا.هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الشُّفْعَةِ.وَخَرَجَ عَنْهَا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الرِّقِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إِذَا صَالَحَ الْمَكْفُولَ لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَجِبْ، وَفِي بُطْلَانِهَا رِوَايَتَانِ.

وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ نَفْسَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْأَشْبَاهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَا ثَبَتَ لِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَمَّا رَضِيَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ وَحَقُّ الرِّقِّ فَقَدْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَصَالَةً، لَا عَلَى وَجْهِ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ.وَسَارَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْمَحَلِّ أَصَالَةً.

أَمَّا الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْحَضَانَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ.وَالْجُمْهُورُ أَحْيَانًا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي سَبَبِ الِاعْتِيَاضِ، وَأَحْيَانًا يَخْتَلِفُونَ عَنْهُمْ.وَسَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.

أ- الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَيُوَافِقُهُمْ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْعِلَّةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.فِي حِينِ أَجَازَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الِاعْتِيَاضُ، مِنَ الْمُشْتَرِي لَا مِنْ غَيْرِهِ.

ب- هِبَةُ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً فَلَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الزَّوْجَةَ مِنْ حَقِّهَا كَوْنُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَهُوَ لَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّهَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ عَنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ.

ج- إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْحَقُّ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ الْعَيْبِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الرِّضَى بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَبَيْنَ الرَّدِّ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، وَيُخَالِفُ الْمُصَرَّاةُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ بِالتَّدْلِيسِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

د- الْقِصَاصُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

هـ- يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الدَّعْوَى، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالشِّرْبِ، إِلاَّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَدَعْوَى الْحَدِّ وَالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الدَّعْوَى لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهُوَ جَائِزٌ.

و- يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي فِيهِ حَقُّ اللَّهِ كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ فِيهِ.

ز- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَقُّ الْحَاضِنِ.

ح- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ

وَنَكْتَفِي بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، إِذْ مِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ

أ- الْعَيْنُ:

43- الْعَيْنُ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا، جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.

وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ.أَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ- أَيْ رَفْعُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ مَثَلًا: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَالَ مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ- فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَا يُفِيدُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُسْقِطِ عَنِ الْعَيْنِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْمُسْقَطِ لَهُ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.إِلاَّ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِتْقِ وَالْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

44- لَكِنْ لَوْ حَدَثَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَالِكِ، وَكَانَتِ الْعَيْنُ تَحْتَ يَدِ الْمُسْقَطِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً هَالِكَةً صَحَّ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إِسْقَاطًا لِقِيمَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَمَعْنَى إِسْقَاطِهَا إِسْقَاطُ ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، وَتَصِيرُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْنِهَا كَالْأَمَانَةِ، لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.وَقَالَ زُفَرُ- رحمه الله-: لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَتَبْقَى مَضْمُونَةً.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً، فَالْبَرَاءَةُ عَنْهَا لَا تَصِحُّ دِيَانَةً، بِمَعْنَى أَنَّ مَالِكَهَا إِذَا ظَفِرَ بِهَا أَخَذَهَا.وَتَصِحُّ قَضَاءً، فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ.وَقَدْ قَالُوا: الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا صَحِيحٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمَانَةِ.وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ بِقِيمَتِهَا إِذَا فَاتَتْ، وَالطَّلَبُ بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً.وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَشْمَلُ الْأَمَانَاتِ وَهِيَ مُعَيَّنَاتٌ (وَهَذَا فِي الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ).كَذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْإِسْقَاطَ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.

ب- الْحَقُّ:

ذُكِرَ فِيمَا سَبَقَ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْهُمَا.

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

45- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ، كَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ عَلَى مَا سَبَقَ.فَحَقُّ اللَّهِ الْخَالِصُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، حَقُّ اللَّهِ هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ إِسْقَاطُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ مَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَانِعِي الزَّكَاةِ.حَتَّى إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ الدِّينِ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ، كَالْأَذَانِ، لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ.

46- كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ، كَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا- وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ- كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.وَكَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ، فَوَهَبَهُ كَيْلَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

47- وَتَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.وَفِي السَّرِقَةِ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْحَدَّ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَرَاكَ تَبْلُغُ بِهِ هَذَا، قَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لأَقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ».وَرَوَى عُرْوَةُ قَالَ: شَفَعَ الزُّبَيْرُ فِي سَارِقٍ فَقِيلَ: حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانُ، قَالَ: إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ، حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى السَّارِقِ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ، فَأَمَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ فَقَدْ أَجَازَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْفَعْ فِيهِ.

48- وَيُلَاحَظُ أَنَّ السَّرِقَةَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِيهَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ، إِلاَّ أَنَّ الْجَانِبَ الشَّخْصِيَّ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ نَاحِيَةَ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَالِ.أَمَّا الْحَدُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ.لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرُ زُفَرَ، وَرِوَايَةٌ لِأَبِي يُوسُفَ- لَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ لِلسَّارِقِ سَقَطَ الْحَدُّ.

وَالْقَذْفُ مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ (أَيِ الْإِسْقَاطُ) قَبْلَ التَّرَافُعِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الرَّفْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْعَفْوَ بَعْدَ التَّرَافُعِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ.وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ.وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ.

وَأَمَّا التَّعْزِيرُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ إِذَا كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ.وَعَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَيَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.

49- وَمَا دَامَتْ حُدُودُ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْعِبَادِ، فَبِالتَّالِي لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِيُطْلِقَهُ وَلَا يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ.وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَلاَّ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسَبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَهُنَاكَ أَيْضًا مَا يُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ أَصْلًا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُنَافَاةِ الْإِسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:

50- مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِصَاحِبِهَا، وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَهِيَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ كَالْوَصِيِّ فَفِيهِ خِلَافٌ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ قَبِلَ الْوِصَايَةَ، وَمَاتَ الْمُوصِي، فَلَا يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ لَهُ.وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسْقِطَ الْوَصِيُّ حَقَّهُ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُولِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ، كَالْقَاضِي وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).

السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ:

51- أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا فِي قوله تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ.وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا.وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ قَرَارُهَا فِي مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى».وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ، خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ر: (عِدَّة، سُكْنَى).

خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:

52- بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْأَخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ» فَالْخِيَارُ هُنَا لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ.

وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ تَبَايَعَا بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ الشَّرْطُ مَعَ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْع، خِيَار).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (إغماء)

إِغْمَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِغْمَاءُ: مَصْدَرُ (أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُلِ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْإِغْمَاءُ مَرَضٌ يُزِيلُ الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْلَ، وَقِيلَ: فُتُورٌ عَارِضٌ لَا بِمُخَدِّرٍ يُزِيلُ عَمَلَ الْقُوَى.

وَلَا يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ هَذَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النَّوْمُ:

2- عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ النَّوْمَ بِأَنَّهُ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَتَعَطَّلُ مَعَهَا الْقُوَى مَعَ سَلَامَتِهَا.

فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ اشْتِرَاكٌ وَاخْتِلَافٌ فِي تَعَطُّلِ الْقُوَى، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْإِغْمَاءَ مِنَ الْمَرَضِ، وَالنَّوْمَ مَعَ السَّلَامَةِ.

ب- الْعَتَهُ:

3- الْعَتَهُ: عِلَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الذَّاتِ، تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْلِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ: أَنَّ الْإِغْمَاءَ مُؤَقَّتٌ، وَالْعَتَهُ مُسْتَمِرٌّ غَالِبًا، وَالْإِغْمَاءُ يُزِيلُ الْقُوَى كُلَّهَا، وَالْعَتَهُ يُضْعِفُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ.

ج- الْجُنُونُ:

4- الْجُنُونُ: مَرَضٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَيَزِيدُ الْقُوَى غَالِبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ أَنَّ الْجُنُونَ يَسْلُبُ الْعَقْلَ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ وَقَعَ بِهِ مَغْلُوبًا لَا مَسْلُوبَ الْعَقْلِ.

وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالْإِغْمَاءِ، كَالسُّكْرِ وَالصَّرْعِ وَالْغَشْيِ، تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَتَكَلَّمُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْأَهْلِيَّةِ.

5- الْإِغْمَاءُ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَنَاطَهَا الْإِنْسَانِيَّةُ، أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يُنَافِيهَا، لِأَنَّ مَدَارَهَا الْعَقْلُ، وَهُوَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ:

6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى النَّوْمِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّائِمَ إِذَا أُوقِظَ اسْتَيْقَظَ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ.

ب- أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرَّجُلِ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ، إِلاَّ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا، وَإِنْ زَادَتْ سَقَطَ فَرْضُ الْقَضَاءِ فِي الْكُلِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّكْرَارِ فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ كَالْجُنُونِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ إِذَا صَارَتِ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّكْرَارُ.

لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ أَقَامَا الْوَقْتَ مَقَامَ الصَّلَوَاتِ تَيْسِيرًا فَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا غُشِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي، ثُمَّ اسْتَفَاقَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ (أَيْ عَمَّارٌ): هَلْ صَلَّيْتُ؟ فَقَالُوا: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: أَعْطُونِي وُضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ.وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ قَالَ: الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ يُصَلِّي مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَاةً مِثْلَهَا قَالَ: قَالَ عِمْرَانُ: زَعَمَ، وَلَكِنْ لِيُصَلِّهِنَّ جَمِيعًا، وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي سُنَنِهِ وَهَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ النَّوْمَ.

ج- أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الصِّيَامِ:

8- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ قَضَاءَ الصِّيَامِ، فَلَوْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ جَمِيعَ الشَّهْرِ، ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، إِلاَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ.

وَاسْتَدَلَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّ الْإِغْمَاءَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إِلَى زَوَالِهِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ يَكُونُ بِزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ بِالْحَرَجِ، وَلَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ بِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ بِهِ، لِأَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَامْتِدَادُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ نَادِرٌ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ شَهْرًا بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ نَادِرًا فَلَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

9- وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُفِقْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ.قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ.فَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْإِمْسَاكُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُجْزِهِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ صَوْمُهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ صَحَّتْ وَزَوَالُ الِاسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ كَالنَّوْمِ.

وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصِّيَامَ وَأَفَاقَ لَحْظَةً فِي النَّهَارِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ، أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ، اكْتِفَاءً بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِفَاقَةِ فِي جُزْءٍ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعَقْلِ فَوْقَ النَّوْمِ وَدُونَ الْجُنُونِ.فَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمُسْتَغْرِقَ مِنْهُ لَا يَضُرُّ لأُلْحِقَ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ اللَّحْظَةَ مِنْهُ تَضُرُّ كَالْجُنُونِ لأُلْحِقَ الْأَضْعَفُ بِالْأَقْوَى فَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَقِيلَ: إِنَّ الْإِفَاقَةَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ كَافِيَةٌ.وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْإِغْمَاءَ يَضُرُّ مُطْلَقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

د- أَثَرُهُ فِي الْحَجِّ:

10- الْإِغْمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ.فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ أَدَاءُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ هَلْ يَصِحُّ إِحْرَامُ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ؟ وَهَلْ إِذَا أَنَابَ أَحَدًا تُقْبَلُ الْإِنَابَةُ؟

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يُحْرِمُ عَنْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَائِلِ الْعَقْلِ وَبُرْؤُهُ مَرْجُوٌّ عَلَى الْقُرْبِ.وَلَوْ أَيِسَ مِنْ بُرْئِهِ بِأَنْ زَادَ إِغْمَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنْهُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ.

وَمَنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَلَا تُجْزِئُهُ إِنْ وَقَعَتْ، وَفَارَقَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ آيِسٌ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: لَا يَجُوزُ.وَلَوْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى إِذَا أَفَاقَ أَوِ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ.اسْتَدَلَّ الصَّاحِبَانِ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ، وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ؟ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ رُفَقَاءَهُ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدِ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ، فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيلِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُغْمَى.

عَلَيْهِ وَلَوْ خِيفَ فَوَاتُ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ عَدَمِ الطَّوْلِ ثُمَّ إِنْ أَفَاقَ فِي زَمَنٍ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ فِيهِ أَحْرَمَ وَأَدْرَكَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِحْرَامِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ.

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَفَاقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْوُقُوفِ وَلَوْ لَحْظَةً أَجْزَأَهُ.وَإِنْ لَمْ يُفِقْ مِنْ إِغْمَائِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِحْرَامِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَوُقُوفِهِمْ فِي عَرَفَةَ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي إِجْزَاءِ وُقُوفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يَكْتَفُونَ بِالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلِّ الْوُقُوفِ وَزَمَنِهِ مَعَ سَبْقِ الْإِحْرَامِ، فَوُقُوفُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُجْزِئٌ.

أَمَّا أَثَرُ الْإِغْمَاءِ عَلَى بَاقِي أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيُنْظَرُ فِي الْحَجِّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الزَّكَاةِ:

12- الْمُغْمَى عَلَيْهِ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَتَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْأَدَاءُ، وَعَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَ قَضَاؤُهَا وَلَوِ امْتَدَّ بِهِ الْإِغْمَاءُ، إِذِ امْتِدَادُهُ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ كَالنَّوْمِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ فِي فَوْتِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ النَّوْمَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالتَّنْبِيهِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ.وَتَبْطُلُ عِبَادَاتُ النَّائِمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.فَبُطْلَانُهَا بِالْإِغْمَاءِ أَوْلَى.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ فِي حَالِ نَوْمِهِ لَا طَلَاقَ لَهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ النَّائِمِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَ فَلَمَّا أَفَاقَ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ قَالَ: إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ، يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ كُلُّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ:

14- كُلُّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ يَصْدُرُ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنْ إِذَا تَمَّ التَّصَرُّفُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ثُمَّ طَرَأَ الْإِغْمَاءُ لَا يَنْفَسِخُ لِتَمَامِهِ فِي حَالٍ تَصِحُّ فِيهَا.

وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِغْمَاءِ الْمُؤَقَّتِ، وَلَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ الَّذِي يَئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ.

إِغْمَاءُ وَلِيِّ النِّكَاحِ:

15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أُغْمِيَ عَلَى وَلِيِّ النِّكَاحِ الْأَقْرَبِ فَنُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ إِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً كَيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ عَدَمَ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ مَعَ جَمْعِ وُجُودِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ، وَقِيلَ: تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ.

قَالُوا: الْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِغْمَاءِ بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ ذَهَابًا وَإِيَابًا انْتُظِرَ وَإِلاَّ قَامَ الْحَاكِمُ بِالتَّزْوِيجِ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لِأَنَّهُ إِذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ مَعَ صِحَّةِ عِبَارَةِ الْغَائِبِ فَمَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ بِإِغْمَائِهِ أَوْلَى.

إِغْمَاءُ الْقَاضِي:

16- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَفَاقَ لَا تَعُودُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ حَالَ إِغْمَائِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ تَعُودُ وِلَايَتُهُ إِذَا أَفَاقَ.

أَمَّا غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: لَوْ فَسَقَ الْقَاضِي أَوِ ارْتَدَّ أَوْ عَمِيَ ثُمَّ صَلُحَ وَأَبْصَرَ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ.

وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لَا يُعْزَلُ الْقَاضِي إِلاَّ بِالْكُفْرِ فَقَطْ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَتَعَيَّنُ عَزْلُ الْقَاضِي مَعَ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَةِ غَيْرِهِ. أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي التَّبَرُّعَاتِ:

17- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ كُلَّهَا لَا تَصِحُّ مِنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ وَلَا وَقْفُهُ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مَغْلُوبُ الْعَقْلِ فَلَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ.وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَمَالُ الْعَقْلِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:

18- تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِغْمَاءَ عَارِضٌ وَقْتِيٌّ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَفَهْمُ الْخِطَابِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ هِيَ سَتْرٌ لِلْعَقْلِ يَنْشَأُ عَنْهُ فَقْدٌ لِلْوَعْيِ وَفَقْدٌ لِلِاخْتِيَارِ، لِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ.فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ أُخِذَ بِهَا.فَإِذَا انْقَلَبَ النَّائِمُ عَلَى غَيْرِهِ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُخْطِئِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ.

هَلْ يُعْتَبَرُ إِغْمَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبًا؟

19- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ إِذَا تَبَيَّنَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ عَقِيبَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُبِيحُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا قَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ الْيَأْسَ مِنَ الْإِفَاقَةِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ الْمُسْتَدِيمَ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ (الْجُنُونُ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا...) وَمِثْلُهُ الْإِغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ بِقَوْلِ الْأَطِبَّاءِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ عَيْبًا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ وَيُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ فَهُوَ فِي الْإِجَارَةِ أَوْلَى.هَذَا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لَا تَأْبَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 3)

خَطَأٌ -3

رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْوَقْتِ:

41- لَوْ أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ جَامَعَ بِاجْتِهَادٍ يَظُنُّ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَقْتَ لَيْلٌ فَبَانَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَبَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ مُخْطِئًا، وَوَجَّهُوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ مَعْنًى، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ أَوِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ.

أَمَّا الْجِمَاعُ بِلَا عُذْرٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَدْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُخْطِئًا، مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ « أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ: قَالَ مَا لَكَ: قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ ».

قَالَ الْبَعْلِيُّ: وَحَكَى صَاحِبُ الرِّعَايَةِ رِوَايَةً: لَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ جَامَعَ يَعْتَقِدُهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.

هـ- الْحَجُّ:

أَوَّلًا- الْخَطَأُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ:

42- إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلَا قَضَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ وُقُوفَهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتَهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ جَمَاعَةُ الْمَوْقِفِ لَا أَكْثَرُهُمْ فَوَقَفُوا بِعَاشِرٍ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ وَأَنَّ اللَّيْلَةَ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ بِأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَكْمَلُوا الْعِدَّةَ فَإِذَا هُوَ الْعَاشِرُ، وَاللَّيْلَةُ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَيُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ دَمٌ، وَاحْتُرِزَ عَنْ خَطَأِ بَعْضِهِمْ وَلَوْ أَكْثَرَهُمْ فَوَقَفَ الْعَاشِرَ ظَنًّا أَنَّهُ التَّاسِعُ مُخَالِفًا لِظَنِّ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ.وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إِذَا وَقَفُوا فِي الْعَاشِرِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ إِنْ غَلِطُوا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَهُمْ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلَا قَضَاءَ، هَذَا إِذَا كَانَ الْحَجِيجُ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ قَلُّوا أَوْ جَاءَتْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ فَظَنَّتْ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفَاضُوا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِئُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ؛ وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي يُجْزِئُهُمْ كَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُ أَيْضًا.

وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ: « يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ »، وَحَدِيثِ: « الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ ».

أَمَّا لَوْ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ.قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَدَمِ إِجْزَاءِ الْوُقُوفِ فِيهِ وَبَيْنَ إِجْزَائِهِ بِالْعَاشِرِ، أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا فِيهِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- عليه الصلاة والسلام-، لِأَمْرِهِ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ حَيْثُ حَصَلَ الْغَيْمُ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِهِ بِالثَّامِنِ فَإِنَّهُ اجْتِهَادُهُمْ، أَوْ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْبَاطِلِ.

وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ؛ وَلِأَنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ لِحَدِيثِ « يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ » قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ فِي الْإِجْزَاءِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَا خَطَأٌ وَصَوَابٌ لَاسْتُحِبَّ الْوُقُوفُ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا خَطَأَ.

وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ، قَالَ الْحَطَّابُ: يَعْنِي إِذَا أَخْطَأَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْمَوْسِمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَجِّ، فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ يُجْزِئُهُمْ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فَقَطْ مِمَّا إِذَا أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا فِي الثَّامِنِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ لَا يُجْزِئُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: يُجْزِئُهُمْ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ.

ثَانِيًا: خَطَأُ الْحَجِيجِ فِي الْمَوْقِفِ:

43- إِذَا أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَوْقِفِ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:

44- لَوِ اجْتَهَدَ الْحَجِيجُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمُوا ثُمَّ بَانَ الْخَطَأُ عَامًّا فَهَلْ يَنْعَقِدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ وَلَا يَنْعَقِدُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ).

رَابِعًا: قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ خَطَأً:

45- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنَ الْمُحْرِمِينَ حَرَامٌ يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ، وَالسَّهْوُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.وَيُنْظَرُ: (إِحْرَامٌ، حَرَمٌ).

خَامِسًا- الْخَطَأُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ:

46- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ جَمِيعَهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا كَانَ إِتْلَافًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ تَمَتُّعًا كَلُبْسٍ وَتَطَيُّبٍ.وَفِي الْوَطْءِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ).

- و- الْأَضَاحِيُّ:

الْخَطَأُ فِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ:

47- إِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا.وَلَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُبَدِّلَ بِهَا غَيْرَهَا، فَصَارَ الْمَالِكُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَسَاهُ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ، فَصَارَ كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ وَلَا ضَمَانَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ ضَمَانُهَا.

وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ اللَّحْمَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَيُجْزِئُ، وَلَوْ فَرَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَحْمَ مَا ذَبَحَهُ أَجْزَأَ لِإِذْنِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ الْقِيمَةَ، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا مَذْبُوحَةً فَالْأَصَحُّ فِي Cقَوْلِ أَشْهَبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهَا تُجْزِئُ أُضْحِيَّةً لِذَابِحِهَا.

وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ذَبَحَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَيْ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَقِيمَتَهَا مَذْبُوحَةً؛ لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا، وَأَجْزَأَ كُلٌّ مِنْهَا عَنِ الْأُضْحِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدِ كَوْنِهَا وَاجِبَةً بِنَذْرٍ فَيُفَرِّقُهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةُ الصَّرْفِ لِجِهَةِ التَّضْحِيَةِ؛ وَلِأَنَّ ذَبْحَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، أَمَّا الْمُتَطَوَّعُ بِهَا وَالْوَاجِبَةُ بِالْجُعْلِ فَلَا يُجْزِئُ ذَبْحُهَا عَنِ الْأَصْلِيَّةِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى نِيَّةٍ.

ز- الْبُيُوعُ:

أَوَّلًا- بَيْعُ الْمُخْطِئِ:

48- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: بَيْعُ الْمُخْطِئِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، وَصُورَتُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ- بِعْتُ هَذَا مِنْكَ بِأَلْفٍ، وَقَبِلَ الْآخَرُ- وَصَدَّقَهُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ خَطَأٌ.أَمَّا وَجْهُ انْعِقَادِهِ فَلِاخْتِيَارِهِ فِي الْأَصْلِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ لِعَدَمِ الرِّضَا كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، فَيَمْلِكُ الْبَدَلَ بِالْقَبْضِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقَصْدُ، فَمَنْ بَاعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ هَذَا التَّصَرُّفَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعٌ وَلَا نَحْوُهُ.

ثَانِيًا- الْغَلَطُ فِي الْمَبِيعِ:

49- إِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ بِأَنِ اعْتَقَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا بِهِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ يَاقُوتًا أَوْ مَاسًا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ، أَوْ يَبِيعُ حِنْطَةً فَإِذَا هِيَ شَعِيرٌ.

وَكَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا أَرَادَهُ الْعَاقِدُ كَانَ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَدَا الْكَرْخِيِّ قَالُوا: إِنَّ الْغَلَطَ يَكُونُ مَانِعًا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْدُومٌ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ فَاسِدٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْغَلَطِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا الْغَلَطِ فَلَا يُعْتَدُّ بِالْغَلَطِ.جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بَاعَ مُصَلًّى فَقَالَ Cالْمُشْتَرِي: أَتَدْرِي مَا هَذَا الْمُصَلَّى؟ هِيَ وَاللَّهِ خَزٌّ فَقَالَ الْبَائِعُ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ خَزٌّ وَلَوْ عَلِمْتُهُ مَا بِعْتُهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا شَيْءَ لِلْبَائِعِ.

وَكَذَا مَنْ بَاعَ حَجَرًا بِثَمَنٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَاقُوتَةٌ أَوْ زَبَرْجَدَةٌ تَبْلُغُ مَالًا كَثِيرًا.أَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ.

وَكَذَلِكَ إِذَا سَمَّى الْعَاقِدُ الشَّيْءَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُ كَقَوْلِ الْبَائِعِ: أَبِيعُكَ هَذَا الْحَجَرَ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتَةٌ فَيَلْزَمُ الْبَائِعَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ، وَأَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ.

وَإِذَا أَبْهَمَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الرَّدَّ كَالتَّصْرِيحِ. وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: لَوِ اشْتَرَى زُجَاجَةً يَظُنُّهَا جَوْهَرَةً فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْجَوْهَرَةِ وَإِلاَّ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَثُبُوتَ الْخِيَارِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَالَ: الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْبَغْلَ بِكَذَا، فَقَالَ اشْتَرَيْتُهُ، فَبَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فَرَسًا أَوْ حِمَارًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَمِثْلُهُ بِعْتُكَ هَذَا الْجَمَلَ فَبَانَ نَاقَةً وَنَحْوَهُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلْجَهْلِ بِالْمَبِيعِ.

ثَالِثًا- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَبِيعِ خَطَأً:

50- الْجِنَايَةُ خَطَأً عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، قَدْ تَكُونُ مِنَ الْبَائِعِ، أَوِ الْمُشْتَرِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ، وَفِي الضَّمَانِ، خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (خِيَارٌ، ضَمَانٌ).

ح- الْإِجَارَةُ:

أَوَّلًا: خَطَأُ النَّقَّادِ وَالْقَبَّانِ وَنَحْوِهِمَا:

51- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّقَّادَ إِنْ أَخْطَأَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَخْطَأَ Cفِي اجْتِهَادِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا أُمِرَ بِهِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الضَّمَانِ بِكَوْنِ النَّقَّادِ حَاذِقًا أَمِينًا وَإِلاَّ ضَمِنَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الْقَبَّانِيُّ فِي الْوَزْنِ ضَمِنَ، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي النَّقْشِ الَّذِي عَلَى الْقَبَّانِ.

ثَانِيًا: خَطَأُ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ:

52- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفَرِيقٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِلَا صُنْعِهِ، أَوْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الضَّمَانِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: وَالْأُجَرَاءُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ، أَوْ تَفْرِيطٍ جَسِيمٍ يَضْمَنُ.أَمَّا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ هَذَيْنِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ).

ثَالِثًا- خَطَأُ الْكَاتِبِ:

53- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ وَرَقًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَيَنْقُطُهُ، وَيَعْجُمُهُ، وَيَعْشِرُهُ بِكَذَا مِنَ الْأُجْرَةِ فَأَخْطَأَ فِي بَعْضِ النُّقَطِ وَالْعَوَاشِرِ.قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ مَا أَعْطَاهُ، أَيْ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْوَرَقِ، وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَعْطَاهُ حِصَّةَ مَا وَافَقَ مِنَ الْمُسَمَّى وَبِمَا خَالَفَ أَعْطَاهُ أَجْرَ الْمِثْلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِصِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لِلنِّسَاخَةِ وَيُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ الْخَطِّ، وَرِقَّتَهُ، وَغِلَظَهُ، وَعَدَدَ الْأَوْرَاقِ وَسُطُورَ كُلِّ صَفْحَةٍ كَذَا، وَقَدْرَ الْقَطْعِ إِنْ قَدَرْنَا بِالْمَحَلِّ.وَإِذَا غَلِطَ النَّاسِخُ غَلَطًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْوَرَقِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِصْلَاحُ.

رَابِعًا: خَطَأُ الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَنَحْوِهِمَا:

54- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَالْحَجَّامِ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ وَلَهُمْ بِهَا بِصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، وَإِذَا قُطِعَ مَعَ هَذَا كَانَ فِعْلًا مُحَرَّمًا فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً.

الثَّانِي: أَنْ لَا تَجْنِيَ أَيْدِيهِمْ فَيَتَجَاوَزُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ.

فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَضْمَنُوا، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا قَطْعًا مَأْذُونًا فِيهِ فَلَمْ يَضْمَنُوا سِرَايَتَهُ، كَقَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ، أَوْ فَعَلُوا فِعْلًا مُبَاحًا مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ حَاذِقًا وَخَبَتْ يَدُهُ مِثْلُ أَنْ يَتَجَاوَزَ قَطْعُ الْخِتَانِ إِلَى الْحَشَفَةِ، أَوْ إِلَى بَعْضِهَا، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، أَوْ يَقْطَعُ السِّلْعَةَ مِنْ إِنْسَانٍ فَيَتَجَاوَزُهَا، أَوْ يَقْطَعُ بِآلَةٍ كَآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ضَمِنَ فِيهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ لَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَشْبَهَ إِتْلَافَ الْمَالِ. ط- الْخَطَأُ فِي وَصْفِ اللُّقَطَةِ:

55- إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ مِلْكِيَّةَ لُقَطَةٍ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَا يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا وَصَفَهَا وَصْفًا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَهُ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ مُدَّعِي مِلْكِيَّةِ اللُّقَطَةِ فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِصَابَةَ فِي بَعْضِ عَلَامَاتِ اللُّقَطَةِ لَا تَكْفِي لِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، وَإِنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْعَلَامَاتِ كُلِّهَا شَرْطٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَصَفَ وَاحِدًا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوَقَعَ الْجَهْلُ فِي الْآخَرِ أَوِ الْغَلَطُ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ:

قِيلَ: لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يَسْتَأْنِي فِيهِمَا، وَقِيلَ: يُعْطَى بَعْدَ الِاسْتِينَاءِ مَعَ الْجَهْلِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَ الْغَلَطِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَلَطِ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا الْمُتَعَلِّقُ بِاللِّسَانِ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: إِذَا غَلِطَ فَإِنْ قَالَ: الْوِكَاءُ مَثَلًا كَذَا، فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي وَلَا تُدْفَعُ لَهُ.

وَإِذَا وَصَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ أَوْ أَحَدَهُمَا وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ فِي صِفَةِ الدَّنَانِيرِ، بِأَنْ قَالَ مُحَمَّدِيَّةٌ فَإِذَا هِيَ يَزِيدِيَّةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَالُوا: إِذَا عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَغَلِطَ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ بِزِيَادَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ بِأَنْ قَالَ: هِيَ عَشَرَةٌ فَإِذَا هِيَ خَمْسَةٌ، أَمَّا غَلَطُهُ بِالنَّقْصِ بِأَنْ قَالَ: هِيَ عِشْرُونَ فَإِذَا هِيَ ثَلَاثُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (لُقَطَةٌ).

ي- الْغَلَطُ فِي الشُّفْعَةِ:

56- مِنْ صُوَرِ الْخَطَأِ أَوِ الْغَلَطِ فِي الشُّفْعَةِ أَنْ يَغْلَطَ الشَّفِيعُ فِي شَخْصِ الْمُشْتَرِي، أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ كَالْغَلَطِ فِي الثَّمَنِ.وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةٍ فَعَفَا الشَّفِيعُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِخَمْسِينَ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ لِقَدْرٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ بِمِائَةٍ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ مِائَةٌ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ نِصْفَهُ بِمِائَةٍ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى جَمِيعَهُ بِمِائَةٍ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ.

وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ اشْتَرَى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا لِإِعْوَازِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ الشِّقْصَ فَعَفَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْوَكِيلِ وَلَا يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْمُوَكِّلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْتُ لَهُ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ، فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إِنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ مِنْهُ مُفِيدٌ، كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلَانًا فَقَدْ سَلَّمْتُ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ، صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلَانٍ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الْآخَرِ.وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمُعَادِ فِيمَا بَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ سَلَّمْتُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ Cأَلْفًا، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلَاءِ الثَّمَنِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْأَلْفِ وَلَا يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَلْفِ بَلْ يَزْدَادُ.فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ فَقَدِ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الشَّفِيعُ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِالثَّمَنِ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ أَقَلُّ مِمَّا أُخْبِرَ بِهِ فَلَهُ شُفْعَتُهُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا أَسْقَطَهَا لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَى، بِأَنْ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ اشْتَرَى نِصْفَ نَصِيبِ شَرِيكِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَهُ الْقِيَامُ بِالشُّفْعَةِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِي غَرَضٌ فِي أَخْذِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَعْدُ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهُ ابْتَاعَ الْكُلَّ أَخَذْتُ لِارْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ وَزَوَالِ الضَّرَرِ، أَوْ لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الْمُشْتَرِي- بِكَسْرِ الرَّاءِ- قِيلَ لَهُ فُلَانٌ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِكَ فَأَسْقَطَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي سُمِّيَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شُفْعَتَهُ كَائِنًا مَا كَانَ الشَّخْصُ.

وَكَذَلِكَ لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا اشْتَرَى حِصَّةَ شَرِيكِكَ فِي الشِّقْصِ فَرَضِيَ بِهِ وَسَلَّمَ شُفْعَتَهُ لِأَجْلِ حُسْنِ سِيرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشِّقْصَ اشْتَرَاهُ هُوَ وَشَخْصٌ آخَرُ فَلَهُ الْقِيَامُ بِشُفْعَتِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّمَا رَضِيتُ بِشَرِكَةِ فُلَانٍ وَحْدَهُ لَا بِشَرِكَتِهِ مَعَ غَيْرِهِ.

ك- النِّكَاحُ:

أَوَّلًا- الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ:

57- يَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِأَلْفَاظٍ مُصَحَّفَةٍ، وَالتَّصْحِيفُ أَنْ يَقْرَأَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ كَاتِبُهُ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ، كَتَجَوَّزْتُ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الزَّاي؛ لِأَنَّهُ صَادِرٌ لَا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، بَلْ عَنْ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ، بَلْ غَلَطًا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا لَوِ اتَّفَقَ قَوْمٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ وَصَدَرَتْ عَنْ قَصْدٍ صَحَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعٌ جَدِيدٌ وَبِهِ أَفْتَى أَبُو السُّعُودِ.

وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْعَقْدُ بِلَفْظِ Cجَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ إِذَا نَطَقَ بِهِ الْعَامِّيُّ قَاصِدًا بِهِ مَعْنَى النِّكَاحِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ جَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ الْعَاقِدَانِ وَالشُّهُودُ إِلاَّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّزْوِيجِ وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُحْمَلُ كَلَامُ كُلِّ عَاقِدٍ وَحَالِفٍ وَوَاقِفٍ عَلَى عَرَفَةَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نِكَاحٌ).

ثَانِيًا- الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ:

58- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ أَقْوَى مِنَ التَّسْمِيَةِ، لِمَا فِي التَّسْمِيَةِ مِنَ الِاشْتِرَاكِ لِعَارِضٍ فَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتَدَيْتُ بِزَيْدٍ هَذَا فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَصِحُّ.وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَ الْكُبْرَى فَغَلِطَ فَسَمَّاهَا بِاسْمِ الصُّغْرَى صَحَّ لِلصُّغْرَى بِأَنْ كَانَ اسْمُ الْكُبْرَى عَائِشَةَ وَالصُّغْرَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ وَهُوَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَبِلَ، انْعَقَدَ عَلَى فَاطِمَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَصِفْهَا بِالْكُبْرَى، فَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الْكُبْرَى فَاطِمَةَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ عَلَى إِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ابْنَةٌ كُبْرَى بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا تَنْفَعُ النِّيَّةُ هُنَا وَلَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْمُرَادِ.

وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَالَ أَبُو بَنَاتٍ: زَوَّجْتُكَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ بِنْتِي أَوْ فَاطِمَةَ وَنَوَيَا مُعَيَّنَةً وَلَوْ غَيْرَ الْمُسَمَّاةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ اخْتَلَفَتُ الزَّوْجَةُ مَعَ الزَّوْجِ فَقَالَتْ: لَسْتُ الْمُسَمَّاةَ فِي الْعَقْدِ، وَقَالَ الشُّهُودُ: بَلْ أَنْتِ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا الْوَلِيُّ سَمَّى غَيْرَكَ فِي الْعَقْدِ غَلَطًا وَوَافَقَهُمَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلِ الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّكَاحِ، أَوِ الْعِبْرَةُ بِقَوْلِ الشُّهُودِ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَلَطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ سَمَّاهَا الْوَلِيُّ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ التَّعَدُّدِ وَلَا تَعَدُّدَ هُنَا، وَكَذَا لَوْ سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَأَشَارَ إِلَيْهَا، بِأَنْ قَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةُ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَقْوَى، وَلَوْ سَمَّاهَا Cبِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِنْتِي لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ.وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ فَاطِمَةُ وَعَائِشَةُ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَائِشَةُ فَقَبِلَ الزَّوْجُ، وَنَوَيَا فِي الْبَاطِنِ فَاطِمَةَ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُذْكَرْ بِمَا تَتَعَيَّنُ بِهِ، فَإِنَّ اسْمَ أُخْتِهَا لَا يُمَيِّزُهَا بَلْ يَصْرِفُ الْعَقْدَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَفَّظَا بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ عَائِشَةُ فَقَطْ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إِذَا لَمْ يُسَمِّهَا فَفِي مَا سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْلَى.

ثَالِثًا- الْغَلَطُ فِي الزَّوْجَةِ:

59- إِذَا زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَوَطِئَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ.وَيَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَطْءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَطِئَهَا غَلَطًا وَهِيَ فِي عِدَّةِ غَيْرِهِ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا.

وَمِنْ صُوَرِ الْغَلَطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ أَبٌ عَلَى امْرَأَةٍ وَابْنُهُ عَلَى ابْنَتِهَا وَزُفَّتْ كُلٌّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَوَطِئَهَا غَلَطًا:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ وَلَزِمَ كُلًّا لِمَوْطُوءَتِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا بِالْوَطْءِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَفِيمَا يَلْزَمُ الثَّانِي مِنْهُمَا وُجُوهٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ وَطْءَ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ وَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْوَطْءِ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَهْرُ الْمَوْطُوءَةِ عَنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا بِتَمْكِينِهَا مِنْ وَطْئِهَا وَمُطَاوَعَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَرْجِعُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُشَارِكَةٌ فِي إِفْسَادِ نِكَاحِهَا بِالْمُطَاوَعَةِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ لَوِ انْفَرَدَتْ بِهِ.

رَابِعًا- طَلَاقُ الْمُخْطِئِ:

60- مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ اسْقِينِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْكَلَامِ بِدُونِ الْقَصْدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ Cمُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ، وَلِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَفِي الْوُقُوفِ عَلَى قَصْدِهِ حَرَجٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْدِ قَصْدُ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ.

وَقَالُوا إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، فَالْتَوَى لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ سَبْقُ لِسَانِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَيَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ.

ل- الْخَطَأُ فِي الْجِنَايَاتِ:

أَوَّلًا- الْقَتْلُ الْخَطَأُ:

61- الْوَاجِبُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَيُرْجَعُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَصُوَرِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (قَتْلٌ، دِيَةٌ، كَفَّارَةٌ، إِرْثٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (شك 2)

شَكٌّ -2

الشَّكُّ فِي الْحَجِّ:

أ- الشَّكُّ فِي نَوْعِ الْإِحْرَامِ:

26- إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْإِفْرَادِ أَوْ بِالتَّمَتُّعِ أَوْ بِالْقِرَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّوَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْقِرَانِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْرَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ جَعْلُهُ عُمْرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَتَحَرَّى فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْعِبَادَةِ فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَوَاقِفُ الْأَئِمَّةِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا إِنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِنَّ صَرْفَهُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ مَعَ رَكْعَتَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ.

ب- الشَّكُّ فِي دُخُولِ ذِي الْحِجَّةِ:

27- لَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ إِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ لَيْلَةَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنْ يَوْمَ وُقُوفِهِمْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ».

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ الْمُتَمَثِّلَ فِي صِحَّةِ الْوُقُوفِ كَانَ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا.أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَلَا يُجْزِيهِمْ وُقُوفُهُمْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ: أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِ الَّذِينَ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَقَبُولِهِمْ شَهَادَةَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ.

ج- الشَّكُّ فِي الطَّوَافِ:

28- إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلَاةِ.وَلِأَنَّ الشَّكَّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بَعْدَ طَوَافِهِ رَجَعَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ: مَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَ مَا رَكَعَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَلْيُعِدْ لِيَتِمَّ طَوَافُهُ عَلَى الْيَقِينِ ثُمَّ لِيُعِدَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لِطَوَافٍ إِلاَّ بَعْدَ إِكْمَالِ السَّبْعِ.وَإِذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ.

الشَّكُّ فِي الذَّبَائِحِ:

29- مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا لِحُصُولِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ.وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْمُسْلِمُ طَرِيدَةً بِآلَةِ صَيْدٍ فَسَقَطَتْ فِي مَاءٍ وَمَاتَتْ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، فَلَا تُؤْكَلُ لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ.وَلَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَمَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَابِحِهَا لَا تَحِلُّ إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ.

الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ:

30- شَكُّ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ أَصْلِ التَّطْلِيقِ، أَيْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ- مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ- هَلْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ لَمْ تَحِلَّ لَهُ- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ- إِلاَّ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ثَلَاثًا.عَمَلًا بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَيُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ لَهُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ كَأَنْ يَتَرَدَّدَ مَثَلًا فِي كَوْنِهَا بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا بِهَا.

وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ- فِي هَذَا الْمَعْنَى- أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ طَلَاقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ طَلَاقٍ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ، وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ، وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَائِنُ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ بَائِنًا.

الشَّكُّ فِي الرَّضَاعِ:

31- الِاحْتِيَاطُ لِنَفْيِ الرِّيبَةِ فِي الْأَبْضَاعِ مُتَأَكِّدٌ وَيَزْدَادُ الْأَمْرُ تَأْكِيدًا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَحَارِمِ.

فَلَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ أَوْ فِي عَدَدِهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّضَاعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَعَدَمُ حُصُولِ الْمِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكُهَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».

وَيَرَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَمَا نَاظَرَهُ قَدْ يُعَدُّ- فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، مِنْ ذَلِكَ مَثَلًا مَا لَوْ شَكَّ الرَّجُلُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا عَلَيْهِ مَعًا.

الشَّكُّ فِي الْيَمِينِ

32- إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَصْلِ الْيَمِينِ هَلْ وَقَعَتْ أَوْ لَا: كَشَكِّهِ فِي وُقُوعِ الْحَلِفِ أَوِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الشَّاكِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا إِذَا حَلَفَ وَحَنِثَ، وَشَكَّ هَلْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صَدَقَةٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- طَلَاقُ نِسَائِهِ وَعِتْقُ رَقِيقِهِ وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْتَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ إِذِ الْحَالِفُ- فِي رَأْيِهِمْ- يُؤْمَرُ بِإِنْفَاذِ الْأَيْمَانِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الشَّاكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا يَقَعَانِ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لَا تَجِبُ مَعَ الشَّكِّ أَيْضًا إِذِ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.

وَيُضِيفُونَ إِلَى هَذَا الْحَلِفَ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ مَعْلُومٍ مَعَ الشَّكِّ فِي الْقَسَمِ هَلْ كَانَ بِاللَّهِ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَكَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ الْمَحْظُورِ.

الشَّكُّ فِي النَّذْرِ:

33- لَوْ شَكَّ النَّاذِرُ فِي نَوْعِ الْمَنْذُورِ هَلْ هُوَ صَلَاةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ عِتْقٌ؟ تَلْزَمُهُ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ- كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَنْذُورِ كَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ.

الشَّكُّ فِي الْوَصِيَّةِ:

34- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى وَأَخْبَرَ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ مَثَلًا فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ-: إِنَّ لَهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا خَطَأٌ.وَالْخَطَأُ لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِيهَا، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذَا الرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ حَيْثُ إِنَّ صِحَّتَهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ.

الشَّكُّ فِي الدَّعْوَى، أَوْ مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَلِّ الشَّهَادَةِ:

35- أ- لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَشَكَّ الْمَدِينُ فِي قَدْرِهِ يَنْبَغِي لُزُومُ إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ.قَالَ الْحَمَوِيُّ: قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَرُّعِ وَالْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا- هُوَ أَكْثَرُ الْمَبْلَغَيْنِ: فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ دَائِرًا بَيْنَ عَشَرَةٍ وَخَمْسَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ الْعَشَرَةُ لِدُخُولِ الْخَمْسَةِ فِيهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْأَكْثَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقَلِّ مُتَيَقَّنًا دَائِمًا رَغْمَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِمَا.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَدِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ وَلَا يَحْلِفَ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ أَصَرَّ خَصْمُهُ عَلَى إِحْلَافِهِ حَلَفَ إِنْ كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، أَمَّا إِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّعْوَى مُحِقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ.

ب- لَوِ اشْتَرَى أَحَدٌ حَيَوَانًا أَوْ مَتَاعًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ رَدَّهُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَيْبٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ لِأَنَّ السَّلَامَةَ هِيَ الْأَصْلُ الْمُتَيَقَّنُ فَلَا يَثْبُتُ الْعَيْبُ بِالشَّكِّ.

ج- لَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَدَمَ وُصُولِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ الْمُقَرَّرَتَيْنِ لَهَا فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْقَوْلُ لَهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَيَقَّنُ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَأَمَّا دَعْوَاهُ فَمَشْكُوكٌ فِيهَا وَلَا يَزُولُ يَقِينٌ بِشَكٍّ.

د- إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ يَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا مَدِينٌ لِعُمَرَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَلِيٍّ، وَإِنْ خَامَرَهُ الشَّكُّ فِي وَفَائِهَا أَوْ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهَا إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالشَّكِّ فِي جَانِبِ الْيَقِينِ السَّابِقِ.

الشَّكُّ فِي الشَّهَادَةِ:

36- لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِينَارٍ- مَثَلًا- فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِيمَا أَظُنُّ، أَوْ حَسَبَ ظَنِّي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِلشَّكِّ الَّذِي دَاخَلَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى لَفْظِهَا؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّهَادَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ لَا غَيْرُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالْقَسَمُ وَالْإِخْبَارُ لِلْحَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَا أُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَعَيَّنَ لَفْظُ أَشْهَدُ.

وَقَدْ بَيَّنَ سَحْنُونٌ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَسَأَلَ الْخَصْمُ إِدْخَالَهَا فِي نِسَاءٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِهِنَّ فَقَالُوا: شَهِدْنَا عَلَيْهَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا وَلَا نَدْرِي هَلْ نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهَا فَلَا نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ- مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَيْهَا وَإِلاَّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلشَّكِّ، أَمَّا لَوْ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ تَكُونَ تَغَيَّرَتْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: إِنْ شَكَكْتُمْ وَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّهَا ابْنَةُ فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ هَذَا إِلاَّ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حِينِ شَهِدُوا عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- وَقُبِلَتْ.

وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الشَّكِّ تَسْلُبُ صِفَةَ الْعَدَالَةِ لِلشَّاهِدِ.وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ أَكَّدَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ.وَوَضَعُوا قُيُودًا لِقَبُولِ شَهَادَةِ السَّمَاعِ لِلشَّكِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُدَاخِلَهَا.

الشَّكُّ فِي النَّسَبِ:

37- أ- كُلُّ مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ مِنَ الزَّوْجِ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ زَائِلًا بِيَقِينٍ وَمَا زَالَ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَالِ الْفِرَاشِ وَإِنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ.فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلًا بِيَقِينٍ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ.

ب- إِذَا ادَّعَى إِنْسَانٌ نَسَبَ لَقِيطٍ أُلْحِقَ بِهِ؛ لِانْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى، فَإِذَا جَاءَ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَاهُ فَلَمْ يَزُلْ نَسَبُهُ عَنِ الْأَوَّلِ- رَغْمَ الشَّكِّ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ دَعْوَى الثَّانِي- لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ فَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِلاَّ إِذَا شَهِدَ الْقَائِفُونَ بِأَنَّهُ لِلثَّانِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ الْقِيَافَةَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةً فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ.وَإِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ اثْنَانِ فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُونَ بِهِمَا صَحَّ ذَلِكَ شَرْعًا وَكَانَ ابْنَهُمَا يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.

وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلْآثَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.

الشَّكُّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ:

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: تُدْرَأُ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها- قَالَتْ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُوجِبُ أَوَّلًا: اعْتِمَادَ الْيَقِينِ- مَا أَمْكَنَ- فِي نِسْبَةِ الْجَرِيمَةِ إِلَى الْمُتَّهَمِ، وَثَانِيًا: أَنَّ الشَّكَّ- مَهْمَا كَانَتْ نِسْبَتُهُ وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّهُ وَمَهْمَا كَانَ طَرِيقُهُ- يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ- هُنَاكَ- مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَتْهُ شُبْهَةٌ وَإِنْ ضَعُفَتْ- غَلَبَ- حُكْمُهَا وَدَخَلَ صَاحِبُهَا فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ.

وَثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْعَفْوِ أَفْضَلُ شَرْعًا مِنَ الْخَطَأِ فِي الْعُقُوبَةِ حَيْثُ إِنَّ تَبْرِئَةَ الْمُجْرِمِ فِعْلًا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُعَاقَبَةِ الْبَرِيءِ.وَهَذَا الْمَبْدَأُ نَجِدُ تَطْبِيقَاتِهِ مَبْثُوثَةً فِي أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَأَقْضِيَةِ التَّابِعِينَ وَفَتَاوَى الْمُجْتَهِدِينَ، مِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَالِي الْبَصْرَةِ الَّذِي اتُّهِمَ بِالزِّنَا مَعَ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْوَالِيَ وَشُهُودَ التُّهْمَةِ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِرُؤْيَةِ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ الرَّابِعَ الَّذِي يَكْتَمِلُ بِهِ النِّصَابُ قَالَ: لَمْ أَرَ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ بَلْ رَأَيْتُ رِيبَةً وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلَا أَعْرِفُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَأَسْقَطَ عُمَرُ التُّهْمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَحَفِظَ لَهُ بَرَاءَتَهُ وَطَهَارَتَهُ، وَعَاقَبَ الشُّهُودَ الثَّلَاثَةَ عُقُوبَةَ الْقَذْفِ.

وَعُمَرُ نَفْسُهُ لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ عَامَ الرَّمَادَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْمَجَاعَةِ الْعَامَّةِ قَرِينَةً عَلَى الِاضْطِرَارِ، وَالِاضْطِرَارُ شُبْهَةٌ فِي السَّرِقَةِ تَمْنَعُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ بَلْ تُبِيحُ لَهُ السَّرِقَةَ فِي حُدُودِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ أَبِيهِ خُفْيَةً ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ جَامَعَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا.

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا، فَلَا حَدَّ- فِي رَأْيِهِ- عَلَى مَنْ وَطِئَ مُحَرَّمَةً بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ: كَوَطْءِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ مَثَلًا، وَفِي رَأْيِ الصَّاحِبِينَ عَلَيْهِ الْحَدُّ- إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

الشَّكُّ لَا تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ: أَوِ الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالشَّكِّ:

39- هُوَ لَفْظُ قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فَرَّعُوا عَلَيْهَا الْفُرُوعَ التَّالِيَةَ:

أ- وُجُوبُ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

ب- مَنْ شَكَّ فِي غَسْلِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ- مَعَ ذَلِكَ- لَا يُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا.

ج- وُجُوبُ الْإِتْمَامِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ.وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (قذف 1)

قَذْفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْقَذْفُ لُغَةً: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَالتَّقَاذُفُ التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ فِيهِ الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ» أَيْ: تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ.

وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: «فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ»، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللِّعَانُ:

2- اللِّعَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ لَاعَنَ كَقَاتَلَ مِنَ اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ.

وَاصْطِلَاحًا: عِبَارَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ أَوْ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالْأَيْمَانِ، مَقْرُونَةٍ بِاللَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الْأُخْرَى، قَائِمَةٍ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ.

ب- السَّبُّ:

3- السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الشَّتْمُ، وَهُوَ: كُلُّ كَلَامٍ قَبِيحٍ.

وَالصِّلَةُ: أَنَّ السَّبَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.

ج- الرَّمْيُ:

4- مِنْ مَعَانِي الرَّمْيِ: الْقَذْفُ وَالْإِلْقَاءُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} أَيْ: يَقْذِفُونَ، وَيُقَالُ: رَمَيْتُ الْحَجَرَ: أَلْقَيْتُهُ.

وَالرَّمْيُ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.

د- الزِّنَا:

5- الزِّنَا بِالْقَصْرِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِالْمَدِّ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَمَعْنَاهُ الْفُجُورُ، يُقَالُ: زَنَى يَزْنِي زِنًا: فَجَرَ.وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ اتِّهَامٌ بِالزِّنَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ».

وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ: أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ثُمَّ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَى وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا.

وَمُبَاحٌ: وَهُوَ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ.

صِيغَةُ الْقَذْفِ:

7- الْقَذْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.

فَاللَّفْظُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْقَذْفُ: إِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَهُ فَصَرِيحٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ، وَإِلاَّ فَتَعْرِيضٌ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِشُرُوطِهِ.

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:

إِذَا أَنْكَرَ الْقَذْفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلْإِيذَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إِذَا خَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ السَّبِّ وَالذَّمِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُبِسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ:

فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ لِامْرَأَةٍ: يَا فَاجِرَةُ، يَا فَاسِقَةُ، يَا خَبِيثَةُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، أَوْ لَا تَرُدِّينَ يَدَ لَامِسٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، يُؤَدَّبُ، فَإِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُحْبَسُ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.

وَإِذَا قَالَ: يَا فَاجِرُ بِفُلَانَةَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا إِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَمْرٍ صَنَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْفُجُورِ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ يَدَّعِيهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَخْرَجٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ عُفِيَ عَنْهُ بَعْدَ الْأَدَبِ، وَلَا يُضْرَبُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ يَمِينُهُ، إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ فِيهِ تَأْنِيثٌ وَلِينٌ وَاسْتِرْخَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ، وَيَحْلِفُ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْنِيثَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَمْ تُقْبَلْ يَمِينُهُ، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاجِرُ ابْنَ الْفَاجِرِ، أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلَا أُمَّهُ إِلَى صَرِيحِ الزِّنَا، فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْفِعْلُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ، فَقَدْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ.

8- وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: زَنَأْتَ مَهْمُوزًا، كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ:

أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَكِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ زَنَيْتَ وَزَنَأْتَ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ.

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا.

9- وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلاَّمَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُغْنِي؛ لِأَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: «يَا زَانِي» حُدَّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي «مَالِكٍ»: «يَا مَالِ» وَفِي «حَارِثٍ»: «يَا حَارِ».

10- وَإِنْ قَالَ زَنَى فَرْجُكِ، أَوْ ذَكَرُكَ، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَقَعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ كَانَ قَذْفًا، وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ»، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ قَذْفٌ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ فَإِنْ قَالَ: زَنَى بَدَنُكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَالْفَرْجُ دَاخِلٌ فِيهِ.

وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَكُونُ قَذْفًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ قَذْفًا فَيُحَدُّ، وَهَلْ يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» لِلتَّفْضِيلِ، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَتَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ».

وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.

وَقَالَ زُفَرُ: فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَانٍ، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا، لَا حَدَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْقَذْفُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.

11- وَمَنْ قَذَفَ رَجُلاً بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِمَّا فَاعِلاً أَوْ مَفْعُولاً، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِوَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.

وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا، أَوْ قَذَفَ رَجُلاً بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا.

وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: «يَا لُوطِيُّ»، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَمَا صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَا يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيلُ الْقَذْفَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلاَّ الْقَذْفُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «يَا زَانِي»، وَلِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ.

وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ: نَوَيْتُ أَنَّ دِينَهُ دِينُ قَوْمِ لُوطٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلاً بِكَلَامِهِ.

حُكْمُ التَّعْرِيضِ:

12- وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ قَذْفٌ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الْأَبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ.

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ.فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.

وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلَا دَلَالَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالْإِيذَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ:

لِحَدِّ الْقَذْفِ شُرُوطٌ فِي الْقَاذِفِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْذُوفِ:

أ- شُرُوطُ الْقَاذِفِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاذِفِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالِاخْتِيَارُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطٍ، مِنْهَا:

1- الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْعَدْلِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

2- النُّطْقُ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَخْرَسِ.

3- الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَا حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ.

4- الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا حَدَّ عَلَى جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ.

5- عَدَمُ إِذْنِ الْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ.

6- أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ غَيْرَ أَصْلٍ لِلْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدُّ الْأَبُ بِقَذْفِ ابْنِهِ.

ب- شُرُوطُ الْمَقْذُوفِ:

كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا:

14- يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ- الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ- أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا، وَشُرُوطُ الْإِحْصَانِ فِي الْقَذْفِ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَا رَمَى بِهِ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَوْ تَحَقَّقَ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَاقِلاً بِمَا دُونَ الْوَطْءِ، وَإِنْ قَذَفَ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَإِنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَالَ الْحَدِّ، فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَذَفَ زَانِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَأَسْقَطَ الْحَدَّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَنَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهُ وَهُوَ زَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا: يُحَدُّ قَاذِفُهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إِلْحَاقِ الْعَارِ، وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 15- 19).

وُقُوعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ:

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْقَاذِفِ، كَمَا يَجِبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وَقَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْحَرَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرَامٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَلَا تَضَعُ عَنْهُ بِلَادُ الْكُفْرِ شَيْئًا، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارٍ لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَلِأَنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ إِذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفَى لَا يَجِبُ الْحَدُّ.

وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ، حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ.

وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رحمهم الله- ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَارُ الْحَرْبِ ف 5)

ثُبُوتُ حَدِّ الْقَذْفِ:

ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ:

16- يَثْبُتُ الْقَذْفُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا تُقْبَلَ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ حَدٌّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَذْهَبِ: تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَفِي كُلِّ حَقٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي. ثُبُوتُهُ بِالْإِقْرَارِ:

17- وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا، فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِقْرَار ف 59- 60)

وَمُصْطَلَحَ (رُجُوع ف 38).

حَدُّ الْقَذْفِ:

18- حَدُّ الْقَذْفِ لِلْحُرِّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَيُنَصَّفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 46، 47 وَ 48).

وَيُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ.

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَأْتِيَ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ}، فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِقْرَارِ مِنَ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اشْتُرِطَ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

الثَّانِي: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ وَاسْتِدَامَةُ مُطَالَبَتِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى قَبْلَ طَلَبِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُطَالَبَةَ، بَلْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ.

مَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ:

أَوَّلاً: عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا طَلَبُ اسْتِيفَائِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رُفِعَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يُرْفَعْ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ بَعْدَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ، إِلاَّ الِابْنُ فِي أَبِيهِ، أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْعَفْوُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَفَافِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُدَارُونَ بِعَفْوِهِمْ سَتْرًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلَّهِ: لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَا، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ: أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا وَغَلَبَ حَقُّ الْإِمَامِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِلَ الْإِمَامَ أَوْ لَا يَصِلَ، وَقِيَاسًا عَلَى الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَلاَّ يُقْطَعَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ: «فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَطْعِهِ، فَرَأَوْا مِنْهُ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ».

وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ-: أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.

ثَانِيًا: اللِّعَانُ:

20- وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَان).

ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ:

21- إِذَا ثَبَتَ زِنَا الْمَقْذُوفِ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حُدَّ الْمَقْذُوفُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَفِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ (إِقْرَار ف 34- 37، وَشَهَادَة ف 29، وَزِنًى ف 30- 41). رَابِعًا: زَوَالُ الْإِحْصَانِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا، ثُمَّ زَالَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْإِحْصَانِ عَنْهُ، كَأَنْ زَنَى الْمَقْذُوفُ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ اسْتِمْرَارُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ: حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ يُظَنُّ، وَلَكِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِرِدَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا أَنَّ الزِّنَا يُكْتَمُ مَا أَمْكَنَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَشْعَرَ بِسَبْقِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ لَا يَهْتِكُ السِّتْرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- وَالرِّدَّةُ عَقِيدَةٌ، وَالْعَقَائِدُ لَا تَخْفَى غَالِبًا، فَإِظْهَارُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْخَفَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ كَذَلِكَ بِجُنُونِ الْمَقْذُوفِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ جُنَّ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ بِذَلِكَ.

خَامِسًا: رُجُوعُ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ عَنِ الشَّهَادَةِ:

23- إِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، سَقَطَ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 37).

التَّعْزِيرُ فِي الْقَذْفِ:

24- لَا يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشُرُوطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ، فَإِنَّ الْجَانِيَ لَا يُحَدُّ، وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 37).

ثُبُوتُ فِسْقِ الْقَاذِفِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:

25- إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفَةِ فِسْقٌ، وَلَا حَدٌّ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ قَذْفُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فَإِنْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَالَ الْفِسْقُ بِلَا خِلَافٍ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا جُلِدَ وَإِنْ تَابَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 21).

تَكْرَارُ الْقَذْفِ:

26- إِنْ قَذَفَ رَجُلاً مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزِنْيَاتٍ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَا كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدُّيُونِ.

وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَعُزِّرَ لِلْإِيذَاءِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَقَالَ: شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ فَقَالَ: أَمَّا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَلَا يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ».

فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ.وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ. الثَّانِي: لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ.

حُكْمُ قَذْفِ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ:

27- مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ، فَإِنْ سَقَطَ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلاً اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا، أَوْ قَذَفَهَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ لِلزَّانِي كَانَ حَقًّا، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، لَكِنَّ الزِّنَا بِهَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهَا مَعَ رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهَا.

انْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 7) وَمُصْطَلَحِ (زِنًا ف 16- 21)

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا:

28- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَسْقُطْ إِحْصَانُهُ، وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضٍ عَلَى احْتِمَالِ الزَّوَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ.

حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الزِّنَا:

29- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِأَبَوَيْهِ، وَفِعْلُهُمَا لَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهُ.

حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ:

30- وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ فَقَالَ: هُوَ وَلَدُ زِنًا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي الْمُلَاعَنَةِ أَنْ لَا تُرْمَى، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ»؛ وَلِأَنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ.وَإِذَا قَالَ الْقَاذِفُ: هُوَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ ابْنَ فُلَانٍ يَعْنِي الْمُلَاعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَالَ لِابْنِ الْمُلَاعَنَةِ: لَسْتَ لِأَبِيكَ الَّذِي لَاعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (مرابحة)

مُرَابَحَةٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْمُرَابَحَةُ فِي اللُّغَةِ: تَحْقِيقُ الرِّبْحِ، يُقَالُ: بِعْتُ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً، أَوِ اشْتَرَيْتُهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتَ لِكُلِّ قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهَا، لَكِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ فِي الْمَعْنَى وَالْمَدْلُولِ، وَهِيَ: نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ.

فَالْمُرَابَحَةُ مِنْ بُيُوعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ وَتَكْلِفَتِهَا الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْبَائِعِ.

وَصُورَتُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هِيَ أَنْ يُعَرِّفَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرِيَ بِكَمِ اشْتَرَاهَا، وَيَأْخُذَ مِنْهُ رِبْحًا إِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُهَا بِعَشَرَةٍ وَتُرْبِحُنِي دِينَارًا أَوْ دِينَارَيْنِ، وَإِمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: تُرْبِحُنِي دِرْهَمًا لِكُلِّ دِينَارٍ أَوْ نَحْوِهِ أَيْ إِمَّا بِمِقْدَارٍ مُقَطَّعٍ مُحَدَّدٍ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ عَشْرِيَّةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّوْلِيَةُ:

2- التَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ بُيُوعِ الْأَمَانَاتِ.

ب- الْوَضِيعَةُ:

3- الْوَضِيعَةُ هِيَ: الْبَيْعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ.

وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْمُوَاضَعَةُ وَالْمُخَاسَرَةُ وَالْمُحَاطَّةُ، فَهِيَ مُضَادَّةٌ لِلْمُرَابَحَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُرَابَحَةِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعٌ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ، فَكَانَ دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا بِشُرُوطِهِ الْمَعْلُومَةِ هُوَ دَلِيلُ جَوَازِهَا.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ تَوَافَرَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ الْجَوَازِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْلِ الْخَبِيرِ الْمُهْتَدِي، وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى الْبَائِعُ، وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا.

ثُمَّ إِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَجَازَ الْبَيْعُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، وَكَذَا الرِّبْحُ مَعْلُومٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَرِبْحُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.

وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، أَوِ الْأَحَبُّ خِلَافُهُ، وَالْمُسَاوَمَةُ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ، وَبَيْعِ الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِرْسَالِ، وَأَضْيَقُهَا عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ قَلَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا الْبَائِعُ عَلَى وَجْهِهَا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِّيتُ كَرَاهَتَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ حَالَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ.

شُرُوطُ الْمُرَابَحَةِ

5- يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ الْبُيُوعِ مَعَ إِضَافَةِ شُرُوطٍ أُخْرَى تَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ هَذَا الْعَقْدِ وَهِيَ: أَوَّلًا: شُرُوطُ الصِّيغَةِ:

6- يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الْمُرَابَحَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ عَقْدٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: وُضُوحُ دَلَالَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَتَطَابُقُهُمَا، وَاتِّصَالُهُمَا. (ر: مُصْطَلَحَ: عَقْدٌ ف5).

ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُرَابَحَةِ

7- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُرَابَحَةِ:

أ- أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ- وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ- لَكِنْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ، لَا بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، وَهَذَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ الْقَائِمِ عَلَى مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ذَاتِهِ، لَا الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْلِ.

ب- الْعِلْمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي، صِحَّةُ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبُيُوعِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَسَدَ الْعَقْدُ.

ج- أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلِيًّا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَوْ يَكُونَ قِيَمِيًّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ.

فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا جَازَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَحَةِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا.

وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الْعُرُوضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلَ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَعَيْنُهُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّقْوِيمِ فِيهَا.

وَأَمَّا بَيْعُهُ مِمَّنِ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ فَيُنْظَرُ:

فَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ شَيْئًا مُفْرَدًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدِّرْهَمِ وَثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ.

وَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنَ الْعَرَضِ، وَالْعَرَضُ لَيْسَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّقَوُّمِ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، هَذَا تَفْصِيلُ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الثَّمَنَ الْعَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا يَكُونَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً سَوَاءٌ كَانَ الْعَرَضُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ أَوِ الْقِيَمِيَّاتِ وَهَذَا عِنْدَ أَشْهَبَ خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ فَعِنْدَهُ يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ الَّتِي ثَمَنُهَا عَرَضٌ مِثْلِيٌّ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِيَدِ الْمُشْتَرِي أَمْ لَا.

كَمَا يَتَّفِقُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَعَ أَشْهَبَ فِي الْمَنْعِ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ إِذَا كَانَ الْعَرَضُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ مِنَ السَّلَمِ الْحَالِّ، وَيُرَادُ بِهِ السَّلَمُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَجَلٌ لِمُدَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.

أَمَّا التَّأْوِيلُ الْآخَرُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: فَإِنَّ الْعَرَضَ الْمُتَقَوِّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَإِنَّ بَيْعَ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً يَجُوزُ.

وَإِنْ كَانَ الْعَرَضُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، فَرَأَى أَشْهَبُ الْمَنْعَ كَمَا لَوْ كَانَ لَيْسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، أَمَّا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَرَضِ وَزِيَادَةٍ وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْقِيمَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى بِعَرَضٍ وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ إِذَا اسْتَخْدَمَ لَفْظَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَوْ بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ، وَهُنَا يَجِبُ إِخْبَارُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ قِيمَتُهُ كَذَا، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ بِالْعَرَضِ يُشَدِّدُ فَوْقَ مَا يُشَدِّدُ الْبَائِعُ بِالنَّقْدِ.

وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِمَا قَامَ عَلَيَّ أَخْبَرَ بِالْقِيمَةِ دُونَ حَاجَةٍ لِذِكْرِ الْعَرَضِ.

وَمِثْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ نَجِدُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

د- أَلاَّ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مُقَابَلًا بِجِنْسِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَأَمْوَالُ الرِّبَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كُلُّ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: كُلُّ مَطْعُومٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا يَحِلُّ مَحَلَّهُمَا مِنَ الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ.وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، كَأَنِ اشْتَرَى الْمَكِيلَ أَوِ الْمَوْزُونَ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِجِنْسِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ، وَالزِّيَادَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا تَكُونُ رِبًا، لَا رِبْحًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ، كَأَنِ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، جَازَ، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ، وَلَوْ بَاعَ دِينَارًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، أَوْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَثَوْبٍ، كَانَ جَائِزًا بِشَرْطِ التَّقَابُضِ، فَهَذَا مِثْلُهُ.

هـ- أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا الْعِلْمُ بِالرِّبْحِ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبُيُوعِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ، لَمْ تَجُزِ الْمُرَابَحَةُ.

وَلَا فَرْقَ فِي تَحْدِيدِ الرِّبْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارًا مَقْطُوعًا أَوْ بِنِسْبَةٍ عَشْرِيَّةٍ فِي الْمِائَةِ، وَيُضَمُّ الرِّبْحُ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ وَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالًّا نَقْدِيًّا أَوْ مُقَسَّطًا عَلَى أَقْسَاطٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ مَثَلًا.

الْحَطِيطَةُ وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ:

8- لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً وَانْعَقَدَ الْبَيْعُ عَلَى ثَمَنٍ مُسَمًّى ثُمَّ طَرَأَتْ زِيَادَةٌ أَوْ حَطٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَتَمَّ قَبُولُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ، ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً فَهَلْ يُخْبِرُ بِالثَّمَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؟ أَمْ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ؟

فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: فَالزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ قَدْ يُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ يُلْحَقُ بِالثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ.

لَكِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الطَّبَرِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُ: إِذَا قُلْنَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَا يُلْحَقُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ قَدِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ:

فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يُعْطِيهَا الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَبِيعُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً بِالثَّمَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِالْأَصْلِ، فَإِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً فَإِنَّ ثَمَنَ الْمُرَابَحَةِ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنِ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً، فَإِنَّ هَذَا الْحَطَّ يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ الَّذِي بَاعَ بِهِ مَعَ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَقَضِيَّةُ الْحَطِّ مِنَ الرِّبْحِ أَنَّ الرِّبْحَ يَنْقَسِمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا حُطَّ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ تَجَاوَزَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْ نُقُودٍ زَائِفَةٍ ظَهَرَتْ فِي الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَلَمَهُ وَرَضِيَ بِهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَى الْمُشْتَرِي- يَعْنِي أَنَّهُ حَطَّهَا- وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ وَأَرَادَ هَذَا الْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا تَجَاوَزَ عَنْهُ الْبَائِعُ أَوْ حَطَّهُ أَوْ وَهَبَ لَهُ إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ أَوِ الْحَطِيطَةُ مُعْتَادَةً بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً أَوْ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجِبِ الْبَيَانُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْكَذِبِ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَحَطَّ الْبَائِعُ مُرَابَحَةً مَا وُهِبَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ دُونَ رِبْحِهِ لَزِمَتِ الْمُشْتَرِيَ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَالْقَوْلُ عِنْدَ أَصْبَغَ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ حَتَّى يَحُطَّ رِبْحَهُ.

وَالْقَوْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ هِبَةٌ وَتَبَرُّعٌ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ أَيْضًا.

وَيُضِيفُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْمُرَابَحَةِ: بِعْتُكَ بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصِّيغَةُ: بِعْتُكَ بِمَا قَامَ عَلَيَّ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَطَّ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ فَيُخْبِرُ الْبَائِعُ بِهِ وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ كُلَّ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً بِلَفْظِ: بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا هُوَ يُقَدِّرُ ثَمَنًا وَلَا يَجِبُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْحَالِ، أَمَّا إِذَا جَرَى الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ جَرَيَانِ الْمُرَابَحَةِ فَإِنَّ الْحَطَّ لَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَلْحَقُ كَمَا فِي التَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ. وَقَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ نَجِدُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا.

نَمَاءُ الْمَبِيعِ

9- إِنْ حَدَثَ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَالْكَسْبِ، لَمْ يَبِعْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ: لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى تَمْنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ لِلْحَالِ.

وَكَذَا لَوْ هَلَكَ نَمَاءُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَوَجَبَ الْأَرْشُ (التَّعْوِيضُ) لِأَنَّهُ صَارَ مَبِيعًا مَقْصُودًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، ثُمَّ الْمَبِيعُ بَيْعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَالْمَبِيعُ مَقْصُودًا أَوْلَى، وَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِأَنَّهُ إِنْ هَلَكَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَالْوَلَدُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالطَّرَفِ.

وَلَوِ اسْتَغَلَّ الْوَلَدَ وَالْأَرْضَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْمَبِيعِ، لَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، فَلَمْ يَكُنْ بِبَيْعِ الدَّارِ أَوِ الْأَرْضِ حَابِسًا جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَيِّنُ الْبَائِعُ مُرَابَحَةً وِلَادَةَ الدَّابَّةِ وَإِنْ بَاعَ وَلَدَهَا مَعَهَا، وَكَذَا الصُّوفُ إِنْ جُزَّ، فَإِنْ تَوَالَدَتِ الْغَنَمُ لَمْ يَبِعْ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَإِنْ جُزَّ الصُّوفُ فَلْيُبَيِّنْهُ، سَوَاءٌ تَمَّ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ الشِّرَاءِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ تَامًّا، فَقَدْ صَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَهَذَا نُقْصَانٌ مِنَ الْغَنَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا فَلَمْ يَنْبُتْ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَسْوَاقُ، أَمَّا إِنْ حَلَبَ الْغَنَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي الْمُرَابَحَةِ، لِأَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ أَوْ تَتَغَيَّرَ الْأَسْوَاقُ، فَلْيُبَيِّنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَدَثَتْ مِنَ الْعَيْنِ فَوَائِدُ فِي مِلْكِهِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَمْ يَحُطَّ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَإِنْ أَخَذَ ثَمَرَةً كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ لَبَنًا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، حَطَّ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ، وَقَابَلَهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَأَسْقَطَ مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ أَخَذَ وَلَدًا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَمْلَ لَهُ حُكْمٌ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا حُكْمَ لَهُ، لَمْ يَحُطَّ مِنَ الثَّمَنِ شَيْئًا. وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي النَّمَاءِ، فَقَالُوا: إِنْ تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ بِزِيَادَةٍ لِنَمَائِهَا كَالسِّمَنِ وَتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ، أَوْ يَحْصُلُ مِنْهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، أَخْبَرَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ النَّمَاءَ الْمُنْفَصِلَ، أَخْبَرَ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَبْيِينُ الْحَالِ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ.

إِضَافَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شَيْئًا إِلَى الْمَبِيعِ

10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُلْحَقَ بِرَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْغَسَّالِ وَالْفَتَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ وَالْكِرَاءِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ، وَيُبَاعَ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْكُلِّ، اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ هَذِهِ الْمُؤَنَ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَيَعُدُّونَهَا مِنْهُ، وَعُرْفُ الْمُسْلِمِينَ وَعَادَتُهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَوْقُوفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ.«مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ» ثُمَّ إِنَّ الصَّبْغَ وَأَمْثَالَهُ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ: وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، كَيْلَا يَكُونَ كَاذِبًا.وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ وَالْبَيْطَارِ وَفِدَاءِ الْجِنَايَةِ وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَعْلِيمِ صَنَاعَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ شِعْرٍ، فَلَا يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ مِنَ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْمُؤَنِ بِرَأْسِ الْمَالِ.

وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا، فَقَالُوا: وَحَسِبَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي رِبْحَ مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِالسِّلْعَةِ، أَيْ مُشَاهَدَةٌ بِالْبَصَرِ، كَصَبْغٍ وَطَرْزٍ وَقَصْرٍ وَخِيَاطَةٍ وَفَتْلٍ لِحَرِيرٍ وَغَزْلٍ وَكَمْدٍ- بِسُكُونِ الْمِيمِ أَيْ: دَقِّ الثَّوْبِ لِتَحْسِينِهِ- وَتَطَرِّيهِ، أَيْ جَعْلُ الثَّوْبِ فِي الطَّرَاوَةِ لِيَلِينَ وَتَذْهَبَ خُشُونَتُهُ، وَكَذَا عَرْكُ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ لِيَلِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَيْنٌ قَائِمٌ كَأُجْرَةِ حَمْلِ وَشَدِّ وَطَيِّ ثِيَابٍ وَنَحْوِهَا حَسِبَ أَصْلَهُ فَقَطْ دُونَ رِبْحِهِ إِنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَدْخُلُ فِي الثَّمَنِ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالدَّلاَّلِ وَالْحَارِسِ وَالْقَصَّارِ وَالرَّفَّاءِ وَالطَّرَّازِ وَالصَّبَّاغِ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ الْمُرَادَةِ لِلِاسْتِرْبَاحِ، قَائِلًا: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلَا يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا، أَوْ ثَمَنُهُ كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، لَكِنْ لَوْ قَصَّرَ بِنَفْسِهِ أَوْ كَالَ أَوْ حَمَلَ أَوْ تَطَوَّعَ بِهِ شَخْصٌ، لَمْ تَدْخُلْ أُجْرَتُهُ.

وَعِبَارَةُ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا عَمِلَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَمَلًا فِي السِّلْعَةِ، كَأَنْ يُقَصِّرَهَا أَوْ يَرْفُوهَا أَوْ يَجْعَلَهَا ثَوْبًا أَوْ يَخِيطَهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، أَخْبَرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، سَوَاءٌ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مَنْ عَمِلَ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُبَيِّنُ مَا اشْتَرَاهُ وَمَا لَزِمَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: تَحَصَّلَتْ عَلَيَّ بِكَذَا.

تَعَيُّبُ الْمَبِيعِ أَوْ نَقْصُهُ

11- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَدَثَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً يُنْظَرُ: إِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى بَائِعِ الْمُرَابَحَةِ تَبْيِينُ مَا يُكْرَهُ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ أَوْ وَصْفِهِ كَأَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مُحَرَّقًا أَوِ الْحَيَوَانُ مَقْطُوعَ عُضْوٍ وَتَغَيَّرَ الْوَصْفُ كَكَوْنِ الْعَبْدِ يَأْبَقُ أَوْ يَسْرِقُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يُكْرَهُ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ أَوْ وَصْفِهِ كَانَ كَذِبًا أَوْ غِشًّا، فَإِنْ تَحَقَّقَ عَدَمُ كَرَاهَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْبَيَانُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُ الْبَائِعَ أَنْ يَصْدُقَ فِي بَيَانِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ تُنْقِصُ الْقِيمَةَ أَوِ الْعَيْنَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَادِثَ يَنْقُصُ بِهِ الْمَبِيعُ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ تَبْيِينُ الْعَيْبِ فَقَطْ لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَأَنَّ الثَّمَنَ الْمَبْذُولَ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَعَ الْعَيْبِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَيْبٌ قَدِيمٌ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ رَضِيَ بِهِ وَجَبَ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَلَوْ أَخَذَ أَرْشَ عَيْبٍ وَبَاعَ بِلَفْظِ: قَامَ عَلَيَّ حَطَّ الْأَرْشَ، أَوْ بِلَفْظِ: مَا اشْتَرَيْتُ، ذَكَرَ صُورَةَ مَا جَرَى بِهِ الْعَقْدُ مَعَ الْعَيْبِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، لِأَنَّ الْأَرْشَ الْمَأْخُوذَ جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَخَذَ الْأَرْشَ عَنْ جِنَايَةٍ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ الْمَبِيعِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَنَقَصَ ثَلَاثِينَ، وَأَخَذَ مِنَ الْجَانِي نِصْفَ الْقِيمَةِ خَمْسِينَ، فَالْمَحْطُوطُ مِنَ الثَّمَنِ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِ النَّقْصِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ إِنْ بَاعَ بِلَفْظِ: قَامَ عَلَيَّ، وَإِنْ كَانَ نَقْصُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْشِ كَسِتِّينَ حَطَّ مَا أَخَذَ مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ أَخْبَرَ مَعَ إِخْبَارِهِ بِقِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ بَاعَ بِلَفْظِ: مَا اشْتَرَيْتُ ذَكَرَ الثَّمَنَ وَالْجِنَايَةَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ بِنَقْصٍ كَمَرَضٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ تَلَفِ بَعْضِهَا أَوْ بِوِلَادَةٍ أَوْ عَيْبٍ، أَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهَا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَنَحْوِهِ، أَخْبَرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ أَرْشَ الْعَيْبِ أَوِ الْجِنَايَةِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الصِّدْقِ وَنَفْيِ التَّغْرِيرِ بِالْمُشْتَرِي وَالتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحُطُّ أَرْشَ الْعَيْبِ مِنَ الثَّمَنِ، وَيُخْبِرُ بِالْبَاقِي: لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ عِوَضُ مَا فَاتَ بِهِ، فَكَانَ ثَمَنُ الْمَوْجُودِ هُوَ مَا بَقِيَ، وَفِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحُطُّهُ مِنَ الثَّمَنِ كَأَرْشِ الْعَيْبِ، وَالثَّانِي: لَا يَحُطُّهُ كَالنَّمَاءِ.

تَعَدُّدُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ:

12- إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ مَثَلًا، ثُمَّ بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ، أَخْبَرَ عِنْدَ بَيْعِهِ ثَانِيَةً مُرَابَحَةً أَنَّهُ بِعَشَرَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ (أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تُهْمَةٌ وَلَا تَغْرِيرٌ بِالْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَرْبَحْ فِيهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إِلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، أَوْ يُخْبِرَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَيَقُولَ: قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ تُضَمُّ فِيهَا الْعُقُودُ، فَيُخْبِرُ بِمَا تَقُومُ عَلَيْهِ، كَمَا تُضَمُّ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ.

ظُهُورُ الْخِيَانَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ

13- إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ فِي عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ، أَوْ بِبُرْهَانٍ عَلَيْهَا أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ، فَإِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ فِي قَدْرِهِ.

فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَمَانَةِ، إِذْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ عَلَى أَمَانَةِ الْبَائِعِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَانَتْ صِيَانَةُ الْبَيْعِ الثَّانِي عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ، كَمَا فِي حَالَةِ عَدَمِ تَحَقُّقِ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَبِيعَ كَانَ بَدَلَ صُلْحٍ فَلِلْمُشْتَرِي الثَّانِي الْخِيَارُ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ، بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ، وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ كَذَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنَ الثَّمَنِ، فَلَا يَلْزَمُ بِدُونِهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، لِوُجُودِ الْخِيَانَةِ، كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ تَسْمِيَةَ قَدْرِ الْخِيَانَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ فِي قَدْرِ الْخِيَانَةِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا بِالثَّمَنِ الْبَاقِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ، لَزِمَ الْمُبْتَاعَ الشِّرَاءُ إِنْ حَطَّهُ الْبَائِعُ عَنْهُ وَحَطَّ رِبْحَهُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَحُطَّهُ وَرِبْحَهُ عَنْهُ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلْيَصْدُقِ الْبَائِعُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَالْأَجَلِ وَالشِّرَاءِ بِالْعَرَضِ وَبَيَانِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، فَلَوْ قَالَ: بِمِائَةٍ، فَبَانَ بِتِسْعِينَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَحُطُّ الزِّيَادَةَ وَرِبْحَهَا وَأَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ قَبُولِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ، أَيْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ وَالرَّدِّ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَلَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْتِزَامِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْمَعِيبِ، أَمَّا الْإِخْبَارُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالزِّيَادَةِ وَحَطِّهَا مِنَ الرِّبْحِ.

الْبَيْعُ مُرَابَحَةً لِلْآمِرِ بِالشِّرَاءِ

14- نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ: إِذَا أَرَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ السِّلْعَةَ، فَقَالَ: اشْتَرِ هَذِهِ، وَأُرْبِحُكَ فِيهَا كَذَا، فَاشْتَرَاهَا الرَّجُلُ، فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ وَالَّذِي قَالَ: أُرْبِحُكَ فِيهَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَحْدَثَ فِيهَا بَيْعًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.

وَهَكَذَا إِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي مَتَاعًا وَوَصَفَهُ لَهُ، أَوْ مَتَاعًا أَيَّ مَتَاعٍ شِئْتَ، وَأَنَا أُرْبِحُكَ فِيهِ، فَكُلُّ هَذَا سَوَاءٌ، يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ فِيمَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ بِالْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا وَصَفَ، إِنْ كَانَ قَالَ: ابْتَعْهُ وَأَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِنَقْدٍ أَوْ دَيْنٍ، يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الْآخَرِ، فَإِنْ جَدَّدَاهُ جَازَ.

وَإِنْ تَبَايَعَا بِهِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَا أَنْفُسَهُمَا الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَبَايَعَاهُ قَبْلَ تَمَلُّكِ الْبَائِعِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى مَخَاطِرِهِ أَنَّكَ إِذَا اشْتَرَيْتَهُ عَلَى كَذَا، أُرْبِحُكَ فِيهِ كَذَا.

وَهَذَا مُصَرَّحٌ بِهِ أَيْضًا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا: مِنَ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ: أَنْ يَقُولَ: أَعِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا تَبِيعُهُ مِنِّي بِدَيْنٍ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: ابْتَعْ ذَلِكَ، وَأَنَا أَبْتَاعُهُ مِنْكَ بِدَيْنٍ، وَأُرْبِحُكَ فِيهِ، فَيَشْتَرِي ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعُهُ مِنْهُ عَلَى مَا تَوَاعَدَا عَلَيْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (مرض الموت 1)

مَرَضُ الْمَوْتِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَرَضُ: سَبَقَ تَعْرِيفُهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.

وَالْمَوْتُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْحَيَاةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَرَضِ الْمَوْتِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ: هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ خَوْفُ الْمَوْتِ، وَيَعْجِزُ مَعَهُ الْمَرِيضُ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَعَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ دَاخِلَ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ قَبْلَ مُرُورِ سَنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا مَا لَمْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ وَيَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ مِنْ تَارِيخِ الِاشْتِدَادِ.

فَعَلَى هَذَا، يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِهِ أَنْ يَتَوَافَرَ فِيهِ وَصْفَانِ:

الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا أَيْ يَغْلِبُ الْهَلَاكُ مِنْهُ عَادَةً أَوْ يَكْثُرُ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: حَدُّ مَرَضِ الْمَوْتِ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْمَوْتُ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ وَالْمُخِيفُ: هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ بِهِ، فَمَنْ قَالَ: مَخُوفٌ قَالَ: لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، وَمَنْ قَالَ: مُخِيفٌ لِأَنَّهُ يُخِيفُ مَنْ رَآهُ.

وَقَالَ التَّسُولِيُّ: وَمُرَادُهُ بِمَرَضِ الْمَوْتِ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي حَكَمَ أَهْلُ الطِّبِّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمُ الْأَطِبَّاءُ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِلاَّ قَوْلُ طَبِيبَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ثِقَتَيْنِ بَالِغَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَأَهْلُ الْعَطَايَا، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إِلاَّ ذَلِكَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى طَبِيبَيْنِ.

وَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَطِبَّاءُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ، ثُمَّ بِالْأَكْثَرِ عَدَدًا، ثُمَّ بِمَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ مَخُوفٌ، لِأَنَّهُ عِلْمٌ مِنْ غَامِضِ الْعِلْمِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَأَقَرَّهُ.

فَإِنْ لَمْ يَتَوَفَّرْ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، كَأَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَ أَحَدًا مِنَ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ عَجْزُ الْمَرِيضِ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَصَالِحِهِ خَارِجَ بَيْتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَعَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ دَاخِلَ بَيْتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِنَاثِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَرَضِ مَخُوفًا إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رُؤْيَةِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَبْلَهُ، أَوْ أَنْ تُعْتَبَرَ أَيَّةُ عَلَامَةٍ أُخْرَى تُنْبِئُ عَنْ كَوْنِهِ مَخُوفًا فِي نَظَرِ الْأَطِبَّاءِ الْعَارِفِينَ.

وَيُقْصَدُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَصَالِحِهِ خَارِجَ بَيْتِهِ: عَجْزُهُ عَنْ إِتْيَانِ الْمَصَالِحِ الْقَرِيبَةِ الْعَادِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُحْتَرِفًا بِحِرْفَةِ شَاقَّةٍ كَالْحَمَّالِ وَالدَّقَّاقِ وَالْحَدَّادِ وَالنَّجَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِقَامَتُهُ مَعَ أَدْنَى عَجْزٍ أَوْ مَرَضٍ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ لَا يَكُونُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ فِي حِرْفَتِهِمْ لِيُعْتَبَرُوا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بَلْ عَنْ مِثْلِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ صَاحِبُ الْحِرْفَةِ الْعَادِيَّةِ.

الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّصِلَ الْمَرَضُ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ أَمْ بِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجِيٍّ عَنِ الْمَرَضِ كَقَتْلٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ تَصَادُمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِذَا صَحَّ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَتُعْتَبَرُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفَاتِ الصَّحِيحِ دُونَ فَرْقٍ، فَالْمَرِيضُ مَا دَامَ حَيًّا لَا يَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ وَلَا لِدَائِنِيهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ، أَمَّا إِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ الْمَخُوفُ بِالْمَوْتِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّصَرُّفَ وَقَعَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ.

مَا يُلْحَقُ بِمَرَضِ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ:

2- أَلْحَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةً وَعَدِيدَةً لَيْسَ فِيهَا مَرَضٌ أَوِ اعْتِلَالُ صِحَّةٍ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَوَفَّرَ فِيهَا الْوَصْفَانِ الْمُشْتَرَطَانِ، مِنْهَا:

أ- مَا إِذَا كَانَ الشَّخْصُ فِي الْحَرْبِ وَالْتَحَمَتِ الْمَعْرَكَةُ وَاخْتَلَطَتِ الطَّائِفَتَانِ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهَ إِلْحَاقِهِ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ هَاهُنَا كَتَوَقُّعِ الْمَرَضِ أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ إِنَّمَا جُعِلَ مَخُوفًا لِخَوْفِ صَاحِبِهِ التَّلَفَ، وَهَذَا كَذَلِكَ.

ب- مَا إِذَا رَكِبَ الْبَحْرَ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ، وَإِنْ تَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَخِيفَ الْغَرَقُ، فَهُوَ مَخُوفٌ وَكَذَا إِذَا انْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ، وَخِيفَ الْغَرَقُ.

ج- إِذَا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ.

د- الْأَسِيرُ وَالْمَحْبُوسُ إِذَا كَانَ مِنَ الْعَادَةِ أَنْ يُقْتَلَ.

هـ- الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ إِذَا أَتَاهَا الطَّلْقُ.

وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا أَنْ يَتَّصِلَ حَالُ خَوْفِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ أَوِ الْكَثِيرِ بِالْمَوْتِ، حَتَّى تُلْحَقَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ.

حُكْمُ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ

3- الْأَمْرَاضُ الْمُزْمِنَةُ أَوِ الْمُمْتَدَّةُ لَا تُعَدُّ مَرَضَ الْمَوْتِ، إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْمَرِيضِ وَاشْتَدَّ وَخِيفَ مِنْهُ الْهَلَاكُ، فَيَكُونُ حَالُ التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ إِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ.

قَالَ الْكَيْسَانِيُّ: وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْفَالِجِ وَنَحْوُهُ إِذَا طَالَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا طَالَ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا، فَلَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ، إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ، فَيَكُونُ حَالُ التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا، فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَكَذَا الزَّمِنُ وَالْمُقْعَدُ.

وَجَاءَ فِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ: قَالَ ابْنُ سَلْمُونَ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرَضِ الْعِلَلُ الْمُزْمِنَةُ الَّتِي لَا يُخَافُ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْهَا كَالْجُذَامِ وَالْهَرَمِ، وَأَفْعَالُ أَصْحَابِ ذَلِكَ أَفْعَالُ الْأَصِحَّاءِ بِلَا خِلَافٍ ا هـ.قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ، كَوْنُ الْمَفْلُوجِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَجْذَمِ وَذِي الْقُرُوحِ مِنَ الْخَفِيفِ مَا لَمْ يُقْعِدْهُ وَيُضْنِهِ، فَإِنْ أَقْعَدَهُ وَأَضْنَاهُ وَبَلَغَ بِهِ حَدَّ الْخَوْفِ عَلَيْهِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ.

الِاخْتِلَافُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:

4- إِذَا طَعَنَ الْوَرَثَةُ مَثَلًا فِي تَصَرُّفَاتِ مُوَرِّثِهِمْ بِدَعْوَى صُدُورِهَا عَنْهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَا يَمَسُّ حُقُوقَهُمْ وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَعَتْ مِنْ مُوَرِّثِهِمْ فِي صِحَّتِهِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالَاتٍ ثَلَاثٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا خَلَتْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي صُدُورِهَا فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّ حَالَ الْمَرَضِ أَدْنَى مِنْ حَالِ الصِّحَّةِ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ حَالَ الصِّحَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ، فَهِيَ حَادِثَةٌ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إِلَى أَقْرَبِ وَقْتٍ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالْأَقْرَبُ هَاهُنَا الْمَرَضُ الْمُتَأَخِّرُ زَمَانُهُ عَنْ زَمَانِ الصِّحَّةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي حُدُوثَهَا فِي الْمَرَضِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ أَرَادَ مُدَّعِي الصِّحَّةِ اسْتِحْلَافَ مُدَّعِي الْمَرَضِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي صُدُورِهَا فِي الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصَرُّفِ السَّابِقِ مِنَ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُعْتَبَرَ صَادِرًا فِي حَالِ صِحَّتِهِ، وَعَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِصُدُورِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَقَعُ عَبْءُ الْإِثْبَاتِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ وُقُوعِهَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ وُقُوعِهَا فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ حَالَةِ الْمَرَضِ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ، وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْحَادِثِ إِلَى أَقْرَبِ وَقْتٍ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْمَرَضُ الْمُتَأَخِّرُ زَمَانُهُ عَنِ الصِّحَّةِ، فَلِهَذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ الرَّاجِحَةُ بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي حُدُوثَهَا فِي زَمَانِ الصِّحَّةِ، إِذِ الْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِإِثْبَاتِ خِلَافِ الْأَصْلِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ الْمَرَضِ، مَثَلًا إِذَا وَهَبَ أَحَدٌ مَالًا لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَادَّعَى بَاقِي الْوَرَثَةِ أَنَّهُ وَهَبَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنَّهُ وَهَبَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ.

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ وُقُوعِهَا فِي مَرَضِهِ عَلَى بَيِّنَةِ وُقُوعِهَا فِي صِحَّتِهِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى أَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ الْمُدَّعِي صَاحِبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِ الَّذِي خَلَتْ دَعْوَاهُ عَنِ الْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ بَيِّنَتَهُ عَلَى صُدُورِ التَّصَرُّفِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ.

الْهِبَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

جَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِهِبَةِ الْمَرِيضِ أَحْكَامًا

تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الصَّحِيحِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَرِيضِ الْوَاهِبِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْلَهُ.

أَوَّلًا- هِبَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ الْمَقْبُوضَةُ

5- إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهُ:

أ- فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، وَقَبَضَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ، وَالْمَرِيضُ الْوَاهِبُ غَيْرَ مَدِينٍ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ وَارِثٌ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ، وَلَوِ اسْتَغْرَقَتْ كُلَّ مَالِهِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِ الْمَرِيضِ، لِأَنَّ مَالَهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا مُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ، فَبَطَلَتْ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى نَفَاذِ هِبَةِ الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِنْ حَمَلَهَا ثُلُثُ مَالِهِ، أَمَّا إِذَا زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، فَيَتَوَقَّفُ الْقَدْرُ الزَّائِدُ مِنْهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ.

وَتُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُمْ لَوْ وَقَعَتْ تَنْفِيذًا وَإِمْضَاءً لِهِبَةِ مُوَرِّثِهِمْ، إِلاَّ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلٍ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ اعْتَبَرَاهَا ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ.

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ هِبَةِ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ».

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَعَلَ صَدَقَتَهُ فِي مَرَضِهِ مِنَ الثُّلُثِ، كَوَصَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

أَمَّا إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ لِوَارِثِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ الْمَرِيضِ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَتَوَقَّفُ الْهِبَةُ عَلَى إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ- كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ- فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا بَطَلَتْ.وَتُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُمْ تَنْفِيذًا وَإِمْضَاءً لِهِبَةِ مُوَرِّثِهِمْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلٍ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الْأَظْهَرِ وَقَالَ: هِبَةُ الْمَرِيضِ الْمَقْبُوضَةُ لِوَارِثِ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ.

ثَانِيًا- هِبَةُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ الْمَقْبُوضَةُ

6- إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاهِبُ مَدِينًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِمَالِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ:

فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، وَوَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَا تَنْفُذُ هِبَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ وَارِثًا لَهُ، بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا بَطَلَتْ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا وَهَبَ مَنِ اسْتَغْرَقَتْ تَرِكَتُهُ بِالدُّيُونِ أَمْوَالَهُ لِوَارِثِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ إِلْغَاءُ الْهِبَةِ، وَإِدْخَالُ أَمْوَالِهِ فِي قِسْمَةِ الْغُرَمَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاهِبُ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ، وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمَالَ الْمَوْهُوبَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخْرَجُ مِقْدَارُ الدُّيُونِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَبْلَغِ الزَّائِدِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّيْنِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَةٌ).

ثَالِثًا- هِبَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ

7- إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَمَا تَبْطُلُ أَيْضًا لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ صَحِيحًا وَقْتَ الْهِبَةِ، قَالُوا: وَلَا تَنْقَلِبُ هِبَةُ الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَصِيَّةً، لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ يُبْطِلُهَا الْمَوْتُ كَالنَّفَقَاتِ، وَلِأَنَّ الْوَاهِبَ أَرَادَ التَّمْلِيكَ فِي الْحَالِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذِ الْهِبَةُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ الْمُنَجَّزَ فِي الْحَيَاةِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ الْهِبَةَ، فَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْءٌ، وَكَانَتِ الْهِبَةُ لِلْوَرَثَةِ.

وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ وَلَا صَدَقَتُهُ إِلاَّ مَقْبُوضَةً، فَإِذَا قُبِضَتْ جَازَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ.

وَالثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحِيحَةٌ، وَتَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْلَ مَوْتِ الْوَاهِبِ الْمَرِيضِ.

جَاءَ فِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ: مَا قَوْلُكُمْ فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وَصَدَقَتِهِ وَسَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ، هَلْ تَحْتَاجُ لِحِيَازَةٍ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَتَبَرُّعَاتِ الصَّحِيحِ، أَمْ لَا؟ فَأَجَبْتُ: لَا تَحْتَاجُ لِحَوْزٍ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا كَالْوَصِيَّةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الثُّلُثِ، قَالَ الْبُنَانِيُّ: وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَتَبَرُّعَاتُهُ نَافِذَةٌ مِنَ الثُّلُثِ مُطْلَقًا، أَشْهَدَ أَمْ لَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ مُضِيُّ تَبَرُّعِهِ عَلَى حَوْزٍ وَلَا عَلَى الْإِشْهَادِ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَكُلُّ صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ عَطِيَّةٍ بَتَلَهُ الْمَرِيضُ لِرَجُلِ بِعَيْنِهِ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَمْ تُخْرَجْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى مَاتَ، فَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ ثُلُثِهِ كَوَصَايَاهُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بَطَلَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ.

أَدَاءُ الْمَرِيضِ حُقُوقَ اللَّهِ الْمَالِيَّةَ

8- إِذَا أَدَّى الْإِنْسَانُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذَا الْأَدَاءُ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ وَجَبَ مَالًا مِنَ الِابْتِدَاءِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ صَارَ مَالًا فِي الْمَآلِ، كَالْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ بِنَفْسِهِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا.

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ.

وَالثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِذَلِكَ.

الرُّجُوعُ عَنْ هِبَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْمَرِيضِ:

9- إِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْ هِبَتِهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَرِيضٌ وَقَدْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الصِّحَّةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالرُّجُوعُ فِيهَا صَحِيحٌ، وَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَقٍّ سَابِقٍ لَهُ عَلَى حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، كَانَ رَدُّ الْمَرِيضِ لَهَا حِينَ طَلَبِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مِنَ الْمَرِيضِ، وَتَسْرِي عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامُ هِبَةِ الْمَرِيضِ.

الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

إِذَا كَفَلَ الْمَرِيضُ غَيْرَهُ بِمَالِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَدِينٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدِينًا.

أَوَّلًا- كَفَالَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ

10- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: كَفَالَةُ الْمَرِيضِ بِمَالِهِ دَيْنًا لِشَخْصِ عَلَى آخَرَ تُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا بِالْتِزَامِ مَالٍ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عِوَضًا، وَهِيَ اسْتِهْلَاكٌ لِمَالِ الْمَرِيضِ، فَتَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُفَرَّقُ فِي حُكْمِ كَفَالَةِ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَهُوَ الدَّائِنُ، وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَدِينُ، أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وَارِثًا لَهُ:

أ- فَإِذَا كَفَلَ الْمَرِيضُ دَيْنًا لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْمَكْفُولِ لَهُ وَعَنْهُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، نَفَذَتِ الْكَفَالَةُ مِنْ كُلِّ مَالِ الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَلِلدَّائِنِ الْحَقُّ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ الدَّيْنُ كُلَّ التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي مُعَارَضَتِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمَضْمُونُ بِهِ لَا يَتَجَاوَزُ ثُلُثَ مَالِهِ، نَفَذَ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ تَجَاوَزَ الثُّلُثَ تَوَقَّفَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى إِجَازَتِهِمْ، فَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ، وَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ، فَيَزُولُ الْمَانِعُ.

ب- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَوْ عَنْهُ وَارِثًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ الضَّامِنِ وَارِثٌ سِوَاهُ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْفُذُ مِنْ كُلِّ مَالِ الْمَرِيضِ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُهُ، فَلَا تَنْفُذُ هَذِهِ الْكَفَالَةُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ بِهِ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، فَإِنْ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ ثَبَتَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَخْذُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَلَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنَ الْمَدِينِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ.

ثَانِيًا- كَفَالَةُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ

11- يُفَرَّقُ فِي كَفَالَةِ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ بِمَالِهِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ.

أ- فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ، فَلَا تَنْفُذُ كِفَالَتُهُ، وَلَوْ قَلَّ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ بِهِ، إِلاَّ إِذَا أَبْرَأَهُ الدَّائِنُونَ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِأَمْوَالِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ مِنَ الْمَالِ الْمَكْفُولِ بِهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوهُ بِرِضَاهُمْ.

ب- أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنُهُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ مِقْدَارُ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالْمَبْلَغِ الزَّائِدِ عَلَى الدَّيْنِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْكَفَالَةِ فِي حَالَةِ خُلُوِّ التَّرِكَةِ عَنِ الدُّيُونِ.

وَقَالَ الْكَيْسَانِيُّ: وَلَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا يُسْتَقْبَلُ، بِأَنْ قَالَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ: كَفَلْتُ بِمَا يَذُوبُ لَكَ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ وَجَبَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ فِي حَالِ مَرَضِ الْكَفِيلِ، فَحُكْمُ هَذَا الدَّيْنِ وَحُكْمُ دَيْنِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ، حَتَّى يَضْرِبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَضْرِبُ بِهِ غَرِيمُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وُجِدَتْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ.

وَجَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي صِحَّتِهِ، لَزِمَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْكَفَالَةُ لِوَارِثٍ وَلَا عَنْ وَارِثٍ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ فِي صِحَّتِهِ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِمَالٍ كَانَ سَبَبُهُ فِي الصِّحَّةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فَصَحَّ إِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَجْنَبِيًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ.

وَجَاءَ فِي م (1605) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِكَوْنِهِ قَدْ كَفَلَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، فَيُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ مِنْ مَجْمُوعِ مَالِهِ، وَلَكِنْ تُقَدَّمُ دُيُونُ الصِّحَّةِ إِنْ وُجِدَتْ.

الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

يُفَرَّقُ فِي الْوَقْفِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَدِينٍ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَدِينًا: أَوَّلًا- وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ

إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ مَالَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْفُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ:

أ- وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ أَوْ عَلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْبِرِّ صَحِيحٌ نَافِذٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ إِنْ كَانَ مِقْدَارُ الْوَقْفِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مِقْدَارُ الْمَوْقُوفِ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ، فَيَنْفُذُ الْوَقْفُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.

ب- وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى الْوَارِثِ

13- إِنْ كَانَ وَقْفُهُ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى جِهَةِ بِرٍّ لَا تَنْقَطِعُ، فَيُنْظَرُ إِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا هَذَا الْوَقْفَ نَفَذَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْقُوفُ يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ أَمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ.

وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ نَفَذَ وَقْفُ مَا يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ.

وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُجِيزِ وَقْفًا مَعَ الثُّلُثِ.

وَإِنْ كَانَ وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِهِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

ج- وَقْفُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ

14- إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ مَالَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، وَمَاتَ وَهُوَ مَدِينٌ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَقْفُهُ كُلُّهُ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَارِثًا أَمْ غَيْرَ وَارِثٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ مُسَاوِيًا لَهُ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَبِيعَتِ الْأَعْيَانُ الْمَوْقُوفَةُ لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ.

وَأَمَّا إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَكَانَ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَيُخْرَجُ مِقْدَارُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْوَقْفِ فِي الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ بِالْحُكْمِ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَمَا تَكُونُ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلًا- الْبَيْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

أ- بَيْعُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ مَالَهُ لِأَجْنَبِيٍّ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ عَلَى الْبَدَلِ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَمَسُّ حُقُوقَ دَائِنِيهِ وَوَرَثَتِهِ.

أَمَّا إِذَا بَاعَهُ مَعَ الْمُحَابَاةِ:

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ وَحَابَاهُ فِي الْبَيْعِ.

فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِحَيْثُ يَحْمِلُهَا الثُّلُثُ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ عَلَى الْبَدَلِ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِغَيْرِ وَارِثِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّبَرُّعُ نَافِذًا، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُحَابَاةُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِمْ، وَقَدْ أَسْقَطُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَدَلَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ لِلْوَرَثَةِ قِيمَةَ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِيُكْمِلَ لَهُمُ الثُّلُثَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ إِلَى الْوَرَثَةِ وَيَأْخُذَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا، أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ- كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ- أُلْزِمَ بِإِتْمَامِ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْقِيمَةَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبَدَلَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُلْزِمُوا الْمُشْتَرِيَ بِأَنْ يَدْفَعَ لَهُمُ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْلِ، لِهَذَا يُنْسَبُ الثُّلُثُ إِلَى الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِقَدْرِ النِّسْبَةِ وَيَبْطُلُ فِيمَا عَدَاهَا، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مَالَهُ لِأَجْنَبِيٍّ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَمِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ:

فَإِنْ قَصَدَ بِبَيْعِهِ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِكَثِيرٍ نَفْعَ الْمُشْتَرِي، فَمَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ مُحَابَاةً حُكْمُهَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إِنْ حَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَتَبْطُلُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، وَإِنْ أَجَازُوهَا جَازَتْ، وَتَكُونُ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ تَفْتَقِرُ إِلَى الْحَوْزِ وَالْوَقْتُ الْمُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ هُوَ وَقْتُ الْبَيْعِ، لَا وَقْتُ مَوْتِ الْبَائِعِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِبَيْعِهِ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِكَثِيرٍ نَفْعَ الْمُشْتَرِي، كَأَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ جَهْلًا بِقِيمَتِهِ، فَهُوَ غَبْنٌ يَصِحُّ مَعَهُ الْبَيْعُ عَلَى الْبَدَلِ الْمُسَمَّى وَيَنْفُذُ، وَلَا يُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ مِنَ الثُّلُثِ مَهْمَا بَلَغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْمُولِ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَحَابَاهُ فِي الْبَدَلِ، فَحُكْمُ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِلاَّ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ الَّذِي دَفَعَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْوَرَثَةَ الْفَضْلَ عَمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا، رَدَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، لَكِنَّهُ قَدْ دَخَلَهُ عَيْبٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا فِي الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَتَنْفُذُ الْمُحَابَاةُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إِنْ حَمَلَهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ: فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا- فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَدَلَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ- بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَسُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي الْبَاقِي، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا سُلِّمَ لَهُ مِنَ الْمَبِيعِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَدَلَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ غَيْرَ الثَّمَنَيْنِ، وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَيُنْسَبُ الثُّلُثُ إِلَى الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِقَدْرِ النِّسْبَةِ، وَيَبْطُلُ فِيمَا عَدَاهَا، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى الرِّبَا.

قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَإِنْ بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِقَفِيزٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، فَأَسْقَطَ قِيمَةَ الرَّدِيءِ مِنْ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، ثُمَّ نَسَبَ الثُّلُثَ إِلَى الْبَاقِي وَهُوَ عَشَرَةٌ مِنْ عِشْرِينَ تَجِدُهُ نِصْفَهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْجَيِّدِ بِنِصْفِ الرَّدِيءِ، وَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (مناسخة)

مُنَاسَخَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُنَاسَخَةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّسْخِ وَهُوَ النَّقْلُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ نَسْخًا: نَقَلْتَ صُورَتَهُ الْمُجَرَّدَةَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِزَالَةَ الصُّورَةِ الْأُولَى، بَلْ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مِثْلِهَا فِي مَادَّةٍ أُخْرَى، وَالِاسْتِنْسَاخُ: التَّقَدُّمُ بِنَسْخِ الشَّيْءِ وَالتَّرَشُّحُ لِلنَّسْخِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّسْخِ عَنِ الِاسْتِنْسَاخِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَنَسْخُ الْكِتَابِ: إِزَالَةُ الْحُكْمِ بِحُكْمٍ يَتَعَقَّبُهُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسَخَةِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ: نَقْلُ نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ.

أَحْوَالُ الْمُنَاسَخَةِ وَأَحْكَامُهَا

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمُنَاسَخَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً لِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمُهُ قَالَ الْحِجَّاوِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ: الْمُنَاسَخَةُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

2- الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي يَرِثُونَهُ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنَ الْأَوَّلِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً لَهُمَا، فَاقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ كَمَيِّتٍ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ، ثُمَّ مَاتَتْ بِنْتٌ ثُمَّ ابْنٌ، ثُمَّ بِنْتٌ أُخْرَى ثُمَّ ابْنٌ آخَرُ، وَبَقِيَ ابْنَانِ وَبِنْتٌ.فَاقْسِمِ الْمَالَ عَلَى خَمْسَةٍ.

3- الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَوْتَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَإِخْوَةٍ خَلَّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَاجْعَلْ مَسَائِلَهُمْ كَعَدَدٍ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُهُمْ، وَصَحِّحْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّصْحِيحِ.

مِثَالُهُ: رَجُلٌ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ.فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ ابْنَيْنِ، وَالثَّانِي عَنْ ثَلَاثَةٍ، وَالثَّالِثُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَالرَّابِعُ عَنْ سِتَّةٍ، فَالْمَسَالَةُ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَسْأَلَةُ الِابْنِ الْأَوَّلِ مِنَ اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالثَّالِثِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالرَّابِعِ مِنْ سِتَّةٍ عَدَدُ الْبَنِينَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ مَسَائِلِ الْوَرَثَةِ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ، فَالِاثْنَانِ تَدْخُلُ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالثَّلَاثَةُ تَدْخُلُ فِي السِّتَّةِ، فَأَسْقِطِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ، وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ، فَاضْرِبْ وَفْقَ الْأَرْبَعَةِ فِي السِّتَّةِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبْهَا فِي الْمُسَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، لِوَرَثَةِ كُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ وَاحِدٍ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الِابْنِ الْأَوَّلِ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الِابْنِ الثَّانِي أَرْبَعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الِابْنِ الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الِابْنِ الرَّابِعِ سَهْمَانِ، لِأَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِتَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ.

4- الْحَالُ الثَّالِثُ: مَا عَدَا ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي لَا يَرِثُونَهُ كَالْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَوْتَى يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَقْسِمَ سِهَامَ الْمَيِّتِ الثَّانِي عَلَى مَسْأَلَتِهِ.فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَى.

كَرَجُلٍ خَلَّفَ زَوْجَةً وَبِنْتًا وَأَخًا لِغَيْرِ أُمٍّ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَعَمًّا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلزَّوْجَةِ وَاحِدٌ وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأَخِ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ.وَمَسْأَلَةُ الْبِنْتِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِزَوْجِهَا وَاحِدٌ وَلِبِنْتِهَا اثْنَانِ وَلِعَمِّهَا وَاحِدٌ.وَلَهَا مِنَ الْأُولَى أَرْبَعَةٌ، وَمَسْأَلَتُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَيْهَا، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِلزَّوْجَةِ وَاحِدٌ، وَلِلْأَخِ الَّذِي هُوَ عَمٌّ فِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةٌ، وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِهَا اثْنَانِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَنْقَسِمَ سِهَامُ الثَّانِي عَلَى مَسْأَلَتِهِ بَلْ تُوَافِقُهَا، فَرُدَّ مَسْأَلَتَهُ إِلَى وَفْقِهَا، وَاضْرِبْ وَفْقَ مَسْأَلَتِهِ فِي كُلِّ الْأُولَى، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ الْجَامِعَةُ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُسَالَةِ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي.

مِثْلُ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا لِلْبِنْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مَسْأَلَتَهَا تَكُونُ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لِأَنَّ فِيهَا نِصْفًا لِلْبِنْتِ، وَرُبُعًا لِلزَّوْجِ، وَسُدُسًا لِلْأُمِّ تُوَافِقُ سِهَامَهَا مِنَ الْأُولَى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ بِالرُّبُعِ، فَتَرْجِعُ الِاثْنَا عَشَرَ إِلَى رُبُعِهَا ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْهَا فِي الْأُولَى- وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ- تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ: لِلْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ زَوْجَةٌ فِي الْأُولَى أُمٌّ فِي الثَّانِيَةِ سَهْمٌ مِنَ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بِثَلَاثَةٍ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ سَهْمَانِ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتَةِ بِاثْنَيْنِ.فَيَكُونُ لَهَا خَمْسَةٌ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُولَى ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٍ بِتِسْعَةٍ، وَلَهُ بِكَوْنِهِ عَمًّا فِي الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ.فَيَجْتَمِعُ لَهُ عَشَرَةٌ، وَلِزَوْجِ الْبِنْتِ مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي وَاحِدٍ بِثَلَاثَةٍ، وَلِبِنْتِهَا مِنْهَا سِتَّةٌ فِي وَاحِدٍ بِسِتَّةٍ.وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَنْقَسِمَ سِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي عَلَى مَسْأَلَتِهِ وَلَا تُوَافِقُهَا.فَاضْرِبِ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ فِي كُلِّ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمَا حَصَلَ فَهُوَ الْجَامِعَةُ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي.

وَذَلِكَ كَأَنْ تُخَلِّفَ الْبِنْتُ- الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا عَنْهَا وَعَنْ زَوْجَةٍ وَأَخٍ- بِنْتَيْنِ وَزَوْجًا وَأُمًّا، فَإِنَّ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَسِهَامُ الْبِنْتِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ، وَمَسْأَلَتُهَا تَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ: لِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ، وَالْأَرْبَعَةُ لَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا وَلَا تُوَافِقُهَا، فَاضْرِبْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَكُنِ الْجَامِعَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ: لِلْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ أُمٌّ فِي الثَّانِيَةِ زَوْجَةٌ فِي الْأُولَى سَهْمٌ مِنَ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ سَهْمَانِ فِي سِهَامِ الْمَيِّتَةِ مِنَ الْأُولَى أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ مُجْتَمَعٌ لَهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلِأَخِي الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْفُرُوضِ الْمَالَ، وَلِلزَّوْجِ مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتَةِ الْأَرْبَعَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلِبَنِيهَا مِنَ الثَّانِيَةِ ثَمَانِيَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ.وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ.

5- فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ جُمِعَتْ سِهَامُهُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ، وَعَمِلْتَ فِيهَا عَمَلَكَ فِي مَسْأَلَةِ الثَّانِي مَعَ الْأُولَى، بِأَنْ تَنْظُرَ بَيْنَ سِهَامِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا لَمْ تَحْتَجْ لِضَرْبٍ، وَإِلاَّ فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقَ أَوْ تُبَايِنَ.فَإِنْ وَافَقَتْ رَدَدْتَ الثَّالِثَةَ لِوَفْقِهَا وَضَرَبْتَهُ فِي الْجَامِعِ، وَإِنْ بَايَنَتْ ضَرَبْتَ الثَّالِثَةَ فِي الْجَامِعَةِ، ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَامِعَةِ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ الثَّالِثَةِ عِنْدَ التَّوَافُقِ، أَوْ كُلِّهَا عِنْدَ التَّبَايُنِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّالِثَةِ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ سِهَامِ مُوَرِّثِهِ مِنَ الْجَامِعَةِ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ أَوْ فِي كُلِّهَا عِنْدَ الْمُبَايَنَةِ.

مِثَالُهُ: مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ

أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ.مَاتَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ عَنْ زَوْجِهَا وَأُمِّهَا وَأُخْتِهَا لِأَبِيهَا وَأُخْتِهَا لِأُمِّهَا أَصْلُ مَسْأَلَتِهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَسِهَامُهَا مِنَ الْأُولَى سِتَّةٌ مُتَّفِقَانِ بِالنِّصْفِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةً فِي الْأُولَى تَبْلُغْ سِتِّينَ، وَاقْسِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْأُولَى ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلِلْأُمِّ مِنَ الْأُولَى اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي ثَلَاثَةٍ.فَيَجْتَمِعُ لَهَا أَحَدَ عَشَرَ، وَلِأُخْتِ الْأَوَّلِ لِأَبِيهِ اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ، وَلَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ بِتِسْعَةٍ.يَجْتَمِعُ لَهَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وِلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ مِنَ الْأُولَى اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي ثَلَاثَةٍ يَجْتَمِعُ لَهَا أَحَدَ عَشَرَ.وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ بِتِسْعَةٍ.

ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمُّ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا وَبِنْتًا وَهِيَ الْأُخْتُ لِأُمٍّ.فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَلَهَا مِنَ الْجَامِعَةِ أَحَدَ عَشَرَ لَا تَنْقَسِمُ وَلَا تُوَافِقُ، فَتَضْرِبْ مَسْأَلَتَهَا أَرْبَعْةً فِي الْجَامِعَةِ وَهِيَ سِتُّونَ تَبْلُغْ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.وَمِنْهَا تَصِحُّ الثَّلَاثُ، لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْجَامِعَةِ اثْنَا عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ.وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ سَبْعَةَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ، وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ مِنَ الْجَامِعَةِ أَحَدَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَمِنَ الثَّالِثَةِ اثْنَانِ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَهِيَ سِهَامُ الثَّالِثَةِ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ.فَيَجْتَمِعُ لَهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ تِسْعَةٌ مِنَ الْجَامِعَةِ فِي أَرْبَعَةٍ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَلِزَوْجِ الثَّالِثَةِ مِنْهَا وَاحِدٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ بِأَحَدَ عَشَرَ.وَكَذَا أُخْتِهَا.

6- وَكَذَلِكَ تَصْنَعُ فِي الْمَيِّتِ الرَّابِعِ بِأَنْ تَعْمَلَ لَهُ مَسْأَلَةً وَتُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِهَامِهِ مِنَ الْجَامِعَةِ لِلثَّلَاثِ قَبْلَهَا، فَإِمَّا أَنْ تَنْقَسِمَ أَوْ تُوَافِقَ أَوْ تُبَايِنَ، وَتُتِمَّ الْعَمَلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

7- وَكَذَا تَصْنَعُ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ مِنْ خَامِسٍ أَوْ أَكْثَرَ بِأَنْ تَعْمَلَ لِلْخَامِسِ مَسْأَلَةً وَتُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِهَامِهِ مِنَ الْجَامِعَةِ لِلْأَرْبَعِ قَبْلَهَا، ثُمَّ تَعْمَلَ لِلسَّادِسِ مَسْأَلَةً وَتُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِهَامِهِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَكَذَا فَتَكُونُ الْجَامِعَةُ كَالْأُولَى.وَمَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ كَالثَّانِيَةِ وَتُتِمُّ الْعَمَلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

وَالِاخْتِبَارُ بِجَمْعِ الْأَنْصِبَاءِ فَإِنْ سَاوَى حَاصِلُهَا الْجَامِعَةَ فَالْعَمَلُ صَحِيحٌ وَإِلاَّ فَأَعِدْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ

8- إِذَا قِيلَ: مَيِّتٌ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ تُقْسَمِ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ عَمَّنْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَطْ أَوْ مَعَ زَوْجٍ، احْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ رَجُلًا فَالْأَبُ فِي الْأُولَى جَدٌّ وَارِثٌ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَبُو أَبٍ.

وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ حَيْثُ مَاتَتْ عَمَّنْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَطْ.لِأَنَّ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ لِكُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمٌ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْبِنْتَيْنِ سَهْمَانِ.وَالثَّانِيَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ عَشَرَةٌ، وَلِلْأُخْتِ خَمْسَةٌ، وَسِهَامُ الْمَيِّتِ اثْنَانِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ لَكِنْ تُوَافِقُهَا بِالنِّصْفِ، فَرُدَّهَا لِتِسْعَةٍ وَاضْرِبْهَا فِي سِتَّةٍ تَبْلُغْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ:

لِلْأُمِّ مِنَ الْأُولَى وَاحِدٌ فِي تِسْعَةٍ بِتِسْعَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي وَاحِدٍ، يَجْتَمِعُ لَهَا اثْنَا عَشَرَ.

وَلِلْأَبِ مِنَ الْأُولَى وَاحِدٌ فِي تِسْعَةٍ بِتِسْعَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ عَشَرَةٌ فِي وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، يَجْتَمِعُ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ.

وَلِلْبِنْتِ مِنَ الْأُولَى سَهْمَانِ فِي تِسْعَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمِنَ الثَّانِيَةِ خَمْسَةٌ فِي وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعُهَا ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ.وَمَجْمُوعُ سِهَامِ الْكُلِّ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ.

وَإِنْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَالْأَبُ فِي الْأُولَى أَبُو أُمٍّ، فِي الثَّانِيَةِ لَا يَرِثُ، وَالْأُخْتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ شَقِيقَةً أَوْ لِأُمٍّ.

وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، إِنْ كَانَتْ لِأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، لِأَنَّ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ بِالرَّدِّ، لِلْجَدَّةِ وَاحِدٌ، وَلِلشَّقِيقَةِ ثَلَاثَةٌ، وَسِهَامُ الْمَيِّتَةِ اثْنَانِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ تُوَافِقُهَا بِالنِّصْفِ فَتُرَدُّ الْأَرْبَعَةُ لِاثْنَيْنِ، وَتَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَقْسِمُهَا، لِلْأَبِ مِنَ الْأُولَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ.وَلِلْبِنْتِ مِنَ الْأُولَى اثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي وَاحِدٍ بِثَلَاثَةٍ، وَلِلْأُمِّ مِنَ الْأُولَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي وَاحِدٍ فَلَهَا ثَلَاثَةٌ، وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ اثْنَا عَشَرَ.

وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ لِأُمٍّ فَمَسْأَلَةُ الرَّدِّ مِنَ اثْنَيْنِ وَسِهَامُ الْمَيِّتَةِ مِنَ الْأُولَى اثْنَانِ.فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنَ السِّتَّةِ: لِلْأَبِ وَاحِدٌ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ اثْنَانِ.

وَهِيَ- أَيِ الْمَسْأَلَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ لَمْ تُقْسَمِ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ- (الْمَأْمُونِيَّةُ) لِأَنَّ الْمَأْمُونَ سَأَلَ عَنْهَا يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ- بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ.فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ فَطِنَ لَهَا.فَقَالَ لَهُ: إِذَا عَرَفْتَ التَّفْصِيلَ فَقَدْ عَرَفْتَ الْجَوَابَ، وَوَلاَّهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-الأضداد لابن الأنباري (أيام أبدت لنا جيدا وسالفة فقلت أنى لها جيد ابن أجياد)

238 - وممَّا يفسّر من الشِّعر تفسيرين كالمتضادَّيْن، قول الشَّاعر:

«أَيَّامَ أَبْدَتْ لَنَا جِيدًا وسَالِفَةً *** فقلت أَنَّى لها جِيدُ ابنِ أَجْيَادِ»

يُروَى روايتين مختلفتين، ويفسَّر تفسيرين مختلفين، فكان يعقوب ابن السِّكِّيت يرويه: أَنَّى لها جيدُ ابنِ أَجياد بإِضافة الجيد إِلى ابن، ويقول: ابن أَجياد ظبي يكون في جبل بناحية مكَّة، يقال له: أَجياد، أَي لها عُنُق هذا الظبي الَّذي يسكن هذا الجبل.

ورواه غير ابن السِّكِّيت: أَنَّى لها جيدُ ابنُ أَجياد برفع الابن، وقال: معناه أَنَّى لها هذه العنق الجميلة الحسنة المتناهية في كمالها! قال: وليس أَجياد اسم جبل، إِنَّما هي الأَعناق، نسب الجِيد إِليها للمبالغة، كما نقول: هذا درهم ابن دراهم، وهذا دينار ابن دنانير، إِذا كان كامل الجودة والحسن، وحذف التنوين من جِيد، وأَصله جِيدٌ ابن أَجياد، لاجتماع الساكنين، قال ابن قيس:

«كَيْفَ نَوْمي على الفِرَاشِ وَلَمَّا *** تَشْمَلِ الشَّامَ غارَةٌ شَعْوَاءُ»

«تُذْهِلُ الشَّيخ عنْ بَنِيهِ وتُبْدِي *** عَنْ خِدَامِ العقيلَةُ العَذْراءُ»

أَراد عن خدامٍ، فأَسقط التنوين. وأَنشَدَ الفرَّاءُ:

«لَتَجِدَنِّي بالأَميرِ بَرّا *** وبالقناةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا»

إِذا غطيفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا

أَراد غطيفٌ فأَسقط التنوين لسكونه وسكون السِّين. وقول يعقوب بن السِّكِّيت هو اختيارنا، وعليه أَكثر أَهل اللُّغة.

الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م


24-الغريبين في القرآن والحديث (رهره)

(رهره)

في حديث المبعث قال: (فشق عن قلبه وجيء بطست رهرهة) قال القتيبي: سألت أبا حاتم عنها فلم يعرفها قال: وسألت الأصمعي عنها فلم يعرفها قال: وسألت الأصمعي عنها فلم يعرفها، قال القتيبي: كأنه أراد: بطست، رحرحة بالحاء وهي الواسعة، والعرب تقول: إناء رحراح ورحرح، أي: واسعٌ، فأبدلوا الهاء من الحاء، كما قالوا: مدهت ومدحت، في حروف كثيرة، قال أبو بكر بن الأنباري: هذا بعيد جدًا، لأن الهاء لا تبدل من الحاء إلا في المواضع الذي استعملت العرب فيها ذلك، ولا يقاس عليها، لأن الذي يجيز القياس عليها يلزم أن يبدل الحاء هاء في قولهم: رحل الرجل، وفي قوله: (فمن زحزح عن النار) وليس هذا من كلام العرب، وإنما هو: درهرهة، فأخطأ الراوي، فأسقط الدال وقد ذكرناه مفسرًا في موضعه من الكتاب. رباعي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إذ مرت به عنانة ترهياء) أي: أنها تهيأت للمطر، فهي تريده ولما تفعل يقال: ترهيأ القوم في أمرهم، إذا تهيأوا له، ثم أمسكوا عنه، وهم يريدون أن يفعلوه.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


25-الغريبين في القرآن والحديث (كرم)

(كرم)

قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} أي: فضلناهم بالنطق والتمييز والطيبات، وعن ابن عباس: جعلناهم يأكلون الطعام بأيديهم.

وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} أي: معرضين عنه أكرموا أنفسهم من الدخول فيه.

وقوله تعالى: {ورزق كريم} أي: أكرم عما في رزق الدنيا من الانقطاع والتنقيص والفساد.

وقوله: {ألقي إلى كتاب كريم} قيل: مختوم، وقيل: حسن ما فيه، وقيل: جعلته كريما لكرم صاحبه. وقيل: لابتدائه ببسم الله الرحمن الرحيم.

وقوله تعالى: {إنه لقرآن كريم} أي: كثير الخير دال على أنه من عند الله.

وقوله تعالى: {وأجر كريم} يعني: الجنة.

وقوله تعالى: {انبتنا فيها من كل زوج كريم} معنى الزوج: الجنس أي من كل جنس حسن، والكريم: المحمود. يقال: نخلة كريمة إذا طاب حملها أو كثر، وشاة كريمة أي غزيرة اللبن.

وفي الحديث: (لا تسموا العنب الكرم، فإنما الكرم الرجل المسلم) قال أبو بكر محمد بن القاسم: سمي الكرم كرما، لأن الخمر المتخذ منه، يحث على السخاء والكرم، فاشتقوا اسما من الكرم للكرم الذي يتولد منه، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسمى الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المؤمن أولى بهذا الاسم الجنس فأسقط الخمر عن هذه الرتبة تحقيرا لها تأكيدا لحرمته، يقال: رجل كرم أي كريم، وصف بالمصدر.

في الحديث: (أن رجلا أهدى له راوية خمر، فقال: إن الله حرمها، قال الرجل: أفلا أكارم بها يهود) بقول: أفلا أهديها لهم يثيبوني عليها.

وفي الحديث: (إن الله تعالى يقول: إذا أنا أخذت من عبدي كريمتيه).

وفي بعض الحديث (كريمته) يريد عينيه، قال شمرس: كل شيء يكرم عليك فهو كريمك، وكريمتك.

وجاء في بعض الحديث: (إذا أتاكم كريمة قوم) أي كريم قوم.

وفي الحديث: (خير الناس يومئذ بين كريمين) قال بعضهم: هنا الحج والجهاد، وقيل: بين فرسين يغزو عليهما، وقيل: بين أبوين مؤمنين كريمين، قال أبو بكر: وهذا هو القول لأن الحديث يدل عليه، ولأن الكريمين لا يكونا فرسين ولا بعيرين إلا بدليل في الكلام يدل عليه.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


26-المغرب في ترتيب المعرب (‏وهم-‏وهمت‏)

‏ (‏وهـم‏) ‏‏

(‏وَهَمْتُ‏) ‏ الشَّيْءَ أَهِمُهُ وَهْمًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْ وَقَعَ فِي خَلَدِي ‏ (‏وَالْوَهْمُ‏) ‏ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْخَاطِرِ وَمِنْهُ مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رِيَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا وَهْمُ صَاحِبِكُمْ الْإِبِلُ أَيْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَهْمُهُ وَوَهِمَ فِي الْحِسَابِ غَلِطَ مَنْ بَابِ لَبِسَ ‏ (‏وَأَوْهَمَ فِيهِ‏) ‏ مِثْلُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ ‏ (‏أَوْهَمْتُ‏) ‏ أَوْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ الشَّاهِدَانِ أَوْهَمْنَا أَنَّمَا السَّارِقُ هَذَا وَيُرْوَى وَهِمْنَا وَأَوْهَمَ مِنْ الْحِسَابِ مِائَةً أَيْ أَسْقَطَ وَأَوْهَمَ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةً وَفِي الْحَدِيثِ ‏ [‏أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَأَوْهَمَ فِي صَلَاتِهِ فَقِيلَ لَهُ كَأَنَّكَ أَوْهَمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَقَالَ وَكَيْفَ لَا أُوهِمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ‏] ‏ أَيْ أَخْطَأَ فَأَسْقَطَ رَكْعَةً وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ‏ (‏وَهِمْتَ‏) ‏ فَقَالَ كَيْفَ لَا أَهِيمُ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ تَعْلَمُ ‏ (‏وَأَمَّا حَدِيثُ‏) ‏ عَطَاءٍ إذَا أَوْهَمَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَمْ يُعِدْ فَمَعْنَاهُ إذَا شَكَّ ‏ (‏وَالرُّفْغُ‏) ‏ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ أَصْلُ الْفَخِذِ وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ الْأَرْفَاغُ الْآبَاطُ وَالْمَغَابِنُ مِنْ الْجَسَدِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ وَأُصُولِ الْفَخِذَيْنِ وَهُوَ مِنْ الْمَغَابِنِ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يَحُكُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ جَسَدِهِ فَيَعْلَقُ دَرَنُهُ وَوَسَخُهُ بِأَصَابِعِهِ فَيَبْقَى بَيْنَ الظُّفْرِ وَالْأُنْمُلَةِ وَالْغَرَضُ إنْكَارُ طُولِ الْأَظْفَارِ وَتَرْكِ قَصِّهَا‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


27-المعجم الغني (غَبَنٌ)

غَبَنٌ- [غبن]، (مصدر: غَبِنَ):

1- "الغَبَنُ فِي البَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ": الْخَدِيعَةُ.

2- "غَبَنُ الثَّوْبِ": مَا قُطِعَ مِنْ أَطْرَافِهِ فَأُسْقِطَ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


28-معجم الرائد (غبن)

غبن:

1- مصدر: غبن.

2- خديعة في البيع والشراء.

3- ما قطع من أطراف الثوب فأسقط.

4- موضع يستر فيه الشيء.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


29-تاج العروس (قلب)

[قَلَب]: قَلَبَه، يَقْلِبُهُ، قَلْبًا، من بابِ ضَرَب: حَوَّلهُ عن وَجهِهِ، كأَقْلَبَهُ. وهذا عن اللِّحْيَانِيّ، وهي ضعيفةٌ. وقد انْقَلَبَ. وقَلَّبهُ مُضَعَّفًا.

وقَلَبَه: أَصابَ قَلْبَه؛ أَي فُؤَادَهُ، ومثلُهُ عبارةُ غيرِه يَقْلُبُه، ويَقْلِبُهُ، الضَّمّ عن اللِّحْيَانيّ، فهو مَقْلُوبٌ.

وقَلَبَ الشْي‌ءَ: حَوَّلَه ظَهْرًا لِبَطْنٍ اللامُ فيه بمعنى على، ونَصَبَ ظَهْرًا على البَدَل؛ أَي قَلَبَ ظَهْرَ الأَمْرِ عَلَى بَطْنه، حَتَّى عَلِمَ ما فِيه، كَقلَّبَه مُضَعَّفًا. وتَقَلَّب الشَّي‌ءُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، كالحَيَّة تَتقَلَّبُ على الرَّمْضاءِ.

وقَلَبَه عن وَجْهِه؛ صَرفَه. وحكى اللحيانيّ: أَقْلَبَهُ، قال: وهي مرغوبٌ عنها.

وقَلَبَ الثَّوْبَ، والحَدِيثَ، وكُلَّ شَيْ‌ءٍ: حَوَّلَه؛ وحكى اللِّحْيَانيُّ فيهما أَقْلَبَه، والمختارُ عندَه في جميع ذلك: قَلَبْتُ.

والانْقِلابُ إِلى اللهِ عَزّ وجلّ: المَصِيرُ إِليه، والتَّحوُّلُ.

وقد قَلَبَ اللهُ فُلانًا إِليه: توَفَّاه. هذا كلام العربِ، وقولُه: كأَقْلَبَه، حكاه اللِّحْيَانِيّ، وقال أَبُو ثَرْوَان أَقْلَبَكُمُ اللهُ مَقْلَبَ أَوْلِيائِهِ، ومُقْلَبَ أَوْلِيَائِهِ، فقالها بالأَلف. وقالَ الفَرَّاءُ: قد سَمِعْتُ أَقْلَبَكُم اللهُ مُقْلَبَ أَولِيائِهِ وأَهْلِ طاعتِهِ.

وقَلَبَ النَّخْلَةَ: نَزَعَ قَلْبَها، وهو مَجازٌ، وسيأَتِي أَن فيه لُغَاتٍ ثلاثةً.

وقَلَبَتِ البُسْرَةُ تَقْلِبُ: إِذَا احْمَرَّت. وعن ابْنِ سِيدَهْ: القَلْبُ: الفُؤادُ، مذكَّرٌ، صرّح به اللِّحْيَانيُّ؛ أَو مُضْغَةٌ من الفُؤادِ مُعلَّقَةٌ بالنِّيَاطِ. ثُمَّ إِنّ كلامَ المُصَنِّف يُشيرُ إِلى تَرادُ فِهِما، وعليه اقتصر الفَيُّومِيّ والجوْهرِيُّ وابْنُ فارِسٍ وغيرُهُمْ، أَوْ أَنَّ القَلْبَ أَخصُّ منه، أَي: من الفُؤَادِ في الاستعمالِ، لأَنّه معنًى من المعاني يَتعلَّق به. ويَشهَدُ له حديثُ: «أَتَاكُم أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا، وأَلْيَنُ أَفْئدَةً» ووصَفَ القُلُوبَ بالرِّقَّةِ، والأَفئدَةَ باللِّينِ، لأَنَّهُ أَخصُّ من الفُؤادِ، ولذلك قالوا: أَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ، وسُوَيْدَاءَ قَلْبِه. وقيل: القُلُوبُ والأَفْئدةُ قريبانِ من السَّواءِ، وكَرَّرَ ذِكْرَهُمَا، لاختلاف اللّفظينِ، تأْكيدًا.

وقال بعضُهُم: سُمّيَ القَلْبُ قَلبًا لِتَقَلُّبِه، وأَنشد:

ما سُمِّيَ القَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ *** والرَّأْيُ يَصْرِفُ بالإِنسانِ أَطْوارَا

قال الأَزهريُّ: ورأَيتُ بعضَ العربِ يُسمِّي لحمةَ القلْبِ كُلَّها شَحْمَها وحِجابَها قَلْبًا وفُؤَادًا. قال: ولم أَرَهُم يَفْرِقُون بينَهمَا. قال: ولا أُنْكِرُ أَنْ يكونَ القلبُ هي العَلَقَةَ السَّوْداءَ في جوفه.

قال شيخُنا: وقيلَ: الفُؤَادُ: وِعاءُ القَلْبِ، وقيلَ: داخِلُهُ، وقيلَ: غِشاؤُهُ. انتهى.

وقد يُعَبَّرُ بالقَلْبِ عن العَقْلِ، قال الفَرّاءُ في قوله تَعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ}، أَي: عَقْلٌ، قال: وجائزٌ في العربية أَنْ تقولَ: ما لكَ قَلْبٌ، وما قَلْبُكَ مَعَكَ، تقولُ: ما عَقْلُكَ معك. وأَيْنَ ذَهَب قَلْبُك؟

أَي: عَقْلُك: وقال غيرُه: لمنْ كانَ لَهُ قَلْب، أَي: تَفَهُّمٌ وتَدَبُّرٌ.

وعَدَّ ابْنُ هِشَامٍ في شرحِ الكَعْبِيَّةِ من معاني القَلْبِ أَربعةً: الفُؤادَ، والعَقْلَ، ومَحْضَ، أَي: خلاصة كُلِّ شيْ‌ءٍ، وخِيارهُ وفي لسان العرب: قَلْبُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ: لُبُّه، وخالِصُهُ، ومَحْضُه. تقول: جئتُك بهذا الأَمهر قَلْبًا: أَي مَحضًا، لا يَشُوبُه شَيْ‌ءٌ. وفي الحديثِ: وإِنّ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَلْبًا، وَقلْبُ القُرآنِ يس.

ومن المَجاز: هو عَرَبِيٌّ قَلْبٌ، وَعَرَبيَّةٌ قَلْبَةٌ وقَلْبٌ: أَي خالِصٌ. قال أَبو وَجْزَةَ يَصِفُ امْرَأَةً:

قَلْبٌ عَقِيلَةُ أَقْوَامٍ ذَوِي حَسَبٍ *** يُرْمَى الْمَقَانِبُ عنها والأَرَاجِيلُ

قال سِيبَويْه: وقالُوا: هذا عَرَبِيٌّ قَلْبٌ وقَلْبًا، على الصِّفَة والمَصْدَر، والصِّفَةُ أَكْثَرُ؛ وفي الحديث: «كانَ عَلِيّ قُرَشِيًا قَلْبًا» أَي: خالصًا من صَمِيم قُرَيْشٍ. وقيل: أَرادَ فَهِما فَطِنًا، من قوله تعالى {لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} كذا في لسان العرب، وسيأْتي.

والقَلْبُ: مَاءٌ بِحَرَّةِ بَنِي سُلَيْم عندَ حاذَةَ.

وأَيضًا: جَبَلٌ، وفي بعض النُّسَخ هنا زيادةُ م. أَي معروف.

ومن المَجَاز: وفي يَدِهَا قُلْبُ فِضَّةٍ، وهو بالضَّمِّ، من الأَسْوِرَةِ: ما كان قَلْبًا واحِدًا، ويقولون: سِوارٌ قُلْبٌ.

وقيل: سِوارُ المَرْأَةِ. على التَّشْبِيه بقَلْبِ النَّخْلِ في بياضه.

وفي الكفاية: هو السِّوارُ يكونُ من عاجٍ أَو نحوِه. وفي المِصباحِ: قُلْبُ الفِضَّة: سِوَارٌ غيرُ مَلْوِيٍّ. وفي حديثِ ثَوْبانَ: «أَنّ فَاطِمَةَ، رضي ‌الله‌ عنها، حَلَّتِ الحَسَنَ والحُسَيْنَ، رضي ‌الله‌ عنهما، بقُلْبَيْن مِن فِضَّة» وفي آخَرَ: «أَنَّه رأَى في يَدِ عائشةَ، رضي ‌الله‌ عنها، قُلْبَيْنِ»، وفي حديثها أَيضًا في قوله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها} قالَتْ: القُلْبَ والفَتَخَةَ.

ومن المجاز: القُلْبُ: الحَيَّةُ البَيْضَاءُ، على التَّشبيهِ بالقُلْبِ من الأَسْوِرَةِ.

والقُلْبُ: شَحْمَةُ النَّخْلِ ولُبُّهُ، وهي هَنَةٌ رَخْصَةٌ بَيْضَاءُ، تُؤْكَلُ، وهي الجُمّار، أَو أَجْوَدُ خُوصِها، أَي: النَّخْلةِ، وأَشَدّه بَياضًا، وهو: الخُوصُ الّذي يَلِي أَعلاها، واحِدَتُه قُلْبَةٌ، بضمٍّ فسكون؛ كُلُّ ذلك قولُ أَبي حنيفةَ. وفي التّهذيب: القُلْبُ بالضَّمّ: السَّعَفُ الَّذي يَطْلُعُ من القَلْب، ويُثَلَّثُ، أَيْ: فِي المعنيَيْنِ الأَخيرَيْن، أَي: وفيه ثلاثُ لُغاتٍ: قَلْبٌ، وقُلْبٌ، وقِلْبٌ، وج: أَقْلَابٌ، وقُلُوبٌ.

وقُلُوبُ الشَّجَرِ: ما رَخُصَ من أَجوافِها وعُرُوقها الّتي تقودُهَا. وفي الحديث. أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، عليهما‌السلام، كانَ يَأْكُلُ الجَرَادَ وقُلُوبَ الشَّجَرِ»، يَعْنِي: الَّذِي يَنْبُتُ في وَسَطِهَا غَضًّا طَرِيًّا، فكان رَخْصًا من البُقُولِ الرَّطْبَةِ قَبْلَ أَنْ تَقوَى وتَصْلُبَ، واحدُهَا قُلْبٌ، بالضَّمِّ لِلفَرْق. وقَلْبُ النَّخْلَةِ: جُمّارُها، وهي شَطْبَةٌ، بيضاءُ، رَخْصَةٌ في وَسَطِها عندَ أَعلاها، كأَنَّهَا قُلْبُ فِضَّةٍ، رَخْصٌ، طيّب، يُسَمَّى قَلْبًا لِبَياضِه. وعن شَمِرٍ: يقالُ: قَلْبٌ، وقُلْبٌ، لقلب النَّخلة، وبجمع على قِلَبَةٍ أَي: كَعِنَبَةٍ.

والقُلْبَةُ، بالضَّمّ: الحُمْرَةُ قالَه ابْنُ الأَعْرَابِيِّ.

وعَرَبِيَّةٌ قُلْبَةٌ، وهي الخَالِصَةُ النَّسَبِ؛ وَعَرَبِيٌّ قُلْبٌ، بالضَّمِ: خالِصٌ، مثلُ قَلْبِ. عن ابْنِ دُرَيْدٍ، كما تقدَّمتِ الإِشارةُ إِليه، وهو مجازٌ.

والقَلِيبُ: البِئْرُ ما كانت. والقَلِيبُ: البِئرُ قَبْلَ أَنْ تُطْوَى، فإِذا طُوِيَتْ فهي الطَّوِيُّ. أَوِ العادِيَّةُ القَدِيمَةُ منها الَّتي لا يُعْلَمُ لها رَبٌّ ولا حافِرٌ، يكون في البَرَارِيِّ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ. وقيل: هي البِئرُ القَدِيمة، مَطْوِيَّةً كانت أَو غيرَ مَطْوِيَّةٍ. وعن ابنِ شُمَيْلٍ: القَلِيبُ: اسْمٌ من أَسماءِ الرَّكِيّ مَطْوِيَّة أَو غير مَطْوِيّة، ذات ماءٍ أَو غيرُ ذاتِ ماءٍ، جَفْرٌ أَو غَيْرُ جَفْرٍ. وقال شَمِرٌ: القَلِيبُ اسْمٌ من أَسماءِ البئرِ البَدِي‌ءِ والعادِيَّةِ، ولا يُخَصُّ بها العادِيَّةُ. قال: وسُمِّيَتْ قَليبًا، لأَنَّه قُلِب تُرابُها. وقال ابْنُ الأَعرابيّ: القَلِيبُ: ما كان فيه عينٌ، وإِلَّا فلا، الجمع: أَقْلِبَةٌ، قال عَنْتَرَةُ يصف جُعَلًا:

كَأَن مُؤشَّرَ العَضُدَيْنِ حَجْلًا *** هَدُوجًا بيْنَ أَقْلِبَةٍ مِلاحِ

وجمع الكثيرِ قُلُبٌ، بضمّ الأَوَّلِ والثّانِي، قال كُثَيّر:

وما دامَ غَيْثٌ منْ تِهامَةَ طَيِّب *** بها قُلُبٌ عادِيَّةٌ وكِرَارُ

الكِرار: جمعُ كَرٍّ للحَسْيِ؛ والعادِيَّةُ: القَديمةُ، وقد شَبَّه العَجّاجُ بها الجِراحاتِ فقال:

عَنْ قُلُبٍ ضُجْمٍ تُوَرِّي مَنْ سَبَرْ

وقيل: الجمعُ قُلُبٌ، في لغة من أَنَّث، وأَقْلِبَةٌ، وقُلْبٌ، أَي: بضمٍّ فسُكُونٍ جميعًا، في لُغَة من ذَكَّرَ؛ وقد قُلِبَتْ تُقْلَبُ، هكذا وفي غيرِ نُسَخٍ، وفي نسختِنا تقديمُ هذا الأَخِيرِ على الثاني، واقتصرَ الجَوْهَرِيُّ على الأَوَّلَيْنِ، وهما من جُموعِ الكَثْرَة. وأَمّا بسكون اللَّامِ، فليس بوزْنٍ مُستَقِلٍّ، بل هو مُخَفَّفٌ من المضموم، كما قالُوا في: رُسُلٍ، بضمَّتَيْنِ، ورُسْلٍ، بسكونها أَشار له شيخُنا.

وقال الأُمَوِيُّ: في لغةِ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ: القالِبُ، بالكسر: البُسْرُ الأَحمَرُ، يقال منه: قَلَبَتِ البُسْرَةُ تَقلِبُ إِذا احْمَرَّتْ. وقد تقدَّم. وقال أَبو حنيفَةَ: إِذا تَغَيَّرتِ البُسْرَةُ كلُّهَا، فهي القالِبُ، والقالِبُ بالكَسْر: كالْمِثالِ وهو الشَّيْ‌ءُ يُفْرَغُ فيهِ الجَوَاهِرُ، لِيَكُونَ مِثَالًا لِما يُصاغُ منها.

وكذلك قالِبُ الخُفِّ ونحوِه، دَخِيلٌ، وفَتْحُ لامِه؛ أَي في الأَخيرة أَكْثَرُ.

وأَمّا القالِبُ الّذي هو البُسْرُ، فليس فيه إِلّا الكسرُ، ولا يجوز فيه غيرُهُ.

قال شيخُنا: والصَّوَابُ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ، وأَصلُه كالَبٌ؛ لأَنَّ هذَا الوَزْنَ ليس من أَوزان العرب، كالطَّابَق ونحْوِه، وإِنْ رَدَّهُ الشِّهابُ في شرح الشِّفاءِ بأَنَّهُ غيرُ صحيح، فإِنَّها دعوَى خاليةٌ عن الدَّليلِ، وصِيغَتُهُ أَقوَى دليلٍ على أَنَّهُ غيرُ عربِيٍّ، إِذْ فاعَلٌ، بفتح العين، ليس من أَوزانِ العرَبِ، ولا من استعمالاتها. انتهى. وشاةٌ قالِبُ لَوْنٍ: إِذا كانت على غَيْرِ لَوْنِ أُمِّها، وفي الحديث: «أَنَّ مُوسَى لَمَّا آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ شُعَيبٍ، قال لِمُوسَى، عليهِما الصَّلاةُ والسّلامُ: لَكَ من غَنَمِي ما جاءَت به قالِبَ لَوْنٍ. فجاءَت به كُلِّهِ قَالِبَ لَوْنٍ» تفسيرُهُ في الحديث: أَنَّها جاءَت على غيرِ أَلْوانِ أُمَّهاتِها، كأَنَّ لَوْنَها قد انْقلب. وفي حديثِ عليٍّ، رضي ‌الله‌ عنه، في صفةِ الطُّيُورِ: «فمِنْهَا مَغْموسٌ في قالِب لَوْنٍ لا يَشُوبُه غَيْرُ لَوْنِ ما غُمِسَ فيه».

والقلِّيب: كسِكِّيتٍ، وتَنُّورٍ، وسنَّوْرٍ، وقبُول، وكتاب الذِّئْبُ، يَمَانِيَةٌ. قال شاعرُهم:

أَيا جَحْمَتَا بَكِّي على أُمِّ واهِب *** أَكِيلَةِ قِلَّوْب ببَعْضِ المَذانِبِ

ذكرَه الجَوْهَرِيُّ والصَّاغانيّ في كتاب له في أَسماءِ الذِّئب، وأَغفله الدَّمِيرِيُّ في الحياة.

ومن الأَمثال: ما بِهِ، أَي: العَليلِ قَلَبَةٌ، مُحَرَّكَةً، أَي:

ما به شَيْ‌ءٌ، لا يُسْتعملُ إِلَّا في النَّفْي، قال الفَرّاءُ: هو مأْخوذٌ من القُلَاب: داءٍ يأْخُذُ الإِبلَ فِي رُؤُوسها، فيَقْلِبُها إِلى فوق؛ قال النَّمِرُ بْنُ تَوْلبٍ:

أَوْدَى الشَّبَابُ وحُبُّ الخالَةِ الخَلِبَهْ *** وقد بَرِئْتُ فما بالقَلْبِ مِنْ قَلَبَهْ

أَي: بَرِئْتُ من داءِ الحُبّ. وقال ابْنُ الأَعْرَابيّ. معناه ليست به عِلّة يُقَلَّبُ لها، فيُنْظَرُ إِليه. تقولُ: ما بالبَعِير قَلَبَةٌ، أَي: ليس به داءُ يُقْلَب له، فيُنْظَرُ إِليه. وقال الطّائِيُّ: معناهُ: ما به شَيْ‌ءٌ يُقْلِقُهُ، فَيَنْقَلِب من أَجْلِهِ على فِراشه.

وقال اللَّيْثُ: ما به قَلَبَةٌ؛ أَي لا داءَ، ولا غائلةَ، ولا تَعَب.

وفي الحديث: «فانْطَلَق يَمْشِي، ما بِهِ قَلَبَةٌ»، أَيّ: أَلَمٌ وعِلّةٌ. وقال الفَرّاءُ: معناه ما به عِلَّةٌ يُخْشَى عليه منها، وهو مأْخوذ من قَوْلِهم: قُلِبَ الرَّجُلُ، إِذا أَصابَهُ وَجَعٌ في قَلْبِه، وليس يكاد يُفْلِتُ منه. وقال ابْنُ الأَعْرَابيِّ: أَصلُ ذلك في الدَّوابّ، أَي: ما بِهِ داءٌ، يُقْلَبُ به حافِرُهُ. قال حُمَيْدٌ الأَرْقِطُ يَصِفُ فَرَسًا:

ولَمْ يُقَلِّبْ أَرْضَها البَيْطارُ *** ولا لِحَبْلَيْهِ بها حَبارُ

أَي: لم يَقْلِبْ قوائمَها من عِلّة بها. وما بالمَرِيض قَلَبَةٌ: أَي عِلَّةٌ يُقَلَّبُ منها، كذا في لسان العرب.

وأَقْلَبَ العِنَبُ: يَبِسَ ظاهِرُهُ، فَحُوِّلَ.

وقَلَبَ الخُبْزَ ونَحْوَهُ، يَقْلِبُه، قَلّبًا: إِذا نَضِجَ ظاهِرُهُ، فَحَوَّلَه لِيَنْضَجَ باطنُه. وأَقْلَبَهَا، لُغَةٌ، عن اللِّحْيانيّ، ضعيفةٌ.

أَقْلَبَ الخُبْزُ: حانَ له أَنْ يُقلَبَ.

وقَلَبْتُ الشَّيْ‌ءَ، فانْقَلَبَ: أَي انْكَبَّ. وقَلَّبْتُهُ بيَدِي تَقْلِيبًا. وكلام مقلوبٌ، وقد قَلَبْتُهُ فانْقَلَبَ، وقَلَّبْتُهُ فتَقَلَّبَ.

وقَلَّبَ الأُمورَ: بَحَثَها، ونَظَر في عَوَاقِبِها.

وتَقَلَّبَ في الأُمورِ، وفي البِلادِ: تَصَرَّفَ فيها كَيْفَ شاءَ، وفي التَّنْزِيل العزيز: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}، معناه. فلا يَغْرُرْكَ سَلامتُهم في تَصرُّفهِم فيها، فإِنَّ عاقبةَ أَمرِهم الهلاكُ.

ورَجُلٌ قُلَّبٌ: يَتَقَلَّبُ كيفَ يَشاءُ. ومن المجاز: رَجُلٌ حُوَّلٌ قُلَّبٌ، كلاهُما على وزن سُكَّرِ، وكذلك حُوَّلِيٌّ قُلَّبِيٌّ، بزيادة الياءِ فيهما، وكذلك حُوَّلِيٌّ قُلَّبٌ. بحذف الياءِ في الأَخِيرِ، أَي: مُحْتَالٌ، بَصِيرٌ بتَقْلِيبِ، وفي نسخة: بتَقَلُّبِ الأُمُورِ. ورُوِيَ عن مُعاوِيَةَ لمّا احْتُضِرَ أَنَّه كان يُقَلَّبُ على فِراشِه في مَرضِه الذي مات فيه، فقال: إِنَّكم لَتُقَلِّبُونَ حُوَّلًا قُلَّبًا، لَوْ وُقِيَ هَوْلَ المُطَّلَعِ. وفي النِّهاية: إِنْ وُقِيَ كَبَّةَ النّارِ، أَي: رَجُلًا عارفًا بالأُمور، قد رَكِبَ الصَّعْبَ والذَّلُولَ، وقَلَّبَهُما ظَهْرًا لِبَطْنِ، وكان مُحْتالًا في أُموره، حَسَنَ التَّقَلُّب. وقوله تعالى {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} قال الزَّجّاجُ: معناهُ تَرْجُفُ، وتَخِفّ من الجَزْعِ والخَوفِ.

والمِقْلَبُ، كمِنْبَرٍ: حَدِيدَةٌ تُقَلَّبُ بِها الأَرْضُ* لأَجْلِ الزِّرَاعَةِ.

والمَقلوبة: الأُذُنُ، نقله الصّاغانيّ.

والقَلَبُ، مُحَرَّكةً: انْقِلابٌ في الشَّفَةِ العُلْيَا واسْتِرْخَاءٌ، وفي الصَّحاح: انْقِلابُ الشَّفَةِ، ولم يُقَيِّدْ بالعُلْيَا، كما للمؤلِّف. رَجُلٌ أَقْلَبُ وَشَفَةٌ قَلْباءُ بَيِّنَةُ القَلَبِ.

والقَلُوبُ، كَصبُورٍ: الرجل المُتَقَلِّبُ الكثيرُ التَقَلُّبِ؛ قالَ الأَعْشَى: قالَ الأَعْشَى:

أَلَمْ تَرْوَا لِلْعَجَبِ العَجِيبِ *** أَنَّ بَنِي قِلَابَةَ القَلُوبِ

أُنُوفُهُمْ مِلْفَخْرِ في أُسْلُوبِ *** وشَعَرُ الأَسْتاهِ في الجَبُوبِ

وقُلُبٌ، بضمَّتَيْن: مِياهٌ لِبَنِي عامرِ بْنِ عُقَيْلٍ.

وقُلَيْبٌ، كَزُبَيْرٍ: ماءٌ بنَجْدٍ لربِيعةَ.

وجَبَلٌ لِبَنِي عامرٍ، وفي نسخةٍ: هُنا زيادةُ قولِه: وقدْ يُفْتَح، وضَبطَهُ الصّاغانيّ، كَحُمَيْرٍ، في الأَول.

وأَبو بَطْنٍ من تَمِيم. وفي نسخة وبَنُو القُلَيْبِ: بَطْنٌ من تَمِيمٍ، وهو القُلَيْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ.

قلتُ: وفي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ: القُلَيْبُ بن عَمْرِو بْنِ أَسَدٍ، منهم: أَيْمَنُ بنُ خُرَيْمِ بْنِ الأَخْرَمِ بْنِ شَدّادِ بْنُ عَمْرو بْنِ الفَاتِكِ بنِ القُلَيْبِ، الشّاعرُ الفارسُ.

والقُلَيْبُ: خَرَزةٌ لِلتَّأْخِيذِ [بَنُو القُلَيْبِ بَطْنٌ مِنْ تَميمٍ] **، يُؤَخَّذُ بِها، هذِه عن اللِّحْيانِيِّ.

وذُو القَلْبَيْنِ: لَقَبُ أَبي مَعْمَرٍ جمِيلِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ الجُمَحِيّ وقيل: هو جَميلُ بْنُ أَسَدٍ الفِهْرِيُّ. كان من أَحفظِ العربِ، فقيلَ له: ذُو القَلْبَيْنِ، أَشار له الزَّمَخْشَرِيُّ.

ويُقَالُ: إِنَّهُ فيه نَزَلَتْ هذه الآية: ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ {قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، وله ذِكرٌ في إِسلامِ عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه، كانت قُرَيْشٌ تُسَمِّيه هكذا.

ورَجُلٌ قَلْبٌ، بفتح فسكون، وقُلْبٌ بضَمّ فسُكون: مَحْضُ النَّسَب خالِصُه، يستوي فيه المُؤَنثُ والمُذَكَّرُ والجَمْعُ، وإِن شِئتَ ثَنَّيْتَ وَجَمَعْتَ، وإِن شِئتَ تَركتَه في حال التَّثْنِيَةِ والجمعِ بلفظٍ واحد، وقد قدّمتُ الإِشارَةَ إِليه فيما تقدَّمَ.

وأَبُو قِلَابَةَ، ككِتابَة: عبدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الجَرْمِيُّ، تابِعيٌّ جليل، ومُحَدِّثٌ مشهورٌ.

والمُنْقَلَبُ: يستعملُ لِلمَصْدَرِ ولِلْمَكَانِ كالمُنْصَرَف، وهو مَصِيرُ العِبَادِ إِلى الآخِرَة، وفي حديثِ دُعاءِ السَّفَرِ: «أَعُوذُ بك من كآبَةِ المُنْقَلَبِ» أَي: الانقلابِ من السَّفَر والعَوْدِ إِلى الوَطَن، يعني: أَنَّه يعودُ إِلى بيته، فيَرى ما يَحْزُنُه: والانقلاب: الرُّجُوعُ مُطْلَقًا.

والقُلَابُ، كغُرابٍ: جَبَلٌ بدِيَارِ أَسَدٍ؛ ودَاءٌ للْقَلْبِ.

وعِبَارَةُ اللِّحْيَانيِّ: داءٌ يأْخُذُ في القَلْب.

والقُلَابُ: دَاءٌ لِلْبَعِيرِ فيَشتكي منه قَلْبَه، ويُمِيتُهُ مِنْ يَوْمِهِ وقيل: منه أُخِذَ المَثَلُ الماضي ذكرُه: «ما به قَلَبةٌ يُقَالُ: بَعِيرٌ مَقلوبٌ، وناقةٌ مَقلوبةٌ. قال كُرَاع: وليس في الكلام اسْمُ داءٍ اشْتُقَّ من اسم العُضْوِ، إِلا القُلابُ، والكُبادُ من الكَبِدِ، والنُّكَافُ من النَّكَفَتَيْنِ، وهما غُدَّتَانِ تَكْتَنِفَانِ الحُلْقُومَ من أَصْلِ اللَّحْيِ.

وقَدْ قُلِبَ بالضَّمّ قُلَابًا، فهو مقْلُوبٌ؛ وقيل: قُلِبَ البَعِيرُ قُلَابًا: عاجَلَتْهُ الغُدَّةُ فمات، عنِ الأَصْمَعيِّ.

و: أَقْلَبُوا: أَصابَ إِبِلَهُمُ القُلابُ، هذا الدّاءُ بعَيْنِهِ. وقُلْبَيْنُ، بالضَّمّ فسكون ففتح المُوَحَّدَة: قرية، بدِمَشْقَ، وقد يُكْسَرُ ثالثُهُ، وهي المُوَحَّدَةُ.

* ومما بقي على المؤلِّف من ضروريّات المادة: قَلَب عيْنَهُ وحِمْلَاقَةُ عندَ الوَعِيدِ والغَضَب، وأَنشدَ:

قالِبُ حِمْلَاقَيْهِ قد كادَ يُجَنْ

وفي المَثَل: «اقْلِبِي قَلَابِ» يُضْرَبُ للرَّجُلِ يَقْلِبُ لِسانَهُ، فيضَعُهُ حيثُ شَاءَ. وفي حَديث عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه: «بَيْنَا يُكَلِّمُ إِنسانًا إِذا انْدَفَعَ جَرِيرٌ يُطْرِيهِ ويُطْنِبُ، فأَقبلَ عليه [فقال]: ما تقولُ يا جَرِيرُ؟: وعرَف الغضبَ في وجهِه، فقال: ذَكَرْتُ أَبا بكرٍ وفَضْلَهُ، فقال عُمَرُ: اقْلِبْ قَلَّابُ».

وسكت.

قال ابن الأَثِيرِ: هذا مَثَلٌ يُضْرَب لِمَنْ يكون منه السَّقْطَةُ، فيتداركُها، بأَنْ يَقْلِبها، عن جِهتها، ويَصْرِفَهَا إِلى غيرِ معناها، يريد: اقْلِبْ يا قَلَّاب، فأَسْقَطَ حرفَ النِّدَاءِ، وهو غريبٌ لأَنّه إِنّما يُحْذَفُ مع الأَعْلَامِ. ومثلُه في المُسْتَقْصَى، ومَجْمَعِ الأَمْثَالِ لِلمَيْدَانِيِّ.

ومن المَجاز: قَلَبَ المُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ: صَرَفَهم إِلى بُيُوتِهم، عن ثعلب. وقال غيره. أَرسلَهم ورَجَعَهُمْ إِلى منازلِهم. وأَقْلَبَهم لغةٌ ضعيفةٌ، عن اللِّحْيَانيّ. على أَنّه قد قال: إِنَّ كلامَ العربِ في كلِّ ذلك إِنّما هو: قَلَبْتُهُ، بغيرِ أَلِفٍ: وقد تقدّمتِ الإِشارةُ إِليهِ. وفي حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «أَنّه كان يُقَالُ لِمُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ: اقْلِبْهُمْ، أَي: اصْرِفْهُمْ إِلى منازلهم. وفي حديث المُنْذِرِ: «فاقْلِبُوهُ. فقالوا: أَقْلَبْناهُ، يا رَسُولَ اللهِ، قال ابْنُ الأَثِيرِ: هكذا جاءَ في صحيح مسلم، وصوابه: قَلَبْنَاهُ.

ويَأْتِي القَلْبُ بمعنى الرّوحِ.

وقَلْبُ العَقْرَبِ: مَنْزِلٌ من منازلِ القمرِ، وهو كَوكبٌ نَيِّرٌ، وبجانِبَيْهِ كوكبانِ. قال شيخُنا: سُمِّيَ به لأَنّه في قلْب العقْرب. قالوا: والقُلُوبُ أَربعة: قَلْبُ العَقْرب، وقلْبُ الأَسَد، وقلبُ الثَّوْرِ وهو الدَّبَرانُ، وقلبُ الحُوتِ وهو الرِّشاءُ، ذَكرَهُ الإِمامُ المَرْزُوقيُّ في كتابِ الأَمْكِنة والأَزمنة ونقله الطِّيبِيُّ في حواشي الكَشّافِ أَثناءَ «يس»، وَنَبَّه عليهِ سَعْدِي جَلَبِي هُنَاك، وأَشارَ إِليه الجَوْهَرِيّ مختصرًا، انتهى.

ومن المَجَازِ: قَلَبَ التّاجِرُ السِّلْعَةَ، وقَلَّبَهَا: فَتَّشَ عن حَالِهَا.

وقَلَبْتُ المملوكَ عندَ الشِّرَاءِ، أَقْلِبُه، قَلْبًا: إِذا كشفْتَهُ، لتَنْظُرَ إِلى عُيُوبِه.

وعن أَبي زيدٍ: يُقَالُ للبلِيغ من الرِّجَالِ: قد رَدَّ قالَبَ الكلامِ، وقد طَبَّقَ المَفْصِلَ، ووضَعَ الهِناءَ مَوَاضِعَ النُّقْب.

وفي حديثٍ: «كان نِساءُ بني إِسرائيلَ يَلْبَسْنَ القَوالِبَ» جمعُ قالِبٍ، وهو نَعْلٌ من خَشَبٍ، كالقَبْقَابِ وتُكْسَرُ لامهُ وتُفْتَح. وقيل: «إِنَّه مُعَرَّبٌ وفي حديث ابْنِ مسعودٍ: كانت المرأَةُ تَلْبَسُ القَالِبَيْنِ، تَطَاوَلُ بهما» كذا في لِسان العرب.

وقَلِيبٌ، كأَمير: قريةٌ بمِصْرَ، منها الشّيخُ عبدُ السَّلامِ القَلِيبِيُّ أَحَدُ من أَخَذَ عن أَبِي الفَتْحِ الوَاسِطِيّ، وحفِيدُهُ الشَّمْسُ محمّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عبدِ الواحدِ بْنِ عبدِ السَّلامِ، كتب عنه الحافِظُ رِضْوانُ العقبِيّ شيئًا من شِعْرِهِ.

وقَلْيُوبُ، بالفتح: قريةٌ أُخرَى بمِصْرَ، تضافُ إِليها الكُورَةُ.

وهَضْبُ القَلِيبِ، كأَمِيرٍ: بِنجْدٍ. وقُلَّبٌ، كسُكَّر: وادٍ آخَرُ نَجْدِيٌّ. وبنو قِلَابَةَ، بالكسر: بطْنٌ. والقِلَّوْبُ، والقِلِّيبُ كسِنَّوْرٍ، وسِكِّيت: الأَسَدُ، كما يُقالُ له السِّرْحَانُ. نقله الصّاغانيُّ.

ومَعَادِنُ القِلَبَةِ، كعِنَبة: موضعٌ قُرْبَ المدينةِ، نقله ابْنُ الأَثيرِ عن بعضهم: وسيأْتي في ق ب ل.

والإِقْلابِيَّةُ: نوعٌ من الرِّيحِ، يَتَضَرَّر منها أَهلُ البحر خوفًا على المَرَاكِب.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


30-تاج العروس (وجد)

[وجد]: وَجَدَ المَطلوبَ والشيْ‌ءِ كوَعَدَ وهذَه هي اللغة المشهورة المتّفق عليها ووَجِدَه مثل وَرِمَ غير مشهورة، ولا تُعرَف في الدواوين، كذا قاله شيخُنَا، وقد وَجَدْت المصنِّفَ ذكَرَها في البصائر فقال بعد أَن ذَكَر المفتوحَ: ووَجِدَ، بالكسر، لُغَةٌ، وأَورده الصاغانيّ في التكملة فقال: وَجِد الشَي‌ءَ، بالكسر، لغة في وَجَدَه يَجِدُه ويَجُدُهُ، بضمّ الجيم، قالَ شيخنا: ظاهره أَنه مُضارعٌ في اللغتينِ السابِقَتينِ، مع أَنه لا قائلَ به، بل هاتانِ اللغتانِ في مُضارِعِ وَجَدَ الضالَّة ونَحْوها، المَفْتوح، فالكسر فيه على القياس لُغَةٌ لجميعِ العَرَب، والضمُّ مع حذفِ الواو لُغَة لبني عامرِ بن صَعْصَعَةَ، ولا نَظِيرَ لَهَا في باب المِثَال، كذا في ديوان الأَدب للفَارابيّ، والمصباح، وزاد الفيُّوميُّ: ووَجْه سُقُوطِ الواو على هذه اللغةِ وُقوعُها في الأَصل بين ياءٍ مفتوحةٍ وكسرةٍ، ثم ضُمَّت الجيم بعد سُقوط الواوِ من غير إِعادتها، لعدمِ الاعتداد بالعارِض، وَجْدًا، بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَة، ووُجْدًا، بالضَّمّ، ووُجُودًا، كقُعُود، ووِجْدَانًا وإِجْدَانًا، بِكَسْرِهما، الأَخِيرة عن ابن الأَعْرابيّ: أَدْرَكَه، وأَنشد:

وآخَر مُلْتَاث يجُرُّ كِساءَه *** نَفَى عَنْه إِجْدَانُ الرِّقِينَ المَلَاوِيَا

قال: وهذا يَدُلّ على بَدَلِ الهمزة من الواوِ المكسورةِ، كما قالوا إِلْدَة في وِلْدَة. واقتصر في الفَصيح على الوِجْدَان، بالكسر، كما قالوا في أَنشَدَ: نِشْدَان، وفي كتاب الأَبنيَة لابن القطّاع: وَجَدَ مَطْلوبَه يَجِدُه وُجُودًا ويَجُدْه أَيضًا، بالضمّ، لُغَة عامِريّة لا نظير لَهَا في باب المِثال، قال لَبِيدٌ وهو عامِرِيٌّ:

لَمْ أَرَ مِثْلَكِ يَا أُمَامَ خَلِيلَا *** آبَى بِحَاجَتِنَا وَأَحْسَنَ قِيلَا

لَوْ شِئْتِ قَدْ نَقَعَ الفُؤَادُ بِشَرْبَةٍ *** تَدَعُ الصَّوادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلًا

بِالعَذْبِ مِنْ رَضَفِ القِلَاتِ مَقِيلَةً *** قَضَّ الأَباطِحِ لَا يزالُ ظَلِيلَا

وقال ابْنُ بَرّيّ: الشِّعْرُ لِجَرِيرٍ وليس للبيدٍ، كما زعم الجوهَرِيُّ. قلت: ومثله في البصائر للمُصَنِّف وقال ابن عُدَيْس: هذه لُغَة بني عامرٍ، والبيتُ للبيد، وهو عامِريٌّ، وصرّحَ به الفرَّاءُ، ونقله القَزَّاز في الجامع عنه، وحكاها السيرافيُّ أَيضًا في كتاب الإِقناع، واللِّحْيَانيُّ في نوادِرِه، وكُلُّهم أَنشدوا البَيْتَ، وقال الفَرَّاءُ: ولم نسمع لها بنَظِيرٍ، زاد السيرَافيّ: ويُروَى: يَجِدْن، بالكسر، وهو القياس، قال سِيبويهِ: وقد قال ناسٌ من العرب وَجَد يَجُد، كأَنهم حَذَفوها مِن يَوجُدُ، قال: وهذا لا يكادُ يُوجد في الكلام. قلت: ويفهم من كلام سيبويه هذا أَنها لُغَة في وَجَد بجميع معانِيه، كما جَزَم به شُرَّاح الكتابِ، ونقلَه ابنُ هِشَامٍ اللَّخميُّ في شَرْح الفَصِيح، وهو ظاهرُ كلامِ الأَكثر، ومقتضَى كلام المصنّف أَنها مقصورةٌ على مَعْنَى وَجَدَ المَطلوبَ، ووَجَد عليه إِذا غَضِب، كما سيأْتي، ووافقَه أَبو جَعفر اللَّبْلِيّ في شَرْح الفصيحِ، قال شيخُنَا: وجَعلُها عامَّةً هو الصواب، ويدلُّ له البيتُ الذي أَنشدُوه، فإِن قوله: «لا يَجُدْن غَلِيلًا» ليس بشيْ‌ءٍ مما قَيَّدُوه به، بل هو من الوِجْدَانِ، أَو من معنَى الإِصابة، كما هو ظاهر، ومن الغريب ما نَقَلَه شيخُنَا في آخرِ المادّة في التنبيهات ما نَصُّه: الرابع، وقَعَ في التسهيل للشيخ ابنِ مالكٍ ما يقتضي أَن لُغَة بني عامِرٍ عامَّة في اللسان مُطْلقًا، وأَنَّهُم يَضُمُّون مُضَارِعَه مُطْلَقًا من غيرِ قَيْدٍ بِوَجَدَ أَو غيرِه، فيقولون وَجَد يَجُد ووَعَدَ يَعُدُ، ووَلَد يَلُدُ، ونَحْوها، بضمّ المضارع، وهو عجيبٌ منه رحمه ‌الله، فإِن المعروف بين أَئمّة الصَّرْف وعُلماءِ العَربيَّةِ أَن هذه اللغةَ العامريَّةَ خاصَّةٌ بهذا اللفظ الذي هو وَجَدَ، بل بعضُهم خَصَّه ببعضِ مَعَانِيه، كما هو صَنِيعُ أَبي عُبيدٍ في المُصَنَّف، واقتضاه كلامُ المُصَنِّف، ولذلك رَدّ شُرَّاحُ التسهيل إِطلاقَه وتَعَقَّبُوه، قال أَبو حَيَّان: بنو عامرٍ إِنما رُوِيَ عنهم ضَمُّ عَيْنِ مُضَارعِ وَجَدَ خاصَّةً، فقالوا فيه يَجُدُ، بالضّمّ، وأَنشدوا:

يَدَعُ الصَّوَادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلَا

على خلافٍ في رِوَايَةِ البيتِ، فإِن السيرافيّ قال في شرح الكتاب: ويُرْوَى بالكسر، وقد صرَّح الفارَابِيُّ وغيرُه بِقَصْرِ لُغَةِ بني عامرِ بن صَعْصَعَة على هذه اللفظةِ، قال: وكذا جَرَى عليه أَبو الحسن بن عصفور فقال: وقد شَذَّ عن فَعَل الذي فاؤه واوٌ لفظةٌ واحدةٌ، فجاءَت بالضمّ، وهي وَجَد يَجُد، قال: وأَصلُه يَوْجُد فحُذِفت الواو، لكَون الضَّمَّة هنا شاذَّةً، والأَصل الكسْر. قلت: ومثل هذا التعليل صَرَّحَ به أَبو عليٍّ الفارسيُّ قال: ويَجُد كانَ أَصلُه يَوْجُد، مثل يَوْطُؤُ، لكنه لما كان فِعْلٌ يُوْجَدُ فيه يَفْعِل ويَفْعُلُ كأَنَّهم توَهَّموا أَنه يَفْعُل، ولما كان فِعْلٌ لا يُوجَد فيه إِلَّا يَفْعِل لم يَصِحّ فيه هذا.

ووَجَدَ المالَ وغَيْرَه يَجِدُه وجْدًا، مثلَّثَةً وجِدَةً، كعِدَةٍ: اسْتَغْنَى، هذه عبارةُ المُحْكَم، وفي التهذيب يقال: وَجَدْتُ في المال وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا ووِجْدَانًا وجِدَةً؛ أَي صرْتُ ذا مالٍ، قال: وقد يُستعمل الوِجْدَانُ في الوُجْدِ، ومنه قولُ العَرَب: «وِجْدَانُ الرِّقِينَ يُغَطِّي أَفَنَ الأَفِينِ».

قلت: وجرى ثعلبٌ في الفصيح بمثْلِ عبارةِ التهذيبِ، وفي نوادِر اللِّحْيَانيِّ: وَجَدْتُ المالَ وكُلّ شيْ‌ءٍ أَجِدُه وَجْدًا ووُجْدًا ووِجْدًا وجِدَةً، قال أَبو جعفرٍ اللَّبْليُّ: وزاد اليزيديُّ في نوادِره ووُجُودًا، قال: ويُقَال وَجَدَ بعد فَقْرٍ، وافتقَرَ بَعْدَ وَجْدٍ. قلْت: فكلام المصنّف تَبَعًا لابنِ سيدَه يقتضِي أَنه يَتَعَدَّى بنفسِه. وكلام الأَزهريّ وثَعْلبٍ أَنه يتعدَّى بِفي، قال شيخُنا: ولا منافاةَ بينهما، لأَن المقصود وَجَدْتُ إِذ كان مَفْعُولُه المالَ بكون تَصريفُه ومصدَرُه على هذا الوَضْعِ، والله أَعلَم.

فتأَمّل، انتهى، وأَبو العباسِ اقتصرَ في الفصيح على قَوْلِه: وَجَدْت المالَ وُجْدًا؛ أَي بالضمّ وجِدَةً، قال شُرَّاحُه: معناه: استَغْنَيْتُ وكَسَبْتُ. قلت: وزاد غيرُه وِجْدَانًا، ففي اللسانِ: وتقول وَجَدْت في الغِنَى واليَسَارِ وُجْدًا ووُجْدَانًا.

ووَجَدَ عَلَيْهِ في الغَضَب يَجِدُ ويَجُدُ، بالوجهينِ، هكذا قاله ابنُ سِيدَه، وفي التكملة: وَجَدَ عليه يَجُدُ لُغَة في يَجِدُ، واقتصر في الفصيحِ على الأَوَّل وَجْدًا بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَةٍ، ومَوْجِدَةً، وعليه اقتصر ثعلبٌ، وذكر الثلاثةَ صاحبُ الواعِي، ووِجْدَانًا، ذكرَه اللحيانيُّ في النوادر وابنُ سِيدَه في نَصِّ عِبارته، ـ والعَجَب من المُصَنِّف كيف أَسْقَطَه مع اقتفائِه كلامَه ـ: غَضِبَ. وفي حديثِ الإِيمان: «إِنِّي سائِلُكَ فلا تَجِدْ عَلَيَّ»؛ أَي لا تَغْضَبْ مِن سُؤَالي، ومنه ‌الحديث: «لم يَجِدِ الصائمُ على المُفْطِرِ» وقد تَكَرَّر ذِكْرُه في الحديث اسْمًا وفِعْلًا ومَصدَرًا، وأَنشدَ اللِّحيانيُّ قولَ صَخْرِ الغَيِّ:

كِلَانَا ردَّ صَاحِبَهُ بِيَأْسٍ *** وتَأْنِيبٍ وَوِجْدَانٍ شَدِيدِ

فهذا في الغَضَب، لأَن صَخْرَ الغَيِّ أَيْأَسَ الحَمَامَةَ مِن وَلَدِهَا فَغَضِبَتْ عليه، ولأَن الحمامةَ أَيأَسَتْه من وَلَده فغَضِبَ عليها، وقال شُرَّاح الفصيحِ: وَجَدْتُ على الرَّجُلِ مَوْجِدَةً؛ أَي غَضِبْتُ عليه، وأَنا واجِدٌ عليه؛ أَي غَضْبَانُ، وحكَى القَزَّازُ في الجامِع وأَبو غالبٍ التِّيّانِيّ في المُوعب عن الفَرَّاءِ أَنه قال: سَمِعْت بعضَهم يقول: قد وَجِدَ، بكسر الجيم، والأَكثر فَتْحُهَا، إِذا غَضَبَ، وقال الزمخشريُّ عن الفراءِ: سَمِعْت فيه مَوْجَدَةً، بفتح الجيم، قال شيخُنَا: وهي غَرِيبَةٌ، ولم يَتَعَرَّض لها ابنُ مالكٍ في الشَّواذِّ، على كَثْرَةِ ما جَمَع، وزادَ القَزَّازُ في الجامِع وصاحِبُ المُوعب كِلاهُمَا عن الفَرَّاءِ وُجُودًا، من وَجَدَ: غَضِبَ؛ وفي الغريب المُصَنَّف لأَبي عُبَيد أَنه يقال: وَجَد يَجِدُ مِن المَوْجِدَة والوِجْدَانِ جَمِيعًا.

وحكى ذلك القَزَّازُ عن الفَرَّاءِ، وأَنشد البيتَ، وعن السيرافيّ أَنه رَوَاه بالكَسْرِ، وقال: هو القياسُ، قال شيخُنَا: وإِنما كانَ القِيَاسَ لأَنه إِذا انضَمَّ الجيمُ وَجَبَ رَدُّ الواوِ، كقولِهم وَجهُ يَوْجُه، مِن الوَجَاهة، ونَحْوه.

ووَجَد به وَجْدًا، بفتح فسكون، فِي الحُبِّ فَقَطْ، وإِنه لَيَجِد بِفُلَانَةَ وَجْدًا شَدِيدًا، إِذا كانَ يَهْوَاها ويُحِبُّهَا حُبًّا شديدًا، وفي حديث وَفْد هَوَازِنَ قَوْلُ أَبي صُرَد: «ما بَطْنُها بِوَالِد، ولا زَوْجُها بِوَاجِد» أَي أَنه لا يُحِبُّهَا، أَوردَه أَبو جَعْفَر اللبليّ، وهو في النهاية، وفي المحكم: وقالتْ شاعِرَةٌ مِن العرب وكَانَ تَزَوَّجَهَا رجُلٌ مِن غَيْرِ بَلَدِهَا فَعُنِّنَ عَنْهَا:

وَمَنْ يَهُدِ لِي مِنْ مَاءِ بَقْعَاءَ شَرْبَةً *** فَإِنَّ لَهُ مِنْ مَاءِ لَينَةَ أَرْبَعَا

لَقَدْ زَادَنَا وَجْدًا بِبَقْعَاءَ أَنَّنَا *** وَجَدْنَا مطَايَانَا بِلِينَةَ ظُلَّعَا

فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ بِالرَّمْلِ أَنَّنِي *** بَكَيْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِعَيْنَيَّ مَدْمَعَا

تقول: من أَهْدَى لِي شَرْبَةَ ماءٍ مِن بَقْعَاءَ على ما هُوَ به مِنْ مَرَارَةِ الطَّعْمِ فإِن له مِن ماءِ لِينَةَ على ما هُوَ به مِن العُذُوبَةِ أَرْبَعَ شَرَبَاتٍ، لأَن بَقْعَاءَ حَبِيبَةٌ إِليَّ إِذْ هِي بَلَدي ومَوْلِدِي، ولِينَةُ بَغِيضَةٌ إِليَّ، لأَن الذي تَزوَّجَني مِن أَهْلِها غيرُ مَأَمُونٍ عَلَيَّ. وإِنما تلك كِنايةٌ عَنْ تَشَكِّيها لهذا الرَّجُلِ حين عُنِّن عَنْهَا. وقولُها: لقد زَادَني حُبًّا لِبَلْدَتِي بَقْعَاءَ هذِهِ أَن هذا الرجُلَ الذي تَزَوَّجَني من أَهلِ لِينَةَ عُنِّنَ عَنِّي، فكانَ كالَمطِيَّةِ الظَّالِعَةِ لا تَحْمِلُ صاحِبَها، وقولها:

فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ...

البيت، تقول: هَلْ مِن رَجُلٍ يُبْلِغُ صاحِبَتَيَّ بالرَّمْلِ أَنَّ بَعْلِي ضَعُفَ عَنِّي وعُنِّنَ فأَوْحَشَني ذلك إِلى أَنْ بَكَيْتُ حَتّى قَرِحَتْ أَجفانِي فزَالَتِ المَدَامِعُ، ولم يَزُلْ ذلك الجَفْنُ الدَّامِعُ، قال ابنُ سِيدَه، وهذه الأَبياتُ قَرَأْتُها على أَبِي العَلاءِ صاعِدُ بنِ الحَسَن في الكِتَاب المَوْسُوم بالفُصُوصِ.

وَكَذَا في الحُزْنِ ولكن بِكَسْرِ ماضِيه، مُرَاده أَن وَجِدَ في الحُزْن مِثْل وَجَدَ في الحُبِّ؛ أَي ليس له إِلَّا مَصْدَرٌ واحِدٌ، وهو الوَجْدُ، وإِنما يخالفه في فِعْلِه، ففِعل الحُبِّ مفتوح، وفِعْل الحُزْن مَكسورٌ، وهو المراد بقوله: ولكن بكسرِ ماضِيه. قال شيخُنا: والذي في الفصيح وغيرِه من الأُمَّهات القديمةِ كالصّحاحِ والعَيْنِ ومُخْتَصر العينِ اقتَصَرُوا فيه على الفَتْح فقط، وكلامُ المصنّف صَرِيحٌ في أَنه إِنما يُقال بالكَسْرِ فقطْ، وهو غَرِيبٌ، فإِن الذين حَكَوْا فيه الكَسْرَ ذَكَرُوه مع الفَتْح الذي وَقَعَتْ عليه كَلِمَةُ الجماهيرِ، نَعمْ حَكَى اللَّحْيَانيُّ فيه الكسْرَ والضَّمَّ في كتابِه النوادِر، فظَنَّ ابنُ سِيدَه أَن الفَتْحَ الذي هو اللغةُ المشهورةُ غير مَسمُوعٍ فيه، واقتصر في المُحكمِ على ذِكْرِهما فقط، دون اللغَةِ المشهورةِ في الدَّوَاوِين، وهو وَهَمٌ، انتهى. قلت: والذي في اللسانِ: وَوَجَدَ الرَّجُلُ في الحُزْنِ وَجْدًا، بالفتح، وَوَجِدَ، كِلَاهُمَا عن اللِّحْيَانيِّ: حَزِنَ. فهو مُخَالِفٌ لما نَقَلَه شَيْخُنَا عن اللِّحْيانيِّ من الكَسْرِ والضّمِّ، فليتأَمَّل، ثم قال شيخُنَا: وابنُ سيده خالَفَ الجُمْهُورَ فَأَسْقَطَ اللُّغَةَ المشهورَةَ، والمُصَنِّف خالَف ابنَ سِيدَه الذي هو مُقْتَدَاه في هذه المادَّةِ فاقتَصَر على الكَسْرِ، كأَنَّه مُرَاعاةً لِرَدِيفه الذي هو حَزِنَ، وعلى كِلِّ حالٍ فهو قُصُورٌ وإِخلالٌ، والكَسْر الذي ذَكَرَه قد حكاه الهَجَرِيُّ وأَنشَدَ:

فَوَاكَبِدَا مِمَّا وَجِدْتُ مِن الأَسَى *** لَدَى رَمْسِه بَيْنَ القَطِيلِ المُشَذَّب

قال: وكأَنَّ كَسْر الجِيمِ مِن لُغَتِه، فتحَصَّل مِن مجموعِ كَلامِهم أَنَّ وَجَدَ بمعنى حَزِن فيه ثلاثُ لُغَاتٍ، الفتْح الذي هو المشهور، وعليه الجمهور، والكسْر الذي عليه اقتصر المُصَنِّف والهَجَرِيّ وغيرُهما، والضمُّ الذي حكاه الِّلحيانيّ في نَوَادِرِه، ونقلَهما ابنُ سِيده في المُحْكَم مقتَصِرًا عليهما.

والوُجْدُ: الغِنَى، ويُثَلَّث، وفي المحكم: اليَسَار والسَّعَةُ، وفي التنزيلِ العزيز: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وقد قُرِئ بالثلاث؛ أَي في سَعَتِكم وما مَلَكْتُم، وقال بعضُهم: مِن مَسَاكِنِكُم. قلت: وفي البصائر: قَرَأَ الأَعْرَجُ ونافِعٌ ويَحْيَى بن يَعْمُر وسَعِيد بن جُبَير وطَاوُوس وابنُ أَبي عَبْلَة وأَبو حَيْوَةَ: «مِنْ وَجْدِكُم»، بالفتح، وقرأَ أَبو الحَسن رَوْحُ بن عبد المُؤْمن: «من وِجْدِكم» بالكسر، والباقُون بالضَّمّ، انتهى، قال شيخُنَا: والضمُّ أَفْصَح، عن ابنِ خَالَوَيْه، قال: ومعناه: من طَاقَتِكُم ووُسْعِكُم، وحكَى هذا أَيضًا اللّحيانيُّ في نَوَادِرِه.

والوَجْدُ، بالفتح: مَنْقَعُ الماءِ، عن الصاغانيِّ، وإِعجام الدال لغةٌ فيه، كما سيأْتي الجمع: وِجَادٌ، بالكسر.

وأَوْجَدَه: أَغْنَاهُ.

وقال اللِّحيانيُّ: أَوْجَدَه إِيَّاه: جَعَلَه يَجِدُه.

وأَوْجَدَ اللهُ فُلانًا مطلُوبَهُ؛ أَي أَظْفَرَهُ به.

وأَوْجَدَه عَلى الأَمْرِ: أَكْرَهَهُ وأَلْجَأَه، وإِعجام الدَّالِ لُغَةٌ فيه.

وأَوْجَدَهُ بَعْدَ ضُعْفٍ: قَوَّاهُ، كآجَدَه والذي في اللسان: وقالُوا: الحَمْدُ للهِ الذي أَوْجَدَني بَعْدَ فَقْر؛ أَي أَغْنَاني، وآجَدَنِي بَعْدَ ضَعْف؛ أَي قَوَّانِي.

وعن أَبي سعيدٍ: تَوَجَّدَ فلانٌ السَّهَرَ وغَيْرَه: شَكَاهُ، وهم لَا يَتَوَجَّدُونَ سَهَرَ لَيْلِهم ولا يَشْكُونَ ما مَسَّهم مِنْ مَشَقَّتِه.

والوَجِيدُ: مَا اسْتَوَى من الأَرْضِ، الجمع: وُجْدَانٌ، بالضَّمّ، وسيأْتي في المُعْجَمَة.

ووُجِدَ الشيْ‌ءُ مِن العَدَمِ، وفي بعضِ الأُمّهات: عن عَدَمٍ، ومثلُه في الصَّحاح كعُنِىَ، فهو مَوجودٌ [مثل]: حُمَّ، فهو مَحْمُومٌ، ولا يُقَال: وَجَدَه الله تَعالى، كما لا يُقَال: حَمَّه اللهُ، وإِنما يقال: أَوْجَدَه الله تَعَالى وأَحَمَّه، قال الفيّومِيّ: الموجود خِلافُ المَعْدُومِ، وأَوْجَد اللهُ الشيْ‌ءَ من العَدَمِ فوُجِدَ فهو مَوْجُود، من النَّوادِر، مثْل أَجَنَّه اللهُ فجُنَّ فهو مَجْنُونٌ، قال شيخُنا: وهذا البابُ من النوادرِ يُسَمِّيه أَئمّةُ الصَّرْفِ والعَربيَّةِ بابَ أَفْعَلْتُه فهو مَفْعُولٌ، وقد عَقَدَ له أَبو عُبَيْدٍ بَابًا مُستقِلًّا في كتابِه الغَرِيب المُصَنَّف وذكر فيه أَلفاظًا منها: أَحَبَّه فهو مَحْبُوبٌ. قلت: وقد سبق البَحْثُ فيه في مواضِعَ مُتَعَدِّدةٍ في ح ب ب. وس موضع د، ون ب ت، فراجِعْه، وسيأْتي أَيضًا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الواجِدُ: الغَنِيُّ قال الشاعِر:

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الوَاجِدِ

وفي أَسماءِ الله تعالى: الواجِدُ، هو الغَنِيُّ الذي لا يَفْتَقِر.

وقد وَجَدَ يَجِدُ جِدَةً؛ أَي استَغْنَى غِنىً لا فَقْرَ بَعْدَه، قاله ابنُ الأَثير، وفي الحديث: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وعِرْضَهُ» أَي القادِر على قَضَاءِ دَيْنِه، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَيُّهَا النَّاشِدُ، غَيْرُك الوَاجِدُ» مِنْ وَجَدَ الضّالَّةَ يَجِدُهَا.

وتَوَجَّدْتُ لِفُلانٍ: حَزِنْتُ له.

واستَدْرَك شيخُنَا: الوِجَادَة، بالكسر، وهي في اصْطِلاح المُحَدِّثين اسمٌ لما أُخِذَ من العِلْمِ مِن صَحِيفَةٍ مِن غَيْرِ سَمَاعٍ ولا إِجَازَةٍ ولا مُنَاوَلَةٍ، وهو مُوَلَّدٌ غيرُ مَسموعٍ، كذا في التقريبِ للنووي.

والوُجُدُ، بضمتين، جَمْعُ واجِد، كما في التَّوشيحِ، وهو غَرِيبٌ، وفي الجامع للقَزَّاز: يقولون: لم أَجْدِ مِن ذلك بُدًّا، بسكون الجيم وكسْرِ الدال، وأَنشد:

فَوَ اللهِ لَوْلَا بُغْضُكُمْ ما سَبَبْتُكُمْ *** ولكِنَّنِي لَمْ أَجْدِ مِنْ سَبِّكُمْ بُدًّا

وفي المُفْرَدات للراغب: وَجَدَ اللهُ: عَلِم، حَيْثُمَا وَقَعَ، يعنِي في القُرآنِ، ووافقَه على ذلك الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرُه.

وفي الأَساس: وَجَدْت الضَّالَّةَ، وأَوْجَدَنِيه اللهُ، وهو واجِدٌ بِفُلانَةَ، وعَلَيْهَا، وَمُتَوَجِّدٌ.

وَتَوَاجَدَ فُلانٌ: أَرَى مِن نَفْسِه الوَجْدَ.

ووَجَدْتُ زَيْدًا ذَا الحِفَاظِ: عَلِمْتُ.

والإِيجادُ: الإِنشاءُ من غير سَبقِ مِثَالٍ.

وفي كِتَاب الأَفْعَال لابنِ القطَّاع: وأُوْجِدَتِ النّاقَةُ: أُوثِقَ خَلْقُهَا.

تكميل وتذنيب: قال شيخنا نقلًا عن شَرْحِ الفصيح لابنِ هشامٍ اللَّخميِّ: وَجدَ له خَمْسَةُ مَعَانٍ، ذَكرَ منها أَرْبَعَةً ولم يَذكر الخَامِس، وهو: العِلْمُ والإِصابَةُ والغَضَب والإِيسارُ وهو الاستغْنَاءُ، والاهتمام وهو الحُزْن، قال: وهو في الأَوّل مُتَعَدٍّ إِلى مفعولينِ، كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى}.

وفي الثاني مُتَعدٍّ إِلى واحِدٍ، كقولِه تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا}.

وفي الثالثِ متَعدٍّ بحرْف الجَرِّ، كقولِه وَجَدْت على الرَّجُلِ، إِذا غَضِبْتَ عليه.

وفي الوجهين الأَخِيرَين لا يَتَعَدَّى، كقولِك: وَجَدْت في المالِ؛ أَي أَيْسَرْت، ووَجَدْتُ في الحُزْن؛ أَي اغْتَمَمْتُ.

قال شيخُنَا: وبقيَ عليه: وَجَدَ به، إِذَا أَحَبَّه وَجْدًا، كما مَرَّ عن المُصنِّف، وقد استدرَكه الفِهْرِيُّ وغيرُه على أَبي العَبَّاسِ في شَرْحِ الفصيحِ، ثم إِن وَجَدَ بمعنى عَلِمَ الذي قال اللّخميّ إِنه بَقِيَ على صاحِبِ الفصيح لم يَذْكُر له مِثَالًا، وكأَنّه قَصَدَ وَجَدَ التي هي أُخْتُ ظَنَّ، ولذلك قال يَتَعَدَّى لِمَفْعُولينِ، فيبقى وَجَدَ بمعنَى عَلِم الذي يتعدَّى لمفعولٍ واحِدٍ، ذكرَه جمَاعَةٌ، وقَرِيبٌ من ذلك كلامُ الجَلَالِ في هَمْعِ الهَوَامِعِ، وَجَدَ بمعنَى عَلِمَ يتعَدَّى لمفعولينِ ومَصْدَرُه وِجْدَانٌ، عن الأَخْفَش، ووُجُود، عن السيرافيّ، وبمعنى أَصَابَ يتعدَّى لواحِدٍ، ومَصْدرُه وِجْدَانٌ، وبمعنى اسْتَغْنَى أَو حَزِنَ أَو غَضِب لازِمَةٌ، ومصدر الأَوَّل الوَجْد، مثلّثه، والثاني الوَجْدُ، بالفتح، والثالث المَوْجِدَة.

قلت: وأَخْصَرُ من هذا قولُ ابنِ القَطّاعِ في الأَفعال: وَجَدْتُ الشيْ‌ءَ وِجْدَانًا بعد ذَهَابِه وفي الغِنَى بَعْدَ الفَقْرِ جِدَةً، وفي الغَضَب مَوْجِدَةً وفي الحُزْن وَجْدًا حَزِنَ.

وقال المُصَنّف في البصائرِ نقلًا عن أَبي القاسم الأَصبهانيّ: الوُجُودُ أَضْرُبٌ، وُجُودٌ بِإِحْدى الحَوَاسِّ الخَمْسِ، نحو وَجَدْتُ زَيْدًا وَوَجَدْتُ طَعْمَه ورائحتَه وصَوتَه وخُشُونَتَه، ووجُودٌ بِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ نحو وَجَدْتُ الشِّبَع، ووُجُودٌ أَمَدَّه الغَضَبُ، كوُجُودِ الحَرْبِ والسَّخَطِ، ووُجُودٌ بالعَقْل أَو بِوسَاطَة العَقْلِ، كمَعْرِفَة الله تعالى، ومَعْرِفَة النُّبُوَّةِ. وما نُسِب إِلى الله تعالى مِن الوُجُود فبِمَعْنَى العِلْمِ المُجَرَّدِ، إِذ كان اللهُ تعالَى مُنَزَّهًا عن الوَصْفِ بالجَوَارِحِ والآلاتِ، نحو قولهِ تَعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} وكذا المعدوم، يقال على ضِدّ هذه الأَوْجُهِ. ويَعبَّر عن التَمَكُّنِ من الشي‌ءِ بالوُجُودِ نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أَي حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُم، وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، وقوله: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} وقوله: (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ) ووجود بالبصيرة، وكذا قوله: (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) وقوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) أَي إِن لم تَقْدِروا على الماءِ.

وقال بعضهم: المَوْجُودَات ثلاثةُ أَضْرُبٍ: مَوجُودٌ لا مَبْدَأَ له ولا مُنْتَهَى، وليس ذلك إِلَّا البارِئَ تَعالَى، ومَوْجُودٌ له مَبْدَأٌ ومُنْتَهًى، كالجَوَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّة، وموجودٌ له مَبْدَأٌ وليس له مُنْتَهًى، كالنَّاسِ في النّشْأَةِ الآخِرِة، انتهى.

قال شيْخنا في آخِر هذه المادة ما نصُّه: وهذا آخِرُ الجزءِ الذي بخطّ المُصَنّف، وفي أَوّل الذي بَعْدَه: الواحد، وفي آخر هذا الجزءِ عَقِبَ قَوله: وإِنما يقال أَوجَدَه اللهُ، بخط المُصَنّف رَحمه الله تعالى ما نَصُّه: هذا آخِرُ الجُزءِ الأَوَّل من نُسْخَةِ المُصَنِّف الثانِيَة مِن كِتَابِ القَامُوسِ المُحِيط والقَابُوس الوَسِيط في جَمع لُغَاتِ العَرب التي ذَهَبَتْ شَماطِيطَ، فَرغَ منه مُؤَلِّفه مُحمد بن يَعْقُوب بن مُحمّد الفَيْرُوزَاباديّ في ذِي الحِجَّة سنةَ ثمانٍ وسِتّينَ وسَبْعمَائةٍ.

انتهى من خطّه، وانتهى كلام شَيْخِنَا.

قلت: وهو آخِر الجزءِ الثاني من الشَّرْحِ وبه يَكْمُل رُبْعُ الكِتَابِ ما عدَا الكلامَ على الخُطْبَة، وعلى الله التيسيرُ والتَّسْهِيل في تمامه وإِكماله على الوَجْهِ الأَتَمَّ، إِنّه بكُلّ شيْ‌ءٍ قدير، وبكُلِّ فَضْل جَدير، عَلَّقَه بِيَدِه الفَانِيَةِ الفقيرُ إِلى مولاه عَزَّ شَأْنُه مُحمّد مُرْتَضَى الحُسَيني الزَّبيدِيُّ، عُفِيَ عَنه، تَحرِيرًا في التاسِعَة مِن لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ المُبَارَكِ عاشِر شهرِ ذِي القِعْدَةِ الحَرَامِ من شهور سنة 1181 خُتِمَتْ بِخَيْرٍ، وذلك بِوكالة الصَّاغَةِ بمصر.

قال مُؤَلِّفه: بلَغ عِرَاضُهُ على التَّكْمِلَة للصاغانيّ في مَجالِسَ آخِرُها يوم الاثنين حادِي عَشَرَ جُمَادَى سنة 1192، وكتبه مُؤَلِّفه محمد مرتضى، غَفَر له بمَنِّه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


31-تاج العروس (عذر)

[عذر]: العُذْرُ بالضَّمّ: م، معروفٌ، وهو الحُجَّةُ التي يُعْتَذَرُ بها.

وفي البَصَائِرِ للمُصَنِّفِ: العُذْرُ: تَحَرِّي الإِنسانِ ما يَمْحُو بِه ذُنُوبَه، وذلك ثلاثةُ أَضْرُب: أَن تقولَ: لم أَفْعَل.

أَو تقولَ: فعَلْتُ لأَجَلِ كذا، فيَذْكُر ما يُخْرِجُه عن كونِه مُذْنِبًا.

أَو تقولَ: فعَلْتُ ولا أَعودُ، ونحو ذلك [من المقال]، وهذا الثالثُ هو التَّوْبةُ.

فكلُّ تَوبة عُذْرٌ، وليس كلُّ عُذْر تَوبةً. الجمع: أَعْذارٌ.

يُقَال: عَذَرَهُ يَعْذِرُهُ بالكسر، فيما صَنَعَ، عُذْرًا، بالضَّم وعُذُرًا بضمتَين، وبهما قُرِئ قوله تعالى: {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا. عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} فسّره ثَعْلَبٌ فقال: العُذْرُ والنُّذْرُ واحد، قال اللِّحْيَانِيّ: وبعضُهُم يُثَقِّلُ قال أَبو جعفر: من ثَقَّلَ أَرادَ: «عُذُرًا أَو نُذُرًا»، كما تقول: رُسُل في رُسْل.

وقال الأَزْهَرِيّ: وهما اسمانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الإِعْذارِ والإِنْذَارِ، ويَجُوز تَخفيفُهما وتَثقيلُهما معًا، وعُذْرَى بضمٍّ مقصورًا، قال الجَمُوحُ الظَّفَرِيّ:

قالَتْ أُمَامَةُ لمّا جِئْتُ زَائِرَهَا *** هَلّا رَمَيْتَ بِبَعْضِ الأَسْهُمِ السُّودِ

للهِ دَرُّكِ إِنّي قد رَمَيْتُهُمُ *** لَوْلَا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمَحْدُودِ

قيل: أَرادَ بالأَسهُمِ السُّودِ: الأَسْطُرَ المكتوبَةَ. ومَعْذِرَةً، بكسر الذّال، ومَعْذُرَةً، بضمِّها، جمعهما مَعَاذِيرُ.

وأَعْذَرَهُ كعَذَرَه، قال الأَخْطَلُ:

فإِن تَكُ حَرْبُ ابْنَيْ نِزَار تَوَاضَعَتْ *** فقَدْ أَعْذَرَتْنَا في طلابِكُمُ العُذْرُ

والاسْمُ المَعْذِرَةُ، مثلَّثَةَ الذال، والعِذْرَةُ، بالكسر، قال النّابِغَةُ:

ها إِنَّ تَا عِذْرَةٌ إِلّا تَكُنْ نَفَعَتْ *** فإِنَّ صاحِبَها قد تَاهَ في البَلَدِ

يقال: اعْتَذَرَ فلانٌ اعْتِذَارًا، وعِذْرَةً، ومَعْذِرَةً من ذَنْبِه، فعَذَرْتُه.

وأَعْذَرَ إِعْذَارًا، وعُذْرًا: أَبْدَى عُذْرًا، عن اللِّحْيَانِيّ، وهو مَجَاز.

والعَرَبُ تقول: أَعْذَرَ فلانٌ؛ أَي كانَ منهُ ما يُعْذَرُ به.

والصَّحِيح أَنَّ العُذْرَ الاسمُ، والإِعْذَارُ المَصْدَرُ، وفي المَثَلِ: «أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ».

وأَعْذَرَ الرجُلُ: أَحْدَثَ.

ويقال: عَذَّرَ الرّجُلُ: لم يَثْبُتْ له عُذْرٌ، وأَعْذَرَ: ثَبَتَ له عُذْرٌ، وبه فَسّرَ من قرأَ قوله عزّ وجلّ {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ} كما يأْتِي في آخر المادّة.

وأَعْذَرَ: قَصَّرَ ولَمْ يُبَالِغْ وهو يُرِي أَنّه مُبَالِغٌ.

وأَعْذَرَ: فيه: بالَغَ وجَدَّ، كأَنَّهُ ضِدٌّ، وفي الحديثِ: «لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلى مَنْ بَلَغَ مِنَ العُمْرِ سِتِّينَ سَنَةً» أَي لم يُبْقِ فيه مَوْضعًا للاعْتِذَارِ حيثُ أَمْهَلَهُ طُولَ هذِه المُدَّةِ، ولم يَعْتَذِرْ.

يقال: أَعْذَرَ الرَّجُلُ، إِذا بَلَغ أَقْصَى الغَايَةِ في العُذْرِ، وفي حديثِ المِقْدادِ: «لقد أَعْذَرَ الله إِليك»؛ أَي عَذَرَك وجَعَلَكَ مَوْضِعَ العُذْرِ، فأَسقَطَ عنك الجِهَادَ، وَرَخّصَ لك في تَرْكه؛ لأَنّه كان قد تَنَاهَى في السِّمَنِ وعَجَز عن القِتَال.

وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ: «إِذَا وُضِعَت المائِدَةُ فلْيَأْكُل الرّجُلُ ممّا عنْدَه، ولا يَرْفَعْ يَده، وإِنْ شَبعَ، وليُعْذِرْ؛ فإِنّ ذلك يُخَجِّلُ جَلِيسَه»، الإِعذار: المُبَالَغَةُ في الأَمْرِ؛ أَي لِيُبَالغْ في الأَكل مثْل الحَدِيثِ الآخَر: «أَنّه كانَ إِذَا أَكَلَ مع قَوْمٍ كان آخِرَهُم أَكْلًا».

وأَعْذَرَ الرَّجلُ إِعْذارًا، إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُه وعُيُوبُه، وصار ذا عَيْب وفَسادٍ، كعَذَرَ يَعْذِرُ، وهما لُغَتَان، نقلَ الأَزْهَرِيُّ الثانِيَةَ عن بعضِهِم، قال: ولم يَعْرِفْهَا الأَصْمَعِيُّ، قال: ومنه قولُ الأَخْطَلِ:

فإِن تَكُ حَرْبُ ابْنَيْ نِزَارٍ تَوَاضَعَتْ *** فقد عَذَرَتْنَا في كِلابٍ وفي كَعْبِ

ويُرْوَى «أَعْذَرَتْنَا»؛ أَي جَعَلَتْ لنا عُذْرًا فيما صنَعْناهُ، ومنه قولُه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «لَنْ يَهْلِكَ النّاسُ حتّى يَعْذِرُوا من أَنْفُسِهِمْ»، يقال: أَعْذَرَ من نَفْسِهِ، إِذَا أَمْكَنَ مِنْهَا، يَعْنِي أَنّهم لا يَهْلِكُون حتى تكثُرَ ذُنُوبُهم وعُيُوبُهم، فَيُعْذِرُوا من أَنْفُسِهِمْ ويسْتَوْجِبُوا العُقُوبَة، ويكون لمن يُعَذِّبُهُم عُذْرٌ، كأَنَّهُم قَامُوا بِعُذْرِهِ في ذلك، ويُرْوَى بفتح الياءِ من عَذَرْتُه، وهو بمعْنَاه، وحقيقةُ عَذَرْتُ: مَحَوْتُ: الإِسَاءَةَ وطَمَسْتُهَا، وهذا كالحَدِيث الآخَر: «لَنْ يَهْلِكَ علَى الله إِلّا هَالِكٌ» وقد جَمَعَ بينَ الرِّوايتَيْن ابنُ القَطّاعِ في التَّهْذِيب فقال: وفي الحَدِيثِ: «لا يَهْلِكُ النّاسُ حَتّى يُعْذِرُوا من أَنْفُسِهِم» ويَعْذِرُوا. وأَعْذَرَ الفَرَسَ إِعْذَارًا: أَلْجَمَهُ، كعَذَرَه وعَذَّرَه.

أَو عَذَّرَه: جَعَلَ له عِذَارًا لا غير، وأَعْذَر اللِّجَامَ: جَعَلَ له عِذَارًا.

وأَعْذَرَ الغُلَامَ إِعْذَارًا: خَتَنَه وكذلك الجارِيَةَ، كعَذَرَهُ يَعْذِرُه عَذْرًا، وهو مَجاز، قال الشاعرُ:

في فِتْيَة جَعَلُوا الصَّلِيبَ إِلَا هَهُمْ *** حاشَايَ إِنّي مُسْلِمٌ مَعْذُورُ

والأَكْثَرُ خَفَضْتُ الجَارِيَةَ، وقال الرّاجِزُ:

تَلْوِيَةَ الخَاتِنِ زُبَّ المَعْذُور

وفي الحديثِ «وُلِدَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم مَعْذُورًا مَسْرُورًا»؛ أَي مَخْتُونًا مَقْطُوعَ السُّرَّةِ، وفي حديث آخَرَ: «كُنَّا إِعْذَارَ عامٍ واحِد»؛ أَي خُتِّنَا في عام واحد، وكانوا يُخْتَنُونَ لِسِنٍّ معلومَةٍ، فيما بينَ عَشْرِ سنِين وخَمْسَ عَشْرَةَ.

ومن المَجَاز: أَعْذَرَ للقَوْمِ، إِذا عَمِلَ لَهُمْ طَعَامَ الخِتَانِ وأَعَدّه، وفي الحَدِيثِ «الوَلِيمَةُ في الإِعْذَارِ حَقٌّ». وذلك الطَّعامُ هو العِذَارُ، والإِعْذَارُ، والعَذِيرَةُ، والعَذِيرُ، كما سيأْتي، وأَصْل الإِعْذَارِ: الخِتَانُ، ثم استُعْمِل في الطَّعَامِ الذي يُصْنَع في الخِتَانِ.

وأَعْذَرَ: أَنْصَفَ، يقال: أَمَا تُعْذِرُنِي مِنْ هذا؟ بمعْنَى أَمَا تُنْصِفُنِي منه، ويقال: أَعْذِرْنِي من هذا؛ أَي أَنْصِفْنِي منه، قاله خالدُ بنُ جَنْبَة.

ويُقَال: أَعْذَرَ فُلَانًا في ظَهْرِهِ بالسِّيَاطِ، إِذَا ضَرَبَه فَأَثَّرَ فيهِ، قال الأَخْطَلُ:

يُبَصْبِصُ والقَنَا زُورٌ إِلَيْهِ *** وقَدْ أَعْذَرْنَ في وَضَحِ العِجَانِ

وأَعْذَرَتِ الدّارُ: كَثُرَتْ فيهِ هكذا في النُّسخ، والصواب «كثُرَ فِيهَا العَذِرَةُ، وهي الغَائطُ الذي هو السَّلْحُ، هكذا في التكملة، وقال البَدْرُ القَرَافِيُّ في حاشِيَتِه: أَرادَ بالدَّارِ المَوْضِعَ، فذكَّرَ الضَّمِيرَ.

وعَذَّرَ الرَّجُلُ تَعْذِيرًا فهو مُعَذِّرٌ: إِذا اعْتَذَرَ ولم يأْتِ بعُذْرٍ.

وعَذَّرَ: لَمْ يَثْبُتْ له عُذْرٌ، وبه فُسِّر قوله عزّ وجلّ: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} بالتَّثْقِيل هم الَّذِين لا عُذْرَ لهُمْ، ولكن يَتَكَلَّفُونَ عُذْرًا، وسيأْتِي البحثُ فيه قريبًا، كعَاذَرَ مُعَاذَرَةً.

وعَذَّرَ الغُلامُ: نَبَتَ شَعرُ عِذَارِه، يعني خَدَّه.

وعَذَّرَ الشَّيْ‌ءَ تَعْذِيرًا: لَطَخَه بالعَذِرَةِ.

وعَذَّرَ الدَّارَ تَعْذِيرًا: طَمَسَ آثَارَهَا.

وأَعْذَرْتُهَا، وأَعْذَرْتُ فيها: أَثَّرَتُ فيها، كما نقلَه الصّاغانيّ.

وعذَّرَ تَعْذِيرًا: اتَّخَذَ طَعَامَ العِذَارِ وأَعَدَّهُ للقَوْمِ وعَذَّرَ تَعْذِيرًا: دعَا إِليه.

وتَعَذَّرَ: تَأَخَّرَ، قال امرُؤُ القَيْسِ:

بسَيْرٍ يَضِجُّ العَوْدُ مِنْهُ يَمُنُّهُ *** أَخو الجَهْدِ لا يَلْوِي علَى مَنْ تَعَذَّرَا

وتَعَذَّرَ عَلَيْه الأَمْرُ: لم يَسْتَقِمْ وذلك إِذا صَعُبَ وتَعَسَّرَ.

وتَعَذَّرَ: الرَّسْمُ: تغيَّرَ ودَرَسَ قال أَوْسٌ:

فبَطْنٌ السُّلَيِّ فالسِّجَالُ تَعَذَّرَتْ *** فمَعْقُلَةٌ إِلى مُطَارٍ فوَاحِفُ

وقال ابنُ مَيّادَةَ، واسمُه الرَّمّاحُ بنُ أَبْرَدَ، يَمدحُ بها عبدَ الواحِدِ بنَ سُلَيْمَانَ بنِ عبدِ المَلِكِ:

ما هاجَ قَلْبَكَ من مَعَارِفِ دِمْنَة *** بالبَرْقِ بينَ أَصالِفٍ وفَدَافِدِ

لَعِبَتْ بها هُوجُ الرّياحِ فأَصْبَحَتْ *** قَفْرًا تَعَذَّرَ غَيْرَ أَوْرَقَ هامِدِ

ومنها:

مَنْ كانَ أَخْطَأَهُ الرَّبِيعُ فإِنّهُ *** نُصِرَ الحِجَازُ بغَيْثِ عبدِ الوَاحِدِ

سَبَقَتْ أَوائِلُه أَوَاخِرَه *** بمُشَرَّعٍ عَذْب ونَبْتٍ وَاعِدِ

كاعْتَذَرَ، يقال: اعْتَذَرَت المَنَازِلُ، إِذا درَسَتْ. ومَرَرْتُ بمَنْزِلِ مُعْتَذِر: بالٍ، وقال ابنُ أَحْمَرَ:

بانَ الشَّبابُ وأَفْنَى ضِعْفَه العُمُرُ *** لله دَرُّكَ أَيَّ العَيْشِ تَنْتَظِرُ؟

هلْ أَنْتَ طالِبُ مَجْدٍ لَسْتَ مُدْرِكَهُ؟ *** أَم هَلْ لِقَلْبِكَ عن أُلّافِه وَطَرُ؟

أَم كُنْتَ تَعْرِفُ آياتٍ فَقَدْ جَعَلَتْ *** أَطْلالُ إِلْفِكَ بالوَدْكاءِ تَعْتَذِرُ؟

قيل: ومنه أُخِذَ الاعتذارُ من الذَّنْبِ، وهو مَحْوُ أَثَرِ المَوْجِدَةِ.

وتَعَذَّرَ الرَّجلُ: تَلَطَّخَ بالعَذِرَةِ.

وتَعَذَّرَ: اعْتَذَرَ، واحْتَجَّ لنَفْسِه، قال الشاعِر:

كأَنَّ يَدَيْها حِينَ يُفْلَقُ ضَفْرُها *** يَدَا نَصَفٍ غَيْرَى تَعَذَّرُ مِنْ جُرْمِ

ويُقَال: تَعَذَّرُوا عليه؛ أَي فَرّ وا عنه، وخَذَلُوه.

والعَذِيرُ: العَاذِرُ، قال ذُو الإِصْبَعِ العَدْوَانِيّ:

عَذِيرَ الحَيِّ من عَدْوَا *** نَ كانُوا حَيَّةَ الأَرْضِ

بَغَى بَعْضٌ على بَعْضٍ *** فلَمْ يُرْعُوا على بَعْضِ

فقَدْ أَضْحَوْا أَحادِيثَ *** بِرَفْعِ القَوْلِ والخَفْضِ

يقول: هاتِ عُذْرًا فيما فَعَلَ بعضُهُم ببعْضٍ من التّبَاغُضِ والقَتْلِ، ولم يُرْعِ بعضُهم على بعْضٍ، بعد ما كانوا حيَّةَ الأَرْضِ التي يَحْذَرُهَا كلُّ أَحَد، وقيل: معناه هاتِ مَن يَعْذِرُنِي، ومنه قولُ عليِّ بنِ أَبِي طالبٍ رضي ‌الله‌ عنه، وهو يَنْظُرُ إِلى ابن مُلْجِم:

أُرِيدُ حَيَاتَه ويُريدُ قَتْلِي *** عَذِيرَكَ من خَلِيلِكَ من مُرَادِ

يقال: عَذِيرَكَ من فُلانٍ، بالنَّصْبِ؛ أَي هَات مَنْ يَعْذِرُك، فَعِيلٌ بمعنَى فاعل.

ويُقَال: لا يُعْذِرُك من هذا الرّجُلِ أَحدٌ، معناه: لا يُلْزِمُه الذَّنبَ فيما تُضِيف إِليه، وتَشْكُوه منه وفي حديثِ الإِفْكِ: «مَنْ يَعْذِرُنِي من رَجُل قد بَلَغَني عنه كذا وكذا؟ فقال سَعدٌ: أَنا أُعْذِرُكَ منه» أَي مَن يَقُومُ بعُذْري إِن كافَأْتُه على سُوءِ صَنِيعه فلا يَلُومُني، وفي حديث أَبي الدَّرْدَاءِ: «مَنْ يَعْذِرُنِي من مُعَاويةَ؟ أَنا أُخْبِرُه عن رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، وهو يُخْبِرُنِي عن نَفْسِه» وفي حديث عليٍّ: «مَنْ يَعْذِرُنِي من هؤلاءِ الضَّيَاطِرَةِ».

وعَذيرُك: الحَالُ التي تُحَاولُهَا، وتَرُومُها مما تُعْذَرُ عَلَيْهَا إِذَا فَعَلْتَ، قال العَجّاجُ يُخاطِبُ امرأَتَه:

جَارِيَ لا تَسْتَنْكِرِي عَذِيرِي *** سَيْرِي وإِشْفاقي على البَعِيرِ

يريد: يا جارِيَةُ، فرَخّم، وذلك أَنّه عَزَمَ عَلى السَّفَرِ، فكان يَرُمُّ رَحْلَ ناقَتِه لسَفَرِه، فقالت له امرأَتُه: ما هذا الذي تَرُمُّ؟ فخاطَبها بهذا الشعرِ؛ أَي لا تُنكِرِي ما أُحَاوِلُ. وجَمْعُه عُذُرٌ، مثْل: سَرِيرِ وسُرُر، وإِنّمَا خُفِّف فقيل عُذْرٌ، وقال حاتِمٌ:

أَمَاويَّ قد طَالَ التَّجَنُّبُ والهَجْرُ *** وقد عَذَرَتْنِي في طِلابِكُمُ العُذْرُ

أَماوِيَّ إِنَّ المالَ غادٍ ورائِحٌ *** ويَبْقَى مِنَ المالِ الأَحادِيثُ والذِّكْرُ

وقد عَلِمَ الأَقْوَامُ لو أَنّ حاتِمًا *** أَرادَ ثراءَ المالِ كان له وَفْرُ

والعَذِيرُ: النَّصِيرُ يقال: مَن عَذِيرِي من فُلانٍ؟ أَي مَنْ نَصِيرِي؟

والعِذَارُ من اللِّجامِ، بالكسرِ: ما سَالَ على خَدِّ الفَرَسِ، هو نَصُّ المُحْكَمِ. وفي التَّهْذِيبِ: وعِذَارُ اللِّجامِ: ما وَقَعَ منه على خَدَّيِ الدَّابَّةِ وقيل: عِذَارُ اللِّجَامِ: السَّيْرَانِ اللَّذَانِ يَجْتَمِعَانِ عند القَفَا، يقال: عَذَرَ الفَرَسَ بهِ؛ أَي بالعِذَارِ يَعْذِرُه، بالكَسْر، ويَعْذُرُهُ، بالضّمّ شَدَّ عِذَارَهُ، كأَعْذَرَهُ إِعْذارًا. وقيل: عَذَرَهُ، وأَعْذَرَه، وعَذَّرَه: أَلْجَمَهُ.

وقيل: عَذَّرَه: جَعَلَ له عِذَارًا لا غَيْر، وأَعْذَرَ اللِّجَامَ: جَعَلَ له عِذَارًا، وفي الحَدِيثِ: «لَلْفَقْرُ أَزْيَنُ للمُؤْمِنِ من عِذَارٍ حَسَنٍ على خَدِّ فَرَسٍ» قالوا: العِذَارَانِ من الفَرَسِ كالعَارِضَيْنِ مِنْ وَجْهِ الإِنْسَانِ، ثمّ سُمِّيَ السَّيْرُ الذي يكونُ عليه من اللِّجامِ عِذَارًا، باسم موضِعِه، ج: عُذُرٌ، ككِتَابٍ وكُتُب.

والعِذَارَانِ: جانِبَا اللِّحْيَةِ، لأَنّ ذلك مَوضعُ العِذَارِ من الدَّابَّة، قال رؤبةُ:

حَتّى رَأَيْنَ الشَّيْبَ ذَا التَّلَهْوُقِ *** يَغْشَى عِذَارَيْ لِحْيَتِي وَيَرْتَقِي

وعِذَارُ الرَّجُلِ: شَعرُه النَّابِتُ في مَوْضِعِ العِذَار.

والعِذَارُ: استِوَاءُ شَعْرِ الغُلامِ، يقال: ما أَحْسَنَ عِذَارَهُ: أَي خَطَّ لِحْيَتِه.

والعِذَارُ طَعَامُ البِنَاءِ.

والعِذَارُ: طَعَامُ الخِتَانِ.

والعِذَارُ: أَنْ تَسْتَفِيدَ شَيْئًا جَدِيدًا، فتَتَّخِذَ طَعَامًا تَدْعُو إِليه إِخْوَانَكَ، كالإِعْذارِ والعَذِيرِ والعَذِيرَةِ، فِيهِمَا؛ أَي في البناءِ والخِتَانِ، كما هو الأَظْهَرُ، أَو الخِتَان وما بَعْدَه كما هو المُتَبَادِرُ، وهذه اللُّغَاتُ في الخِتَانِ أَكْثَرُ استعمالًا عندَهُمْ، كما صَرَّحَ بذلك غيرُ واحدِ.

وقالَ أَبُو زَيْد: ما صُنِعَ [من الطعام] عندَ الخِتَانِ: الإِعْذارُ، وقد أَعْذَرْت، وأَنشد:

كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهي رَبِيعَهْ *** الخُرْسُ والإِعْذَارُ والنَّقِيعَهْ

ومن المَجَاز: العِذَارُ: غِلَظٌ مِنَ الأَرْضِ يَعْتَرِضُ في فَضَاءٍ وَاسِع، وكذلِك هو من الرَّملِ، والجَمْعُ عُذُرٌ.

والعِذَارُ منَ العِرَاقِ: ما انْفَسَحَ ـ هكذا بالحَاءِ المهملة في بعض الأُصول ومثله في التَّكْمِلَةِ ونَسَبه إِلى ابنِ دُرَيْد، وفي بعضها بالمعجمة، ومثله في اللّسَان ـ عن الطَّفِّ.

وعِذارَيْن الواقعُ في قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ الشّاعِر فيما أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ:

ومِنْ عاقِرٍ يَنْفِي الأَلَاءَ سَرَاتُهَا *** عِذَارَيْنِ مِنْ جَرْدَاءَ وَعْثِ خُصُورُها

حَبْلَانِ مُسْتَطِيلانِ من الرَّمْلِ أَو طَريقَانِ، هذا ما يصفُ ناقَةً، يقول: كمْ جاوَزَتْ هذِهِ الناقةُ من رَمْلَة عاقِرٍ لا تُنْبِتُ شيئًا، ولذلك جَعلَها عاقِرًا، كالمرأَةِ العاقرِ، والأَلَاءُ: شَجرٌ يَنْبُتُ في الرَّمْلِ، وإِنّمَا يَنْبُتُ في جانِبَيِ الرَّمْلَةِ، وهما العِذَارَانِ اللَّذانِ ذَكَرَهُمَا، وجَرْدَاءُ: مُنْجَرِدَةٌ من النَّبْتِ الذي تَرْعَاه الإِبِل، والوَعْثُ: السَّهْلُ، وخُصُورُهَا: جَوَانِبُهَا.

ومن المَجَاز: خَلَعَ العِذَارَ؛ أَي الحَيَاء، يضربُ للشَّابِّ المُنْهَمِكِ في غَيِّه، يقال: أَلقَى عنه جِلْبَابَ الحَيَاءِ، كما خَلَعَ الفَرَسُ العِذَارَ، فجَمَّحَ وطَمَّحَ.

وفي كِتَابِ عبد الملكِ إِلى الحَجّاجِ: «اسْتَعْمَلْتُكَ على العِرَاقَيْنِ فاخْرُجْ إِليهِمَا كَمِيشَ الإِزارِ، شَدِيد العِذَارِ»، يقالُ للرَّجُلِ إِذَا عَزَم علَى الأَمْرِ: هو شَديدُ العِذَارِ، كما يُقَال في خِلَافِه: فُلانٌ خَلِيعُ العِذَارِ، كالفَرس الذي لا لِجَامَ عليه، فهو يَعِيرُ على وَجْهِه؛ لأَنّ اللِّجَامَ يُمْسِكُه، ومنه قَولهم: خَلَعَ عِذَارَه؛ أَي خَرَج عن الطّاعَةِ، وانهَمَكَ في الغَيِّ.

والعِذَارُ: سِمَةٌ في مَوْضِع العِذَارِ، وقال أَبو عليٍّ في التَّذْكرَة: العِذَارُ: سِمَةٌ على القَفَا إِلى الصُّدْغَيْن، والأَوّلُ أَعرَفُ، كالعُذْرَةِ، بالضَّمّ.

وقال الأَحمر: من السِّمَاتِ العُذْرُ، وقد عُذِرَ البَعِيرُ، فهو مَعْذُورٌ.

ومن المَجَاز: العِذارَانِ من النَّصْلِ: شَفْرَتاهُ.

والعِذَارُ: الخَدُّ، كالمُعَذَّرِ كمُعَظَّم، وهو مَحلُّ العِذَارِ، يقال: فلانٌ طَويلُ المُعَذَّرِ.

وقال الأَصْمَعِيّ: يُقَال: خَلَعَ فلانٌ مُعَذَّرَهُ، إِذا لم يُطِعْ مُرْشِدًا. وأَرادَ بالمُعَذَّرِ: الرَّسَنَ ذَا العِذَارَيْنِ.

والعِذَارُ ما يَضُمُّ حَبْلَ الخِطَامِ إِلى رَأْسِ البَعِيرِ والنّاقَةِ.

والعُذْرُ، بالضّمّ: النُّجْحُ، عن ابنِ الأَعرابِيّ، وأَنشد لمِسْكِينٍ الدّارِمِيِّ:

ومُخَاصِمٍ خاصَمْتُ في كَبَدٍ *** مِثْل الدِّهانِ فكانَ لِي العُذْرُ

أَي قَاوَمْتُه في مَزَلَّة فثَبَتَتْ قَدَمي، ولم تَثْبُت قَدَمُه، فكانَ النُّجْحُ لي، ويقال في الحَرْبِ: لِمَن العُذْرُ؟ أَي لمَنْ النُّجْحُ والغَلَبَةُ.

والعُذْرَةُ، بهاءٍ: النّاصِيَةُ، وقيل: هي الخُصْلَةُ من الشَّعَرِ، وقيل: عُرْفُ الفَرَسِ، والجَمْعُ عُذَرٌ. قال أَبو النَّجْمِ:

مَشْيَ العَذَارَى الشُّعْثِ يَنْفُضْنَ العُذَرْ

والعُذْرَةُ: قُلْفَةُ الصَّبىِّ، قاله اللِّحْيَانِيّ، ولم يَقُل إِنَّ ذلِك اسمٌ لها قَبْلَ القَطعِ أَو بَعْدَه، وقال غَيرُه: هي الجِلْدَةُ يَقْطَعُهَا الخاتِنُ.

وقِيلَ: العُذْرَةُ الشَّعرُ الذي على كاهِلِ الفَرَسِ، وقيل: عُذْرَةُ الفَرَسِ: ما عَلَى المِنْسَجِ من الشَّعرِ، وقيل: العُذَرُ: شَعَرَاتٌ من القَفَا إِلى وَسَطِ العُنُقِ.

والعُذْرَةُ: البَظْرُ، قال:

تَبْتَلُّ عُذْرَتُها في كُلِّ هاجِرَةٍ *** كمّا تَنَزَّلَ بالصَّفْوانَةِ الوَشَلُ

والعُذْرَةُ: الخِتَانُ.

والعُذْرَةُ: البَكَارَةُ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: العُذْرَةُ: ما لِلْبِكْرِ من الالْتِحَام قبلَ الافْتِضاضِ.

والعُذْرَةُ: خَمْسَةُ كَوَاكِبَ في آخِرِ المَجَرَّةِ، ذكرهُ الجَوْهَرِيُّ والصّاغانيُّ، ويُقَال: تحتَ الشِّعْرَى العَبُورِ، وتُسَمَّى أَيضًا العَذَارَى، وتَطَلُع في وَسَطِ الحَرِّ.

والعُذْرَةُ: افْتَضاضُ الجَارِيَةِ والاعْتِذَارُ: الافْتِضاضُ، ومُفْتَضُّها يقال له: هو أَبُو عُذْرِهَا وأَبو عُذْرَتِهَا؛ إِذا كان افْتَرَعَها وافْتَضَّها، وهو مَجاز.

وقال اللِّحْيانِيُّ: للجَارِيَةِ عُذْرَتَانِ، إِحْدَاهُما التي تَكُونُ بها بِكْرًا، والأُخْرَى: فِعْلُهَا.

ونقَلَ الأَزهَرِيُّ عن اللِّحْيَانِيّ: لها عُذْرَتَان، إِحْدَاهُمَا مَخْفِضُها، وهو مَوْضِعُ الخَفْضِ من الجارِيَةِ، والعُذْرَةُ الثَّانِيَةُ قِضَّتُها، سُمِّيَت عُذْرَةً بالعَذْرِ وهو القَطْعُ؛ لأَنَّهَا إِذا خُفِضَتْ قُطِعَتْ نَوَاتُها، وإِذا افْتُرِعَتْ انقَطَعَ خَاتَمُ عُذْرَتِهَا.

وقيل: العُذْرَةُ: نَجْمٌ إِذا طَلَعَ اشْتَدَّ غَمُّ الحَرّ، وهي تَطْلُعُ بعدَ الشِّعْرَى، ولها وَقْدَةٌ، ولا رِيحَ لها، وتأْخُذ بالنَّفَسِ، ثمّ يَطْلُع سُهَيْلٌ بعدَهَا.

والعُذْرَةُ: العَلَامَةُ، كالعُذْرِ، ويقال: أَعْذِرْ على نَصِيبِك؛ أَي أَعْلِمْ عليه. والعُذْرَةُ: وَجَعٌ في الحَلْق يَهِيجُ من الدَّمِ كالعَاذُورِ.

أَو العُذْرَةُ وَجَعُه أَي الحَلْقِ من الدَّمِ، وقيلَ: هي قُرْحَة تَخْرُجُ في الحَزْم الذي بَيْن الحَلْق والأَنْف يَعْرِضُ للصِّبْيَانِ عند طُلُوعِ العُذْرَة، فتَعْمِدُ المَرْأَةُ إِلى خِرْقَةٍ فتَفْتِلُهَا فَتْلًا شديدًا، وتُدْخِلُهَا في أَنفِه، فتَطْعَنُ ذلك المَوضِعَ، فَيَنْفَجِرُ منه دَمٌ أَسودُ، وربما أَقْرَحَ، وذلك الطَّعْنُ يُسَمَّى: الدَّغْر، وقوله: «عند طُلُوعِ العُذْرَةِ» المرادُ به النَّجْمُ الذي يَطْلع بعدَ الشِّعْرَى، وقد تقدّم.

وعَذَرَه؛ أَي الصَّبيَّ، فعُذِرَ، كعُنِيَ، عَذْرًا، بالفَتْح، وعُذْرَةً، بالضّمّ، ذَكَرَهما ابنُ القَطّاعِ في الأَبْنِيَة، وهو مَعْذُورٌ: أَصابَه ذلك، أَو هَاجَ به وَجَعُ الحَلْقِ، قال جَرير:

غَمَزَ ابنُ مُرَّةَ يا فَرَزْدَقُ كَيْنَها *** غَمْزَ الطَّبِيبِ نَغَانِغَ المَعْذُورِ

وقد غَمَزَت المرأَةُ الصَّبِيَّ، إِذا كانَت به العُذْرَةُ فغَمَزَتْهُ، وكانُوا بعد ذلك يُعَلِّقُون عليه عِلَاقًا كالعُوذَةِ.

والعُذْرَةُ: اسمُ ذلك المَوْضِع أَيضًا، وهو قَريبٌ من اللهَاةِ.

وعُذْرَةُ، بلا لام: قَبِيلَةٌ في اليَمَنِ، وهُمْ بنو عُذْرَةَ بنِ سَعْدِ هُذَيْم بن زَيْدِ بنِ لَيْثِ بنِ سَوْد بن أَسْلُمَ بنِ الحاف بن قُضاعَةَ، وإِخوتُه الحارِثُ، ومُعَاوِيَةُ، ووَائِلٌ، وصَعْب، بنو سَعْدِ هُذَيْم، بطونٌ كُلُّهُم في عُذْرَة، وأُمُّهم عائد بنتُ مُرّ بنِ أُدٍّ، وسَلَامانُ بنُ سَعْدٍ في عُذْرَةَ أَيضًا، كذا قاله أَبو عُبَيْدٍ.

قلْت: وهُم مَشْهُورُونَ في العِشْق، والعِفَّةِ، ومنهُم: جَمِيلُ بنُ عَبْدِ الله بن مَعْمَر، وصاحبتُه بُثَيْنَةُ بنْت الحياءِ، وعُرْوَةُ بن حِزامِ بنِ مالِكٍ صاحِبُ عَفْراءَ بنتِ مُهَاصِرِ بنِ مالِك، وهي بنتُ عَمِّه، مات من حُبّها.

والعَذْرَاءُ: البِكْرُ، يقال: جارِيَةٌ عَذْراءُ: بِكْرٌ لم يَمَسَّها رَجُلٌ.

وقال ابنُ الأَعرابِيُّ وَحْدَه: سُمِّيَت البِكْرُ عَذْرَاءَ لضِيقِهَا، من قَوْلك: تَعَذَّرَ عليه الأَمْرُ، وفي الحديث:، في صِفَةِ الجَنّة: «إِنّ الرَّجُلَ لَيُفْضِي في الغَدَاةِ الوَاحِدَة إِلى مائَةِ عَذْراءَ». وفي حديث الاستسقاءِ:

أَتَيْنَاكَ والعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا

أَي يَدْمَى صَدْرُهَا من شِدّةِ الجَدْبِ، وفي حديث النَّخَعِيّ ـ في الرجل يقولُ: إِنّه لم يَجد امرأَتَه عَذْراءَ ـ قال: لا شَي‌ءَ عليه؛ لأَنّ العُذْرَةَ قَد يُذَهِبُهَا الحَيضَةُ والوَثْبَةُ وطُولُ التَّعْنِيسِ.

ج: العَذَارَى والعَذَارِي، بفتح الراءِ وكسرهَا، وعَذَارٍ، بحذف الياءِ والعَذْرَاوَاتُ، كما تقدّم في صَحَارَى، وفي حديث جابِرِ بنِ مالِكٍ: «وللعَذَارَى ولِعَابهنَّ» أَي مُلاعَبَتهنّ.

والعَذْرَاءُ: جامِعَةٌ تُوضَعُ في حَلْقِ الإِنسانِ لم تُوضَعْ في عُنُقِ أَحدٍ قبلَه.

وقيل: هو شَيْ‌ءٌ مِنْ حَدِيدٍ يُعَذَّبُ به الإِنسانُ لإِقرارٍ بأَمْرٍ ونَحْوِه، كاستِخْراجِ مالٍ، وغير ذلك.

وقال الأَزْهَرِيّ: والعَذَارَى هي الجَوَامِعُ، كالأَغْلالِ تُجْمَعُ بها الأَيْدِي إِلى الأَعْنَاقِ.

ومن المَجَاز: العَذْرَاءُ: رَمْلَةٌ لَمْ تُوطَأْ ولم يَرْكَبْهَا أَحدٌ، لارْتِفَاعِها.

ومن المَجَاز: دُرَّةٌ عَذْرَاءُ: لَمْ تُثْقَبْ.

والعَذْراءُ: من بُرُوجِ السَّمَاءِ، قال المُنَجِّمُون: بُرْجُ السُّنْبُلَةِ أَو الجَوْزَاءِ.

والعَذْرَاءُ: اسمُ مَدِينَة النَّبِّي صَلَّى الله تَعَالَى عليه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا؛ أُراها سُمِّيَتْ بذلك لأَنّهَا لم تَذِلَّ.

وعَذْرَاءُ.، بلا لامٍ: موضع، على بَرِيدٍ من دِمَشْقَ، قُتِلَ به مُعَاوِيَةُ {بن} حُجْر بن عَدِيِّ بنِ الأَدْبَرِ. أَو هي: قرية، بالشّامِ، م؛ أَي معروفة، قال حَسّانُ بنُ ثابِتٍ:

عَفَتْ ذاتُ الأَصابِعِ فالْجِوَاءُ *** إِلى عَذْرَاءَ مَنْزِلُها خَلَاءُ

وقال ابنُ سِيدَه: أُرَاهَا سُمِّيَتْ بذلك لأَنّها لم تُنَلْ بِمَكْرُوهٍ، ولا أُصِيب سُكّانُها بأَذاةِ عَدُوٍّ، قال الأَخْطَلُ:

ويَا مَنَّ عن نَجْدِ العُقَابِ ويَاسَرَتْ *** بِنَا العِيسُ عن عَذْرَاءَ دارِ بَنِي الشَّجْبِ

والعَاذِرُ: عِرْقُ الاسْتِحَاضَةِ، والمَحْفُوظُ «العاذِلُ»، باللّام.

والعاذِرُ: أَثَرُ الجُرْحِ، قال ابنُ أَحْمَرَ:

أُزاحِمُهُم بِالْبَابِ إِذْ يَدْفَعُونَنِي *** وبالظَّهْرِ مِنِّي مِنْ قَرَا البَابِ عاذِرُ

تَقُول منه: أَعْذَرَ بهِ؛ أَي تَرَكَ به عاذِرًا، والعَذِيرُ مثلُه.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: العَذْرُ: جمع العاذِرِ، وهو الإِبداءُ، يُقال: قد ظَهَرَ عاذِرُه، وهو دَبُوقاؤُه، هكذا في اللّسان والتَّكْملَة.

والعاذِرُ: الغائِطُ، الذي هو السَّلْحُ والرَّجِيعُ، عن ابن دُرَيْدٍ كالعاذِرَةِ، بالهاءِ، والعَذِرَةِ، بكسر الذالِ المعجمةِ، ومنه‌حديثُ ابنِ عُمَرَ: «أَنّه كَرِهَ السُّلْتَ الذي يُزْرَعُ بالعَذِرَةِ» يريد غائِطَ الإِنْسَانِ الذي يُلْقِيه.

والعَذِرَةُ: فِنَاءُ الدَّارِ، والجَمْعُ العَذِرَاتُ، ومنه‌حديثُ علِيّ: «أَنّه عاتَبَ قَوْمًا فقال: ما لَكُمْ لا تُنَظِّفُونَ عَذِرَاتِكُم»؛ أَي أَفْنِيَتَكُم، وفي الحديث «إِنّ الله نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، فنَظِّفُوا عَذِراتِكُم، ولا تَشَبَّهُوا باليَهُودِ». وفي حديث رُقَيْقَةَ: «وهذه عِبِدَّاؤُكَ بعَذِرَاتِ حَرَمِكَ».

قال أَبو عُبَيْد: وإِنما سُمِّيَت عَذِرَاتُ النّاسِ بهذا، لأَنّها كانت تُلْقَى بالأَفْنِيَةِ، فكُنِيَ عنها باسمِ الفِنَاءِ، كما كُنِيَ بالغَائِطِ الذي هي الأَرْضُ المُطْمَئِنَّة عنها.

وفي الحديث: «اليَهُودُ أَنْتَنُ خَلْقِ الله عَذِرَةً»، يجوز أَنْ يَعْنِيَ به الفِناءَ، وأَن يَعْنِيَ به ذا بُطُونِهِم، وهو مَجَاز.

ومن أَمثالِهِم: «إِنّه لبَرِي‌ءُ العَذِرَةِ»، كقولهم: بَرِي‌ءُ السّاحَةِ.

والعَذِرَةُ أَيضًا: مَجْلِسُ القَوْمِ في فِنَاءِ الدَّارِ.

والعَذِرَةُ: أَرْدَأُ ما يَخْرُجُ من الطَّعَامِ فيُرْمَى به، قال اللَّحْيَانِيُّ: هي العَذِرَةُ والعَذِبَةَ.

وقوله عَزَّ وجَلَّ: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ، بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} قيل: المَعَاذِيرُ هنا: السُّتُورُ، بلُغَةِ اليَمَنِ، وقيل: الحُجَجُ؛ أَي لو جادَلَ عنها بكلِّ حُجَّةٍ يَعْتَذِرُ بها، الواحِدُ مِعْذَارٌ وهو السِّتْرُ، أَورَدَه الصّاغانِيُّ وصاحِبُ اللسان.

والعَذَوَّرُ، كعَمَلَّس. الواسِعُ الجَوْف، الفَحّاشُ من الحَمِير.

ومن المَجَاز: العَذَوَّرُ أَيضًا: السَّيِّئُ الخُلُقِ الشّدِيدُ النَّفْسِ، قالت زَيْنَبُ بنتُ الطَّثَرِيَّةِ تَرِثي أَخاها يَزِيدَ:

يُعِينُكَ مَظْلُومًا ويُنْجِيكَ ظالِمًا *** وكُلُّ الذي حَمَّلْتَه فهو حامِلُهْ

إِذَا نَزَلَ الأَضيافُ كانَ عَذَوَّرًا *** على الحَيِّ حتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُهْ

وإِنما جَعَلَتْه عَذَوَّرًا لشِدَّةِ تَهَمُّمِه بأَمرِ الأَضيافِ، وحِرْصِه على تَعْجِيلِ قِراهُم.

والعَذَوَّرُ: المُلْكُ ـ بضمٍّ فسكون، هذا هو الصّوابُ، وفي سائر النسخ، ككَتِفٍ، وهو غَلَطٌ ـ الشَّديدُ الواسِعُ العَرِيضُ، يقال: مُلْكٌ عَذَوَّرٌ، قال كُثَيِّرُ بن سَعْد:

أَرَى خالِيَ اللَّخْمِيَّ نُوحًا يَسُرُّنِي *** كَرِيمًا إِذا ما ذَاحَ مُلْكًا عَذَوَّرَا

ذاحَ، وحَاذَ: جَمَعَ، وأَصْلُ ذلِك في الإِبِل، وقد تقدّم.

واعْتَذَرَ: اشْتَكَى*، أَورَدَه الصّاغانِيُّ.

واعْتَذَرَ العِمَامَةَ: أَرْخَى لها عَذَبَتَيْن من خَلْفٍ، أَورَدَه الصاغانِيُّ أَيضًا. ويقال: اعْتَذَرَت المِيَاهُ، إِذا انْقَطَعَتْ، والمنازِلُ: دَرَسَتْ.

وأَصْلُ الاعْتَذَارِ: قَطْعُ الرَّجُلِ عن حاجَتِه، وقَطْعُه عمّا أَمْسَكَ في قَلْبه.

وعَذَرٌ، كحَسَنٍ، ابنُ وائِل بن ناجِيَةَ بنِ الجُمَاهِرِ بنِ الأَشْعَرِ: جَدٌّ لأَبِي مُوسَى الأَشْعَريِّ الصّحابيّ، رضي ‌الله‌ عنه.

وعُذَرُ، كزُفَرَ، ابنُ سَعْدٍ، رجلٌ من هَمْدانَ، قاله ابنُ حَبِيبٍ.

وقالَ أَبو مالِكٍ عَمْرُو بن كِرْكِرَةَ: يقال: ضَرَبُوه فأَعْذَرُوه، أَى فأَثْقَلُوه وضُرِبَ زَيدٌ فأُعْذِرَ؛ أَي أُشْرِفَ به على الهَلاكِ، هكذا مَبْنِيًّا للمجهول في الفِعْلَيْن في سائر النُّسخ، وفي تهذيبِ ابنِ القَطّاع: فأَعْذَرَ، مبنِيّا للمعلوم، هكذا رأَيتُه مضبوطًا.

وقوله عزّ وجَلّ، وتَعَالَى: وَجاءَ {الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} بتَشْدِيدِ الذّالِ المكسورةِ أَي المُعْتَذِرُونَ وفتح العين المهملة الذِينَ لَهُم عُذْرٌ، وبه قرأَ سائِرُ قرّاءِ الأَمْصَارِ، والْمُعَذِّرُونَ في الأصلِ المُعْتَذِرُون، فأُدْغِمَت التاءُ في الذّال؛ لقُرْبِ المَخْرجَيْنِ، ومَعْنى «المُعْتَذِرونِ الذين يَعْتَذِرُونَ، كانَ لهم عُذْر أَو لم يكن، وهو هاهُنَا شَبِيهٌ بأَن يكونَ لهم عُذْرٌ، ويجوز في كلام العرب المُعِذِّرُونَ، بكسر العين المهملة الذين يُعَذِّرُون، يُوهِمُون أَنّ لهم عُذْرًا ولا عُذْرَ لهم.

قال أَبو بَكْر: ففي المُعَذِّرِينَ وَجْهَانِ: إِذا كان المُعَذِّرُونَ من عَذَّرَ الرَّجلُ فهو مُعَذِّرٌ، فهم لا عُذْرَ لهم، وإِذا كان المُعَذِّرُونَ أَصلُه المُعْتَذِرُون، فأُلْقِيَتْ فتحةُ التاءِ على العَيْنِ، وأُبدِلَ منها ذالٌ، وأُدْغِمَتْ في الذّال التي بعدها، فلهم عُذْرٌ.

وقال أَبو الهَيْثَمِ ـ في تَفْسِيرِ هذه الآيَةِ قال ـ: معناه المُعْتَذِرُونَ، يقال: عَذَّرَ يَعَذِّرُ عِذَّارًا، في معنَى اعْتَذَرَ، ويَجُوزُ عِذَّرَ الرَّجلُ يَعِذِّرُ فهو مُعِذِّرٌ، واللُّغَةُ الأُولى أَجوَدُهما، قال: ومثْلُه هدَّى يَهَدِّي هِدَّاءً، إِذا اهْتَدَى [وهِدَّى يَهِدِّى] قال الله عزّ وجلّ: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلّا أَنْ يُهْدى}.

قال الأَزْهَرِيّ: وقد يَكُونُ المُعَذِّرُ بالتشديد غَيْرَ مُحِقٍّ، وهم الذين يَعْتَذِرُونَ بلا عُذْرٍ.

فالمَعْنَى: المُقَصِّرُونَ بغيرِ عُذْرٍ، فهو على جِهَة المُفَعِّل؛ لأَنّه المُمَرِّضُ، والمُقَصِّرُ يَعْتَذِرُ بغير عَذْرٍ.

وقَرَأَ ها ابنُ عَبّاسٍ رضي ‌الله‌ عنهما «المُعْذِرُونَ» بالتَّخْفِيف، قال الأَزْهَرِيّ: وقَرَأَهَا كذلك يَعْقُوبُ الحَضْرَمِيُّ وَحْدَه، منْ أَعْذَرَ يُعْذِرُ إِعْذَارًا، وكانَ يَقُولُ: والله لهكذَا، وفي اللّسَان: لكَذَا أُنْزِلَتْ، وكان يقول: لَعَنَ الله المُعَذِّرِينَ، بالتَّشْدِيد، قال الأَزْهَرِيّ كأَنَّ المُعَذِّر عندَه إِنّمَا هو غَيْرُ المُحِقِّ، وهو المُظْهِرُ للعُذْرِ اعْتِلالًا من غير حَقِيقَةٍ له في العُذْرِ، وبالتَّخْفِيفِ مَنْ له عُذْرٌ.

وقال محمّدُ بنُ سَلّام الجُمَحِيُّ: سأَلْتُ يونُسَ عن قوله: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ} » فقلتُ له: المُعْذِرُونَ مخَفَّفَة، كأَنَّهَا أَقيَسُ، لأَنّ المُعْذِرَ: الذِي له عُذْرٌ، والمُعْذِّرُ: الذي يَعْتَذِرُ ولا عُذْرَ له، فقال يونُسُ: قال أَبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ: كلَا الفَرِيقَيْنِ كان مُسِيئًْا، جاءَ قومٌ فعَذَّرُوا، وجَلَّحَ آخَرُونَ فقَعَدُوا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

أَعْذَرَ فلانٌ؛ أَي كانَ مِنْهُ ما يُعْذَرُ بهِ..

وأَعْذَرَ إِعْذَارًا، بمعنى اعْتَذَرَ اعْتِذَارًا يُعْذَرُ بهِ، وصَارَ ذا عُذْرٍ [منه]، ومنه قَولُ لَبِيدٍ يُخاطِبُ بِنْتَيْه ويقول: إِذا مِتُّ فنُوحَا وابْكِيَا عليَّ حَوْلًا:

فَقْومَا فقُولَا بالَّذِي قد عَلِمْتُمَا *** ولا تَخْمِشَا وَجْهًا ولا تَحْلِقَا الشَّعَرْ

وقُولَا: هُوَ المَرْءُ الذي لا خَلِيلَه *** أَضاعَ ولا خَانَ الصّدِيقَ ولا غَدَرْ

إِلى الحَوْلِ ثمّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا *** ومَنْ يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَد اعْتَذَرْ

أَي أَتَى بعُذْرٍ، فَجَعَلَ الاعْتِذَارَ بمعنَى الإِعْذَارِ، والمُعْتَذِرُ يكونُ مُحِقًّا، ويكونُ غيرَ مُحِقٍّ.

قال الفراءُ: اعْتَذَرَ الرَّجلُ، إِذَا أَتَى بعُذْرٍ، واعْتَذَرَ: إِذَا لم يَأْتِ بعُذْرٍ.

وعَذَرَه: قَبِلَ عُذْرَه.

واعْتَذَرَ مِنْ ذَنْبِه، وتَعَذَّرَ: تَنَصَّلَ، قال أَبو ذُؤَيْبٍ:

فإِنّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ بعْدَ مَا *** لَجِحْتَ وشَطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا

والتَّعْذِيرُ: التّقْصِيرُ، يقال: قام فلانٌ قِيَامَ تَعْذِيرٍ فيما اسْتَكْفَيْته، إِذا لم يُبَالِغْ وقَصَّرَ فيما اعْتُمِدَ عَلَيْه، وفي الحَدِيث: «إِنّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كانُوا إِذا عُمِلَ فيهم بالمَعَاصِي نَهَاهُم أَحْبَارُهُم تَعْذِيرًا، فعَمّهم الله بالعِقَابِ» وذلِكَ إِذْ لم يُبَالِغُوا في نَهْيِهِم عن المَعَاصِي وداهَنُوهُم ولم يُنْكِرْوا أَعمالَهُم بالمَعاصِي حقَّ الإِنْكَارِ؛ أَي نَهوْهُمِ نَهْيًا قَصَّرُوا فيه ولم يُبَالِغُوا، وضعَ المصدر موضِعَ اسمِ الفاعِلِ حالًا، كقولهم: جاءَ مَشْيًا، ومنه‌حديثُ الدّعاءِ: «وتَعَاطَى ما نَهَيْتُ عنه تَعْذِيرًا».

وقال أَبو زيد: سَمِعْتُ أَعرابِيَّيْن: تَمِيمِيًا، وقَيْسِيًّا، يقولان: تَعَذَّرْتُ إِلى الرَّجلِ تَعَذُّرًا، في معنى اعْتَذَرْتُ اعْتِذَارًا، قال الأَحْوَصُ بنُ محَمَّدٍ الأَنْصَارِيّ:

طَرِيد تَلافاهُ يَزِيدُ بِرَحْمَة *** فلم يُلْفَ من نَعْمَائِهِ يَتَعَذَّرُ

أَي يَعْتَذِر، يقول: أَنْعَم عليه نِعْمَةً لم يَحْتَجْ إِلى أَن يَعْتَذِرَ منها، ويجوز أَن يكون معنى قولِه: «يَتَعَذَّرُ» أَي يذْهب عنها.

وعَذَرْتُه من فُلانٍ؛ أَي لُمْتُ فلانًا ولم أَلُمْهُ.

وعَذِيرَكَ إِيايَ منه؛ أَي هَلُمَّ مَعْذِرَتَكَ إِيَّايَ.

وفي حديثِ الإِفْكِ: «فاسْتَعْذَرَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم من عبدِ الله بنِ أُبَيّ».

أَي قال: مَن عَذِيرِي منه، وطَلَبَ من الناسِ العُذْرَ أَن يَبْطِشَ به، وفي حديثٍ آخَرَ: «اسْتَعْذَرَ أَبا بَكْرِ من عائِشَةَ، كانَ عَتَبَ عليها في شَيْ‌ءٍ، فقال لأَبِي بَكْرٍ: أَعْذِرْنِي منها إِنْ أَدَّبْتُها» أَي قُمْ بِعُذْرِي في ذلك.

وأَعْذَرَ فلانٌ من نَفْسِه؛ أَي أُتِيَ من قِبَلِ نَفْسِه، قال يونُس: هي لُغَةُ العَرَبِ.

وتَعَذَّرَ عليه الأَمْرُ: لم يَسْتَقِمْ.

وتَعَذَّرَ عليه الأَمْرُ، قرية إِذَا صَعُبَ وتَعَسَّر، وفي الحديث: «أَنّه كان يَتَعَذَّرُ في مَرَضِه» أَي يَتَمَنَّعُ ويتَعَسَّرُ.

والعِذَارُ، بكسر العين: الامتناعُ، من التَّعَذُّر، وبه فَسَّرَ بعضُهم قولَ أَبي ذُؤَيْبٍ:

فإِني إِذا ما خُلَّةٌ رَثَّ وَصْلُها *** وجَدَّتْ لِصَرْمٍ واسْتَمَرَّ عِذَارُهَا

والعَاذُورَةُ: سِمَةٌ كالخَطِّ، والجَمْعُ العَوَاذِيرُ، قال أَبو وَجْزَةَ السَّعْدِيّ:

وذُو حَلَقٍ تَقْضِي العَواذِيرُ بَيَنَه *** يَلُوح بأَخطارٍ عِظَامِ اللَّقائِحِ

والعَجَبُ من المصَنِّف كيف تَرَكَهُ وهو في الصّحاحِ.

ويقال: عَذِّرْ عنِّي بَعِيرَك؛ أَي سِمْهُ بغَيْرِ سِمَةِ بَعِيرِي، لتَتعارَفَ إِبِلُنَا.

وعِذَارَ الحائِطِ: جانِبَاهُ، وعِذَارَا الوَادِي: عُدْوَتَاه. وهو مَجاز.

واتَّخَذَ فلانٌ في كَرْمِهِ عِذَارًا من الشَّجَرِ؛ أَي سِكَّةً مُصْطَفَّةً.

ويقال: ما أَنْتَ بذِي عُذْرِ هذا الكَلامِ؛ أَي لَسْتَ بأَوّلِ مَن افْتَضَّه وكذلك فلانٌ أَبو عُذْر هذا الكلامِ، وهو مَجاز. والعاذُورُ: ما يُقْطَعُ من مَخْفِض الجَارِيَةِ.

ومن أَمثالِهِم «المَعَاذِرُ مَكَاذِبُ».

وأَصابِعُ العَذَارَى: صِنْفٌ من العِنَبِ أَسْوَدُ طِوَالٌ؛ كأَنَّه البَلُّوطُ يُشَبَّه بأَصَابعِ العَذَارَى المُخَصَّبَةِ.

وقال الأَصْمَعِيُّ: لَقِيت منه عاذُورًا؛ أَي شَرًّا، وهُوَ لغَةٌ في العَاثُورِ، أَو لُثْغَة.

وتَرَكَ المَطَرُ به عاذِرًا؛ أَي أَثَرًا، والجَمْع العَواذِيرُ.

العَاذِرَةُ: المَرْأَة المُسْتَحَاضَةُ، قال الصّاغانِيُّ: هكذا يُقَال، وفيه نَظَرٌ. قلْت: كَأَنَّه فاعِلَةٌ بمعنَى مَفْعُولَةٍ، من إِقَامَةِ العُذْرِ، والوَجْهُ أَنّ العَاذِرَ هُوَ العِرْقُ نَفْسُه، كما تقَدّم؛ لأَنه يَقُومُ بعُذْرِ المَرأَةِ مع أَنّ المحفوظَ والمعروفَ العَاذِلُ باللام، وقد أَشَرْنا إِليه.

ويقال للرَّجُلِ إِذا عاتَبَكَ على أَمْرٍ قبلَ التَّقَدُّم إِليك فيه: والله ما اسْتَعْذَرْتَ إِليَّ وما اسْتَنْذَرْتَ؛ أَي لم تُقَدِّمْ إِليَّ المَعْذِرَةَ والإِنْذَارَ. وفي الأَساس: يقال ذلك للمُفَرِّطِ في الإِعْلامِ بالأَمْرِ.

وَلَوَى عَنْه عِذَارَه، إِذَا عَصَاه.

وفُلانٌ شَدِيدُ العِذَارِ: يُرَادُ شَدِيدُ العَزِيمَةِ.

وفي التكملة: العَذِيرَةُ: الغَدِيرَةُ.

والعَاذِرَةُ: ذُو البَطْنِ، وقد أَعَذَرَ.

ودَارٌ عَذِرَةٌ: كثيرَةُ الآثارِ، وأَعْذَرْتُهَا، وأَعْذَرْتُ فيها؛ أَي أَثَّرْتُ فيها.

وضَرَبَه حتّى أَعْذَرَ مَتْنَه؛ أَي أَثْقَلَه بالضَّرْبِ. واشْتَفَى منه.

وأُعْذِرَ منه: أَصابَه جِرَاحٌ يُخَافُ عليه منه.

وعَذْرَةُ بالفَتْح: أَرْضٌ.

وفي التَّهْذِيبِ لابنِ القَطَّاعِ: عَذَرْتُ الفرَسَ عَذْرًا: كَوَيْتُه في مَوْضِع العِذَارِ.

وأَيضًا حَمَلْتُ عليه عِذَارَه، وأَعْذَرْتُه لُغَة.

وأَعْذَرْتُ إِليك: بالَغْتُ في المَوْعِظَةِ والوَصِيَّة.

وأَعْذَرْتُ عندَ السُّلْطانِ: بَلَغتُ العُذْرَ.

وبنو عِذْرَةَ بنِ تَيْمِ اللَّات: قَبِيلةٌ أُخْرَى غيرُ التي ذَكَرَها المصنِّفُ. نقله ابنُ الجوّانِيّ النّسّابةُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


32-تاج العروس (عجز)

[عجز]: العَجْز، مُثَلَّثةً، والعَجز، كنَدُس وكَتِف، خَمْس لُغَات، والضم لَغَتَان في العَجُز، كنَدُس، مثل عَضْد وعَضُد وعَضِدٍ، بمعنى مُؤخَّر الشَّيْ‌ءِ أَي آخِره، يُذَكَّر ويُؤنَّث، قال أَبو خِرَاشٍ يَصِف عُقَابًا:

بَهِيمًا غَيْرَ أَن العَجْزَ منها *** تَخَالُ سَرَاتَه لَبَنًا حَلِيبَا

وقال الهيثَمِيُّ: هي مُؤَنَّثَة فقط. والعَجُز: ما بَعْد الظَّهْر منه، وجَمِيعُ تِلْك اللُّغَات تُذكَّر وتُؤَنَّث، الجمع: أَعجازٌ، لا يُكَسّر على غيرِ ذلك. وحكى اللِّحْيَانِيُّ: إِنَّهَا لَعَظِيمةُ الأَعجاز، كأَنَّهُم جَعلوا كُلَّ جُزْءٍ منه عَجُزًا ثمّ جَمَعُوا على ذلك، وفي كلام بَعْضِ الحُكَمَاءِ: لا تُدَبِّروا أَعجَازَ أُمورٍ قد وَلَّت صُدُورُهَا، يقول: إِذا فاتَك أَمرٌ فلا تُتْبِعْه نَفْسَك مُتَحسِّرًا على ما فاتَ، وتَعَزَّ عنه مُتَوَكِّلًا على الله عَزَّ وجلّ. قال ابنُ الأَثِير: يُحرِّضُ على تَدَبُّر عَواقبِ الأُمورِ قبلَ الدّخولِ فيها، ولا تُتْبَع عند فَوَاتِهَا وتَوَلِّيها.

والعَجْزُ، بالفَتْح: نَقِيضُ الحَزْم.

والعجُوزُ والمَعْجِزُ والمَعْجِزَةُ، قال سِيبَوَيْه: كَسْر الجِيم من المَعْجز على النّادر، وتُفْتَح جيمُهُمَا. في الأَوّل على القِيَاس، لأَنّه مَصْدر والعَجَزَانُ، مُحَرَّكةَ، والعُجُوز، بالضّمّ، كقُعُود: الضَّعف وعَدمُ القُدْرَةِ. وفي المُفردات للرّاغب، والبَصَائِر، وغيرهما: العَجْز أَصلُه التّأَخّر عن الشي‌ءِ وحُصُولُه عند عَجُزِ الأَمر أَي مُؤخّره كما ذُكِرَ في الدُّبُر، وصار في العُرْف اسمًا للقُصُور عن فِعْلِ الشيْ‌ءِ وهو ضِدّ القُدْرة. وفي حديث عُمَر: «لا تُلِثُّوا بدار مَعْجزَة أَي لا تُقِيمُوا ببلدة تَعْجِزُون فيها عن الاكْتِسَاب والتَّعَيُّشِ، رُوِي بفَتْح الجِيم وكسرها. والفِعْلُ كضَرَبَ وسَمِعَ، الأَخِيرُ حكاه الفَرَّاءُ. قال ابنُ القَطّاع: إِنه لغَة لبَعْض قَيْس.

قلت: قال غيرُه: إِنّهَا لُغَة رَدِيئة. وسَيَأْتي في المُسْتَدْركات. يقال: عَجَز عن الأَمر وعَجِز، يَعْجِز ويَعْجَز عَجْزًا وعُجُوزًا وعَجَزَانًا، فهو عاجزُ، من قَوْم عَوَاجِزَ، قال الصّاغانيّ: وهُذَيْل وَحدَها تَجْمَع العاجِز من الرِّجال عَوَاجِز، وهو نَادِر، وعَجزَت، المَرْأَةُ، كنَصَر وكَرُم، تَعجُز عَجْزًا، بالفَتْح، وعُجُوزًا بالضّمِّ، اي صارَت عَجُوزًا، كعَجَّزت تَعْجِيزًا، فهي مُعَجِّز، والاسم العَجْز وقال يونس: امرأة مُعَجِّزة: طَعَنت في السِّنِّ، وبَعْضُهُم يقول: عَجَزَت، بالتَّخْفِيف.

وعَجِزَت المَرْأَةُ، كفَرِح. تَعْجَز عَجَزًا، بالتَّحْرِيك، وعُجْزًا، بالضّمّ: عَظُمَت عَجِيزَتُهَا؛ أَي عَجُزُهَا، كعُجِّزَت، بالضّمّ؛ أَي على ما لم يُسَمّ فاعِلُه، تَعْجِيزًا، قاله يُونُس، لغة في عَجِزَت بالكَسْر.

والعَجِيزَة، كسَفِينة، خاصّة بها، ولا يُقَال للرَّجل إِلاّ على التَّشْبِيه. والعَجُز لهما جميعًا، ومن ذلك‌

حَدِيثُ البَرَاءِ أَنه رَفعَ عَجِيزَته في السُّجُود.

قال ابنُ الأَثِير: العَجِيزَة:

العَجُزُ، وهي للمَرْأَة خاصّةً، فاستَعَارَهَا للرَّجُل.

وأَيّامُ العَجُوزِ سَبْعَة، ويقال لها أَيضًا: أَيّامُ العَجُز، كعَضُد، لأَنها تأتي في عَجُزِ الشِّتَاءِ، نقلَه شَيْخُنَا عن مَنَاهِج الفكر للورّاق، قال: وصَوّبه بعضُهم واستَظْهر تَعْلِيله، لكن الصّحِيح أَنها بالواو كما في دَوَاوِين اللّغَة قاطِبَة، وهي سَبْعَة أَيّام، كما قاله أَبو الغَوْث. وقال ابن كُنَاسَة: هي من نَوْء الصَّرْفَةِ، وهي صِنٌّ، بالكَسْر، وصِنَّبْر، كجِرْدَحْل، ووَبْرٌ، بالفَتْح، والآمِرُ والمُؤْتَمِرُ والمُعَلِّل، كمُحَدِّث، ومُطْفِئُ الجَمْرِ أَو مُكْفِئُ الظَّعْنِ، وعَدّهَا الجَوْهَريّ خَمْسَة: ونصُّه: وأَيّام العَجُوزِ عند العَرَب خمسَة: صِنّ وصِنَّبْر وأُخَيُّهُمَا وَبْر ومُطْفِئُ الجَمْر ومُكْفِئُ الظَّعْن. فأَسْقَط الآمِر والمُؤْتَمر، قال شَيْخُنا: ومنهمُ من عدَّ مُكْفِئَ الظَّعْن ثامِنًا، وعليه جَرَى الثَّعَالِبِيّ في المُضَاف والمنسوب. قال الجَوْهَرِي: وأَنشد أَبو الغَوْث لابنِ أَحمَرَ:

كُسِعَ الشِّتَاءُ بسَبْعَةٍ غُبْرِ *** أَيّامِ شَهْلَتِنَا من الشَّهْرِ

فإِذا انقَضَت أَيامُهَا ومَضَتْ *** صِنٌّ وصِنَّبْرٌ مَعَ الوَبْرِ

وبآمِرٍ وأَخِيه مُؤْتَمِرٍ *** ومُعَلِّلٍ وبِمُطْفئِ الجَمْرِ

ذَهَبَ الشِّتَاءُ مُوَلّيًا عَجِلًا *** وأَتَتْكَ وَاقدَةٌ من النَّجْر

قال بن بَرِّيّ: هذِه الأَبْيَات ليست لابنِ أَحمَر، وإِنّمَا هي لأَبِي شِبْلٍ عُصْمٍ البُرْجُميّ كذا ذَكره ثعلب عن ابنِ الأَعرابِيّ. قال شَيْخُنا: وأَحسنُ ما رأَيْتُ فيها قَوْلُ الشّيخ ابنِ مَالِك:

سأَذْكُر أَيَّامَ العَجُوز مُرَتِّبًا *** لهَا عَدَدًا نَظْمًا لَدَى الكُلّ مُسْتَمِرْ

صِنٌّ وصِنَّبْر ووَبْرٌ مُعَلِّلٌ *** ومُطْفِئُ جَمْرٍ آمِرٌ ثمّ مُؤْتَمِرْ

قال شَيْخُنَا: وعَدَّها الأَكْثَرُ من الكَلام المُوَلَّد، ولهُمْ في تَسْمِيَتها تَعْلِيلات، ذَكَر أَكثرَها المُرْشِدُ في بَراعَة الاستِهْلال.

والعَجُوزُ، كصَبُور، قد أَكثر الأَئمّةُ والأُدباءُ في جمع مَعانِيه كَثْرَةً زائدَةَ، ذكرَ المُصَنّف منها سَبْعَةً وسَبْعِين مَعْنًى.

ومن عَجَائِب الاتّفاق أَنَّه حكم أَوّل العَجُوز وآخره، وهما العَيْن والزّاي وهما بالعَدَد المَذْكور. وقال في البَصائِر: وللعَجُوز معانٍ تُنِيف على الثَّمَانِين، ذَكَرتُهَا في القاموس وغَيْره من الكُتُب المَوْضُوعة في اللغة. قلت: ولعلّ ما زاد على السَّبْعَة والسَّبْعِين ذَكَرَه في كِتاب آخر وقد رَتَّبها المُصَنِّف على حُرُوف التَّهَجّي، ومنها على أَسْمَاءِ الحَيَوَانِ‌ أَربعةَ عَشَر وهي: الأَرنَبُ والأَسَدُ والبَقَرةُ والثَّورُ والذّئبُ والذِّئْبَة والرَّخَم والرَّمَكَة والضَّبعُ وعَانَةُ الوَحْش والعَقْربُ والفَرَسُ والكَلْبُ والنَّاقَةُ، وما عَدَا ذلك ثَلاثَةٌ وسِتُّون، وقَدْ تَتَبَّعْت كَلَامَ الأَدَبَاءِ فاسْتَدْرَكْتُ على المُصنّف بِضْعًا وعِشْرِين مَعْنًى، منها على أَسماءِ الحَيَوَان ما يُسْتَدْرَك على الجَلالِ السّيوطِيّ في العنوان، فإِنّه أَورد ما ذكرَه المصنّف مُقلِّدًا له، واسْتَدْرَك عليه بوَاحِد، وسَنُورد ما اسْتَدْرَكنا به بعد استيفاءِ ما أَوردَه المصنّف.

فمِن ذلك في حَرْف الأَلف: الإِبْرَةُ والأَرضُ والأَرنَبُ والأَسَدُ والأَلْفُ من كُلِّ شَيْ‌ءٍ.

ومن حرف الباءِ الموحّدة البِئْرُ والبَحْرُ والبَطَلُ والبَقَرَةُ، وهذِه عن ابنِ الأَعرابيّ.

ومن حَرْفِ التَّاءِ المُثَنَّاة الفوقيّة: التّاجِرُ والتُّرْسُ والتَّوْبَةُ.

ومن حَرْفِ الثَّاءِ المُثَلَّثَة: الثَّوْرُ.

ومن حرف الجيم: الجَائِعُ والجَعْبَةُ والجَفْنَةَ والجُوعُ وجَهَنَّمُ.

ومن حَرْف الحَاءِ المُهْمَلَة: الحَرْبُ والحَرْبَةُ والحُمَّى.

ومن حَرْفِ الخَاءِ المُعْجَمَة: الخِلافَةُ والخَمْر العَتِيقُ، وقال الشاعِر:

ليته جَامُ فِضّة من هَدَايَا *** هُ سِوَى ما بِه الأَمِيرُ مُجِيزِي

إِنّمَا أَبْتَغِيه للعَسَل المَمْ *** زُوجِ بالمَاءِ لا لِشُرْبِ العَجُوزِ

وهو مَجاز، كما صرح به الزمخشريّ. والعَجُوزِ: الخَيْمَة.

ومن حرف الدّال المُهْمَلَة: دَارَةُ الشَّمْسِ، والدَّاهِيَةُ، والدِّرْع للمَرْأَة، والدُّنْيَا، وفي الأَخِير مَجاز.

ومن حَرْف الذَّالِ المُعْجَمَة: الذِّئبُ والذِّئْبَةُ.

ومن حَرْف الرّاءِ: الرّايَةُ والرَّخَم والرِّعْشَةُ وهي الاضْطِرَاب، والرِّمَكَة، ورَمْلَةٌ، م؛ أَي معروفة بالدَّهْنَاءِ، قال الشاعر يَصِف دَارًا:

على ظَهْرِ جَرْعاءِ العَجُوز كأَنَّهَا *** دَوَائرُ رَقْمٍ في سَرَاةِ قِرَامِ

وبين الرَّمَكَة والرَّملة جِنَاسُ تَصْحِيف.

ومن حَرْفِ السِّين: السَّفِينَةُ، والسَّمَاءُ، والسَّمْنُ، والسَّمُومُ والسَّنَة.

ومن حَرْفِ الشِّينِ المُعْجَمة: شجر، م؛ أَي معروف، والشَّمْس، والشَّيْخُ الهَرِم، الأَخِير نقله الصاغانِيّ، والشّيخَة الهَرِمَة، وسُمِّيَا بذلك لعَجْزِهما عن كَثِير من الأُمور، ولا تقل عَجُوزَة، بالهَاءِ، أَو هي لُغَيَّة رَدِيئَة قليلة.

الجمع: عَجَائِزُ، وقد صَرَّح السُّهَيليّ في الرّوض في أَثناءِ بَدْرٍ أَن عَجَائِز إِنما هو جَمع عَجُوزة، كرَكُوبة، وَأَيَّده بوُجُوه.

وعُجُزٌ، بضَمَّتَيْن وقد يُخَفّف فيقال عُجْز، بالضّم، ومنه‌ الحديث: «إِيّاكم والعُجُزَ العُقُرَ». وفي آخر: «الجَنَّةُ لا يَدْخلها العُجُزُ». ومن حَرْفِ الصَّادِ المُهْمَلَة: الصَّحِيفَة والصَّنْجَةُ والصَّومَعَةُ ومن حرف الضّاد المعجمة: ضَرْبٌ من الطِّيب وهو غَيْرُ الْمِسْك، والضَّبُعُ.

ومن حرف الطاءِ المهملة: الطَّرِيقُ، وطَعامٌ يُتَّخَذُ من نبات بحْريّ.

ومن حَرْفِ العَيْنِ المهملة: العاجِز، كصَبُورٍ وصابرٍ، والعافيةَ، وعانَةُ الوَحْشِ، والعَقْرَب.

ومن حَرْف الفاءِ: الفَرَسُ، والفِضَّةُ ومن حرف القاف: القِبْلَةُ، ذكرَه صاحِبَا اللِّسَانِ والتَّكْمِلَةِ، والْقِدْرُ، بالكَسْر، والقَرْيَة، والقَوْسُ، والقِيَامَة ومن حَرْفِ الكَافِ الكَتِيبَةُ والكَعْبَةُ، وهي أَخَصُّ من القِبْلَة التي تقدّمت، والكَلْبُ، هو الحَيَوان المَعْرُوف، وظَنّ بَعضُهُم بأَنّه مِسْمَارٌ في السَّيْف، وسَيَأْتِي.

ومن حَرْفِ المِيمِ: المَرْأَة للرجُل، شابَّةً كَانَتْ أَو‌ عَجُوزًا ونصّ عِبارَة الأَزهَرِيّ: والعَربُ تَقول لامرأَةِ الرّجل وإِن كانَت شابَّةً: هي عَجُوزُه، وللزَّوج وإِن حَدَثًا، هو شَيخُهَا، والمُسَافِرُ، والمِسْكُ. وقال ابنُ الأَعرابيّ: الكَلْبُ: مِسْمَارٌ في مَقْبِض السَّيْفِ ومعه آخَرُ يقال له: العَجُوزُ. قال الصاغَانيّ: هذا هو الصَّحِيح، والمَلِكُ، ككَتِف، ومَنَاصِبُ القِدْرِ، وهي الحِجَارَة التي تُنْصَب عليها الْقِدْر.

ومن حرف النّون: النّارُ، والنّاقَةُ، والنَّخْلَةُ، وقال اللَّيْث: نَصْلُ السَّيْفِ، وأَنشد لأَبِي المِقْدَام:

وعَجُوزٍ رأَيْتُ في فَمِ كَلْبٍ *** جُعِل الكَلْبُ للأَمِير حَمَالا

ومن حرف الواو الوِلَايَة.

ومن حَرِف اليَاءِ التَّحْتِيَّة: اليَدُ اليُمْنَى. هذا آخِرُ ما ذكره المصنّف.

وأَما الذي استدركناه عليه فهي: المَنِيَّةُ، والنَّمِيمَةُ، وضَرْبٌ من التَّمْر، وجَرْوُ الكَلْبِ، والغُرَابُ، واسمُ فَرَسٍ بعَيْنه، ويُقَال لها: كحيلَةُ العَجُوز، والتحكّم، والسيفُ، وهذِه عن الصاغَانِيّ، والكِنَانَةُ، واسم نَبَاتٍ، والمُؤَاخَذَةُ بالعِقَاب، والمُبَالَغَة في العَجْز، والثَّوْبُ، والسِّنَّور، والكَفُّ، والثُّعلب، والذَّهب، والرّمْل، والصَّحْفة، والآخِرة، والأَنْف، والعَرَج، والحُبُّ، والخَصْلةُ الذَّميمَةُ.

قال شَيْخُنَا: وقد أَكثرَ الأُدباءُ في جمع هذِه المَعانِي في قَصَائِدَ كَثِيرةٍ حَسَنَةٍ لم يَحْضُرْني منها وَقْتَ تَقْيِيدِ هذِه الكلماتِ إِلا قَصِيدَةٌ واحدةٌ للشَّيْخ يُوسُف بنِ عِمْرَان الحَلَبيّ يمدَح قاضِيًا جَمَع فيها فأَوْعَى، وإِن كان في بعض تراكيبها تَكَلُّفُ وهي هذِه:

لِحَاظٌ دونها غُولُ العَجُوزِ *** وشَكَّتْ ضعْفَ أَضعافِ العَجُوزِ

الأولى المنية، والثانية الإبرة‌

لِحَاظُ رَشًا لها أَشْرَاكُ جَفْنٍ *** فكَمْ قَنَصَت مِثَالي من عَجُوزِ

الأسد‌

وكمْ أَصْمَتْ ولم تَعرِف مُحِبًّا *** كما الكُسَعِيّ في رَمْي العَجُوزِ

حمار الوحش‌

وكمْ فتَكَتْ بقَلْبي ناظِرَاه *** كما فَتَكَت بشَاةٍ من عَجُوزِ

الذئب‌

وكم أَطفَى لَمَاهُ العَذْبُ قَلْبًا *** أَضَرَّ به اللهيبُ من العَجُوزِ

الخمر‌

وكم خَبَلٍ شَفَاه الله منه *** كذا جِلْدُ العَجُوزِ شِفَا العَجُوزِ

الأول الضَّبُع والثاني الكَلَب‌

إِذا ما زارَ نَمَّ عليه عَرْفٌ *** وقد تَحْلُو الجَبَائِبُ بالعَجُوزِ

النميمة‌

رَشَفْت من المَراشِف منه ظَلْمًا *** أَلذّ جَنَّى وأَحْلَى من عَجُوزِ

أَراد به ضربًا من التمر جيِّدًا‌

وجَدْتُ الثَّغْرَ عند الصُّبْح منه *** شَذَاه دُونَه نَشْرُ العَجوزِ

المسك‌

أَجُرّ ذُيُولَ كِبْرٍ إِن سَقَانِي *** برَاحَتِه العَجُوزَ على العَجُوزِ

الأول الخمر، والثاني المَلك‌

برُوحِي من أُتاجِر في هَوَاه *** فأُدْعَى بينَ قَوْمي بالعَجُوزِ

التاجر‌

مُقِيمٌ لم أَحُلْ في الحَيِّ عنه *** إِذا غَيَرِي دَعَوْه بالعَجوزِ

المسافر‌

جَرَى حُبِّيه مَجْرَى الرّوح مِنِّي *** كجَرْي المَاءِ في رُطَبِ العَجوزِ

النخلة‌

وأَخَرَس حُبّه منّي لِسَانِي *** وقد أَلقَى المَفَاصِلَ في العَجوزِ

الرعشة‌

وصيَّرنِي الهَوى من فَرْطِ سُقْمِي *** شَبيهَ السِّلْكِ في سَمِّ العَجوزِ

الإبرة‌

عَذُولِي لا تَلُمْني في هَواه *** فلستُ بسامعٍ نَبْحَ العَجُوزِ

الكلب‌

تَرُومُ سُلوَّه منِّي بجهْدٍ *** سُلُوِّى دُونَه شَيْبُ العَجوز

الغراب‌

كلامُك بارِدٌ من غير مَعْنًى *** يُحَاكِي بَرْدَ أَيَّام العَجُوز

الأيام السبعة‌

يَطُوفُ القَلْبُ حَوْلَ ضِيَاه حُبًّا *** كما قد طافَ حَجٌّ بالعَجُوز

الكعبة شرفها الله تعالى‌

له من فَوْق رُمح القَدِّ صُدْغٌ *** نَضِيرٌ مِثلُ خافِقَةِ العَجُوز

الراية‌

وخَصْرٌ لم يَزَلْ يُدْعَى سَقِيمًا *** وعن حَمْل الرَّوادِف بالعَجُوز

مبالغة في العاجز‌

بلَحْظِي قد وَزَنْت البوصَ منه *** كما البَيْضَاءُ تُوزَن بالعَجُوزِ

الصنْجة‌

كأَنّ عِذَارَه والخَدَّ منه *** عَجُوزٌ قد تَوَارَتْ من عَجُوزِ

الأول الشَمس، والثاني دَارَةُ الشَّمسِ‌

فهذا جَنَّتي لا شَكَّ فيه *** وهذا نارُه نَارُ العَجُوزِ

جهنم‌

ترَاه فوقَ وَرْدِ الخَدِّ منه *** عَجُوزًا قَد حَكَى شَكْلَ العَجُوزِ

الأول المسك، والثاني العقرب‌

على كلِّ القُلُوبِ له عَجُوزٌ *** كذا الأَحباب تَحْلُو بالعَجُوزِ

التحكم‌

دُموعِي في هَواه كنِيلِ مِصْرٍ *** وأَنفاسِي كأَنْفاسِ العَجُوزِ

النار‌

يَهُزّ من القَوَامِ اللَّدْنِ رُمْحًا *** ومن جَفْنَيْه يَسْطُو بالعَجُوزِ

السيف‌

ويَكْسِر جَفْنَه إِن رامَ حَرْبًا *** كَذاكَ السَّهْمُ يفعَلُ في العَجوزِ

الحرب‌

رَمَى عن قَوْسِ حاجِبِه فُؤادِي *** بنَبْلٍ دُونها نَبْلُ العَجُوزِ

الكنانة‌

أَيا ظَبْيًا له الأَحشَا كِنَاسٌ *** ومَرْعًى لا النَّضيرُ من العَجوزِ

النبات‌

تُعَذّبُنِي بأَنْوَاعِ التَّجافِي *** ومِثْلِي لا يُجَازَى بالعَجوزِ

المعاقبة‌

فقُرْبُك دوَن وَصْلك لي مُضِرٌّ *** كذا أَكْلُ العَجُوز بلا عَجوزِ

الأول النبت، والثاني السَّمن‌

وهَيْفا من بَنَاتِ الرُّومِ رُودٍ *** بعَرْف وِصالِهَا مَحْضُ العَجُوزِ

العافية‌

تَضُرُّ بها المَنَاطِقُ إِن تَثنَّتْ *** ويُوهِي جِسمَها مَسُّ العَجُوزِ

الثَّوب‌

عُتُوَّا في الهَوَى قَذَفَت فُؤَادِي *** فمَنْ شَامَ العَجُوزَ من العَجُوزِ

الأول النار، والثاني السِّنور‌

وتُصْمِي القَلبَ إِن طَرَفَتْ بطَرْفٍ *** بلا وَتَرٍ وسَهْم من عَجوزِ

القوس‌

كأَنّ الشُّهْبَ في الزّرقَا دِلَاصٌ *** وبَدْرُ سَمائِهَا نَفسُ العَجُوزِ

التُّرس‌

وشَمْسُ الأُفْقِ طَلْعَةُ مَن أَرانا *** عَطاءَ البَحْرِ منه في العَجوزِ

الكَفّ‌

تَوَدّ يسَارَه سُحْبُ الغَوَادِي *** وفَيْضُ يَمِينِه فَيْضُ العَجُوزِ

البحر‌

أَجلُّ قُضَاةِ أَهلِ الأَرْض فَضْلًا *** وأَقْلَاهمْ إِلى حُبِّ العَجُوزِ

الدنيا‌

كمال الدِّين لَيْثٌ في اقْتِنَاص الْ *** مَحامدِ والسِّوَى دونَ العَجوزِ

الثعلب‌

إِذا ضَنَّ الغَمَامُ على عُفَاةٍ *** سَقاهمْ كَفُّه مَحْضَ العَجُوزِ

الذهب‌

وكَمْ وَضَعَ العَجُوزَ على عَجُوزٍ *** وكم هَيّا عَجُوزًا في عَجُوزِ

الأول القدر، والثاني المنصب الذي توضع عليه، والثالث الناقة، والرابع الصفحة‌

وكَمْ أَرْوَى عُفَاةً من نَدَاهُ *** وأَشبَع مَنْ شَكَا فَرْطَ العَجُوزِ

الجوع‌

إِذا ما لاطَمَت أَمواجُ بَحْرٍ *** فلم تَرْوَ الظُّماةُ من العَجُوزِ

الركيَّة‌

أَهالِي كُلّ مِصْر عنه تثْنِي *** كذا كُلّ الأَهَالِي من عَجُوزِ

القرية‌

مَدَى الأَيامِ مُبْتَسِمًا تَراهُ *** وقد يَهَبُ العَجُوزَ من العَجُوزِ

الأول الألف، والثاني البقر‌

تَردَّى بالتُّقَى طِفْلًا وكَهْلًا *** وشَيْخًا مِن هَوَاه في العَجُوزِ

الآخرة‌

وطابَ ثَنَاؤُه أَصْلًا وفَرْعًا *** كما قد طَابَ عَرْفٌ من عَجُوزِ

المسك، وإن تقدّم فبعيد‌

إِذَا ضَلَّت أُناسٌ عن هُدَاهَا *** فيَهْدِيهَا إِلى أَهْدَى عَجُوزِ

الطريق‌

ويَقْظَانَ الفُؤَادِ تَرَاهُ دَهْرًا *** إِذا أَخَذَ السِّوَى فَرْطُ العَجُوزِ

السَّنَة‌

وأَعْظَمَ ماجِدٍ لُوِيَت عليه ال *** خَناصِرُ بالفَضَائِل في العَجُوزِ

الشمس‌

أَيَا مَولًى سَمَا في الفَضْل حتّى *** تَمنَّتْ مِثْلَه شُهُبُ العَجُوزِ

السماء‌

إِذا طاشَتْ حُلُومُ ذَوِي عُقُولٍ *** فحِلْمُكَ دونَه طَوْدُ العَجُوزِ

الأَرض‌

فكَمْ قد جاءَ مُمْتَحِنٌ إِليكُم *** فَأُرْغمَ منه مُرتَفِعُ العَجُوزِ

الأنف‌

إِلى كَرَمٍ فإِن سابَقْتَ قَوْمًا *** سَبقْتَهمُ على أَجْرَى عَجُوزِ

الفرس‌

ففَضْلُك ليس يُحْصِيه مَدِيحٌ *** كما لَمْ يُحْصَ أَعْدَادُ العَجُوزِ

الرمل‌

مكَانَتُكُم على هَامِ الثُّرَيَّا *** ومَنْ يَقْلاكَ راضٍ بالعَجُوزِ

الصومعة‌

رَكِبْتَ إِلى المَعَالي طِرْفَ عَزْمٍ *** حَمَاهُ الله من شَيْنِ العَجُوزِ

العَرَج قال شَيخُنَا: وكنت رأَيتُ أَوّلًا قَصِيدَةً أُخْرَى كهذِه للعَلاّمة جَمَالِ الدِّين مُحَمّدِ بنِ عيسى بن أَصبَعَ الأَزْدِيّ اللّغويّ أَوَّلها:

أَلَا تُبْ عن مُعَاطَاةِ العَجُوزِ *** ونَهْنِه عن مُوَاطَأَة العجُوزِ

ولا تَرْكَبْ عَجُوزًا في عَجُوزٍ *** ولا رَوعٍ لا تَكُ بالعَجُوزِ

وهي طَوِيلة. والعَجُوزُ الأَوّل: الخَمْر، والثّاني: المَرْأَة المُسِنّة، والثّالِث: الخَصْلة الذَّمِيمَة، والرَّابِع الحُبّ.

والخَامِس: العَاجِزُ، وهي أَعظَم انْسِجَاما وأَكْثرُ فوائدَ من هذِه، ومن أَدرَكَهَا فليَلْحَقها. وهناك قصائد غيرهَا لم تبلُغ مَبْلغَها.

والعِجْزَةُ، بالكَسْر: آخِرُ وَلَدِ الرَّجُل، كذا في الصّحاح، قال:

واستَبْصَرتْ في الحَيِّ أَحْوَى أَمرَدَا *** عِجْزَةَ شَيْخَيْن يُسَمَّى مَعْبَدَا

يقال: فُلانٌ عِجْزَةُ وَلَدِ أَبَوَيْه؛ أَي آخِرُهم، وكذلك كِبْرَةُ وَلدِ أَبوَيْه. والمُذَكَّر والمُؤَنَّث في ذلك سَواءٌ، ويقال: وُلِدَ لِعِجْزَةٍ؛ أَي بعدَ ما كَبِر أَبواه. ويقال له أَيضًا: ابنُ العِجْزَة، ويُضَمُّ، عن ابنِ الأَعرابيّ، كما نَقله الصاغانيّ.

والعَجْزَاءُ: العَظِيمَةُ العَجُزِ من النّساءِ، وقد عَجِزَت، كفَرِحَ، وقيل: هي التي عَرُضَ بَطنُهَا وثَقُلَت مَأْكَمَتُهَا فعَظُمَ عَجُزُها، قال:

هَيْفَاءُ مُقبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرةً *** تَمَّتْ فليس يُرَى في خَلْقِهَا أَوَدُ

والعَجْزَاءُ، رَمْلَةٌ مرتَفِعَةٌ، وفي المُحْكَم: حَبْلٌ من الرَّمْل مُنْبِتٌ، وفي التَّهْذِيب لابن القطّاع: عَجِزَت الرَّمْلَةُ، كفَرِح: ارتَفَعَت. وفي التَّهْذِيب: العَجْزَاءُ من الرِّمال: حَبْلٌ مرتَفِعٌ كأَنَّه جَلَد ليس بِرُكَامِ رَمل، وهو مَكْرُمة للنَّبْت، والجَمْع العُجْز، لأَنه نَعَت لتلك الرَّملةِ.

والعَجْزاءُ من العِقْبَان: القَصِيرةُ الذَّنَبِ، وهي التي في ذَنَبِهَا مَسْحٌ؛ أَي نَقْصٌ وقِصَرٌ، كما قيل للذِّئْب: أَزَلُّ، وقيل: هي الَّتِي في ذَنَبِهَا رِيشَةٌ بَيْضَاءُ أَو رِيشَتَانِ، قاله ابنُ دُرَيْد، وأَنشد للأَعْشَى:

وكأَنَّمَا تَبِعَ الصِّوَارَ بشَخْصِهَا *** عَجْزَاءُ تَرزُقُ بالسُّلَيِّ عِيَالَهَا

قال وقال آخَرُون: بل هي الشَّدِيدَةُ دَائِرَةِ الكَفِّ، وهي الإِصْبَع المُتَأَخرةُ منه، وقيل: عُقَاب عجزاءُ: بمُؤَخَّرها بَيَاض أَو لَوْنٌ مُخَالِف.

والعِجَازُ، ككِتَاب: عَقَبٌ يُشَدّ به مَقْبِضُ السَّيْفِ.

والعِجَازَةُ، بهاءٍ: ما يُعَظَّم به العَجِيزَةُ، وهي شي‌ءٌ يُشْبِه الوِسَادَةَ تَشُدُّه المَرْأَةُ على عَجُزِهَا لتُحْسَب عَجْزَاءَ، ولَيْسَتْ بها، كالإِعْجَازةِ، نقله الصّاغَانيّ.

والعِجَازَةُ: دائِرَةُ الطَّائِر، وهي الإِصْبعُ الّتِي وَراءَ أَصابِعه.

وأَعجَزه الشي‌ءُ: فَاتَه وسَبَقَه، ومنه قَولُ الأَعشَى:

فذَاك ولم يُعْجِز من المَوْتِ رَبَّه *** ولكنْ أَتاه المَوْتُ لا يَتأَبَّقُ

وقال الليث: أَعْجَزَنِي فُلانٌ، إِذا عَجَزْت عن طَلَبه وإِدْراكِه. وأَعجزَ فُلانًا: وَجَدَه عاجِزًا. وفي التَّكْمِلَة أَعجَزَه: صَيَّره عَاجِزًا؛ أَي عن إِدْراكِه واللُّحُوقِ به.

والتَّعْجِيزُ: التَّثْبِيطُ، وبه فسّر قول مَنْ قرأَ: والذين سَعَوا في آياتِنَا مُعَجِّزِين أَي مُثَبِّطين عن النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم مَنِ اتَّبَعَه، وعن الإِيمانِ بالآيات. والتَّعْجِيزُ: النِّسْبَةُ إِلى العَجْزِ وقد عَجَّزه، ويقال: عَجَّزَ فُلانٌ رَأْيَ فلانٍ، إِذَا نَسَبَه إِلى قِلّةِ الحَزْمِ، كأَنه نَسَبَه إِلى العَجْز.

ومُعْجِزَةُ النَّبِيّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم: ما أَعْجَزَ به الخَصْمَ عِنْدَ التَّحَدِّي، والهَاءُ للمُبَالَغَة، والجَمْع مُعْجِزَاتٌ.

والعَجْزُ بالفتح: مَقْبِض السَّيْف لغة في العَجْس، هكذا نقله الصاغانيّ وسيأْتِي في السِّين.

والعَجَزُ: داءٌ في عَجُزِ الدَّابَّة فتَثْقُل لذلك، الذَّكَر أَعجَزُ والأُنثى عَجْزَاءُ، ومُقْتَضَى سِيَاقِه في العِبَارَة أَنَّ العَجْز، بالفَتْح، وليس كذلك، بل هو بالتَّحْرِيك، كما ضَبَطه الصّاغَانِيّ، فليُتَنَبَّه لذلك.

وتَعْجُزُ، كتَنْصُر: من أَعلامِهِنَّ؛ أَي النساءِ.

وابنُ عُجْزَةَ، بالضَّمّ: رَجل من بني لِحْيَانَ بنِ هُذَيْلٍ، نَقَله الصاغانِيّ، وقد جاءَ ذِكْرُه في أَشعار الهُذَلِيّين.

ومن المَجَاز: بَنَاتُ العَجْز: السِّهَامُ. والعَجْزُ: طائرٌ يَضرِب إِلى الصُّفْرة يُشبِه صَوتُه نُبَاحَ الكَلْبِ الصَّغِيرِ، يأْخذ السَّخْلَةَ فَيطِير بها، ويَحْتَمل الصَّبِيّ الذي له سَبْعُ سِنينَ وقيل: هو الزُّمَّج، وقد ذُكِر في موضِعه، وجمْعه عِجْزَانٌ، بالكَسْر، كذا في اللّسَان وذكره الصاغَانِيّ مُخْتَصَرًا، وقَلّدَه المُصَنّف في عَطْفِه على بَنَات العَجْز، فيَظُنّ الظّانّ أَنّ اسمَ الطّائر بَناتُ العَجْز، وليس كذلك، وإِنما هو العَجْزُ، وقد وقعَ في هذا الوَهم الجَلالُ في دِيوَان الحَيوان حَيْث قال: وبَنَاتُ العَجْز: طائر. ولم يُنَبّه عليه، ولم يذكر المُصَنِّف الجَمْعَ، مع أَن الصّاغانيّ ذَكَرَه وضَبَطَه.

والعَجِيزُ، كأَمِير: الذِي لَا يأْتِي النِّسَاءَ، بالزَّاي والرّاءِ جَمِيعًا، هكَذَا في الصّحاح.

قلْت: والعَجِيسُ أَيضًا كما سيأْتي في السين بهذا المعنى. وقال أَبو عُبَيْد في باب العِنِّين: العَجِيرُ بالرَّاءِ: الذِي لا يَأْتي النّسَاءَ. قال الأَزهَرِيّ: وهذا هو الصَّحِيح.

ولم يُنَبّه عليه المُصنّف هنا، وقد ذُكِرَ العَجِيرُ في موضعه، وسبقَ الكلامُ هناك.

والمَعْجُوز: الذي أُلِحَّ عليه في المسْأَلَةِ، كالمَشْفُوهِ والمَعرُوكِ والمَنْكُودِ، عن ابنِ الأَعْرَابيّ. قلْت: وكذلك المَثْمُود، وقد ذُكِرَ في مَوْضِعه.

وأَعْجَازُ النَّخْل: أَصُولُها. ويقال: رَكِبَ في الطَّلَب أَعجازَ الإِبِلِ. أَي رَكِبَ الذُّلَّ والمَشَقَّةَ والصَّبْرَ، وبَذَلَ المَجْهُودَ في طَلَبِهِ لا يُبَالِي باحْتِمَال طُولِ السُّرَى، وبه فُسِّر‌ قَولُ سَيّدنَا عَلِيّ رضي ‌الله‌ عنه: «لنا حَقٌّ إِن نُعْطَه نَأْخُذْه وإِن نُمْنَعْه نَركَبْ أَعجازَ الإِبلِ وإِن طال السُّرَى» قاله ابنُ الأَثِير. وأَنْكَرَه الازْهَرِيّ وقال: لم يَرِد به ذلِك ولكِنّه ضَرَبَ أَعجازَ الإِبل مَثَلًا لتقدُّم غَيْرِه عليه وتأْخِيرِه إِيّاه عن‌ حَقّه، زاد ابنُ الأَثير، عن حَقّه الذِي كان يَراه له وتَقَدّم غيره، وأَصلُه أَنّ الرّاكِبَ إِذا اعْرَوْرَى البَعِيرَ رَكِب عَجُزَه من أَجَل السَّنام فلا يَطْمَئنّ ويَحْتَمِل المَشقّة. وهذا نقله الصّاغَانيّ.

وعَجُزُ هَوازِنَ كعَضُدٍ: بَنُو نَصْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ بكْر بن هَوَازنَ، ومنهم بنو دُهْمَانَ وبنو نَسّانَ وبَنُو جُشَمَ بنِ بَكْر بن هَوَازِنَ، كأَنَّهُم آخِرُهم.

والمُعَاجِز كمُحَارِبٍ: الطَّرِيقُ، لأَنَّه يُعيِي صاحِبَه لطُولِ السُّرَى فيه.

وعَاجَزَ فُلانٌ مُعَاجَزَةً: ذَهبَ فلم يُوصَلْ إِليه. وفي الأَساس: عاجَزَ، إِذا سَبَق فلم يُدْرَكْ. وعاجَزَ فُلانًا: سابَقَه فعَجَزَه، كنَصَره؛ أَي فسَبَقَه، ومنه المَعْجُوز بمَعْنَى المَثْمُود، حَقَّقه الزّمَخْشرِيّ، وقد ذُكِر قريبًا. وعَاجَزَ إِلى ثِقَةٍ: مَالَ إِلَيْهِ: ويُقَال: فُلانٌ يُعَاجِز عن الحَقِّ إِلى البَاطِل؛ أَي يَلْجَأُ إِليه، وكذلك يُكارِزُ مُكارَزةً، كما يأْتي.

وتَعَجَّزْتُ البَعِيرَ: رَكِبْتُ عَجُزَه، نحو تَسَنَّمتُه وتَذَرَّيْته.

وقَوْلُه تَعَالى في سُورَة سَبَأَ: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا} مُعاجِزِينَ؛ أَي يُعَاجِزُونَ الأَنبياءَ وأَولِيَاءَهم؛ أَي يُقَاتِلُونَهم ويُمَانِعُونَهم لِيُصُيِّرُوهم إِلى العَجْز عن أَمْرِ الله تَعَالى وليس يُعْجِز الله جلّ ثَنَاؤُه خَلْقٌ في السَّمَاءِ ولا في الأَرض ولا مَلْجَأَ منه إِلا إِليه، وهذا قولُ ابنِ عَرَفَةَ، أَو مُعاجِزِينَ: مُعَانِدِين، وهو يَرجِع إِلى قول الزّجّاج الآتي ذِكرُه، وقيل في التَّفْسِير: مُسَابِقِين، مِن عاجَزَه، إِذا سابَقَه، وهو قَرِيب من المُعَانَدَة، أَو معناه ظَانّين أَنّهم يُعْجِزُونَنَا، لأَنهم ظَنّوا أَنّهُم لا يُبعَثُون، وأَنه لا جَنَّة ولا نار، وهو قَوْل الزّجّاج، وهذا في المعنَى كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا}. قلْت: وقرِئ مُعَجِّزين، بالتَّشْدِيد، والمعنى مُثَبِّطين، وقد تقدّم ذلك، وقيل: يَنْسُبون مَنْ تَبع النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم إِلى العَجْز، نحو جَهَّلْتُه وسَفَّهْتُه وأَما قوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ} بِمُعْجِزِينَ {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} قال الفَراءُ: يقول القَائِل: كيف وَصَفَهم بأَنَّهُم لا يُعجِزُون في الأَرض ولا في السَّماءِ ولَيْسُوا في أَهْلِ السَّمَاءِ، فالمَعْنَى ما أَنتم بمُعْجِزين في الأَرض ولا مَنْ في السّماءِ بمُعْجِز. وقال الأَخْفَش: المَعْنَى لا يُعْجِزُونَنا هَرَبًا في الأَرض ولا في السّماءِ. قال الأَزهريّ: وقَوْلُ الفَرّاءِ أَشْهرُ في المَعْنَى.

* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:

رجُلٌ عَجِزٌ وعَجُزٌ، ككَتِف ونَدُس: عاجِزٌ. وامرأَة عاجِزٌ: عاجِزَة عن الشي‌ءِ، عن ابن الأَعْرَابِيّ. والعَجَز، محرّكَة، جمْع عَاجِز، كخَدَمٍ وخَادِمٍ. ومنه‌ حَدِيثُ الجَنَّة: «لا يَدخُلُني إِلا سَقَطُ النّاسِ وعَجَزُهم» يُرِيدُ الأَغْبِيَاءَ العَاجِزِين في أُمُور الدّنيا.

وفَحْل عَجِيزٌ: عَاجِزٌ عن الضِّرَاب كعَجِيس، قال ابنُ دُرَيْد: فَحْلَ عَجِيزٌ وعَجِيسٌ، إِذا عَجَز عن الضِّراب.

وأَعجَزَه الشَّي‌ءُ: عَجَزَ عنه. وأَعْجَزَه وعَاجَزَه: جَعَلَه عاجِزًا، وهذِه عن البَصَائِر. وعَاجَزَ القَوْمُ: تَركُوا شَيْئًا وأَخَذُوا في غَيْرِه.

والعَجُزُ في العَرُوض: حَذْفُك نون فاعِلَاتنْ لمُعَاقَبَتِهَا أَلفَ فاعِلن، هكذا عَبّرَ الخَليل عنه، ففَسَّر الجَوْهَرَ الذِي هو العَجُزُ بالعَرضَ الذي هو الحَذْف، وذلك تَقْرِيب منه وإِنما الحَقِيقَة أَن يَقُول: العَجُز: النون المحذُوفَة من فَاعِلَاتُنْ، لمُعَاقَبَة أَلِف فَاعِلنْ، أَو يقول: التَّعْجِيز: حَذْفُ نون فاعِلَاتنْ، لمُعَاقَبَة أَلف فاعلنْ، وهذا كلّه إِنما هو في المَدِيد. وعَجُزُ بَيْتِ الشِّعر خِلاف صَدْرِه. وعَجَّز الشاعِرُ: جاءَ بعَجُزِ البَيْت. وامرأَة مُعَجِّزة: عَظِيمَةُ العَجُز، وجمع العَجِيزَة العَجِيزَات، ولا يَقُولُون عَجَائِزُ مَخَافَة الالْتِبَاس.

وقَال ثَعْلَب: سَمعتُ ابنَ الأَعْرَابيّ يقول: لا يقال: عَجِزَ الرجُلُ، بالكَسْر، إِلا إِذا عَظُم عَجُزُه، وقال رجُلٌ من رَبِيعَةَ ابن مَالِك: إِن الحَقَّ بِقَبَلٍ، فمَنْ تَعَدَّاه ظَلَمَ، ومن قَصَّر عنه عَجَز، ومن انْتَهَى إِليه اكْتَفَى. قال: لا أَقُول عَجِزَ إِلاّ مِنَ العَجِيزَة، ومن العَجْز عَجَزَ، وقوله بقَبَل؛ أَي وَاضِحٌ لك‌ حَيْث تَرَاه، وهو مِثْلُ قَوْلِهِم: الحَقُّ عَارِي، وقد تَقَدَّم في أَول المَادَّة أَن عَجِزَ، بالكَسْر، من العَجْز، لُغَة بَعْض قَيْس كما نَقَلَه ابنُ القَطّاع عن الفرّاءِ.

والمِعْجَزُ، كمنبَر الجَفْنة، ذكره الجوهَرِي في «ق موضع ر».

وعِجْز القوْس وعَجْزُهَا: ومَعْجِزُها: مَقْبِضُها، حكاه يَعْقُوبُ في المُبْدَل، ذَهَب إِلى أَنَّ زايَه بَدَلٌ من سِينِه. وقال أَبُو حَنِيفَة: هو العَجْز والعِجْز، ولا يُقَال: مَعْجز.

وعَجْزُ السِّكِّين: جُزْأَتُهَا عن أَبِي عُبَيْد.

ويقال: اتَّقِ الله في شَبِيبَتِك وعُجْزِك، بالضّمّ؛ أَي بعدما تَصِير عَجُوزًا.

ونَوَى العَجُوزِ: ضَرْبٌ من النَّوَى هَشٌّ تأْكُله العَجُوزُ لِلِينه، كما قالوا: نَوَى العَقُوقِ.

والْمِعْجَزَة، بالكَسْر: المِنْطَقَة، في لُغَة اليمن، سُمِّيَت لأَنّهَا تَلِي عَجُزَ المُتَنَطِّق بها. ويقال: عَجِّزْ دَابَّتَك؛ أَي ضَعْ عليها الحَقِيبَةَ، نقله الصاغانِيّ.

والْمِعْجَازُ، كمِحْرَاب: الدائِمُ العَجْز، وأَنْشَد في الحماسة لبَعْضِهم:

وحَارَب فيها ياسرٌ حين شَمَّرتْ *** من القدم معْجَازٌ لَئِيمٌ مُكَاسِرُ

وذو المِعْجَزَة، بالكَسْر، رجلٌ من أَتباع كِسْرَى وَفَد على النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم فوهب له مِعْجَزة فسُمّي بذلك.

وابنُ أَبي العَجَائِز هو أَبو الحُسَيْن محمّدُ بن عبد الله بن عبد الرحمن الدِّمشْقِيّ الأَزديّ. توفِّي بدمشق سنة 468 وكان ثِقةً.

والقَاضي أَبو عَبْدِ الله محمّدُ بنُ عبد الرحيم بن أَحمد بن العَجُوز الكُتَاميّ السَّبتيّ، ولِيَ قَضَاءَ فاس، توفِّي سنة 474 وأَبو بَكْر محمدُ بنُ بشّار بن أَبي العَجُوز العَجُوزِيّ البغداديّ، عن ابن هشام الرّفاعيّ مات سنة 311.

ومن المَجاز: ثوبٌ عاجز، إِذا كان قَصِيرًا. ولا يَسَعُنِي شي‌ءٌ ويَعْجِز عنك. وجَاءُوا بِجَيْش تَعْجِز الأَرضُ عنه.

وعَجَز فُلانٌ عن الأَمْرِ إِذا كَبِر، كذا في الأَساس.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


33-تاج العروس (حض حضض حضحض)

[حضض]: حَضَّهُ عَلَيْه يَحُضُّهُ، من حَدِّ نَصَرَ، حَضًّا، بالفَتْحِ، وحُضًّا، بالضَّمِّ، وحِضِّيضَى، كحِثِّيثَى، وحُضِّيضَى، بالضَّمِّ. والكَسْرُ أَعْلَى ولم يَأْتِ على فُعِّيلَى بالضَّمِّ، غَيْرُهَا: حَثَّهُ، وحَرَّضَهُ، وأَحْمَاهُ عَلَيْه، كما في الصّحاح. وفي المُحْكَم: الحَضُّ: ضَرْبٌ من الحَثَّ في السَّيْرِ والسَّوْقِ وكُلِّ شَيْ‌ءِ. والْحَضُّ أَيْضًا: أَنْ تَحُثَّه في شَيْ‌ءِ لا سَيْرَ فِيهِ ولا سَوْقَ. حَضَّهُ حَضَّا. كَحَضَّضَهُ تَحْضِيضًا.

وفي التَّهْذِيب: الْحَضُّ: الحَثُّ على الخَيْرِ. ويُقَالُ: حَضَّضْتُ القَوْمَ على القِتَالِ تَحْضِيضًا: إِذَا حَرَّضْتَهُمْ. وقال ابنُ دُرَيْد: الْحَضُّ والحُضُّ لُغَتَان، كالضَّعْفِ والضُّعْفِ. أَو الاسْمُ الحُضُّ، بالضَّمِّ، كَالْحُضِّيضَى بِلُغَتَيْهِ، والمَصْدَرُ بالفَتْحِ.

والْحَضِيضُ كَأَمِيرٍ: القَرَارُ فِي ـ وفي الصّحاح: مِنَ ـ الأَرْضِ، عِنْدَ مُنْقَطَعِ الجَبَلِ. قاله الجَوْهَرِيّ، وقال غَيْرُه: هو قَرَارُ الأَرْضِ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَل. وقِيلَ: هو في أَسْفَلِه، والسَّفْحُ من وَرَاءِ الحَضِيضِ. فَالْحَضِيضُ مِمَّا يَلِي السَّفْحَ، والسَّفْحُ دُونَ ذلِكَ.

الجمع: أَحِضَّةٌ، وحُضُضٌ، بضَمَّتَيْن، وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ لبَعْضِهِمْ:

الشَّعْرُ صَعْبٌ وطَوِيلٌ سُلَّمُهْ *** إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُه

زَلَّتْ بِهِ إِلى الحَضِيضِ قَدَمُه *** يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فيُعْجمُه

والشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهُ

قلتُ: وقد أُطْلِق الحَضِيضُ على كُلّ سَافِلٍ في الأَرْضِ، وكأَنَّه لَاحَظَهُ المُصَنَّفُ فأَسْقَطَ القَيْدَ الَّذِي قَيَّدَه‌ الجَوْهَرِيّ وغَيْرُه، وهو قَوْلُهُم: عِنْدَ مُنْقَطَعِ الجَبَلِ أَو أَسْفَله أَو غَيْر ذلِكَ، ويَشْهَدُ لذلِكَ ما جَاءِ‌ في الحَدِيث: «أَنَّهُ أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم هَدِيَّةُ فلم يَجِدْ شَيْئًا يَضَعُهَا عَلَيْه فقال: ضَعْهُ بِالْحَضِيضِ، فإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ» ‌يَعْنِي بالعَبْدِ نَفْسَهُ.

والحُضضُ، كزُفَر، وعُنُق، كِلَاهُمَا عن ابْنِ دُرَيْد، وهكذا ضَبَطَهَا الجَوْهَرِيُّ وابنُ سِيدَه، وفيه لُغَاتٌ أُخْرَى، رَوَى أَبو عُبَيْدٍ عَنِ اليَزِيدِيّ: الحُضَضُ، والحُضَظُ والحُظَظُ [والحُظُظُ]. قال شَمِرٌ: ولم أَسْمَعِ الضَّادَ مع الظَّاءِ إِلاّ في هذا. وقال ابنُ بَرَّيّ: قال ابنُ خَالَوَيْه: الحُظُظُ والحُظَظُ: وزاد الخَلِيلُ: الحُضَظُ، بضَادٍ بَعْدَهَا ظَاء. وقال أَبو عُمَرَ الزَّاهِد: الحُضُذُ، بالضَّاد والذَّال. رَوَى ابنُ الأَثِير هذِه الأَوْجُهَ ما خَلَا الضَّادَ والذَّالَ. وقالَ الصَّاغَانِيُّ: هو عُصَارَةُ شَجَرٍ، وهو نَوْعَانِ: العَرَبِيُّ، منه عُصَارَةُ الخَوْلانِ، ويُعْرَفُ بالمَكِّيِّ أَيْضًا، يُطْبَخ فيُجْعَل في أَجْرِبَةٍ، وهو الأَجْوَدُ، قال: والهِنْدِيُّ عُصَارَةُ شَجَرَةِ الفِيْلَزَهْرَجِ. وقال أَبو حَنِيفَةَ عن أَبي عُبَيْدَةَ: المَقِرُ يَخْرُجُ منه الصَّبِرُ أَوَّلًا، ثمّ الْحُضَضُ، ثُمَّ ثُفْلُه، وقال صاحِبُ المِنْهَاج: ويُغَشُّ المَكِّي بالدِّبْسِ البَصْرِيّ المُغْلَى فيه صَبِرٌ، ومُرٌّ، وزَعْفَرَانٌ، وعُرُوقُ ماءِ الآسِ، وماءُ قُشُورِ الرُّمَّانِ. قال: ويُغَشُّ الهِنْدِيُّ بعُصَارَةِ الأَمْيَرِ بَارِيس، يُطْبَخ بالماءِ حَتَّى يَجْمُدَ، وكِلاهُمَا؛ أَي النَّوْعَيْن نَافِعٌ لِلْأَوْرَامِ الرِّخْوَةِ والخَوَّارَةِ، والقُرُوحِ والنُّفَّاخَاتِ والنَّمْلَة والخَبثَةِ والدَّوَاحِسِ خاصَّةً بماءِ وَرْدٍ، وهو يَشُدُّ الأَعْضَاءَ، ويَنْفَعُ من القُلَاع. والرَّمَدِ، وغِشَاوَةِ العَيْنِ، وجَرَبِ العَيْن، والجُذَامِ، والبَوَاسِيرِ، وشُقُوقِ السِّفْلِ، والإِسْهَالِ المُزْمِنِ، ونَفْثِ الدَّمِ، والسُّعَالِ، واليَرَقَانِ الأسْوَدِ، والطِّحَالِ، شُرْبًا وضِمَادًا، ولَسْعِ الهَوَامِّ والخَوَانِيقِ غَرْغَرَةً بمَائِهِ.

والهِنْدِيُّ منه يَشْفِي من عَضَّةِ الكَلْبِ الكَلِب طِلاءً وشُرْبًا كُلَّ يَوْم نِصْفَ مِثْقَالٍ بماءٍ. وفي الهِنْدِيُّ تَحْلِيلٌ وقَبْضٌ يَسِيرٌ يَنْفَعُ كُلَّ نَزْفٍ، وهو يُغَزِّر الشَّعَرَ ويُحمِّرُه ويُقَوِّيه، ويُقَال: المَكِّيّ أَجودُ للأَوْرَام، والهِنْدِيّ أَجْوَدُ للشَّعرِ. وقِيلَ: هو نَبَاتٌ يُعْمَلُ بعُصَارَتِه هذا الدّواءُ، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: هو صَمْغٌ من نَحْوِ الصَّنَوْبَرِ والمُرِّ وما أَشْبَهَهُما، مِمَّا له ثَمَرةٌ كالفُلْفُلِ، وتُسَمَّى شَجَرَتُهُ الحُضَضَ. وقِيلَ: هو دَوَاءٌ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، ووَقَعَ في نُسَخِ المُحْكَمِ: دَواءٌ، وقِيلَ: دَوَاءُ.

وفي حَديث سُلَيْمَانَ بنِ مُطَيْرٍ «إِذا أَنا برَجُلٍ قد جَاءَ كأَنَّه يَطْلُب دَوَاءً أَو حُضَضًا».

وهذا يَقتضِي أَن الحُضَضَ غَيْرُ الدَّوَاءِ، وقِيلَ: هو دَوَاءُ آخَرُ يُتَّخَذُ مِنْ أَبْوالِ الإِبِل، قالَهُ اللَّيْثُ. وفي بَعْض الأُصُولِ: يُعْقَدُ، وهذا القَوْلُ قد دَفَعَه الصّاغَانِيّ في العُبَابِ وصَوَّب ما ذَكَرْناهُ أَوَّلًا أَنَّه عُصَارَةُ شَجَرٍ.

والحَضُوضُ، كصَبُورٍ: نَهْرٌ كَان بَيْنَ القَادِسِيَّةِ والحِيرَةِ.

وفي الجَمْهرَة: الحُضْحُضُ كقُنْفُذٍ: نَبْتٌ، عن أَبي مالِكٍ.

وحَضَوْضَى كشَرَوْرَى، ويقال أيَضًا: حَضُوضٌ، مثل صَبُورٍ: جبَلٌ في البَحْرِ أَو جَزِيرَةٌ فيه، كانَتِ العَرَبُ تَنْفِي إِلَيْهِ خُلَعَاءَهَا، كما في العُبَاب والتَّكْمِلَة.

والْحَضَوْضَى: البُعْدُ، عن ابن عَبّاد.

والحَضَوْضَى: النَّارُ، عنه أَيْضًا.

والحَضَوْضَاةُ: الضَّوْضَاةُ، عنه أَيْضًا.

ويُقَالُ: مَا عِنْدَه حَضَضٌ ولا بَضَضٌ، مُحَرَّكَتَيْن؛ أَي شَيْ‌ءٌ عنه أَيْضًا.

ويُقَالُ: أَخْرَجْتُ إِليه حَضِيضَتِي وبَضِيضَتِي؛ أَي مِلْكَ يَدِي، عنه أَيْضًا.

والْمُحَاضَّةُ: أَنْ يَحُضَّ؛ أَي يَحُثَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وقَرَأَ شُعْبَةُ بن الحَجّاجِ: {ولا يُحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} بالتَّحْتَيَّةَ المَضْمُومَة. وقَرَأَ ابنُ المُبَارَكِ بالمُثَنَّاة الفَوْقِيّة المَضْمُومَةَ. وقَرَأَ أَهْلُ المَدِينَةِ: ولا يَحُضُّونَ، وقَرَأَ الحَسَنُ: ولا تَحُضُّونَ.

والتَّحَاضُّ: التَّحَاثُّ، وبه قَرَأَ الأَعْمَشُ، وعاصِمٌ، ويَزيدُ بن القَعْقَاع، {وَلا} تَحَاضُّونَ بالفَتْحِ. قال الفَرَّاءُ: وكُلُّ صَوَابٌ، فمَنْ قرأَ: تُحَاضُّونَ فمعْنَاه تُحَافِظُون، ومَنْ قَرَأَ: تَحَاضُّونَ فمَعْناه يَحُضُّ بَعْضُكُم بَعْضًا، ومَنْ قَرَأَ تَحُضُّونَ فمَعْنَاهُ يَأْمُرُونَ بإِطْعامِه.

واحْتَضَضْتُ نَفْسِي لِفُلَانٍ: استَزَدْتُهَا، كَابْتَضَضْتُ.

وائْتَضَضْتُ، عن ابن الفَرَج.

* ومِمَّا يُسْتَدْرَك عليه:

الحُضِّيُّ، بالضَّمِّ: الحَجَرُ الَّذِي تَجِدُه بحَضِيضِ الجَبَل، وهو مَنْسُوبٌ كالسُّهْلِيّ والدُّهْرِيّ، نقله الجَوْهَرِيّ عن الأَصمَعِيّ، وكَذَا الصّاغَانِيّ في كِتَابَيْه، وصاحِبُ اللِّسَان. وعَجِيبٌ من المُصَنَّف كَيْفَ أَغْفَلَ عنه. وأَنشد الجَوْهَرِيُّ لحُمَيْدٍ الأَرْقَطِ:

يَكْسُو الصُّوَى أَسْمَرَ صُلَّبِيَّا *** وَأَبًا يَدُقُّ الحَجَرَ الحُضِّيَّا

وأَحْمَرُ حُضِّيّ: شَدِيدُ الحُمْرَةِ، كما في اللِّسَان.

والأَحْضُوضُ، بالضَّمّ: بَطْنٌ من خَوْلانَ باليَمَن، نَقَلَه الهَمْدَانِيّ. والنِّسْبَةُ حُضَضِيُّ. ومنهم سَلَمَةُ بنُ الحَارِث الحُضَضِيُّ، الَّذِي شَهِد فَتْحَ مِصْر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


34-تاج العروس (قطع)

[قطع]: قَطَعَه، كمَنَعَه، قَطْعًا، ومَقْطَعًا، كمَقْعَدٍ، وتِقِطّاعًا، بكَسْرَتَيْنِ مُشَدَّدَةَ الطّاءِ، وكَذلِكَ التِّنِبّالُ والتِّنِقّامُ، والتِّمِلّاقُ، هذِه المَصَادِرُ كُلُّهَا جاءَتْ على تِفِعّالٍ، كَمَا في العُبابِ. وفاتَه قَطِيعَةً وقُطُوعًا، بالضَّمِّ، ومن الأَخِيرِ قَوْلُ الشّاعِرِ:

فما بَرِحَتْ حَتَّى اسْتَبانَ سقابُهَا *** قُطُوعًا لِمَحْبُوكٍ مِنَ اللِّيفِ حادِرِ

: أَبَانَهُ من بَعْضِه فَصْلًا، وقالَ الرّاغِبُ: القَطْعُ قد يكونُ مُدْرَكًا بالبَصَرِ، كقَطْعِ اللَّحْمِ ونحوِه، وقد يكونُ مُدْرَكًا بالبَصِيرَةِ، كقَطْعِ السَّبِيلِ، وذلك على وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُرَادُ به السَّيْرُ والسُّلُوكُ، والثّانِي يُرَادُ بهِ الغَصْبُ من المارَّةِ والسّالِكِينَ، كقَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} سُمِّيَ قَطْعَ الطّرِيقِ، لأَنَّه يُؤَدِّي إلى انْقِطَاعِ النّاسِ عن الطَّرِيقِ، وسَيَأْتِي.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَ النَّهْرَ قَطْعًا وقُطُوعًا بالضمِّ: عَبَرَهُ: كما في الصّحاح، واقْتَصَرَ علَى الأَخِيرِ من المَصَادِرِ أَو شَقَّهُ وجازَهُ، والفَرْقُ بين العُبُورِ والشَّقِّ: أَنَّ الأَوّلَ يَكُونُ بالسَّفِينَةِ ونَحْوِهَا، وأَمّا الثّانِي فبالسَّبْحِ فيه والعَّوْمِ.

وِقَطَعَ فُلانًا بالقَطِيعِ، كأَمِيرٍ ـ السَّوْطِ أَو القَضِيبِ، كَمَا سَيَأْتِي ـ: ضَرَبَهُ به، حَكاهُ الفَارِسيُّ قالَ: كما يُقَالُ: سُطْتُه بالسَّوْطِ.

وِمن المَجَازِ: قَطَعَ خَصْمَهُ بالحُجَّةِ، وفي الأَساسِ بالمُحَاجَّةِ: غَلَبَه وبَكَّتَه فَلَمْ يُجِبْ، كَأَقْطَعَهُ ويُقَالُ: أَقْطَعَ الرَّجُلُ أَيْضًا، إِذا بَكَّتُوه، كما سَيَأْتِي.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَ لِسَانَهُ قَطْعًا: أَسْكَتَه بإِحْسانِه إِلَيْهِ، ومنه‌الحَدِيثُ: «اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَه» قالَهُ للسّائِلِ. أَي: أَرْضُوهُ حَتَّى يَسْكُتَ. وقالَ أَيْضًا لِبِلالٍ: «اقْطَعْ لِسَانَه» أَي العَبّاسِ بنِ مِرْداسٍ، فكَسَاهُ حُلَّتَه، وقِيلَ: أَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وأَمَرَ علِيًّا ـ رَضِيَ الله عَنهُ ـ في الكَذّابِ الحِرْمَازِيِّ بمِثْلِ ذلِكَ، وقالَ الخَطّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هذا مِمّنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ المالِ، كَابْنِ السَّبِيلِ. وغَيْره، فتَعَرَّضَ لَهُ بالشِّعْرِ، فأَعْطَاهُ بحَقِّهِ، أَو لحاجَتِه لا لشِعْرِهِ.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَ ماءُ الرَّكِيَّةِ قُطُوعًا، بالضَّمِّ، وقِطَاعًا، بالفَتحِ والكَسْرِ: ذَهَبَ، وقَلَّ، كانْقَطَعَ، وأَقْطَعَ، الأَخِيرُ عن ابنِ الأَعْرَابِيّ.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَت الطَّيْرُ قُطُوعًا، بالضَّمِّ، وقَطَاعًا، بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ عَلَى الفَتْحِ: خَرَجَتْ مِنْ بِلادِ البَرْدِ إِلَى بِلادِ الحَرِّ، فهِيَ قَوَاطِعُ: ذَوَاهِبُ، أَوْ رَوَاجِعُ، كما في الصّحاحِ، قالَ ابنُ السِّكِّيتِ: كان ذلِكَ عِنْدَ قِطَاعِ الطَّيْرِ، وقِطَاعِ الماءِ، وبَعْضُهم يَقُول: قُطُوع الطَّيْرِ، وقُطُوع الماءِ، وقَطَاعُ الطَّيْرِ: أَنْ يَجِي‌ءَ مِنْ بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ، وقَطَاعُ الماءِ: أَنْ يَنْقَطِعَ، وقالَ أَبُو زَيْدٍ: قَطَعَتِ الغِرْبَانُ إِلَيْنَا في الشِّتَاءِ قُطُوعًا، ورَجَعَتْ في الصَّيْفِ رُجُوعًا. والطَّيْرُ الَّتِي تُقِيمُ ببَلَدٍ شِتَاءَهَا وصَيْفَهَا هي: الأَوابِدُ.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَ رَحِمَهُ يَقْطَعُهَا قَطْعًا، بالفَتْحِ وقَطِيعَةً، كسَفِينَةٍ، واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ عَلَى الأَخِيرِ، فهُوَ رَجُلٌ قُطَعٌ، كصُرَدٍ، وهُمَزَةٍ: هَجَرَهَا وعَقَّها ولَمْ يَصِلْهَا، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَةً مِنْ فاسِقٍ فقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا» وذلِكَ أَنَّ الفاسِقَ يُطَلِّقُها، ثُمَّ لا يُبَالِي أَنْ يُضاجِعَها، فيَكُونُ وَلَدُه مِنْهَا لِغَيْر رِشْدَةٍ، فَذلكَ قَطْعُ الرَّحِمِ، وفي حَدِيثِ صِلَةِ الرَّحِمِ: «هذا مَقَامُ العائِذِ بِكَ من القَطِيعَةِ»، فَعِيلَةُ مِنَ القَطْعِ، وهُوَ الصَّدُّ والهِجْرَانُ، ويُرِيدُ به تَرْكَ البِرِّ والإِحْسَانِ إِلَى الأَقَارِبِ والأَهْلِ، وهي ضِدُّ صِلَةِ الرَّحَمِ، وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ [من الله] مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تَقُولُ: [اللهُمَّ] صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، واقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي».

وَبَيْنَهُمَا رَحِمٌ قَطْعاءُ: إِذا لَمْ تُوصَلْ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِمن المَجَازِ: قَطَعَ فُلانٌ بالحَبْلِ، إِذا اخْتَنَقَ بهِ، وفي بَعْضِ النُّسَخِ: وقَطَعَ فُلانٌ الحَبْلَ: اخْتَنَقَ، وهُوَ نَصُّ العَيْنِ بعَيْنهِ، قالَ: ومِنْهُ قولُه تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ} ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ لِيَخْتَنِقْ، لِانَّ المُخْتَنِقَ يَمُدُّ السَّبَبَ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ يَقْطَعُ نَفْسَهُ من الأَرْضِ حَتّى يَخْتَنِقَ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا يَحْتَاجُ إِلى شَرْح يَزِيدُ في إِيضاحِهِ، والمَعْنَى ـ والله أَعْلَمُ ـ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ الله تَعَالَى لا يَنْصُرُ نَبِيَّهُ فَلْيَشُدَّ حَبْلًا في سَقْفِه، وهُوَ السَّمَاءُ، ثُمَّ لِيَمُدَّ الحَبْلَ مَشْدُودًا في عُنُقِه مَدًّا شَدِيدًا يُوَتِّرُهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ، فيَمُوتَ مُخْتَنِقًا، وقالَ الفَرّاءُ: أَرادَ لِيَجْعَلْ في سماءِ بَيْتِه حَبْلًا، ثُمَّ ليَخْتَنِقْ بهِ، فذلِكَ قولُه: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} اخْتِنَاقًا، وفي قِرَاءَةِ عَبْدِ الله: «ثُمّ لِيَقْطَعْهُ» يَعْنِي السَّبَبَ، وهُوَ الحَبْلُ، وقِيلَ: مَعْناه: لِيَمُدَّ الحَبْلَ المَشْدُودَ فِي عُنُقِه حَتّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ، فيَمُوتَ.

وِمِنَ المَجَازِ: قَطَعَ الحَوْضَ قَطْعًا: مَلَأَهُ إِلَى نِصْفِه، ثُمَّ قَطَعَ عنهُ الماءَ، ومِنْهُ قَوْلُ ابنِ مُقْبِلٍ يَذْكُرُ الإِبِلَ:

قَطَعْنا لَهُنَّ الحَوْضَ فَابْتَلَّ شَطْرُهُ *** بشُرْبٍ غِشاشٍ، وهْوَ ظَمْآنُ سائِرُهْ

: أَي باقِيه.

وِمن المَجَازِ: قَطَعَ عُنُقَ دابَّتِه، أَي: باعَهَا. قالَه أَبُو سَعِيدٍ، وأَنْشَدَ لأَعْرابِيٍّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وساقَ إِلَيْها مَهْرَهَا إِبِلًا:

أَقُولُ والعَيْسَاءُ تَمْشِي والفُصُلْ *** فِي جِلَّةٍ مِنْهَا عَرَامِيسٌ عُطُلْ

قَطَّعَتِ الأَحْرَاحُ أَعْنَاقَ الإِبِلْ

وفي العُبَابِ: قَطَعْتُ بالأَحْراحِ» يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ الأَحْرَاحَ بإِبِلِي.

وِقالَ ابنُ عَبّادٍ: قَطَعَنِي الثَّوْبُ: كفَانِي لِتَقْطِيعِي قالَ الأَزْهَرِيُّ: كقَطَّعَنِي، وأَقْطَعَنِي، واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ علَى الأَخِيرِ، يُقَال: هذا ثَوْبٌ يَقْطَعُكَ ويُقْطِعُكَ، ويُقَطَّعُ لَكَ تَقْطِيعًا: يَصْلُحُ لَكَ قَمِيصًا ونَحْوَه، وقالَ الأَصْمَعيُّ: لا أَعْرِفُ هذا، كُلُّه مِنْ كَلامِ المُوَلَّدِينَ، وقالَ أَبُو حاتِمٍ: وقد حَكَاه أَبُو عُبَيْدَةَ عن العَرَبِ.

وِمن المَجَازِ: قَطِعَ الرَّجُلُ، كَفَرِحَ وكَرُمَ، قَطَاعَةً: بُكِّتَ ولَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَلامِ فهو قَطِيعُ القَوْلِ.

وِقَطُعَتْ لِسَانُه: ذَهَبَتْ سَلاطَتُه ومنه امْرَأَةٌ قَطِيعُ الكَلامِ: إِذا لَمْ تَكُن سَلِيطَةً، وهُوَ مَجَازٌ.

وِقَطِعَت اليَدُ، كفَرِحَ، قَطَعًا مُحَرَّكَةً وقَطْعَةً بالفتحِ، وقُطُعًا بالضمِّ: إِذا انْقَطَعَتْ بِدَاءٍ عَرَضَ لها، أَيْ من قِبَلِ نَفْسهِ، حكاهُ اللَّيْثُ.

وِمن المَجازِ: الأُقْطُوعَةُ بالضَّمِّ: شَيْ‌ءٌ تَبْعَثُه الجَارِيَةُ إِلَى أُخْرَى عَلامَةَ أَنّهَا صارَمَتْهَا، وفي بعضِ النُّسَخ «صَرَمَتْها» وفي الصِّحاحِ: عَلامَةٌ تَبْعَثُهَا المَرْأَةُ إِلَى أُخْرَى لِلصَّرِيمَةِ والهِجْرَانِ، وفي التَّهْذِيبِ: تَبْعَثُ بهِ الجارِيَةُ إِلَى صاحِبِها، وأَنْشَدَ:

وِقَالَتْ لِجَارِيَتَيْهَا: اذْهَبَا *** إِلَيْهِ بأُقْطُوعَةٍ إِذْ هَجَرْ

وِما إِنْ هَجَرْتُكِ من جَفْوَةٍ *** وِلكِنْ أَخافُ وشاةَ الحَضَرْ

وِمِنَ المَجَازِ: لَبَنٌ قاطِعٌ: أَي حامِضٌ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِمِنَ المَجَازِ: قُطِعَ بزَيْدٍ، كعُنِيَ، فهُوَ مَقْطُوعٌ به، وكَذلِكَ انْقُطِعَ به، فهُو مُنْقَطَعٌ به ـ كَما في الصِّحاحِ ـ: إِذا عَجَزَ عن سَفَرِه بأَيِّ سَبَبٍ كانَ، كنَفَقَةٍ ذَهَبَتْ، أَو قَامَتْ عَلَيْه راحِلَتُه، وذَهَبَ زادُه ومالُه.

أَو قُطِعَ بِهِ: انْقَطَعَ رجَاؤُه، وحِيل بَيْنَه وبَيْنَ ما يُؤَمِّلُه نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.

وِمن المجازِ: المَقْطُوعُ: شِعْرٌ في آخِرِه وَتِدٌ، فأُسْقِطَ ساكِنُه، وسُكِّنَ مُتَحَرِّكُه، وهذا نَصُّ العُبَابِ، قالَ: وشاهِدُه:

قَدْ أَشْهَدُ الغارَةَ الشَّعْواءَ تَحْمِلُنِي *** جَرْدَاءُ مَعْرُوقَةُ اللَّحْيَيْنِ سُرْحُوبُ

قَالَ: وهُوَ مِنْ مَنْحُولاتِ شِعْرِ امْرِئِ القَيْسِ، وفي اللّسانِ: المَقْطُوعُ من المَدِيدِ، والكامِلِ، والرَّجَزِ: الَّذِي حُذِفَ منه حَرْفَانِ، نَحْو: «فاعِلاتُنْ» ذَهَبَ مِنْه «تُنْ» فصارَ مَحْذُوفًا، فبَقِيَ «فاعِلُنْ» ثُمَّ ذَهَبَ مِنْ «فاعِلُنْ النُّونُ، ثُمَّ أُسْكِنَتِ الَّلامُ، فنُقِلَ فِي التَّقْطِيعِ إِلَى «فَعْلُن» كقولِه في المَدِيدِ:

إِنَّمَا الذَّلْفَاءُ ياقُوتَةٌ *** أُخْرِجَتْ مِنْ كِيسِ دِهْقَانِ

فقَوْلُه: «قانِي» فَعْلُنْ، وكقَولِه في الكامِلِ:

وِإِذا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنَّ فإِنَّهُ *** نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبالا

فقَوْلُه: «نَخَبالا»: فَعِلاتُنْ، وهو مَقْطُوعٌ، وكَقَوْلهِ في الرَّجَز:

القَلْبُ مِنْهَا مُسْتَرِيحٌ سالِمٌ *** وِالقَلْبُ مِنِّي جاهِدٌ مَجْهُودُ

فقوله: «مَجْهُودٌ» مَفْعُولُنْ.

وِمن المَجَازِ: نَاقَةٌ قَطُوعٌ، كصَبُورٍ: إِذا كانَ يُسْرعُ انْقِطَاعُ لَبَنِهَا، نَقَلَه الصّاغَانِي وصاحِبُ اللِّسَانِ.

وِمن المَجَازِ: قُطّاعُ الطَّرِيقِ، كرُمّانِ، وإِنَّمَا لم يَضْبِطْهُ لِشُهْرَتِه: اللُّصُوصُ، والَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، فيَقْطَعُونَ بِهِمْ السَّبِيلَ، كالقُطْعِ بالضَّمِّ، هكَذَا في سائِرِ النُّسَخِ، وهُوَ غَلَطٌ، وصَوَابُه: القُطَّعُ، كسُكَّرٍ.

وِالقَطِعُ ككَتِفٍ: مَنْ يَنْقَطِعُ صَوْتُه، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ، وهُوَ مَجَازٌ.

وِالمِقْطَاعُ، كمِحْرَابٍ: مَنْ لا يَثْبُتُ عَلَى مُؤاخاة أَخٍ، قَالَهُ اللَّيْثُ، وهو مَجَازٌ.

وِمِنَ المَجَازِ: بِئرٌ مِقْطَاعٌ: يَنْقَطِعُ ماؤُهَا سَرِيعًا، نَقَلَه اللَّيْثُ أَيْضًا.

وِمِنَ المَجَازِ: القَطِيعُ كأَمِير: الطّائِفَةُ من الغَنَمِ والنَّعَمِ ونَحْوِ ذلِكَ كَذا نَصُّ العَيْنِ، وفي الصِّحاحِ: من البَقَرِ والغَنَمِ، قالَ اللَّيْثُ: والغالِبُ عَلَيْه أَنَّهُ من عَشْرٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، وقِيلَ: ما بَيْنَ خَمْسَ عَشَرَةَ إِلَى خَمْسٍ وعِشْرِينَ، والأَوَّلُ نَقَلَهُ صاحِبُ التَّوْشِيحِ أَيْضًا ج: الأَقْطَاعُ، كشَرِيفٍ وأَشْرَافٍ، وقَدْ قالُوا: القُطْعَانُ، بالضَّمِّ، كجَرِيبٍ وجُرْبانٍ، نَقَلَهُمَا الجَوْهَرِيُّ والقِطَاعُ، بالكَسْر، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ وصاحِبُ اللِّسَان، وزادَ الأَخِيرُ: وأَقْطِعَةٌ، وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الأَقاطِيعُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كأَنَّهُمْ جَمَعُوا إِقْطِيعًا، وفي اللِّسَان: قالَ سِيبَوَيْه: وهُوَ مِمّا جُمِعَ عَلَى غَيْرٍ بِنَاءِ واحِدِه، ونَظِيرُه عِنْدَهُم: حَدِيثٌ، وأَحادِيثُ، وأَنْشَدَ الصّاغَانِيُّ لِلنّابِغَةِ الذَّبْيَانِيِّ:

ظَلَّتْ أَقاطِيعُ أَنْعَامٍ مُؤَبَّلَةٍ *** لَدَى صَلِيبٍ عَلَى الزَّوْراءِ مَنْصُوبِ

وِالقَطِيعُ: السَّوْطُ يُقْطَعُ مِن جِلْدِ سَيْرٍ ويُعْمَلُ منه، وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ من القَطِيعِ الَّذِي هُوَ المَقْطُوعُ مِنَ الشَّجَرِ، وقالَ اللَّيْثُ: هُوَ المُنْقَطِعُ طَرَفُهُ، وعَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بالقَطِيعِ، قال الأَعْشَى يَصِفُ نَاقَةً:

تَرَى عَيْنَهَا صَغْوَاءَ في جَنْبِ مُوقِها *** تُراقِبُ كَفِّي والقَطِيعَ المُحَرَّمَا

قال ابنُ بِرِّيٍّ: السَّوْطُ المُحَرَّمُ: الذِي لم يُلَيَّنْ بَعْدُ، وقال الأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَ السَّوْطُ قَطِيعًا لأَنَّهُم يَأْخُذُونَ القِدَّ المُحَرَّمَ، فيَقْطَعُونَه أَرْبَعَةَ سُيُورٍ، ثم يَفْتِلُونَه، ويَلْوُونَه، ويَتْرُكُونَه حَتَّى يَيْبَسَ، فيَقُومَ قِيامًا، كأَنَّه عَصًا، ثم سُمِّيَ قَطِيعًا لِانَّه يُقْطَعُ أَرْبَعَ طَاقاتٍ ثُمَّ يُلْوَى.

وِالقَطِيعُ: النَّظِيرُ والمِثْلُ، يُقَالُ: فلانٌ قَطِيعُ فلانٍ، أَيْ شِبْهُه فِي قَدِّهِ وخَلْقِه، ج: قُطَعاءُ، هكذا في النُّسَخِ، ومِثْلُه في العُبَابِ، وفِي اللِّسَانِ: أَقْطِعاءُ، كنَصِيبٍ وأَنْصِبَاءَ، وفِي العُبَابِ: القَطِيعُ: شِبْهُ النَّظِيرِ، تَقُولُ: هذا قَطِيعٌ من الثِّيابِ لِلَّذِي قُطِعَ منه.

وِالقَطِيعُ: القَضِيبُ تُبْرَى مِنْه السِّهَامُ، وفي العَيْنِ: الَّذِي يُقْطَعُ لِبَرْيِ السِّهَامِ، ج: قُطْعانٌ بالضمِّ، وأَقْطِعَةٌ، وقِطَاعٌ بالكَسْرِ، وأَقْطُعٌ كأَفْلُسٍ وأَقَاطِعُ، وقُطُعٌ بضَمَّتَيْنِ، الأَخِيرَةُ إِنَّمَا ذَكَرَها صاحِبُ اللِّسَانِ في القَطِيعِ بمَعْنَى ما تَقَطَّعَ من الشَّجَرِ، كما سَيَأْتِي، واقْتَصَرَ اللَّيْثُ على الأُولَى والرّابِعَةِ، وما عَدَاهُمَا ذَكَرَهُنَّ الصّاغَانِيُّ، وأَنْشَدَ اللَّيْثَّ لأَبِي ذُؤَيْبٍ:

وِنَمِيمَةٌ من قانِصٍ مُتَلَبِّبٍ *** في كَفِّهِ جَشْ‌ءٌ أَجَشُّ وأَقْطُعُ

قالَ: أَرادَ السِّهَامَ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا غَلَطٌ. قُلْتُ: أَيْ أَنَّ الصّوابَ أَنَّ الأَقْطُعَ ـ في قَوْلِ الهُذَلِيِّ ـ جَمْعُ قِطْعٍ، بالكَسْرِ، وقد أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ أَيْضًا عند ذِكْرِه القِطْعَ، وهكَذا هو في شَرْحِ الدِّيوانِ، وشاهِدُ القِطَاعِ قَوْلُ أَبِي خِراشِ:

مُنِيبًا وقَدْ أَمْسَى تَقَدَّمَ وِرْدَها *** أُقَيْدِرُ مَسْمُومُ القِطاعِ نَذِيلُ

وِالقَطِيعُ: ما تَقَطَّعَ مِنَ الأَغْصَانِ*، جَمْعُه أَقْطِعَةٌ، وقُطُعٌ وقُطُعاتٌ، بضَمَّتَيْنِ فيهما، وأَقاطِيعُ كأَحَادِيثَ كالقِطْعِ بِالكَسْرِ وجَمْعُه أَقْطَاعٌ، قالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

عَفَتْ غَيْرَ نُؤْيِ الدّارِ ما إِنْ تُبِينُه *** وِأَقْطَاعِ طُفْيٍ قد عَفَتْ في المَعَاقِلِ

وِمِن المَجَازِ: القَطِيعُ: الكَثِيرُ الاخْتِرَاقِ والرُّكُوبِ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.

وِقال اللَّيْثُ: قولُ العَرَبِ: هو قَطِيعُ القِيَامِ، أَي: مُنْقَطِعٌ، مَقْطُوعُ القِيَامِ إِنّمَا يَصِفُ ضَعْفًا أَو سِمَنًا وأَنْشَدَ:

رَخِيمُ الكَلامِ قَطِيعُ القِيَا *** مِ أَمْسَى فُؤادِي بِهَا فاتِنَا

وهو مَجَازٌ.

وِمن المَجَاز: امْرَأَةٌ قَطِيعُ الكَلامِ: إِذا كانت غَيْرَ سَلِيطَة. وقد قَطُعَتْ، ككَرُمَ.

وِمن المَجَازِ: هو قَطِيعُه: شَبِيهُهُ في خُلُقِه وقَدِّهِ والجَمْعُ قُطَاءُ، وقَدْ تَقَدَّم.

وِمن المَجَازِ: القَطِيعَةُ كشَرِيفَةٍ: الهِجْرَانُ، والصَّدُّ، كالقَطْعِ: ضِدّ الوَصْلِ، ويُرادُ به تَرْكُ البِرِّ والإِحْسَانِ إِلَى الأَهْلِ والأَقَارِبِ، كما تَقَدَّمَ.

وِالقَطِيعَةُ: مَحَالُّ بِبَغْدَادَ؛ أَي في أَطْرافِها أَقْطَعَها المَنْصُورُ العَبّاسِيُّ أُناسًا مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَتِهِ، وفي مُخْتَصَرِ نُزْهَةِ المُشْتَاقِ للشَّرِيفِ الإِدْرِيسِيِّ: أَقْطَعَها خَدَمَه ومَوالِيَهُ ليَعْمُرُوهَا ويَسْكُنُوهَا، وهِيَ: قَطِيعَةُ إِسْحَاقَ الأَزْرَق، قُرْبَ بابِ الكَرْخِ.

وِقَطِيعةُ أُمِّ جَعْفَرٍ، وهي زُبَيْدَة بِنْت جَعْفَرِ بنِ المَنْصُورِ العَبّاسِيَّة عندَ بابِ التِّينِ ومِنْهَا: إِسْحَاقُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ المُحَدِّثُ.

وِقَطِيعَةُ بَنِي جِدَارٍ، بالكَسْرِ: اسمُ بَطْنٍ مِنَ الخَزْرَجِ، وقَدْ يُنْسَبُ إِلَى هذِهِ القَطِيعَةِ: جِدَارِيٌّ أَيْضًا.

وِقَطِيعَةُ الدَّقِيقِ، ومِنْهَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ حَمْدَانَ المُحَدِّثُ.

وِقَطِيعَتَا الرَّبِيعِ بنِ يُونُسَ، الخَارِجَةُ والدّاخِلَةُ. وفي العُبَابِ: قَطِيعَةُ الرَّبِيعِ، وهي أَشْهَرُها. قُلْتُ: فيحْتَمِلُ أَنَّهَا الدَّاخِلَةُ والخَارِجَةُ، ومِنْهَا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ يَعْمُرَ المُحَدِّثُ.

وِفَطِيعَةُ رَيْسَانَةَ قُرْبَ بابِ الشَّعِيرِ.

وِقَطِيعَةُ زُهَيْرٍ، قُرْبَ الحَرِيمِ.

وِقَطِيعَةُ العَجَمِ، مُحَرَّكَةُ، وفي بَعْضِ النُّسَخِ بضَمِّ العَيْنِ: بينَ بابِ الحَلْبَةِ وبابِ الأَزَجِ، مِنْهَا أَحْمَدُ بنُ عُمَرَ، وابْنُه مُحَمَّدٌ: الحافِظَانِ.

وِقَطِيعَةُ العَكِّيِّ وفِي بَعْضِ النُّسَخِ العَلِيّ، والأَوَّلُ الصّوابُ، وهِيَ بَيْنَ بابِ البَصْرَةِ وبابِ الكُوفَةِ.

وِقَطِيعَةُ عِيسَى بنِ عَلِيِّ بن عَبْدِ الله بنِ عَبّاسٍ عَمِّ المَنْصُورِ، ومِنْهَا إِبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الهَيْثَمِ.

وِقَطِيعَةُ أَبِي النَّجْمِ: بالجَانِبِ الغَرْبِيِّ، مُتَّصِلَةٌ بقَطِيعَةِ زُهَيْرٍ. وقَطِيعَةُ النَّصَارَى: مُتَّصِلَةٌ بنَهْرِ طّابَقِ، فجُمْلَةُ ما ذُكِرَ أَرْبَعَةَ عَشَر مَحَلًّا، وقد ساقَهُنَّ ياقُوتُ هكذا في كِتابه «المُشْتَرَكِ وَضْعًا».

وِمن المَجَاز: هذا مَقْطَعُ الرَّمْلِ، كمَقْعَدِ ومُنْقَطَعُه: حَيْثُ يَنْقَطِعُ ولا رَمْلَ خَلْفَه، وكَذلِكَ من الوَادِي والحَرَّةِ، وما أَشْبَهَها ج: مَقَاطِعُ.

وِمَقَاطِعُ الأَوْدِيَةِ: مَآخِيرُها حَيْثُ تَنْقَطِعُ، وفي بَعْضِ نُسَخِ الصِّحاحِ: ومَقَاطِيعُ الأَوْدِيَةِ.

وِالمَقَاطِعُ من الأَنْهَارِ: حَيْثُ يُعْبَرُ فيهِ مِنْهَا، وهِيَ المَعَابِرُ.

وِمن المَجَازِ: المَقَاطِعُ من القُرْآنِ: مَوَاضِعُ الوُقُوفِ، ومَبَادِيه: موَاضِعُ الابْتِداءِ، يُقَال: هو يَعْرِفُ مَقَاطِعَ القُرْآنِ، أَي: وُقُوفَهُ.

وِالمَقْطَعُ، كمَقْعَدٍ: مَوْضِعُ القَطْع، كالقُطْعَةِ، بالضَّمِّ وهو مَوْضِعُ القَطْعِ من يَدِ السّارِقِ، ويُحَرَّكُ كالصُّلْعَةِ والصَّلْعَةِ: ومنه الحَدِيثُ: «أَنَّ سارِقًا سَرَق، فقُطِعَ، فكانَ يَسْرِقُ بقَطَعَتِه» يُرْوَى بالوَجْهَيْنِ.

وِمَقْطَعُ الحَقِّ: مَوْضِعُ الْتِقاءِ الحُكْمِ فيهِ، وهو مَجَازٌ.

وِمَقْطَعُ الحَقِّ أَيْضًا: ما يُقْطَعُ به البَاطِلُ، ولو قالَ: «وأَيْضًا: ما يُقْطَعُ به الباطِلُ» لكَانَ أَخْصَرَ، وقِيلَ: هُوَ حَيْثُ يُفْصَلُ بَيْنَ الخُصُومِ بنَصِّ الحُكْمِ، قال زُهَيْرُ بنُ أَبِي سُلْمَى:

فإِنَّ الحَقَّ مَقْطَعُه ثَلاثٌ: *** يَمِينٌ، أَو نِفَارٌ، أَو جَلاءُ

وِالمِقْطَعُ، كمِنْبَرٍ: ما يُقْطَعُ بهِ الشّيْ‌ءُ كالسِّكِّينِ وغَيْرِه.

وِالقِطْعُ بالكَسْرِ: نَصْلٌ صِغِيرٌ كما في العُبَابِ، وفي الصِّحاحِ واللِّسَانِ: قَصِير عَرِيض السَّهْمِ، وقالَ الأَصْمَعِيُ: القِطْعُ من النِّصّالِ: القَصِيرُ العَرِيضُ، وكَذلِك قالَ غيرُه، سَواءٌ كان النَّصْلُ مُرَكَّبًا في السَّهْمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُركَّبًا، سُمِّيَ به لأَنَّهُ مَقْطُوعٌ من الحَدِيدِ، كذا في التَّهْذِيبِ ج: أَقْطُعٌ كأَفْلُسِ، وأَقْطَاعٌ، وقِطَاعٌ، بالكَسْرِ، قالَ بَعْضُ الأَغْفَالِ يَصِفُ دِرْعًا:

لَهَا عُكَنٌ تَرُدُّ النَّبْلَ خُنْسًا *** وِتَهْزَأُ بالمَعَابِلِ والقِطَاعِ

وقد مَرَّ شاهِدُ أَقْطعٍ من قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وهكَذا أَنْشَدَهُ الجَوْهَرِيُّ هُنَا، والأَزْهَرِيُّ، وصَرَّحَ به شارِحُ الدِّيوانِ.

وِمن المَجَازِ: القِطْعُ: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، ومنه قَوْلُه تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}. قالَ الأَخْفَشُ: بسَوادٍ مِنَ اللَّيْلِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ:

افْتَحِي البابَ فانْظُرِي في النُّجُومِ *** كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطْعِ لَيْلٍ بَهِيمِ

أَو القِطْعَةُ منه يُقَال: مَضَى مِن اللَّيْلِ قِطْعٌ، أَي: قِطْعَةٌ صالِحَةٌ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ كالقِطَعِ، كعِنَبٍ وبِهِمَا قُرِئَ قولُه تَعَالَى: {قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} وقَرَأَ نُبَيْجٌ، وأَبُو واقِدِ، والجَرّاحُ ـ في سُورَتَيْ هُودِ والحِجْرِ ـ: «بقِطَعٍ» بكَسْرٍ ففَتْحٍ، قالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ قَرَأَ «قِطْعًا» جَعَلَ المُظْلِمَ مِنْ نَعْتِهِ، ومَنْ قَرَأَ «قِطَعًا» جَعَلَ المُظْلِمَ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ، وهُوَ الَّذِي يَقُولُ له البَصْرِيُّونَ: الحَالُ، أَو القِطَعُ: جَمْع قطْعَةٍ، وهي الطّائِفَةُ من الشَّيْ‌ءِ ومنه‌الحَدِيثُ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ» أَرادَ فِتْنَةً مُظْلِمَةً سَوْدَاءَ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِها، أَو القِطْعُ والقِطَعُ: طَائِفَةٌ من اللَّيْلِ تَكُونُ مِن أَوَّلِه إِلَى ثُلُثِهِ. وقِيلَ للفَزارِيِّ: ما القِطْعُ مِنَ اللّيْلِ؟ فقالَ: حُزْمَةٌ تَهُورُهَا، أَي: قِطْعَةٌ تَحْزُرهَا، ولا تَدْرِي كَمْ هِيَ.

وِالقِطْعُ: الرَّدِي‌ءُ من السِّهَامِ يُعْمَلُ مِنَ القِطْعِ أَو القَطِيعِ اللَّذَيْنِ هُمَا المَقْطُوعُ من الشَّجَرِ، وقِيلَ: هو السَّهْمُ العَرِيضُ، والجَمْعُ: أَقْطُعٌ وقُطُوعٌ.

وِالقِطْعُ: البِسَاطُ أَو النُّمْرُقَةُ، ومنه حَدِيثُ ابنِ الزُّبَيْرِ والجِنِّيِّ: «فجَاءَ وَهُوَ عَلَى القِطْعِ، فنَفَضَهُ» وقالَ الأَعْشَى:

هِيَ الصّاحِبُ الأَوْفَى وبَيْنِي وبَيْنَها *** مَجُوفٌ غِلافِيٌّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ

أَوْ هُوَ طِنْفِسَةٌ يَجْعَلُها الرّاكِبُ تَحْتَه وتُغَطِّي، وفي بَعْضِ نُسَخِ الصِّحاحِ: تُغَطِّي، بغيرِ واو كَتِفَي البَعِيرِ، ج: قُطُوعٌ، وأَقْطَاعٌ وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للأَعْشَى:

أَتَتْكَ العِيسُ تَنْفُخُ فِي بُرَاهَا *** تَكَشَّفُ عن مَنَاكِبِهَا القُطُوعُ

قالَ ابنُ بَرِّيّ: الشِّعْرُ لعَبْدِ الرَّحْمن بنِ الحَكَمِ بنِ أَبِي العاصِ يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ، ويُقَالُ: لزِيَادٍ الأَعْجَم. قلتُ: ومالَ الصّاغَانِيُّ إِلى الأَوَّل، وقد تَقَدَّمَتْ قِصَّتُه في «ص ن ع» فراجِعْه.

وِثَوْبٌ قِطْعٌ بالكَسْرِ، وأَقْطاعٌ عن اللِّحْيَانِيِّ، كأَنَّهُم جَعَلُوا كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ قِطْعًا، أَي: مَقْطُوعٌ، وكَذلِكَ حَبْلٌ أَقْطَاعٌ، أَي: مَقْطُوعٌ.

وِمن المَجَازِ: القُطْعُ، بالضَّمِّ: البُهْرُ يَأْخُذُ الفَرَسَ وغَيْرَه، ويُقَالُ: أَصابَهُ قُطْعٌ أَو بُهْرٌ، وهُوَ: النَّفَسُ العالِي مِنَ السِّمَنِ وغَيْرِه.

وِقالَ ابنُ الاثِيرِ: القُطْعُ: انْقِطَاعُ النَّفَسِ وضِيقُه، ومنه حَدِيثُ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ أَصابَه قُطْعٌ أَو بُهْرٌ، فكان يُطْبَخُ لهُ فِي الحَسَاءِ فيَأْكُلُه» يُقَالُ منه: قُطِعَ كُعِنيَ، فهُوَ مَقْطُوعٌ.

وِالقُطْعُ، بالضَّمِّ: جَمْعُ الأَقْطَعِ للمَقْطُوعِ اليَدِ، كأَسْوَدَ وسُودٍ.

وِالقُطْعُ أَيضًا: جَمْعُ القَطِيعِ كأَمِيرٍ للمَقْطُوعِ، فَعِيلٌ بمَعْنَى مَفْعُولٍ.

وِمن المَجَازِ: أَصابَهُم قُطْعٌ وقُطْعَةٌ بضَمِّهِمَا، أَو تُكْسَرُ الأُولَى أَيضًا عن ابنِ دُرَيْدٍ، وأَبَى الأَصْمَعِيُّ إِلّا الضَّمَّ: إِذا انْقَطَعَ ماءُ بِئْرِهِمْ في القَيْظِ كَما في الصِّحاح، وفي الحَدِيثِ: «كانَ يَهُودُ قَوْمًا لَهُم ثِمَارٌ لا تُصِيبُها قُطْعَةٌ» يعنِي عَطَشًا بانْقِطَاعِ الماءِ عنها، ويُقَالُ للقَوْمِ إِذا جَفَّتْ مِياهُهُم [أصابتهم] قُطْعَةٌ مُنْكَرَةٌ.

وِالقِطْعَةُ بالكسْرِ: الطّائِفَةُ من الشّيْ‌ءِ كاللَّيلِ وغيرِه، وهو مَجَاز.

وِقِطْعَةُ بلا لام مَعْرِفَةً: الأُنْثَى من القَطَا.

وِالقُطْعَةُ بالضَّمِّ: بَقِيَّةُ يَدِ الأَقْطَعِ، ويُحَرَّكُ وقد تَقَدَّمَ ذلِكَ للمُصَنِّفِ، وكأَنَّهُ عُمَّ به أَوّلًا، ثم خُصِّصَ بيَدِ الأَقْطَعِ.

وِالقِطْعَةُ: طائِفَةٌ تُقْطَعُ من الشَّيْ‌ءِ قال ابنُ السِّكِّيتِ: ما كانَ منَ شَيْ‌ءٍ قُطِعَ مِنْ شَيْ‌ءٍ، فإِنْ كَانَ المَقْطُوعُ قَدْ يَبْقَى منه الشَّيْ‌ءُ ويُقْطَعُ قُلْتَ: أَعْطِنِي قِطْعَةً، ومِثْلُه الخِرْقَةُ، وإِذا أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ الشَّيْ‌ءَ بأَسْرِه حَتّى تُسَمِّيَ بهِ قُلْتَ: أَعْطِنِي قُطْعَةً، وأَمّا المَرَّةُ من الفِعْلِ فبالفَتْحِ: قَطَعْتُ قَطْعَةً كالقُطَاعَةِ بالضّمِّ، أَو هذِه مُخْتَصَّةٌ بالأَدِيمِ.

وِالقُطْعَةُ والقُطَاعَةُ: الحُوّارَى، وما قُطِعَ من نُخَالَتِهِ وقالَ اللِّحْيَانِيُّ: قَطْعُ النُّخَالَةِ من الحُوّارَى: فَصْلُهَا منه.

وِالقُطْعَةُ: الطّائِفَةُ من الأَرْضِ إِذا كانَتْ مَفْرُوزَةً، قالَ الفَرّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ العَرَبِ يَقُول: «غَلَبَنِي فُلانٌ عَلَى قُطْعَةٍ من الأَرْضِ» يريدُ أَرْضًا مَفْرُوزَةً، قالَ: فإِن أَرَدْتَ بِها قِطْعَةً من شَيْ‌ءٍ قُطِعَ مِنْهُ، قُلْتَ: قِطْعَةً، وحَكَى عن أَعْرَابِيٍّ أَنَّه قالَ: وَرِثْتُ من أَبِي قُطْعَةً.

وِالقُطْعَةُ أَيْضًا: لُثْغَةٌ فِي بَنِي طَيِّئٍ، كالعَنْعَنَةِ في تَمِيمٍ عن أَبِي تُرَابٍ، وهُوَ وفي العُبَابِ: وهي أَنْ يَقولَ: يا أَبا الحَكَا، يُرِيدُ: أَبا الحَكَمِ فيَقْطَع كَلامَهُ، وهو مَجَازٌ.

وِبَنُو قُطْعَةَ بالضمِّ: حَيٌّ مِنَ العَرَبِ، والنِّسْبَةُ إِلَيْهِ: قُطْعِيٌّ بالسُّكُونِ، قالَهُ ابنُ دُرَيْدٍ.

وِكُجَهْيَنَةَ، قُطَيْعَةُ بنُ عَبْسِ بنِ بَغِيضِ بنِ رَيْثِ بنِ غَطَفَانَ: أَبُو حَيٍّ والنِّسْبَةُ إِلَيْهِ قُطَعِيٌّ، كجُهَنِيٍّ، ومنهم حَزْمٌ وسَهْلٌ ابنا أَبِي حَزْمٍ، وأَخُوهُم عَبْدُ الواحِدِ، وابنُ أَخِيهِم مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى القُطَعِيُّونَ: مُحَدِّثُون.

وِقُطَيْعَةُ: لَقَبُ عَمْرِو بنِ عُبَيْدَةَ بنِ الحارِثِ بنِ سامَةَ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ، وبَنُو سامَةَ في «س وم» نَقَلَهُ ابنُ الجَوّانِيِّ، كما سَيَأْتِي في الميمِ، إِنْ شاءَ الله تَعالَى.

وِقُطَعاتُ الشَّجَر، كهُمَزَةٍ، وبالتَّحْرِيكِ، وبِضَمَّتَيْنِ: أَطْرَافُ أُبَنِها الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا إِذا قُطِعَتْ الواحِدُ قَطَعَةٌ، مُحَرَّكَةً، وكهُمَزَةٍ، وبِضَمَّتَيْنِ.

وِالقُطاعَةُ، بالضَّمِّ: اللُّقْمَةُ عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ. وما سَقَطَ من القَطْعِ، كالبُرَايَةِ والنُّحَاتَةِ وأَمْثَالِهِمَا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


35-تاج العروس (حلف)

[حلف]: حَلَفَ، يَحْلِفُ، مِن حَدِّ ضَرَبَ، حَلْفًا، بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، وَهما لُغَتَانِ صَحِيحَتانِ، اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ عَلَى الأَولَى، وحَلِفًا، ككَتِفٍ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، ومَحْلُوفًا قال الجَوْهَرِيُّ: وهو أَحَدُ ما جَاءَ مِن المَصَادرِ علَى مَفْعُولٍ، مِثْلِ: المَجْلُودِ والمَعْقُولِ، والمعْسُورِ، ومَحْلُوفَةً، نَقَلَهُ اللَّيْثُ.

وقال ابنُ بُزُرْجَ: يقال: لا ومَحْلُوفَائِهِ: لا أَفْعَلُ، بِالْمَدِّ، يُرِيدُ: ومَحْلُوفِه، فمَدَّهَا.

وقال اللَّيْثُ: يقولونَ: مَحْلُوفَةً بِالله ما قالَ ذلك، ينْصِبُونَ علَى الإضْمَارِ، أي: أَحْلِفُ مَحْلُوفَةً، أي: قَسَمًا، فالمُحْلُوفَةُ: هي القَسَمُ.

والأُحْلُوفَةُ: أُفْعُولَةٌ مِن الحَلِفِ وقال اللِّحْيَاني: حَلَفَ أُحْلُوفَةً.

والْحِلْفُ، بِالْكَسْرِ: الْعَهْدُ يكونُ بَيْنَ الْقَوْمِ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، قال ابنُ سِيدَه، لأَنَّه لا يُعْقَدُ إِلا بالحَلِفِ والحِلْفُ: الصَّدَاقَةُ، وأَيضا: الصَّدِيقُ، سُمِّيَ به لأَنَّه يَحْلِفُ لِصَاحِبِهِ أَنْ لا يَغْدِرَ بِهِ، يُقَال: هو حِلْفُهُ، ـ كما يُقَالُ: حَلِيفُهُ ـ ج: أَحْلَافٌ، قال ابنُ الأَثِيرِ: الحِلْفُ في الأَصلِ: المعَاقَدَةُ، والمُعَاهَدَةُ علَى التَّعَاضُدِ والتَّسَاعُدِ وَالاتَّفَاقِ، فما كان منه في الجَاهِلِيَّةِ على الفِتَنِ والقتالِ وَالغَارَاتِ، فذلك الذي وَرَدَ النَّهْيُّ عنه في الإِسلامِ بِقَولِهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم «لا حِلْفَ في الإِسلَامِ»، وما كان منه في الجَاهِليَّةِ على نَصرِ المَظلُومِ وصِلَةِ الأَرحَامِ، كحِلْفِ المُطَيِّبِينَ وما جَرَى مَجرَاهُ، ذلك الذي قالَ فيه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «وأَيُّمَا حِلفٍ كَان في الجَاهِلِيَّةِ لم يَزِدهُ الإسلامُ إِلَّا شِدَّةً»، يُرِيدُ مِن المُعَاقَدَةِ علَى الخيرِ، ونُصرةِ الحَقِّ، وبذلك يَجْتَمِعُ الحَدِيثَان، وهذا هو الحِلْفُ الذي يقْتَضِيه الإِسْلامُ، وَالمَمْنُوعُ منه ما خَالَفَ حُكْمَ الإِسْلامِ.

قال الجَوْهَرِيُّ: والأَحْلَافُ الذين في قَوْلِ زُهَيْرِ بن أَبي سُلْمَى، وهو:

تدَارَكْتُمَا الأَحْلافَ قد ثُلَّ عَرْشُهَا *** وَذُبْيَانَ قد زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ

هم: أَسَدٌ، وغَطَفَانُ، لأَنَّهُمْ تَحالَفُوا وفي الصِّحاح: حَلَفُوا علَى التَّنَاصُرِ، وَكذا في قَوْلِهِ أَيضا أَنْشَدَهُ ابنُ بَرِّيّ:

أَلَا أَبْلِغِ الأَحْلَافَ عَنِّي رِسَالَةً *** وَذُبْيَانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُ كُلَّ مَقْسَمِ

والأَحْلافُ أَيضًا: قَوْمٌ مِن ثَقِيفٍ، لأَنَّ ثَقِيفًا فِرْقَتَانِ: بنو مالِكٍ، والأَحْلافُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، والأَحْلَافُ في قُرَيْشٍ: سِتُّ قبَائِلَ، وهم: عبدُ الدَّارِ، وكَعْبٌ، وجُمَحُ، وَسَهْمٌ، ومَخْزُومٌ، وعَدِيٌّ، وَقَال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: خَمْسُ قَبَائِلَ، فأَسْقَطَ كَعْبًا، سُمُّوا بذلك لأَنَّهُم لَمَّا أَرَادَتْ بَنُو عبدِ مَنَافٍ أَخْذَ مَا في أَيْدِي بَنِي عَبدِ الدَّارِ مِن الْحِجَابَةِ، وَالرِّفَادَةِ، وَاللِّوَاءِ، والسِّقَايَةِ، وأَبَت بَنُو عبدِ الدَّارِ، عَقَدَ كُلُّ قَوْمٍ علَى أَمْرِهِمْ حِلْفًا مُؤَكَّدًا علَى أَنْ لا يَتَخَاذَلُوا، فَأَخْرَجَتْ عبدُ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا، فَوَضَعَتْهَا لأَحْلَافِهِمْ، وهم أَسَدٌ، وَزُهْرَةُ، وتَيْمٌ في المَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا، وتَعَاقَدُوا ثم مَسَحُوا الكَعْبَةَ بأَيْدِيهم تَوْكِيدًا، فسُمُّوا المُطَيَّبِينَ، وتَعَاقَدَتْ بَنُو عبدِ الدَّارِ وحُلَفَاؤُهُمْ حِلْفًا آخَرَ مُؤَكَّدًا علَى أَن لا يَتَخَاذَلُوا، فَسُمُّوا الأَحْلَافَ، وَقال الكُمَيْتُ يَذْكُرُهم:

نَسَبًا في الْمُطَيَّبِينَ وفي الأَحْ *** لَافِ حَلَّ الذُّؤابَةَ الْجُمْهُورَا

وقيلَ لِعُمَرَ رضي ‌الله‌ عنه: أَحْلَافيٌّ لأَنَّهُ عَدَوِيٌّ، قال ابنُ الأَثِيرِ: وهذا أَحَدُ ما جَاءَ مِن النَّسَبِ لا يُجْمَعُ، لأَنَّ الأَحْلافَ صَار اسْمًا لهم، كما صَار الأَنْصَارُ اسْمًا للأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وكانَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم وأَبو بَكْرٍ رضي ‌الله‌ عنه مِن المُطَيَّبِينَ. والحَلِيفُ، كأَمِيرٍ: الْمُحَالِفُ، كما في الصِّحاحِ، كالْعَهِيدِ، بِمَعْنَى المُعَاهِدِ، وهُو مَجَازٌ، قال أَبو ذُؤَيْبٍ:

فَسَوْفَ تَقُولُ إِنْ هِيَ لم تَجِدْنِي *** أَخَانَ الْعَهْدَ أَم أَثِمَ الْحَلِيفُ

وَقال الكُمَيْتُ:

تَلْقَى النَّدَى ومَحْلَفًا حَلِيفَيْنْ *** كَانَا مَعًا في مَهْدِهِ رَضِيعَيْنْ

وَقال اللَّيْثُ: يُقَال: حَالَفَ فُلانٌ فُلانًا، فهو حَلِيفَهُ، وَبينهما حِلْفٌ، لأَنَّهما تحالَفَا بالأَيْمَانِ أَن يكون أَمْرُهما وَاحِدًا بالْوَفَاءِ، فلمَّا لَزِمَ ذلِك عندَهم في الأَحْلَافِ التي في العَشَائِرِ والقَبَائِلِ، صار كلُّ شَيْ‌ءٍ لَزِمَ سَبَبًا فلم يُفَارِقْهُ فهو حَلِيفُهُ، حتى يُقَالَ: فُلانٌ حَلِيفُ الجُودِ، وحَلِيفُ الإِكْثَارِ، وَحَلِيفُ الإِقْلالِ، وأَنْشَدَ قَوْلَ الأَعْشَى:

وَشَرِيكَيْنِ في كَثِيرٍ مِنَ الْمَا *** لِ وكَانَا مُحَالِفَيْ إِقْلَالِ

والْحَلِيفَانِ: بَنُو أَسَدٍ وَطِيِّئٌ كما في الصِّحاحِ والعُبَابِ.

وَقال ابنُ سِيدَهُ: أَسَدٌ وغَطَفَانُ، صِفَةٌ لَازِمَةٌ لهما لُزُومَ الاسْمِ.

قال: وفَزَارَةُ وأَسَدٌ أَيْضًا حَلِيفَانِ؛ لأَنَّ خُزَاعَةَ لَمَّا أَجْلَتْ بني أَسَدٍ عن الحَرَمِ، خَرَجَتْ فَحَالَفَتْ طَيِّئًا، ثم حَالَفَتْ بني فَزَارَةَ.

ومِن المَجَازِ: هو حَسَنُ الوَجْهِ حَلِيفُ اللِّسَانِ، طَوِيلُ الْإِمَّةِ، أي: حَدِيدُهُ، يُوَافِقُ صَاحِبَهُ علَى ما يُرِيدُ لِحِدَّتِهِ، كأَنَّهُ حَلِيفٌ، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وبهذا يُجَابُ عن قَوْلِ الصَّاغَانِيِّ ـ في آخَرِ التَّرْكِيبِ ـ: وقد شَذَّ عنه لِسَانٌ حَلِيفٌ، فتَأَمَّلْ.

وفي حَدِيثِ الحَجَّاجِ، أَنه أُتِيَ بيَزِيدَ بنِ المُهَلَّبِ يَرْسُفُ في حَدِيدِهِ، فأَقْبَلَ يخْطِرُ بيَدَيْهِ، فغَاظَ الحَجَّاجَ، فقَالَ:

جَمِيلُ المُحَيَّا بَخْتَرِيٌّ إِذَا مَشَى

وقد وَلَّى عنه، فالْتَفَتَ إِليه، فقَالَ:

وفي الدِّرْعِ ضَخْمُ المَنْكِبَيْنِ شِنَاقُ

فقَالَ الحَجَّاجُ: قَاتلَهُ الله، مَا أَمْضَى جَنانَهُ، وأَحْلَفَ لِسَانَهُ!: أي أَحَدَّ وأَفْصَحَ.

والْحَلِيفُ في قَوْلِ سَاعِدَةَ بنِ جُؤَيَّةَ الهُذَلِيِّ:

حتَّى إذا مَا تَجَلَّى لَيْلُهَا فَزِعَتْ *** مِنْ فَارِسٍ وحَلِيفِ الْغَرْبِ مُلْتَئِمِ

قِيلَ: سِنَانٌ حَدِيدٌ، أو فَرَسٌ نَشِيطٌ، وَالقَوْلانِ ذَكَرَهما السُّكَّرِيُّ في شَرْحِ الدِّيوان، ونَصُّه: يعني رُمْحًا حَدِيدَ السِّنَانِ، وغَرْبُ كلُّ شَيْ‌ءٍ: حَدُّه، ومُلْتَئِم: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لا يكونُ كَعْبٌ منهُ دَقِيقًا والآخَرُ غَلِيظًا، ويُقَال: حَلِيفُ الغَرْبِ، يَعْنِي فَرَسَهُ، والغَرْبُ: نَشاطُهُ وحِدَّتُه.

انتهى.

قال الصَّاغَانِيُّ: ويُرْوَى: «مُلْتَحِم» وقال الأَزْهَرِيُّ: وَقَوْلُهم: سِنَانٌ حَلِيفٌ: أي حَدِيدٌ، أُراهُ جُعِلَ حَلِيفًا لِأَنَّهُ شبَّه حِدَّةَ طَرَفِه بِحِدَّةِ أَطْرَافِ الحَلْفَاءِ، وهو مَجَازٌ.

والحُلَيْفُ كزُبَيْرٍ: موضع، بِنَجْدٍ وقال ابنُ حَبِيبَ: كُلُّ شَيْ‌ءٍ في العَرَبِ خُلَيْفٌ، بالخَاءِ المَعْجَمَةِ، إِلَّا في خَثْعَم بنِ أَنْمَار حُلَيْفُ بنُ مَازِنِ بن جُشَمَ بنِ حَارِثَةَ بنِ سَعْدِ بنِ عَامِرِ بنِ تَيْمِ الله بنِ مُبَشَّرٍ، فإنَّهُ بالحاءِ المُهْمَلَةِ.

وذُو الْحُلَيْفَةِ: موضع، علَى مِقْدارِ سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِن الْمَدِينَةِ، علَى ساكِنِهَا الصلاةُ والسلامُ، مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، حَرَسَهَا الله، وهُوَ مَاءٌ لِبَنِي جُشَمَ، ومِيقَاتٌ لِلْمَدِينَة والشَّأْم هكذا في النَّسَخِ، والذي في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تعالَى عنهما: «وَقَّتَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم لأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأهْل الشَّامِ الجُحْفَةَ، ولأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، ولأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لَهُنَّ، ولِمَنْ أَتَى عليهِنَّ من غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» الحدِيث، فتَأَمَّلْ.

وذُو الحُلَيْفَةِ، الذي في حَدِيثِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ رَضِيَ الله تعالَى عَنه: «كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ مِن تِهَامَةَ، وأَصَبْنَا نَهْبَ غَنَمٍ» فهو: موضع بَيْنَ حَاذَةَ وذَاتِ عِرْقٍ، نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ.

والحُلَيْفَاتُ: موضع.

وقال ابنُ حَبِيبَ: حَلْفُ، بسُكُونِ اللَّامِ: هو ابنُ أَفْتَلَ، وهو خَثْعَمُ بنُ أَنْمَارٍ.

قال أَبو عُبَيْدٍ القاسمُ بنُ سَلَّامٍ: وأُمُّ حَلْفٍ: عَاتِكَةُ بنتُ رَبِيعَةَ بنِ نِزَارٍ، فوَلَدَ حَلْفٌ عِفْرِسًا، وناهِسًا وشَهْرَانَ، وَرَبِيعَةَ، وطرْدًا.

والْحَلْفَاءُ، والْحَلَفُ، مُحَرَّكَةً، الأَخِيرُ عن الأَخْفَشِ: نَبْتٌ مِن الأَغْلاثِ، قال أَبو حَنِيفةَ: قال أَبو زِيادٍ: وقَلَّما تَنْبُتُ الحَلْفَاءُ إِلَّا قَرِيبًا مِن مَاءٍ أو بَطنِ وَادٍ، وهي سَلِبَةٌ غَلِيظَةُ المَسِّ، لا يكادُ أَحَدٌ يقْبِضُ عَلَيْهَا مَخافَةَ أَن تَقطَعَ يَدَهُ، وقد يأْكُلُ منها الإِبِلُ والغَنَمُ أَكْلًا قَلِيلًا، وهي أَحَبُّ شَجَرَةٍ إِلَى البَقَرِ، الْوَاحِدَةُ منها: حَلِفَةٌ، كفَرِحَةٍ، قَالَهُ الأَصْمَعِيُّ، ونَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقيل: حَلَفَةٌ، مِثالُ خَشَبةٍ، قَالَهُ أَبو زِيادٍ، ونَقَلَهُ أَبو حَنِيفَةَ، وقال سِيبَوَيْه: الحَلْفاءُ: واحِدٌ وجَمْعٌ، وكذلك طَرفاءُ، ونَقَلَهُ أَبو عَمْرٍو أَيضًا هكذا، وَقال الشاعرُ:

يَعْدُو بِمِثْلِ أُسُودِ رَقَّةَ والثَّرَى *** خَرَجَتْ مِن البَرْدِيِّ والحَلْفَاءِ

وَقال أَبو النَّجْمِ:

إِنَّا لَتَعْمَلُ بالصُّفوفِ سُيُوفُنَا *** عَمَلَ الحَرِيقِ بِيَابِسِ الحَلْفاءِ

وَفي حديثِ بَدْرٍ: «أنَّ عُتْبةَ بنَ ربيعَةَ بَرَزَ لعُبَيْدَةَ، فقَالَ: مَن أَنْتَ؟ قال: أَنا الذي في الحَلْفاءِ» أَرادَ: أَنا الأسَدُ، لأَنَّ مَأْوَى الأَسَدِ الآجَامُ ومَنَابِتُ الحَلْفَاءِ. وصَحْراة*.

ووَادٍ حُلَافيٌّ، كغُرَابِيٍّ: يُنْبِتُهُ نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ.

والْحَلْفَاءُ: الْأَمَةُ الصَّخَّابَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ، ج: حُلُفٌ، ككُتُبٍ.

وأَحْلَفَتِ الْحَلْفَاءُ: أَدْرَكَتْ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.

قال: والمُحْلِفُ مِن الغِلْمَانِ: المَشْكُوكُ في احْتِلامِه؛ لأَنَّ ذلِك ربَّمَا عادَ إِلَى الحَلِفِ، وقال اللَّيْثُ: أَحْلَفَ الْغُلَامُ: إِذا جَاوَزَ رِهَاقَ الْحُلُمِ، قال: وقال بعضُهُم: قد أَحْلَفَ، وَنَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيضًا كذا، وزَادَ: فيُشَكُّ في بُلُوغِهِ، قال الأَزْهَرِيُّ: أَحْلَفَ الغلامُ، بهذا المعنَى خطأٌ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَحْلَفَ الغلامُ: إذا رَاهَقَ الحُلمَ، فاخْتَلَفَ النَّاظِرُون إِليه، فقائلٌ يقولُ: قد احْتَلَمَ وأَدْرَكَ، ويَحْلِفُ على ذلِكَ، وقائلٌ يقول: غيرُ مُدْرِكٍ، ويَحْلِفُ علَى ذلك.

وأَحْلَفَ فُلَانًا: حَلَّفَهُ تَحْلِيفًا، قال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ:

قَامَتْ إِلَيَّ فَأَحْلَفْتُهَا *** بِهَدْيٍ قَلَائِدُهُ تَخْتَنِقْ

وقَوْلُهُمْ: حَضَارِ والْوَزْنُ مُحْلِفَانِ، قال الجَوْهَرِيُّ: هُمَا نَجْمَانِ يَطْلُعَانِ قَبْلَ سُهَيْلٍ، أي مِن مَطْلَعِه، كما في المُحْكَمِ، فيَظُنُّ النَّاظِرُ، وَفي الصِّحاح: النّاسُ بِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ سُهَيْلٌ، ويَحْلِفُ أَنَّهُ سُهَيْلٌ، ويَحْلِفُ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ، وفي اللِّسَانِ: وكُلُّ مَا يُشَكُّ فِيهِ فيُتَحَالَفُ عَلَيْهِ فهُوَ مُحْلِفٌ، وَمُحْنِثٌ عندَ العَرَبِ، قال ابنُ سِيدَه: لِأَنَّه دَاعٍ إلى الحَلِفِ، وهو مَجازٌ، ومِنْهُ كُمَيْتٌ مُحْلِفٌ، وَفي الصِّحَاحِ: مُحْلِفَةٌ: أي بَيْنَ الأَحْوَى والأَحَمِّ، حتى يُخْتَلَفَ في كُمْتَتِهِ، وكُمَيْتٌ غيرُ مُحْلِفٍ: إذا كان أَحْوَى خَالِصَ الحُوَّةِ، أو أَحَمَّ بَيِّنَ الحُمَّةِ، ويُقَال: فَرَسٌ مُحْلِفٌ ومُحْلِفَةٌ، وَهو الكُمَيْتُ الْأَحَمُّ والأَحْوَى، لأَنَّهُمَا مُتَدَانِيَان حتى يَشُكَّ فيهما البَصِيرَانِ، فيحْلِفَ هذا أَنَّه كُمَيْتٌ أَحْوَى، ويَحْلِفَ هذا أَنه كُمَيْتٌ أَحَمُّ.

فإِذا عَرَفْتَ ذلك ظهَر لك أنَّ قَوْلَ المُصَنِّفِ: خَالِصُ اللَّوْنِ إِنَّمَا هو تَفْسِيرٌ لغيرِ مُحْلِفٍ، فالصَّوَابُ: غيرُ خالِصِ اللَّوْنِ، ومنه قولُ ابنُ كَلْحَبَةَ اليَرْبُوعِيّ:

كُمَيْتٌ غَيْرُ مُحْلِفَةٍ ولكِنْ *** كَلَوْنِ الصِّرْفِ عُلَّ بِهِ الْأَدِيمُ

يعني أَنَّهَا خَالِصَةُ اللَّوْنِ، لا يُحْلَفُ عليها أَنَّهَا لَيْسَتْ كذلِك، وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: مَعْنَى مُحْلِفَةٍ هنا، أَنَّه فَرَسٌ لا تُحْوِجُ صاحبَها إلى أَن يَحْلِفَ أنه رأَى مِثْلَها كَرَمًا، وَالصحيحُ هو الأَوَّلُ.

وحَلَّفَهُ القاضِي تَحْلِيفًا، واسْتَحْلَفَهُ: بمعنًى واحدٍ، وَكذلك أَحْلَفَهُ، وقد تقدَّم، كأَرْهَبْتُه واسْتَرْهَبْتُه، وقد اسْتَحْلَفَهُ بالله ما فَعَل ذلك، وحَلَّفَهُ، وأَحْلَفَهُ.

ومِن المَجَازِ: حَالَفَهُ على ذلك مُحَالَفَةً وحِلافًا: أي عَاهَدَهُ، وَهو حِلْفُه، وحَلِيفُه.

ومِن المَجَازِ: حَالَفَ فُلانًا بَثُّهُ وحُزْنُهُ: أي لَازَمَهُ.

وَقال أَبو عُبَيْدَةَ: حَالَفَها إِلَى مَوْضِعِ كذا، وخَالَفَهَا، بالحاءِ والخاءِ، أي: لَازَمَهَا، وبه فُسِّرَ قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

وحَالَفَهَا في بيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ

وَقيل: الحاءُ خَطَأٌ، وسيأْتي البَحْثُ فيه في «خ ل ف» إِن شاءَ الله تَعَالَى.

وتَحَالَفُوا: تَعَاهَدُوا، وَهو مَجَازٌ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

المُحَالَفَةُ: المُؤَاخاةُ، ومنه‌الحديثُ: «حَالَفَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ»: أي آخَى، لأَنَّهُ لا حِلْفَ في الإِسْلام.

وَالحَلِيفُ: الحَالِفُ، وجَمْعُهُ: الحُلَفَاءُ، وهو حَلِيفُ السَّهَرِ: إذا لم يَنَمْ، وهو مَجَازٌ.

وَنَاقَةٌ مُحْلِفَةٌ: إذا شُكَّ في سِمَنِهَا حتى يَدْعُوَ ذلك إِلَى الحَلِفِ، وهو مَجَازٌ.

وَرَجلٌ حَالِفٌ، وحَلَّافٌ، وحَلَّافَةٌ: كَثِيرُ الحَلِفِ.

وَحَلَفَ حِلْفَةً فاجِرةً، وحَالَفَهُ علَى كذا، وتَحَالَفُوا عَلَيه، وَاحتَلَفَوا، كلُّ ذلك مِن الحَلِفِ، وهو القَسَمُ.

وَالحَلَافَةُ، بالفَتْحِ: الحِدَّةُ في كلِّ شَيْ‌ءٍ، وكأَنَّهُ أَخُو الحَلْفاءِ، أي: الأَسَد، وأَرْضٌ حَلِفَةٌ، كفَرِحَةٍ، ومُحْلِفَةٌ: كثيرةُ الحَلْفَاءِ، وقال أَبو حَنِيفةَ: أَرْضٌ حَلِفَةٌ: تُنْبِتُ الحَلْفاءَ.

وحَلِيفٌ، كأَمِيرٍ: اسْمٌ.

وَذُو الحُلَيْفِ ـ في قَوْل ابن هَرْمَةَ ـ:

لم يُنْسَ رَكْبُكَ يَوْمَ زَالَ مَطِيُّهُمْ *** مِن ذِي الْحُلَيْفِ فَصَبَّحُوا الْمَسْلُوقَا

ـ: لُغَةٌ في ذِي الحُلَيْفَةِ، الذي ذَكَرَه المُصَنِّفُ، أَو حَذْفُ الهاءِ ضَرُورَةٌ للشّعْرِ.

وَقد تُجْمَعُ الحَلْفَاءُ علَى حَلَافيٍّ، كبَخَاتيٍّ.

وَتَصْغِيرُ الحَلْفَاءِ حُلَيْفِيَة، كما في العُبَابِ.

وَمُنْيَةُ الحَلْفاءِ: قَرْيَةٌ بِمِصْرَ.

وَحُسَيْنُ بنُ مُعَاذِ [بنِ] حُلَيْفٍ، كزُبَيْرٍ: شَيْخٌ لأَبِي دَاوُد.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


36-تاج العروس (جرم)

[جرم]: جَرَمَهُ يَجْرِمُهُ جَرْمًا: قَطَعَهُ.

وجَرَمَ النَّخْلَ يَجْرِمُهُ جَرْمًا، وكَذلِكَ التَّمْرُ، وجَرامًا، بالفتحِ ويُكْسَرُ؛ أَي صَرَمَهُ فهو جارِمٌ.

يقالُ: جاءَ زَمَنُ الجِرَامِ والجَرَامِ: أَي صِرَام النَّخْلِ.

وجَرَمَ النَّخْلَ جَرْمًا: خَرَصَهُ وجَزَّهُ، كاجْتَرَمَهُ، عن اللّحْيانيّ.

وجَرَمَ فلانٌ جَرْمًا: أَذْنَبَ كأَجْرَمَ واجْتَرَمَ فهو مُجْرِمٌ وجَرِيمٌ وجَرَمَ لأَهْلِهِ: كَسَبَ لهم، يقالُ: خَرَجَ يَجْرِمُ لأَهْلِهِ ويَجْرِمُ أَهْلَه: أَي يَطْلُبُ ويَحْتالُ، كاجْتَرَمَ، وهو جارِمُ أَهْلِه: كاسِبُهُم، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ للهَيْرُدانِ أَحدِ لُصوص بنِي سَعْدٍ:

طريدُ عَشِيرةٍ ورهينُ جُرْمٍ *** بما جَرَمَتْ يَدي وجَنَى لِساني

وقد فسِّرَتِ الآيَةُ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} بهذا المعْنَى؛ أَي لا يَكْسِبَنَّك، وقيلَ: لا يَحْمِلَنَّكم.

وجَرَمَ عليهم وإِليهم جَرِيمَةً: جنَى جِنايَةً وقول الشَّاعر أَنْشَدَه ابنُ الأَعْرَابيِّ:

ولا مَعْشَرٌ شُوسُ العُيون كأَنَّهم *** إليَّ ولم أَجْرِمْ بهم طالِبُو ذحْلِ

قالَ: أَرادَ لم أَجْرِم، إليهم أَو عليهم فأَبْدلَ الباءَ مَكان إلى أَو على، كأَجْرَمَ، إِجْرامًا.

يقالُ: هو جارِمٌ على نفْسِه وقوْمِه.

وجَرَمَ الشَّاةَ جَرْمًا: جَزَّها؛ أَي جَزَّ صُوفَها، وقد جَرَمْتُ منه إذا أَخَذْت منه مِثْل جَلَمْتُ، كما في الصِّحاحِ.

والجِرْمَةُ، بالكسْرِ، القَوْمُ الذين يَجْتَرِمونَ النَّحْلَ؛ أَي يَصْرِمُون، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ لامْرِئِ القَيْسِ: عَلَوْنَ بأَنْطاكِيَّةٍ فَوْقَ عَقْمَةٍ كجِرْمةِ نَخْلٍ أَو كجَنَّةِ يَثْرِبِ هكذا أَنْشَدَه الجوْهَرِيُّ شاهِدًا على الجِرْمَةِ بمعْنَى القَوْمِ. والصَّحيحُ أَنَّ الجِرْمَةَ هنا ما جُرِمَ وصُرِمَ مِن البُسْر، شبه ما على الهَوْدَجِ مِن وَشْي وعِهْنٍ بالبُسْر الأَحْمر والأَصْفر، أَو بجَنَّةِ يَثْرِب لأَنَّها كَثيرَةُ النَّخْلِ.

والجُرْمُ، بالضَّمِ، الذَّنْبُ كالجَرِيمةِ، كسَفينَةٍ، والجَرِمَةِ ككَلِمَةٍ، قالَ الشاعِرُ:

فإِنَّ مَوْلايَ ذو يُعَيِّرُني *** لا إِحْنَةٌ عِنْدَه ولا جَرِمَةْ

الجمع: أَجْرامٌ وجُرومٌ، كِلاهُما جَمْعان للجُرْمِ، وأَمَّا الجَرِيمَةُ فجمْعُها الجَرائِمُ.

وفي الحَدِيْث: «أَعْظَمُ المُسْلِمِيْن جُرْمًا مَن سَأَلَ عن شي‌ءٍ لم يُجَرَّمْ عليه، فَحُرِمَ مِن أَجْلِ مَسْأَلَتِه».

والجُرامَةُ، كثُمامَةٍ: الجُذامَةُ، وهو ما سَقَطَ مِن التَّمْرِ إذا جُرِمَ، قالَهُ الأَصْمَعِيُّ.

وقيلَ: هو التَّمْرُ المَجْرُومُ أَي المَصْرُومُ، أَو ما يُجْرَمُ منه بعْدَ ما يُصْرَمُ يُلْقَطُ مِن الكَرَبِ.

وأَيْضًا: قِصَدُ البُرِّ والشَّعيرِ، وهي أَطْرافُه تُدَقُّ ثم تُنَقَّى، والأَعْرَفُ الجُدامَة بالدالِ، وكُلّه مِن القَطْعِ.

والجَرِيمُ والجُرامُ، كأَميرٍ وغُرابٍ: التّمْرُ اليابِسُ، وفي الصِّحاحِ: المَصْرومُ، واقْتَصَرَ على الأُوْلَى، يقالُ: تَمْرٌ جَرِيمٌ أَي مَجْرُومٌ، قالَ الشاعِرُ:

يَرَى مَجْدًا ومَكْرُمَةً وعِزًّا *** إذا عَشَّى الصَّدِيقَ جَرِيمَ تَمْرِ

ثم قَوْلُ المصنِّفِ: وغُرابٍ غَلَطٌ ظاهِرٌ، والصَّوابُ كأَميرٍ وسَحابٍ، وهكذا ضَبَطَه أَبو عَمْرو، ومِثْلُه في المُحْكَمِ، قالَ: الجَرِيمُ والجَرامُ، بالفتحِ، التَّمْرُ اليابِسُ.

وفي الصِّحاحِ: الجَرامُ، بالفتحِ، والجَرِيمُ: النَّوَى، وهُما أَيْضًا: التَّمْرُ اليابِسُ، ذَكَرَه ابنُ السِّكِّيت في بابِ فَعِيْلٍ وفَعالٍ مِثْل: شَحاحٍ وشَحِيحٍ، وعَقامٍ وعَقِيمٍ، وكَهامٍ وكَهِيمٍ، وبَجالٍ وبَجيلٍ، وصَحاح الأَدِيْم وصَحِيح، وقالَ الشمَّاخُ:

مُفِجُّ الحَوامِي عن نُسُورٍ كأَنَّها *** نَوَى القَسْبِ ثَرَّتْ عن جَرِيم مُلَجْلَجِ

أَرادَ: النَّوَى.

وقالَ ابنُ سِيْدَه: ولم أَسْمَع للجَرامِ بمعْنَى النَّوَى بواحِدٍ.

والمجْرِمونَ في قوْلِهِ تعالَى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}: الكافِرُونَ لأَنَّ الذي ذُكِرَ مِن قِصَّتهم التكْذِيبِ بآياتِ اللهِ والاسْتِكْبار عنها، قالَهُ الزَّجَّاجُ.

وتَجَرَّمَ عليه: إذا ادَّعَى عليه الجُرْمَ وإن لم يُجْرِمْ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ:

قد يفترى الهِجْرانُ بالتَّجَرُّم

وقالَ غيرُه: تَجَرَّمَ عليه: ادَّعَى ذنْبًا لم يَفْعَلْه، وأَنْشَدَ:

تَعُدُّ عَليَّ الذَّنْبَ إنْ ظَفِرَتْ به *** وإِلَّا تَجِدْ ذَنْبًا عَليَّ تَجَرَّم

وقالَ أَبو العبَّاس: فلانٌ يَتَجَرَّمُ علينا أَي يَتَجَنَّى ما لم نَجْنه، وأَنْشَدَ:

أَلا لا تُبالي حَرْبَ قَومٍ تَجَرَّمُوا

وتَجَرَّمَ اللَّيلُ: ذَهَبَ وتَكَمَّلَ وانْقَضَى، وهو مجازٌ.

وجَرِيمَةُ القومِ: كاسِبُهُم، قالَ أَبو خِرَاش يَذْكُر عُقابًا تَرْزُق فَرْخَها وتَكْسِبُ له:

جَريمَةُ ناهِضٍ في رأْسِ نِيقٍ *** تَرَى لعِظامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا

والجِرْمُ، بالكسْرِ، الجَسَدُ. وفي حَدِيْث: «اتَّقُوا الصُّبْحة فإِنَّها مَجْفَرة مَنْتَنَة للجِرْم».

قالَ ثَعْلَب: الجِرْمُ: البَدَنُ كالجِرْمانِ، بالكسْرِ أَيْضًا، الجمع: في القَلِيلِ أَجْرامٌ، قالَ يزيدُ بنُ الحَكَم الثَّقفيُّ:

وكم مَوْطِنٍ لَوْلاي طِحْتَ كما هَوى *** بأَجْرامِه من قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوي

وجَمَعَ، كأَنَّه صَيَّر كلّ جزْء مِن جِرْمِه جِرْمًا، وفي الكَثيرِ: جُرُومٌ وجُرُمٌ بضمَّتَيْنِ، قالَ:

ماذا تقولُ لأَشْياخ أُولي جُرُمٍ *** سُودِ الوُجُوهِ كأَمْثالِ المَلاحِيبِ

وفي التَّهْذيبِ: الجِرْمُ أَلْواحُ الجَسَدِ وجُثْمانُه. وأَلْقى عليه أَجْرامه، عن اللّحْيانيّ ولم يفَسِّرْه.

قالَ ابنُ سِيْدَه: وعنْدِي أَنَّه يُريدُ ثَقَلَ جِرْمِه، وجمع على ما تقدَّم في بيتِ يَزيدٍ.

والجِرْمُ: الحَلْقُ، قالَ معنُ بنُ أَوْسٍ:

لأَسْتَلَّ منه الضِّغْنَ حتى اسْتَلَلْتُه *** وقد كانَ ذا ضِغْنٍ يَضِيقُ به الجِرْمُ

يقولُ: هو أَمْرٌ عَظيمٌ لا يُسِيغُه الحَلْقُ.

والجِرْمُ: الصَّوْتُ، حَكَاه ابنُ السِّكِّيت وغيرُه، وبه فسِّرَ قَوْلُ بعضِهم: إنَّ فلانًا لحَسَن الجِرْمِ أَي الصَّوْت.

أو جِرْمُ الصَّوْتِ: جَهَارَتُه، يقالُ: ما عَرَفْته إلَّا بِجِرْم صَوْتِه، وقد كَرِهَها بعضُهم.

وفي الصِّحاحِ: قالَ أَبو حاتِمٍ: أُوْلِعَتِ العامَّةُ بقوْلِهِم: فلانٌ صافِي الجِرْمِ أَي الصَّوْت أَو الحَلْق، وهو خَطَأٌ.

والجِرْمُ: اللَّوْنُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ، وهو قَوْلُ ابنِ الأَعْرَابيِّ.

والجَرِيمُ، كأَميرٍ: العَظيمُ الجِرْمِ؛ أَي الجَسَدِ، أَنْشَدَ ثَعْلَب:

وقد تَزْدَري العينُ الفَتى وهو عاقِلٌ *** ويُؤْفَنُ بَعْضُ القومِ وهو جَرِيمُ

ويُرْوَى: وهو حَزِيمُ. وهي جَرِيمَة، بهاءٍ؛ أَي ذاتُ جِرْم وجِسْم، كالمَجْرومِ الجمع: جِرامٌ، بالكَسْرِ، ككَرِيمٍ وكِرَامٍ، نَقَلَه الجوْهَرِيّ.

قالَ: ويقالُ: جِلَّةٌ جَرِيمٌ أَي عِظامُ الأَجْرامِ، والجِلَّةُ: الإِبِلُ المَسانُّ.

وحَوْلٌ مُجَرَّمٌ، كمُعَظَّمٍ؛ أَي تامُّ.

وقالَ أَبو زَيْدٍ: العامُ المُجَرَّمُ: الماضِي المُكَمَّلُ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لعُمَر بنِ أَبي رَبيعَةَ:

ولكنَّ حُمَّى أَضْرَعَتْني ثلاثَةً *** مُجَرَّمةً ثم اسْتَمَرَّتْ بناغِبَّا

وقالَ ابنُ هانئٍ: سَنَةٌ مُجَرَّمَةٌ، وشَهْرٌ مُجَرَّمٌ وكَريتٌ، وهو التامُّ، وقد تَجَرَّمَ أَي انَقَضَى، قالَ لَبِيدٌ:

دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهْدِ أَنِيسِها *** حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرامُها

أَي تَكَمَّلَ.

قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا كُلُّه مِن القَطْع كأَنَّ السَّنَةَ لمَّا مَضَت صارَتْ مَقْطوعَةً من المُسْتَقبلَةِ.

وجَرَّمْناهُم تَجْرِيمًا: أَي خَرَجْنا عنهم، نَقَلَه اللّيْثُ.

ولا جَرَمَ، ويقالُ: لا ذا جَرَمَ ولا أَنْ ذا جَرَمَ ولا عن ذا جَرَمَ ولا جَرَ، بِلا مِيمٍ. قالَ الكِسائيُّ حُذِفَتِ المِيمُ لكَثْرةِ اسْتِعْمالِهِم إيَّاه كما قالوا: حاشَ للهِ، وهو في الأَصْلِ حاشَا للهِ، وكما قالوا: أَيْشْ وإنَّما هو أَيُّ شي‌ءٍ، وكما قالوا: سَوْتَرَى وإنَّما هو سَوْفَ تَرَى. ويقالُ أَيْضًا: لا جَرُمَ، ككَرُمَ، ولا جُرْمَ بالضَّمِ، كلُّ ذلِكَ: أَي لا بُدَّ، أَو معْناه حَقًّا، أَو لا مَحالَةَ، أَو هذا أَصْلُه ثم كَثُرَ اسْتِعْمالَهم إِيَّاه حتى تَحَوَّلَ إلى معنى القَسَمِ.

ونصّ الصِّحاحِ: قالَ الفرَّاءُ: لا جَرَمَ كَلِمةٌ كانتْ في الأَصْلِ بمنْزِلَةِ لا مَحالَةَ ولا بُدَّ، فَجَرَتْ على ذلِكَ وكَثُرَتْ حتى تَحَوَّلَتْ إلى معْنَى القَسَمِ وصارَتْ بمنْزِلَةِ حَقًّا، فلذَلِكَ يُجابُ عنه، كذا بخطِّ أَبي زَكَريا وفي سائِرِ نسخِ الصِّحاحِ: عنها، باللَّامِ كما يُجابُ بها عن القَسَمِ، فيُقالُ، وفي الصِّحاحِ: ألا تَرَاهُم يقُولُون،: لا جَرَمَ لآتِيَنَّك؟ قالَ: وليسَ قَوْلُ مَن قالَ: جَرَمْتَ حَقَقْتُ بشي‌ءٍ، وإنَّما لَبَّسَ عليهم قَوْلَ الشاعِرِ، وهو أَبو أَسْماء بنُ الضَّريبَةِ، ويقالُ للحَوْفَزان، قالَ ابنُ بَرِّي: ويقالُ لعَطِية بنِ عَفِيف:

ولقد طَعَنْتُ أَبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً *** جَرَمَتْ فَزارة بعدَها أَن يَغْضَبُوا

فرَفَعُوا فَزارةَ، كأَنَّه قالَ: حَقَّ لها الغَضَب. قالَ: وفَزارَةُ مَنْصوبَةٌ أَي جَرَمَتْهُم الطَّعنةُ أَن يَغْضَبوا.

قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَحَقَّت عليهم الغَضَبَ أَي أَحَقَّت الطَّعنةُ فَزارَةَ أَن يَغْضَبوا، وحَقَّتْ أَيْضًا: مِن قَوْلِهم لا جَرَمَ لأَفْعَلَنَّ كذا أَي حَقًّا.

قالَ ابنُ بَرِّي: وهذا القَوْلُ ردُّ على سِيْبَوَيْه والخَلِيل لأَنَّهما قَدَّراه أَحَقَّتْ فزارَةَ الغضَبَ؛ أَي بالغَضَب فأَسْقَط الباءَ، قالَ: وفي قَوْلِ الفرَّاءِ لا يحتاجُ إلى إسْقاطِ حَرْف الجَرِّ فيه، لأنَّ تَقْديرَهُ عنْدَه كسَبَتْ فَزارةَ الغَضَبَ عليك، قالَ: والصَّوابُ في إنْشادِ البيت: وقد طعنتَ، بفتحِ التاءِ، لأَنَّه يُخاطِبُ كُرْزًا العُقَيْليَّ يَرْثيه، وقبْلَ البَيْتِ:

يا كُرْزُ إنَّك قد قُتِلْتَ بفارسٍ *** بَطَلٍ إذا هابَ الكُماةُ وجَبَّبُوا

وكان كُرْزٌ قد طَعَنَ: أَبا عيينة، وهو حِصْنُ بن حذيفَةَ بنِ بَدْر الفَزارِيُّ.

قالَ ابنُ سِيْدَه: وزَعَمَ الخَلِيلُ أَنَّ جَرَمَ إنَّما تكونُ جَوابًا لمَا قَبْلها مِن الكَلامِ، يقولُ الرجُلُ: كانَ كذا وكذا، وفَعَلوا كذا فتَقولُ: لا جَرَمَ أَنَّهم سَيَنْدمُونَ، أَو أَنَّه سيكونُ كذا وكذا.

وقالَ ثَعْلَب: الفرَّاء والكِسائيّ يقُولان لا جَرَمَ تَبْرِئَةٌ.

قالَ الأزْهَرِيُّ: وقد قيلَ لا صِلَةَ في لا جَرَم والمعْنَى كَسَبَ لهم عَمَلُهم النَّدَم.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: لا جَرَمَ لقد كانَ كذا وكذا، ولا ذا جَرَ ولا ذا جَرَمَ، والعَرَبُ تَصِلُ كَلامَها بذي وذا وذو فتكونُ حَشْوًا ولا يُعْتَدُّ بها، وأَنْشَدَ:

إِنَّ كِلابًا والِدِي لا ذا جَرَمْ

وقالَ ابنُ الأَثيرِ: لا جَرَمَ كَلِمةٌ تَردُ بمعْنَى تَحْقِيق الشي‌ءِ، وقد اخْتُلِفَ في تقْدِيرِها فقيلَ: أَصْلُها التَّبرِئَةُ بمعْنَى لا بُدَّ، وقد اسْتُعْمِلَتْ في معْنَى حَقًّا، وقيلَ: جَرَمَ بمعْنَى كَسَبَ، وقيلَ: بمعْنَى وَجَبَ وحَقَّ ولا رَدُّ لمَا قَبْلها مِن الكَلامِ ثم يُبْتدأُ بها كقَوْلِهِ تعالَى: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ}؛ أَي ليسَ الأَمْرُ كما قالوا، ثم ابْتَدأَ وقالَ: وَجَبَ لهم النار.

قلْتُ: وقد حَقَّقَ الكَلامَ فيه ابنُ هِشامٍ في المغْنِي في بَحْثِ لا، والجلالُ في همْعِ الهَوامِع أَثْناء بَحْثِ ان والقَسَم، والخَفاجيُّ في العِنايَةِ أَثْناء غافِرٍ، وأَشارَ إليه أَثْناء النَّحْل، وفيمَا أَوْرَدْناه كِفايَة.

والجَرْمُ: الحارُّ، فارِسِيُّ مُعَرَّب كرم.

وأَيْضًا: الأَرْضُ الشَّديدَةُ الحَرِّ.

وقالَ أَبو حَنيفَةَ: أَرْضٌ جَرْمٌ: دَفِئةٌ، والجَمْعُ جُرُومٌ.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: أَرْضٌ جَرْمٌ تُوصَفُ بالحَرِّ، وهو دَخِيلٌ.

وقالَ اللَّيْثُ: الجَرْمُ نَقِيضُ الصَّرْد، يقالُ: هذه أَرْضٌ جَرْمٌ وهذه أَرْضٌ صَرْدٌ، وهُما دَخِيلان في الحَرِّ والبَرْدِ.

وقالَ الجوْهَرِيُّ: الجُرُومُ مِن البِلادِ خلافُ الصُّرُودِ.

والجَرْمُ: زَورَقٌ يَمَنيُّ، الجمع: جُرُومٌ، وهي النَّقيرةُ جَمْعُها نَقائِرُ.

وجَرْمٌ: بَطْنٌ في طَيِّئٍ، وهو ثَعْلَبَةُ بنُ عَمْرو بنِ الغَوْث بنِ جلهمَةَ وهو طيئ، مَساكِنُهم صَعِيدُ مِصْرَ، قالَهُ صاحِبُ العبر، ومنهم بقيَّةٌ في نواحِي غزَّةَ، ومِن ولدِهِ حيَّانُ بنُ ثعْلَبَةَ وإليه يَنْتَسِبُ أَبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ مالِكٍ النّحَويُّ المِصْريُّ، وعَمْرو بنُ سَلَمَةَ الجرميُّ له صُحْبَةٌ، وأَبو قلابَةَ عبدُ اللهِ بنُ يَزيدِ الجرميُّ البَصْريُّ تابِعِيُّ جَليلٌ، وأَبو عُمَر صالحُ بنُ إسْحقَ الجرميُّ لُغَويُّ مَشْهورٌ أَخَذَ عن الأَخْفش وأَبي عُبَيْدَةَ وأَبي ذَرٍّ والأَصْمَعِيّ، ورَوَى الحَدِيْث، تُوفي سَنَة مائَتَيْن وخَمْس وعِشْرِيْن.

وجَرْمُ بنُ زَبَّانَ بنِ حلوان بنِ عمْران بنِ الحافي: بَطْنٌ في قُضاعَةَ، منهم: شهابُ بنُ المجنونِ صَحابيُّ وأَخُوه عامِرٌ مدرج الرِّيحِ شاعِرٌ، وهوذَةُ بنُ عَمْرو الجرميُّ له وِفادَةٌ.

والجِرْمُ، بالكسْرِ: بِلادٌ وَرَاء وَلْوالج قُرْبَ بَذَخْشانَ، ولم يَذْكُرِ المصنِّفُ بَذَخْشان في مَوْضِعِه، ومنها الفَقِيهُ أَبو عبدِ الله سعيدُ بنُ حيدرٍ الجرميُّ، سَمِعَ أَبا يعقوب يوسف بن أيوب الهمدانيّ، تُوفي ببَلَدِه سَنَة خَمْسمائة وثلاث وأَرْبَعِين.

وبَنُو جارِمٍ: بَطْنانِ: أَحَدُهما في بنِي ضَبَّةَ، والآخَرُ في بنِي سَعْدٍ، فالتي في ضَبَّة هم بَنُو جارِمِ بنِ مالِكِ بنِ بكْرِ بنِ سعْدِ بنِ ضَبَّةَ، ذَكَرَه ابنُ الكَلْبي، وكان له خطة بالبَصْرَةِ، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ:

إذا ما رأَتْ حَرْبًا عَبُ الشمسِ شَمَّرَتْ *** إلى رَمْلِها والجارِميُّ عَمِيدُها

وأَنْشَدَ الحافِظُ في التَّبْصير للفَرَزْدقِ:

ولو أَنَّ ما في سفْن دَارِين صبَّحَتْ *** بنِي جارِمٍ ما طيَّبتْ ريحَ خَنْبَش

وجَرِمَ الرجُلُ، كفَرِحَ: صارَ يأْكُلُ جُرامَةَ النَّخْلِ بينَ السَّعَفِ، عن أَبي عَمْرو.

وأَجْرَمَ الرَّجُلُ: عَظُمَ جُرْمُه، هكذا في النسخِ، والصَّوابُ: جرم ثلاثِيًّا، وكذا ما بَعْده.

جَرِمَ لَوْنُهُ إذا صَفَا.

وجرمَ الدَّمُ بِهِ: لَصِقَ.

وجرمَ الرجُلُ: صَفا صَوْتُهُ.

وجاجَرْمُ، بسكونِ الراءِ: بلد بينَ نَيْسابُور وجُرْجَان، منه أَبو القاسِمِ عبدُ العَزيزِ بنُ محمدِ بنِ محمدِ الجاجَرْميُّ النَّيْسابورِيُّ أَحَدُ مشايخِ أَبي محمدٍ عبد العَزِيزِ بن أَبي بكْرٍ النَّخْشيّ، تُوفي بعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِين وأَرْبَعمائة.

وأَجْرَمُ، كأَحْمَدَ: بَطْنٌ من خَثْعَمَ، وهكذا نَقَلَه الحافِظُ أَيْضًا.

والجَريمَةُ، كسَفينَةٍ: آخِرُ ولَدِكَ كأَنَّه جرم بعده أَي قُطِعَ.

والأَجْرامُ: مَتاعُ الرَّاعِي، كأَنَّه جَمْعُ جِرْمٍ بالكسْرِ.

والأَجْرامُ: لَوْنانِ من السَّمَكِ.

ومُجْرِمٌ، كمُحْسِنٍ: اسمٌ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

شَجَرَةٌ جَرِيمَةٌ: مَقْطوعَةٌ.

وقومٌ جُرَّمٌ وجُرَّامٌ، كسُكَّرٍ ورُمَّانٍ جمعا جارِمٍ للصَّارِمِ.

وأَجْرَمَ التَّمْرُ: حانَ جِرَامُه: وقولُ ساعِدَة بن جُؤَيَّة:

سَادٍ تَجَرَّمَ في البَضِيعِ ثمانِيًا

أَي قَطَعَ ثَماني لَيالٍ مُقِيمًا في البَضِيعِ يَشْربُ الماءَ.

والجَرِيمُ، كأَميرٍ: ما يُرْضَخُ به النَّوَى.

والجَرِيمَةُ: النَّواةُ، ومنه قولُ أَوْسِ بنِ حارِثَةَ: لا والذي أَخْرَجَ العِذْقَ مِن الجَرِيمَةِ والنارَ مِن الوَثِيمَةِ؛ أَي أَخْرَجَ النَّخلَةَ مِن النَّواةِ والنارَ مِن الحِجارَةِ المكْسُورَةِ.

والجِرْمَةُ، بالكسْرِ: ما جُرِمَ وصُرِمَ مِن البُسْر. وفي الحَدِيْث: «لا تَذْهَبُ مائةُ سنةٍ وعلى الأَرْضِ عَيْنٌ تَجرمُ»؛ أَي تَطْرِفُ، يُريدُ: تَجَرُّمَ ذلِكَ القَرْنِ وانْقِضاءَهُ.

وأَبو مُجْرِم، كمُحْسِنٍ: كُنْيَةُ أَبي مُسْلم صاحِبُ الدَّوْلةِ، هكذا كَنَّاه المَنْصورُ.

والجُرْمُ، بالضمِ، التَّعدِّي. وقالوا: اجْتَرَمَ الذَّنْبَ فَعَدّوْه، قالَ الشَّاعِرُ أَنْشَدَه ثَعْلَب:

وتَرَى اللبيبَ مُحَسَّدًا لم يَحْتَرِمْ *** عِرْضَ الرجالِ وعِرْضُه مَشْتُومُ

وجَرُمَ الرجُلُ، ككَرُمَ، إذا عَظُمَ جرْمُه؛ أَي أَذْنَبَ، وجَعَلَه المصنِّفُ أَجْرَمَ وهو غَلَطٌ مِن النَّساخِ.

والجارِمُ: الجانِي، قالَ:

ولا الجَارِمُ الجاني عليهم بمُسْلَم

وقَرَأَ يَحْيَى بنُ وَثَّابٍ والأَعْمَشُ: لا يُجْرِمَنَّكم، بضمِ الياءِ.

قالَ الزَّجَّاجُ: جَرَمْتُ وأَجْرَمْتُ بمعْنًى واحِدٍ، وقيلَ: معْناهُ لا يُدْخِلَنَّكم في الجُرْمِ مِن أَجْرَمَه، كما يقالُ آثَمْتُه أَدْخَلْته في الإِثْمِ.

والمُدُّ بالحِجازِ يُدْعَى: جَرِيمًا. يقالُ: أَعْطَيْته كذا وكذا جَرِيمًا.

قالَ الزَّمَخْشرِيُّ: هو مُدُّ رَسُولِ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم.

وتَجَرَّمَ الشِّتاءُ: انْقَضَى.

وجَرَّمْناه: أَتْمَمْناه.

وفي بَجِيلَةَ: جرمُ بنُ علقَةَ بنِ أَنْمارٍ.

وفي عامِلَةَ: جرمُ بنُ سعدِ بنِ مُعاوِيَة، بُطُونٌ مِن العَرَبِ.

وابنُ آجرومٍ: مُؤَلِّفُ الآجروميَّة مَشْهورٌ.

وجارِمُ بنُ هُذَيْلٍ: شاعِرٌ قديمٌ مِن الأَعْرابِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


37-تاج العروس (غبن)

[غبن]: غَبِنَ الشَّي‌ءَ وغَبِنَ فيه، كفَرِحَ، غَبْنًا، بالفتْحِ، وغَبَنًا، بالتَّحْريكِ: نَسِيَهُ أَو أَغْفَلَهُ وجَهلَهُ.

أَو غَبِنَ كذا من حقِّه عنْدَ فلانٍ: غَلِط فيه.

وقالوا: غَبِنَ رَأْيَهُ، بالنَّصْبِ، غَبَانَةً وغَبَنًا، محركةً: ضَعُفَ؛ نَصَبُوه على مَعْنى فَعَّلَ، وإن لم يُلْفَظ به، أَو على مَعْنى غَبِنَ في رأْيِه، أَو على التَّمْييزِ النادِرِ.

قالَ الجَوْهرِيُّ: قوْلُهم سَفِهَ نَفْسَه وغَبِنَ رَأْيَه وبَطِرَ عَيْشَه وأَلِمَ بَطْنَه ووَفِقَ أَمْرَه ورَشِدَ أَمْرَه كانَ في الأَصْلِ سَفِهَتْ نَفْسُ زيْدٍ ورَشِدَ أَمْرُه، فلمَّا حُوِّلَ الفعْلُ إلى الرَّجُلِ انْتَصَبَ ما بعْدَه بوقُوعِ الفعْلِ عليه، لأنَّه صارَ في معْنَى سَفَّهَ نَفْسَه، بالتَّشْديدِ؛ هذا قَوْلُ البَصْرِيِّين والكِسائي، ويَجوزُ عنْدَهم تقْدِيمُ هذا المَنْصوب كما يَجوزُ غلامَه ضَرَبَ زَيْدٌ. وقالَ الفرَّاءُ: لمَّا حُوِّل الفعْلُ مِن النَّفْسِ إلى صاحِبِها خَرَجَ ما بعْدَه مُفَسِّرًا ليَدُلَّ على أنَّ السَّفَه فيه، وكان حكْمُه أنْ يكونَ سَفِهَ زيدٌ نَفْسًا لأنَّ المُفَسِّر لا يكونُ إلَّا نكِرَةً، ولكنَّه تركَ على إضافَتِه ونصبَ كنَصْبِ النّكِرَةِ تَشْبيهًا بها، ولا يجوزُ عنْدَه تقْدِيمه لأنَّ المُفْسِّرَ لا يَتَقَدَّمُ، ومنه قوْلُهم: ضِقْتُ به ذَرْعًا وطِبْتُ به نَفْسًا، والمعْنَى ضاقَ ذَرْعِي به وطابَتْ نفْسِي به؛ فهو غَبِينٌ ومَغْبُونٌ في الرَّأْي والعَقْلِ والدِّيْنِ.

وغَبَنَهُ في البَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا، بالفتْحِ ويُحَرَّكُ؛ أَو الغَبْنُ بالتَّسْكينِ في البَيْعِ وهو الأَكْثَر، وبالتَّحْريكِ في الرَّأْي: إذا خَدَعَهَ ووَكَسَه.

وقيلَ؛ غَبِنَ في البَيْعِ غَبْنًا: إذا غَفَلَ عنه بيعًا كانَ أَو شِرَاءً.

وقد غُبِنَ الرَّجُل، كعُنِيَ، فهو مَغْبُونٌ؛ والاسْمُ الغَبِينَةُ، كالشَّتِيمَةِ مِن الشَّتْم.

والتَّغابُنُ: أن يَغْبِنَ بَعْضُهم بَعْضًا.

ويَوْمُهُ {يَوْمُ التَّغابُنِ}: وهو يَوْمُ البَعْثِ؛ قيلَ: سُمِّي به لأنَّ أَهْلَ الجنَّةِ تَغْبِنُ فيه أَهْلَ النَّارِ بما يَصيرُ إليه أَهْلُ الجنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ، ويَلْقَى فيه أَهْلُ النارِ مِنَ العَذابِ، ويَغْبِنُ مَنِ ارْتَفَعَتْ مَنْزلتُه في الجنَّةِ مَنْ كانَ دُونَ مَنْزلتِه، وضَرَبَ ذلِكَ مَثَلًا للشّراءِ والبَيْعِ كما قالَ تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} وسُئِلَ الحَسَنُ عن قوْلِه تعالَى: {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ}، فقالَ: غَبَنَ أَهْلُ الجنَّةِ أَهْلَ النارِ، أي اسْتَنْقَصُوا عُقولَهم باخْتِيارِهم الكفْرَ على الإِيمانِ.

ونَظَرَ الحُسَيْنُ إلى رجُلٍ غَبَنَ آخَرَ في بَيْعٍ فقالَ: إنَّ هذا يَغْبِنُ عقْلَكَ أي يَنْقُصه.

والغَبَنُ، مُحرَّكةً: الضَّعْفُ والنِّسْيانُ.

والمَغْبِنُ، كمَنْزِلٍ: الإِبْطُ والرُّفْغُ، الجمع: مَغابِنُ؛ والأَرْفاغُ: بَواطِنُ الأَفْخاذِ عنْدَ الحوالِبِ.

وفي الحدِيثِ: «كانَ إذا اطَّلى بَدَأَ بمَغَابِنِه»؛ وقيلَ: المَغابِنُ مَعاطِفُ الجلْدِ.

وفي حدِيثِ عكرمَة: «مَنْ مَسَّ مَغابِنَه فلْيَتَوضَّأْ»؛ أمره بذلكَ اسْتِظْهارًا واحْتِياطًا.

وقالَ ثَعْلَب: كلُّ ما ثَنَيْتَ عليه فخذَكَ فهو مَغْبِنٌ.

واغْتَبَنَهُ: اخْتَبَأَهُ فيه، أي في المَغْبِنِ.

وقالَ ابنُ شُمَيْل: يقالُ: هذه الناقَةُ ما شِئْتَ من ناقَةٍ ظَهْرًا وكَرَمًا غَيْر أَنَّها مَغْبُونةٌ لا يُعْلَم ذلكَ منها، وقد غَبَنُوا خَبَرَها، كنَصَرَ وسَمِعَ، أي لم يَعْلَموا عِلْمَها.

ومالِكُ بنُ أَغْبَنَ، كأَحْمَدَ، جُهَنِيٌّ، ذَكَرَه ابنُ الطحَّان.

والغَبْنُ في الثَّوْبِ كالعَطْفِ فيه، وقد غَبَنَه غَبْنًا: ثَنَاهُ وعَطَفَه.

وفي التهْذِيبِ: طَالَ فثَنَاهُ، وكذلِكَ كَبَنَه.

والغابِنُ: الفاتِرُ عن العَمَلِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

غَبِنْتَ رأْيَك: أي ضَيَّعْتَه ونَسِيتَه.

وغَبَنَ الرَّجُلَ يَغْبِنُه غَبْنًا: مَرَّ به وهو ماثِلٌ فلم يَرَه ولم يَفْطُن له.

وقالَ ابنُ بُزُرْج: غَبِنَ الرَّجُلُ أَشَدّ الغَبَنانِ، ولا يقُولُونَ في الربْحِ، إلَّا رَبحَ أَشَدّ الرِّبْح والرَّباحَة والرَّبَاح.

وغَبَنُوا الناسَ: إذا لم يَنَلْهُ غيرُهم.

وغَبَنَ الشي‌ءَ: خَبَأه في المَغْبِن.

وما قُطِعَ مِن أَطْرافِ الثَّوْبِ فأُسْقِطَ غَبَنٌ، محرّكةً؛ قالَ الأعْشَى:

يُساقِطُها كسِقاطِ الغَبَنُ

والغَبْنُ: ثَنْيُ الدَّلْو ليَنْقُصَ مِن طولِهِ. وتَغابَنَ لَه: تَقاعَدَ حتى غبنَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


38-تاج العروس (دري)

[دري]: ي دَرَيْتُه ودَرَيْتُ به أَدْرِي دَرْيًا ودَرْيَةً، بفتْحِهما ويُكْسَرانِ، الكَسْرُ في دِرْيٍ عن اللّحْيانيّ، ووَقَعَ في نسخِ الصِّحاحِ: دُرْيَة بالضمِّ بضَبْطِ القَلَم.

وحكَى ابنُ الأعرابيِّ: ما تَدْرِي ما دِرْيَتُها أَي ما تَعْلَمُ ما علْمُها.

ودِرْيانًا، بالكسْرِ ويُحَرَّكُ، ودِرايَةً، بالكسْرِ، ودُرِيًّا، كحُلِيِّ: عَلِمْتُه؛ الأَخيرَةُ عن الصَّاغانيّ في التكْمِلَةِ.

قالَ شيْخُنا: صَرِيحُه اتِّحادُ العِلْم والدِّرَايَةِ.

وصَرَّحَ غيرُهُ: بأَنَّ الدِّرايَةَ أَخَصُّ مِن العِلْم، كما في التَّوْشِيح وغيرِهِ.

وقيلَ: إنَّ درى يكونُ فيما سَبَقه شَكٌّ؛ قالَهُ أَبو عليِّ.

أَو عَلِمْتُه بضَرْبِ من الحِيلَةِ، ولذا لا يُطْلَقُ على اللهِ تعالى؛ وأَمَّا قوْلُ الراجزِ:

لا هُمَّ لا أَدْرِي وأَنْتَ الدَّارِي

فمن عجرفة الأعْراب.

ويُعَدَّى بالهَمْزَةِ فيقالُ: أدْراهُ به أَعْلَمَهُ؛ ومنه قوْلُه تعالى: {وَلا أَدْراكُمْ بِهِ}؛ فأَمَّا من قَرَأَ بالهَمْزِ فإنَّه لحن.

وقال الجَوهرِيُّ: والوَجْهُ فيه تَرْك الهَمْز.

ودَرَى الصَّيْدَ يَدْرِيه دَرْيًا: خَتَلَهُ؛ قالَ الشَّاعِرُ:

فإن كنتُ لا أَدْرِي الظِّباءَ فإنّني *** أَدُسُّ لها تحتَ التُّرابِ الدَّواهِيا

وقالَ ابنُ السِّكِّيت: دَرَيْت فُلانًا أَدْرِيه دَرْيًا: خَتَلْتَه؛ وأَنْشَدَ:

فإن كُنت قَدْ أَقْصَدْتني إذ رَمَيْتني *** بسَهْمِك فالرَّامي يَصِيدُ وما يَدْرِي

أَي ولا يَخْتِلُ، كتَدَرَّاهُ وادَّراهُ كافْتَعَلَهُ؛ ومنه قوْلُ الراجزِ:

كيفَ تَرانِي أَذَّرِي وأَدَّرِي *** غِرَّاتِ جُمْلٍ وتَدَّرِي غِرَرِي؟

فالأَوَّل بالذالِ المُعْجمةِ، أَفْتَعِل من ذَرَيْت تُرابَ المَعْدنِ، والثاني بالدَّالِ المُهْملةِ أَفْتَعِل من ادَّراهُ خَتَلَه، والثالثُ تَتَفَعَّل من تَدَرَّاهُ خَتَلَه فأَسْقَطَ إِحْدَى التاءَيْن، يقولُ: كيفَ تَراني أَذَّرِي التُّرابَ وأَخْتِل مع ذلكَ هذه المَرْأَة بالنَّظَر إليها إذا اغْتَرَّتْ أَي غَفَلَت؛ كذا في الصِّحاحِ.

ودَرَى رأْسَه يَدْرِيهِ دَرْيًا: حَكَّهَ بالمِدْرَى، بكسْرِ الميمِ، وهو القَرْنُ؛ قالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الثْورَ والكِلابَ:

شَكَّ الفريصَةَ بالمِدْرَى فأَنْفَذَها *** شَكَّ المُبَيْطِرِ إذ يَشْفِي مِنَ العَضَدِ

وفي بعضِ النسخِ: وهو المُشْطُ والقَرْنُ: كالمِدْرَاةِ.

قال الجَوهرِيُّ: ورُبَّما تُصْلِحُ به الماشِطَةُ قُرُونَ النِّساءِ، وهو شي‌ءٌ كالمِسَلَّة يكونُ مَعَها؛ قال امْرؤُ القَيْسِ:

تَهْلِكُ المِدْراةُ في أَكْنافِه *** وإذا ما أَرْسَلَتْهُ يَنْعَفِرْ

وقالَ الأزهرِيُّ: المِدْراةُ حَدِيدَةٌ يُحَكُّ بها الرأْسُ يقالُ لها سَرْخَارَهْ. والمَدْرِيَةِ، بفتْحِ الميمِ وكسْرِ الرَّاءِ؛ نَقَلَهُ ابنُ سِيدَه.

وقالَ الأزْهرِيُّ: ورُبَّما قالوا للمِدْرَاةِ مَدْرِيَة، وهي التي حُدِّدَتْ حتى صارَتْ مِدْراة، الجمع: مَدارِ ومَدارَى، الألفُ بدَلَ مِن الياءِ؛ كذا في المُحْكَم.

وتَدَرَّتِ المَرْأَةُ: سَرَّحَتْ شَعْرَها بالمِدْرَى.

والدَّرِيَّةُ، كغَنِيَّةٍ: لما يُتَعَلَّمُ عليه الطَّعْنُ.

قال الجَوهرِيُّ: قالَ الأصْمعيُّ: وهي دابَّةٌ يَسْتَتِر بها الصائد إذا أَمكنه رمَى، وهي غيْرُ مَهْمُوزة.

وقالَ أَبو زيْدٍ: هو مَهْموزٌ لأنّها تُدْرأُ نَحْو الصَّيْد أَي تُدْفَعُ.

ومَدْرَى، كمَسْعَى: قرية لبَجِيلَةَ.

وفي التّكْمِلَةِ والمِدْرَاةُ: وادِ.

والذي في كتابِ نَصْر: المَدْرَاءُ، بالمدِّ: ماءَةٌ بركية لعَوف ودهْمان ابْني نَصْرِ بنِ مُعاوِيَةَ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

قال سِيْبَوَيْه: الدَّرْيَةُ كالدِّرْيَةِ لا يُذْهَبُ به إلى المَرَّةِ الواحِدَةِ ولكنَّه على مَعْنى الحالِ.

وقالوا: لا أَدْرِ، فحذَفُوا الياءَ لكَثْرةِ الاسْتِعْمالِ ونَظِيرُه: أَقْبَلَ يَضْرِبُه ولا يَأْلُ.

وادَّرَى درْيَةً وتَدَرَّى: اتَّخَذَها.

والدَّريَّة: الوَحْشُ مِن الصَّيْدِ خاصَّةً.

وادَّرَوْا مَكانًا، كافْتَعَلُوا: اعْتَمَدوه بالغارَةِ والغَزْوِ؛ وأَنْشَدَ الجوهرِيُّ لسُحَيْم:

أَتَتْنا عامِرٌ من أَرْضِ رامٍ *** مُعَلِّقَةَ الكَنائِنِ تَدَّرِينا

ودَارَاهُ مُدارَةً: لايَنَهُ ورَقَّقَه.

والمُدَارَةُ فيه الوَجْهان الهَمْزُ وغَيْرُه.

وأَتَى هذا الأَمْر مِن غَيْر دُرْيةٍ، بالضمِّ: أَي مِن غَيْرِ عَمَلٍ؛ نَقَلَهُ الأزهرِيُّ.

قالَ والمُدَارَاةُ حُسْن الخُلُقِ والمُعاشَرَةِ مع الناسِ.

وقوْلُهم: جَأْبُ المِدْرَى؛ أَي غَلِيظ القَرْنِ، يُدَلُّ بذلِكَ على صِغَرِ سِنَّ الغَزَالِ لأنَّ قَرْنَه في أَوَّل ما يطْلعُ يغلُظُ ثم يدقُّ بَعد ذلكَ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الدِّرْحايَةُ، بالكسْرِ: الرَّجُلُ الضخْمُ القَصِيرُ: هكذا ذَكَرَه الجوهرِيُّ هنا.

وقال ابنُ برِّي ذكره هنا سَهْو ومَحَلّه دَرَحَ، وإيَّاهُ تَبعَ المصنِّفُ فذَكَرَه هناك.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


39-لسان العرب (ذرأ)

ذرأ: فِي صِفَاتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الذّارِئُ، وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَ الخَلْقَ أَي خَلَقَهم، وَكَذَلِكَ البارِئُ؛ قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا} أَي خَلَقْنَا.

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}.

قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: الْمَعْنَى يَذرَؤُكم بِهِ أَي يُكثِّركم بِجَعْلِهِ مِنْكُمْ وَمِنَ الأَنعام أَزواجًا، وَلِذَلِكَ ذَكر الْهَاءَ فِي فِيهِ.

وأَنشد الفرَّاء فِيمَنْ جَعَلَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءَ، كأَنه قَالَ يَذْرَؤُكم بِهِ:

وأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقِيطٍ ورَهْطِه، ***ولكِنَّني عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ

وذرَأَ اللهُ الخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا: خَلَقَهم.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعاءِ: «أَعوذ بكَلِمات اللَّهِ التامّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وذرَأَ وبَرَأَ».

وكأَنَّ الذَّرْءَ مُخْتَص بخَلْقِ الذّرِّيَّة.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتب إِلَى خالِدٍ: «وإِنِّي لأَظُنُّكم آلَ المُغِيرَةِ ذَرْءَ النَّارِ»، يَعْنِي خَلْقَها الَّذِينَ خُلِقُوا لَهَا.

وَيُرْوَى ذَرْوَ النَّارِ، بِالْوَاوِ، يَعْنِي الَّذِينَ يُفَرَّقُون فِيهَا، مِنْ ذَرَتِ الريحُ الترابَ إِذَا فَرَّقَتْه.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}، مَعْنَاهُ يُكَثِّرُكُمْ فِيهِ أَي فِي الْخَلْقِ.

قَالَ: والذُّرِّيَّة والذِّرِّيَّةُ مِنْهُ، وَهِيَ نَسْلُ الثَّقَلَيْن.

قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَن تَكُونَ مَهْمُوزَةً فَكَثُرَتْ، فأُسقط الْهَمْزُ، وَتَرَكَتِ الْعَرَبُ هَمْزَهَا، وَجَمْعُهَا ذَراريُّ.

والذَّرْءُ: عَدَد الذُّرِّيَّة، تَقُولُ: أَنْمَى اللَّهُ ذَرْأَكَ وذَرْوَكَ أَي ذُرِّيَّتَكَ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: جَعَلَ الْجَوْهَرِيُّ الذُّرِّية أَصلها ذُرِّيئة، بِالْهَمْزِ، فخُفِّفت هَمْزَتُهَا، وأُلزِمَت التَّخْفِيفَ.

قَالَ: وَوَزْنُ الذُّرِّيَّةِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فُعِّيلةٌ مِنْ ذَرَأَ اللهُ الخلقَ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مُرِّيقةٍ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنَ العُصْفُر، وغيرُ الْجَوْهَرِيِّ يَجْعَلُ الذُّرِّيةَ فُعْلِيَّةً من الذَّرِّئ، وفُعْلُولةً، فَيَكُونُ الأَصل ذُرُّورةً ثُمَّ قُلِبَتِ الرَّاءُ الْأَخِيرَةُ يَاءً لِتَقَارُبِ الأَمثال ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وأُدغمت فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَ الْيَاءِ فَصَارَ ذُرِّيةً.

والزَّرْعُ أَوَّلُ مَا تَزْرَعُه يُسَمَّى الذَّرِيءَ.

وذَرَأْنا الْأَرْضَ: بَذَرْناها.

وزَرْعٌ ذَرِيءٌ، عَلَى فَعِيل.

وأُنشد لعُبَيْد اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَة بْنِ مَسْعُود:

شَقَقْتَ القَلبَ ثُمَّ ذَرَأْتَ فِيهِ ***هَواكَ، فَلِيمَ، فالتْأَمَ الفُطُورُ

وَالصَّحِيحُ ثُمَّ ذَرَيْتَ، غَيْرُ مَهْمُوزٍ.

وَيُرْوَى ذَرَرْتَ.

وأَصل لِيمَ لُئِمَ فَتُرِكَ الْهَمْزُ لِيَصِحَّ الْوَزْنُ.

والذَّرَأُ، بِالتَّحْرِيكِ: الشَّيب فِي مُقدَّم الرأْس.

وذرِئَ رأْسُ فُلَانٍ يَذْرَأُ إِذَا ابْيَضَّ.

وَقَدْ عَلَتْهُ ذُرْأَةٌ أَي شَيْبٌ.

والذُّرْأَة، بِالضَّمِّ: الشَّمَطُ.

قَالَ أَبو نُخَيْلةَ السَّعْدِي:

وَقَدْ عَلَتْني ذُرأَةٌ بادِي بَدِي، ***ورَثْيةٌ تَنْهَضُ بالتَّشَدُّدِ

بادِي بَدِي: أَي أَوّلَ كلِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَأَ فتُركَ الهَمْز لكثرةِ الِاسْتِعْمَالِ وطَلَبِ التَّخْفِيفِ.

وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ مِن بَدا يَبْدُو إِذَا ظَهَرَ.

والرَّثْيةُ: انْحِلالُ الرُّكَبِ والمَفاصِل.

وَقِيلَ: هُوَ أَوّلُ بَياضِ الشَّيبِ.

ذَرِئَ ذَرَأً، وَهُوَ أَذْرَأُ، والأُنثى ذَرْآءُ.

وذَرِئَ شَعَرُه وذَرَأَ، لُغَتانِ.

قَالَ أَبو مُحَمَّدٍ الْفَقْعَسِيُّ:

قالَتْ سُلَيْمى: إنَّني لَا أَبْغِيهْ، ***أَراهُ شَيْخًا عارِيًا تَراقِيهْ

مُحْمرَّةً مِنْ كِبَرٍ مآقِيهْ، ***مُقَوَّسًا، قَدْ ذَرِئَتْ مَجالِيهْ

يَقْلِي الغَوانِي، والغَوانِي تَقْلِيهْ هَذَا الرَّجَز فِي الصِّحَاحِ: رَأَيْنَ شَيْخًا ذَرِئَتْ مَجالِيهْ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَصَوَابُهُ كَمَا أَنشدناه.

والمَجالِي: مَا يُرَى مِنَ الرَّأْس إِذَا اسْتُقْبِلَ الوَجْهُ، الْوَاحِدُ مَجْلًى، وَهُوَ مَوضِع الجَلا.

وَمِنْهُ يُقَالُ: جَدْيٌ أَذْرَأُ وعَناقٌ ذَرْآءُ إِذَا كَانَ فِي رأْسها بَيَاضٌ، وكَبْشٌ أَذْرَأُ ونَعْجةٌ ذَرْآءُ: فِي رؤوسهما بَيَاضٌ.

والذَّرْآءُ مِنَ المَعز: الرَّقْشاء الأُذُنَيْنِ وسائرُها أَسْوَدُ، وَهُوَ مِنْ شِياتِ الْمَعِزِ دُونَ الضأْن.

وَفَرَسٌ أَذْرَأُ وجَدْيٌ أَذْرَأُ أَي أَرْقَش الأُذنين.

وملح ذَرْآنِيٌّ وذَرَآنِيٌّ: شَديد الْبَيَاضِ، بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ وَتَسْكِينِهَا، وَالتَّثْقِيلُ أَجود، وَهُوَ مأْخوذ مِنَ الذُّرْأَةِ، وَلَا تَقُلْ أَنْذرانِيٌّ.

وأَذْرَأَنِي فُلَانٌ وأَشْكَعَنِي أَي أَغْضَبَنِي.

وأَذْرَأَه، أَي أَغْضَبَه وأَوْلَعَه بالشيءِ.

أَبو زَيْدٍ: أَذْرَأْتُ الرجلَ بَصاحِبه إذْراءً إِذَا حَرَّشْتَه عَلَيْهِ وأَوْلَعْتَه بِهِ فَدَبَّرَ بِهِ.

غَيْرُهُ: أَذْرَأْتُه أَي أَلجأْته.

وَحَكَى أَبو عُبَيْدٍ أَذراه، بِغَيْرِ هَمْزٍ، فردَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَذْرَأَه.

وأَذْرَأَه أَيضًا: ذَعرَه.

وبَلَغَنِي ذرْءٌ مِنْ خَبَرٍ أَي طَرَفٌ مِنْهُ وَلَمْ يَتكامل.

وَقِيلَ: هُوَ الشيءُ اليَسِيرُ مِنَ القَوْلِ.

قَالَ صخْر بْنُ حَبْناء:

أَتانِي، عَنْ مُغِيرةَ، ذَرْءُ قَوْلٍ، ***وَعَنْ عيسَى، فقُلْتُ لَهُ: كَذاكا

وأَذْرأَتِ الناقةُ، وَهِيَ مُذْرِئٌ: أَنْزلَت اللَّبنَ.

قَالَ الأَزهري: قَالَ اللَّيْثَ فِي هَذَا الْبَابِ يُقَالُ: ذَرَأْتُ الوَضِينَ إِذَا بسَطْتَه عَلَى الأَرض.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا تَصْحِيفٌ مُنْكَرٌ، وَالصَّوَابُ دَرَأْتُ الوضِينَ إِذَا بَسَطْتَه عَلَى الأَرض ثُمَّ أَنخْتَه عَلَيْهِ لتَشُدَّ عَلَيْهِ الرّحْلَ.

وَقَدْ تقدَّم فِي حَرْفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَمَنْ قَالَ ذَرَأْتُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ صحَّف، وَاللَّهُ أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


40-لسان العرب (ثلب)

ثلب: ثَلَبَه يَثْلِبُه ثَلْبًا: لامَه وعابَه وصَرَّحَ بِالْعَيْبِ وقالَ فِيهِ وتَنَقَّصَه.

قَالَ الرَّاجِزُ: لَا يُحْسِنُ التَّعْرِيضَ إِلَّا ثَلْبا غَيْرُهُ: الثَّلْبُ: شِدّةُ اللَّوْمِ والأَخْذُ باللِّسان، وَهُوَ المِثْلَبُ يَجْري فِي العُقُوباتِ، والثَّلْب.

ومَثَل: لَا يُحْسِنُ التَّعْرِيضَ إلَّا ثَلَّابًا.

والمَثالِبُ مِنْهُ.

والمَثالِبُ: العُيُوبُ، وَهِيَ المَثْلَبةُ والمَثْلُبةُ.

ومثالِبُ الأَمِيرِ وَالْقَاضِي: مَعايِبُه ورَجلٌ ثِلْبٌ وثَلِبٌ: مَعِيبٌ.

وثَلَبَ الرَّجُلَ ثَلْبًا: طرَدَهُ.

وثَلَبَ الشيءَ: قَلَبَه.

وثَلَبَه كَثَلَمَه عَلَى الْبَدَلِ.

ورمْحٌ ثَلِبٌ: مَتَثَلِّمٌ.

قَالَ أَبو العِيال الهُذَلِي:

وَقَدْ ظَهَرَ السَّوابِغُ فِيهِمُ ***والبَيْضُ واليَلَبُ

ومُطَّرِدٌ.

مِنَ الخَطِّيِّ، ***لَا عارٍ، وَلَا ثَلِبُ

اليَلَبُ: الدُّرُوعُ المَعْمُولةُ مِنْ جُلُودِ الإِبل، وَكَذَلِكَ البَيْضُ تُعْمَلُ أَيضًا مِنَ الجُلود.

وَقَوْلُهُ: لَا عارٍ أَي لَا عارٍ مِنَ القِشْر وَمِنْهُ امْرأَةٌ ثالبَةُ الشَّوَى أَي مُتَشَقِّقةُ القَدَمَيْنِ، قَالَ جَرِيرٌ:

لَقَدْ ولَدَتْ غَسَّانَ ثالِبةُ الشَّوَى، ***عَدُوسُ السُّرَى، لَا يَعْرِفُ الكَرْمَ جِيدُها

وَرَجُلٌ ثِلْبٌ: مُنْتَهي الهَرَمِ مُتَكَسِّرُ الأَسْنانِ، وَالْجَمْعُ أَثْلابٌ، والأُنثى ثِلْبةٌ، وأَنكرها بعضُهم، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ ثِلْبٌ.

وَقَدْ ثَلَّبَ تَثْلِيبًا.

والثِّلْبُ: الشَّيخ، هُذَلِيَّةٌ.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ المُسِنُّ، وَلَمْ يَخُصَّ بِهَذِهِ اللُّغَةِ قَبِيلةً مِنَ الْعَرَبِ دُونَ أُخرى.

وأَنشد: إمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ ثِلْبًا شاخِصًا

الشاخِصُ الَّذِي لَا يُغِبُّ الغَزْوَ.

وَبَعِيرٌ ثِلْبٌ إِذَا لَمْ يُلْقِحْ.

والثِّلْبُ، بِالْكَسْرِ: الْجَمَلُ الَّذِي انْكَسَرَتْ أنيابُه مِن الهَرَمِ، وتَناثَر هُلْبُ ذَنَبِه، والأُنثى ثِلْبةٌ، وَالْجَمْعُ ثِلَبةٌ، مثلُ قِرْدٍ وقِرَدةٍ.

تَقُولُ مِنْهُ: ثَلَّبَ البعيرُ تَثْلِيبًا، عَنِ الأَصمعي قَالَهُ فِي كِتَابِ الفَرْق؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَهُمْ مِنَ الصَّدَقةِ الثِّلْبُ والنَّابُ».

الثِّلْبُ مِنْ ذُكور الإِبل: الَّذِي هَرِمَ وتكسَّرَتْ أَسنانُه.

والنابُ: المُسِنَّةُ مِنْ إناثِها، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى معاويةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّكَ جَرَّبْتَني فوجَدْتَني لستُ بالغُمْرِ الضَّرَعِ وَلَا بالثِّلْبِ الْفَانِي.

الغُمْرُ: الجاهلُ.

والضَّرَعُ: الضَّعِيفُ.

وَثَلِبَ جِلْدُه ثَلَبًا، فَهُوَ ثَلِبٌ، إِذَا تَقَبَّض.

والثَّلِيبُ: كَلأُ عامَيْنِ أَسْوَدُ، حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ عَنْ أَبي عَمْرٍو، وأَنشد:

رَعَيْنَ ثَلِيبًا سَاعَةً، ثُمَّ إنَّنا ***قَطَعْنا علَيْهِنَّ الفِجاجَ الطَّوامِسا

والإِثْلِبُ والأَثْلَبُ: التُّرابُ وَالْحِجَارَةُ.

وَفِي لغةٍ: فَتاتُ الحِجارةِ والترابُ.

قَالَ شِمْرٌ: الأَثْلَبُ، بِلُغَةِ أَهل الْحِجَازِ: الحَجَر، وَبِلُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ: التُّرَابُ.

وَبِفِيهِ الإِثْلِبُ، والكلامُ الْكَثِيرُ الأَثْلَبُ، أَي الترابُ وَالْحِجَارَةُ.

قَالَ:

ولكِنَّما أُهْدي لقَيْسٍ هَدِيَّةً، ***بِفِيَّ، مِن إهْداها لَه، الدَّهْرَ، إثْلِبُ

بِفِيَّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أُهْدي ثُمَّ استأْنف، فَقَالَ لَهُ: الدهرَ، إثْلِبُ، مِنْ إِهْدَائِي إِيَّاهَا.

وَقَالَ رُؤْبَةُ:

وإنْ تُناهِبْهُ تَجِدْه مِنْهَبا، ***تَكْسُو حُروفَ حاجِبَيْه الأَثْلَبا

أَراد تُناهِبْه العَدْوَ، وَالْهَاءُ للعَير، تَكْسُو حُروفَ حاجِبَيْه الأَثْلَبَ، وَهُوَ التُّرَابُ تَرمي بِهِ قوائمُها عَلَى حاجبَيْه.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: الإِثْلِبَ لكَ والترابَ.

قَالَ: نَصَبُوهُ كأَنَّه دُعَاءٌ، يُرِيدُ: كأَنه مصْدَرٌ مَدْعُوٌّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْمًا كَمَا سَنَذْكُرُهُ لَكَ فِي الحِصْحِصِ والتُّراب، حِينَ قَالُوا: الحِصْحِصَ لَكَ والترابَ لَكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الوَلَدُ للفِراش وللعاهِر الإِثْلِبُ».

الإِثْلِبُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ وَفَتْحِهِمَا وَالْفَتْحُ أَكثر: الْحَجَرُ.

والعاهرُ: الزَّانِي.

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: وللعاهِرِ الحجَرُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ الرَّجْمُ، وَقِيلَ: هُوَ كنايةٌ عَنِ الخَيْبةِ، وَقِيلَ: الأَثْلَبُ: الترابُ، وَقِيلَ: دُقاقُ الحِجارة، وَهَذَا يُوَضِّحُ أَن مَعْنَاهُ الخَيْبةُ إِذْ لَيْسَ كُلُّ زانٍ يُرْجَمُ، وَهَمْزَتُهُ زَائِدَةٌ.

والأَثْلَمُ، كالأَثْلَبِ، عَنِ الهجَريّ.

قَالَ: لَا أَدْري أَبَدَلٌ أَم لُغَةٌ.

وأَنشد:

أَحْلِفُ لَا أُعْطِي الخَبيثَ دِرْهَما، ***ظُلْمًا، وَلَا أُعْطِيهِ إِلَّا الأَثْلَما

والثَّلِيبُ: القَدِيمُ مِنَ النَّبْتِ.

والثَّلِيبُ: نَبْتٌ وَهُوَ مِن نَجِيلِ السِّباخِ، كِلَاهُمَا عَنْ كُرَاعٍ.

والثِّلْبُ: لَقَبُ رَجل.

والثَّلَبُوتُ: أَرضٌ.

قَالَ لَبِيدٌ:

بأَحِزَّةِ الثَّلَبُوتِ، يَرْبَأُ، فَوْقَها، ***قَفْرَ المَراقِبِ، خَوْفُها آرامُها

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: ثَلَبُوتٌ: أَرض، فَأَسْقَطَ مِنْهُ الأَلف وَاللَّامَ وَنَوَّنَ، ثُمَّ قَالَ: أرضٌ وَلَا أَدري كَيْفَ هَذَا.

والثَّلَبُوتُ: اسْمُ وادٍ بين طَيِّئٍ وذُبْيانَ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


41-لسان العرب (قلب)

قلب: القَلْبُ: تَحْويلُ الشيءِ عَنْ وَجْهِهِ.

قَلَبه يَقْلِبُه قَلْبًا، وأَقْلَبه، الأَخيرةُ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.

وَقَدِ انْقَلَب، وقَلَبَ الشيءَ، وقَلَّبه: حَوَّله ظَهْرًا لبَطْنٍ.

وتَقَلَّبَ الشيءُ ظَهْرًا لبَطْنٍ، كالحَيَّةِ تَتَقَلَّبُ عَلَى الرَّمْضاءِ.

وقَلَبْتُ الشيءَ فانْقَلَبَ أَي انْكَبَّ، وقَلَّبْتُه بِيَدِي تَقْلِيبًا، وَكَلَامٌ مَقْلوبٌ، وَقَدْ قَلَبْتُه فانْقَلَب، وقَلَّبْتُه فَتَقَلَّب.

والقَلْبُ أَيضًا: صَرْفُكَ إِنْسانًا، تَقْلِبُه عَنْ وَجْهه الَّذِي يُريده.

وقَلَّبَ الأُمورَ: بَحَثَها، ونَظَر فِي عَواقبها.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}؛ وكُلُّه مَثَلٌ بِمَا تَقَدَّم.

وتَقَلَّبَ فِي الأُمور وَفِي الْبِلَادِ: تَصَرَّف فِيهَا كَيْفَ شاءَ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}.

مَعْنَاهُ: فَلَا يَغْرُرْكَ سَلامَتُهم فِي تَصَرُّفِهم فِيهَا، فإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرهم الهلاكُ.

وَرَجُلٌ قُلَّبٌ: يَتَقَلَّبُ كَيْفَ شاءَ.

وتَقَلَّبَ ظَهْرًا لبطْنٍ، وجَنْبًا لجَنْبٍ: تَحوَّل.

وقولُهم: هُوَ حُوَّلٌ قُلَّبٌ أَي مُحتالٌ، بَصِيرٌ بتَقْليبِ الأُمور.

والقُلَّبُ الحُوَّلُ: الَّذِي يُقَلِّبُ الأُمورَ، ويحْتال لَهَا.

وَرُوِيَ عَنْ مُعاوية، لَمَّا احْتُضِرَ: أَنه كَانَ يُقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي مَرَضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنكم لتُقَلِّبُونَ حُوَّلًا قُلَّبًا، لَوْ وُقيَ هَوْلَ المُطَّلَعِ؛ وَفِي النِّهَايَةِ: إِن وُقيَ كُبَّةَ النَّارِ، أَي رَجُلًا عَارِفًا بالأُمور، قَدْ رَكِبَ الصَّعْبَ والذَّلُول، وقَلَّبهما ظَهْرًا لبَطْنٍ، وَكَانَ مُحْتالًا فِي أُموره، حَسَنَ التَّقَلُّبِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ تَرْجُف وتَخِفُّ مِنَ الجَزَع والخَوْفِ.

قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَن مَنْ كانَ قَلْبُه مُؤْمِنًا بالبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ازدادَ بَصِيرَةً، ورأَى مَا وُعِدَ بِهِ، وَمَنْ كانَ قَلْبُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، رأَى مَا يُوقِنُ مَعَهُ أَمْرَ الْقِيَامَةِ والبَعْث، فعَلِم ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وشاهَدَه بِبَصَرِهِ؛ فَذَلِكَ تَقَلُّبُ القُلُوب والأَبصار.

وَيُقَالُ: قَلَبَ عَيْنَه وحِمْلاقَه، عِنْدَ الوَعيدِ والغَضَبِ؛ وأَنشد:

قالبُ حِمْلاقَيْهِ قَدْ كادَ يُجَنّ

وقَلَب الخُبْزَ ونحوَه يَقْلِبه قَلْبًا إِذا نَضِج ظاهرُه، فَحَوَّله ليَنْضَجَ باطنُه؛ وأَقْلَبها: لُغَةٌ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.

وأَقْلَبَتِ الخُبْزَةُ: حَانَ لَهَا أَن تُقْلَبَ.

وأَقْلَبَ العِنَبُ: يَبِسَ ظاهرُه، فَحُوِّلَ.

والقَلَبُ، بِالتَّحْرِيكِ: انْقِلابٌ فِي الشَّفَةِ العُلْيا، واسْتِرخاءٌ؛ وَفِي الصِّحَاحِ: انْقِلابُ الشَّفَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْ بالعُلْيا.

وشَفَة قَلْباءُ: بَيِّنَةُ القَلَب، وَرَجُلٌ أَقْلَبُ.

وَفِي الْمَثَلِ: اقْلِبي قَلابِ؛ يُضْرَب لِلرَّجُلِ يَقْلِبُ لسانَه، فيَضَعُه حَيْثُ شاءَ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه: «بَيْنا يُكَلِّمُ إِنسانًا إِذ اندفَعَ جرير يُطْرِيه ويُطْنِبُ، فأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا جَرِيرُ؟ وعَرَفَ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: ذكرتُ أَبا بَكْرٍ وَفَضْلَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اقْلِبْ قَلَّابُ، وسكتَ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذَا مَثَلٌ يُضْرَب لِمَنْ تَكُونُ مِنْهُ السَّقْطة، فَيَتَدَارَكُهَا بأَن يَقْلِبَها عَنْ جِهتها، ويَصْرِفَها إِلى غَيْرِ مَعْنَاهَا؛ يُرِيدُ: اقْلِبْ يَا قَلَّابُ فأَسْقَطَ حرفَ النِّدَاءِ، وَهُوَ غَرِيبٌ؛ لأَنه إِنما يُحْذَفُ مَعَ الأَعْلام.

وقَلَبْتُ القومَ، كَمَا تقولُ: صَرَفْتُ الصبيانَ، عَنْ ثَعْلَبٍ.

وقَلَبَ المُعَلِّم الصِّبْيَانَ يَقْلِبُهم: أَرسَلَهم، ورَجَعَهُم إِلى مَنَازِلِهِمْ؛ وأَقْلَبَهم: لغةٌ ضعيفةٌ، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، عَلَى أَنه قَدْ قَالَ: إِن كَلَامَ الْعَرَبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِنما هُوَ: قَلَبْتُه، بِغَيْرِ أَلف.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «أَنه كَانَ يقالُ لمُعَلِّم الصِّبْيَانِ: اقْلِبْهم»أَي اصْرفهُمْ إِلى مَنَازِلِهِمْ.

والانْقِلابُ إِلى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، المصيرُ إِليه، والتَّحَوُّلُ، وَقَدْ قَلَبه اللهُ إِليه؛ هَذَا كلامُ الْعَرَبِ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيِّ: أَقْلَبه؛ قَالَ وَقَالَ أَبو ثَرْوانَ: أَقْلَبَكُم اللهُ مَقْلَب أَوليائه، ومُقْلَبَ أَوليائه، فَقَالَهَا بالأَلف.

والمُنْقَلَبُ يَكُونُ مَكَانًا، وَيَكُونُ مَصْدَرًا، مِثْلُ المُنْصَرَف.

والمُنْقَلَبُ: مَصِيرُ العِبادِ إِلى الْآخِرَةِ.

وَفِي حَدِيثِ دعاءِ السَّفَرِ: «أَعوذُ بِكَ مِنْ كَآبَةِ المُنْقَلَب»أَي الانْقِلابِ مِنَ السَّفَرِ، والعَوْدِ إِلى الوَطَن؛ يَعْنِي أَنه يَعُودُ إِلى بَيْتِهِ فَيرى فِيهِ مَا يَحْزُنه.

والانْقِلابُ: الرجوعُ مُطْلَقًا؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْمُنْذِرِ ابن أَبي أَسِيدٍ، حِينَ وُلِدَ: فاقْلِبُوه، فَقَالُوا: أَقْلَبْناه يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَصَوَابُهُ قَلَبْناه أَي رَدَدْناه.

وقَلَبه عَنْ وَجْهِهِ: صَرَفَه؛ وَحَكَى اللحيانيُّ: أَقْلَبه، قَالَ: وَهِيَ مَرْغوبٌ عَنْهَا.

وقَلَبَ الثوبَ، والحديثَ، وكلَّ شيءٍ: حَوَّله؛ وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ فِيهِمَا أَقْلَبه.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَن الْمُخْتَارَ عِنْدَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَلَبْتُ.

وَمَا بِالْعَلِيلِ قَلَبةٌ أَي مَا بِهِ شَيْءٌ، لَا يُسْتَعْمَل إِلا فِي النَّفْيِ، قَالَ الفراءُ: هُوَ مأْخوذ مِنَ القُلابِ: داءٍ يأْخذ الإِبل فِي رؤُوسها، فيَقْلِبُها إِلى فَوْقُ؛ قَالَ النَّمِرَ:

أَوْدَى الشَّبابُ وحُبُّ الخالةِ الخَلِبه، ***وَقَدْ بَرِئْتُ، فَمَا بالقلبِ مِنْ قَلَبَهْ

أَي بَرِئْتُ مِنْ داءِ الحُبِّ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: مَعْنَاهُ لَيْسَتْ بِهِ عِلَّةٌ، يُقَلَّبُ لَهَا فيُنْظَرُ إِليه.

تَقُولُ: مَا بِالْبَعِيرِ قَلَبة أَي لَيْسَ بِهِ داءٌ يُقْلَبُ لَهُ، فيُنْظَرُ إِليه؛ وَقَالَ الطَّائِيُّ: مَعْنَاهُ مَا بِهِ شيءٌ يُقْلِقُه، فَيَتَقَلَّبُ مِنْ أَجْلِه عَلَى فِرَاشِهِ.

اللَّيْثُ: مَا بِهِ قَلَبة أَي لَا داءَ وَلَا غَائِلَةٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فانْطَلَق يَمشي، مَا بِهِ قَلَبة»أَي أَلمٌ وَعِلَّةٌ؛ وَقَالَ الفراءُ: مَعْنَاهُ مَا بهِ عِلَّةٌ يُخْشى عَلَيْهِ مِنْهَا، وَهُوَ مأْخوذ مِن قَوْلِهِمْ: قُلِبَ الرجلُ إِذا أَصابه وَجَعٌ فِي قَلْبِهِ، وَلَيْسَ يَكادُ يُفْلِتُ مِنْهُ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَصلُ ذَلِكَ فِي الدَّوابِّ أَي مَا بِهِ داءٌ يُقْلَبُ مِنْهُ حافرُه؛ قَالَ حميدٌ الأَرْقَطُ يَصِفُ فَرَسًا:

وَلَمْ يُقَلِّبْ أَرْضَها البَيْطارُ، ***وَلَا لِحَبْلَيْه بِهَا حَبارُ

أَي لَمْ يَقْلِبْ قَوائمَها مِنْ عِلَّة بِهَا.

وَمَا بالمريضِ قَلَبَة أَي عِلَّةٌ يُقَلَّبُ مِنْهَا.

والقَلْبُ: مُضْغةٌ مِنَ الفُؤَاد مُعَلَّقةٌ بالنِّياطِ.

ابْنُ سِيدَهْ: القَلْبُ الفُؤَاد، مُذَكَّر، صَرَّح بِذَلِكَ اللِّحْيَانِيُّ، وَالْجَمْعُ: أَقْلُبٌ وقُلوبٌ، الأُولى عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ نَزَلَ بِهِ جبريلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَيْكَ، فَوَعاه قَلْبُك، وثَبَتَ فَلَا تَنْساه أَبدًا.

وَقَدْ يُعَبَّرُ بالقَلْبِ عَنِ العَقْل، قَالَ الفراءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ}؛ أَي عَقْلٌ.

قَالَ الفراءُ: وجائزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَن تقولَ: مَا لَكَ قَلْبٌ، وَمَا قَلْبُك مَعَكَ؛ تَقُولُ: مَا عَقْلُكَ معكَ، وأَين ذَهَبَ قَلْبُك؟ أَي أَين ذَهَبَ عَقْلُكَ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَي تَفَهُّمٌ وتَدَبُّرٌ.

ورُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: أَتاكم أَهل اليَمن، هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا، وأَلْيَنُ أَفْئِدَةً، فوَصَفَ القلوبَ بالرِّقة، والأَفْئِدَةَ باللِّين.

وكأَنَّ القَلْبَ أَخَصُّ مِنَ الفؤَاد فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: أَصَبْتُ حَبَّةَ قلبِه، وسُوَيْداءَ قَلْبِهِ؛ وأَنشد بَعْضُهُمْ:

لَيْتَ الغُرابَ رَمى حَماطَةَ قَلْبهِ ***عَمْرٌو بأَسْهُمِه الَّتِي لَمْ تُلْغَبِ

وَقِيلَ: القُلُوبُ والأَفْئِدَةُ قريبانِ مِنَ السواءِ، وكَرَّرَ ذِكْرَهما، لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ تأْكيدًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّي القَلْبُ قَلْبًا لتَقَلُّبِه؛ وأَنشد:

مَا سُمِّيَ القَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبه، ***والرَّأْيُ يَصْرِفُ بالإِنْسان أَطْوارا

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: سُبْحانَ مُقَلِّب القُلُوب وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ}.

قَالَ الأَزهري: ورأَيت بعضَ الْعَرَبِ يُسَمِّي لحمةَ القَلْبِ كُلها، شَحْمَها وحِجابَها: قَلْبًا وفُؤَادًا، قَالَ: وَلَمْ أَرهم يَفْرِقُونَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَ: وَلَا أُنْكِر أَن يَكُونَ القَلْبُ هِيَ العَلَقة السوداءُ فِي جَوْفِهِ.

وقَلَبه يَقْلِبُه ويَقْلُبه قَلْبًا، الضَّمُّ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ وحدَه: أَصابَ قَلْبَه، فَهُوَ مَقْلُوب، وقُلِبَ قَلْبًا: شَكا قَلْبه.

والقُلابُ: داءٌ يأْخذ فِي القَلْبِ، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والقُلابُ: داءٌ يأْخُذُ الْبَعِيرَ، فَيَشْتَكِي مِنْهُ قَلْبَه فيموتُ مِنْ يَوْمِهِ، يُقَالُ: بَعِيرٌ مَقْلُوبٌ، وَنَاقَةٌ مَقْلوبة.

قَالَ كُرَاعٌ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ اسمُ داءٍ اشْتُقَّ مِنِ اسمِ العِضْو إِلا القُلاب مِنَ القَلْب، والكُباد مِنَ الكَبِدِ، والنُّكاف مِنَ النَّكَفَتَيْن، وَهُمَا غُدَّتانِ تَكْتَنِفانِ الحُلْقُومَ مِنْ أَصل اللَّحْي.

وَقَدْ قُلِبَ قِلابًا؛ وَقِيلَ: قُلِبَ الْبَعِيرُ قِلابًا عاجَلَتْه الغُدَّة، فَمَاتَ.

وأَقْلَبَ القومُ: أَصابَ إِبلَهم القُلابُ.

الأَصمعي: إِذا عاجَلَتِ الغُدَّةُ البعيرَ، فَهُوَ مَقْلُوب، وَقَدْ قُلِبَ قِلابًا.

وقَلْبُ النخلةِ وقُلْبُها وقِلْبُها: لُبُّها، وشَحْمَتُها، وَهِيَ هَنةٌ رَخْصةٌ بَيْضاءُ، تُمْتَسخُ فتُؤْكل، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: قَلْبٌ وقُلْبٌ وقِلْبٌ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ مَرَّة: القُلْبُ أَجْوَدُ خُوصِ النَّخْلَةِ، وأَشدُّه بَيَاضًا، وَهُوَ الخُوص الَّذِي يَلِي أَعلاها، وَاحِدَتُهُ قُلْبة، بِضَمِّ الْقَافِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، وَالْجَمْعُ أَقْلابٌ وقُلُوبٌ وقِلَبةٌ.

وقَلَبَ النَّخْلَةَ: نَزَع قُلْبَها.

وقُلُوبُ الشَّجَرِ: مَا رَخُصَ مِنْ أَجوافِها وعُروقها الَّتِي تَقُودُها.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، كَانَ يأْكل الجرادَ وقُلُوبَ الشَّجَرِ»؛ يَعْنِي الَّذِي يَنْبُتُ فِي وَسَطها غَضًّا طَريًّا، فَكَانَ رَخْصًا مِنَ البُقولِ الرَّطْبة، قَبْلَ أَن يَقْوَى ويَصْلُبَ، واحدُها قُلْبٌ، بِالضَّمِّ، للفَرْق.

وقَلْبُ النَّخْلَةِ: جُمَّارُها، وَهِيَ شَطْبة بيضاءُ، رَخْصَة فِي وَسَطِها عِنْدَ أَعلاها، كأَنها قُلْبُ فِضَّةٍ رَخْصٌ طَيِّبٌ، سُمِّيَ قَلْبًا لِبَيَاضِهِ.

شَمِرٌ: يُقَالُ قَلْبٌ وقُلْبٌ لقَلْبِ النَّخْلَةِ، ويُجْمَع قِلَبةً.

التَّهْذِيبُ: القُلْبُ، بِالضَّمِّ، السَّعَفُ الَّذِي يَطْلُع مِنَ القَلْب.

والقَلْبُ: هُوَ الجُمَّارُ، وقَلْبُ كُلِّ شيءٍ: لُبُّه، وخالِصُه، ومَحْضُه؛ تَقُولُ: جئْتُك بِهَذَا الأَمرِ قَلْبًا أَي مَحْضًا لَا يَشُوبُه شيءٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن لكلِّ شيءٍ قَلْبًا، وقلبُ الْقُرْآنِ يس».

وقَلْبُ العقْرب: مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ القَمَر، وَهُوَ كَوْكَبٌ نَيِّرٌ، وبجانِبَيْه كَوْكَبَانِ.

وَقَوْلُهُمْ: هُوَ عَرَبِيٌّ قَلْبٌ، وَعَرَبِيَّةٌ قَلْبة وقَلْبٌ أَي خَالِصٌ، تَقُولُ مِنْهُ: رَجُلٌ قَلْبٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ عربيٌّ مَحْضٌ؛ قَالَ أَبو وجْزَة يَصِفُ امرأَة:

قَلْبٌ عَقيلةُ أَقوامٍ ذَوي حَسَبٍ، ***يُرْمَى المَقانبُ عَنْهَا والأَراجِيلُ

وَرَجُلٌ قَلْبٌ وقُلْبٌ: مَحْضُ النَسبِ، يَسْتَوِي فِيهِ المؤَنث، وَالْمُذَكَّرُ، وَالْجَمْعُ، وإِن شِئْتَ ثَنَّيْتَ، وجَمَعْتَ، وإِن شِئْتَ تَرَكْتَهُ فِي حَالِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، والأُنثى قَلْبٌ وقَلْبةٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا هَذَا عَرَبيٌّ قَلْبٌ وقَلْبًا، عَلَى الصِّفَةِ وَالْمَصْدَرِ، وَالصِّفَةُ أَكثرُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ عليٌّ قُرَشيًا قَلْبًا» أَي خَالِصًا مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ.

وَقِيلَ: أَراد فَهِمًا فَطِنًا، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ}.

والقُلْبُ مِنَ الأَسْوِرَة: مَا كَانَ قَلْدًا وَاحِدًا، وَيَقُولُونَ: سِوارٌ قُلْبٌ؛ وَقِيلَ: سِوارُ المرأَة.

والقُلْبُ: الحيةُ البيضاءُ، عَلَى التَّشْبِيهِ بالقُلْب مِنَ الأَسْورة.

وَفِي حَدِيثِ ثَوْبانَ: «أَن فَاطِمَةَ حَلَّتِ الحسنَ وَالْحُسَيْنَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بقُلْبَيْن مِنْ فِضَّةٍ»؛ القُلْبُ: السِّوَارُ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثِ: «أَنه رأَى فِي يَدِ عَائِشَةَ قُلْبَيْن».

وَفِي حَدِيثِ

عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْهَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: « {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها} »؛ قَالَتْ: القُلْبُ، والفَتَخَةُ.

والمِقْلَبُ: الحديدةُ الَّتِي تُقْلَبُ بِهَا الأَرضُ لِلزِّرَاعَةِ.

وقَلَبْتُ المَمْلوكَ عِنْدَ الشراءِ أَقْلِبُه قَلْبًا إِذا كَشَفْتَه لِتَنْظُرَ إِلى عُيوبه.

والقُلَيْبُ، عَلَى لَفْظِ تَصْغِيرِ فَعْلٍ: خَرَزة يُؤَخَّذُ بِهَا، هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والقِلِّيبُ، والقَلُّوبُ، والقِلَّوْبُ، والقَلُوبُ،

والقِلابُ: الذئبُ، يَمانية؛ قَالَ شَاعِرُهُمْ:

أَيا جَحْمَتا بَكّي عَلَى أُم واهبٍ، ***أَكِيلَةِ قِلَّوْبٍ بِبَعْضِ المَذانبِ

والقَلِيبُ: البئرُ مَا كَانَتْ.

والقليبُ: الْبِئْرُ، قَبْلَ أَن تُطْوَى، فإِذا طُوِيَتْ، فَهِيَ الطَّوِيُّ، وَالْجَمْعُ القُلُبُ.

وَقِيلَ: هِيَ الْبِئْرُ العاديَّةُ القديمةُ، الَّتِي لَا يُعْلم لَهَا رَبٌّ، وَلَا حافِرٌ، تكونُ بالبَراري، تُذكَّر وتؤَنث؛ وَقِيلَ: هِيَ الْبِئْرُ الْقَدِيمَةُ، مَطْويَّةً كَانَتْ أَو غَيْرَ مَطْويَّةٍ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: القَلِيبُ اسْمٌ مِنْ أَسماءِ الرَّكِيّ، مَطْويَّةٌ أَو غَيْرُ مَطْوية، ذاتُ ماءٍ أَو غيرُ ذاتِ ماءٍ، جَفْرٌ أَو غيرُ جَفْرٍ.

وَقَالَ شَمِرٌ: القَلِيبُ اسمٌ مِنْ أَسماءِ الْبِئْرِ البَديءِ والعادِيَّة، وَلَا يُخَصُّ بِهَا العاديَّةُ.

قَالَ: وَسُمِّيَتْ قَليبًا لأَنه قُلِبَ تُرابُها.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: القَلِيبُ مَا كَانَ فِيهِ عَيْنٌ وإِلا فَلَا، وَالْجَمْعُ أَقْلِبةٌ؛ قَالَ عَنْتَرَةُ يَصِفُ جُعَلًا:

كأَنَّ مُؤَشَّرَ العضُدَيْنِ حَجْلًا، ***هَدُوجًا بينَ أَقْلِبةٍ مِلاحِ

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه وقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ».

القَلِيبُ: الْبِئْرُ لَمْ تُطْوَ، وَجَمْعُ الْكَثِيرِ: قُلُبٌ؛ قَالَ كُثَيِّرٌ:

وَمَا دامَ غَيْثٌ، مِنْ تِهامةَ، طَيِّبٌ، ***بِهَا قُلُبٌ عادِيَّةٌ وكِرارُ

والكِرارُ: جمعُ كَرٍّ للحِسْيِ.

والعاديَّة: القديمةُ، وَقَدْ شَبَّه العجاجُ بِهَا الجِراحاتِ فَقَالَ: عَنْ قُلُبٍ ضُجْمٍ تُوَرِّي مَنْ سَبَرْ

وَقِيلَ: الْجَمْعُ قُلُبٌ، فِي لُغَةِ مَنْ أَنَّثَ، وأَقْلِبةٌ وقُلُبٌ جَمِيعًا، فِي لُغَةِ مَن ذَكَّر؛ وَقَدْ قُلِبَتْ تُقْلَبُ.

وقَلَبَتِ البُسْرَةُ إِذا احْمَرَّتْ.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: القُلْبةُ الحُمْرَةُ.

الأُمَوِيُّ فِي لُغَةُ بَلْحرث بْنِ كَعْبٍ: القالِبُ، بِالْكَسْرِ، البُسْرُ الأَحمر؛ يُقَالُ مِنْهُ: قَلَبَتِ البُسْرةُ تَقْلِبُ إِذا احْمَرَّتْ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: إِذا تَغَيَّرَتِ البُسْرة كلُّها، فَهِيَ القالِبُ.

وَشَاةٌ قالِبُ لونٍ إِذا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ لونِ أُمِّها.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن مُوسَى لَمَّا آجَرَ نَفْسَه مِنْ شُعَيْبٍ، قَالَ لِمُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: لَكَ مِنْ غَنَمِي مَا جاءَت بِهِ قالِبَ لونٍ»؛ فجاءَتْ بِهِ كُلِّه قالِبَ لونٍ، غيرَ واحدةٍ أَو اثْنَتَيْنِ.

تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: «أَنها جاءَت بِهَا عَلَى غَيْرِ أَلوانِ أُمَّهاتها، كأَنَّ لونَها قَدِ انْقَلَب».

وَفِي حَدِيثِ عليٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وجهَه، فِي صِفَةِ الطُّيُورِ: «فَمِنْهَا مغموس في قالَبِ [قالِبِ] لونٍ»، لَا يَشُوبُه غيرُ لونِ مَا غُمِسَ فِيهِ.

أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ لِلْبَلِيغِ مِنَ الرِّجَالِ: قَدْ رَدَّ قالِبَ الكلامِ، وَقَدْ طَبَّقَ المَفْصِلَ، ووَضَع الهِناءَ مواضِعَ النَّقْبِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ نساءُ بَنِي إِسرائيل يَلْبَسْنَ القَوالِبَ»؛ جَمْعُ قالَبٍ، وَهُوَ نَعْل مِنْ خَشَب كالقَبْقابِ، وتُكسَر لَامُهُ وَتُفْتَحُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ مُعَرَّب.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كَانَتِ المرأَةُ تَلْبَسُ القالِبَيْنِ»، تطاولُ بِهِمَا.

والقالِبُ والقالَبُ: الشيءُ الَّذِي تُفْرَغُ فِيهِ الجواهِرُ، لِيَكُونَ مِثالًا لِمَا يُصاغُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ قالِبُ الخُفِّ وَنَحْوُهُ، دَخِيل.

وَبَنُو القلَيْب: بَطْنٌ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ القُلَيْبُ بنُ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ.

وأَبو قِلابةَ: رجلٌ من المحدّثين.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


42-لسان العرب (برح)

برح: بَرِحَ بَرَحًا وبُرُوحًا: زَالَ.

والبَراحُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ بَرِحَ مكانَه أَي زَالَ عَنْهُ وَصَارَ فِي

البَراحِ.

وَقَوْلُهُمْ: لَا بَراحَ، مَنْصُوبٌ كَمَا نُصِبَ قَوْلُهُمْ لَا رَيْبَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ لَيْسَ؛ كَمَا قَالَ سعدُ بنُ ناشِبٍ فِي قَصِيدَةٍ مَرْفُوعَةٍ:

مَنْ فَرَّ عَنْ نِيرانِها، ***فأَنا ابنُ قَيْسٍ لَا بَراحُ

قَالَ ابْنُ الأَثير: الْبَيْتُ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ يُعَرِّضُ بِالْحَرَثِ بْنِ عَبَّاد، وَقَدْ كَانَ اعْتَزَلَ حَرْبَ تَغْلِبَ وبكرٍ ابْنَيْ وَائِلٍ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ:

بِئْسَ الخَلائِفُ بَعْدَنا: ***أَولادُ يَشْكُرَ واللِّقاحُ

وأَراد بِاللَّقَاحِ بَنِي حَنِيفَةَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لأَنهم لَا يَدِينُونَ بِالطَّاعَةِ لِلْمُلُوكِ، وَكَانُوا قَدِ اعْتَزَلُوا حَرْبَ بَكْرٍ وتَغْلِبَ إِلَّا الفِنْدَ الزِّمَّانِيَّ.

وتَبَرَّح: كَبَرِحَ؛ قَالَ مُلَيحٌ الهُذَليُّ:

مَكَثْنَ عَلَى حاجاتِهنَّ، وَقَدْ مَضَى ***شَبابُ الضُّحَى، والعِيسُ مَا تَتَبَرَّحُ

وأَبْرَحَه هُوَ.

الأَزهري: بَرِحَ الرجلُ يَبْرَحُ بَراحًا إِذا رامَ مِنْ مَوْضِعِهِ.

وَمَا بَرِحَ يَفْعَلُ كَذَا أَي مَا زَالَ، وَلَا أَبْرَحُ أَفعل ذَاكَ أَي لَا أَزال أَفعله.

وبَرِحَ الأَرضَ: فارَقَها.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي}؛ وَقَوْلُهُ تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ}؛ أَي لَنْ نَزالَ.

وحَبِيلُ بَراحٍ: الأَسَدُ كأَنه قَدْ شُدّ بِالْحِبَالِ فَلَا يَبْرَح، وَكَذَلِكَ الشجاعُ.

والبَراحُ: الظُّهُورُ وَالْبَيَانُ.

وبَرِحَ الخَفاء وبَرَحَ، الأَخيرة عَنِ ابْنِ الأَعرابي: ظَهَر؛ قَالَ:

بَرَحَ [بَرِحَ] الخَفاءُ فَمَا لَدَيَّ تَجَلُّدٌ أَي وَضَحَ الأَمر كأَنه ذَهَبَ السِّرُّ وَزَالَ.

الأَزهري: بَرِحَ الخَفاء مَعْنَاهُ زَالَ الخَفاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ مَا كَانَ خَافِيًا وَانْكَشَفَ، مأْخوذ مِنْ بَراحِ الأَرض، وَهُوَ الْبَارِزُ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ مَا كُنْتُ أُخْفِي.

وَجَاءَ بِالْكُفْرِ بَراحًا أَي بَيِّنًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «جَاءَ بِالْكُفْرِ بَراحًا»أَي جِهارًا، مِنْ بَرِحَ الخَفاءُ إِذا ظَهَرَ، وَيُرْوَى بِالْوَاوِ.

وجاءَنا بالأَمر بَراحًا أَي بَيِّنًا.

وأَرض بَراح: وَاسِعَةٌ ظَاهِرَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا عُمرانَ.

والبَراح، بِالْفَتْحِ: المُتَّسِع مِنَ الأَرض لَا زَرْعَ فِيهِ وَلَا شَجَرَ.

وبَراحُ وبَراحِ: اسْمٌ لِلشَّمْسِ، مَعْرِفَةٌ مِثْلَ قَطامِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِانْتِشَارِهَا وَبَيَانِهَا؛ وأَنشد قُطْرُبٌ:

هَذَا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ، ***ذَبَّبَ حَتَّى دَلَكَتْ بَراحِ

بَراحِ يَعْنِي الشَّمْسَ.

وَرَوَاهُ الْفَرَّاءُ: بِراحِ، بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَهِيَ بَاءُ الْجَرِّ، وَهُوَ جَمْعُ رَاحَةٍ وَهِيَ الْكَفُّ أَي اسْتُريحَ مِنْهَا، يَعْنِي أَن الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ أَو زَالَتْ فهم يضعون راحاتهم على عُيُونِهِمْ، يَنْظُرُونَ هَلْ غَرَبَتْ أَو زَالَتْ.

وَيُقَالُ لِلشَّمْسِ إِذا غَرَبَتْ: دَلَكَتْ بَراحِ يَا هَذَا، عَلَى فَعالِ: الْمَعْنَى: أَنها زَالَتْ وبَرِحَتْ حِينَ غَرَبَتْ، فَبَراحِ بِمَعْنَى بَارِحَةٍ، كَمَا قَالُوا لِكَلْبِ الصيدِ: كَسابِ بِمَعْنَى كاسِبَة، وَكَذَلِكَ حَذامِ بِمَعْنَى حاذِمَة.

وَمَنْ قَالَ: دَلَكَتِ الشمسُ بِراحِ، فَالْمَعْنَى: أَنها كَادَتْ تَغْرُبُ؛ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ، يَعْنِي فَتْحَ الْبَاءِ وَكَسْرَهَا، ذَكَرَهُمَا أَبو عُبَيْدٍ والأَزهريُّ والهَرَوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُفَسِّرِي اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ، قَالَ: وَقَدْ أَخذ بعضُ المتأَخرين القولَ الثَّانِيَ عَلَى الْهَرَوِيِّ، فَظَنَّ أَنه قَدِ انْفَرَدَ بِهِ، وخطَّأَه فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَن غَيْرَهُ مِنَ الأَئمة قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ذَهَبَ إِليه؛ وَقَالَ الغَنَوِيُّ:

بُكْرَةَ حَتَّى دَلَكَتْ بِراحِ

يَعْنِي بِرَائِحٍ، فأَسقط الْيَاءَ، مِثْلَ جُرُف هارٍ وَهَائِرٍ.

وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: دَلَكَتْ بَراحِ وبَراحُ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا؛ وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: دَلَكَتْ بِراحٍ، مَجْرُورٌ منوَّن، وَدَلَكَتْ بَراحُ، مَضْمُومٌ غَيْرُ مُنَوَّنٍ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «حِينَ دلكتْ بَراحِ».

ودُلوك الشَّمْسِ: غُرُوبُهَا.

وبَرَّحَ بِنَا فُلَانٌ تَبْريحًا، وأَبْرَحَ، فَهُوَ مُبَرِّحٌ بِنَا ومُبْرِحٌ: آذَانَا بالإِلحاح، وَفِي التَّهْذِيبِ: آذَاكَ بإِلحاح الْمَشَقَّةِ، وَالِاسْمُ البَرْحُ والتَّبْريحُ، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: أَمر بَرْحٌ؛ قَالَ:

بِنَا والهَوَى بَرْحٌ عَلَى مَنْ يُغالِبُه

وَقَالُوا: بَرْحٌ بارِحٌ وبَرْحٌ مُبْرِحٌ، عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فإِن دَعَوْتَ بِهِ، فَالْمُخْتَارُ النَّصْبُ، وَقَدْ يُرْفَعُ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَمُنْحَدِرًا تَرْمِي بِكَ العِيسُ غُرْبَةً؟ ***ومُصْعِدَةً؟ بَرْحٌ لِعَيْنَيْكَ بارِحُ

يَكُونُ دُعَاءً وَيَكُونُ خَبَرًا.

والبَرْحُ: الشَّرُّ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ.

وبرَّحَ بِهِ: عَذَّبَهُ.

وَالتَّبَارِيحُ: الشَّدَائِدُ، وَقِيلَ: هِيَ كُلَفُ الْمَعِيشَةِ فِي مَشَقَّةٍ.

وتَبارِيحُ الشَّوْق: تَوَهُّجُه.

وَلَقِيتُ مِنْهُ بَرْحًا بارِحًا»؛ أي شِدَّةً وأَذىً؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقِينَا مِنْهُ البَرْحَ»أَي الشِّدَّةَ؛ وَفِي حَدِيثِ أَهل النَّهْرَوانِ: «لَقُوا بَرْحًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَجَدَّكَ هَذَا، عَمْرَك اللهَ كُلَّمَا ***دَعاكَ الهَوَى؟ بَرْحٌ لِعَيْنَيْكَ بارِحُ

وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا: شَدِيدًا، وَلَا تَقُلْ مُبَرَّحًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّح»أَي غَيْرَ شاقٍّ.

وَهَذَا أَبْرَحُ عَلَيَّ مِنْ ذَاكَ أَي أَشق وأَشدّ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

أَنينًا وشَكْوَى بالنهارِ كَثِيرَةً ***عَلَيَّ، وَمَا يأْتي بِهِ الليلُ أَبْرَحُ

وَهَذَا عَلَى طَرْحِ الزَّائِدِ، أَو يَكُونُ تَعَجُّبًا لَا فِعْلَ لَهُ كأَحْنَك الشاتَين.

والبُرَحاءُ: الشِّدَّة وَالْمَشَقَّةُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ شِدَّةَ الحُمَّى؛ وبُرَحايا، فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وبُرَحاءُ الحُمَّى وَغَيْرِهَا: شِدَّة الأَذى.

وَيُقَالُ لِلْمَحْمُومِ الشَّدِيدِ الحُمَّى: أَصابته البُرَحاءُ.

الأَصمعي: إِذا تمدَّدَ المحمومُ للحُمَّى، فَذَلِكَ الْمُطَوَّى، فإِذا ثَابَ عَلَيْهَا، فَهِيَ الرُّحَضاءُ، فإِذا اشْتَدَّتِ الْحُمَّى، فَهِيَ البُرَحاءُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «بَرَّحَتْ بِيَ الْحُمَّى» أَي أَصابني مِنْهَا البُرَحاءُ، وَهُوَ شِدتُها.

وَحَدِيثُ الإِفْكِ: فأَخذه البُرَحاءُ؛ هو شَدَّةُ الْكَرْبِ مِنْ ثِقَلِ الوَحْيِ.

وَفِي حَدِيثِ قَتْلِ أَبي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ: «بَرَّحَتْ بِنَا امرأَته بالصِّياح».

وَتَقُولُ: بَرَّحَ بِهِ الأَمرُ تَبْريحًا أَي جَهَدَه، وَلَقِيتُ مِنْهُ بَناتِ بَرْحٍ وبَني بَرْحٍ.

والبِرَحِينَ والبُرَحِينَ، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، والبَرَحِينَ أَي الشَّدَائِدُ وَالدَّوَاهِي، كأَن وَاحِدَ البِرَحِينَ بِرَحٌ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلا أَنه مُقَدَّرٌ، كأَن سَبِيلُهُ أَن يَكُونَ الْوَاحِدُ بِرَحة، بالتأْنيث، كَمَا قَالُوا: دَاهِيَةً ومُنْكَرَة، فَلَمَّا لَمْ تَظْهَرِ الْهَاءُ فِي الْوَاحِدِ جَعَلُوا جَمْعَهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، عِوَضًا مِنَ الْهَاءِ الْمُقَدَّرَةِ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَرضٍ وأَرَضِينَ، وإِنما لَمْ يَسْتَعْمِلُوا فِي هَذَا الإِفرادَ، فَيَقُولُوا: بِرَحٌ، وَاقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ دُونَ الإِفراد مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَصِفُونَ الدَّوَاهِيَ بِالْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ وَالِاشْتِمَالِ وَالْغَلَبَةِ؛ وَالْقَوْلُ فِي الفِتْكَرِينَ والأَقْوَرِينَ كَالْقَوْلِ فِي هَذِهِ؛ وَلَقِيتُ مِنْهُ بَرْحًا بارِحًا، ولقيتُ مِنْهُ ابنَ بَرِيحٍ، كَذَلِكَ؛ والبَرِيحُ: التَّعَبُ أَيضًا؛ وأَنشد:

بِهِ مَسِيحٌ وبَرِيحٌ وصَخَبْ والبَوارِحُ: شِدَّةُ الرِّيَاحِ مِنَ الشَّمَالِ فِي الصَّيْفِ دُونَ الشِّتَاءِ، كأَنه جَمْعُ بارِحَة، وَقِيلَ: الْبَوَارِحُ الرِّيَاحُ

الشَّدَائِدُ الَّتِي تَحْمِلُ التُّرَابَ فِي شِدَّةِ الهَبَواتِ، وَاحِدُهَا بارِحٌ، وَالْبَارِحُ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ فِي الصَّيْفِ.

وَالْبَوَارِحُ: الأَنْواءُ، حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ ورَدَّه عَلَيْهِمْ.

أَبو زَيْدٍ: البَوارِحُ الشَّمالُ فِي الصَّيْفِ خَاصَّةً؛ قَالَ الأَزهري: وَكَلَامُ الْعَرَبِ الَّذِينَ شَاهَدْتُهُمْ عَلَى مَا قَالَ أَبو زَيْدٍ، وَقَالَ ابْنُ كُناسَة: كُلُّ رِيحٍ تَكُونُ فِي نُجُوم القَيْظ، فَهِيَ عِنْدَ الْعَرَبِ بَوارِحُ، قَالَ: وأَكثر مَا تَهُبُّ بنُجُوم الْمِيزَانِ وَهِيَ السَّمائِم؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

لَا بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دارٍ تَخَوَّنَها ***مَرًّا سَحابٌ، ومَرًّا بارِحٌ تَرِبُ

فَنَسَبَهَا إِلى التُّرَابِ لأَنها قَيْظِيَّة لَا رِبْعِيَّة.

وبَوارِحُ الصَّيْفِ: كُلُّهَا تَرِبَة.

والبارِحُ مِنَ الظِّباءِ وَالطَّيْرِ: خلافُ السَّانح، وَقَدْ بَرَحَتْ تَبْرُحُ بُرُوحًا؛ قَالَ:

فَهُنَّ يَبْرُحْنَ لَهُ بُرُوحا، ***وَتَارَةً يأْتِينَه سُنُوحا

وَفِي الْحَدِيثِ: «بَرَحَ ظَبْيٌ»؛ هُوَ مِنَ الْبَارِحِ ضِدُّ السَّانِحِ.

والبارِحُ: مَا مَرَّ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مِنْ يَمِينِكَ إِلى يَسَارِكَ، وَالْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِهِ لأَنه لَا يُمَكِّنُك أَن تَرْمِيَهُ حَتَّى تَنْحَرِفَ، وَالسَّانِحُ: مَا مرَّ بَيْنَ يَدَيْكَ مِنْ جِهَةِ يَسَارِكَ إِلى يَمِينِكَ، وَالْعَرَبُ تَتَيَمَّنُ بِهِ لأَنه أَمكن لِلرَّمْيِ وَالصَّيْدِ.

وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ لِي بالسَّانح بَعْدَ البارِحِ؟ يُضرب لِلرَّجُلِ يُسِيءُ الرجلَ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنه سَوْفَ يُحْسِنُ إِليك، فَيَضْرِبُ هَذَا الْمَثَلَ؛ وأَصل ذَلِكَ أَن رَجُلًا مَرَّتْ بِهِ ظِباءٌ بارِحَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: سَوْفَ تَسْنَحُ لَكَ، فَقَالَ: مَنْ لِي بِالسَّانِحِ بَعْدَ الْبَارِحِ؟ وبَرَحَ الظَّبْيُ، بِالْفَتْحِ، بُرُوحًا إِذا ولَّاك مَيَاسِرَهُ، يَمُرُّ مِنْ مُيَامِنِكَ إِلى مَيَاسِرِكَ؛ وَفِي الْمَثَلِ: إِنما هُوَ كبارِحِ الأُرْوِيِّ قَلِيلًا مَا يُرى؛ يُضْرَبُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ إِذا أَبطأَ عَنِ الزِّيَارَةِ، وَذَلِكَ أَن الأُرْوِيّ يَكُونُ مَسَاكِنُهَا فِي الْجِبَالِ مِنْ قِنانِها فَلَا يَقْدِرُ أَحد عَلَيْهَا أَن تَسْنَحَ لَهُ، وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يَرَوْنَها سانِحةً وَلَا بارِحةً إِلَّا فِي الدُّهُورِ مَرَّةً.

وقَتَلُوهم أَبْرَحَ قتلٍ؛ أي أَعجبه؛ وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّوْلِيهِ والتَّبْرِيح»؛ قَالَ: التَّبْرِيحُ قَتْلُ السَّوْءِ لِلْحَيَوَانِ مِثْلَ أَن يُلْقَى السَّمَكُ عَلَى النَّارِ حَيًّا، وَجَاءَ التَّفْسِيرُ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ؛ قَالَ شَمِرٌ: ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَرَاهَةِ إِلقاء السَّمَكَةِ إِذا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى النَّارِ وَقَالَ: أَما الأَكل فتؤْكل وَلَا يُعْجِبُنِي، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَن إِلقاء الْقَمْلِ فِي النَّارِ مِثْلُهُ؛ قَالَ الأَزهري: ورأَيت الْعَرَبَ يَمْلأُون الوِعاءَ مِنَ الْجَرَادِ وَهِيَ تَهْتَشُّ فِيهِ، وَيَحْتَفِرُونَ حُفْرَة فِي الرَّمْلِ وَيُوقِدُونَ فِيهَا ثُمَّ يَكُبُّونَ الْجَرَادَ مِنَ الْوِعَاءِ فِيهَا، ويُهِيلُون عَلَيْهَا الإِرَةَ المُوقَدَةَ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ يَسْتَخْرِجُونَهَا ويُشَرِّرُونها فِي الشَّمْسِ، فإِذا يَبِسَتْ أَكلوها.

وأَصلُ التَّبْرِيحِ: المشقَّةُ وَالشِّدَّةُ.

وبَرَّحَ بِهِ إِذا شَقَّ عَلَيْهِ.

وَمَا أَبْرَحَ هَذَا الأَمرَ أَي مَا أَعجبه قَالَ الأَعشى:

أَقولُ لَهَا، حِينَ جَدَّ الرَّحيلُ: ***أَبْرَحْتِ رَبًّا، وأَبرَحْتِ جَارَا

أَي أَعْجَبْتِ وبالغتِ؛ وَقِيلَ: مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَبْرَحْتِ أَكْرَمْتِ أَي صادَفْتِ كَرِيمًا؛ وأَبرَحَه بِمَعْنَى أَكرمه وَعَظَّمَهُ.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: بَرْحَى لَهُ ومَرْحى لَهُ إِذا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وأَنشد بَيْتَ الأَعشى وَفَسَّرَهُ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَعْظَمْتِ رَبًّا؛ وَقَالَ آخَرُونَ: أَعجَبتِ رَبًّا، وَيُقَالُ: أَكْرمت مِنْ رَبٍّ، وَقَالَ الأَصمعي: أَبرَحْتِ بالَغْتِ.

وَيُقَالُ: أَبرَحْتَ لُؤْمًا وأَبرَحْتَ كَرَمًا أَي جِئْتَ بأَمرٍ مُفْرِطٍ.

وأَبرَحَ فلانٌ رَجَلًا إِذا فضَّله؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ تُفَضِّلُه.

وبَرَّحَ اللهُ عَنْهُ أَي فَرَّج اللَّهُ عَنْهُ؛ وإِذا غَضِبَ الإِنسان عَلَى صَاحِبِهِ، قِيلَ: مَا أَشَدَّ مَا بَرَحَ عَلَيْهِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَعَلْنَا البارِحَةَ كَذَا وَكَذَا لِلَّيلَةِ الَّتِي قَدْ مَضَتْ، يُقَالُ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَيَقُولُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ: فَعَلْنَا اللَّيْلَةَ كَذَا وَكَذَا؛ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

تَبَلَّغَ بارِحِيَّ كَراه فِيهِ

قَالَ بَعْضُهُمْ: أَراد النَّوْمَ الَّذِي شَقَّ عَلَيْهِ أَمره لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَيُقَالُ: أَراد نومَ اللَّيْلَةِ البارِحَةِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَشبه اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ أَي مَا أَشْبه اللَّيْلَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا بِاللَّيْلَةِ الأُولى الَّتِي قَدْ بَرِحَتْ وَزَالَتْ وَمَضَتْ.

والبارِحَةُ: أَقربُ لَيْلَةٍ مَضَتْ؛ تَقُولُ: لَقِيتُهُ البارِحَةَ، وَلَقِيتُهُ البارِحَةَ الأُولى، وَهُوَ مَنْ بَرِحَ أَي زَالَ، وَلَا يُحَقَّرُ؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: حُكِيَ عَنْ أَبي زَيْدٍ أَنه قَالَ: تَقُولُ مُذْ غُدْوَةٍ إِلى أَن تَزُولَ الشَّمْسُ: رأَيت الليلةَ فِي مَنَامِي، فإِذا زَالَتْ، قُلْتَ: رأَيتُ البارِحَةَ؛ وَذَكَرَ السِّيرَافِيُّ فِي أَخبار النُّحَاةِ عَنْ يُونُسَ، قَالَ: يَقُولُونَ كَانَ كَذَا وَكَذَا الليلةَ إِلى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، وإِذا جَاوَزَ ذَلِكَ، قَالُوا: كَانَ البارِحَةَ.

الْجَوْهَرِيُّ: وبَرْحَى، عَلَى فَعلى، كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الخطإِ فِي الرَّمي، ومَرْحَى عِنْدَ الإِصابة؛ ابْنُ سِيدَهْ: وَلِلْعَرَبِ كَلِمَتَانِ عِنْدَ الرَّمْيِ: إِذا أَصاب قَالُوا: مَرْحَى، وإِذا أَخطأَ قَالُوا: بَرْحى.

وقولٌ بَرِيحٌ: مُصَوَّبٌ بِهِ؛ قَالَ الْهُذَلِيُّ:

أَراه يُدافِعُ قَوْلًا بَرِيحا

وبُرْحةُ كُلِّ شَيْءٍ: خِيارُه؛ وَيُقَالُ: هَذِهِ بُرْحَةٌ مِنَ البُرَحِ، بِالضَّمِّ، لِلنَّاقَةِ إِذا كَانَتْ مِنْ خِيَارِ الإِبل؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: يُقَالُ لِلْبَعِيرِ هُوَ بُرْحَة مِنَ البُرَحِ؛ يُرِيدُ أَنه مِنْ خِيَارِ الإِبل.

وابنُ بَرِيح، وأُمُّ بَرِيحٍ: اسمٌ لِلْغُرَابِ معرفةٌ، سمِّي بِذَلِكَ لِصَوْتِهِ؛ وهُنَّ بناتُ بَرِيحٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ أَن يَقُولَ ابنُ بَرِيح، قَالَ: وَقَدْ يُستعمل أَيضًا فِي الشِّدَّة، يُقَالُ: لَقِيتُ مِنْهُ ابنَ بَريحٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَلا القلبُ عَنْ كُبْراهما بعدَ صَبْوَةٍ، ***ولاقَيْتَ مِنْ صُغْراهما ابنَ بَرِيحِ

وَيُقَالُ فِي الْجَمْعِ: لَقِيتُ مِنْهُ بناتِ بَرْحٍ وبَني بَرْحٍ.

ويَبْرَحُ: اسْمُ رَجُلٍ؛ وَفِي حَدِيثِ أَبي طَلْحَةَ: «أُحب أَموالي إِليّ بَيْرَحَاءُ»؛ ابْنُ الأَثير: هَذِهِ اللَّفْظَةُ كَثِيرًا مَا تَخْتَلِفُ أَلفاظ المحدِّثين فِيهَا فَيَقُولُونَ: بَيرَحاء، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَالْمَدِّ فِيهِمَا، وَبِفَتْحِهِمَا وَالْقَصْرِ، وَهُوَ اسْمُ مَالٍ وَمَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: إِنها فَيْعَلٌ مِنَ الْبَرَاحِ، وَهِيَ الأَرض الظاهرة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


43-لسان العرب (ضرغد)

ضرغد: قَالَ فِي تَرْجَمَةِ ضَرْغَطَ: ضَرْغَطُ اسْمُ جَبَلٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ مَاءٍ وَنَخْلٍ، وَيُقَالُ لَهُ أَيضًا: ذُو ضَرْغَد؛ قَالَ:

إِذا نَزَلُوا ذَا ضَرْغَدٍ فَقُتائِدًا، ***يُغَنِّيهِمُ فِيهَا نَقِيقُ الضَّفادِعِ

وَقِيلَ: ضَرْغَد جَبَلٌ؛ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:

فَلأَبْغِيَنَّكُمُ قَنًا وعُوارِضًا، ***ولأُقْبِلَنَّ الخَيْلَ لابَةَ ضَرْغَدِ

وَيُقَالُ: مَقْبُرَةٌ تُصْرفُ مِنَ الأَوّل وَلَا تُصْرفُ مِنَ الثَّانِي.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لأَبْغِيَنَّكُمُ قَنًا وعُوارِضًا أَي لأَطْلُبَنَّكُم بِقَنًا وعُوارِضٍ، وَهُمَا مَكَانَانِ مَعْرُوفَانِ، فأَسقط الْبَاءَ فَلَمَّا سَقَط الخافضُ تَعَدَّى الفعلُ إِليهما فَنصبهما، وأُقْبِلُ فِعْل يَتَعَدَّى إِلى مَفْعُولَيْنِ مَنْقُولٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَبَلَ الدابةُ الوادِيَ إِذا اسْتَقْبَلَهُ.

واللَّابَةُ: الحَرَّة.

التَّهْذِيبَ: اللَّيْثُ: ضَرْغَد اسْمُ جَبَلٍ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


44-لسان العرب (عذر)

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا}؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: العُذْرُ والنُّذْر وَاحِدٌ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَبَعْضُهُمْ يُثَقِّل، قَالَ أَبو جَعْفَرٍ: مَن ثَقَّل أَراد عُذْرًا أَو نُذْرًا، كَمَا تَقُولُ رُسُل فِي رُسْل؛ وَقَالَ الأَزهري فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحدهما أَن يَكُونَ مَعْنَاهُ فالمُلْقِيات ذِكْرًا للإِعْذار والإِنذار، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنهما نُصِبَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ ذِكْرًا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَن تنصِبَهما بِقَوْلِهِ ذِكْرًا}؛ الْمَعْنَى فَالْمُلْقِيَاتِ إِن ذَكَرَتْ عُذْرًا أَو نُذْرًا، وَهُمَا اسْمَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الإِعْذار والإِنْذار، وَيَجُوزُ تخفيفُهما وتثقيلُهما معًا.

وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا عاتَبَك عَلَى أَمر قَبْلَ التقدُّم إِليك فِيهِ: وَاللَّهِ مَا استْتَعْذَرْتَ إِليَّ ما اسْتَنْذَرْت أَي لَمْ تُقَدِّمْ إِليَّ المَعْذِرةَ والإِنذارَ.

والاستعذارُ: أَن تَقُولَ لَهُ أَعْذِرْني مِنْكَ.

وحمارٌ عَذَوَّرٌ: واسعُ الْجَوْفِ فحّاشٌ.

والعَذَوَّرُ أَيضًا: السيء الخلُق الشَّدِيدُ النفْس؛ قَالَ الشَّاعِرُ: "" حُلْو حَلال الْمَاءِ غَيْرُ عَذَوّر ""أَي مَاؤُهُ وحوضُه مُبَاحٌ.

ومُلْكٌ عَذَوَّرٌ: وَاسْعٌ عَرِيضٌ، وَقِيلَ شَدِيدٌ؛ قَالَ كَثِيرُ بْنُ سَعْدٍ:

أَرَى خَاليَ اللَّخْمِيَّ نُوحًا يَسُرُّني ***كَرِيمًا، إِذا مَا ذَاحَ مُلْكًا عَذَوَّرا

ذَاحَ وحاذَ: جَمَعَ، وأَصل ذَلِكَ فِي الإِبل.

وعُذْرة: قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ؛ وَقَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ الطَّثَرِيَّةَ تَرْثِي أَخاها يَزِيدَ:

يُعِينُك مَظْلومًا ويُنْجِيك ظَالِمًا، ***وكلُّ الَّذِي حَمَّلْتَه فَهُوَ حامِلُهْ

إِذا نَزلَ الأَضْيافُ كَانَ عَذَوَّرًا ***عَلَى الحَيِّ، حَتَّى تَسْتَقلَّ مَراجِلُه

قَوْلُهُ: وَيُنْجِيكَ ظَالِمًا أَي إِن ظَلَمْتَ فطُولِبْت بظُلْمِكَ حَماكَ ومَنَعَ مِنْكَ.

والعَذوَّر: السَّيِّءُ الْخُلُقِ، وإِنما جعلَتْه عَذوَّرًا لِشِدَّةِ تَهَمُّمِه بأَمر الأَضياف وحِرْصِه عَلَى تَعْجِيلِ قِراهم حَتَّى تَسْتَقِلَّ الْمَرَاجِلُ عَلَى الأَثافيّ.

والمَراجلُ: الْقُدُورُ، واحدها مِرْجَل.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


45-لسان العرب (علل)

علل: العَلُّ والعَلَلُ: الشَّرْبةُ الثَّانِيَةُ، وَقِيلَ: الشُّرْب بَعْدَ الشُّرْبِ تِباعًا، يُقَالُ: عَلَلٌ بَعْدَ نَهَلٍ.

وعَلَّه يَعُلُّه ويَعِلُّه إِذا سَقَاهُ السَّقْيَة الثَّانِيَةَ، وعَلَّ بِنَفْسِهِ، يَتعدَّى وَلَا يتعدَّى.

وعَلَّ يَعِلُّ ويَعُلُّ عَلًّا وعَلَلًا، وعَلَّتِ الإِبِلُ تَعِلُّ وتَعُلُّ إِذا شَرِبت الشَّرْبةَ الثَّانِيَةَ.

ابْنُ الأَعرابي: عَلَّ الرَّجلُ يَعِلُّ مِنَ الْمَرَضِ، وعَلَّ يَعِلُّ ويَعُلُّ مِنْ عَلَل الشَّراب.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ يُسْتَعْمَل العَلَلُ والنَّهَل فِي الرَّضاع كَمَا يُسْتَعْمل فِي الوِرْد؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

غَزَال خَلاء تَصَدَّى لَهُ، ***فتُرْضِعُه دِرَّةً أَو عِلالا

واستَعْمَل بعضُ الأَغْفال العَلَّ والنَّهَلَ فِي الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ فَقَالَ:

ثُمَّ انْثَنى مِنْ بَعْدِ ذَا فَصَلَّى ***عَلَى النَّبيّ، نَهَلًا وعَلَّا

وعَلَّتِ الإِبِلُ، وَالْآتِي كَالْآتِي وَالْمَصْدَرُ كَالْمَصْدَرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فَعْلى مِنَ العَلَل والنَّهَل.

وإِبِلٌ عَلَّى: عَوَالُّ؛ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي؛ وأَنشد لِعَاهَانَ بْنِ كَعْبٍ:

تَبُكُّ الحَوْضَ عَلَّاها ونَهْلًا، ***ودُون ذِيادِها عَطَنٌ مُنِيم

تَسْكُن إِليه فيُنِيمُها، وَرَوَاهُ ابْنُ جِنِّي: عَلَّاها ونَهْلى، أَراد ونَهْلاها فحَذَف واكْتَفى بإِضافة عَلَّاها عَنْ إِضافة نَهْلاها، وعَلَّها يَعُلُّها ويَعِلُّها عَلًّا وعَلَلًا وأَعَلَّها.

الأَصمعي: إِذا وَرَدتِ الإِبلُ الماءَ فالسَّقْية الأُولى النَّهَل، وَالثَّانِيَةُ العَلَل.

وأَعْلَلْت الإِبلَ إِذا أَصْدَرْتَها قَبْلَ رِيِّها، وَفِي أَصحاب الِاشْتِقَاقِ مَنْ يَقُولُ هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ كأَنه مِنَ العَطَش، والأَوَّل هُوَ الْمَسْمُوعُ.

أَبو عُبَيْدٍ عَنِ الأَصمعي: أَعْلَلْت الإِبِلَ فَهِيَ إِبِلٌ عَالَّةٌ إِذا أَصْدَرْتَها وَلَمْ تُرْوِها؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: هَذَا تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَغْلَلْت الإِبلَ، بِالْغَيْنِ، وَهِيَ إِبل غالَّةٌ.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ نُصَير الرَّازِيِّ قَالَ: صَدَرَتِ الإِبلُ غالَّة وغَوَالَّ، وَقَدْ أَغْلَلْتها مِنَ الغُلَّة والغَلِيل وَهُوَ حَرَارَةُ الْعَطَشِ، وأَما أَعْلَلْت الإِبلَ وعَلَلْتها فَهُمَا ضِدَّا أَغْلَلْتها، لأَن مَعْنَى أَعْلَلْتها وَعَلَلتها أَن تَسْقِيها الشَّرْبةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ تُصْدِرَها رِواء، وإِذا عَلَّتْ فَقَدْ رَوِيَتْ؛ وَقَوْلُهُ:

قِفِي تُخْبِرِينا أَو تَعُلِّي تَحِيَّةً ***لَنَا، أَو تُثِيبي قَبْلَ إِحْدَى الصَّوافِق

إِنَّما عَنى أَو تَرُدِّي تَحِيَّة، كأَنَّ التَّحِيَّة لَمَّا كَانَتْ مَرْدُودَةً أَو مُرادًا بِهَا أَن تُرَدَّ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ المَعْلُولة مِنَ الإِبل.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مِنْ جَزيل عَطائك المَعْلول»؛ يُرِيدُ أَن عَطَاءَ اللَّهِ مضاعَفٌ يَعُلُّ بِهِ عبادَه مَرَّةً بَعْدَ أُخرى؛ وَمِنْهُ قَصِيدُ كَعْبٍ: " كأَنه مُنْهَلٌ بالرَّاح مَعْلُول "وعَرَضَ عَلَيَّ سَوْمَ عالَّةٍ إِذا عَرَض عَلَيْكَ الطَّعامَ وأَنت مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، بِمَعْنَى قَوْلِ العامَّة: عَرْضٌ سابِرِيٌّ؛ أي لَمْ يُبالِغْ، لأَن العَالَّةَ لَا يُعْرَضُ عَلَيْهَا الشُّربُ عَرْضًا يُبالَغ فِيهِ كالعَرْضِ عَلَى الناهِلة.

وأَعَلَّ القومُ: عَلَّتْ إِبِلُهم وشَرِبَت العَلَل؛ واسْتَعْمَل بعضُ الشُّعَرَاءِ العَلَّ فِي الإِطعام وَعَدَّاهُ إِلى مَفْعُولَيْنِ، أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

فباتُوا ناعِمِين بعَيْشِ صِدْقٍ، ***يَعُلُّهُمُ السَّدِيفَ مَعَ المَحال

وأُرَى أَنَّ مَا سَوَّغَ تَعْدِيَتَه إِلى مَفْعُولَيْنِ أَن عَلَلْت هَاهُنَا فِي مَعْنَى أَطْعَمْت، فَكَمَا أَنَّ أَطعمت متعدِّية إِلى مَفْعُولَيْنِ كَذَلِكَ عَلَلْت هُنَا متعدِّية إِلى مَفْعُولَيْنِ؛ وَقَوْلُهُ: " وأَنْ أُعَلَّ الرَّغْمَ عَلًّا عَلَّا "جعَلَ الرَّغْمَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرَابِ، وإِن كَانَ الرَّغْم عَرَضًا، كَمَا قَالُوا جَرَّعْته الذُّلَّ وعَدَّاه إِلى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا بِحَذْفِ الوَسِيط كأَنه قَالَ يَعُلُّهم بالسَّدِيف وأُعَلّ بالرَّغْم، فَلَمَّا حَذَف الْبَاءَ أَوْصَلَ الْفِعْلَ، والتَّعْلِيل سَقْيٌ بَعْدَ سَقْيٍ وجَنْيُ الثَّمرة مَرَّةً بَعْدَ أُخرى.

وعَلَّ الضاربُ المضروبَ إِذا تابَع عَلَيْهِ الضربَ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَطَاءٍ أَو النَّخَعِيِّ فِي رَجُلٍ ضَرَب بالعَصا رَجُلًا فقَتَله قَالَ: إِذا عَلَّه ضَرْبًا فَفِيهِ القَوَدُ "أَي إِذا تَابَعَ عَلَيْهِ الضربَ، مِنْ عَلَلِ الشُّرب.

والعَلَلُ مِنَ الطَّعَامِ: مَا أُكِلَ مِنْهُ؛ عَنْ كُرَاعٍ.

وطَعامٌ قَدْ عُلَّ مِنْهُ أَي أُكِل؛ وَقَوْلُهُ أَنشده أَبو حَنِيفَةَ:

خَلِيلَيَّ، هُبَّا عَلِّلانيَ وانْظُرا ***إِلى الْبَرْقِ مَا يَفْرِي السَّنى، كَيْفَ يَصْنَع

فَسَّرَه فَقَالَ: عَلِّلاني حَدِّثاني، وأَراد انْظُرا إِلى "الْبَرْقِ وانْظُرَا إِلى مَا يَفرِي السَّنى، وفَرْيُه عَمَلُه؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

خَلِيلَيَّ، هُبَّا عَلِّلانيَ وانْظُرَا ***إِلى الْبَرْقِ مَا يَفْرِي سَنًى وتَبَسَّما

وتَعَلَّلَ بالأَمر واعْتَلَّ: تَشاغَل؛ قَالَ:

فاسْتَقْبَلَتْ لَيْلَة خِمْسٍ حَنَّان، ***تَعْتلُّ فِيهِ بِرَجِيع العِيدان

أَي أَنَّها تَشاغَلُ بالرَّجِيع الَّذِي هُوَ الجِرَّة تُخْرِجها وتَمْضَغُها.

وعَلَّلَه بِطَعَامٍ وَحَدِيثٍ وَنَحْوِهِمَا: شَغَلهُ بِهِمَا؛ يُقَالُ: فُلَانٌ يُعَلِّل نفسَه بتَعِلَّةٍ.

وتَعَلَّل بِهِ أَي تَلَهَّى بِهِ وتَجَزَّأَ، وعَلَّلتِ المرأَةُ صَبِيَّها بِشَيْءٍ مِنَ المَرَق ونحو ليَجْزأَ بِهِ عَنِ اللَّبن؛ قَالَ جَرِيرٌ:

تُعَلِّل، وَهِيَ ساغِبَةٌ، بَنِيها ***بأَنفاسٍ مِنَ الشَّبِم القَراحِ

يُرْوَى أَن جَرِيرًا لَمَّا أَنْشَدَ عبدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوان هَذَا البيتَ قَالَ لَهُ: لَا أَرْوى اللَّهُ عَيْمَتَها وتَعِلَّةُ الصبيِّ أَي مَا يُعَلَّل بِهِ لِيَسْكُتَ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي حَثْمة يَصِف التَّمر: «تَعِلَّة الصَّبيِّ وقِرى الضَّيْفِ».

والتَّعِلَّةُ والعُلالَة: مَا يُتَعَلَّل بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أُتيَ بعُلالة الشَّاةِ فأَكَلَ مِنْهَا» أَي بَقِيَّة لَحْمِهَا.

والعُلُل أَيضًا: جَمْعُ العَلُول، وَهُوَ مَا يُعَلَّل بِهِ المريضُ مِنَ الطَّعَامِ الْخَفِيفِ، فإِذا قَوي أَكلُه فَهُوَ الغُلُل جَمْعُ الغَلُول.

وَيُقَالُ لبَقِيَّة اللَّبَنِ فِي الضَّرْع وبَقيَّة قُوّة الشَّيْخِ: عُلالة، وَقِيلَ: عُلالة الشَّاةِ مَا يُتَعَلَّل بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ العَلَل الشُّرب بَعْدَ الشُّرْب؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَقِيل بْنِ أَبي طَالِبٍ: قَالُوا فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ عُلالة "أَي بَقِيَّة مِنْ قُوَّةِ الشَّيْخِ.

والعُلالةُ والعُراكةُ والدُّلاكة: مَا حَلَبْتَ قَبْلَ الفِيقة الأُولى وَقَبْلَ أَن تَجْتَمِعَ الفِيقة الثَّانِيَةُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

وَيُقَالُ لأَوَّل جَرْي الْفَرَسِ: بُداهَته، وَلِلَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ: عُلالته؛ قَالَ الأَعشى:

إِلَّا بُداهة، أَو عُلالَة ***سابِحٍ نَهْدِ الجُزاره

والعُلالة: بَقِيَّة اللَّبَنِ وغيرِه.

حَتَّى إِنَّهم لَيَقولون لبَقِيَّة جَرْي الفَرَس عُلالة، ولبَقِيَّة السَّيْر عُلالة.

وَيُقَالُ: تَعَالَلْت نَفْسِي وَتَلوَّمْتها أَي استَزَدْتُها.

وتَعَالَلْت الناقةَ إِذا اسْتَخْرَجْت مَا عِنْدَهَا مِنَ السَّيْر؛ وَقَالَ: " وَقَدْ تَعالَلْتُ ذَمِيل العَنْس "وَقِيلَ: العُلالة اللَّبَن بَعْدَ حَلْبِ الدِّرَّة تُنْزِله الناقةُ؛ قَالَ:

أَحْمِلُ أُمِّي وهِيَ الحَمَّاله، ***تُرْضِعُني الدِّرَّةَ والعُلاله،

وَلَا يُجازى والدٌ فَعَالَه وَقِيلَ: العُلالة أَن تُحْلَب النَّاقَةُ أَوّل النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وتُحْلَب وَسَطَ النَّهَارِ فَتِلْكَ الوُسْطى هِيَ العُلالة، وَقَدْ تُدْعى كُلُّهنَّ عُلالةً.

وَقَدْ عالَلْتُ النَّاقَةَ، وَالِاسْمُ العِلال.

وعالَلْتُ النَّاقَةَ عِلالًا: حَلَبتها صَبَاحًا ومَساء ونِصْفَ النَّهَارِ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: العِلالُ الحَلْبُ بَعْدَ الحَلْب قَبْلَ اسْتِيجَابِ الضَّرْع للحَلْب بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ، وَقَالَ بَعْضُ الأَعراب:

العَنْزُ تَعْلَمُ أَني لَا أُكَرِّمُها ***عَنِ العِلالِ، وَلَا عَنْ قِدْرِ أَضيافي

والعُلالة، بِالضَّمِّ: مَا تَعَلَّلت بِهِ أَي لَهَوْت بِهِ.

وتَعَلَّلْت بالمرأَة تَعَلُّلًا: لَهَوْت بِهَا.

والعَلُّ: الَّذِي يَزُورُ النِّسَاءَ.

والعَلُّ: التَّيْس الضَّخْم الْعَظِيمُ؛ قَالَ: " وعَلْهَبًا مِنَ التُّيوس عَلَّا "والعَلُّ: القُراد الضَّخْم، وَجَمْعُهَا عِلالٌ، وَقِيلَ: هُوَ القُراد المَهْزول، وَقِيلَ: هُوَ الصَّغِيرُ الْجِسْمِ.

والعَلُّ: الْكَبِيرُ المُسِنُّ.

ورَجُلٌ عَلٌّ: مُسِنٌّ نَحِيفٌ ضَعِيفٌ صَغِيرُ الجُثَّة، شُبِّه بالقُراد فَيُقَالُ: كأَنه عَلٌّ؛ قَالَ المُتَنَخِّل الْهُذَلِيُّ:

لَيْسَ بِعَلٍّ كبيرٍ لَا شَبابَ لَهُ، ***لَكِنْ أُثَيْلَةُ صَافِي الوَجْهِ مُقْتَبَل

أَي مُسْتَأْنَف الشَّباب، وَقِيلَ: العَلُّ المُسِنُّ الدَّقِيقُ الْجِسْمِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

والعَلَّة: الضَّرَّة.

وبَنُو العَلَّاتِ: بَنُو رَجل وَاحِدٍ مِنْ أُمهات شَتَّى، سُمِّيَت بِذَلِكَ لأَن الَّذِي تَزَوَّجها عَلَى أُولى قَدْ كَانَتْ قَبْلَهَا ثُمَّ عَلَّ مِنْ هَذِهِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وإِنما سُمِّيت عَلَّة لأَنها تُعَلُّ بَعْدَ صَاحِبَتِهَا، مِنَ العَلَل؛ قَالَ:

عَلَيْها ابْنُ عَلَّاتٍ، إِذا اجْتَشَّ مَنْزِلًا ***طَوَتْه نُجومُ اللَّيل، وَهِيَ بَلاقِع

إِنَّما عَنى بِابْنِ عَلَّاتٍ أَن أُمَّهاته لَسْنَ بقَرائب، وَيُقَالُ: هُمَا أَخَوانِ مِنْ عَلَّةٍ.

وَهُمَا ابْنا عَلَّة: أُمَّاهُما شَتَّى والأَب وَاحِدٌ، وَهُمْ بَنُو العَلَّات، وهُمْ مِنْ عَلَّاتٍ، وَهُمْ إِخُوةٌ مِنْ عَلَّةٍ وعَلَّاتٍ، كُلُّ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ.

وَنَحْنُ أَخَوانِ مِنْ عَلَّةٍ، وَهُوَ أَخي مِنْ عَلَّةٍ، وَهُمَا أَخَوانِ مِنْ ضَرَّتَيْن، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ ضَرَّةٍ؛ وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: هُمْ بَنُو عَلَّةٍ وأَولاد عَلَّة؛ وأَنشد:

وهُمْ لمُقِلِّ المالِ أَولادُ عَلَّةٍ، ***وإِن كَانَ مَحْضًا فِي العُمومةِ مُخْوِلا

ابْنُ شُمَيْلٍ: الأَخْيافُ اخْتِلَافُ الْآبَاءِ وأُمُّهُم وَاحِدَةٌ، وبَنُو الأَعيان الإِخْوة لأَب وأُمٍّ وَاحِدٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الأَنبياء أَولاد عَلَّاتٍ»؛ مَعْنَاهُ أَنهم لأُمَّهات مُخْتَلِفَةٍ ودِينُهم وَاحِدٌ؛ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الأَثير، أَراد أَن إِيمانهم وَاحِدٌ وَشَرَائِعَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

وَمِنْهُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَتَوارَثُ بَنُو الأَعيان مِنَ الإِخوة دُونَ بَنِي العَلَّات "أَي يَتَوَارَثُ الإِخوة للأُم والأَب، وَهُمُ الأَعيان، دُونَ الإِخوة للأَب إِذا اجْتَمَعُوا مَعَهُمْ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ لبَني الضَّرائر بَنُو عَلَّات، وَيُقَالُ لِبَنِي الأُم الْوَاحِدَةِ بَنُو أُمٍّ، وَيَصِيرُ هَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُتَّفِقِينَ، وأَبناء عَلَّاتٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمَاعَةِ الْمُخْتَلِفِينَ؛ قَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ:

والنَّاسُ أَبناء عَلَّاتٍ، فَمَنْ عَلِمُوا ***أَنْ قَدْ أَقَلَّ، فَمَجْفُوٌّ ومَحْقُور

وهُمْ بَنُو أُمِّ مَنْ أَمْسى لَهُ نَشَبٌ، ***فَذاك بالغَيْبِ مَحْفُوظٌ ومَنْصور

وَقَالَ آخَرُ:

أَفي الوَلائِم أَوْلادًا لِواحِدة، ***وَفي المآتِم أَولادًا لِعَلَّات؟

وَقَدِ اعْتَلَّ العَلِيلُ عِلَّةً صَعْبَةً، والعِلَّة المَرَضُ.

عَلَّ يَعِلُّ واعْتَلَّ أَي مَرِض، فَهُوَ عَلِيلٌ، وأَعَلَّه اللهُ، وَلَا أَعَلَّك اللهُ أَي لَا أَصابك بِعِلَّة.

واعْتَلَّ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ واعْتَلَّه إِذا اعْتَاقَهُ عَنْ أَمر.

واعْتَلَّه تَجَنَّى عَلَيْهِ.

والعِلَّةُ: الحَدَث يَشْغَل صاحبَه عَنْ حَاجَتِهِ، كأَنَّ تِلْكَ العِلَّة صَارَتْ شُغْلًا ثَانِيًا مَنَعَه عَنْ شُغْله الأَول.

وَفِي حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ ثابت: «مَا عِلَّتي وأَنا جَلْدٌ نابلٌ؟» أَي مَا عذْري فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ومَعي أُهْبة الْقِتَالِ، فَوَضَعَ العِلَّة مَوْضِعَ الْعُذْرِ.

وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَعْدَمُ خَرْقاءُ عِلَّةً، يُقَالُ هَذَا لِكُلٍّ مُعْتَلٍّ وَمُعْتَذِرٍ وَهُوَ يَقْدِر.

والمُعَلِّل: دَافِعُ جَابِي الْخَرَاجِ بالعِلَل، وَقَدِ، اعْتَلَّ الرجلُ.

وَهَذَا عِلَّة لِهَذَا أَي سبَب.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَضْرِب رِجْلي بِعِلَّة الرَّاحِلَةِ»أَي بِسَبَبِهَا، يُظْهِر أَنه يَضْرِبُ جَنْب الْبَعِيرِ برِجْله وإِنما يَضْرِبُ رِجْلي.

وقولُهم: عَلَى عِلَّاتِه أَي عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ وَقَالَ:

وإِنْ ضُرِبَتْ عَلَى العِلَّاتِ، أَجَّتْ ***أَجِيجَ الهِقْلِ مِنْ خَيْطِ النَّعام

وَقَالَ زُهَيْرٌ:

إِنَّ البَخِيلَ مَلُومٌ حيثُ كانَ، ولَكِنَّ ***الجَوَادَ، عَلَى عِلَّاتِهِ، هَرِم

والعَلِيلة: المرأَة المُطَيَّبة طِيبًا بَعْدَ طِيب؛ قَالَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّل "أَي المُطَيَّب مرَّة بَعْدَ أُخرى، وَمَنْ رَوَاهُ المُعَلِّل فَهُوَ الَّذِي يُعَلِّلُ مُتَرَشِّفَه بِالرِّيقِ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: المُعَلِّل المُعِين بالبِرِّ بَعْدَ البرِّ.

وحروفُ العِلَّة والاعْتِلالِ: الأَلفُ والياءُ والواوُ، سُمِّيت بِذَلِكَ لِلينها ومَوْتِها.

وَاسْتَعْمَلَ أَبو إِسحاق لَفْظَةَ المَعْلول فِي المُتقارِب مِنَ العَروض فَقَالَ: وإِذا كَانَ بِنَاءُ المُتَقارِب عَلَى فَعُولن فَلَا بُدَّ مِنْ أَن يَبْقى فِيهِ سَبَبٌ غَيْرُ مَعْلُول، وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمُضَارِعِ فَقَالَ: أُخِّر المضارِع فِي الدَّائِرَةِ الرَّابِعَةِ، لأَنه وإِن كَانَ فِي أَوَّله وَتِدٌ فَهُوَ مَعْلول الأَوَّل، وَلَيْسَ فِي أَول الدَّائِرَةِ بَيْتٌ مَعْلولُ الأَول، وأَرى هَذَا إِنما هُوَ عَلَى طَرْحِ الزَّائِدِ كأَنه جَاءَ عَلَى عُلَّ وإِن لَمْ يُلْفَظ بِهِ، وإِلا فَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَةَ المَعْلول فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلَسْتُ مِنْهَا عَلَى ثِقَةٍ وَلَا عَلَى ثَلَجٍ، لأَن الْمَعْرُوفَ إِنَّما هُوَ أَعَلَّه اللَّهُ فَهُوَ مُعَلٌّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَكُونَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِليه سِيبَوَيْهِ مِنَ قَوْلِهِمْ مَجْنُون ومَسْلول، مِنْ أَنه جَاءَ عَلَى جَنَنْته وسَلَلْته، وإِن لَمْ يُسْتَعْملا فِي الْكَلَامِ استُغْنِيَ عَنْهُمَا بأَفْعَلْت؛ قَالَ: وإِذا قالُوا جُنَّ وسُلَّ فإِنما يَقُولُونَ جُعِلَ فِيهِ الجُنُون والسِّلُّ كَمَا قَالُوا حُزِنَ وفُسِلَ.

ومُعَلِّل: يومٌ مِنْ أَيام الْعَجُوزِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي آخِرِ الشِّتَاءِ لأَنه يُعَلِّل الناسَ بِشَيْءٍ مِنْ تَخْفِيفِ الْبَرْدِ، وَهِيَ: صِنٌّ وصِنَّبْرٌ ووَبْرٌ ومُعَلِّلٌ ومُطْفئُ الجَمْر وآمِرٌ ومُؤْتَمِر، وَقِيلَ: إِنما هُوَ مُحَلِّل؛ وَقَدْ قَالَ فِيهِ بعضُ الشُّعَرَاءِ فقدَّم وأَخَّر لإِقامة وَزْنِ الشِّعْرِ:

كُسِعَ الشِّتاءُ بسَبْعةٍ غُبْر، ***أَيّامِ شَهْلَتِنا مِنَ الشَّهْر

فإِذا مَضَتْ أَيّامُ شَهْلَتِنا: ***صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْر

وبآمرٍ وأَخِيه مُؤْتَمِر، ***ومُعَلِّل وبمُطْفِئِ الجَمْر

ذَهب الشِّتاءُ مولِّيًا هَرَبًا، ***وأَتَتْكَ واقدةٌ مِنَ النَّجْر

وَيُرْوَى: مُحَلِّل مَكَانَ مُعَلِّل، والنَّجْر الحَرُّ.

واليَعْلُول.

الغَدِير الأَبيض المُطَّرِد.

واليَعَالِيل: حَبَابُ الْمَاءِ.

واليَعْلُول: الحَبَابة مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ أَيضًا السَّحَابُ المُطَّرِد، وَقِيلَ: القِطْعة الْبَيْضَاءُ مِنَ السَّحَابِ.

واليَعَالِيل: سَحَائِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، الْوَاحِدُ يَعْلُولٌ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

كأَنَّ جُمَانًا واهِيَ السِّلْكِ فَوْقَه، ***كَمَا انهلَّ مِنْ بِيضٍ يَعاليلَ تَسْكُب

وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبٍ: مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيضٌ يَعالِيل "وَيُقَالُ: اليَعالِيلُ نُفَّاخاتٌ تَكُونُ فَوْقَ الْمَاءِ مِنْ وَقْع المَطَر، وَالْيَاءُ زَائِدَةٌ.

واليَعْلُول: المَطرُ بَعْدَ الْمَطَرِ، وَجَمْعُهُ اليَعالِيل.

وصِبْغٌ يَعْلُولٌ: عُلَّ مَرَّة بَعْدَ أُخرى.

وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ ذِي السَّنَامَيْنِ: يَعْلُولٌ وقِرْعَوْسٌ وعُصْفُوريٌّ.

وتَعَلَّلَتِ المرأَةُ مِنْ نِفَاسِهَا وتَعَالَّتْ: خَرَجَتْ مِنْهُ وطَهُرت وحَلَّ وَطْؤُها.

والعُلْعُل والعَلْعَل؛ الْفَتْحُ عَنْ كُرَاعٍ: اسمُ الذَّكر جَمِيعًا، وَقِيلَ: هُوَ الذَّكر إِذا أَنْعَظ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي إِذا أَنْعَظَ وَلَمْ يَشْتَدّ.

وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: العُلْعُل الجُرْدَان إِذا أَنْعَظَ، والعُلْعُل رأْسُ الرَّهابَة مِنَ الفَرَس.

وَيُقَالُ: العُلْعُل طَرَف الضِّلَعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الرَّهابة وَهِيَ طَرَفُ المَعِدة، وَالْجَمْعُ عُلُلٌ وعُلٌّ وعِلٌّ،، وَقِيلَ: العُلْعُل، بِالضَّمِّ، الرَّهابة الَّتِي تُشْرِف عَلَى الْبَطْنِ مِنَ العَظْم كأَنه لِسانٌ.

والعَلْعَل والعَلْعَالُ: الذَّكَر مِنَ القَنَابِر، وَفِي الصِّحَاحِ: الذَّكر مِنَ القنافِذ.

والعُلْعُول: الشَّرُّ؛ الْفَرَّاءُ: إِنه لَفِي عُلْعُولِ شَرٍّ وزُلْزُولِ شَرٍّ أَي فِي قِتَالٍ وَاضْطِرَابٍ.

والعِلِّيَّة، بِالْكَسْرِ: الغُرْفةُ، وَالْجَمْعُ العَلالِيُّ، وَهُوَ يُذْكر أَيضًا فِي المُعْتَلِّ.

أَبو سَعِيدٍ: والعَرَب تَقُولُ أَنا عَلَّانٌ بأَرض كَذَا وَكَذَا أَي جَاهِلٌ.

وامرأَة عَلَّانَةٌ: جَاهِلَةٌ، وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: لَا أَعرف هَذَا الْحَرْفَ وَلَا أَدري مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبي سَعِيدٍ.

وتَعِلَّةُ: اسمُ رَجُلٍ؛ قَالَ:

أَلْبانُ إِبْلِ تَعِلَّةَ بنِ مُسافِرٍ، ***مَا دامَ يَمْلِكُها عَلَيَّ حَرَامُ

وعَلْ عَلْ: زَجْرٌ لِلْغَنَمِ؛ عَنْ يَعْقُوبَ.

الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْعَاثِرِ لَعًا لَكَ وَتَقُولُ: عَلْ ولَعَلْ وعَلَّكَ ولَعَلَّكَ بِمِعْنًى وَاحِدٍ؛ قَالَ العَبْدي:

وإِذا يَعْثُرُ فِي تَجْمازِه، ***أَقْبَلَتْ تَسْعَى وفَدَّتْه لَعل

وأَنشد لِلْفَرَزْدَقِ:

إِذا عَثَرَتْ بِي، قُلْتُ: عَلَّكِ وانتهَى ***إِلى بابِ أَبْوابِ الوَلِيد كَلالُها

وأَنشد الْفَرَّاءُ:

فَهُنَّ عَلَى أَكْتافِها، ورِمَاحُنا ***يقُلْنَ لِمَن أَدْرَكنَ: تَعْسًا وَلَا لَعَا

شُدِّدت اللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ عَلَّك لأَنهم أَرادوا عَلْ لَك، وَكَذَلِكَ لَعَلَّكَ إِنما هُوَ لَعَلْ لَك، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَرَبُ تُصَيِّرُ لَعَلْ مَكَانَ لَعًا وَتَجْعَلُ لَعًا مَكَانَ لَعَلْ، وأَنشد فِي ذَلِكَ البيتَ، أَراد وَلَا لَعَلْ، وَمَعْنَاهُمَا ارْتَفِعْ مِنَ العثْرَة؛ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:

عَلِّ صُروفِ الدَّهْرِ أَو دَوْلاتِها، ***يُدِلْنَنا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِها

مَعْنَاهُ عًا لِصُروف الدَّهْرِ، فأَسْقَطَ اللَّامَ مِنْ لَعًا لِصُروف الدَّهْرِ وصَيَّر نُونَ لَعًا لَامًا، لِقُرْبِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنَ اللَّامِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ كَسَر صُرُوفَ، وَمَنْ نَصَبَهَا جَعَلَ عَلَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ فَنَصَب صروفَ الدَّهْرِ، وَمَعْنَى لَعًا لَكَ أَي ارْتِفَاعًا؛ قَالَ ابْنُ رُومان: وَسَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يُنْشد عَلِّ صُروفِ الدَّهْرِ، فسأَلته: لِمَ تَكْسِر عَلِّ صُروفِ؟ فَقَالَ: إِنما مَعْنَاهُ لَعًا لِصُروف الدَّهْرِ ودَوْلاتها، فَانْخَفَضَتْ صُروف بِاللَّامِ وَالدَّهْرُ بإِضافة الصُّرُوفِ إِليها، أَراد أَوْ لَعًا لِدَوْلاتها ليُدِلْنَنا مِنْ هَذَا التَّفَرُّقِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ اجْتِمَاعًا ولَمَّة مِنَ اللمَّات؛ قَالَ: دَعا لِصُرُوفِ الدَّهْرِ ولدَوْلاتِها لأَنَّ لَعًا مَعْنَاهُ ارْتِفَاعًا وتخَلُّصًا مِنَ الْمَكْرُوهِ، قَالَ: وأَو بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ أَو دَوْلاتِها، وَقَالَ: يُدِلْنَنا فأَلقى اللَّامَ وَهُوَ يُرِيدُهَا كَقَوْلِهِ: " لَئِنْ ذَهَبْتُ إِلى الحَجَّاج يقتُلني "أَراد لَيَقْتُلني.

ولعَلَّ ولَعَلِّ طَمَعٌ وإِشْفاق، وَمَعْنَاهُمَا التَّوَقُّع لِمَرْجُوٍّ أَو مَخُوف؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " يَا أَبَتا عَلَّك أَو عَساكا "وَهُمَا كَعَلَّ؛ قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: اللَّامُ زَائِدَةٌ مؤَكِّدة، وإِنما هُوَ عَلَّ، وأَما سِيبَوَيْهِ فَجَعَلَهُمَا حَرْفًا وَاحِدًا غَيْرَ مَزِيدٍ، وَحَكَى أَبو زَيْدٍ أَن لُغَةَ عُقَيْل لعَلِّ زيدٍ مُنْطَلِقٌ، بِكَسْرِ اللَّامِ، مِنْ لَعَلِّ وجَرِّ زِيدٍ؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ سُوَيد الغَنَوي:

فَقُلْتُ: ادْعُ أُخرى وارْفَع الصَّوتَ ثَانِيًا، ***لَعَلِّ أَبي المِغْوارِ مِنْكَ قَرِيب

وَقَالَ الأَخفش: ذَكَرَ أَبو عُبَيْدَةَ أَنه سَمِعَ لَامَ لَعَلَّ مَفْتُوحَةً فِي لُغَةِ مَنْ يَجُرُّ بِهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

لَعَلَّ اللهِ يُمْكِنُني عَلَيْهَا، ***جِهارًا مِنْ زُهَيرٍ أَو أَسيد

وَقَوْلُهُ تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى}؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: والعِلم قَدْ أَتى مِنْ وَرَاءِ مَا يَكُونُ ولكِن اذْهَبا أَنتما عَلَى رَجائكما وطمَعِكما ومَبْلَغِكما مِنَ العِلم وَلَيْسَ لَهُمَا أَكثرُ مِنْ ذَا مَا لَمْ يُعْلَما، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ كَيْ يتَذَكَّر.

أَخبر" مُحَمَّدُ بْنُ سَلَام عَنْ يُونُسَ أَنه سأَله عَنْ قَوْلِهِ تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ} و {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ}، قَالَ: مَعْنَاهُ كأَنك فاعِلٌ ذَلِكَ إِن لَمْ يُؤْمِنُوا، قَالَ: ولَعَلَّ لَهَا مَوَاضِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} و {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}، قَالَ: مَعْنَاهُ كيْ تتَذَكَّروا كيْ تَتَّقُوا، كَقَوْلِكَ ابْعَثْ إِليَّ بدابَّتك لعَلِّي أَرْكَبُها، بِمَعْنَى كَيْ أَرْكَبَها، وَتَقُولُ: انطَلِقْ بِنَا لعَلَّنا نتَحدَّث أَي كَيْ نتحدَّث؛ قَالَ ابْنُ الأَنباري: لعَلَّ تَكُونُ تَرَجِّيًا، وَتَكُونُ بِمَعْنَى كيْ عَلَى رأْي الْكُوفِيِّينَ؛ وَيُنْشِدُونَ:

فأَبْلُوني بَلِيَّتَكُمْ لَعَلِّي ***أُصالِحُكُم، وأَسْتَدْرِجْ نُوَيّا

وَتَكُونُ ظَنًّا كَقَوْلِكَ لَعَلِّي أَحُجُّ العامَ، وَمَعْنَاهُ أَظُنُّني سأَحُجُّ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: لَعَلَّ مَنايانا تَبَدَّلْنَ أَبْؤُسا "أَي أَظُنُّ مَنَايَانَا تبدَّلنَ أَبؤُسا؛ وَكَقَوْلِ صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:

لعَلَّكَ هالِكٌ أَمَّا غُلامٌ ***تَبَوَّأَ مِنْ شَمَنْصِيرٍ مَقاما

وَتَكُونُ بِمَعْنَى عَسى كَقَوْلِكَ: لعَلَّ عبدَ اللَّهِ يَقُومُ، مَعْنَاهُ عَسى عبدُ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ بِدَلِيلِ دُخُولِ أَن فِي خَبَرِهَا فِي نَحْوِ قَوْلِ مُتَمِّم:

لعَلَّكَ يَوْمًا أَن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ***عَلَيْك مِنَ اللَّاتي يَدَعْنَكَ أَجْدَعا

وَتَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِكَ: لَعَلَّك تَشْتُمُني فأُعاقِبَك؟ مَعْنَاهُ هَلْ تشْتُمني، وَقَدْ جَاءَتْ فِي التَّنْزِيلِ بِمَعْنَى كَيْ، وَفِي حَدِيثِ حَاطِبٍ: «وَمَا يُدْريك لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَع عَلَى أَهل بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمُ اعْمَلوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»؛ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَن مَعْنَى لَعَلَّ هَاهُنَا مِنْ جِهَةِ الظَّن والحِسْبان، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وإِنما هِيَ بِمَعْنَى عَسى، وعَسى ولعَلَّ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقٌ.

وَيُقَالُ: عَلَّك تَفْعَل وعَلِّي أَفعَلُ ولَعَلِّي أَفعَلُ، وَرُبَّمَا قَالُوا: عَلَّني ولَعَّنِي ولعَلَّني؛ وأَنشد أَبو زَيْدٍ:

أَرِيني جَوَادًا مَاتَ هُزْلًا، لعَلَّني ***أَرى مَا تَرَيْنَ، أَو بَخِيلًا مُخَلَّدا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ذَكَرَ أَبو عُبَيْدَةَ أَن هَذَا الْبَيْتَ لحُطائط بْنِ يَعْفُر، وَذَكَرَ الْحَوْفِيُّ أَنه لدُرَيد، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِحَاتِمٍ مَعْرُوفَةٍ مَشْهُورَةٍ.

وعَلَّ ولَعَلَّ: لُغَتَانِ بِمَعْنًى مِثْلُ إِنَّ ولَيتَ وكأَنَّ ولكِنَّ إِلَّا أَنها تَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ لشبههنَّ بِهِ فَتَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ كَمَا تَفْعَلُ كَانَ وأَخواتها مِنَ الأَفعال، وَبَعْضُهُمْ يخفِض مَا بَعْدَهَا فَيَقُولُ: لعَلَّ زيدٍ قائمٌ؛ سَمِعَهُ أَبو زَيْدٍ مِنْ عُقَيل.

وَقَالُوا لَعَلَّتْ، فأَنَّثُوا لعَلَّ بِالتَّاءِ، وَلَمْ يُبْدِلوها هَاءً فِي الْوَقْفِ كَمَا لَمْ يُبْدِلُوهَا فِي رُبَّتْ وثُمَّت ولاتَ، لأَنه لَيْسَ لِلْحَرْفِ قوَّةُ الِاسْمِ وتصَرُّفُه، وَقَالُوا لعَنَّك ولغَنَّك ورَعَنَّكَ ورَغَنَّك؛ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِ، قَالَ يَعْقُوبُ: قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ أَبا النَّجْمِ يَقُولُ: " أُغْدُ لَعَلْنا فِي الرِّهان نُرْسِلُه "أَراد لعَلَّنا، وَكَذَلِكَ لَأَنَّا ولَأَنَّنا؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبا الصَّقْر يُنْشِدُ:

أَرِيني جَوَادًا مَاتَ هُزْلًا، لَأَنَّنِي ***أَرَى مَا تَرَيْنَ، أَو بَخِيلًا مُخَلَّدا

وَبَعْضُهُمْ يقول: لَوَنَّني.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


46-لسان العرب (جرم)

جَرَمَ: الجَرْمُ: القَطْعُ.

جَرَمَه يَجْرِمُه جَرْمًا: قَطَعَهُ.

وَشَجَرَةٌ جَرِيمَةٌ: مَقْطُوعَةٌ.

وجَرَمَ النَّخْلَ والتَّمْرَ يَجْرِمه جَرْمًا وجِرامًا وجَرامًا واجْتَرَمه: صَرَمَه: عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، فَهُوَ جارمٌ، وَقَوْمٌ جُرَّمٌ وجُرَّام، وَتَمْرٌ جَرِيم: مَجْرُوم.

وأَجْرَمَ: حَانَ جِرامُه؛ وَقَوْلُ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤَيَّةَ:.

سَادٍ تَجَرَّمَ فِي البَضِيع ثمانِيًا، ***يَلْوِي بعَيْقاتِ الْبِحَارِ ويَجْنُبُ

يَقُولُ: قَطَعَ ثَمَانِيَ لَيَالٍ مُقِيمًا فِي الْبَضِيعِ يَشْرَبُ الْمَاءَ؛ والجَرِيم: النَّوَى، وَاحِدَتُهُ جَرِيمة، وَهُوَ الجَرامُ أَيضًا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَمْ أَسمع للجَرام بِوَاحِدٍ، وَقِيلَ: الجَرِيمُ والجَرامُ، بِالْفَتْحِ، التَّمْرُ الْيَابِسُ؛ قَالَ:

يَرَى مَجْدًا ومَكْرُمَةً وعِزًّا، ***إِذَا عَشَّى الصَّديِقَ جَرِيمَ تمرِ

والجُرامَة: التَّمْرُ المَجْرُوم، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُجْرَمُ مِنْهُ بعد ما يُصْرَمُ يُلْقَطُ مِنَ الكَرَب؛ وَقَالَ الشَّمَّاخُ:

مُفِجُّ الحَوامِي عَنْ نُسُورٍ، كأَنَّها ***نَوَى القَسْبِ تَرَّتْ عَنْ جَرِيم مُلَجْلَجِ

أَراد النَّوَى؛ وَقِيلَ: الجَرِيم البُؤْرَةُ الَّتِي يُرْضَحُ فِيهَا النَّوَى.

أَبو عَمْرٍو: الجَرام، بِالْفَتْحِ، والجَرِيمُ هُمَا النَّوَى وَهُمَا أَيضًا التَّمْرُ الْيَابِسُ؛ ذَكَرَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ فِي بَابِ فَعِيل وفَعالٍ مِثْلَ شَحاجٍ وشَحيج وكَهامٍ وكَهِيم وعَقامٍ وعَقِيمٍ وبَجَالٍ وبَجِيل وصَحاحِ الأَدِيم وصَحِيح.

قَالَ: وأَما الجِرام، بِالْكَسْرِ، فَهُوَ جَمْعُ جَرِيم مِثْلُ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ.

يُقَالُ: جِلَّةٌ جَرِيمٌ أَيْ عِظامُ الأَجْرام، والجِلَّة: الإِبلُ المَسانُّ.

وَرُوِيَ" عَنْ أَوْس بْنِ حارثَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي أَخْرَجَ العِذْقَ مِنَ الجَريمة والنارَ مِنَ الوثِيمةِ "؛ أَراد بِالْجَرِيمَةِ النواةَ أَخرج اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا النَّخْلَةَ.

والوَثِيمةُ: الْحِجَارَةُ الْمَكْسُورَةُ.

والجَريمُ: التَّمْرُ المَصْرُوم.

والجُرامةُ: قِصَدُ البُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَهِيَ أَطرافه تُدَقُّ ثُمَّ تُنَقَّى، والأَعرفُ الجُدَامَة، بِالدَّالِ، وَكُلُّهُ مِنَ القَطْع.

وجَرَمَ النَّخْلَ جَرْمًا واجْتَرَمَه: خَرَصَه وجَرَّه.

والجِرْمةُ: القومُ يَجْتَرِمون النخلَ أَيْ يَصْرِمُون؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

عَلَوْنَ بأَنْطاكِيَّةٍ، فَوْقَ عَقْمَةٍ، ***كجِرْمةِ نَخْلٍ أَوْ كجَنَّة يَثْرِبِ

الجِرْمَةُ: مَا جُرِمَ وصُرِمَ مِنَ البُسْر، شَبَّهَ مَا على الْهَوْدَجِ مِنْ وَشْيٍ وعِهْنٍ بالبُسْر الأَحمر والأَصفر، أَوْ بِجَنَّةِ يَثْرِبَ لأَنها كَثِيرَةُ النَّخْلِ، والعَقْمةُ: ضَرْبٌ مِنَ الوَشْيِ.

الأَصمعي: الجُرامة، بِالضَّمِّ، مَا سَقَطَ مِنَ التَّمْرِ إِذَا جُرِمَ، وَقِيلَ: الجُرامة مَا الْتُقِطَ مِنَ التَّمْرِ بعد ما يُصْرَمُ يُلْقَط مِنَ الكَرَبِ.

أَبو عَمْرو: جَرِمَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ يأْكل جُرامة النَّخْلِ بَيْنَ السَّعَفِ.

وَيُقَالُ: جَاءَ زمنُ الجِرامِ والجَرام أَيْ صِرامِ النَّخْلِ.

والجُرَّامُ: الَّذِينَ يَصْرِمونَ التَّمْرَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَذْهَبُ مائةُ سنةٍ وَعَلَى الأَرض عَيْنٌ تَطْرِفُ، يُرِيدُ تَجَرُّم ذَلِكَ القَرْنِ».

يُقَالُ: تَجَرَّم ذَلِكَ القَرْنُ أَيِ انْقَضَى وانْصَرَم، وَأَصْلُهُ مِنَ الجَرْم القَطْعِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الخَرْم، وَهُوَ الْقَطْعُ.

وجَرَمْتُ صُوفَ الشَّاةِ أَي جَزَزْته، وَقَدْ جَرَمْتُ مِنْهُ إِذَا أَخذت مِنْهُ مِثْلُ جَلَمْتُ.

والجُرْمُ: التَّعدِّي، والجُرْمُ: الذَّنْبُ، وَالْجَمْعُ أَجْرامٌ وجُرُومٌ، وَهُوَ الجَرِيمَةُ، وقد جَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا واجْتَرَمَ وأَجْرَم، فَهُوَ مُجْرِم وجَرِيمٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعظمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سأَل عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُجَرَّمْ عَلَيْهِ فَحُرِمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»؛ الجُرْم: الذَّنْبُ.

وقولُه تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}؛ قَالَ الزجاج: المُجْرِمون هاهنا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْكَافِرُونَ لأَن الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قِصَّتهم التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْهَا.

وتَجَرَّم عَليَّ فُلانٌ أَيِ ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ أَفْعَلْهُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَعُدُّ عَليَّ الذَّنْبَ، إِنْ ظَفِرَتْ بِهِ، ***وإِلَّا تَجِدْ ذَنْبًا عَليَّ تَجَرَّم

ابْنُ سِيدَهْ: تَجَرَّم ادَّعَى عَلَيْهِ الجُرْمَ وإِن لَمْ يُجْرِم؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد: " قَدْ يُعْتَزَى الهِجْرانُ بالتَّجَرُّم "وَقَالُوا: اجْتَرَم الذنبَ فَعَدَّوْه؛ قَالَ الشَّاعِرُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

وتَرَى اللبيبَ مُحَسَّدًا لَمْ يَجْتَرِمْ ***عِرْضَ الرجالِ، وعِرْضُه مَشْتُومُ

وجَرَمَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمْ جَرِيمة وأَجْرَم: جَنَى جِناية، وجَرُمَ إِذَا عَظُمَ جُرْمُه أَيْ أَذنب.

أَبو الْعَبَّاسِ: فُلَانٌ يَتَجَرَّمُ عَلَيْنَا أَيْ يَتَجَنَّى مَا لَمْ نَجْنه؛ وأَنشد: " أَلَا لَا تُبالي حَرْبَ قَومٍ تَجَرَّمُوا "قَالَ: مَعْنَاهُ تَجَرَّمُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا.

والجَرِمَةُ: الجُرْمُ، وَكَذَلِكَ الجَرِيمَةُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فإِنَّ مَوْلايَ ذُو يُعَيِّرُني، ***لَا إحْنَةٌ عِنْدَه وَلَا جَرِمَهْ

وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:

وَلَا مَعْشَرٌ شُوسُ العُيون كأَنَّهم ***إليَّ، وَلَمْ أجْرِمْ بِهِمْ، طالِبُو ذحْلِ

قَالَ: أَراد لَمْ أجْرِم إليهم أَو عَلَيْهِمْ فأَبدل الْبَاءَ مَكَانَ إِلى أَوْ عَلَى.

والجُرْم: مَصْدَرُ الجارِم الَّذِي يَجْرِم نَفْسَه وَقَوْمَهُ شَرًّا.

وَفُلَانٌ لَهُ جَرِيمةٌ إليَّ أَي جُرْم.

والجارمُ: الْجَانِي.

والمُجْرِم: الْمُذْنِبُ؛ وَقَالَ: " وَلَا الجَارِمُ الْجَانِي عَلَيْهِمْ بمُسْلَم قَالَ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}، قال الفراء: القُرّاءُ قرؤوا {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ}، وقرأَها يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ والأَعْمَشُ وَلَا يُجْرِمَنَّكم "، مِنْ أَجْرَمْتُ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: وَلَا يَحْمِلَنَّكم بُغْضُ قَوْمٍ أَن تَعْتَدُوا، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ فُلَانٌ جَريمَة أَهله أَيْ كَاسِبُهُمْ.

وَخَرَجَ يَجْرِمُ أَهْلَه أَيْ يَكْسبهم، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ لَا يَكْسِبَنَّكم بُغْضُ قَوْمٍ أَن تَعْتَدُوا.

وجَرَمَ يَجْرِمُ واجْتَرم: كَسَبَ؛ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ للهَيْرُدانِ السَّعْدِيِّ أَحدِ لُصوص بَنِي سَعْد:

طَريدُ عَشِيرةٍ، ورهينُ جُرْمٍ ***بِمَا جَرَمَتْ يَدي وجنَى لِساني

وَهُوَ يَجْرِمُ لأَهله ويَجْتَرِمُ: يَتَكَسَّبُ وَيَطْلُبُ ويَحْتالُ.

وجَريمةُ الْقَوْمِ: كاسِبُهم.

يُقَالُ: فُلَانٌ جارِمُ أَهْلِهِ وجَريمَتُهم أَيْ كَاسِبُهُمْ؛ قَالَ أَبو خِراشٍ الهُذَليُّ يَصِفُ عُقابًا تَرْزُق فَرخَها وتَكْسِبُ لَهُ:

جَريمَةُ ناهِضٍ فِي رأْسِ نِيقٍ، ***تَرى لِعظامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبا

جَريمَةُ: بِمَعْنَى كَاسِبَةٍ، وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ: قَالَ يَصِفُ عُقابًا تَصِيدُ فَرْخَها الناهضَ مَا تأْكله مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ أَكَلَتْهُ، وَبَقِيَ عِظَامُهُ يَسِيلُ مِنْهَا الْوَدَكُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَحُكِيَ ثَعْلَبٌ أَن الجَريمة النَّواة.

وَقَالَ أَبو إِسْحَاقَ: يُقَالُ: أَجْرَمَني كَذَا وجَرَمَني وجَرَمْتُ وأَجْرَمْت بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُجْرِمنَّكم: لَا يُدْخِلَنَّكم فِي الجُرم، كَمَا يُقَالُ آثَمْتُه أَيْ أَدخلته فِي الإِثم.

الأَخفش فِي قَوْلِهِ {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أَيْ لَا يُحِقَّنَّ لَكُمْ لأَن قوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ "، إِنما هُوَ حَقٌّ أَن لهم النار؛ وأَنشد: " جَرَمَتْ فَزارةُ بعدَها أَن يَغْضَبوا "يَقُولُ: حَقَّ لَهَا.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: أَمَّا قَوْلُهُ لَا يُحِقَّنَّ لَكُمْ فإِنما أَحْقَقْتُ الشيءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فَجَعَلْتُهُ حَقًّا، وإِنما مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعلم، فِي التَّفْسِيرِ لَا يَحْملَنَّكُم وَلَا يَكْسبَنَّكم، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَجْرِمَنَّكم قَالَ: لَا يَحْمِلَنَّكم، وَأَنْشَدَ بَيْتَ أَبِي أَسماء.

والجِرْمُ، بِالْكَسْرِ: الجَسَدُ، وَالْجَمْعُ الْقَلِيلُ أَجرام؛ قَالَ يزيدُ بْنُ الحَكَمِ الثَّقَفيُّ:

وَكَمْ مَوْطِنٍ، لَوْلاي، طِحْتَ كَمَا هَوى ***بأَجْرامِه مِنْ قُلَّة النِّيقِ مُنْهَوي

وجَمَعَ، كَأَنَّهُ صَيَّر كُلَّ جُزْءٍ مِنْ جِرْمه جِرْمًا، وَالْكَثِيرُ جُرُومٌ وجُرُم؛ قَالَ:

مَاذَا تقُولُ لأَشْياخ أُولي جُرُمٍ، ***سُودِ الوُجوهِ كأمْثالِ المَلاحِيبِ

التَّهْذِيبُ: والجِرْمُ أَلْواحُ الجَسد وجُثْمانه.

وأَلقى عَلَيْهِ أَجْرامه؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يُرِيدُ ثَقَلَ جِرْمِه، وَجُمِعَ عَلَى مَا تَقَدَّم فِي بَيْتِ يَزِيدَ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «اتّقُوا الصُّبْحة فَإِنَّهَا مَجْفَرة مَنْتَنَة للجِرْم»؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: الجِرْمُ البَدَنُ.

وَرَجُلٌ جَريمٌ: عَظِيمُ الجِرْم؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:

وَقَدْ تَزْدَري العينُ الفَتى، وَهُوَ عاقِلٌ، ***ويُؤفَنُ بَعْضُ القومِ، وَهُوَ جَريمُ

وَيُرْوَى: وَهُوَ حَزِيمُ، وَسَنَذْكُرُهُ، والأُنثى جَريمة ذَاتُ جِرْم وجِسْم.

وَإِبِلٌ جَريمٌ: عِظامُ الأَجْرام؛ حَكَى يَعْقُوبُ عَنْ أَبي عَمْرٍو: جِلَّةٌ جَريمٌ، وَفَسَّرَهُ فَقَالَ: عِظام الأَجْرام يَعْنِي الأَجسام.

والجِرْم: الحَلْقُ؛ قَالَ مَعْنُ بْنُ أَوْسٍ:

لأَسْتَلّ مِنْهُ الضِّغْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُه، ***وَقَدْ كانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ بِهِ الجِرْمُ

يَقُولُ: هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُسِيغُه الحَلْقُ.

والجِرْمُ: الصَّوْتُ، وَقِيلَ: جَهارَتُه، وَكَرِهَهَا بَعْضُهُمْ.

وجِرْمُ الصَّوْتِ: جَهارته.

وَيُقَالُ: مَا عَرِفْتُهُ إِلا بِجِرْم صَوْتِهِ.

قَالَ أَبو حَاتِمٍ: قَدْ أُولِعَتِ العامَّةُ بِقَوْلِهِمْ فُلَانٌ صَافِي الجِرْم أَيْ الصَّوْتِ أَوِ الحَلْق، وَهُوَ خطأٌ.

وَفِي حَدِيثِ بَعْضِهِمْ: «كَانَ حَسَنَ الجِرْم»؛ قِيلَ: الجِرْم هُنَا الصَّوْتُ، والجِرْمُ البَدَنُ، والجِرْم اللَّوْنُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

وجَرِمَ لونُه إِذَا صَفَا.

وحَوْلٌ مُجَرَّمٌ: تامٌّ.

وَسَنَةٌ مُجَرَّمة: تامَّة، وَقَدْ تَجَرَّم.

أَبو زَيْدٍ: العامُ المُجَرَّمُ الْمَاضِي المُكَمَّلُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِعُمَرَ بْنِ أَبي رَبِيعَةَ:

ولكنَّ حُمَّى أَضْرَعَتْني ثلاثَةً ***مُجَرَّمةً، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ بِنَا غِبَّا

ابْنُ هَانِئٍ: سَنَةٌ مُجَرَّمةٌ وَشَهْرٌ مُجَرَّمٌ وكَريتٌ فِيهِمَا، وَيَوْمٌ مُجَرَّمٌ وكَريتٌ، وَهُوَ التَّامُّ، اللَّيْثُ: جَرَّمْنا هَذِهِ السنةَ أَيْ خَرَجْنا مِنْهَا، وتَجَرَّمَتِ السنةُ أَيِ انْقَضَتْ، وتَجَرَّمَ الليلُ ذَهَبَ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

دِمَنٌ، تَجَرَّم، بَعدَ عَهْدِ أَنِيسِها، ***حِجَجٌ خَلَوْنَ: حَلالُها وحَرامُها

أَيْ تَكَمَّل؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ القَطْع كأَنّ السَّنَةَ لَمَّا مَضَتْ صَارَتْ مَقْطُوعَةً مِنَ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.

وجَرَّمْنا القومَ: خَرَجْنَا عَنْهُمْ.

وَلَا جَرَم أَيْ لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَقًّا؛ قَالَ أَبو أسماء بن الضَّريبَةِ:

وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ***جَرَمَتْ فَزارةَ، بعدَها، أَن يَغْضَبُوا

أَيْ حَقَّتْ لَهَا الغَضَبَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كسَبَتْها الغَضَبَ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}، فإِن جَرَم عَمِلَتْ لأَنها فعل، ومعناها لَقَدْ حَقَّ أَن لَهُمُ النار، وقول المفسرين: معناها حَقًّا أَن لَهُمُ النارَ يَدُلُّك عَلَى أَنها بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْفِعْلِ إِذَا مثَّلْتَ، فَجَرَمَ عَمِلَتْ بعدُ فِي أَنّ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا جَرَمَ لآتِيَنَّك، لَا جَرَم لَقَدْ أَحْسَنْتَ، فَتَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الْمُفَسِّرُونَ حَقًّا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُون، وَأَصْلُهَا مِنْ جَرَمْتُ أَيْ كَسَبْتُ الذنبَ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِن جَرَمْتُ كَقَوْلِكَ حُقِقْتُ أَوْ حَقَقْتُ بِشَيْءٍ، وإِنما لَبَّس عَلَيْهِ قولُ الشَّاعِرِ: " جَرَمَتْ فَزارةُ بَعْدَهَا أَن يَغْضَبُوا فَرَفَعُوا فَزارة وَقَالُوا: نَجْعَلُ الْفِعْلَ لفَزارة كأَنها بِمَنْزِلَةِ حَقَّ لَهَا أَوْ حُقَّ لَهَا أَن تَغْضَبَ، قَالَ: وَفَزَارَةُ مَنْصُوبٌ فِي الْبَيْتِ، الْمَعْنَى جَرَمَتْهُم الطعنةُ الغَضَبَ أَيْ كَسَبَتْهم.

وَقَالَ غَيْرُ الْفَرَّاءِ: حَقِيقَةُ مَعْنَى {لَا جَرَمَ} أن لا نَفْيٌ هاهنا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ؛ فرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ: لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ ابتدأ فقال: " جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ "؛ أَيْ كَسَبَ ذَلِكَ العملُ لَهُمُ الخُسْرانَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ؛ الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: جَرَم إفْكُهم وكَذِبُهم لَهُمْ عذابَ النَّارِ أَيْ كَسَبَ بهم عَذابَها.

قَالَ الأَزهري: وَهَذَا مِنْ أَبْيَن مَا قِيلَ فِيهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ لَا جَرَم كلمةٌ كَانَتْ فِي الأَصل بِمَنْزِلَةِ لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، فَجَرتْ عَلَى ذَلِكَ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَحَوَّلتْ إِلَى مَعْنَى القَسَم وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَقًّا، فَلِذَلِكَ يُجَابُ عَنْهَا بِاللَّامِ كَمَا يُجَابُ بِهَا عَنِ الْقَسَمِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ لَا جَرَم لَآتِيَنَّكَ؟ قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ جَرَمْتُ حَقَقْتُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَبَّسَ عَلَيْهِ الشَّاعِرُ أَبو أَسماء بِقَوْلِهِ: جَرَمْتَ فَزارة؛ وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَحَقّت عَلَيْهِمُ الغضَبَ أَيْ أَحَقَّتْ الطعنةُ فَزَارَةَ أَنْ يَغْضَبُوا، وحَقَّتْ أَيْضًا: مِنْ قَوْلِهِمْ لَا جَرَمَ لأَفْعَلَنَّ كَذَا أَيْ حَقًّا؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ردٌّ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ لأَنهما قَدَّراه أَحَقَّتْ فزارةَ الغضَبَ أَيْ بالغَضَبِ فَأَسْقَطَ الْبَاءَ، قَالَ: وَفِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ فِيهِ لأَن تَقْدِيرَهُ عِنْدَهُ كسَبَتْ فَزارةَ الغضبَ عَلَيْكَ، قَالَ: وَالْبَيْتُ لأَبي أَسماء بْنِ الضَّريبة، وَيُقَالُ لعَطِية بْنِ عَفِيفٍ، وَصَوَابُهُ: ولقد طعنتَ أَبا عُيَيْنة، بِفَتْحِ التَّاءِ، لأَنه يُخَاطِبُ كُرْزًا العُقَيليَّ ويَرْثيه؛ وَقَبْلَ الْبَيْتِ:

يَا كُرْزُ إنَّك قَدْ قُتِلْتَ بفارسٍ ***بَطَلٍ، إِذَا هابَ الكُماةُ وجَبَّبُوا

وَكَانَ كُرْزٌ قَدْ طَعَنَ أَبَا عُيَيْنَةَ، وَهُوَ حِصْنُ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْر الفَزاريّ.

ابْنُ سِيدَهْ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ جَرَم إِنَّمَا تَكُونُ جَوَابًا لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: كَانَ كَذَا وَكَذَا وَفَعَلُوا كَذَا فَتَقُولُ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ، أَوْ أَنه سَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ يَقُولَانِ لَا جَرَمَ تَبْرِئةٌ.

وَيُقَالُ: لَا جَرَم وَلَا ذَا جَرَم وَلَا أنْ ذَا جَرَم وَلَا عَنْ ذَا جَرَم وَلَا جَرَ، حَذَفُوهُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ.

قَالَ الْكِسَائِيُّ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ لَا ذَا جَرَمَ وَلَا أَنْ ذَا جَرَمَ وَلَا عَنْ ذَا جَرَمَ وَلَا جَرَ، بِلَا مِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ فَحُذِفَتِ الْمِيمُ، كَمَا قَالُوا حاشَ للهِ وَهُوَ فِي الأَصل حاشَى، وَكَمَا قَالُوا أَيْشْ وَإِنَّمَا هُوَ أيُّ شَيْءٍ، وَكَمَا قَالُوا سَوْ تَرَى وَإِنَّمَا هُوَ سوفَ تَرَى.

قَالَ الأَزهري: وَقَدْ قِيلَ لَا صِلَةَ فِي جَرَم وَالْمَعْنَى كَسَبَ لَهُمْ عَمَلُهم النَّدَم؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:

يَا أُمَّ عَمْرٍو، بَيِّني لَا أَوْ نَعَمْ، ***إِنْ تَصْرمِي فراحةٌ مِمَّنْ صَرَمْ،

أَوْ تَصِلِي الحَبْلَ فَقَدْ رَثَّ ورَمّ ***قُلْتُ لَهَا: بِينِي فَقَالَتْ: لَا جَرَمْ

أنَّ الفِراقَ اليومَ، واليومُ ظُلَمْ "ابْنُ الأَعرابي: لَا جَرَ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا أَيْ حَقًّا، وَلَا ذَا جَرَ وَلَا ذَا جَرَم، وَالْعَرَبُ تَصِلُ كَلَامَهَا بِذِي وَذَا وَذُو فَتَكُونُ حَشْوًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا؛ وأَنشد: " إِنَّ كِلابًا والِدِي لَا ذَا جَرَمْ وَفِي حَدِيثِ قَيْس بْنِ عَاصِمٍ: «لَا جَرَمَ لأَفُلَّنَّ حَدَّها»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذِهِ كَلِمَةٌ تَرِدُ بِمَعْنَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهَا فَقِيلَ أَصْلُهَا التَّبْرِئَةُ بِمَعْنَى لَا بُدَّ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى حقًّا، وقيل: " جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَب، وَقِيلَ: بِمَعْنَى وَجَبَ وحَقَّ وَلَا رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ ثُمَّ يبتدأُ بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}؛ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا قَالُوا، ثُمَّ ابتدأَ وَقَالَ: وَجَبَ لَهُمُ النَّارُ.

والجَرْمُ: الحَرُّ، فَارِسِيٌّ معرَّب.

وأَرض جَرْمٌ: حَارَّةٌ، وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: دَفِيئةٌ، وَالْجَمْعُ جُرُومٌ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَرْضٌ جَرْمٌ تُوصَفُ بالحرِّ، وَهُوَ دَخِيلٌ.

اللَّيْثُ: الجَرْمُ نَقِيض الصَّرْد؛ يُقَالُ: هَذِهِ أَرض جَرْمٌ وَهَذِهِ أَرض صَرْدٌ، وَهُمَا دخِيلان.

فِي الحرِّ وَالْبَرْدِ.

الْجَوْهَرِيُّ: والجُروُمُ مِنَ الْبِلَادِ خلافُ الصُّرُودِ.

والجَرْمُ: زَورَقٌ مِنْ زوارقِ اليَمَن، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ جُرُومٌ.

والمُدّ يُدْعَى بِالْحِجَازِ: جَرِيمًا.

يُقَالُ: أَعطيته كَذَا وَكَذَا جَرِيمًا مِنَ الطَّعَامِ.

وجَرْمٌ: بَطْنانِ بطنٌ فِي قُضاعة وَهُوَ جَرْمُ بنُ زَيَّانَ، وَالْآخَرُ فِي طيِء.

وَبَنُو جارِمٍ: بطنانِ بطنٌ فِي بَنِي ضَبَّة، وَالْآخَرُ فِي بَنِي سَعْدٍ.

اللَّيْثُ: جَرْمٌ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وبَنُو جارِمٍ: قومٌ مِنَ الْعَرَبِ؛ وَقَالَ:

إِذَا مَا رَأَتْ حَرْبًا عَبُ الشمسِ شَمَّرَتْ ***إِلَى رَمْلِها، والجارمِيُّ عَمِيدُها

عَبُ الشَّمْس: ضَوْءُها، وَقَدْ يُثَقَّلُ، وَهُوَ أَيضًا اسْمُ قبيلة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


47-لسان العرب (لوم)

لوم: اللّومُ واللّوْماءُ واللّوْمَى واللَّائِمَة: العَدْلُ.

لَامَه عَلَى كَذَا يَلُومُه لَوْمًا ومَلامًا وَمَلَامَةً ولَوْمةً، فَهُوَ مَلُوم ومَلِيمٌ: استحقَّ اللَّوْمَ؛ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلُوا إِلَى الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ اسْتِثْقَالًا لِلْوَاوِ مَعَ الضَّمَّة.

وأَلامَه ولَوَّمَه وأَلَمْتُه: بِمَعْنَى لُمْتُه؛ قَالَ مَعْقِل بْنُ خُوَيلد الْهُذَلِيُّ:

حَمِدْتُ اللهَ أَنْ أَمسَى رَبِيعٌ، ***بدارِ الهُونِ، مَلْحِيًّا مُلامَا

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لُمْتُ الرجلَ وأَلَمْتُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ مَعْقِل أَيْضًا؛ وَقَالَ عَنْتَرَةُ:

ربِذٍ يَداه بالقِداح إِذَا شَتَا، ***هتّاكِ غاياتِ التِّجارِ مُلَوِّمِ

أَيْ يُكْرَم كَرَمًا يُلامُ مِنْ أَجله، ولَوَّمَه شَدَّدَ لِلْمُبَالَغَةِ.

واللُّوَّمُ: جَمْعُ اللَّائِم مِثْلُ راكِعٍ ورُكَّعٍ.

وَقَوْمٌ لُوَّامٌ ولُوَّمٌ ولُيَّمٌ: غُيِّرت الواوُ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ.

وأَلامَ الرجلُ: أَتى مَا يُلامُ عَلَيْهِ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلَامَ صارَ ذَا لَائِمَةٍ.

ولَامَه: أَخْبَرَ بِأَمْرِهِ.

واسْتلامَ الرجلُ إِلَى النَّاسِ أَيْ استَذَمَّ.

واستَلامَ إِلَيْهِمْ: أَتى إِلَيْهِمْ مَا يَلُومُونه عَلَيْهِ؛ قَالَ الْقُطَامِيُّ:

فمنْ يَكُنِ اسْتَلامَ إِلَى نَوِيٍّ، ***فَقَدْ أَكْرَمْتَ، يَا زُفَر، الْمُتَاعَا

التَّهْذِيبُ: أَلامَ الرجلُ، فَهُوَ مُليم إِذَا أَتى ذَنْبًا يُلامُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.

وَفِي النَّوَادِرِ: لَامَني فلانٌ فالْتَمْتُ، ومَعّضَني فامْتَعَضْت، وعَذَلَني فاعْتَذَلْتُ، وحَضَّني فاحْتَضَضت، وأَمَرني فأْتَمَرْت إِذَا قَبِلَ قولَه مِنْهُ.

وَرَجُلٌ لُومَة: يَلُومُه النَّاسُ.

ولُوَمَة: يَلُومُ النَّاسُ مِثْلُ هُزْأَة وهُزَأَة.

وَرَجُلٌ لُوَمَة: لَوّام، يَطَّرِدُ عَلَيْهِ بابٌ ***ولاوَمْتُه: لُمْته ولامَني.

وتَلاوَمَ الرجُلان: لامَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صاحبَه.

وجاءَ بلَوْمَةٍ أَيْ مَا يُلامُ عَلَيْهِ.

والمُلاوَمَة: أَنْ تَلُوم رَجُلًا ويَلُومَك.

وتَلاوَمُوا: لَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «فتَلاوَموا بَيْنَهُمْ» أَيْ لامكَ بعضُهم بَعْضًا، وَهِيَ مُفاعلة مِنْ لامَه يَلومه لَومًا إِذَا عذَلَه وعنَّفَه.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: « فتَلاوَمْنا».

وتَلَوَّمَ فِي الأَمر: تمكَّث وَانْتَظَرَ.

وَلِي فِيهِ لُومةٌ أَي تَلَوُّم، ابْنُ بُزُرْجَ: التَّلَوُّمُ التَّنَظُّر للأَمر تُريده.

والتَّلَوُّم: الِانْتِظَارُ والتلبُّثُ.

وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمة الجَرْميّ: « وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ أَيْ تَنْتَظِرُ»، وَأَرَادَ تَتَلَوّم فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: « إِذَا أجْنَبَ فِي السفَر تَلَوَّمَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ أَيِ انْتَظَرَ وتَلَوّمَ عَلَى الأَمر يُريده».

وتَلَوَّمَ عَلَى لُوامَته أَيْ حَاجَتِهِ.

وَيُقَالُ: قَضَى القومُ لُواماتٍ لَهُمْ وَهِيَ الْحَاجَاتُ، وَاحِدَتُهَا لُوَامة.

وَفِي الْحَدِيثِ: « بِئسَ، لَعَمْرُ اللهِ، عَمَلُ الشَّيْخِ المتوسِّم والشابِّ المُتَلَوِّم أَيِ المتعرِّض للأَئمةِ فِي الْفِعْلِ السيّء، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللُّومَة وَهِيَ الْحَاجَةُ أَيِ الْمُنْتَظِرِ لِقَضَائِهَا».

ولِيمَ بِالرَّجُلِ: قُطع.

واللَّوْمةُ: الشَّهْدة.

واللامةُ واللامُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، واللَّوْمُ: الهَوْلُ؛ وَأَنْشَدَ لِلْمُتَلَمِّسِ: " ويكادُ مِنْ لامٍ يَطيرُ فُؤادُها "واللامُ: الشَّدِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُراه قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهَمْزِ، قَالَ أَبُو الدَّقِيشِ: اللامُ القُرْبُ، وَقَالَ أَبو خَيْرَةَ: اللامُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لامٍ، كَمَا يَقُولُ الصائتُ أَيَا أَيَا إِذَا سَمِعَتِ النَّاقَةُ ذَلِكَ طَارَتْ مِنْ حِدّة قَلْبِهَا؛ قَالَ: وَقَوْلُ أَبِي الدَّقِيشِ أَوفقُ لِمَعْنَى الْمُتَنَكِّسِ فِي الْبَيْتِ لأَنه قال:

ويكادُ مِنْ لامٍ يطيرُ فؤادُها، ***إِذْ مَرّ مُكّاءُ الضُّحى المُتَنَكِّسُ

قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: وَحَكَى ابْنِ الأَعرابي أَنَّهُ قَالَ اللامُ الشَّخْصُ فِي بَيْتِ الْمُتَلَمِّسِ.

يُقَالُ: رأَيت لامَه أَيْ شَخْصَهُ.

ابْنُ الأَعرابي: اللَّوَمُ كَثْرَةُ اللَّوْم.

قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ المَلِيم بِمَعْنَى المَلوم؛ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: مَنْ قَالَ مَلِيم بَنَاهُ عَلَى لِيمَ.

واللائِمةُ: المَلامة، وَكَذَلِكَ اللَّوْمى، عَلَى فَعْلى.

يُقَالُ: مَا زِلْتُ أَتَجَرّعُ مِنْكَ اللَّوَائِمَ.

والمَلاوِم: جَمْعُ المَلامة.

واللّامةُ: الأَمر يُلام عَلَيْهِ.

يُقَالُ: لامَ فلانٌ غيرَ مُليم.

وَفِي الْمَثَلِ: رُبَّ لَائِمٍ مُليم؛ قَالَتْهُ أُم عُمَير بْنِ سَلْمَى الْحَنَفِيِّ تُخَاطِبُ وَلَدَهَا عُمَيرًا، وَكَانَ أَسْلَمَ أَخَاهُ لِرَجُلٍ كلابيٍّ لَهُ عَلَيْهِ دَمٌ فَقَتَلَهُ، فَعَاتَبَتْهُ أُمُّه فِي ذَلِكَ وَقَالَتْ:

تَعُدُّ مَعاذِرًا لَا عُذْرَ فِيهَا، ***وَمَنْ يَخْذُلْ أَخاه فَقَدْ أَلاما

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وعُذْره الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ أَنَّ الْكِلَابِيَّ التجأَ إِلَى قَبْرِ سَلْمَى أَبي عُمَيْرٍ، فَقَالَ لَهَا عُمَيْرٌ:

قَتَلْنا أَخانا للوَفاءِ بِجارِنا، ***وَكَانَ أَبونا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ

وَقَالَ لَبِيَدٌ:

سَفَهًا عَذَلْتَ، ولُمْتَ غيرَ مُليم، ***وهَداك قبلَ اليومِ غيرُ حَكيم

ولامُ الإِنسان: شخصُه، غَيْرُ مَهْمُوزٍ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

مَهْرِيّة تَخظُر فِي زِمامِها، ***لَمْ يُبْقِ مِنْهَا السَّيْرُ غيرَ لامِها

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ أُم مَكْتُومٍ: « وَلِي قَائِدٌ لَا يُلاوِمُني »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: كَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِالْوَاوِ، وأَصله الْهَمْزُ مِنَ المُلاءمة وَهِيَ المُوافقة؛ يُقَالُ: هُوَ يُلائمُني بِالْهَمْزِ ثُمَّ يُخَفَّف فَيَصِيرُ يَاءً، قَالَ: وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ يُفاعِلني مِنَ اللَّوْم وَلَا مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَوْلُ عُمَرُ فِي حَدِيثِهِ: « لوْ ما أَبقَيْتَ »أَيْ هلَّا أَبقيت، وَهِيَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي مَعْنَاهَا التَّحْضِيضُ كَقَوْلِهِ تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ}.

وَاللَّامُ: حَرْفُ هِجَاءٍ وَهُوَ حَرْفٌ مَجْهُورٌ، يَكُونُ أَصلًا وَبَدَلًا وَزَائِدًا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَإِنَّمَا قَضَيْتُ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي أَخَوَاتِهَا مِمَّا عَيْنُهُ أَلف؛ قَالَ الأَزهري: قَالَ النَّحْوِيُّونَ لَوّمْت لَامًا أَيْ كَتَبْتُهُ كَمَا يُقَالُ كَوَّفْت كَافًا.

قَالَ الأَزهري فِي بَابِ لَفيف حَرْفِ اللَّامِ قَالَ: نَبْدَأُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ لمعانٍ مِنْ بَابِ اللَّامِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَمِنْهَا اللَّامُ الَّتِي تُوصَلُ بِهَا الأَسماء والأَفعال، وَلَهَا فِيهَا معانٍ كَثِيرَةٌ: فَمِنْهَا لامُ المِلْك كَقَوْلِكَ: هَذَا المالُ لِزَيْدٍ، وَهَذَا الْفَرَسُ لمحَمد، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يسمِّيها لامَ الإِضافة، سُمِّيَتْ لامَ المِلْك لأَنك إِذَا قُلْتَ إِنَّ هَذَا لِزيد عُلِمَ أَنَّهُ مِلْكُه، فَإِذَا اتَّصَلَتْ هَذِهِ اللَّامُ بالمَكْنيِّ عَنْهُ نُصِبَت كَقَوْلِكَ: هَذَا المالُ لَهُ وَلَنَا ولَك وَلَهَا وَلَهُمَا وَلَهُمْ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ مَعَ الْكِنَايَاتِ لأَن هَذِهِ اللامَ فِي الأَصل مَفْتُوحَةٌ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ مَعَ الأَسماء ليُفْصَل بَيْنَ لَامِ الْقَسَمِ وَبَيْنَ لَامِ الإِضافة، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ إِنَّ هَذَا المالَ لِزيدٍ عُلِم أَنَّهُ مِلكه؟ وَلَوْ قُلْتَ إِنَّ هَذَا لَزيدٌ عُلم أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ زَيْدٌ فكُسِرت ليُفرق بَيْنَهُمَا، وَإِذَا قُلْتَ: المالُ لَك، فَتَحْتَ لأَن اللَّبْسَ قَدْ زَالَ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَيُونُسَ وَالْبَصْرِيِّينَ.

لَامُ كَيْ: كَقَوْلِكَ جئتُ لِتقومَ يَا هَذَا، سُمِّيَتْ لامَ كَيْ لأَن مَعْنَاهَا جئتُ لِكَيْ تَقُومَ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى لَامِ الإِضافة أَيْضًا، وَكَذَلِكَ كُسِرت لأَن الْمَعْنَى جئتُ لِقِيَامِكَ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِيقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}؛ هِيَ لَامُ كَيْ، الْمَعْنَى يَا رَبِّ أَعْطيْتهم مَا أَعطَيتَهم لِيضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؛ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الِاخْتِيَارُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ وَمَا أَشبهها بتأْويل الْخَفْضِ، الْمَعْنَى آتيتَهم مَا آتيتَهم لِضَلَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ؛ مَعْنَاهُ لِكَوْنِهِ لأَنه قَدْ آلَتِ الْحَالُ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لامُ كَيْ فِي مَعْنَى لَامِ الْخَفْضِ، وَلَامُ الْخَفْضِ فِي مَعْنَى لَامِ كَي لِتقارُب الْمَعْنَى؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ}؛ الْمَعْنَى لإِعْراضِكم.

عَنْهُمْ وَهُمْ لَمْ يَحْلِفوا لِكَيْ تُعْرِضوا، وَإِنَّمَا حَلَفُوا لإِعراضِهم عَنْهُمْ؛ وَأَنْشَدَ:

سَمَوْتَ، وَلَمْ تَكُن أَهلًا لتَسْمو، ***ولكِنَّ المُضَيَّعَ قَدْ يُصابُ

أَراد: مَا كنتَ أَهلا للسُمُوِّ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {لِيَجْزِيَهم اللَّهُ أَحسنَ مَا كَانُوا يَعْملون}؛ اللَّامُ فِي لِيَجْزيَهم لامُ الْيَمِينِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيَجْزِيَنّهم اللَّهُ، فَحَذَفَ النُّونَ، وَكَسَرُوا اللَّامَ وَكَانَتْ مَفْتُوحَةً، فأَشبهت فِي اللَّفْظِ لامَ كَيْ فَنَصَبُوا بِهَا كَمَا نَصَبُوا بِلَامِ كَيْ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}؛ الْمَعْنَى لَيَغْفِرنَّ اللهُ لَكَ؛ قَالَ ابْنُ الأَنباري: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ غَلَطٌ لأَنَّ لامَ الْقَسَمِ لَا تُكسَر وَلَا يُنْصَبُ بِهَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} لَيَجْزيَنَّهم اللَّهُ لقُلْنا: وَاللَّهِ ليقومَ زَيْدٌ، بتأْويل وَاللَّهِ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي التَّعَجُّبِ: أَظْرِفْ بزَيْدٍ، فَيَجْزِمُونَهُ لشبَهِه بِلَفْظِ الأَمر، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ لأَن التَّعَجُّبَ عُدِلَ إِلَى لَفْظِ الأَمر، وَلَامُ الْيَمِينِ لَمْ تُوجَدْ مَكْسُورَةً قَطُّ فِي حَالِ ظُهُورِ الْيَمِينِ وَلَا فِي حَالِ إِضْمَارِهَا؛ وَاحْتَجَّ مَن احْتَجَّ لأَبي حَاتِمٍ بِقَوْلِهِ:

إِذَا هُوَ آلَى حِلْفةً قلتُ مِثْلَها، ***لِتُغْنِيَ عنِّي ذَا أَتى بِك أَجْمَعا

قَالَ: أَراد لَتُغْنِيَنَّ، فأَسقط النُّونَ وَكَسَرَ اللَّامَ؛ قَالَ أَبو بَكْرٍ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ:

إِذَا هُوَ آلَى حِلْفَةً قلتُ مِثلَها، ***لِتُغْنِنَّ عنِّي ذَا أَتى بِك أَجمَعا

قَالَ: الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ لِتُغْنِيَنّ فَأَسْكَنَ الْيَاءَ عَلَى لُغَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَأَيْتُ قاضٍ ورامٍ، فَلَمَّا سَكَنَتْ سَقَطَتْ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ الأَولى، قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ اقْضِنَّ يَا رَجُلُ، وابْكِنَّ يَا رَجُلُ، وَالْكَلَامُ الْجَيِّدُ: اقْضِيَنَّ وابْكِيَنَّ؛ وأَنشد:

يَا عَمْرُو، أَحْسِنْ نَوالَ اللَّهِ بالرَّشَدِ، ***واقْرَأ سَلَامًا عَلَى الأَنقاءِ والثَّمدِ

وابْكِنَّ عَيْشًا تَوَلَّى بَعْدَ جِدَّتِه، ***طابَتْ أَصائِلُه في ذلك البَلدِ

قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: وَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ الأَنباري.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سأَلت أَبَا الْعَبَّاسِ عَنِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}، قَالَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهَا إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى الْمَغْفِرَةِ شيءٌ حادثٌ واقعٌ حسُنَ مَعْنَى كَيْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}، هِيَ لامُ كَيْ تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ، إِلَى قَوْلِهِ: فِي كِتابٍ مُبِينٍ أَحصاه عَلَيْهِمْ لكيْ يَجْزِيَ المُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ والمُسِيءَ بإساءَته.

لَامُ الأَمر: وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِيَضْرِبْ زيدٌ عَمْرًا؛ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَصلها نَصْبٌ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ لِيُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ التَّوْكِيدِ وَلَا يبالَى بشَبهِها بلامالْجَرِّ، لأَن لَامَ الْجَرِّ لَا تَقَعُ فِي الأَفعال، وتقعُ لامُ التَّوْكِيدِ فِي الأَفعال، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِيضْرِبْ، وَأَنْتَ تأْمُر، لأَشبَهَ لامَ التَّوْكِيدِ إِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَتَضْرِبُ زَيْدًا؟ وَهَذِهِ اللَّامُ فِي الأَمر أَكثر مَا اسْتُعْملت فِي غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، وَهِيَ تَجْزِمُ الْفِعْلَ، فَإِنْ جاءَت لِلْمُخَاطَبِ لَمْ يُنْكَر.

قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ}؛ أكثرُ القُرّاء قرؤُوا: فَلْيَفْرَحُوا، بِالْيَاءِ.

وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قرأَ: " فَبِذَلِكَ فلْتَفْرَحوا "؛ يُرِيدُ أَصحاب سَيِّدِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ؛ أَيْ مِمَّا يَجْمَعُ الكُفَّار؛ وقَوَّى قراءةَ زَيْدٍ قراءةُ أُبيّ" فَبِذَلِكَ فافْرَحوا "، وَهُوَ البِناء الَّذِي خُلق للأَمر إِذَا واجَهْتَ بِهِ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَعيب قولَهم" فلْتَفْرَحوا "لأَنه وَجَدَهُ قَلِيلًا فَجَعَلَهُ عَيْبًا؛ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ بِالتَّاءِ" فلْتَفرَحوا، وَهِيَ جَائِزَةٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لامُ الأَمْرِ تأْمُر بِهَا الغائبَ، وَرُبَّمَا أَمرُوا بِهَا المخاطَبَ، وَقُرِئَ: فَبِذَلِكَ فلْتَفْرَحوا "، بِالتَّاءِ؛ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ حَذْفُ لامِ الأَمر فِي الشِّعْرِ فَتَعْمَلُ مضْمرة كَقَوْلِ مُتمِّم بْنِ نُوَيْرة:

عَلَى مِثْلِ أَصحابِ البَعوضةِ فاخْمُشِي [فاخْمِشِي]، ***لكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أَوْ يَبكِ مَنْ بَكى

أَرَادَ: لِيَبْكِ، فَحَذَفَ اللَّامَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لامُ أَمرِ المُواجَهِ؛ قَالَ الشَّاعِرِ:

قلتُ لبَوَّابٍ لَدَيْه دارُها: ***تِئْذَنْ، فَإِنِّي حَمْؤها وجارُها

أَرَادَ: لِتَأْذَن، فَحَذَفَ اللامَ وكسرَ التاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ أَنتَ تِعْلَمُ؛ قَالَ الأَزهري: اللَّامُ الَّتِي للأَمْرِ فِي تأْويل الْجَزَاءِ، مِنْ ذَلِكَ قولُه عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ أَمر فِيهِ تأْويلُ جَزاء كَمَا أَن قَوْلَهُ: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، نهيٌ فِي تأْويل الْجَزَاءِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وأَنشد:

فقلتُ: ادْعي وأدْعُ، فإنَّ أنْدَى ***لِصَوْتٍ أَنْ يُناديَ داعِيانِ

أَيْ ادْعِي ولأَدْعُ، فكأَنه قَالَ: إِنْ دَعَوْتِ دَعَوْتُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: وَزَادَ فَقَالَ: يُقْرأُ قَوْلُهُ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ أَمر فِي تأْويل الشَّرْطِ، الْمَعْنَى إِن تتَّبعوا سَبيلَنا حمَلْنا خَطَايَاكُمْ.

لَامُ التَّوْكِيدِ: وَهِيَ تَتَّصِلُ بالأَسماء والأَفعال الَّتِي هِيَ جواباتُ الْقَسَمِ وجَوابُ إنَّ، فالأَسماء كَقَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا لَكَريمٌ وَإِنَّ عَمْرًا لَشُجاعٌ، والأَفعال كَقَوْلِكَ: إِنَّهُ لَيَذُبُّ عَنْكَ وَإِنَّهُ ليَرْغَبُ فِي الصَّلَاحِ، وَفِي القسَم: واللهِ لأُصَلِّيَنَّ وربِّي لأَصُومَنَّ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}؛ أَيْ مِمّنْ أَظهر الإِيمانَ لَمَنْ يُبَطِّئُ عَنِ الْقِتَالِ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: اللامُ الأُولى الَّتِي فِي قَوْلِهِ لَمَنْ لامُ إِنَّ، وَاللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ لَيُبَطِّئَنَّ لامُ القسَم، ومَنْ مَوْصُولَةٌ بِالْجَالِبِ لِلْقَسَمِ، كأَنّ هَذَا لَوْ كَانَ كَلَامًا لَقُلْتَ: إِنَّ مِنْكُمْ لَمنْ أَحْلِف بِاللَّهِ وَاللَّهِ ليُبَطِّئنّ، قَالَ: وَالنَّحْوِيُّونَ مُجْمِعون عَلَى أَنَّ مَا ومَنْ وَالَّذِي لَا يوصَلْنَ بالأَمر وَالنَّهْيِ إِلَّا بِمَا يُضْمَرُ مَعَهَا مِنْ ذِكْرِ الْخَبَرِ، وأَن لامَ القسَمِ إِذا جَاءَتْ مَعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فَلَفْظُ القَسم وَمَا أَشبَه لفظَه مضمرٌ مَعَهَا.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَمَّا لامُ التَّوْكِيدِ فَعَلَى خَمْسَةِ أَضرب، مِنْهَا لامُ الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِكَ لَزيدٌ أَفضل مِنْ عمرٍو، وَمِنْهَا اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ الْمُشَدَّدَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ}، وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قائلٍ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً؛ وَمِنْهَا الَّتِي تَكُونُ جَوَابًا لِلَوْ ولَوْلا كَقَوْلِهِ تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلِهِ تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوالَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا؛ وَمِنْهَا الَّتِي فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُؤَكَّدِ بِالنُّونِ كَقَوْلِهِ تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ؛ وَمِنْهَا لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ}، وجميعُ لاماتِ التَّوْكِيدِ تَصْلُحُ أَن تَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}؛ فَاللَّامُ الأُولى لِلتَّوْكِيدِ وَالثَّانِيَةُ جَوَابٌ، لأَنّ المُقْسَم جُمْلةٌ تُوصَلُ بِأُخْرَى، وَهِيَ المُقْسَم عَلَيْهِ لتؤكَّدَ الثانيةُ بالأُولى، وَيَرْبُطُونَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِحُرُوفٍ يُسَمِّيهَا النَّحْوِيُّونَ جوابَ القسَم، وَهِيَ إنَّ الْمَكْسُورَةُ الْمُشَدَّدَةُ وَاللَّامُ الْمُعْتَرَضُ بِهَا، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا خَيْرٌ منك، وو الله لَزَيْدٌ خيرٌ مِنْكَ، وَقَوْلُكَ: وَاللَّهِ ليَقومَنّ زيدٌ، إِذَا أَدْخَلُوا لَامَ الْقَسَمِ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ أَدخلوا فِي آخِرِهِ النُّونَ شَدِيدَةً أَو خَفِيفَةً لتأْكيد الِاسْتِقْبَالِ وإِخراجه عَنِ الْحَالِ، لَا بدَّ مِنْ ذَلِكَ؛ وَمِنْهَا إِنِ الْخَفِيفَةُ الْمَكْسُورَةُ وَمَا، وَهُمَا بِمَعْنًى كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ مَا فعَلتُ، وو الله إنْ فعلتُ، بِمَعْنًى؛ وَمِنْهَا لَا كَقَوْلِكَ: واللهِ لَا أفعَلُ، لَا يَتَّصِلُ الحَلِف بِالْمَحْلُوفِ إِلَّا بأَحد هَذِهِ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ، وَقَدْ تُحْذَفُ وَهِيَ مُرادةٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَاللَّامُ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَاتِ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَحَرِّكَةٌ وَسَاكِنَةٌ، فأَما السَّاكِنَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحدهما لَامُ التَّعْرِيفِ ولسُكونِها أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا ألفُ الْوَصْلِ لِيَصِحَّ الِابْتِدَاءُ بِهَا، فإِذا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا سقَطت الأَلفُ كَقَوْلِكَ الرجُل، وَالثَّانِي لامُ الأَمرِ إِذا ابْتَدَأتَها كَانَتْ مَكْسُورَةً، وإِن أَدخلت عَلَيْهَا حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ جَازَ فِيهَا الكسرُ وَالتَّسْكِينُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ}؛ وَأَمَّا اللاماتُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَهِيَ ثلاثٌ: لامُ الأَمر ولامُ التَّوْكِيدِ ولامُ الإِضافة.

وَقَالَ فِي أَثناء التَّرْجَمَةِ: فأَما لامُ الإِضافةِ فَعَلَى ثَمَانِيَةِ أضْرُبٍ: مِنْهَا لامُ المِلْك كَقَوْلِكَ المالُ لِزيدٍ، وَمِنْهَا لامُ الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِكَ أَخٌ لِزيدٍ، ومنها لام الاستغاثة كقولك الحرث بْنِ حِلِّزة:

يَا لَلرِّجالِ ليَوْمِ الأَرْبِعاء، أَمَا ***يَنْفَكُّ يُحْدِث لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبا؟

وَاللَّامَانِ جَمِيعًا لِلْجَرِّ، وَلَكِنَّهُمْ فَتَحُوا الأُولى وَكَسَرُوا الثَّانِيَةَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ المستغاثِ بِهِ والمستغاثَ لَهُ، وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ ويُبْقُون المستغاثَ لَهُ، يَقُولُونَ: يَا لِلْماءِ، يُرِيدُونَ يَا قومِ لِلْماء أَي لِلْمَاءِ أَدعوكم، فَإِنْ عطفتَ عَلَى المستغاثِ بِهِ بلامٍ أُخْرَى كَسَرْتَهَا لأَنك قَدْ أمِنْتَ اللَّبْسَ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا لَلرِّجالِ ولِلشُّبَّانِ للعَجَبِ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنْشَادِهِ: يَا لَلْكُهُولِ ولِلشُّبَّانِ لِلْعَجَبِ وَالْبَيْتُ بِكَمَالِهِ:

يَبْكِيكَ ناءٍ بَعِيدُ الدارِ مُغْتَرِبٌ، ***يَا لَلْكهول وَلِلشُّبَّانِ لِلْعَجَبِ

وَقَوْلُ مُهَلْهِل بْنِ رَبِيعَةَ وَاسْمُهُ عَدِيٌّ:

يَا لَبَكْرٍ أنشِروا لِي كُلَيْبًا، ***يَا لبَكرٍ أيْنَ أينَ الفِرارُ؟

اسْتِغَاثَةٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصله يَا آلَ بكْرٍ فَخَفَّفَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ يُخَاطِبُ بِشْر بْنَ مَرْوانَ لَمَّا هَجَاهُ سُراقةُ البارِقيّ:

قَدْ كَانَ حَقًّا أَن نقولَ لبارِقٍ: ***يَا آلَ بارِقَ، فِيمَ سُبَّ جَرِيرُ؟

وَمِنْهَا لَامُ التَّعَجُّبِ مَفْتُوحَةً كَقَوْلِكَ يَا لَلْعَجَبِ، وَالْمَعْنَى يَا عجبُ احْضُرْ فَهَذَا أوانُك، وَمِنْهَا لامُ العلَّة بِمَعْنَى كَيْ كَقَوْلِهِ تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}؛ وضَرَبْتُه لِيتَأدَّب أَي لِكَيْ يتَأدَّبَ لأَجل" التأدُّبِ، وَمِنْهَا لامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

فلِلْمَوْتِ تَغْذُو الوالِداتُ سِخالَها، ***كَمَا لِخَرابِ الدُّورِ تُبْنَى المَساكِنُ

أَيْ عَاقِبَتُهُ ذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

أموالُنا لِذَوِي المِيراثِ نَجْمَعُها، ***ودُورُنا لِخَرابِ الدَّهْر نَبْنِيها

وَهُمْ لَمْ يَبْنُوها لِلْخَرَابِ وَلَكِنْ مآلُها إِلَى ذَلِكَ؛ قَالَ: ومثلُه مَا قَالَهُ شُتَيْم بْنُ خُوَيْلِد الفَزاريّ يَرْثِي أَولاد خالِدَة الفَزارِيَّةِ، وَهُمْ كُرْدم وكُرَيْدِم ومُعَرِّض:

لَا يُبْعِد اللهُ رَبُّ البِلادِ ***والمِلْح مَا ولَدَتْ خالِدَهْ

فأُقْسِمُ لَوْ قَتَلوا خَالِدًا، ***لكُنْتُ لَهُمْ حَيَّةً راصِدَهْ

فَإِنْ يَكُنِ الموْتُ أفْناهُمُ، ***فلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ

وَلَمْ تَلِدْهم أمُّهم لِلْمَوْتِ، وَإِنَّمَا مآلُهم وعاقبتُهم الموتُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِسِمَاك أَخي مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْعَامِلِيِّ، وَكَانَ مُعْتَقَلا هُوَ وَأَخُوهُ مَالِكٌ عِنْدَ بَعْضِ مُلُوكِ غَسَّانَ فَقَالَ:

فأبْلِغْ قُضاعةَ، إِنْ جِئْتَهم، ***وخُصَّ سَراةَ بَني ساعِدَهْ

وأبْلِغْ نِزارًا عَلَى نأْيِها، ***بأَنَّ الرِّماحَ هِيَ الهائدَهْ

فأُقسِمُ لَوْ قَتَلوا مالِكًا، ***لكنتُ لَهُمْ حَيَّةً راصِدَهْ

برَأسِ سَبيلٍ عَلَى مَرْقَبٍ، ***ويوْمًا عَلَى طُرُقٍ وارِدَهْ

فأُمَّ سِمَاكٍ فَلَا تَجْزَعِي، ***فلِلْمَوتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ

ثُمَّ قُتِل سِماكٌ فَقَالَتْ أمُّ سِمَاكٍ لأَخيه مالِكٍ: قبَّح اللَّهُ الْحَيَاةَ بَعْدَ سِمَاكٍ فاخْرُج فِي الطَّلَبِ بِأَخِيكَ، فَخَرَجَ فلَقِيَ قاتِلَ أَخيه فِي نَفَرٍ يَسيرٍ فَقَتَلَهُ.

قَالَ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}؛ وَلَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا مَآلُهُ العداوَة، وَفِيهِ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؛ وَلَمْ يُؤْتِهم الزِّينةَ والأَموالَ لِلضَّلَالِ وإِنما مَآلُهُ الضَّلَالُ، قَالَ: وَمِثْلُهُ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا؛ وَمَعْلُومٌ أَنه لَمْ يَعْصِر الخمرَ، فَسَمَّاهُ خَمرًا لأَنَّ مَآلَهُ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَمِنْهَا لَامُ الجَحْد بَعْدَ مَا كَانَ وَلَمْ يَكُنْ وَلَا تَصْحَب إِلَّا النَّفْيَ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ}، أَيْ لأَن يُعذِّبهم، وَمِنْهَا لامُ التَّارِيخِ كَقَوْلِهِمْ: كَتَبْتُ لِثلاث خَلَوْن أَيْ بَعْد ثَلَاثٍ؛ قَالَ الرَّاعِي:

حَتَّى وَرَدْنَ لِتِمِّ خِمْسٍ بائِصٍ ***جُدًّا، تَعَاوَره الرِّياحُ، وَبِيلا

البائصُ: الْبَعِيدُ الشاقُّ، والجُدّ: البئرْ وأَرادَ ماءَ جُدٍّ، قَالَ: وَمِنْهَا اللَّامَاتُ الَّتِي تؤكَّد بِهَا حروفُ المجازاة ويُجاب بِلَامٍ أُخرى تَوْكِيدًا كَقَوْلِكَ: لئنْ فَعَلْتَ كَذَا لَتَنْدَمَنَّ، وَلَئِنْ صَبَرْتَ لَترْبحنَّ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الْآيَةَ؛ رَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ النَّحْوِيِّ أَنه قَالَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ لَما آتَيْتُكُمْ لَمَهْما آتَيْتُكُمْ؛ أَي: أَيُّ كِتابٍ آتيتُكم لتُؤمنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّه، قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ الأَخفش: اللَّامُ الَّتِي فِي لَمَا اسْمٌ.

وَالَّذِي بَعْدَهَا صلةٌ لَهَا، وَاللَّامُ الَّتِي فِي لتؤمِنُنّ بِهِ ولتنصرنَّه لامُ الْقَسَمِ كأَنه قَالَ وَاللَّهِ لتؤْمنن، يُؤَكّدُ فِي أَول الْكَلَامِ وَفِي آخِرِهِ، وَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً؛ وَقَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: هَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ، اللَّامُ الَّتِي تدخل في أَوائل الْخَبَرِ تُجاب بِجَوَابَاتِ الأَيمان، تَقُولُ: لَمَنْ قامَ لآتِينَّه، وَإِذَا وَقَعَ فِي جَوَابِهَا مَا وَلَا عُلِم أَن اللَّامَ لَيْسَتْ بِتَوْكِيدٍ، لأَنك تضَع مَكَانَهَا مَا وَلَا وَلَيْسَتْ كالأُولى وَهِيَ جَوَابٌ للأُولى، قَالَ: وأَما قَوْلُهُ مِنْ كِتابٍ فأَسْقط مِنْ، فَهَذَا غلطٌ لأَنّ مِنَ الَّتِي تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ لَا تَقَعُ إِلَّا مَوَاقِعَ الأَسماء، وَهَذَا خبرٌ، وَلَا تَقَعُ فِي الْخَبَرِ إِنما تَقَعُ فِي الجَحْد وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ جَعَلَ لَما بِمَنْزِلَةِ لَعَبْدُ اللهِ واللهِ لَقائمٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ جَزَاءً، قَالَ: وَمِنَ اللَّامَاتِ الَّتِي تَصْحَبُ إنْ: فَمَرَّةً تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَرَّةً تَكُونُ صِلَةً وَتَوْكِيدًا كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}؛ فمَنْ جَعَلَ إنْ جَحْدًا جَعَلَ اللَّامَ بِمَنْزِلَةِ إِلَّا، الْمَعْنَى مَا كَانَ وعدُ ربِّنا إِلا مَفْعُولًا، وَمَنْ جَعَلَ إِنَّ بِمَعْنَى قَدْ جَعَلَ اللَّامَ تَأْكِيدًا، الْمَعْنَى قَدْ كَانَ وعدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}، يَجُوزُ فِيهَا الْمَعْنَيَانِ؛ التَّهْذِيبُ: [لامُ التَّعَجُّبِ وَلَامُ الِاسْتِغَاثَةِ] رَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اسْتُغِيث بواحدٍ أَوْ بِجَمَاعَةٍ فَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ، تَقُولُ: يَا لَلرجالِ يَا لَلْقوم يَا لَزَيْدٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إِذَا كُنْتَ تَدْعُوهُمْ، فأَما لَامُ المدعوِّ إِلَيْهِ فإِنها تُكسَر، تَقُولُ: يَا لَلرِّجال لِلْعجب؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَكَنَّفَني الوُشاةُ فأزْعَجوني، ***فَيَا لَلنّاسِ لِلْواشي المُطاعِ

وَتَقُولُ: يَا لَلْعَجَبِ إِذَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ كأَنك قُلْتَ يَا لَلنَّاس لِلعجب، وَلَا يَجُوزُ أَن تَقُولَ يَا لَزيدٍ وَهُوَ مُقْبل عَلَيْكَ، إِنما تَقُولُ ذَلِكَ لِلْبَعِيدِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَن تَقُولَ يَا قَوْماه وَهُمْ مُقبِلون، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ يَا لَزيدٍ ولِعَمْرو كسرْتَ اللَّامَ فِي عَمْرو، وَهُوَ مدعوٌ، لأَنك إِنما فَتَحْتَ اللَّامَ فِي زَيْدٍ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَطَفْتَ عَلَى زَيْدٍ استَغْنَيْتَ عَنِ الْفَصْلِ لأَن الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِثْلُ حَالِهِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: " يَا لَلكهولِ ولِلشُّبّانِ لِلعجب "وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَا لَلْعَضِيهةِ وَيَا لَلأَفيكة وَيَا لَلبَهيتة، وَفِي اللَّامِ الَّتِي فِيهَا وَجْهَانِ: فإِن أَرَدْتَ الِاسْتِغَاثَةَ نَصَبْتَهَا، وإِن أَردت أَن تَدْعُوَ إِلَيْهَا بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْهُ كَسَرْتَهَا، كأَنك أَردت: يَا أَيها الرجلُ اعْجَبْ لِلْعَضيهة، وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْجَبوا للأَفيكة.

وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: لامُ الِاسْتِغَاثَةِ مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ فِي الأَصل لَامُ خفْضٍ إِلا أَن الِاسْتِعْمَالَ فِيهَا قَدْ كَثُرَ مَعَ يَا، فجُعِلا حَرْفًا وَاحِدًا؛ وأَنشد: " يَا لَبَكرٍ أنشِروا لِي كُلَيبًا قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنهم جَعَلُوا اللَّامَ مَعَ يَا حَرْفًا وَاحِدًا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

فخَيرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ منكمْ، ***إِذَا الدَّاعِي المُثَوِّبُ قال: يا لا

وَقَوْلُهُمْ: لِم فعلتَ، مَعْنَاهُ لأَيِّ شَيْءٍ فَعَلْتَهُ؟ والأَصل فِيهِ لِما فَعَلْتَ فَجَعَلُوا مَا فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعَ الْخَافِضِ حَرْفًا وَاحِدًا واكتفَوْا بِفَتْحَةِ الْمِيمِ مِنَ الْأَلِفِ فأسْقطوها، وَكَذَلِكَ قَالُوا: عَلامَ تركتَ وعَمَّ تُعْرِض وإلامَ تَنْظُرُ وحَتَّامَ عَناؤُك؟ وَأَنْشَدَ: فحَتَّامَ حَتَّام العَناءُ المُطَوَّل "وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ}؛ أَرَادَ لأَي علَّةوبأيِّ حُجّة، وَفِيهِ لُغَاتٌ: يُقَالُ لِمَ فعلتَ، ولِمْ فعلتَ، ولِما فَعَلْتَ، ولِمَهْ فَعَلْتَ، بِإِدْخَالِ الْهَاءِ لِلسَّكْتِ؛ وَأَنْشَدَ:

يَا فَقْعَسِيُّ، لِمْ أَكَلْتَه لِمَهْ؟ ***لَوْ خافَك اللهُ عَلَيْهِ حَرَّمَهْ

قَالَ: وَمِنَ اللَّامَاتِ لامُ التَّعْقِيبِ للإِضافة وَهِيَ تَدْخُلُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي مَعْنَاهُ الِاسْمُ كَقَوْلِكَ: فلانٌ عابرُ الرُّؤْيا وعابرٌ لِلرؤْيا، وَفُلَانٌ راهِبُ رَبِّه وراهبٌ لرَبِّه.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، وَفِيهِ: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ؛ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: إِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ تَعْقِيبًا للإِضافة، الْمَعْنَى هُمْ رَاهِبُونَ لِرَبِّهِمْ وراهِبُو ربِّهم، ثُمَّ أَدخلوا اللَّامَ عَلَى هَذَا، وَالْمَعْنَى لأَنها عَقَّبت للإِضافة، قَالَ: وَتَجِيءُ اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى وَبِمَعْنَى أَجْل، قَالَ اللَّهُ تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها}؛ أَيْ أَوحى إِلَيْهَا، وَقَالَ تعالى: {وَهُمْ لَها سابِقُونَ}؛ أَيْ وَهُمْ إِلَيْهَا سَابِقُونَ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}؛ أَيْ خَرُّوا مِنْ أَجلِه سُجَّدًا كَقَوْلِكَ أَكرمت فُلَانًا لَكَ أَيْ مِنْ أَجْلِك.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ}؛ مَعْنَاهُ فَإِلَى ذَلِكَ فادْعُ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ.

وَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها}؛ أَيْ عَلَيْهَا.

جَعَلَ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى؛ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي قَوْلِهِ:

فَلَمَّا تَفَرَّقْنا، كأنِّي ومالِكًا ***لطولِ اجْتماعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعا

قَالَ: مَعْنَى لِطُولِ اجْتِمَاعٍ أَيْ مَعَ طُولِ اجْتِمَاعٍ، تَقُولُ: إِذَا مَضَى شَيْءٌ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، قَالَ: وَتَجِيءُ اللَّامُ بِمَعْنَى بَعْد؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " حَتَّى وَرَدْنَ لِتِمِّ خِمْسٍ بائِص "أَيْ بعْد خِمْسٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لِثَلَاثٍ خَلَوْن مِنَ الشَّهْرِ أَيْ بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ: وَمِنَ اللَّامَاتِ لَامُ التَّعْرِيفِ الَّتِي تَصْحَبُهَا الأَلف كَقَوْلِكَ: القومُ خَارِجُونَ وَالنَّاسُ طَاعِنُونَ الحمارَ وَالْفَرَسَ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَمِنْهَا اللَّامُ الأَصلية كَقَوْلِكَ: لَحْمٌ لَعِسٌ لَوْمٌ وَمَا أَشبهها، وَمِنْهَا اللَّامُ الزَّائِدَةُ فِي الأَسماء وَفِي الأَفعال كَقَوْلِكَ: فَعْمَلٌ لِلْفَعْم، وَهُوَ الْمُمْتَلِئُ، وَنَاقَةٌ عَنْسَل للعَنْس الصُّلبة، وَفِي الأَفعال كَقَوْلِكَ قَصْمَله أَيْ كَسَّرَهُ، والأَصل قَصَمه، وَقَدْ زَادُوهَا فِي ذَاكَ فَقَالُوا ذَلِكَ، وَفِي أُولاك فَقَالُوا أُولالِك، وَأَمَّا اللَّامُ الَّتِي فِي لَقد فَإِنَّهَا دَخَلَتْ تأْكيدًا لِقَدْ فَاتَّصَلَتْ بِهَا كأَنها مِنْهَا، وَكَذَلِكَ اللَّامُ الَّتِي فِي لَما مُخَفَّفَةً.

قَالَ الأَزهري: وَمِنَ اللَّاماتِ مَا رَوى ابنُ هانِئٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ يُقَالُ: اليَضْرِبُك ورأَيت اليَضْرِبُك، يُريد الَّذِي يضرِبُك، وَهَذَا الوَضَع الشعرَ، يُرِيدُ الَّذِي وضَع الشِّعْرَ؛ قَالَ: وأَنشدني المُفضَّل:

يقولُ الخَنا وابْغَضُ العُجْمِ ناطِقًا، ***إِلَى ربِّنا، صَوتُ الحمارِ اليُجَدَّعُ

يُرِيدُ الَّذِي يُجدَّع؛ وَقَالَ أَيْضًا:

أَخِفْنَ اطِّنائي إن سَكَتُّ، وإنَّني ***لَفي شُغُلٍ عَنْ ذَحْلِها اليُتَتَبَّعُ

يُرِيدُ: الَّذِي يُتتبَّع؛ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ مُتمِّم: " وعَمْرًا وَحَوْنًا بالمُشَقَّرِ ألْمَعا ".

قَالَ: يَعْنِي اللَّذَيْنِ مَعًا فأَدْخل عَلَيْهِ الأَلف وَاللَّامَ صِلةً، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ الحِصْنُ أَنْ يُرامَ، وَهُوَ العَزيز أَنْ يُضَامَ، والكريمُ أَنْ يُشتَمَ؛ معناههُوَ أَحْصَنُ مِنْ أَنْ يُرامَ، وأعزُّ مِنْ أَنْ يُضامَ، وأَكرمُ مِنْ أَنْ يُشْتَم، وَكَذَلِكَ هُوَ البَخِيلُ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ أَيْ هُوَ أَبْخلُ مِنْ أَن يُرْغَبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشُّجاع أَنْ يَثْبُتَ لَهُ قِرْنٌ.

وَيُقَالُ: هُوَ صَدْقُ المُبْتَذَلِ أَيْ صَدْقٌ عِنْدَ الابتِذال، وَهُوَ فَطِنُ الغَفْلةِ فَظِعُ المُشاهدة.

وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: الْعَرَبُ تُدْخِل الأَلف وَاللَّامَ عَلَى الفِعْل الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ وَالْحِكَايَةِ؛ وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ:

مَا أَنتَ بالحَكَمِ التُّرْضَى حْكُومَتُه، ***وَلَا الأَصِيلِ، وَلَا ذِي الرَّأْي والجَدَلِ

وأَنشد أَيضًا:

أَخفِنَ اطِّنائي إِنْ سكتُّ، وَإِنَّنِي ***لَفِي شُغْلٍ عَنْ ذَحْلِهَا اليُتَتَبَّع

فأَدخل الأَلف وَاللَّامَ عَلَى يُتتبّع، وَهُوَ فعلٌ مُسْتَقْبَلٌ لِما وَصَفْنا، قَالَ: وَيُدْخِلُونَ الأَلف وَاللَّامَ عَلَى أَمْسِ وأُلى، قَالَ: وَدُخُولُهَا عَلَى المَحْكِيّات لَا يُقاس عَلَيْهِ؛ وأَنشد:

وإنِّي جَلَسْتُ اليومَ والأَمْسِ قَبْلَه ***بِبابِك، حَتَّى كَادَتِ الشمسُ تَغْرُبُ

فأَدخلهما عَلَى أَمْسِ وَتَرَكَهَا عَلَى كَسْرِهَا، وأَصل أَمْسِ أَمرٌ مِنَ الإِمْساء، وَسُمِّيَ الوقتُ بالأَمرِ وَلَمْ يُغيَّر لفظُه، والله أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


48-لسان العرب (غبن)

غبن: الغَبْنُ، بِالتَّسْكِينِ، فِي الْبَيْعِ، والغَبَنُ، بِالتَّحْرِيكِ، فِي الرأْي.

وغَبِنْتَ رأْيَك أَي نَسِيته وضَيَّعْته.

غَبِنَ الشيءَ وغَبِنَ فِيهِ غَبْنًا وغَبَنًا: نَسِيَهُ وأَغفله وَجَهِلَهُ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

غَبِنْتُمْ تَتابُعَ آلائِنا، ***وحُسْنَ الجِوارِ، وقُرْبَ النَّسَب

والغَبْنُ: النِّسيان.

غَبِنْتُ كَذَا مِنْ حَقِّي عِنْدَ فُلَانٍ أَي نَسِيتُهُ وغَلِطْتُ فِيهِ.

وغَبَنَ الرجلَ يَغْبِنُه غَبْنًا: مَرَّ بِهِ وَهُوَ ماثلٌ فَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَفْطُنْ لَهُ.

والغَبْنُ: ضَعْفُ الرأْي، يُقَالُ فِي رأْيه غَبْنٌ.

وغَبِنَ رَأْيَه، بِالْكَسْرِ، إِذَا نُقِصَه، فَهُوَ غَبِين أَي ضَعِيفُ الرأْي، وَفِيهِ غَبانَة.

وغَبِنَ رأْيُه، بِالْكَسْرِ، غَبَنًا وغَبَانة: ضَعُف.

وَقَالُوا: غَبنَ رأْيَه، فَنَصَبُوهُ عَلَى مَعْنَى فَعَّلَ، وَإِنْ لَمْ يُلْفَظْ بِهِ، أَو عَلَى مَعْنَى غَبِنَ فِي رأْيه، أَو عَلَى التَّمْيِيزِ النَّادِرِ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَوْلُهُمْ سَفِهَ نَفْسَه وغَبِنَ رَأْيَه وبَطِرَ عَيْشَه وأَلِمَ "بَطْنَه ووَفِقَ أَمْرَه ورَشِدَ أَمْرَه كَانَ الأَصلُ سَفِهَتْ نَفسُ زَيْدٍ ورَشِدَ أَمْرُه، فَلَمَّا حُوِّلَ الْفِعْلُ إِلَى الرَّجُلِ انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، لأَنه صَارَ فِي مَعْنَى سَفَّهَ نَفْسَه، بِالتَّشْدِيدِ؛ هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَقْدِيمُ هَذَا الْمَنْصُوبِ كَمَا يَجُوزُ غلامَه ضَرَبَ زيدٌ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا حوَّل الْفِعْلُ مِنَ النَّفْسِ إِلَى صَاحِبِهَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرًا ليَدُلَّ عَلَى أَن السَّفَه فِيهِ، وَكَانَ حُكْمُهُ أَن يَكُونَ سَفِهَ زَيدٌ نَفْسًا لأَن المُفَسِّر لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً، وَلَكِنَّهُ تُرِكَ عَلَى إِضَافَتِهِ وَنُصِبَ كَنَصْبِ النَّكِرَةِ تَشْبِيهًا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَقْدِيمُهُ لأَن المُفَسِّرَ لَا يَتَقَدَّم؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا وطِبْتُ بِهِ نَفْسًا، وَالْمَعْنَى ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ وطابَتْ نَفْسِي بِهِ.

وَرَجُلٌ غَبِينٌ ومَغْبُونٌ فِي الرأْي وَالْعَقْلِ والدِّين.

والغَبْنُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: الوَكْسُ، غَبَنَه يَغْبِنُه غَبْنًا هَذَا الأَكثر أَي خدَعه، وَقَدْ غُبِنَ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَقَدْ حُكِيَ بِفَتْحِ الْبَاءِ.

وغَبِنْتُ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا إِذَا غَفَلْتَ عَنْهُ، بَيْعًا كَانَ أَو شِرَاء.

وغَبَيْتُ الرجلَ أغْباه أَشَدَّ الغِباء، وَهُوَ مِثْلُ الغَبْنِ.

ابْنُ بُزُرْج: غَبِنَ الرجلُ غَبَنانًا شَدِيدًا وغُبِنَ أَشدّ الغَبَنانِ، وَلَا يَقُولُونَ فِي الرِّبْح إِلَّا رَبِحَ أَشدّ الرِّبح والرَّباحة والرَّباح؛ وَقَوْلُهُ:

قَدْ كانَ، فِي أَكل الكَرِيصِ المَوْضُون، ***وأَكْلكِ التَّمْرَ بخُبْزٍ مَسْمُون،

لِحَضَنٍ فِي ذَاكَ عَيْشٌ مَغْبُون ".

قَوْلُهُ: مَغْبُونٌ أَي أَن غَيْرَهُمْ فِيهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ كأَنه يَقُولُ هُمْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنهم لَا يَعِيشونه، وَقِيلَ: غَبَنُوا الناسَ إِذا لَمْ يَنَلْه غيرُهم.

وحَضَنٌ هُنَا؛: حيٌّ.

والغَبِينَة مِنَ الغَبْنِ: كالشَّتِيمَة مِنَ الشَّتْم.

وَيُقَالُ: أَرَى هَذَا الأَمر عَلَيْكَ غَبْنًا؛ وأَنشد:

أجُولُ فِي الدارِ لَا أَراك، وفي الدّار ***أُناسٌ جِوارُهم غَبْنُ

والمَغْبِنُ: الإِبِطُ والرُّفْغُ وَمَا أَطاف بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « كَانَ إِذَا اطَّلى بدأَ بِمَغَابِنِهِ »؛ المَغابِنُ: الأَرْفاغُ، وَهِيَ بَواطِنُ الأَفْخاذ عِنْدَ الحَوالِب، جَمْعُ مَغْبِنٍ مِنْ غَبَنَ الثوبَ إِذَا ثَنَاهُ وَعَطَفَهُ، وَهِيَ مَعاطِفُ الْجِلْدِ أَيضًا.

وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: « مَنْ مَسَّ مَغابِنَه فلْيَتَوضأْ »؛ أَمره بِذَلِكَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، فإِن الْغَالِبَ عَلَى مَنْ يَلْمَسُ ذَلِكَ الموضعَ أَن تَقَعَ يَدُهُ عَلَى ذَكَرِهِ، وقيل: المغابِنُ الأَرْفاغُ وَالْآبَاطُ، وَاحِدُهَا مَغْبِنٌ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كلُّ مَا ثَنَيْتَ عَلَيْهِ فخذَك فَهُوَ مَغْبِن.

وغَبَنْتُ الشيءَ إِذَا خَبَأْته فِي المَغْبِنِ.

وغَبنْتُ الثوبَ والطعامَ: مِثْلُ خَبَنْتُ.

والغابِنُ: الفاتِرُ عَنِ الْعَمَلِ.

والتَّغَابُن: أَن يَغْبِنَ القومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

ويَوْمُ التَّغابُنِ: يَوْمُ الْبَعْثِ، مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَن أَهل الْجَنَّةِ يَغْبِنُ فِيهِ أَهلَ النَّارِ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَهل الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ ويَلْقَى فِيهِ أَهلُ النَّارِ من العذاب الْجَحِيمِ، ويَغْبِنُ مَنِ ارْتَفَعَتْ منزلتُه فِي الْجَنَّةِ مَنْ كَانَ دُونَ مَنْزِلَتِهِ، وَضَرَبَ اللَّهُ ذَلِكَ مَثَلًا لِلشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ كَمَا قَالَ تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ}؛ فَقَالَ: غَبَنَ أَهلُ الْجَنَّةِ أَهلَ النَّارِ" أَي اسْتَنْقَصُوا عقولَهم بِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمان.

ونَظَر الحَسَنُ إِلَى رَجُلٍ غَبَنَ آخَرَ فِي بَيْعٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَغْبِنُ عقلَك أَي يَنْقُصه.

وغَبَنَ الثوبَ "يَغْبِنُه غَبْنًا: كَفَّهُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: طالَ فَثَناه، وَكَذَلِكَ كَبَنه، وَمَا قُطِعَ مِنْ أَطرافِ الثَّوْبِ فأُسقِطَ غَبَنٌ؛ وَقَالَ الأَعشى: " يُساقِطُها كسِقاطِ الغَبَنْ.

والغَبْنُ: ثَنْيُ الشَّيْءِ مِنْ دَلْو أَو ثَوْبٍ ليَنْقُصَ مِنْ طُولِهِ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ هَذِهِ النَّاقَةُ مَا شِئْتَ مِنْ ناقةٍ ظَهْرًا وكَرَمًا غَيْرَ أَنها مَغْبُونة لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَقَدْ غَبَنُوا خَبَرها وغَبِنُوها أَي لَمْ يَعْلَمُوا عِلْمَها.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


49-لسان العرب (رهره)

رهره: الرَّهْرَهَةُ: حُسْنُ بَصيص لَوْنِ البَشَرة وأَشْباه ذَلِكَ.

وتَرَهْرَه جِسْمُه وَهُوَ رَهْراهٌ ورُهْرُوهٌ: ابْيَضَّ مِنَ النَّعْمَةِ.

وَمَاءٌ رَهْراهٌ ورُهْرُوهٌ: صافٍ.

وطَسٌّ رَهْرَهَةٌ: صَافِيَةٌ بَرَّاقَةٌ.

وَفِي حَدِيثِ المَبْعَثِ: « فشُقَّ عَنْ قَلْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجِيءَ بطَسْتٍ رَهْرَهةٍ: »قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: سأَلت أَبا حَاتِمٍ والأَصمعي عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، قَالَ: وأَظنه بطَسْتٍ رَحْرَحَةٍ، بِالْحَاءِ، وَهِيَ الْوَاسِعَةُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِنَاءٌ رَحْرَحٌ ورَحْراحٌ، فأَبدلوا الْهَاءَ مِنَ الْحَاءِ كَمَا قَالُوا مَدَهْتُ فِي مَدَحْتُ، وَمَا شَاكَلَهُ فِي حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ؛ قَالَ أَبو بَكْرِ بْنُ الأَنباري: هَذَا بعيدٌ جِدًّا لأَن الْهَاءَ لَا تُبْدَلُ مِنَ الْحَاءِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ فِيهَا ذَلِكَ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا لأَن الَّذِي يُجِيزُ الْقِيَاسَ عَلَيْهَا يُلْزَمُ أَن تُبْدَلَ الْحَاءُ هَاءً فِي قَوْلِهِمْ رَحَلَ الرَّحْلَ، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ}؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَرَهْرَهة فأَخطأَ الرَّاوِي فأَسقط الدَّالَ.

يُقَالُ للكَوْكَبة الوَقَّادَة تَطْلُع مِنَ الأُفُقِ دارِئَةً بِنُورِهَا: دَرَهْرَهة، كأَنه أَراد طَسًّا بَرَّاقةً مُضيئة.

وَفِي التَّهْذِيبِ: طَسْتٌ رَحْرَحٌ ورَهْرَةٌ ورَحْراحٌ ورَهْراهٌ إِذَا كَانَ وَاسِعًا قَرِيبَ الْقَعْرِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ جِسْمٌ رَهْرَهةٌ أَي أَبيض مِنَ النَّعْمة، يُرِيدُ طَسْتًا بَيْضَاءَ مُتَلأْلِئَةً، وَيُرْوَى بَرَهْرَهة، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

ورَهْرَهَ مائدَتَه إِذَا وَسّعها سَخَاءً وَكَرَمًا.

الأَزهري: الرَّهَّةُ الطَّسْتُ الْكَبِيرَةُ.

وَالسَّرَابُ يَتَرَهْرَهُ ويَتَرَيَّهُ إِذَا تَتَابَعَ لَمَعانُه.

ورَهْرَهَ بالضأْن: مقلوبٌ مِنْ هَرْهَرَ؛ حَكَاهُ يعقوب.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


50-لسان العرب (دري)

دري: دَرَى الشيءَ دَرْيًا ودِرْيًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، ودِرْيَةً ودِرْيَانًا ودِرَايَةً: عَلِمَهُ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: الدَّرْيَةُ كالدِّرْيَةِ لَا يُذْهَبُ بِهِ إِلَى المَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الْحَالِ.

وَيُقَالُ: أَتى هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيْرِ دِرْيَة [دَرْيَة] أَي مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ.

وَيُقَالُ: دَرَيْت الشيءَ أَدْرِيهِ عَرَفْته، وأَدْرَيْتُه غَيْرِي إِذَا أَعْلَمْته.

الْجَوْهَرِيُّ: دَرَيْته ودَرَيْت بِهِ دَرْيًا ودَرْية ودِرْيةً ودِرَايَة أَي عَلِمْتُ به؛ وأَنشد:

لاهُمَّ لَا أَدْرِي، وأَنْت الدَّارِي، ***كُلُّ امْرِئٍ مِنْك عَلَى مِقْدارِ

وأَدْرَاه بِهِ: أَعْلَمه.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلا أَدْراكُمْ بِهِ}، فأَما مَنْ قرأَ: أَدْرَأَكُم بِهِ، مَهْمُوزٌ، فلَحْنٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقُرِئَ وَلَا أَدْرَأَكُم بِهِ "؛ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِيهِ تَرْك الْهَمْزُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُرِيدُ أَنَّ أَدْرَيْته وأَدْرَاهُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، هُوَ الصَّحِيحُ؛ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ مُدَاراة النَّاسِ، يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ.

ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ سِيبَوَيْهِ وَقَالُوا لَا أَدْر، فَحَذَفُوا الياءَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ كَقَوْلِهِمْ لَم أُبَلْ ولَم يكُ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: أَقْبَلَ يَضْرِبُه لَا يَأْلُ، مضمومَ اللامِ بِلَا وَاوٍ؛ قَالَ الأَزهري: وَالْعَرَبُ رُبَّمَا حَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا أَدْرِ فِي مَوْضِعِ لَا أَدْرِي، يكتَفُون بِالْكَسْرَةِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ}؛ والأَصل يَسْري؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالُوا لَا أَدْرِ بِحَذْفِ الْيَاءِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالُوا لَمْ أُبَلْ وَلَمْ يَكُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ}؛ تأْويله أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَك مَا الحُطَمة.

قَالَ: وَقَوْلُهُمْ يُصيبُ وَمَا يَدْرِي ويُخْطِئُ وَمَا يدرِي أَي إصابَتَه أَي هُوَ جاهلٌ، إِنْ أَخطأَ لَمْ يَعْرِفْ وَإِنْ أَصاب لَمْ يَعْرِفْ أَي مَا اخْتل، مِنْ قَوْلِكَ دَرَيْت الظِّبَاءَ إِذَا خَتَلْتَها.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: مَا تَدْرِي مَا دِرْيَتُها أَي مَا تَعْلَمُ مَا علْمُها.

ودَرَى الصيدَ دَرْيًا وادَّرَاه وتَدَرَّاه: خَتَلَه؛ قَالَ:

فَإِنْ كنتُ لَا أَدْرِي الظِّباءَ، فإنَّني ***أَدُسُّ لَهَا، تحتَ التُّرابِ، الدَّواهِيا

وَقَالَ:

كيفَ تَرانِي أَذَّرِي وأَدَّرِي ***غِرَّاتِ جُمْلٍ، وتَدرَّى غِرَرِي؟

فالأَول إِنَّمَا هُوَ بِالذَّالِ معجمة، وهو أَفْتَعِل من ذَرَيْت تُرَابَ الْمَعْدِنِ، وَالثَّانِي بِدَالٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ أَفْتَعِل مِنِ ادَّراه أَي خَتَلَه، وَالثَّالِثُ تَتَفَعَّل مِنْ تَدَرَّاه أَي خَتَلَه فأَسقط إِحْدَى التَّاءَيْنِ، يَقُولُ: كَيْفَ تَرَانِي أَذَّرِي التُّرَابَ وأَخْتِل مَعَ ذَلِكَ هَذِهِ المرأَة بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا إِذَا اغتَرَّت أَي غَفَلَت.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَقُولُ أَذَّرِي التُّرَابَ وأَنا قَاعِدٌ أَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ لِئَلَّا تَرْتَابَ بِي، وأَنا فِي ذَلِكَ أَنظر إِلَيْهَا وأَخْتِلُها، وَهِيَ أَيضًا تَفْعَلُ كَمَا أَفعل أَي أَغْتَرُّها بِالنَّظَرِ إِذَا غَفَلَت فَتَرَانِي وتَغْتَرُّني إِذَا غَفَلْت فتَخْتِلُني وأَخْتِلُها.

ابْنُ السِّكِّيتِ: دَرَيْت فُلَانًا أَدْرِيه دَرْيًا إِذَا خَتَلْتَه؛ وأَنشد للأَخطل:

فَإِنْ كُنت قَدْ أَقْصَدْتني، إِذْ رَمَيْتني ***بسَهْمِك، فالرَّامي يَصِيدُ وَلَا يَدْرِي

أَي وَلَا يَخْتِلُ وَلَا يَسْتَتِرُ.

وَقَدْ دارَيْته إِذَا خاتَلْته.

والدَّرِيَّة: النَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ الصَّيْدِ فيختِلُ، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: هِيَ مَهْمُوزَةٌ لأَنها تُدْرأُ لِلصَّيْدِ أَي "تُدْفَعُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَقَدِ ادَّرَيْت دَرِيَّة وتَدَرَّيت.

والدَّرِيّة: الْوَحْشُ مِنَ الصَّيْدِ خَاصَّةً.

التَّهْذِيبُ: الأَصمعي الدَّرِيّة، غَيْرُ مَهْمُوزٍ، دابَّة يَسْتَتِرُ بِهَا الصَّائِدُ الَّذِي يَرْمِي الصَّيْدَ لِيَصِيدَهُ، فَإِذَا أَمكنَه رَمَى، قَالَ: وَيُقَالُ مِنَ الدَّرِيّة ادَّرَيْت ودَرَيْت.

ابْنُ السِّكِّيتِ: انْدَرَأْتُ عَلَيْهِ انْدِراءً، قَالَ: وَالْعَامَّةُ تَقُولُ انْدَرَيْت.

الْجَوْهَرِيُّ: وتَدَرَّاه وادَّراه بِمَعْنَى خَتَله، تَفَعَّل وافْتَعَل بِمَعْنَى؛ قَالَ سُحَيم:

وَمَاذَا يَدَّرِي الشُّعَراءُ مِنِّي، ***وقَدْ جاوَزْتُ رَأْسَ الأَرْبَعِينِ؟

قَالَ يَعْقُوبُ: كَسَرَ نُونَ الْجَمْعِ لأَن الْقَوَافِيَ مَخْفُوضَةً، أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

أَخو خَمْسِين مُجْتَمعٌ أَشُدِّي، ***ونَجَّذَني مُداوَرَةُ الشُّؤُونِ

وادَّرَوْا مَكَانًا: اعْتَمَدوه بِالْغَارَةِ والغَزْو.

التَّهْذِيبُ: بَنُو فُلَانٍ ادَّرَوْا فُلَانًا كأَنَّهم اعْتَمَدوه بِالْغَارَةِ وَالْغَزْوِ؛ وَقَالَ سُحَيم بْنُ وَثيل الرِّيَاحِيُّ:

أَتَتْنا عامِرٌ مِنْ أَرْضِ رامٍ، ***مُعَلِّقَةَ الكَنائِنِ تَدَّرِينا

والمُدَارَاةُ فِي حُسْن الخُلُق والمُعاشَرةِ مَعَ النَّاسِ يكونُ مَهْمُوزًا وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ، فَمَنْ هَمَزَهُ كَانَ مَعْنَاهُ الاتِّقاءَ لشَرِّه، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ جَعَلَهُ مِنْ دَرَيْت الظَّبْيَ أَي احْتَلْت لَهُ وخَتَلْته حَتَّى أَصِيدَه.

ودَارَيْته مِنْ دَرَيْت أَي خَتَلْت.

الْجَوْهَرِيُّ: ومُدَارَاة النَّاسِ المُداجاة والمُلايَنَة؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « رأْس العَقْلِ بعدَ الإِيمانِ بِاللَّهِ مُدَارَاةُ الناسِ »أَي مُلايَنَتُهُم وحُسنُ صُحْبَتِهِم واحْتِمالُهُم لئَلَّا يَنْفِروا عَنْكَ.

ودَارَيت الرجلَ: لايَنْته ورَفَقْت بِهِ، وأَصله مِنْ دَرَيْت الظَّبْي أَي احْتَلْت لَهُ وخَتَلْته حَتَّى أَصيدَه.

ودَارَيْتُه ودَارأْته: أَبْقَيْته، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْهَمْزِ أَيضًا.

ودارأْت الرجلَ إِذَا دَافَعْتَه، بِالْهَمْزِ، والأَصل فِي التَّدَارِي التَّدارُؤُ، فَتُرِكَ الهَمْز ونُقِلَ الْحَرْفُ إِلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّقَاضِي وَالتَّدَاعِي.

والدَّرْوانُ: ولَدُ الضِّبْعانِ مِنَ الذِّئْبة؛ عَنْ كُرَاعٍ.

والمِدْرَى والمِدْراة والمَدْرِيَةُ: القَرْنُ، وَالْجَمْعُ مَدارٍ ومَدارَى، الأَلف بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ.

ودَرَى رَأْسَه بالمِدْرى: مَشَطَه.

ابْنُ الأَثير: المِدْرَى والمِدْرَاةُ شَيْءٌ يُعْمَل مِنْ حَدِيدٍ أَو خَشَبٍ عَلَى شَكْلِ سِنٍّ مِنْ أَسْنان المُشْطِ وأَطْولُ مِنْهُ، يُسَرَّحُ بِهِ الشَّعَر المُتَلَبِّدُ ويَستَعمله مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُشْط؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" أُبيّ: أَن جَارِيَةً لَهُ كانَت تَدَّري رأْسَهُ بِمِدْراها "أَي تُسَرِّحُه.

يُقَالُ: ادَّرَت المرأَة تَدَّرِي ادِّراءً إِذَا سَرَّحَتْ شَعَرَهَا بِهِ، وأَصلها تَدْتَري، تَفْتَعِل مِنِ اسْتِعْمَالِ المِدْرى، فأُدغمت التَّاءُ فِي الدَّالِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: المِدْرَاةُ حَدِيدَةٌ يُحَكُّ بِهَا الرأْس يُقَالُ لَهَا سَرْخارَهْ، وَيُقَالُ مِدْرىً، بِغَيْرِ هَاءٍ، ويُشَبَّه قَرْنُ الثَّوْرِ بِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:

شَكَّ الفَرِيصَةَ بالمِدْرَى فأَنْفَذَها، ***شَكَّ المُبَيْطِرِ إذْ يَشْفِيِ مِنَ العَضَدِ

وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَنه كَانَ فِي يَدِهِ مِدْرىً يَحُكُّ بِهَا رأْسَه فَنَظَر إلَيْه رَجلٌ مِنْ شَقِّ بابهِ قَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّك تَنْظُر لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ».

فَقَالَ: وَرُبَّمَا قَالُوا للمِدْراةِ مَدْرِيَة، وَهِيَ الَّتِي حدِّدَت حَتَّى صَارَتْ مِدْرَاةً؛ وَحَدَّثَ الْمُنْذِرِيُّ أَن الْحَرْبِيَّ أَنشده:

وَلَا صُوار مُدَرَّاةٍ مَناسِجُها، ***مثلُ الفريدِ الَّذِي يَجْري مِنَ النَّظْمِ

قَالَ: وَقَوْلُهُ مُدَرَّاة كأَنها هُيِّئَت بالمِدْرى مِنْ طُولِ شَعْرِهَا، قَالَ: والفَرِيدُ جَمْعُ الْفَرِيدَةُ، وَهِيَ شَذْرة مِنْ فِضَّةٍ كَاللُّؤْلُؤِ، شَبَّه بياض أَجسادها بها كأَنها الْفِضَّةُ.

الْجَوْهَرِيُّ فِي المِدْراةِ قَالَ: وَرُبَّمَا تُصْلِحُ بِهَا الْمَاشِطَةُ قُرُونَ النِّساء، وَهِيَ شَيْءٌ كالمِسَلَّة يَكُونُ مَعَها؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَهْلِكُ المِدْراةُ فِي أَكْنافِه، ***وإِذا مَا أَرْسَلَتْهُ يَعْتَفِرْ

وَيُقَالُ: تَدَرَّت المرأَة أَي سَرَّحت شعَرها.

وَقَوْلُهُمْ جَأْبُ المِدْرى أَي غَلِيظ القَرْنِ، يُدَلّ بِذَلِكَ عَلَى صِغَر سِنِّ الْغَزَالِ لأَن قَرْنَه فِي أَول مَا يَطْلُعُ يَغْلُظُ ثُمَّ يَدِقُّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وقول الهذلي:

وبالترك قد دمها ***وذات المُدارأَة الغائط

الْمَدْمُومَةُ: الْمَطْلِيَّةُ كأَنها طُلِيَتْ بِشَحْمٍ.

وَذَاتُ المدارأَة: هِيَ الشديدة النفس فهي تُدْرأُ؛ قَالَ وَيُرْوَى: " وَذَاتُ المُدَارَاة وَالْغَائِطُ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن الْهَمْزَ فِيهِ وترك الهمز جائز.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


51-لسان العرب (روي)

روي: قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي مُعْتَلِّ الأَلف: رُواوةُ مَوْضِعٌ مِنْ قِبَل بِلَادِ بَنِي مُزَيْنةَ؛ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

وغَيَّرَ آياتٍ، بِبُرْقِ رُواوةٍ، ***تَنائِي اللَّيالي، والمَدَى المُتَطاوِلُ

وَقَالَ فِي مُعْتَلِّ الْيَاءِ: رَوِيَ مِنَ الْمَاءِ، بِالْكَسْرِ، وَمِنَ اللَّبَن يَرْوَى رَيًّا ورِوىً أَيضًا مِثْلُ رِضًا وتَرَوَّى وارْتَوَى كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَالِاسْمُ الرِّيُّ أَيضًا، وَقَدْ أَرْواني.

وَيُقَالُ لِلنَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ: هِيَ تُرْوِي الصَّبِيَّ لأَنه يَنام أَول الليلِ، فأَراد أَنّ دِرَّتها تَعْجَلُ قبلَ نَوْمِه.

والرَّيَّانُ: ضِدُّ العَطْشان، وَرَجُلٌ رَيّانُ وامرأَة رَيَّا مِن قَوْمٍ رِواءٍ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَمّا رَيَّا الَّتِي يُظنّ بِهَا أَنها مِنْ أَسماء النِّسَاءِ فإِنه صِفَةٌ، عَلَى نَحْوِ الحَرث والعَباسِ، وإِن لَمْ يَكُنْ فِيهَا اللَّامُ، اتَّخَذُوا صِحَّةَ الْيَاءِ بَدَلًا مِنَ اللَّامِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى نَحْوِ زَيْدٍ مِنَ الْعَلَمِيَّةِ لَكَانَتْ رَوَّى مِنْ رَوِيت، وَكَانَ أَصلها رَوْيا فَقُلِبَتِ الْيَاءُ وَاوًا لأَن فَعْلى إِذا كَانَتِ اسْمًا وأَلفها يَاءً قُلِبَتْ إِلى الْوَاوِ كتَقْوَى وشرْوَى، وإِن كَانَتْ صِفَةً صَحَّتِ الْيَاءُ فِيهَا كصَدْيا وخَزْيا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذَا كَلَامُ سِيبَوَيْهِ وَزِدْتُهُ بَيَانًا.

الْجَوْهَرِيُّ: المرأَة رَيَّا وَلَمْ تُبدل مِنَ الْيَاءِ وَاوٌ لأَنها صِفَةٌ، وإِنما يُبدلون الْيَاءَ فِي فَعْلَى إِذا كَانَتِ اسْمًا وَالْيَاءُ مَوْضِعُ اللَّامِ، كَقَوْلِكَ شَرْوَى هَذَا الثوبِ وإِنما هُوَ مِنْ شَرَيْت، وتَقْوَى وإِنما هُوَ مِنَ التَّقِيَّة، وإِن كَانَتْ صِفَةً تَرَكُوهَا عَلَى أَصلها قَالُوا امرأَة خَزْيا ورَيَّا، وَلَوْ كَانَتِ اسْمًا لَكَانَتْ رَوَّى لأَنك كُنْتَ تُبْدِلُ الأَلف وَاوًا مَوْضِعَ اللَّامِ وَتَتْرُكُ الْوَاوَ الَّتِي هِيَ عَيْنُ فَعْلَى عَلَى الأَصل؛ وَقَوْلُ أَبي النَّجْمِ: " وَاهًا لِرَيَّا ثُمَّ وَاهًا وَاهَا "إِنما أَخرجه عَلَى الصِّفَةِ.

وَيُقَالُ: شَرِبْت شُرْبًا رَوِيًّا.

ابْنُ سِيدَهْ: ورَوِيَ النَّبْتُ وتَرَوَّى تَنَعَّم.

ونَبْتٌ رَيّانُ وشَجر رِواءٌ؛ قَالَ الأَعشى:

طَرِيقٌ وجَبّارٌ رِواءٌ أُصولُه، ***عَلَيْهِ أَبابِيلٌ مِنَ الطَّيْرِ تَنْعَبُ

وَمَاءٌ رَوِيٌّ ورِوىً ورَواءٌ: كَثِيرٌ مُرْوٍ؛ قَالَ:

تَبَشّرِي بالرِّفْهِ والماءِ الرِّوَى، ***وفَرَجٍ مِنْكِ قَرِيب قَدْ أَتَى

وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:

أَرَى إِبِلِي بِجَوْفِ الماءِ حَنَّتْ، ***وأَعْوَزَها بِه الماءُ الرَّوَاءُ

وماءٌ رَوَاء، مَمْدُودٌ مَفْتُوحُ الرَّاءِ، أَي عَذْبٌ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِشَاعِرٍ:

مَنْ يَكُ ذَا شَكّ، فَهَذَا فَلْجُ ***ماءٌ رَواءٌ وطَرِيقٌ نَهْجُ

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَصِفُ أَباها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: « واجْتَهَرَ دُفُنَ الرَّواء »، وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَقِيلَ: العَذْب الَّذِي فِيهِ للوارِدين رِيٌّ.

وَمَاءٌ رِوىً، مَقْصُورٌ بِالْكَسْرِ، إِذا كَانَ يَصْدُر.

مَنْ يَرِدُه عَنْ غَيْرِ رِيٍّ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلا صِفَةً لأَعْداد الْمِيَاهِ التي لا تَنْزَحُ وَلَا يَنقطع مَاؤُهَا؛ وَقَالَ الزَّفيان السَّعْدِيُّ:

يَا إِبِلِي مَا ذامُه فَتَأْبَيْهْ ***.

ماءٌ رَواءٌ ونَصِيٌّ حَوْلَيْهْ

هَذَا مَقامٌ لَكِ حَتَّى تِيبَيْهْ "إِذا كَسَرَتَ الرَّاءَ قَصَرْتَهُ وَكَتَبْتَهُ بِالْيَاءِ فَقُلْتَ مَاءٌ رِوىً، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي فِيهِ للوارِدةِ رِيٌّ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شَاهِدُهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: " فصَبِّحا عَيْنًا رِوىً وفَلْجا وَقَالَ الجُمَيْحُ بْنُ سُدَيْدٍ التَّغْلِبِيُّ:

مُسْحَنْفِرٌ يَهْدِي إِلى مَاءٍ رِوَى، ***طامِي الجِمام لَمْ تَمَخَّجْه الدِّلا

المُسْحَنْفِرُ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَالْمَاءُ الرِّوَى: الْكَثِيرُ، والجِمامُ: جَمْعُ جَمَّة أَي هَذَا الطَّرِيقُ يَهْدِي إِلى مَاءٍ كَثِيرٍ.

ورَوَّيْتُ رأْسِي بالدُّهْن ورَوَّيْت الثَّرِيدَ بالدَّسم.

ابْنُ سِيدَهْ: والرَّاوِيَةُ المَزادة فِيهَا الْمَاءُ، وَيُسَمَّى الْبَعِيرُ رَاوِيَة عَلَى تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

فتَوَلَّوْا فاتِرًا مَشْيُهُمُ، ***كَرَوَايا الطِّبْعِ هَمَّتْ بالوَحَلْ

وَيُقَالُ للضَّعيف الوادِع: مَا يَرُدُّ الرَّاوِيَة أَي أَنه يَضْعُف عَنْ ردِّها عَلَى ثِقَلها لِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ.

والرَّاوِيَة: هُوَ الْبَعِيرُ أَو الْبَغْلُ أَو الْحِمَارُ الَّذِي يُستقى عَلَيْهِ الْمَاءُ والرَّجل الْمُسْتَقِي أَيضًا رَاوِيَة.

قَالَ: وَالْعَامَّةُ تُسَمِّي المَزادة رَاوِيَة، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، والأَصل الأَول؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ:

تَمْشِي مِنَ الرِّدَّةِ مَشْيَ الحُفَّلِ، ***مَشْيَ الرَّوَايَا بالمَزادِ الأَثْقَلِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شَاهِدُ الرَّاوِيَة الْبَعِيرُ قَوْلُ أَبي طَالِبٍ:

ويَنْهَضُ قَوْمٌ، فِي الحَدِيد، إِلَيْكُمُ ***نُهُوضَ الرَّوايا تحتَ ذاتِ الصَّلاصِلِ

ف الرَّوَايا: جَمْعُ رَاوِيَة لِلْبَعِيرِ: وَشَاهِدُ الرَّاوِيَة للمَزادة قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مِلْقَط:

ذاكَ سِنانٌ مُحْلِبٌ نَصْرُه، ***كالجَمَلِ الأَوْطَفِ بالرَّاوِيَةْ

وَيُقَالُ: رَوَيْتُ عَلَى أَهلي أَرْوِي رَيَّةً.

قَالَ: وَالْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ إِنما هِيَ المَزادة، سُمِّيَتْ رَاوِيَةً لِمَكَانِ الْبَعِيرِ الَّذِي يَحْمِلُهَا وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ رَوَيْتُ القومَ أَرْوِيهم إِذا استَقَيْت لهم.

وَيُقَالُ: مِنْ أَيْنَ رَيَّتُكم أَي مِنْ أَين تَرْتَوُون الْمَاءَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الرِّوَاء الحَبْل الَّذِي يُرْوَى بِهِ عَلَى الرَّاوِيَةِ إِذا عُكِمَتِ المزادتانِ.

يُقَالُ: رَوَيْت عَلَى الراَّوية أَرْوِي رَيًّا فأَنا راوٍ إِذا شدَدْتَ عَلَيْهِمَا الرِّواء؛ قَالَ: وأَنشدني أَعرابي وَهُوَ يُعاكِمُني: " رَيًَّا تَمِيميًّا عَلَى المزايدِ وَيُجْمَعُ الرِّواءُ أَرْوِيَةً، وَيُقَالُ لَهُ المِرْوَى، وَجَمْعُهُ مَراوٍ ومَراوَى.

وَرَجُلٌ رَوَّاء إِذا كَانَ الاستقاءُ بِالرَّاوِيَةِ لَهُ صِناعةً، يُقَالُ: جَاءَ رَوّاءُ الْقَوْمِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمَّى السَّحابَ رَوَايا البِلادِ »؛ الرَّوَايا مِنَ الإِبلِ: الحَوامِلُ للماء، " وَاحِدَتُهَا رَاوِيةٌ فشبَّهها بِهَا، وَبِهِ سُمِّيَتِ المزادةُ رَاوِيَةً، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.

وَفِي حَدِيثِ بَدْرٍ: « فإِذا هُوَ برَوَايا قُرَيْشٍ»؛ أي إِبِلِهِم الَّتِي كَانُوا يَسْتَقُونَ عَلَيْهَا.

وتَرَوَّى القومُ ورَوَّوْا: تَزَوَّدُوا بِالْمَاءِ.

ويَوْم التّرْوِية: يوْمٌ قَبْلَ يومِ عَرَفَةَ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الحِجّة، سُمِّيَ بِهِ لأَن الحُجّاج يتَرَوَّوْنَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وينهَضُون إِلى مِنىً وَلَا مَاءَ بِهَا فيتزوَّدون رِيَّهم مِنَ الْمَاءِ أَي يَسْقُون ويَسْتَقُون.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: « كَانَ يُلبِّي بالحَجِّ يومَ التَّرْوِيَةِ».

ورَوَيْت عَلَى أَهلي ولأَهلي رَيًّا: أَتيتُهم بِالْمَاءِ، يُقَالُ: مِنْ أَيْن رَيَّتُكم أَي مِنْ أَين تَرْتَوُون الْمَاءَ.

ورَوَيْتُ عَلَى البَعير رَيًّا: اسْتَقَيْتُ عَلَيْهِ؛ وَقَوْلُهُ:

وَلَنَا رَوايا يَحْمِلون لَنَا ***أَثْقالَنا، إِذ يُكْرَهُ الحَمْلُ

إِنما يَعْنِي بِهِ الرِّجَالَ الَّذِينَ يحْمِلون لَهُمُ الدِّياتِ، فَجَعَلَهُمْ كَرَوَايَا الْمَاءَ.

التَّهْذِيبُ: ابْنُ الأَعرابي يُقَالُ لسادةِ الْقَوْمِ الرَّوايا؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهِيَ جَمْعُ راوِيةٍ، شَبّه السيِّد الَّذِي تحَمَّل الدِّيات عَنِ الْحَيِّ بالبَعير الرَّاوِيَة؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعي:

إِذا نُدِيَتْ رَوَايَا الثِّقْلِ يَوْمًا، ***كَفَيْنا المُضْلِعاتِ لِمَنْ يَلِينا

أَراد بِرَوَايَا الثِّقْل حَوامِل ثِقْل الدِّيات، والمُضْلِعات: الَّتِي تُثْقِلُ مَنْ حَمَلَها، يَقُولُ: إِذا نُدِبَ للدِّيات المُضْلِعةِ حَمَّالوها كُنَّا نَحْنُ المُجِيبين لحمْلِها عمَّن يَلِينا مِنْ دُونِنَا.

غَيْرُهُ: الرَّوَايا الَّذِينَ يحْمِلون الْحَمَالَاتِ؛ وأَنشدني ابْنُ بَرِّيٍّ لِحَاتِمٍ:

اغْزُوا بَنِي ثُعَل، والغَزْوُ جَدُّكُم ***جَدُّ الرَّوايا، وَلَا تَبْكُوا الَّذِي قُتِلا

وَقَالَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَذَكَرَ قَوْمًا أَغاروا عَلَيْهِمْ: لَقِينَاهُمْ فقَتَلْنا الرَّوَايَا وأَبَحْنا الزَّوايا أَي قَتَلْنا السادةَ وأَبَحْنا البُيوت وَهِيَ الزَّوايا.

الْجَوْهَرِيُّ: وَقَالَ يَعْقُوبُ ورَوَيْتُ القومَ أَرْويهم إِذا اسْتَقَيْتُ لَهُمُ الْمَاءَ.

وَقَوْمٌ رِوَاء مِنَ الْمَاءِ، بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ؛ قَالَ عُمر بْنُ لجَإٍ:

تَمْشي إِلى رِواءِ عاطِناتِها، ***تحَبُّسَ العانِسِ فِي رَيْطاتِها

وتَرَوَّت مفاصِلُه: اعْتَدَلَتْ وغَلُظَتْ، وارْتَوَت مَفَاصِلُ الرَّجُلِ كَذَلِكَ.

اللَّيْثُ: ارْتَوَتْ مَفَاصِلُ الدَّابَّةِ إِذا اعْتَدَلت وغَلُظت، وارْتَوَت النَّخْلَةُ إِذا غُرست فِي قَفْر ثُمَّ سُقِيَت فِي أَصلها، وارْتَوَى الحَبْلُ إِذا كَثُرَ قُواه وغَلُظ فِي شِدَّة فَتْلٍ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر يَذْكُرُ قَطَاةً وفَرْخَها:

تَرْوي لَقىً أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ، ***تَصْهَرُه الشَّمس فَمَا يَنْصَهِرْ

تَرْوِي: مَعْنَاهُ تَسْتقي يُقَالُ: قَدْ رَوَى مَعْنَاهُ اسْتَقى عَلَى الرَّاوِيَة.

وَفَرَسٌ رَيَّانُ الظَّهْرِ إِذا سمِنَ مَتْناهُ.

وَفَرَسٌ ظَمْآنُ الشَّوى إِذا كَانَ مُعَرَّق الْقَوَائِمِ، وإِنَّ مفاصِله لظِماء إِذا كَانَ كَذَلِكَ؛ وأَنشد: " رِواء أَعالِيهِ ظِماء مفاصِلُهْ "والرِّيُّ: المَنْظرُ الحسَنُ فِيمَنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْهَمْزَ.

قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ لِمَكَانِ النَّعْمة وأَنه خِلَافُ أَثَرِ الجَهْد والعَطش والذُّبول.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَحسَنُ أَثاثًا ورِيًّا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهل المدينة يقرؤونها رِيًّا، بِغَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ مِنْ رأَيت لأَنه مع آيات لسْنَ مَهْمُوزَاتِ الأَواخر، وَذَكَرَ بعضهم أَنه ذهب بالرِّيّ إِلى رَوَيْت إِذا لم يُهْمَزْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قرأَ رِيًّا بِغَيْرِ هَمْزٍ فَلَهُ تَفْسِيرَانِ، أَحدهما أَنّ مَنْظَرَهم مُرْتَوٍ مِنَ النَّعْمة كأَن النَّعِيمَ بيِّنٌ فِيهِمْ، وَيَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْهَمْزِ مِنْ رأَيت.

ورَوى الحَبْلَ رَيًّا فارْتَوى: فتَلَه، وَقِيلَ: أَنْعم فَتْله.

والرِّوَاء، بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ: حَبْلٌ مِنْ حِبال الخِباء، وَقَدْ يُشدُّ بِهِ الحِمْل والمَتاع عَلَى الْبَعِيرِ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الرِّوَاءُ أَغْلَظُ الأَرْشيةِ، وَالْجَمْعُ الأَرْوِية؛ وَأَنْشَدَ ابْنُ بَرِّيٍّ لِشَاعِرٍ:

إِنِّي إِذا مَا القَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ، ***وشُدَّ فوْقَ بَعْضِهِمْ بالأَرْويَهْ،

هُناك أَوْصيني وَلَا تُوصِي بِيَهْ وَفِي الْحَدِيثِ: « ومَعِي إِداوةٌ عَلَيْهَا خِرْقةٌ قَدْ روَّأْتها».

قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِالْهَمْزِ، وَالصَّوَابُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، أَي شَدَدتها بِهَا وَرَبَطْتها عَلَيْهَا.

يقال: رَوَيْت الْبَعِيرَ، مُخَفَّفُ الْوَاوِ، إِذا شَدَدْت عَلَيْهِ بالرِّواء.

وارْتَوَى الحبْلُ: غلُظَت قُوَاهُ، وَقَدْ رَوَى عَلَيْهِ رَيًّا وأَرْوَى.

ورَوَى عَلَى الرَّجل: شدَّه بالرِّواءِ لِئَلَّا يسقُط عَنِ الْبَعِيرِ مِنَ النَّوْمِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

إِنِّي عَلَى مَا كانَ مِنْ تَخَدُّدي، ***ودِقَّةٍ فِي عَظْمِ سَاقِي ويَدِي،

أَرْوي عَلَى ذِي العُكَنِ الضَّفَنْدَدِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه كَانَ يأْخذ مَعَ كُلِّ فريضةٍ عِقالًا ورِواءً "؛ الرِّوَاء، مَمْدُودٌ، وَهُوَ حَبْلٌ؛ فإِذا جَاءَتْ إِلى الْمَدِينَةِ باعَها ثُمَّ تَصدَّق بِتِلْكَ العُقُل والأَرْوِيِة.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الرِّواء الحَبْلُ الَّذِي يُقْرَن بِهِ البعيرانِ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: الرِّوَاء الحَبْل الَّذِي يُرْوى بِهِ عَلَى الْبَعِيرِ أَي يُشدّ بِهِ الْمَتَاعُ عَلَيْهِ، وأَما الحَبْلُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ البعِيرانِ فَهُوَ القَرَنُ والقِرانُ.

ابْنُ الأَعرابي: الرَّوِيُّ السَّاقِي، والرَّوِيُّ الضَّعيفُ، والسَّوِيُّ الصَّحِيحُ البَدَنِ والعقلِ.

وَرَوَى الحديثَ والشِّعْرَ يَرْوِيه رِوَاية وتَرَوَّاه، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنها قَالَتْ: « تَرَوَّوْا شِعْر حُجَيَّة بْنِ المُضَرِّبِ فإِنه يُعِينُ عَلَى البِرِّ »، وَقَدْ رَوَّاني إِياه، وَرَجُلٌ راوٍ؛ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

أَما كَانَ، فِي مَعْدانَ والفيلِ، شاغِلٌ ***لِعَنْبَسةَ الرَّاوي عليَّ القَصائدا؟

ورَاوِيةٌ كَذَلِكَ إِذا كَثُرَتْ روايتُه، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي صِفَتِهِ بالرِّواية.

وَيُقَالُ: روَّى فُلَانٌ فُلَانًا شِعْرًا إِذا رَوَاهُ لَهُ حَتَّى حَفِظه للرِّواية عَنْهُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَوَيْتُ الْحَدِيثَ والشِّعر رِوَاية فأَنا رَاوٍ، فِي الْمَاءِ والشِّعر، مِنْ قَوْمٍ رُوَاة.

ورَوَّيْتُه الشِّعر تَرْوِيَةً أَي حَمَلْتُهُ عَلَى رِوايتِه، وأَرْوَيْتُه أَيضًا.

وَتَقُولُ: أَنشد القصيدةَ يَا هَذَا، وَلَا تَقُلِ ارْوِها إِلا أَن تأْمره بِرِوَايَتِهَا أَي بِاسْتِظْهَارِهَا.

وَرَجُلٌ لَهُ رُواء، بِالضَّمِّ، أَي منظرٌ.

وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: « إِذا رأَيتُ رَجُلًا ذَا رُوَاء طَمِحَ بَصَرِي إِليه »؛ الرُّواء، بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ: المنظرُ الْحَسَنُ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: ذَكَرَهُ أَبو مُوسَى فِي الرَّاءِ وَالْوَاوِ، وَقَالَ: هُوَ مِنَ الرِّيِّ والارْتِواء، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ مِنْ المَرأَى وَالْمَنْظَرِ فَيَكُونُ فِي الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ.

والرَّوِيُّ: حَرْفُ الْقَافِيَةِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

لَوْ قَدْ حَداهُنَّ أَبو الجُوديِّ، ***بِرَجَزٍ مُسْحَنْفِرِ الرَّوِيِّ،

مُسْتَوِياتٍ كنَوى البَرْنيِ "وَيُقَالُ: قَصِيدَتَانِ عَلَى رَويّ وَاحِدٍ؛ قَالَ الأَخفش: " الرَّوِيُّ الْحَرْفُ الَّذِي تُبْنى عَلَيْهِ الْقَصِيدَةُ وَيَلْزَمُ فِي كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذا قلَّ مالُ المَرْءِ قلَّ صديقُه، ***وأَوْمَتْ إِليه بالعُيوبِ الأَصابعُ

قَالَ: فَالْعَيْنُ حَرْفُ الرَّويّ وَهُوَ لَازِمٌ فِي كُلِّ بَيْتٍ؛ قَالَ: المتأَمل لِقَوْلِهِ هَذَا غَيْرُ مقْنعٍ فِي حَرْفِ الرَّويّ، أَلا تَرَى أَن قَوْلَ الأَعشى:

رحَلَتْ سُمَيَّةُ غُدْوَةً أَجْمالَها، ***غَضْبى عليكَ، فَمَا تقولُ بَدَا لَهَا

تَجِدُ فِيهِ أَربعة أَحرف لَوَازِمٍ غَيْرَ مُخْتَلِفَةِ الْمَوَاضِعِ، وَهِيَ الأَلف قَبْلَ اللَّامِ ثُمَّ اللَّامُ وَالْهَاءُ والأَلف فِيمَا بَعْدُ، قَالَ: فَلَيْتَ شِعْرِي إِذا أَخذ الْمُبْتَدِي فِي مَعْرِفَةِ الرَّويّ بِقَوْلِ الأَخفش هَكَذَا مُجَرَّدًا كَيْفَ يَصِحُّ لَهُ؟ قَالَ الأَخفش: وَجَمِيعُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ تَكُونُ رَوِيًّا إِلا الأَلف وَالْيَاءَ وَالْوَاوَ اللَّواتي يكُنَّ للإِطلاق.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَوْلُهُ اللَّوَاتِي يكنَّ للإِطلاق فِيهِ أَيضًا مُسَامَحَةٌ فِي التَّحْدِيدِ، وَذَلِكَ أَنه إِنما يُعْلَمُ أَن الأَلف وَالْيَاءَ وَالْوَاوَ للإِطلاق، إِذا عَلِمَ أَن مَا قَبْلَهَا هُوَ الرَّوِيُّ فَقَدِ اسْتَغْنَى بِمَعْرِفَتِهِ إِياه عَنْ تَعْرِيفِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ.

وَلَمْ يبقَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ هَاهُنَا غرضٌ مَطْلُوبٌ لأَن هَذَا مَوْضِعُ تَحْدِيدِهِ ليُعرف، فإِذا عُرف وعُلم أَن مَا بَعْدَهُ إِنما هُوَ للإِطلاق فَمَا الَّذِي يُلتَمس فِيمَا بَعْدُ؟ قَالَ: وَلَكِنْ أَحْوَطُ مَا يُقَالُ فِي حَرْفِ الرَّوِيِّ أَن جَمِيعَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ تَكُونُ رَويًّا إِلا الأَلف وَالْيَاءَ وَالْوَاوَ الزَّوَائِدَ فِي أَواخر الْكَلِمِ فِي بَعْضِ الأَحوال غَيْرَ مَبْنِيَّات فِي أَنْفُس الْكَلِمِ بِنَاءَ الأُصول نَحْوَ أَلف الجَرَعا مِنْ قَوْلِهِ: يَا دارَ عَفْراء مِن مُحْتَلِّها الجَرعَا وَيَاءِ الأَيَّامي مِنْ قَوْلِهِ:

هَيْهاتَ منزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقةٍ، ***كانتْ مُبَارَكَةً مِنَ الأَيَّامِ

وَوَاوِ الخِيامُو مِنْ قَوْلِهِ:

مَتَى كَانَ الخِيامُ بِذِي طُلُوحٍ، ***سُقيتِ الغَيْثَ، أَيتها الخِيامُ

وإِلَّا هَاءَيِ التأْنيث والإِضمار إِذا تَحَرَّكَ مَا قَبِلَهُمَا نَحْوَ طَلْحَهْ وضرَبَهْ، وَكَذَلِكَ الْهَاءُ الَّتِي تُبَيَّنُ بِهَا الْحَرَكَةُ نَحْوَ ارْمِهْ واغْزُهْ وفِيمَهْ ولِمَهْ، وَكَذَلِكَ التَّنْوِينُ اللَّاحِقُ آخِرَ الْكَلِمِ لِلصَّرْفِ كَانَ أَو لِغَيْرِهِ نَحْوَ زَيْدًا وصَهٍ وغاقٍ ويومئذٍ؛ وَقَوْلُهُ: " أَقِلِّي اللَّوْمَ، عاذِلَ، والعِتابَنْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: دايَنْتُ أَرْوى والدُّيونُ تُقْضَيَنْ وَقَالَ الْآخَرُ: يَا أَبَتا علَّك أَو عَساكَنْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَحْسَبُه الجاهلُ مَا لَمْ يَعْلَمَنْ وَقَوْلُ الأَعشى: وَلَا تَعْبُدِ الشيطانَ واللهَ فاعْبُدَنْ وَكَذَلِكَ الأَلفات الَّتِي تُبَدَّلُ مِنْ هَذِهِ النُّونَاتِ نَحْوَ: قَدْ رَابَنِي حَفْصٌ فحَرِّكْ حَفْصا وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ: يَحْسَبُه الجاهلُ مَا لَمْ يَعْلَما وَكَذَلِكَ الْهَمْزَةُ الَّتِي يُبْدِلُهَا قَوْمٌ مِنَ الأَلف فِي الْوَقْفِ نَحْوَ رأَيت رَجُلأْ وَهَذِهِ حُبْلأْ، وَيُرِيدُ أَن يضربَهأْ، وَكَذَلِكَ الأَلف وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ الَّتِي تَلْحَقُ الضَّمِيرَ نَحْوَ رأَيتها وَمَرَرْتُ بِهِي وَضَرَبْتُهُو وَهَذَا غُلَامُهُو وَمَرَرْتُ بِهِمَا "وَمَرَرْتُ بِهِمِي وَكَلَّمْتُهُمُو، وَالْجَمْعُ رَوِيَّات؛ حَكَاهُ ابْنُ جِنِّي؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَظن ذَلِكَ تَسَمُّحًا مِنْهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْعَرَبِ.

والرَّوِيَّةُ فِي الأَمر: أَن تَنْظُر وَلَا تَعْجَل.

ورَوَّيْت فِي الأَمر: لُغَةٌ فِي رَوَّأْت.

ورَوَّى فِي الأَمر: لُغَةٌ فِي رَوَّأَ نَظَرَ فِيهِ وتَعقّبه وتَفَكَّر، يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ.

والرَّوِيَّة.

التَّفَكُّر فِي الأَمر، جَرَتْ فِي كَلَامِهِمْ غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ: « شَرُّ الرَّوايا رَوَايا الكَذِب »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هِيَ جَمْعُ رَوِيَّة وَهُوَ مَا يروِّي الإِنسانُ في نفسه من القول وَالْفِعْلِ؛ أي يُزَوِّرُ ويُفَكِّرُ، وأَصلها الْهَمْزُ.

يُقَالُ: رَوَّأْتُ فِي الأَمر، وَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ رَاوِيَةٍ لِلرَّجُلِ الْكَثِيرِ الرِّواية، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: جَمْعُ رَاوِيَة أَي الَّذِينَ يَرْوُون الْكَذِبَ أَو تَكْثُرُ رواياتُهم فِيهِ.

والرَّوُّ: الخِصْبُ.

أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ لَنَا عِنْدَ فُلَانٍ رَوِيَّةٌ وأَشْكَلةٌ وَهُمَا الحاجةُ، وَلَنَا قِبَله صارَّة مِثْلُهُ.

قَالَ: وَقَالَ أَبو زَيْدٍ بَقِيَتْ مِنْهُ رَوِيَّةٌ أَي بَقِيَّةٌ مِثْلُ التَّلِيَّة وَهِيَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ.

والرَّوِيَّةُ: البقيِّة مِنَ الدَّين وَنَحْوِهِ.

والرَّاوِي: الَّذِي يقومُ عَلَى الْخَيْلِ.

والرَّيَّا: الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ؛ قَالَ: " تطلَّعُ رَيَّاها مِنَ الكَفِرات "الكَفِراتُ: الْجِبَالُ العاليةُ الْعِظَامُ.

وَيُقَالُ للمرأَة: إِنها لَطَيِّبَةُ الرَّيَّا إِذا كَانَتْ عَطِرَةَ الجِرْم.

ورَيَّا كُلِّ شَيْءٍ: طِيبُ رائحتهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " نَسِيمَ الصَّبا جاءتْ برَيَّا القَرَنْفُلِ وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ يَصِفُ جَارِيَةً:

فَلَوْ أَن مَحْمُومًا بخَيْبَر مُدْنَفًا ***تَنَشَّقَ رَيَّاها، لأَقْلَعَ صالِبُهْ

والرَّوِيُّ: سَحَابَةٌ عَظِيمَةُ القَطر شَدِيدَةُ الْوَقْعِ مِثْلُ السَّقِيّ.

وَعَيْنٌ رَيَّةٌ كَثِيرَةُ الْمَاءِ؛ قَالَ الأَعشى:

فأَوْرَدَها عَيْنًا مِنَ السِّيفِ رَيَّةً، ***بِهِ بُرَأٌ مِثْلُ الفَسِيلِ المُكَمَّمِ

وَحَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ: مِنْ أَين رَيَّةُ أَهْلِك أَي مِنْ أَينَ يَرْتَوُون؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَما رِيَّةً فِي بَيْتِ الطِّرِمَّاحِ وَهُوَ:

كظَهْرِ اللأَى لَوْ تَبْتَغي رِيَّةً بِهَا ***نَهَارًا، لَعَيَّت فِي بُطُونِ الشَّواجِنِ

قَالَ: فَهِيَ مَا يُورَى بِهِ النارُ، قَالَ: وأَصله وِرْيةٌ مِثْلُ وِعْدةٍ، ثُمَّ قَدَّمُوا الرَّاءَ عَلَى الْوَاوِ فَصَارَ رِيَّةً.

والرَّاءُ: شَجَرٌ؛ قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:

يَطْعُنُ الطَّعْنةَ لَا يَنْفَعُها ***ثَمَرُ الرَّاء، وَلَا عَصْبُ الخُمُر

ورَيَّا: مَوْضِعٌ.

وَبَنُو رُوَيَّة: بَطْنٌ.

والأُرْوِيَّةُ والإِرْوِيَّةُ؛ الْكَسْرُ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: الأُنثى مِنَ الوُعول.

وثلاثُ أَرَاوِيّ، عَلَى أَفاعيلَ، إِلى الْعَشْرِ، فإِذا كَثُرَتْ فَهِيَ الأَرْوَى، عَلَى أَفْعَل عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَذَهَبَ أَبو الْعَبَّاسِ إِلى أَنها فَعْلَى وَالصَّحِيحُ أَنها أَفْعَل لِكَوْنِ أُرْوِيَّةٍ أُفْعُولةً؛ قَالَ وَالَّذِي حَكَيْتُهُ مِنْ أَنّ أَرَاوِيَّ لأَدنى الْعَدَدِ وأَرْوَى لِلْكَثِيرِ قَوْلُ أَهل اللُّغَةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَن أَرَاوِيَّ تَكْسِيرُ أُرْوِيَّةٍ كأُرْجُوحةٍ وأَراجِيحَ، والأَرْوَى اسْمٌ لِلْجَمْعِ، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ مِنْ أَنّ الأَعَمَّ الْجَمَاعَةُ؛ وأَنشد عن أَبي زيد:

ثمَّ رَماني لأَكُونَنْ ذَبِيحةً، ***وَقَدْ كثُرَتْ بينَ الأَعَمِّ المَضائِضُ

قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، يَعْنِي ابْنَ دُرَيْدٍ، فِي بَابِ أَرو، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبي عَلِيٍّ مِنْ أَين لَهُ أَن اللَّامَ وَاوٌ وَمَا يُؤَمِّنُهُ أَن تَكُونَ يَاءً فَتَكُونُ مِنْ بَابِ التَّقْوَى والرَّعْوَى؛ قَالَ: فجَنَح إِلى الأَخذ بِالظَّاهِرِ، قَالَ: وَهُوَ الْقَوْلُ، يَعْنِي أَنه الصَّوَابُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَرْوَى تُنَوَّنُ وَلَا تُنَوَّنُ، فَمَنْ نَوَّنَهَا احْتَمَلَ أَن يَكُونَ أَفْعَلًا مِثْلُ أَرْنَبٍ، وأَن يَكُونَ فَعْلَى مِثْلُ أَرْطى مُلْحَقٌ، بجَعْفر، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ أُرْوِيَّةٌ أُفْعُولةً، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فُعْلِيَّة، وَتَصْغِيرُ أَرْوَى إِذا جَعَلْتَ وَزْنَهَا أَفْعَلًا أُرَيْوٍ عَلَى مَنْ قَالَ أُسَيْوِدٌ وأُحَيْوٍ، وأُرَيٍّ عَلَى مَنْ قَالَ أُسَيِّدٌ وأُحَيٍّ، وَمَنْ قَالَ أُحَيٍّ قَالَ أُرَيٍّ فَيَكُونُ مَنْقُوصًا عَنْ مَحْذُوفِ اللَّامِ بِمَنْزِلَةِ قاضٍ، إِنما حُذفت لَامُهَا لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّنْوِينِ، وأَما أَرْوَى فِيمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ فَوَزْنُهَا فَعْلى وَتَصْغِيرُهَا أُرَيَّا، وَمَنْ نوَّنها وَجَعَلَ وَزْنَهَا فَعْلى مِثْلَ أَرْطى فَتَصْغِيرُهَا أُرَيٌّ، وأَما تَصْغِيرُ أُرْوِيَّةٍ إِذا جَعَلْتَهَا أُفْعُولةً فأُرْيَوِيَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ أُسَيْوِدٌ وَوَزْنُهَا أُفَيعِيلةٌ، وأُرَيَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ أُسَيِّدٌ وَوَزْنُهَا أُفَيْعةٌ، وأَصلها أُرَيْيِيَيةٌ؛ فَالْيَاءُ الأُولى يَاءُ التَّصْغِيرِ وَالثَّانِيَةُ عَيْنُ الْفِعْلِ وَالثَّالِثَةُ وَاوُ أُفعولة وَالرَّابِعَةُ لَامُ الْكَلِمَةِ، فحَذَفْت مِنْهَا اثْنَتَيْنِ، وَمَنْ جَعَلَ أُرْوِيَّة فُعْلِيَّةً فَتَصْغِيرُهَا أُرَيَّةٌ وَوَزْنُهَا فُعَيْلة، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ الْمُشَدَّدَةُ؛ قَالَ: وَكَوْنُ أَرْوَى أَفْعَلَ أَقيسُ لِكَثْرَةِ زِيَادَةِ الْهَمْزَةِ أَولًا، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ لأَنه جَعَلَ أُرْوِيَّةً أُفْعُولةً.

قَالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ للأُنثى أُرْوِيَّة وَلِلذَّكَرِ أُرْوِيَّة، وَهِيَ تُيُوس الجَبل، وَيُقَالُ للأُنثى عَنْزٌ وَلِلذَّكَرِ وَعِلٌ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مِنَ الشَّاءِ لَا مِنَ الْبَقَرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه أُهْدِيَ لَهُ أَرْوَى وَهُوَ مُحْرِمٌ فرَدَّها »؛ قَالَ: الأَرْوَى جَمْعُ كَثْرَةٍ للأُرْوِيَّة، وَيُجْمَعُ عَلَى أَرَاوِيّ وَهِيَ الأَيايِلُ، وَقِيلَ: غَنَمُ الجبَل؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَوْن: أَنه ذكَرَ رَجُلًا تَكَلَّمَ فأَسقَط فَقَالَ جمَع بَيْنَ الأَرْوَى والنَّعامِ "؛ يُرِيدُ أَنه جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مُتناقِضتين لأَن الأَرْوَى تَسْكُنُ شَعَف الجِبال والنَّعامُ يَسْكُنُ الفَيافيَ.

وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَجْمَعْ بَيْنَ الأَرْوَى والنَّعامِ، وَفِيهِ: " لَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الأُرْوِيَّةِ مِنْ رأْسِ الجَبلِ "؛ الْجَوْهَرِيُّ: الأُرْوِيَّةُ الأُنثى مِنَ الوُعُول، قَالَ: وَبِهَا سُمِّيَتِ المرأَة، وَهِيَ أُفْعُولة فِي الأَصل إِلا أَنهم قَلَبُوا الْوَاوَ الثَّانِيَةَ يَاءً وأَدغموها فِي الَّتِي بَعْدَهَا وَكَسَرُوا الأُولى لِتَسْلَمَ الْيَاءُ، والأَرْوَى مُؤَنَّثَةٌ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

بتَكَلُّمٍ لَوْ تَسْتَطِيعُ كَلامَه، ***لَدَنَتْ لَهُ أَرْوَى الهِضابِ الصُّخَّدِ

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وإِلى سُلَيْمَانَ الَّذِي سَكَنَتْ ***أَرْوَى الهِضابِ لَهُ مِنَ الذُّعْرِ

وأَرْوَى: اسْمُ امرأَة.

والمَرْوَى: مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ.

ورَيَّانُ: اسْمُ جَبَلٍ بِبِلَادِ بَنِي عَامِرٍ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

فمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ***خَلَقًا، كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


52-لسان العرب (هنا)

هُنا: ظَرْفُ مَكَانٍ، تَقُولُ جَعَلْتُه هُنا أَي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

وهَنَّا بِمَعْنَى هُنا: ظَرْفٌ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السلام: « إِنَّ هَاهُنا عِلْمًا، وأَوْمَأَ بيَدِه إِلى صَدْرِه، لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلةً »؛ هَا، مَقصورة: كلمة تَنْبِيه للمُخاطَب يُنَبَّه بِهَا عَلَى مَا يُساقُ إِليه مِنَ الْكَلَامِ.

ابن السكيت: هُنا هَاهُنا موضعٌ بِعَيْنِهِ.

أَبو بَكْرٍ النَّحْوِيُّ: هُنا اسْمُ مَوْضِعٍ فِي الْبَيْتِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَوْمَ هُنا أَي يَوْمَ الأَوَّل؛ قَالَ:

إِنَّ ابْنَ عاتِكَة المَقْتُولَ، يَوْمَ هُنا، ***خَلَّى عَليَّ فِجاجًا كانَ يَحْمِيها

قَوْلُهُ: يَوْمَ هُنا هُوَ كَقَوْلِكَ يَوْمَ الأَوَّلِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: " وحَديثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنا "قَالَ: هُنا اسْمُ مَوْضِعٍ غيرُ مَصْرُوف لأَنه لَيْسَ فِي الأَجْناس مَعْرُوفًا، فَهُوَ كجُحَى، وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي بَابِ الْمُعْتَلِّ.

غَيْرُهُ: هُنا وهُناك لِلْمَكَانِ وهُناك أَبْعَدُ مِنْ هاهُنا.

الْجَوْهَرِيُّ: هُنا وهَاهُنا لِلتَّقْرِيبِ إِذا أَشرتَ إِلى مَكَانٍ، وهُناك وهُنالِكَ للتَّبْعِيدِ، وَاللَّامِ زَائِدَةٌ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّبْعِيدِ، تُفْتَحُ للمذَكَّرِ وَتُكْسَرُ للمُؤَنَّثِ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: يقال اجْلِسْ هاهُنا أَي قريبًا، وتَنَحَّ هاهُنا أَي تَباعَدْ أَو ابْعُدْ قليلًا، قال: وهَاهِنَّا أَيضًا تَقَوَّلَهُ قَيْسٌ وتَمِيمٌ.

قَالَ الأَزهري: وَسَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ قَيْسٍ يَقُولُونَ اذْهَبْ هَاهَنَّا بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَلَمْ أَسْمَعْها بِالْكَسْرِ مِنْ أَحد.

ابْنُ سِيدَهْ: وَجَاءَ مِنْ هَني أَي مِنْ هُنا، قَالَ: وجِئتُ مِنْ هَنَّا وَمِنْ هِنَّا.

وهَنَّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ: معناه هَاهُنا.

وهَنَّاك أَي هُناك؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " لَمَّا رأَيت مَحْمِلَيْها هَنَّا "وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَجَمَّعُوا مِنْ هَنَّا ومِنْ هَنَّا أَي من هَاهُنا ومن هَاهُنا؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

حَنَّت نَوارُ، ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ، ***وبَدا الَّذِي كانَتْ نَوارُ أَجَنَّتِ

يَقُولُ: لَيْسَ ذَا مَوْضِعَ حَنِينٍ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ لجَحْل بْنِ نَضْلَة وَكَانَ سَبى النَّوارَ بنتَ عمْرو بْنِ كُلْثوم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي:

أَفِي أَثَرِ الأَظْعانِ عَيْنُكَ تَلْمَحُ؟ ***نَعَمْ لاتَ هَنَّا، إنَّ قَلْبَكَ مِتْيَحُ

يَعْنِي لَيْسَ الأَمر حَيْثُمَا ذَهَبْتَ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده أَبو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي:

قدْ وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ، ***مِنْ هَاهُنا ومِنْ هُنَهْ

إِنما أَراد: وَمِنْ هُنا فأَبدل الأَلف هَاءً، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وها هُنَهْ لأَن قَبْلَهُ أَمْكِنَهْ، فَمِنَ المُحال أَن تَكُونَ إِحْدَى الْقَافِيَتَيْنِ مُؤَسَّسَةً والأُخرى غَيْرَ مؤسسة.

وهَاهِنَّا أَيضًا تَقَوَّلَهُ قَيْسٌ وَتَمِيمٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرادت البُعْد: هَنَّا وهَاهَنَّا وهَنَّاكَ وهَاهَنَّاك، وَإِذَا أَرادت الْقُرْبَ قَالَتْ: هُنا وهَاهُنا.

وتقول للحبيب: هَاهُنا وهُنا أَي تَقَرَّبْ وادْنُ، وفي ضدّه للبَغِيض: هَاهَنَّا وهَنَّا أَي تَنَحَّ بَعِيدًا؛ قَالَ الْحُطَيْئَةُ يَهْجُو أُمه:

فهَاهَنَّا اقْعُدِي مِني بَعِيدًا، ***أَراحَ اللهُ مِنْكِ العالَمِينا

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ فَلَاةً بَعِيدةَ الأَطْراف بعيدةَ الأَرجاء كَثِيرَةَ الخَيرِ:

هَنَّا وهَنَّا ومِنْ هَنَّا لَهُنَّ بِهَا، ***ذاتَ الشَّمائلِ والأَيْمانِ، هَيْنُومُ

الْفَرَّاءُ: مِنْ أَمثالهم: هَنَّا وهَنَّا عَنْ جِمالِ وَعْوَعَهْ "كَمَا تَقُولُ: كلُّ شَيْءٍ وَلَا وَجَع الرأْسِ، وكلُّ شَيْءٍ وَلَا سَيْف فَراشةَ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ إِذَا سَلِمْتُ وسَلِمَ فُلَانٌ فَلَمْ أَكْتَرِثْ لغَيرِه؛ وَقَالَ شَمِرٌ: أَنشدنا ابْنُ الأَعرابي لِلْعَجَّاجِ:

وكانتِ الحَياةُ حِينَ حَيَّتِ، ***وذِكْرُها هَنَّتْ فلاتَ هَنَّتِ

أَراد هَنَّا وهَنَّهْ فَصَيَّرَهُ هَاءً لِلْوَقْفِ.

فلاتَ هَنَّتْ أَي لَيْسَ ذَا موضعَ ذَلِكَ وَلَا حِينَه، فَقَالَ هَنَّت بِالتَّاءِ لَمَّا أَجرى الْقَافِيَةَ لأَن الْهَاءَ تَصِيرُ تَاءً فِي الْوَصْلِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعشى:

لاتَ هَنَّا ذِكْرَى جُبَيرةَ أَمَّنْ ***جَاءَ مِنْها بطائفِ الأَهوالِ

قَالَ الأَزهري: وَقَدْ مَضَى مِنْ تَفْسِيرِ لاتَ هَنَّا فِي الْمُعْتَلِّ مَا ذُكِرَ هُناك لأَن الأَقرب عِنْدِي أَنه مِنَ المُعْتَلَّاتِ؛ وتقَدّم فِيهِ:

حَنَّتْ ولاتَ هَنَّتْ، ***وأَنَّى لكِ مَقْروعُ

رَوَاهُ ابْنُ السِّكِّيتِ: وكانتِ الحَياةُ حِينَ حُبَّتِ "يَقُولُ: وَكَانَتِ الحياةُ حِينَ تُحَبُّ.

وذِكْرُها هَنَّتْ، يَقُولُ: وذِكرُ الحَياةِ هُناكَ وَلَا هُنَاكَ أَي لِليأْس مِنَ الْحَيَاةِ؛ قَالَ وَمَدَحَ رَجُلًا بِالْعَطَاءِ: " هَنَّا وهَنَّا وَعَلَى المَسْجوحِ "أَي يُعْطِي عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، وَعَلَى المَسْجُوح أَي عَلَى القَصْد؛ أَنشد ابْنُ السِّكِّيتِ:

حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ، ***وبَدا الَّذِي كانتْ نَوارُ أَجَنَّتِ

أَي لَيْسَ هَذَا موضعَ حَنِينٍ وَلَا فِي موضِع الحَنِينِ حَنَّتْ؛ وأَنشد لبَعضِ الرُّجَّازِ:

لمَّا رأَيتُ مَحْمِلَيْها هَنَّا ***مُخَدَّرَيْنِ، كِدْتُ أَنْ أُجَنَّا

قوله هَنَّا أَي هَاهَنَّا، يُغَلِّطُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَقَوْلُهُمْ فِي النِّدَاءِ: يَا هَنَّاه بزيادة هاء فِي آخِرِهِ، وتصِيرُ تَاءً فِي الْوَصْلِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا مَا انْتَقَدَهُ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ فِي تَرْجَمَةِ هُنَا فِي المُعْتَلّ.

وهُنا: اللَّهْوُ واللَّعِبُ، وَهُوَ مَعْرِفةٌ؛ وأَنشد الأَصمعي لِامْرِئِ الْقَيْسِ:

وحَدِيثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنا، ***وحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ

وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: هَنا وهَنْتَ بِمَعْنَى أَنا وأَنتَ، يَقْلِبون الْهَمْزَةَ هَاءً وَيُنْشِدُونَ بَيْتَ الأَعشى:

يَا ليتَ شِعْرِي هَلْ أَعُودنْ ناشِئًا ***مِثْلي، زُمَيْنَ هَنا بِبُرْقةِ أَنْقَدا؟

ابْنُ الأَعرابي: الهُنا الحَسَبُ الدَّقِيقُ الخَسِيسُ؛ وأَنشد:

حاشَى لفرْعَيْكَ مِن هُنا وهُنا، ***حاشَى لأَعْراقِكَ الَّتِي تَشبحُ

هيا: هَيا: مِنْ حروفِ النَّداء، وأَصلها أَيا مِثْلُ هَراقَ وأَراقَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فأَصاخَ يَرْجُو أَن يَكُونَ حَيًّا، ***ويقولُ مِنْ طَرَبٍ: هَيا رَبَّا

وا: الْوَاوُ: مِنْ حُرُوفِ المُعْجم، وَوَوٌ حرفُ هِجَاءٍ واوٌ: حَرْفُ هِجَاءٍ، وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ وَاوٍ وَيَاءٍ وواو، وهي حرف مهجور يَكُونُ أَصلًا وَبَدَلًا وَزَائِدًا، فالأَصل نَحْوُ وَرَلٍ وسَوْطٍ ودَلْوٍ، وَتُبْدَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحرف وَهِيَ الْهَمْزَةُ والأَلف وَالْيَاءُ، فأَما إِبْدَالُهَا مِنَ الْهَمْزَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضرب: أَحدها أَن تَكُونَ الْهَمْزَةُ أَصلًا، وَالْآخَرُ أَن تَكُونَ بَدَلًا، وَالْآخَرُ أَن تَكُونَ زَائِدًا، أَمَّا إِبْدَالُهَا مِنْهَا وَهِيَ أَصل فأَن تَكُونَ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةً وَقَبْلَهَا ضَمَّةٌ، فَمَتَى آثَرْتَ تَخْفِيفَ الْهَمْزَةِ قَلَبْتَهَا وَاوًا، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكِ فِي جُؤَنٍ جُوَن، وَفِي تَخْفِيفِ هُوَ يَضْرِبُ أَباكَ يَضْرِبُ وَباك، فَالْوَاوُ هُنَا مُخَلَّصةٌ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَمْزَةِ المُبْدَلةِ، فَقَوْلُهُمْ فِي يَمْلِكُ أَحَدَ عَشَرَ هُوَ يَمْلِكُ وَحَدَ عَشَرَ، وَفِي يَضْرِبُ أَباهُ يَضْرِبُ وَباه، وَذَلِكَ أَن الْهَمْزَةَ فِي أَحدَ وأَباهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، وَقَدْ أُبْدِلت الْوَاوُ مِنْ هَمْزَةِ التأْنيث المُبْدَلة مِنَ الأَلف فِي نَحْوِ حَمْراوانِ وَصَحْراواتٍ وصَفْراوِيٍّ، وأَما إبدالُها مِنَ الْهَمْزَةِ الزَّائِدَةِ فَقَوْلُكُ فِي تَخْفِيفِ هَذَا غلامُ أَحْمَدَ: هَذَا غلامُ وَحْمَدَ، وَهُوَ مُكْرِمُ أَصْرَمَ: هُوَ مُكْرِمُ وَصْرَمَ، وأَما إِبْدَالُ الْوَاوِ مِنَ الأَلف أَصليةً فَقَوْلُكُ فِي تَثْنِيَةِ إِلَى وَلَدَى وَإِذَا أَسماء رِجَالٍ: إلَوانِ ولَدَوانِ وإذَوانِ؛ وَتَحْقِيرُهَا وُوَيَّةٌ.

وَيُقَالُ: وَاوٌ مُوَأْوَأَةٌ، وَهَمَزُوهَا كراهَةَ اتِّصالِ الواواتِ والياءَات، وَقَدْ قَالُوا مُواواةٌ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ صَاحِبِ الْعَيْنِ، وَقَدْ خَرَجَتْ واوٌ بِدَلِيلِ التَّصْرِيفِ إِلَى أَنَّ في الكلام مثل وَعَوْتُ الَّذِي نَفَاهُ سِيبَوَيْهِ، لأَن أَلف وَاوٍ لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْقَلِبَةً كَمَا أَنّ كُلَّ أَلف عَلَى هَذِهِ الصُّورة لَا تَكُونُ إِلَّا كذلك، وإذا كَانَتْ مُنْقَلِبة فَلَا تَخْلُو مِنْ أَن تَكُونَ عَنِ الْوَاوِ أَو عَنِ الْيَاءِ إِذْ لَوْلَا هَمْزُهَا فَلَا تَكُونُ عَنِ الْوَاوِ، لأَنه إِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ حُرُوفُ الْكَلِمَةِ وَاحِدَةً وَلَا نعلم ذلكفِي الْكَلَامِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بَبَّة وَمَا عُرِّب كالكَكّ، فَإِذَا بَطلَ انْقِلابها عَنِ الْوَاوِ ثَبَتَ أَنه عَنِ الْيَاءِ فَخَرَجَ إِلَى بَابِ وعَوْت عَلَى الشُّذُوذِ.

وَحَكَى ثَعْلَبٌ: وَوَّيْت وَاوًا حَسَنة عَمِلتها، فإِن صَحَّ هَذَا جَازَ أَن تَكُونَ الْكَلِمَةُ مِنْ وَاوٍ وَوَاوٍ وَيَاءٍ، وَجَازَ أَن تَكُونَ مِنْ وَاوٍ وَوَاوٍ وَوَاوٍ، فَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا وَوَّوْتُ، غَيْرَ أَن مُجاوزةَ الثَّلَاثَةِ قُلِبَتِ الواوَ الأَخيرة يَاءً وَحَمَلَهَا أَبو الْحَسَنِ الأَخفش عَلَى أَنها مُنْقَلِبةٌ مِنْ وَاوٌ، واستدلَّ عَلَى ذَلِكَ بِتَفْخِيمِ الْعَرَبِ إِيَّاها وأَنه لَمْ تُسْمَع الإِمالةُ فِيهَا، فقَضَى لِذَلِكَ بأَنها مِنَ الْوَاوِ وَجَعَلَ حُرُوفَ الْكَلِمَةِ كُلِّهَا وَاوَاتٍ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: ورأَيت أَبا عَلِيٍّ يُنكر هَذَا الْقَوْلَ ويَذْهب إِلَى أَنَّ الأَلف فِيهَا مُنْقَلِبَةً عَنِ يَاءٍ، وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ عَلَى أَنه إِنْ جَعَلَها مِنَ الْوَاوِ كَانَتِ الْعَيْنُ وَالْفَاءُ واللامُ كُلُّهَا لَفْظًا وَاحِدًا؛ قَالَ أَبو عَلِيٍّ: وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: فَعَدَلَ إِلَى القَضاء بأَنها مِنَ الْيَاءِ، قَالَ: وَلَسْتُ أَرَى بِمَا أَنْكَره أَبو عَلِيٍّ عَلَى أَبي الْحَسَنِ بأْسًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَبا عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ كَرِهَ ذَلِكَ لِئَلَّا تَصِيرَ حُروفُه كلُّها واواتٍ، فإِنه إِذا قَضَى بأَنَّ الأَلف مِنْ يَاءٍ لتَخْتَلِف الْحُرُوفُ فَقَدْ حَصَل بَعْدَ ذَلِكَ مَعَهُ لَفْظٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، أَلا تَرَى أَنه لَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَرْفٌ فَاؤُهُ وَاوٌ وَلَامُهُ وَاوٌ إلَّا قَوْلَنَا وَاوٌ؟ فإِذا كَانَ قَضَاؤُهُ بأَنَّ الأَلف مِنْ يَاءٍ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَن يَكُونَ الْحَرْفُ فَذًّا لَا نظيرَ لَهُ، فَقَضَاؤُهُ بأَنَّ العينَ واوٌ أَيضًا لَيْسَ بمُنْكَر، ويُعَضِّدُ ذَلِكَ أَيضًا شَيْئَانِ: أَحدهما مَا وصَّى بِهِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ الأَلف إِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْعَيْنِ فأَنْ تكونَ مُنْقَلِبَةً عَنِ الْوَاوِ أَكثرُ مِنِ أَن تَكُونَ مُنْقَلِبَةً عَنْ الْيَاءِ، وَالْآخَرُ مَا حَكَاهُ أَبو الْحَسَنِ مِنْ أَنه لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ فِيهَا الإِمالةُ، وَهَذَا أَيضًا يؤكِّدُ أَنها مِنَ الْوَاوِ، قَالَ: ولأَبي عَلِيٍّ أَن يقولَ مُنْتَصِرًا لكَوْنِ الأَلف عَنْ يَاءٍ إنَّ الَّذِي ذَهَبْتُ أَنَا إِلَيْهِ أَسْوَغُ وأَقَلُّ فُحْشًا ممَّا ذهَبَ إِلَيْهِ أَبو الحسنِ، وَذَلِكَ أَنِّي وإنْ قَضَيْتُ بأَنَّ الْفَاءَ وَاللَّامَ وَاوَانِ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ، فَإِنِّي قَدْ رأَيت الْعَرَبَ جعَلَتِ الْفَاءَ وَاللَّامَ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ كَثِيرًا، وَذَلِكَ نَحْوُ سَلَسٍ وقَلَقٍ وحِرْحٍ ودَعْدٍ وفَيْفٍ، فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاوٌ فإِنا وَجَدْنَا فَاءَهُ وَلَامَهُ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ.

وَقَالُوا أَيضًا فِي الْيَاءِ الَّتِي هِيَ أُخت الْوَاوِ: يَدَيْتُ إِليه يَدًا، وَلَمْ نَرَهم جَعَلُوا الْفَاءَ وَاللَّامَ جَمِيعًا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ وَاوٍ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ: فَقَدْ دَخَلَ أَبو الْحَسَنِ مَعِي فِي أَن أَعترف بأَنَّ الْفَاءَ وَاللَّامَ وَاوَانِ، إِذْ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ، كَمَا أَجده أَنا، ثُمَّ إِنه زَادَ عَمَّا ذَهَبْنا إِليه جَمِيعًا شَيْئًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي حَرْف مِنَ الْكَلَامِ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ جَعْلُه الْفَاءَ وَالْعَيْنَ وَاللَّامَ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ فأَمَّا مَا أَنشده أَبو عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِ هِنْدُ بِنْتُ أَبي سُفْيَانَ تُرَقِّصُ ابنَها عبدَ اللَّهِ بنَ الحَرث:

لأُنْكِحَنَّ بَبَّهْ ***جارِيةً خِدَبَّهْ

فإِنما بَبَّهْ حِكَايَةُ الصَّوْتِ الَّذِي كَانَتْ تُرَقِّصُه عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِاسْمٍ، وإِنما هُوَ لَقَبٌ كقَبْ لِصَوْتِ وَقْع السَّيْف، وطِيخِ للضَّحِك، ودَدِدْ لِصَوْتِ الشَّيْءِ يَتَدَحْرَجُ، فإِنما هَذِهِ أَصواتٌ لَيْسَتْ تُوزَنُ وَلَا تُمَثَّلُ بِالْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ صَه ومَهْ وَنَحْوِهِمَا؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: فلأَجْل مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِ أَبي عَلِيٍّ تَعادَلَ عِنْدَنَا المَذْهبان أَو قَرُبا مِنَ التَّعادُلِ، وَلَوْ جَمَعْتَ وَاوًا عَلَى أَفعالٍ لقلتَ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أَلِفَها مُنْقَلِبَةً مِنْ وَاوٍ أَوَّاءٌ، وأَصلها أَوَّاوٌ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الواو طَرَفًا" بَعْدَ أَلف زَائِدَةٍ قُلبت أَلِفًا، ثُمَّ قُلِبَتْ تِلْكَ الأَلفُ هَمْزةً كَمَا قُلْنَا فِي أَبْنَاء وأَسْماء وأَعْداء، وإِنْ جَمَعها عَلَى أَفْعُلٍ قَالَ فِي جَمْعِهَا أَوٍّ، وأَصلها أَوْوُوٌ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الواوُ طرَفًا مَضْمُومًا مَا قَبْلَها أَبْدَلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرةً وَمِنَ الْوَاوِ يَاءً، وَقَالَ أَوٍّ كأَدْلٍ وأَحْقٍ، وَمَنْ كَانَتْ أَلفُ وَاوٍ عِنْدَهُ مِن يَاءٍ قَالَ إِذا جمَعَها عَلَى أَفْعال أَيَّاءً، وأَصلها عِنْدَهُ أَوْياءٌ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وسَبَقَتِ الواوُ بِالسُّكُونِ قُلبت الواوُ يَاءً وأُدْغِمت فِي الْيَاءِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَصَارَتْ أَيَّاء كَمَا تَرَى، وَإِنْ جمعَها عَلَى أَفْعُل قَالَ أَيٍّ وأَصلها أَوْيُوٌ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وسَبَقت الواوُ بِالسُّكُونِ قُلِبت الْوَاوُ يَاءً وأُدغمت الأُولى فِي الثَّانِيَةِ فَصَارَتْ أَيُّوٌ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَاوُ طرَفًا مَضْمُومًا مَا قَبْلَهَا أُبْدِلت مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً وَمِنَ الْوَاوِ يَاءً، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ الآنَ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ أَيْيِيٌ فَلَمَّا اجتمعَت ثَلاثُ ياءَاتٍ، والوُسْطَى مِنْهُنَّ مَكْسُورَةٌ، حُذفت الْيَاءُ الأَخيرة كَمَا حُذِفَتْ فِي تَحْقِير أَحْوَى أُحَيٍّ وأَعْيا أُعَيٍّ، فَكَذَلِكَ قُلْتَ أَنت أَيضًا أَيٍّ كأَدْلٍ.

وَحَكَى ثَعْلَبٌ أَن بَعْضَهُمْ يَقُولُ: أَوَّيْتُ وَاوًا حَسَنةً، يَجْعَلُ الْوَاوَ الأُولى هَمزةً لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَاتِ.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: وتُبْدَلُ الْوَاوُ مِنَ الْبَاءِ فِي القَسَم لأَمْرَيْنِ: أَحدهما مُضارَعَتُها إِياها لَفْظًا، وَالْآخَرُ مُضارَعَتُها إِيَّاها مَعْنًى، أَما اللَّفْظُ فلأَنّ الْبَاءَ مِنَ الشَّفَةِ كَمَا أَنَّ الْوَاوَ كَذَلِكَ، وأَما الْمَعْنَى فلأَنَّ الْبَاءَ للإِلصاق والواوَ لِلِاجْتِمَاعِ، والشيءُ إِذا لاصَقَ الشيءَ فَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ.

قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كَانَ مِنْ الحُرُوف عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وسَطُه أَلف فَفِي فِعْلِه لُغَتَانِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ كَقَوْلِكَ دَوَّلْت دَالًا وقَوَّفْتُ قَافًا أَي كَتَبْتها، إِلا الْوَاوَ فإِنها بِالْيَاءِ لَا غَيْرَ لِكَثْرَةِ الْوَاوَاتِ، تَقُولُ فِيهَا وَيَّيْتُ وَاوًا حَسَنةً، وَغَيْرُ الْكِسَائِيِّ يَقُولُ: أَوَّيْتُ أَوْ وَوَّيْتُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: تقول العرب كلِمةٌ مُؤَوَّاةٌ مِثْلُ مُعَوّاةٍ أَي مَبْنِيَّةٌ مِنْ بناتِ الْوَاوِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَلِمَةٌ مُوَيَّاةٌ مِنْ بَنَاتِ الْوَاوِ، وَكَلِمَةُ مُيَوّاةٌ مِنْ بَنَاتِ الْيَاءِ، وإِذا صَغَّرْتَ الْوَاوَ قُلتَ أُوَيَّةٌ.

وَيُقَالُ: هَذِهِ قَصِيدَةٌ واوِيَّةٌ إِذا كَانَتْ عَلَى الْوَاوِ، قَالَ الْخَلِيلُ: وجدْتُ كلَّ وَاوٍ وَيَاءٍ فِي الْهِجَاءِ لَا تَعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا تَرْجِعُ فِي التَّصْرِيفِ إِلى الْيَاءِ نَحْوَ يَا وفَا وطَا وَنَحْوَهُ، وَاللَّهُ أَعلم.

التَّهْذِيبُ: الْوَاوُ مَعْنَاهَا فِي العَطْفِ وغَيْرِه فِعْلُ الأَلف مَهْمُوزَةً وَسَاكِنَةً فِعْلُ الْيَاءِ.

الْجَوْهَرِيُّ: الْوَاوُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ تَجْمَعُ الشَّيْئَيْنِ وَلَا تدلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهَا أَلف الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ}؛ كَمَا تَقُولُ أَفَعَجِبْتُم؛ وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَعْ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لأَن مَع لِلْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِ" النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ أَنَا والساعةَ كهاتَيْنِ، وأَشار إِلى السَّبَّابةِ والإِبْهام "، أَي مَع الساعةِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ وأَشار إِلى السبَّابةِ والوُسْطَى، قَالَ: وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ وَقَدْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِمْ: قُمْتُ وأَصُكُّ وجْهَه أَي قمتُ صَاكًّا وجْهَه، وَكَقَوْلِكَ: قُمتُ والناسُ قُعودٌ، وَقَدْ يُقْسَمُ بِهَا تَقُولُ: واللهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْبَاءِ وإِنما أُبْدِل مِنْهُ لقُربه مِنْهُ فِي المَخرج إِذ كَانَ مِنْ حُرُوفِ الشَّفة، وَلَا يَتجاوَزُ الأَسماءَ المُظْهَرةَ نَحْوَ وَاللَّهِ وحَياتِك وأَبيك؛ وَقَدْ تَكُونُ الْوَاوُ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ المذكَّر فِي قَوْلِكَ فعَلُوا ويَفْعَلُون وافْعَلُوا؛ وَقَدْ تَكُونُ الْوَاوُ زَائِدَةً؛ قَالَ الأَصمعي: قُلْتُ لأَبي عَمْرٍو قَوْلُهُمْ رَبَّنا ولكَ الحمدُ فَقَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْني هَذَا الثوبَ فَيَقُولُ وَهُوَ لَكَ وأَظنه أَراد هُوَ لَكَ؛ " وأَنشد الأَخفش:

فإِذا وذلِك، يَا كُبَيْشةُ، لَمْ يَكُنْ ***إِلَّا كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ

كأَنه قَالَ: فإِذا ذَلِكَ لَمْ يكنْ؛ وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبي سُلْمى:

قِفْ بالدِّيارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُها القِدَمُ ***بَلى، وغَيَّرَها الأَرْواحُ والدِّيَمُ

يُرِيدُ: بَلَى غَيَّرَها.

وَقَوْلُهُ تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها}؛ فَقَدْ يَجُوزُ أَن تَكُونَ الْوَاوُ هُنَا زَائِدَةٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُ هَذَا لأَبي كَبير الهُذلي عَنِ الأَخفش أَيضًا:

فإِذا وذلِكَ ليسَ إِلَّا ذِكْرَه، ***وإِذا مَضى شيءٌ كأَنْ لَمْ يُفْعَلِ

قَالَ: وَقَدْ ذَكر بعضُ أَهلِ الْعِلْمِ أَنَّ الواوَ زائدةٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا}؛ لأَنه جَوَابٌ لَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ.

التَّهْذِيبُ: الواواتُ لَهَا مَعانٍ مُخْتَلِفَةٌ لِكُلِّ مَعْنًى مِنْهَا اسْمٌ يُعْرَفُ بِهِ: فَمِنْهَا واوُ الْجَمْعِ كَقَوْلِكَ ضَرَبُوا ويَضْرِبُون وَفِي الأَسماء المُسْلِمون وَالصَّالِحُونَ؛ وَمِنْهَا وَاوُ الْعَطْفِ والفرقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الفاءِ في المعطوف أَو الْوَاوَ يُعْطَفُ بِهَا جُمْلَةٌ عَلَى جملةٍ، لَا تدلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي تَقْديم المُقَدَّمِ ذِكْرُه عَلَى المؤخَّر ذِكْرُهُ، وأَما الْفَرَّاءُ فإِنه يُوَصِّلُ بِهَا مَا بَعْدَها بِالَّذِي قَبْلَهَا والمُقَدَّمُ هُوَ الأَوَّل، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِذا قلتَ زُرْتُ عبدَ اللهِ وزيْدًا فأَيَّهُما شِئْتَ كَانَ هُوَ المبتدأَ بِالزِّيَارَةِ، وإِن قلتَ زُرْتُ عبدَ اللَّهِ فزَيْدًا كَانَ الأَولُ هُوَ الأَولَ والآخِرُ هُوَ الآخِر؛ وَمِنْهَا وَاوُ القَسم تَخْفِضُ مَا بَعْدَها، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ}؛ فالواو التي في الطُّور هِيَ وَاوُ القَسَمِ، والواوُ الَّتِي هِيَ فِي وَكِتابٍ مَسْطُورٍ" هِيَ واوُ العَطف، أَلا تَرَى أَنه لَوْ عُطِف بِالْفَاءُ كَانَ جَائِزًا وَالْفَاءُ لَا يُقْسَم بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا فَالْحامِلاتِ وِقْرًا}؛ غَيْرَ أَنه إِذا كَانَ بِالْفَاءِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْيَمِينِ الأُولى، وإِن كَانَ بِالْوَاوِ فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ أُقْسِمَ بِهِ؛ وَمِنْهَا واوُ الاسْتِنْكارِ، إِذا قُلْتَ: جاءَني الحَسَنُ، قَالَ المُسْتَنْكِرُ أَلحَسَنُوهْ، وإِذا قُلْتَ: جاءَني عَمرو، قَالَ: أَعَمْرُوهْ، يَمُدُّ بِوَاوٍ وَالْهَاءُ لِلْوَقْفَةِ؛ وَمِنْهَا وَاوُ الصِّلة فِي القَوافي كَقَوْلِهِ: " قِفْ بالدِّيار الَّتِي لَمْ يَعْفُها القِدَمُو "فَوُصِلَتْ ضَمَّةُ المِيمِ بِوَاوٍ تَمَّ بِهَا وَزْنُ الْبَيْتِ؛ وَمِنْهَا واوُ الإِشْباع مِثْلَ قَوْلِهِمْ البُرْقُوعُ والمُعْلُوقُ، وَالْعَرَبُ تَصِلُ الضَّمَّةَ بِالْوَاوِ.

وَحَكَى الْفَرَّاءُ: أَنْظُور، فِي مَوْضِعِ أَنْظُر؛ وأَنشد:

لَوْ أَنَّ عَمْرًا هَمَّ أَن يَرْقُودا ***فانْهَضْ، فشُدَّ المِئْزَرَ المَعْقُودا

أَراد: أَن يَرْقُدَ فأَشْبَعَ الضمةَ ووصَلَها بِالْوَاوِ ونَصَب يَرْقُود عَلَى مَا يُنْصَبُ بِهِ الفعلُ؛ وأَنشد:

اللهُ يَعْلَم أَنَّا، فِي تَلفُّتِنا، ***يومَ الفِراقِ، إِلى إِخوانِنا، صُورُ

وأَنَّني حَيْثُما يَثْني الهَوَى بَصَري، ***مِنْ حَيْثُما سَلَكُوا، أَدْنُو فأَنْظُورُ

أَراد: فأَنْظُر؛ وَمِنْهَا وَاوُ التَّعايي كَقَوْلِكَ: هَذَا عمْرُو، فيَسْتَمِدُّ ثُمَّ يقولُ مُنْطَلِقٌ، وَقَدْ مَضى بعضُ أَخواتِها فِي تَرْجَمَةِ آفي الأَلِفات، وستأْتي بَقِيَّةُأَخَواتها فِي تَرْجَمَةِ يَا؛ وَمِنْهَا مَدُّ الِاسْمِ بالنِّداء كَقَوْلِكَ أَيا قُورْط، يُرِيدُ قُرْطًا، فَمَدُّوا ضَمَّةَ الْقَافِ بِالْوَاوِ ليَمْتَدَّ الصَّوتُ بِالنِّدَاءِ؛ وَمِنْهَا الْوَاوُ المُحَوَّلةُ نَحْوُ طُوبى أَصلها طُيْبى فقُلِبت الْيَاءُ وَاوًا لِانْضِمَامِ الطاءِ قَبْلَهَا، وَهِيَ مِنْ طَابَ يَطيبُ؛ وَمِنْهَا وَاوُ المُوقنين والمُوسِرين أَصلها المُيْقِنين مِنْ أَيْقَنْتُ والمُيْسِرين مِنْ أَيْسَرْتُ؛ وَمِنْهَا واوُ الجَزْمِ المُرْسَلِ مثلُ قَوْلِهِ تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}؛ فأُسْقِطَ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَن قبْلَها ضَمَّةً تَخْلُفها؛ وَمِنْهَا جَزْمُ الْوَاوِ الْمُنْبَسِطُ كَقَوْلِهِ تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ}؛ فَلَمْ يُسْقِطِ الْوَاوَ وحَرّكها لأَن قَبْلَهَا فَتْحَةً لَا تَكُونُ عِوضًا مِنْهَا؛ هَكَذَا رَوَاهُ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي طَالِبٍ النَّحْوِيِّ، وَقَالَ: إِنما يَسْقُط أَحَدُ السَّاكِنَيْنِ إِذا كَانَ الأَوّل مِنَ الجَزم المُرْسَل وَاوًا قَبْلَهَا ضَمَّةٌ أَو يَاءٌ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَو أَلفًا قَبْلَهَا فَتْحَةٌ، فالأَلف كَقَوْلِكَ لِلِاثْنَيْنِ اضْرِبا الرَّجُلَ، سَقَطَتِ الأَلف عَنْهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَن قَبْلَهَا فَتْحَةً، فَهِيَ خَلَفٌ مِنْهَا، وَسَنَذْكُرُ الْيَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا؛ وَمِنْهَا واواتُ الأَبْنِية مِثْلُ الجَوْرَبِ والتَّوْرَبِ لِلتُّرَابِ والجَدْوَلِ والحَشْوَرِ وَمَا أَشبهها؛ وَمِنْهَا وَاوُ الْهَمْزِ فِي الْخَطِّ وَاللَّفْظِ، فأَما الْخَطُّ فَقَوْلُكَ: هذِه شاؤُك ونِساؤُك، صُوِّرَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا لِضَمَّتِهَا، وأَما اللَّفْظُ فَقَوْلُكَ: حَمْراوانِ وسَوْداوان، وَمِثْلُ قَوْلِكِ أُعِيذُ بأَسْماوات اللَّهِ وأَبْناواتِ سَعْدٍ ومثل السَّمَواتِ وَمَا أَشْبهها؛ وَمِنْهَا وَاوُ النِّداء وَواوُ النُّدْبة، فأَما النِّداء فَقَوْلُكَ: وَا زَيْد، وأَما النُّدبة فَكَقَوْلِكَ أَو كَقَوْلِ النَّادِبة: وَا زَيْداهْ وَا لَهْفاهْ وَا غُرْبَتاهْ وَيَا زَيداه وَمِنْهَا واواتُ الْحَالِ كَقَوْلِكَ: أَتَيْتُه والشمسُ طالِعةٌ أَي فِي حَالِ طُلُوعها، قَالَ اللَّهُ تعالى: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}؛ وَمِنْهَا واوُ الوَقْتِ كَقَوْلِكَ: اعْمَل وأَنتَ صَحِيحٌ أَي فِي وقْتِ صِحَّتِك، والآنَ وأَنت فارِغٌ، فَهَذِهِ واوُ الْوَقْتِ وَهِيَ قَريبة مِنْ وَاوِ الْحَالِ؛ وَمِنْهَا واوُ الصَّرْفِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الصَّرْفُ أَنْ تأْتي الواوُ مَعْطُوفةً عَلَى كَلَامٍ فِي أَوّله حادِثةٌ لَا تَسْتَقِيمُ إِعادَتُها عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ:

لَا تَنْهَ عَنْ خُلْقٍ وتَأْتيَ مِثْلَه، ***عارٌ عَلَيْكَ، إِذا فَعَلْتَ، عَظِيمُ

أَلا تَرَى أَنه لَا يَجُوزُ إِعادة لَا عَلَى وتَأْتيَ مِثْلَه، فَلِذَلِكَ سُميَ صَرْفًا إِذْ كَانَ مَعْطُوفًا وَلَمْ يَسْتَقِم أَن يُعادَ فِيهِ الحادثُ الَّذِي فِيمَا قَبْلَه؛ وَمِنْهَا الواواتُ الَّتِي تدخلُ فِي الأَجْوِبةِ فَتَكُونُ جَوَابًا مَعَ الجَوابِ، وَلَوْ حُذِفت كَانَ الجوابُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ؛ أَنشد الْفَرَّاءُ:

حَتَّى إِذا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ، ***ورَأَيْتُمُ أَبْناءَكُمْ شَبُّوا

وقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا، ***إِنَّ اللَّئِيمَ العاجِزُ الخَبُ

أَراد قَلَبْتُم.

وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: لمَّا أَتاني وأَثِبُ عَلَيْهِ، كأَنه قَالَ: وَثَبْتُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ لَمَّا حَتَّى إِذا.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَالَ الأَصمعي قُلْتُ لأَبي عَمْرو بْنِ العَلاء رَبَّنا ولكَ الحَمْدُ مَا هَذِهِ الواوُ؟ فَقَالَ: يَقُولُ الرَّجُل للرَّجُل بِعْني هَذَا الثَّوْبَ، فَيَقُولُ: وَهُوَ لَكَ، أَظُنُّه أَراد هُوَ لكَ؛ وَقَالَ أَبو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:

فإِذا وذلِكَ ليْسَ إِلَّا حِينَه، ***وإِذا مَضَى شيءٌ كأَنْ لَمْ يُفْعَلِ

أَراد: فإِذا ذلكَ يَعْنِي شَبابَه وَمَا مَضَى مِن أَيّام تَمَتُّعه؛ وَمِنْهَا وَاوُ النِّسبة، رُوِيَ عَنْ أَبي عَمرو بْنِ العَلاء أَنه كَانَ يَقُولُ: يُنْسَبُ إِلى أَخٍ أَخَويٌّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ، وإِلى الرِّبا رِبَوِيٌّ، وإِلى أُخْتٍ أُخَويٌّ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وإِلى ابْن بَنَوِيٌّ، وإِلى عالِيةِ الحِجاز عُلْوِيٌّ، وإِلى عَشِيَّة عَشَوِيٌّ، وإِلى أَبٍ أَبَوِيٌّ؛ وَمِنْهَا الواوُ الدَّائمةُ، وَهِيَ كُلُّ واوٍ تُلابِسُ الجَزاء وَمَعْنَاهَا الدَّوامُ، كَقَوْلِكَ: زُرْني وأَزُورَكَ وأَزُورُكَ، بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، فالنَّصْبُ عَلَى المُجازاةِ، ومَن رَفَعَ فَمَعْنَاهُ زيارَتَكَ عليَّ واجبةٌ أُدِيمُها لَكَ عَلَى كلِّ حالٍ؛ وَمِنْهَا الْوَاوُ الفارِقةُ، وَهِيَ كلُّ واوٍ دَخَلت فِي أَحَدِ الحَرْفين المُشْتَبِهين ليُفْرَقَ بينَه وَبَيْنَ المُشْبهِ لَهُ فِي الخَطِّ مِثْلُ واوِ أُولئِك وَوَاوِ أُولو.

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} و {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ}؛ زِيدَتْ فِيهَا الْوَاوُ فِي الْخَطِّ لتَفْرُق بينَها وبينَ مَا شاكَلَها فِي الصُّورةِ مِثْل إِلى وإِلَيْك؛ وَمِنْهَا وَاوُ عَمْرو، فإِنها زيدَتْ لِتَفْرُقَ بينَ عَمْروٍ وعُمَرَ، وزيدتْ فِي عَمْرٍو دونَ عُمَرَ لأَن عُمَرَ أَثقَلُ مِنْ عَمْرٍو؛ وأَنشد ابْنُ السِّكِّيتِ:

ثمَّ تَنادَوْا، بينَ تِلْكَ الضَّوْضَى ***مِنْهُمْ: بِهابٍ وهَلا ويا يا

نادَى مُنادٍ مِنْهُمُ: أَلا تَا، ***صَوْتَ امْرِئٍ للجُلَّياتِ عَيّا

قالُوا جَمِيعًا كُلُّهُم: بَلا فَا "أَي بَلَى فإِنَّا نَفْعَلُ، أَلا تَا: يُريد تَفْعَلُ، وَاللَّهُ أَعلم.

الْجَوْهَرِيُّ: الْوَاوَا صَوْتُ ابْن آوَى.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


53-صحاح العربية (درى)

[درى] دَرَيْتُهُ ودَرَيْتُ به دَرْيًا ودُرْيَةً ودِرْيَةً ودِرايَةً، أي علمت به.

وينشد:

لاهم لا أدرى وأنت الدارى *** وإنما قالوا: لا أدر بحذف الياء تخفيفا، لكثرة الاستعمال، كما قالوا لم أبل ولم يك.

وأدريته، أي أعلمته.

وقرئ: (ولا أدرأ كم به)، والوجه فيه ترك الهمز.

ومداراة الناس تهمز.

ولا تهمز، وهي المداجاة والملاينة.

قال الأًصمعي: الدَرِيَّةُ غير مهموز، وهي دابَّةٌ يستتر بها الصائد فإذا أمكنَه رَمى.

وقال أبو زيد: هو مهموز، لأنَّها تُدْرأ نحو الصيد، أي تُدفع.

قال الإخطل: فإن كنتِ قد أقْصَدْتِني إذ رَمَيْتِني *** بسَهمِكِ فالرامي يصيدُ ولا يَدْري أي لا يستتر ولا يَخْتِلُ.

وأنشد الفراء: فإن كنتُ لا أدري الظِباَء فإنَّني *** أدسُّ لها تحت التراب الداوهيا والمدرى: القرن.

قال النابغة الدبيانى يصف الثور والكلاب: شك الفَريضَةَ بالمِدْرى فأنفَذها *** شكَّ المُبَيْطِرِ إذ يشفى من العَضَدِ وكذلك المِدْراةُ وربَّما تُصلح بها الماشطة قرونَ النساء، وهى شئ كالمسلة تكون معها.

قال طرفة: تَهْلِكُ المِدْراةُ في أكنافه *** وإذا ما أَرْسَلَتْهُ يَعْتَفِرْ ويقال: تَدَرَّتِ المرأةُ، أي سرَّحتْ شعرها.

وقولهم: إنَّ بني فلان ادروا مكانا، كأنهم

اعتمدوه بالغزو والغارة.

قال سُحًيم بن وَثيل الرِياحيّ: أتتنا عامرٌ من أرض رامٍ *** مُعَلِّقَةَ الكَنائن تَدَّرينا وتَدَرَّاهُ وادَّراهُ بمعنىً، أي خَتَله، تَفَعَّلَ وافتعل بمعنى.

قال سحيم: وماذا تدرى الشعراء منى *** وقد جاوزت رأس الاربعين قال يعقوب: كسر نون الجمع لان القوافى مخفوضة.

ألا ترى إلى قوله: أخو خمسين مجتمع أشدى *** ونجذنى مداورة الشئون وقول الراجز: كيف تراني أذرى وأدرى *** غرات جمل وتدرى غررى فالاول إنما هو بالذال معجمة، وهو أفتعل من ذريت تراب المعدن.

والثانى بدال غير معجمة، وهو أفتعل من ادراه أي ختله.

والثالث تتفعل من تدراه أي ختله، فأسقط إحدى التاءين.

يقول: كيف تراني أذرى تراب المعدن وأختل مع ذلك هذه المرأة بالنظر إليها إذا غفلت.

وقولهم: جاب المدرى، أي غليظ القرن، يدل بذلك على صغر سنِّ الغزال ; لأنَّ قرنه في أوّل ما يطلع يغلُظ، ثم يَدِقُّ بعد ذلك إذا طال.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


54-تهذيب اللغة (برح)

برح: قال الليث بَرِحَ الرجلُ يَبْرَحُ بَرَاحًا: إذا رَام مِنْ موضعه ويقال ما بَرِحْتُ أَفْعَلُ كذا، بمعنى ما زِلْتُ.

وقال الله جلَّ وعزَّ {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ} [طه: 91] أي لن نزال.

وقول العرب: بَرِحَ الْخَفَاءُ، قال بعضُهم مَعْنَاه زال الخفاءُ، وقيل مَعْنَى بَرِحَ الخفاءُ أي ظهر ما كان خافيًا وانكشف، مأخوذٌ من بَرَاحِ الأرض وهو الظاهر البارز.

وقال اللَّيْثُ: البَرَاحُ: البَيَان، يقال جَاءَ بالكفر بَرَاحًا ويجوز أن يكون قولهم بَرِح الخَفَاءُ أي ظهر ما كنتُ أُخْفِي.

والبَارح من الظِّبَاءِ والطيرِ خلافُ السَّانح وقد مَرّ تفسيرها في باب (سنح) من هذا الكتاب.

وقال الدينوري: البَيّرُوخُ: هو اللُّقَّاحُ الأصْفُرُ مثل الباذنجان طيّبُ الرائحة ويدخل في الأدْوية، ويسمى المغْدَ أيضًا.

قال واللُّقَّاحُ أيضًا ضربٌ من الفِرْسِك أجرَدُ فيه حُمْرة.

وقال الليث: البارحُ من الرِّياح: التي تَحْمِلُ التُّرَابَ في شِدّة الهُبوب.

أبو عبيد عن أبي زيد قال: البَوَارحُ الشَّمْأَلُ في الصيفِ خاصةً.

قلت وكلامُ العرب الذين شاهَدْتُهم على ما قالَ أبو زيد.

وقال ابن كُنَاسةَ: كلّ ريحٍ تكون في نُجُوم القيْظِ فهي عند العربِ بَوَارحُ، قال وأكثرُ مَا تَهُبُّ بنجومِ الميزان، وهي السَمَائِم، وقال ذو الرمة:

لَا بَلْ هُوَ الشَّوْقُ من دارٍ تَخَوَّنَهَا *** مَرًّا سحابٌ ومَرًّا بَارحُ تَرِبُ

فنسبها إلى التُّراب لأنها قَيْظِيَّة لارِبْعِيَّة، ورياح الصيف كلُّها تَرِبَةٌ.

وقال الليثُ: يقال للمحموم الشديدِ الحُمَّى: أصَابَتْه البُرَحَاءُ، ويقال بَرَّحَ بنا فُلانٌ تَبْرِيحًا فهو مُبَرِّحٌ، وأنا مبرَّح: إذ آذاك بإلحَاحِ المَشَقّة، والاسم التَّبْرِيحُ والبُرْحُ.

وأنشد:

لنا والهوى بَرْحٌ على مَنْ يغَالِبُه*

والتباريح: كُلَفُ المعيشة في مشَقَّة.

وضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، ولا تقل مُبَرَّحًا.

ويقال هذا الأمرُ أَبْرَحُ عَلَيَّ من ذلك الأمرِ أي أَشَقُّ وأَشَدُّ.

وأنشد لذي الرمة:

أَنِينًا وشَكْوَى بالنَّهَارِ كثيرةٌ *** عَلَيَّ وما يأتي به الليلُ أبْرَحُ

أبو عبيد عن الأصمعي إذا تمدَّد المحموم لِلْحُمَّى فذلك المُطَوَاءُ فإذا تثاءب عليها فهي الثُّؤَبَاءُ، فإذا عرق عليها فهي الرُّحَضَاء، فإن اشتدت الحمى فهي البُرحَاءُ، والبرحاء: الشدَّة والمشقَّةُ.

قال أبو عبيد وقال الكسائي لقيت منه البِرَحينَ والبُرَحينَ.

وروى أبو العباس عن سَلَمَةَ عن الفرَّاءِ: لَقِيتُ منه بَنَاتِ بَرْحٍ وبني بَرْحٍ، كلُّ ذلك معناه الدَّاهيةُ والشدّة.

وقال غيره يقال: لقيت منه بَرْحًا بَارِحًا.

وقال أبو عمرو: ويَرْحَى له ومَرْحَى إذا تعجَّب مِنه.

وقال الأعشى:

أَبْرَحْتَ ربًّا وأَبْرَحْتَ جارا*

قال بعضهم: مَعْنَاهُ أَعْظَمْتَ ربًّا، وقالَ آخرون أَعْجَبْتِ رَبًّا، ويقال أُكْرِمْتَ مِن رَبِّ.

وقال الأصمعي: أَبْرَحْتَ: بَالَغْتَ، لُؤْمًا وأَبْرَحْتَ كَرَمًا أي جئتَ بأَمْرٍ مُفْرِط.

وقال ابن بُزُرْجَ: قالوا للمرأةِ: أبرحْتِ عائِذًا وأَبْرَحَتِ العائِذُ: إذا تَعَجَّبَ من جمَالها، وهي والدٌ ذاتُ صَبِيِّ وقال أبو عمرو: بُرْحةُ كل شيء خياره، ويقال للبعير هو بُرْحَةُ من البُرَح يريد أَنَّهُ من خيار الإبل.

قال: وأبْرَحَ فلانٌ رَجُلًا إذا فَضَله، وكذلك كلُّ شيء تُفضّله.

قال وقال العُذري: بَرَّح الله عنه، أي فرَّج الله عنه، قال: وإذا غضب الإنسانُ على صاحبه قيل: ما أشدَّ ما بَرِح عليه،

والعرب تقول فعلنا الْبَارِحةَ كذا وكذا، للَّيْلَةِ التي مَضَتْ يقال ذاك بعد زَوَال الشمس.

ويقولون قَبْلَ الزَّوال فعلنا الليلةَ كذا وكذا، وقول ذي الرمة:

تَبَلَّغ بَارِحي كَرَاهُ فيه*

قال بعضهم: أَرَادَ النومَ الذي شق عليه أمرُه لامتناعه منه ويقال أراد نوم الليلة البارِحة.

والعربُ تقولُ ما أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بالبارحةِ، أي ما أَشْبَهَ الليلةَ التي نحن فيها بالليلةِ الأولى التي قد بَرِحت أَوْ زَالت ومضت.

ويقال للشَّمْس إذا غَرَبت: دَلَكَت بَرَاحِ يا هذا، على فَعَالِ، المعنى أَنَّها زالت وبَرِحَت حين غَرَبَت.

وبَرَاحِ بمعنى بَارِحةٍ، كما قالوا لكلْبِ الصيْدَ كَسَابِ بمعنى كاسِبَةٍ، وكذلك حَذَامِ بمعنى حَاذِمَةٍ.

ومن قال دَلَكَت الشمسُ بِرَاحِ، فالمعنى أنها كادت تَغْرُب وقد وضع يده على حاجبه ينظر زوالها أَو غروبَها، ثعلب عن ابن الأعرابي دلَكت بِرَاحِ أي اسْتُريح منها.

وأنشد الفراء:

هذا مُقام قَدَمَيْ رَبَاحِ *** ذبَّبَ حتى دَلَكَتْ بِرَاحِ

يعني الشمسَ.

قال شمر قال ابن أبي ظبية العنبري:

بُكْرةً حتى دلكت براح

أي: بعشيِّ رائحٍ فأسقط الياء مثل جرف هار وهائِر.

وقال المفضّل دلكت بَراحِ وبَراحُ بكسر الحاء وضمها.

وقال أبو زيد دلكت براحٍ مجرورٌ منونٌ ودلكت براحُ مضموم غير منون.

حدثنا الكوفي حدثنا الحلواني حدثنا عفانُ عن حمادٍ بن سلمة عن حُمَيْدٍ، قال: قلنا للحسَن ما قوله ضربًا غير مبرِّح؟ قال: غير مؤثِّر.

وهو قولُ الفراء.

وقال ابنُ الأعرابيّ: دَلَكَت بَراحِ أي استُريح منها.

وروى شمر في حديث عكرمة أَنَّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم نهى عن التَّوْلِيهِ والتبْريح، قال التَّبْرِيحُ قَتْلُ السوءِ، جاء التفسيرُ مُتَّصِلًا بالحديث.

قال شمر ذكر ابن المبارك هذا الحديث مَعَ مَا ذُكِرَ من كراهةِ إلْقاءِ السَّمكة إذا كانت حَيَّة على النارِ.

وقال: أما الأكلُ فَتُؤْكلُ ولا يُعْجِبُني قال: وذكر بعضُهم أن إلقاءَ القَمْل في النارِ مثلُه.

قلت: ورأيت العربَ يملأون الوِعاء من الجَرادِ وهي تهتمش فيه، ويحتفرون حفرة في الرَّمل ويوقدون فيها، ثم يَكُبُّون الجَرادَ من الوعاءِ فيها ويُهيلون عليها الإرَّة حتى تموت، ثم يستخرجونَها ويشرِّرُونها في الشمس فإذا يبست أكلوها.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


55-تهذيب اللغة (خظا)

خظا: قال اللّيثُ: يقال: خَظَا يَخْظُو وَخَظِيَ يَخْظَى.

.

فَهُوَ خَاظٍ وَخَظٍ ـ وهو المكْتَنِزُ اللَّحْمِ.

والْخَظَاةُ ـ من كلِّ شيءٍ ـ: المُكْتَنِزَةُ.

وأنشد:

لها مَتْنَتانِ خَظَاتَا كَمَا *** أَكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ

قال بعضُ النَّحْوِيِّينَ: كُفَّ نُونُ «خَظَاتَانِ» ـ كما قالوا: «اللَّذَا»، وهُمْ يُرِيدون «اللَّذَانِ».

وقال الأَخْطَلُ:

أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا *** قَتَلَا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلَالا

وقيل: بل أُخْرِجَتْ على أصل التصريف.

كما يقال ـ للذكر ـ «خَظَا».

.

قالوا: للمرأتين: «خَظَاتَا».

.

لأن الواحدة يقال لها: «خَظَتْ، وغَزَتْ» ـ فَتُسْقِطُ الألِفَ التَّاءُ فلما تحركَتِ التَّاءُ في قولكَ: «خَظَتَا وَغَزَتَا» كان في القياس: أن تُتْرَكَ الألِفُ مكانها «خَظَاتَا وَغَزَاتَا» ولكنهم بَنَوُا التثنيةَ على عَقِب فِعْلِ الْوَاحِدِ.

.

فَأَلْزَمُوا طَرْحَ الألِف، وكان في «خَظَاتَا» رِوَايةٌ على هذا الْقِياس ـ فافهم.

فإذا جَمَعْتَ «الْخَظَاةَ» بالتاء.

قلتَ: خَظَوَاتٌ لأنَّ أَصْلَها الواوُ.

أبو عبيد ـ عن الفراء ـ: «خَظَا» و «بَظَا» و «كَظَا» ـ بغير هَمْزٍ ـ يعني اكتنزَ.

ومِثْلُه: «يَخْظُو، ويَبْظُو، ويَكْظُو».

وقال شمر: يقال «خَظَا يَخْظُو خَظْوًا» و «بظا يبظو بَظْوًا».

وأنشد:

بِأَيْدِيهِمْ صَوارِمُ مُرْهَفَاتٌ *** وكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ

قال: والْخَاظِي: الْغَلِيظُ الصُّلْبُ.

وقال الهُذَلِيُّ يصفُ حِمارًا:

خَاظٍ كَعِرْقِ السِّدْرِ يَسْ *** بِقُ غَارَةَ الْخُوصِ النّجَائِبِ

وأخبرني المنذريُّ ـ عن ثعلب عن ابن الأعرابيِّ ـ أنه قال ـ في قول امرىء القيس:

لَهَا مَتْنَتَانِ خظاتَا

أراد: «خَظَاتانِ».

.

فأسقط النون.

وقال أبو الهيثم: يقال فرس خَظٍ بَظٍ.

ثم يقال: خَظَا بَظَا ـ وكذلك خَظِيَةٌ بَظِيَةٌ.

ثم يقال: خَظَاةٌ بَظَاةٌ ـ تُقْلَبُ الياءُ أَلفًا ساكنة.

.

على لغة طَيِّيءٍ.

وأنشد:

وَمَتْنَانِ خَظاتَان *** كَزُحْلُوفٍ مِنَ الهَضْبِ

أراد «خَظِيَتَانِ».

وأنشد:

أَمْسَيْنَا أَمْسَيْنَا *** وَلَمْ تَنامِ الْعَيْنَا

كان أصله: «ولَمْ تَنَم الْعَيْنَانِ».

فلما حَرَّك المِيمَ لاستقبالها اللامَ: رَدَّ الأَلِفَ وأنشد:

مهْلًا ـ فِداءٌ لَكَ يا فَضَالهْ *** أَجِرَّهُ الرُّمْحُ ولَا تُهَالَهْ

أراد: «ولا تُهَلْهُ».

وقال آخَرُ:

حَتَّى تَحَاجَزْنَ عَنِ الذُّوَّادِ *** تَحاجُزَ الرِّيِّ وَلَمْ تَكادِ

أراد: ولم تَكَد

فلما حَرَّكَتِ القافيةُ الدالَ: ردَّ الألف.

قلت: وأما قولهم: حَظِيَتِ المرأةُ وبَظِيَتْ ـ من الْحُظْوَةِ ـ فهو بالحاء.

.

ولم أسمع فيه الخاء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


56-تهذيب اللغة (غبن)

غبن: الحراني عن ابن السكِّيت: الْغبْنُ في الشراءِ والبيعِ، يقال: غَبَنَهُ يَغْبِنُه غَبْنًا، والْغبَنُ: ضعفُ الرَّأْي، يقال في رَأْيه غَبَنٌ، وقد غَبِنَ رَأيه غَبَنًا.

أبو العباس عن ابن الأعرابيِّ قال: غَبَنْتُ الثَّوبَ أغْبِنه غَبْنًا: إذا طال فثنيته، وكذلك كَبَنْتهُ، وما قُطِعَ من أطرافِ الثوب فأسقط غَبَنٌ.

قال الأعشى:

يُسَاقِطُها كَسِقاطِ الْغَبَنْ

وقال الليث: يقال للفاترِ عن العمل:

غَابِنٌ، والمَغَابنُ: الأرْفاغُ، والآباطُ، واحدُها مَغبِنٌ وغَبَنْتُ الشيءَ: إذا خَبَّأْتهُ في المغبِنِ، والْغَبِينَةُ من الْغَبْنِ كالشتيمةِ من الشتم، ويقال: أَرى هَذا الأمرَ عليكَ غَبْنًا، وأنشد:

أجولُ في الدَّارِ لا أَراكَ وفي الدا *** رِ أَناسٌ جوارُهمْ غَبْن

وقال أبو إسحاقَ في قول الله جلَّ وعزَّ: {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ} [التغابن: 9]، يوم يَغْبنُ أهلُ الجنة أهل النار، ويغبنُ من ارتفعتْ منزلتهُ في الجنة من كان دُونه، وضربَ الله ذلكَ مثلًا للشِّرَاءِ والبيعِ كما قالَ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].

وقال أبو زيدٍ: غبنتُ الرجل فأَنا أغبنه غَبْنًا، وذلك أن يَمرَّ فلا تراه وَلا تَفْطُنَ له، وغَبَنْتُ الأمرَ غَبنًا إذا أَغْفَلْتُه وغَبنتُ في البيع غَبْنًا إذا غفلْت عنه بيْعًا كان أَو شراءً، وغبَنْتُ الرَّجل أغبِنه غَبْنًا في البيع

والشراء، وغبِيتُ الرجل أَغْبَاه أشَدَّ الغِباءِ، وهو مِثل الغَبْن.

ثعلبٌ عن ابن الأعرابي: أصلُ الغَبْنِ: ثَنْيُ الشيءِ من دَلْوٍ أو ثوبٍ ليَنقُص من طوله.

قال: وسُئل الحسن عن قول الله: {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ} [التغابن: 9] فقال: غَبَنَ أهلُ الجنَّة أهلَ النار: أي: استَنقصوا عقولهم باختيارهم الكفر على الإيمان.

ونظر الحَسن إلى رجُل غبَن آخرَ في بيعٍ فقال: إنَّ هذا يَغْبِنُ عقلَك.

قال أبو العباس: أي: يَنقُصُه.

وقال ابن الأعرابي: غبِنْتَ رأْيك: أي: نسِيتَه وضيَّعته، وأنشد:

غَبِنْتم تتابُعَ آلائِنا *** وحُسنَ الجِوار وقُرْبَ النَّسب

وقال ابن شميل: يقال: هذه الناقةُ ما شِئتَ من ناقةٍ ظَهْرًا وكرَمًا غير أنها مغبُونةٌ أي لا يُعلَم ذلك منها، وقد غبَنوا خبرها، وغبنوها: أي: لمْ يَعلموا عِلمها، والغَبْن: النِّسيان، وغَبِنْتُ كذا من حقِّي عند فلان أي نسِيتُه وغلِطتُ فيه.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


57-تهذيب اللغة (لام)

لام: اللام التي توصل بها الأسماء، والأفعال، ولها معانٍ شتّى، فمنها:

لام الملك

كقولك: هذا المالُ لِزيد، وهذا الفرسُ لِعَمرو.

ومن النحويين من يُسَمِّيها لام الإضافة.

سُمِّيت لام الملك لأنّك إِذا قلت: هذا لِزَيْد، عُلم أنه مِلْكُه.

وإذا اتَّصلت هذه اللام بالمكْنِيّ عنه نُصبت، كقولك: هذا المال له، ولَنا، ولكَ، ولَها، ولَهما، ولَهم.

وإنما فُتحت مع الكِنايات لأن هذه اللام في الأصل مفتوحة، وإِنما كسرت مع الأسماء لِيُفْصل بين لام القسم وبين لام الإضافة، ألا ترى أنك لو قُلت: إن هذا المال لِزيد، عُلم أنه مِلْكه، ولو قلت: إنّ هذا لَزَيْدٌ، عُلم أن المُشار إليه هو زَيد فكُسرت ليُفرق بينهما.

وإذا قلت: المالُ لكَ، فتحت؛ لأنّ اللَّبس قد زال.

وهذا قولُ الخليل والبَصْريّين.

لام كي

هي كقولك: جئتُ لِتَقُومَ يا هذا.

سُمِّيت لام كي لأنّ معناها: جئتُ لكي تَقُومَ.

ومعناها: معنى لام الإضافة، ولذلك كُسرت؛ لأن المعنى: جئت لِقيامك.

وقال الفَراء في قوله تعالى: {رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88]: هي لام كي.

المعنى: يا ربّ أَعْطَيتهم ما أعطيتهم ليضلّوا عن سَبيلك.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: الاختيار أن تكون هذه اللام وما أشبهها بتأويل الخَفْض.

المعنى: آتيْتهم ما آتَيْتهم لضلالهم.

وكذلك قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8] معناه: لِكَوْنه، لأنه قد آلت الحال إلى ذلك.

قال: والعربُ تجعل لام كي في مَعنى لام الخفض، ولام الخفض في معنى لام كي لتقارُب المعَنى.

قال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} [التوبة: 95].

المعنى: لإعراضكم عنهم، وهم لم يحلفوا لكي تُعرضوا، وإنما حلفوا لإعراضهم عنهم؛ وأَنْشد:

سَمَوْت ولم تكن أهلًا لِتَسْمُو *** ولكنّ المُضَيَّع قد يُصابُ

أراد: لم تكن أهلًا للسّمُوّ.

وقال أبو حاتم في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ} [التوبة: 121]: اللام في {لِيَجْزِيَهُمُ} لام اليمين، كأنه قال: ليجزينّهم، فحذف النون وكسر اللام، وكانت مفتوحة، فأشبهت في اللفظ لام كي، فنَصبوا بها كما نصبوا ب «لام كي».

قال: وكذلك قولُه تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} [الفتح: 1 و2].

المعنى ليغفرنّ الله لك.

وقال ابن الأنباري: هذا الذي قاله أبو حاتم غَلط، لأن لام القَسم لا تُكسر ولا يُنصب بها، ولو جاز أن يكون معنى (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ): ليجزينّهم، لقُلنا: والله ليقومَ زيد، بمعنى ليقومنّ، وهذا مَعدوم في كلام العرب.

واحتج أبو حاتم بأن العرب تقول في التعجُّب: أَظْرِفْ بزَيْد! فيَجْزمونه لشبهه بلفظ الأمر.

وليس هذا بمنزلة ذلك؛ لأن التعجّب عُدل إلى لفظ الأمر، ولام اليمين لم تُوجد مكسورة قطّ في حال ظهور اليمين، ولا في حال إضمارها.

قال أبو بكر: وسألت أبا العبّاس عن اللام في قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} [الفتح: 2]، فقال: هي لام كي.

معناه: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} لكي يَجتمع لك مع المغفرة تمامُ النّعمة في الفتح، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حَسُن معنى كي.

وكذلك قولُه تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [سبأ: 4] هي: لام كي، تتصل بقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] إلى قوله تعالى: {فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3] أحصاه عليهم لكي يَجْزِي المُحسن بإحسانه والمُسيء بإساءته.

لام الأمر

وهو كقولك: لِيضْرب زيْدٌ عمرًا.

قال أبو إسحاق: أصلها نَصْب، وإنما كُسرت ليفرّق بينها وبين لام التوكيد، ولا يبالي بشبهها بلام الجر؛ لأنّ لام الجر لا تقع في الأفعال، وتقع لام التوكيد في الأفعال، ألا ترى أنك لو قلت: لِيضرب، وأنت تأمر، لأشبه لامَ التوكيد،

إذا قلت: إنك لَتضربُ زيدًا.

وهذه اللام في الأمر أكثر ما تُستعمل في غير المُخاطب، وهي تجزم الفِعل، فإن جاءت للمُخاطب لم يُنْكر.

وقال الفراء: رُوي أن النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم قال في بعض المشاهد: «لِتأخذُوا مَصَافّكم».

يريد: خُذوا مَصافّكم.

وقال الله تعالى: {فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 85].

أكثر القُرّاء قرءوا بالياء.

ورُوي عن زَيد بن ثابت: {فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].

يريد أصحاب النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم، {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، أي ممّا يَجمع الكُفّار.

وقوّى قراءةَ أُبيّ «فَافْرَحُوا» وهو البِناء الذي خُلق للأَمر إذا واجَهْت به.

قال الفراء: وكان الكسائيّ يَعيب قولهم فَلْتفرحوا، لأنه وَجده قليلًا فجعله عَيْبًا.

وقرأ يعقوب الحَضْرميّ، بالتاء، وهي جائزة.

اللام التي هي للأمر في تأويل الجزاء

من ذلك قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} [العنكبوت: 12].

قال الفراء: هو أمر فيه تأويل الجزاء، كما أن قوله تعالى: {ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] نَهْيٌ في تأويل الجَزاء، وهو كثير في كلام العرب؛ وأنشد:

فقلت ادْعِي وأَدْعُ فإنّ أَنْدَى *** لِصَوْتٍ أن يُنَادِي داعِيان

أي: ادْعِي ولأَدعُ، فكأنه قال: إن دعوتِ دعوتُ.

ونحوَ ذلك قال الزّجاج.

وقال: يُقرأ قوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} [العنكبوت: 12] بسكون اللّام وبكسرهما، وهو أمرٌ في تأويل الشَّرط.

المعنى: إن تَتّبعوا سَبيلنا حَملنا خطاياكم.

لام التوكيد

وهي تَتصل بالأسماء والأفعال التي هي جوابات القَسَم وجواب إنّ.

فالأسماء كقولك: إنّ زيدًا لكريم.

والأفعال كقولك: إنّه ليذُبّ عنك.

وفي القسم: والله لأصلّين، ورَبّي لأصُومَنّ.

وقال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ} [النساء: 71] أي: ممّن أَظهر الإيمان لَمن يُبطِّىء عن القِتال.

قال الزّجاج: اللام الأولى التي في قوله (لَيُبَطِّئَنَ) لام القسم، و «من» موصولة بالجالب للقسم، كأنّ هذا لو كان كلامًا لقلت: إنّ منكم لَمن أحْلِف بالله والله ليبطِّئنّ.

قال: والنَّحويون مجمعون على أن «ما»

و «من» و «الذي» لا يُوصَلْن بالأمر والنّهي إلا بما يضمر معها من ذكر الخبر، وأن لام القسم إذا جاءت مع هذه الحروف فلفظ القسم وما أَشبهه لفظه مضمرٌ معها ومنها:

اللامات التي تؤكّد بها حُروف المجازاة

وتُجاب بلام أُخرى توكيدًا، كقولك: لئن فَعَلْت كذا لتندمَنّ، ولئن صَبَرت لَتَرْبَحَنّ.

ومنها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].

أخبرني المُنذريّ، عن أبي طالب النَّحوي، أنه قال: المَعنى في قوله: «لَما آتَيْتُكُمْ»: لمَهما آتيتكم، أي: أَيّ كتاب آتيتكم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ).

قال: وقال أحمد بن يحيى: قال الأخفش: اللام التي في (لَما آتَيْتُكُمْ) اسم، والذي بعدها صلة لها، واللام التي في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) لام القَسم، كأنه قال: والله لتؤمننّ، فوكّد في أول الكلام وفي آخره.

وتكون «من» زائدة.

وقال أبو العبّاس: هذا كلّه غلط.

اللام التي تدخل في أوائل الجزاءات تُجاب بجوابات الأَيمان، تقول: لَمَن قام لآتينّه.

فإذا وقع في جوابها «ما» و «لا» عُلم أنّ اللام ليست بتوكيد، لأنك تَضع مكانها «لا» و «ما».

وليست كالأولى، وهي جواب للأُولى.

قال: وأما قوله: (مِنْ كِتابٍ) فأَسْقط «من» فهذا غلط، لأن «من» التي تدخل وتخرج لا تقع إلا مواقع الأسماء، وهذا خبر، ولا تقع في الخبر، إنما تقع في الجَحد والاستفهام والجزاء، وهو قد جعل «لَما» بمنزلة: لَعَبد الله والله لقائمٌ، ولم يجعله جزاءً.

ومن اللامات التي تَصحب إنْ

فمرةً تكون بمعنى «إلا»، ومرة تكون صلة وتوكيدًا، كقول الله تعالى: {إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108].

فمن جَعل «إن» جحدًا جَعل اللام بمعنى «إلّا».

المعنى: ما كان وَعْد ربِّنا إلا مَفْعولًا.

ومن جعل «إن» بمعنى «قد» جعل اللام توكيدًا.

المعنى: قد كان وَعْد ربّنا مفعولًا.

ومثله قوله تعالى: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56]، يجوز فيها المَعْنيان.

لام التعجب ولام الاستغاثة

أخبرني المنذري، عن المبرّد: إذا استُغيث بواحد وبجماعة، فاللام مفتوحة، تقول: يا للرِّجال! يا لَلْقوم، يا لَزيد!

وكذلك إذا كنت تَدْعوهم.

فأما «لام» المدعو إليه فإنها تُكسر، تقول: يا للرّجال لِلْعَجب! ويا لَلرّجال لِلماء! وأَنْشد:

يا لَلرّجال لِيوم الأربعاء أمَا *** ينفكّ يُحْدِث بعد النَّهي لي طَرَبَا

وقال الآخر:

تكنّفني الوُشاةُ فأَزْعجوني *** فيا لَلنّاس للواشي المُطَاعِ

وتقول: يا لِلْعجب، إذا دعوت إليه، كأنك قلت: يا لَلنّاس لِلعجب.

قال: ولا يجوز أن تقول: يا لَزيد، وهو مقبل عليك، إنما تقول ذلك لِلْبعيد.

كما لا يجوز أن تقول: يا قَوماه، وهم مقبلون عليك.

فإن قلت: يا لَزيد، ولِعَمْرو، كسرت اللام في لعمرو، وهو مدعوّ، لأنك إنما فتحت اللام في زيد للفَصل بين المدعوّ والمدعوّ إليه، فلما عَطفت على زيد استغنيت عن الفعل، لأن المعطوف عليه في مِثل حاله؛ وأنشد:

* يا لَلْكَهول وللشبّان لِلْعجب*

والعرب تقول: يَا لَلْعَضيهة، ويا لَلْلأَفِيكة، ويا لَلْبَهِيتَةِ.

وفي اللامات التي في هذه الحروف وجهان:

فإن أردت بها الاستغاثة نَصَبتها.

وإن أردت أن تدعو إليها بمعنى التّعجب كسرتها، كأنَّك أردت: يا أيها الرجل اعْجب لِلْعضيهة، ويا أيّها الناس اعجبُوا للأَفيكة.

ومن اللامات:

لام التّعقيب

للإضافة، وهي تدخل مع الفعل الذي معَناه الاسم، كقَولك: فلان عابرُ الرُّؤْيا، وعابرٌ للرؤْيا؛ وفلان راهبُ ربّه، وراهبٌ لربّه.

ومن ذلك قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154].

وقال عزوجل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].

قال أحمد بن يحيى: إنما دخلت اللام تَعْقيبًا للإضافة.

المعنى: الذين هم راهبون لرَبّهم، ورهبُوا ربَّهم، ثم أدخلوا اللام على هذا المعنى لأنها عَقّبت الإضافة.

اللام التي بمعنى «إلى» وبمعنى «أجل»

وقد تجيء اللام بمعنى «إلى» وبمعنى «أجل».

قال الله جلّ وعزّ: {أَوْحى لَها} [الزلزلة: 5] أي: أوحى إليها.

وقال عزوجل: {وَهُمْ لَها سابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، أي: وهم إليها سابقون.

وقيل: في قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]، أي خَرُّوا من أجله سُجَّدًا، كقولك: أكْرَمت فلانًا لك، أي: من أَجلك.

وقال الله تعالى: {فَلِذلِكَ فَادْعُ} [الشورى: 15]، أي: إلى ذلك فادْع.

لام التعريف

قال الزّجاج وغيره: لام التعريف التي تصحبها الألف، كقولك: القومُ خارجون، والناس طاعنون الفرس والحمار، وما أَشبههما.

اللام الزائدة

ومنها: اللام الزائدة في الأسماء والأفعال، كقولك: فَعْمَلٌ للفَعْم، وهو المُمتلىء، وناقةٌ عَنْسل لِلْعَنس الصُّلْبَة.

وفي الأفعال، كقولك قَصْمَلَه، أي: كَسره، والأصل: قَصمه.

وقد زِيدت في «ذاك»، فقالوا: ذلك، وفي أولاك فقالوا: «أولالك».

اللام التي في «لقد»

وأما اللام التي في «لقد» فإِنها دخلت تأكيدًا ل «قد»، فاتصلت بها كأنها منها.

وكذلك اللام التي في «لَمَا» مخفّفة.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


58-تهذيب اللغة (ألف)

ألف: رَوى أبو عمرو، عن أحمد بن يحيى، ومحمد بن يزيد، أَنهما قالا: أُصول الألفات ثلاثة وتَتَبعها الباقيات:

ألف أصْلية، وهي في الثلاثي من الأسماء؛

وألف قطعية، وهي في الرُّباعيّ.

وألف وَصْليّة، وهي فيما جاوز الرّباعيّ.

قالا: فالأصلية مثل: ألِفٍ ألِفٍ، وإلْفٍ إلْفٍ؛ وما أشبهه.

والقطعية، مثل: ألف «أحمد» و «أحمر» وما أشبهه.

والوصلية، مثل ألف «استنباط» و «استخراج».

وهن في الأفعال إذا كانت أصلية مثل ألف «أكل»، وفي الرباعي إذا كانت قطعية مثل ألف «أحسن»، وفيما زاد عليه مثل ألف «استكبر» و «استدرج»، إذا كانت وصلية.

قالا: ومعنى ألف الاستفهام ثلاثة: تكون بين الآدميّين، يقولها بعضُهم لبعض استفهامًا.

وتكون من الجبّار لوليّه تقريرًا.

ولِعدوّه توبيخًا.

فالتّقرير، كقوله تعالى للمسيح عليه‌السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].

قال أحمد بن يحيى: إنما وقع التَّقرير لعيسى، لأنّ خُصومه كانوا حُضُورًا، فأراد الله من عيسى أن يكذِّبهم بما ادّعوا عليه.

وأمّا التّوبيخ لعدوّه، فكقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: 140]، و {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها} [الواقعة: 72].

قلت: فهذه أُصول الألفات.

وللنحويّين ألقابٌ لألفات غيرها، وأنا ذاكرها لك فتقف عليها:

فمنها: الألف الفاصلة، وهي في موضعَيْن:

إحداهما: الألف التي يُثبتها الكتبة بعد «واو» الجمع ليُفصل بها بين «واو» الجمع وبين ما بعدها، في مثل: كفروا، وشكروا.

وكذلك الألف التي في مثل: يَغْزوا،

ويَدْعوا.

وإذا استغنى عنها، لاتصال المكنى بالفِعل، لم تَثبت هذه الألف الفاصِلة.

والأُخرى: الألف التي فَصلت بين النون، التي هي علامة الإناث، وبين النون الثقيلة، كراهة اجتماع ثلاث نونات في مثل قولك للنّساء، وأنت تأمر: افْعلنانّ، بكسر النون وزيادة ألف بين النونين.

ومنها: ألف العبارة، لأنها تعبِّر عن المتكلم، مثل قولك: أنا أفعل كذا، وأنا أستغفر الله، وتسمّى: العاملة، وقد مَر ذكر اللغات التي فيها، فيما تقدّم من الكتاب.

ومنها: الألف المَجهولة، مثل ألف «فاعل» و «فاعول» وما أشبهها، وهي كل ألف تدخل في الأفعال والأسماء، مما لا أصل لها، إنما تأتي لإشباع الفتحة في الفِعل والاسم.

وهي إذا لَزمتها الحركة تصِير واوًا، كقولك: خاتم وخواتم، صارت «واوًا» لما لزمتها الحركة لسكون الألف بعدها، والألف التي بعدها هي أَلف الجمع، وهي مجهولة أيضًا.

ومنها: ألف العِوض، وهي المبدلة من التَّنوين المَنصوب، إذا وقفت عليها، كقولك: رأيت زيدًا، وفعلت خيرًا، وما أشبهها.

ومنها: ألف الصّلة، وهي ألف توصل بها فتحة القافية وفتحة هاء المؤنث:

فأما فتحة القافية، فمثل قوله:

* بانت سُعاد وأَمسى حبلها انْقَطعا*

فوصل فتحة العين بألف بعدها.

ومنه قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]: الألف التي بعد النون الأخيرة هي صِلة لفتحة النون:

ولها أخوات في تواصل الآيات، كقوله تعالى: {قَوارِيرَا} [الإنسان: 15] و {سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18].

وأَما فتحة هاء المؤنث، فقولك: ضربتها، ومررت بها.

والفرق بين أَلف الوصل وأَلف الصلة، أَن أَلف الوصل إنما اجْتلبت في أَوائل الأسماء والأفعال، وأَلف الصلة في أَواخر الأسماء كما تَرى.

ومنها أَلف النون الخفيفة، أصلها الثقيلة إلا أنها خففت؛ ومن ذلك قولُ الأعشى:

* ولا تَحْمد المُثْرين والله فاحْمَدَا*

بالنون الخفيفة، فوقف على الألف.

وقال آخر:

وقُمَيْرٍ بَدَا ابْن خَمْس وعِشْري *** ن فقالت له الفَتاتان قُومَا

أراد: قومن، فوقف على الألف.

وقال:

يَحْسَبه الجاهِلُ ما لم يَعْلَما *** شَيْخًا على كرسيّه معمّما

فنصب «يعلم» لأنه أراد: ما لم يعلمن.

بالنون الخفيفة، فوقف بالألف.

وقال أبو عكرمة الضّبيّ في قول امرىء القيس.

* قِفا نَبْك مِن ذِكْرى حَبيب ومَنْزل*

أراد: قِفن، فأبدل الألف من النون الخفيفة، كقولك: قُومًا، أراد: قُومن.

قال أبو بكر: وكذلك قوله تعالى: {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24].

أكثر الرواية أنّ الخِطاب لمالك خازن جَهنم وحده، فبناه على ما وصفناه.

وقيل: هو خطاب لمالك وملَك معه، والله أَعلم.

ومنها: ألف الجمع، مثل: مساجد، وجبال، وفُرسان، وفواعِل.

ومنها: ألف التَّفْضيل والتصغير: كقولك: فلان أَكرم منك، وألأم منك، وفلان أجهل الناس.

ومنها: ألف النداء، كقولك: أزيد، تُريد: يا زيد.

ومنها: ألف النّدبة، كقولك: وا زيداه.

أعني «الألف» التي بعد «الدال».

وتُشاكلها ألف الاستنكار، إذا قال الرجل: جاء أبو عمرو، فيُجيب المُجيب: أبو عَمْراه، زيدت الهاء على المدّة في الاسْتنكار، كما زيدت في: وا فلاناه، في النُّدبة.

ومنها: ألف التأنيث، نحو مدة: حمراء ونُفساء.

ومنها: ألف: سَكرى، وحُبْلَى.

ومنها: ألف التَّعايي، وهو أن يقول الرجل: إن عُمر، ثم يُرْتَج عليه كلامُه، فيقف على «عمر» ويقول: إن عُمرا، فيمدها مُستمدًّا لما يفتح له من الكلام، فيقول: مُنطلق.

المعنى: إن عمر مُنطلق، إذا لم يَتعَايَ.

ويفعلون ذلك في التَّرخيم، كقولك: يا عُما، وهو يريد «عُمر»، فيمد فتحة الميم بالألف ليمتدّ الصوت.

ومنها: ألفات المدّات، كقول العَرب ل «الكلكل»: الكَلْكال، ويقولون ل «الخاتم»: خاتام، ول «الدانَق»: دانَاق.

قال أبو بكر: العرب تصل الفتحة بالألف، والضمة بالواو، والكسرة بالياء.

فمن وَصْلهم الفتحة بالألف قولُ الراجز:

قُلْت وقد خَرّت على الكَلْكال *** يا ناقتي ما جُلْت عن مَجالِي

أراد: على الكَلكل، فوصل فتحة الكاف بالألف.

وقال آخر:

* لها مَتْنتان خظاتاكما*

أراد: خَظَتا.

ومِن وَصْلهم الضمّة بالواو: ما أَنْشده الفراء:

لو أنْ عَمْرًا هَمَّ أن يَرْقُودَا *** فانْهض فشُدّ المِئْزَرَ المَعْقُودَا

أراد: أن يَرْقُد، فوصل ضمّة القاف بالواو.

وأنشد أيضًا:

الله يعلم أنّا في تَلفُّتنا *** يومَ الفراق إلى إخْواننا صُورُ

وأنّني حَيْثما يَثْنِي الهوى بَصَري *** مِن حيثما سَلكُوا أدْنُو فأنْظُور

أراد: فأنظر.

وأنشد في وَصل الكسرة بالياء:

لا عَهْد لي بِنيضالِ *** أَصْبحتُ كالشَّنّ البالي

أراد: بنضال.

وقال:

* على عَجل منِّي أطأطىءُ شِيمالِي*

أراد: شمالي، فوصل الكسرة بالياء.

ومنها: الألف المحوَّلة، وهي كل ألف أصلها الياءُ والواو المُتحرَّكتان كقولك: قال، وباع، وقضا، وغزا، وما أشْبهها.

ومنها: ألف التَّثنية، كقولك: يجلسان، ويذهبان.

ومنها: ألف التَّثْنية في الأسماء، كقولك: الزَّيدان، والقَمران.

قال أبو زيد: وسمعتُهم يقولون: أَيَا أياه أَقْبل، وزنه: عَيَا عَيَاه.

وقال أبو بكر الأنباري: ألف القطع في أوائل الأسماء على وجهين: أحدهما: أن تكون في أوائل الأسماء المُفردة.

والوجه الآخر: أن تكون في أوائل الجمع.

فالتي في أوائل الأسماء تَعرفها بثباتها في التَّصْغير، بأن تَمتحن الألف فلا تجدها فاء، ولا عينًا، ولا لامًا؛ من ذلك قوله جلّ وعزّ: {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} [المؤمنون: 14] الألف في قطع، وتصغيره: أُحَيْسن.

وتقول في مثاله من الفِعل: افعل، فتجد الألف ليست فاءً، ولا عينًا، ولا لامًا.

وكذلك قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها} [النساء: 86].

والفرق بين ألف القطع وألف الوصل أن ألف الوصل «فاء» من الفعل، وألف القطع ليست: فاءً، ولا عينًا، ولا لامًا، وتدخل عليها الألف واللام التي هي للتعريف، تقول: الأبوان والأزواج، وكذلك ألف الجمع في السّتَة.

وأما ألفات الوصل في أوائل الأسماء فهي تسعة، ألف: ابن، وابنة، وابنين، وابنتين، وامرىء، وامرأة، واسم، واست.

فهذه ثمانية تكسر الألف في الابتداء وتحذف في الوصل.

والتاسعَة: الألف التي تدخل مع اللام للتَّعريف، وهي مفتوحة في الابتداء ساقطة في الوصل، كقولك: (الرَّحْمنُ)، و (الْقارِعَةُ)، و (الْحَاقَّةُ)، تسقط هذه الألفات في الوصل وتنفتح في الابتداء.

الياء: فمنها: ياء التأنيث في مثل: اضْربي، وتَضربين، ولم تَضربي.

وفي الأسماء: «ياء» حُبْلى، وعَطْشى؛ يقال: هما حُبْليان، وعَطْشيان، وجُماديان، و «ياء» ذِكْرى، وسيما.

ومنها: ياء التَّثنية والجمع، كقولك: رأيت الزيدَيْن.

ومنها: ياء الصِّلة في القوافي؛ كقول النابغة:

* يا دار مَيَّة بالعَلْياء فالسَّندِي*

فوصل كسرة الدال بالياء.

ومنها: ياء الإشباع في المَصادر والنُّعوت؛ كقولك: كاذبته كيذابًا، أراد: كِذَابا.

أراد أن يُظهر الألف التي في ضاربته في المصدر، فجعلوها ياءً، لكسرة ما قبلها.

ومنها: ياء «مسكين» و «عجيب» أرادوا بناء «مِفْعِل»، وبناء «فَعِل» فأَشْبَعوا بالياء.

ومنها: الياء المحوَّلة، مثل «ياء» الميزان، والميعاد، وقيل: ودُعي، وهي في الأصل «واو» فقُلبت ياءً لكسر ما قبلها.

ومنها: ياء النّداء؛ كقولك: يا زيد، ويقولون: أزَيد.

ومنها: ياء الاستنكار، كقولك: مررت بالحَسن، فيقول المُجيب مُستنكرًا لقوله: ألْحَسنيهْ، مدّ النون بياء، وألحق بها هاء الوقْف.

ومنها: ياء التّعايي، كقولك: مررت بالَحَسني، ثم تقول: أخي بَني فلان.

ومنها: ياء مدّ المُنادى، كندائهم: يا بِّشْر، يمدّون ألف «يا» ويُشدِّدون «باء» «بِشْر» ويمدونها.

بياء «يا بيشر»، يمدّون كسرة الباء بالياء، فيجمعون بين ساكنين؛ ويقولون: يا مُنْذير، يريدون: يا مُنْذر.

ومنهم من يقول: يا بشير، فيكسرون الشين ويُتبعونها الياء يمدّونها بها، يريدون: يا بِشْر.

ومنها: الياء الفاصلة في الأبنية، مثل: «ياء» صَيْقل، و «ياء» بَيْطار، وما أشبهها.

ومنها: ياء الهمزة، في الخطّ مرة، وفي اللفظ أخرى.

فأمّا الخط: فمثل «ياء»: قائم، ومائل، صُورت الهمزة ياء، وكذلك من: شركائهم، وأولئك، وما أشبهها.

وأمّا اللفظ فقولهم في جَمع «الخطيئة»: خطايَا؛ وفي جمع «المرآة»: مَرايا، اجتمعت همزتان فَليَّنوهما وجعلوا إحداهما ألفًا.

ومنها: ياء التَّصْغير، كقولك في تَصغير «عمرو»: عُمَير، وفي تصغير «ذا»: ذَيّا، وفي تَصغير «شيخ»: شُيَيْخ.

ومنها: الياء المُبدلة من لام الفِعْل، كقولك: الخامي، والسادي، للخامس والسادس، يفعلون ذلك في القوافي وغير القوافي.

ومنها: ياء الثَّعالي، يريدون: الثعالب؛ وأَنْشد:

* ولِضَفادِي جَمَّه نَقانِقُ*

يريد: لِضَفادع.

وقال الآخر:

إذا ما عُدّ أربعةٌ فِسالٌ *** فَزوْجكِ خامسٌ وأبوك سادِي

ومنها: الياء الساكنة تُترك على حالها في مَوضع الجَزم في بعض اللغات؛ وأَنْشد الفراء:

ألم يأتيك والأنباء تَنْمى *** بما لاقت لَبُون بني زيَادِ

فأثبت الياء في «يأتيك» وهي في موضع جزم.

ومثله قوله:

* هُزِّي إليك الجِذْعَ يُجْنِيْكِ الجَنَى*

ووجه الكلام: يُجْنبك.

وقد نَقلوا مثل ذلك في «الواو»؛ وأَنشد:

هجوتَ زيّان ثم جِئْتَ مُعْتذرًا *** من هَجْو زيّان لم تَهْجو ولم تَدَعِ

ومنها: ياء النِّداء، وحذفُ المنادى وإضماره، كقول الله تعالى، على قراءة مَن قرأ: ألّا يا اسجدوا لله [النمل: 25]، المعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا؛ وأَنْشد:

يا قاتلَ الله صِبْيانًا تجيء بهم *** أمُّ الهُنَيْنَين مِن زَنْدٍ لها وارِي

كأنه أراد: يا قوم، قاتل الله صبيانًا.

ومثله قوله:

يا من رأى بارقًا أُكَفْكفه *** بين ذِرَاعَي وجَبْهة الأَسَدِ

كأنه دعا: يا قوم، يا إخوتي، فلما أقبلوا عليه قال: من رأَى؟

ومنها: ياء نداء ما لا يُجيب تنبيهًا لمن يَعْقل؛ من ذلك قول الله تعالى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ} [يس: 30] و {يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] والمعنى: أن استهزاء العباد بالرُّسل صار حَسْرةً عليهم، فنُوديت تلك الحسرةُ تنبيهًا للمُتحسِّرين.

المعنى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ}، أين أنت فهذا أوانك، وكذلك ما أشبهه.

ومنها: ياآت تدل على أفعال بعدها في أوائلها ياآت؛ وأَنشد بعضهم:

ما للظّلِيم عاكَ كيف لايا *** يَنْقَدّ عنه جلدُه إذا يا

* يُذّرَى التُّرابُ خلفه إذْ رَايَا*

أراد: كيف لا ينقدّ جلده إذَا يُذْرَى الترابُ خَلْفه.

ومنها: ياء الجزم المُرسل والجَزم المُنْبسط.

فأما ياء الجزم المُرسل فكقولك: أَقضي الأمر، وتحذف لأن قبل الياء كسرة تَخلُف منها.

وأما ياء الجزم المُنبسط فكقولك: رأيت عبدي الله؛ ومررت بعبدي الله، لم تكن قبل الياء كسرة تكون عوضًا منها، فلم تَسْقط وكُسرت لالتقاء الساكنين، ولم تَسقط لأنه ليس منها خَلف.

أخبرني المُنذريّ، عن الحرّاني، عن ابن السّكيت، قال: إذا كانت الياء زائدة في حرف رباعيّ أو خماسيّ أو ثلاثيّ، فالرباعيّ: كالقَهْقرى، والخَوْزَلى، وبَعير جَلْعبى، فإذا ثَنّته العربُ أَسقطت الياء، فقالوا: الْخوزلان، والقهقران، ولم يثبتوا الياء فيقولا: الخوزَليان، ولا القَهْقريان، لأن الحرف كرّر حُروفه، فاسْتثقلوا مع ذلك جمع الياء مع الألف، وذلك أنهم يقولون في نَصبه لو ثُنّي على هذا: الخوزَليين، فثقُل وسقطت الياء الأولى.

وفي الثلاثي إذا حُرّكت حروفُه كُلها: الجَمزَى والوَثَبى، ثم ثَنَّوه فقالوا: الجَمزان، والوَثبان، ورأيت الجَمزَيْن والوَثَبْين.

قال الفراء: ما لم يَجتمع فيه ياآن كتبته بالياء للتأنيث، فإذا اجتمع الياآن كتبت إحداهما ألفًا لثقلها.

الواو: الواوات، لها معان مختلفة، لكُل معنى منها اسم تُعرف به.

فمنها: واو الجمع، كقولك، اضربوا، ويَضربون.

وفي الأسماء: المُسلمون.

ومنها: واو العطف، والفرق بينها وبين «الفاء» في المعطوف، أن الواو يُعطف بها جملة جُمل، ولا تَدلّ على الترتيب في تَقديم المُقدّم ذكره، وتأخير المؤخّر ذكرُه.

و «أما» الفاء فإنها يُوصل بها ما بعدها بالذي قبلها، والمقدّم هو الأوّل.

قال الفراء: إذا قلت: زُرت عبد الله وزيدًا، فأيهما شِئت كان المبتدأ بالزيارة.

وإذا قلت: زرت عبد الله فَزَيْدًا، كان الأول هو الأول والآخر هو الآخر.

ومنها: واو القسم تخَفْض ما بعدها؛ قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1، 2] ف «الواو» التي في

«الطور» هي واو القسم، والواو التي هي في {وَكِتابٍ} هي واو العطف، ألا ترى أنه لو عطف بالفاء كان جائزًا، و «الفاء» لا يقسم بها، كقوله تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا {1} فَالْحامِلاتِ وِقْرًا {2} } [الذاريات: 1، 2] غير أنه إذا كان بالفاء فهو مُتّصل باليمين الأولى، وإذا كان بالواو فهو شيء آخر أُقسِم به.

ومنها: واو الاستنكار، إذا قلت: جاءني الحسن، قال المُستنكر: الْحسَنُوه.

وإذا قلت: جاءني عَمْرو، قال: أعمْروه، يمدّ بواو، والهاء للوقفة.

ومنها: واو الصِّلة في القوافي؛ كقوله:

* قِف بالدِّيار التي لم يَعفها القِدَمُو*

فوُصلت ضمة الميم بواو تَمّ بها وزن البَيْت.

ومنها: واو الإشباع؛ مثل قولهم: البُرْقُوع، والمُعْلُوق.

وحكى الفراء: أَنظور، في موضع «أنظر»؛ وأنشد غيرُه:

* لو أنّ عَمْرًا همّ أَن يَرْقُودَا*

أراد: أن يرقد، فأشبع الضمة بالواو، ونَصَب «يرقودا» على ما يُنصب به الفعل.

ومنها: واو التَّعايي، كقولك: هذا عمرو، فيستمدّ، ثم يقول: مُنطلق.

وقد مضى بعض أخواتها في باب الألفات والياآت.

ومنها: واو مَدّ الاسم بالنداء؛ كقولهم: أيَا قُورط، يريد قُرْطًا، فمدّوا ضمّة القاف ليمتدّ الصوتُ بالنداء.

ومنها: الواو المُحوّلة، نحو، طُوبى، أصلها: طيِبى، فقلبت الياء واوًا، لانضمام الطاء قبلها، وهي من: طاب يَطيب.

ومنها: واو المُوقنين، والموسرين، أصلها: المُيْقنين، من: أيقنت، والمُيْسرين، من: أَيْسرت.

ومنها: واو الجزم المُرسل؛ مثل قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] فأسقط الواو لالتقاء الساكنين، لأن قبلها ضَمّة تخلفها.

ومنها جَزم الواو المُنْبسط؛ كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ} [آل عمران: 186] فلم يُسقط الواو وَحَرّكها لأن قبلها فتحة، ولا تكون عِوضًا منها.

هكذا أخبرني المُنذريّ به، عن أَبي طالب، وقال: إنما يَسقط أحد الساكنين إذا كان الأول من الجزم المُرسل انكسر ولم يسقط.

والجزم المُرسل كل وَاو قبلها فتحة، وياء قبلها كسرة، أو ألف قبلها فتحة.

فالألف كقولك للاثنين: اضربا الرجل، سَقطت الألف عند التقاء الساكنين، لأن قبلها فتحة فهي خلف منها.

ومنها: واوات الأبنية، مثل الجَورب، والتّورب، للتّراب والجورب، وما أشبهها.

ومنها: واو الهمزة في الخطّ واللّفظ.

فأما الخط، فقولك: هذه شاؤك، صورت الهمزة وَاوًا لضمّتها.

وأما اللفظ فقولك: حَمروان، وسوداوان.

ومثل قولك: أعيذك بأَسْماوات الله، وأبناوات سعد، ومثل «السَّماوات» وما أَشبهها.

ومنها: واو النداء، وواو النُّدبة.

فأما النّداء، فقولك: وا زيد.

وأما النّدبة، فقولك، وا زَيداه، وا لهفاه، وا غُربتاه.

ومنها: وَاو الحال، كقولك: أتيتُه والشمس طالعة، أي: في حال طلوعها؛ قال الله تعالى: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48].

ومنها: واو الوقت، كقولك: اعمل وَأنت صحيح، أي: في وقت صِحَّتك، والآن وأنت فارغ.

فهذا واو الوقت، وهي قريبة من واو الحال.

ومنها: واو الصَّرف.

قال الفراء: الصَّرف أن تأتي «الواو» مَعطوفة على كلام في أوله حادثة لا تَسْتقيم إعادتُها على ما عُطف عليها؛ كقوله:

لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتِيَ مِثْلَه *** عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيِمُ

ألا ترى أنه لا يَجوز إعادة «لا» على: «وتأتي مثله»، فلذلك سُمّي صَرْفًا، إذ كان معطوفًا ولم يَسْتقم أن يُعاد فيه الحادث الذي فيما قبله.

ومنها: التي تدخل في الأجوبة فتكون جوابًا مع الجواب، ولو حُذفت كان الجواب مُكتفيًا بنفسه؛ وأنشد الفراء:

حتى إذا قَمِلت بُطُونكمُ *** ورأيتُمُ أبناءكم شَبُّوا

وقَلبتُم ظَهْر المِجَنّ لنا *** إنّ اللئيم العاجزُ الْخَبُ

أراد: قلبتم.

ومثله في الكلام: لما أتاني وأثب عليه.

كأنك قلت: وثبت عليه.

قال: وهذا لا يجوز إلا مع «لما» و «حتى» و «إذا».

الأصمعي قال: قلت لأبي عَمرو بن العلاء: رَبّنا ولك الحمد، ما هذه الواو؟

فقال: يقول الرجل للرجل: بِعْني هذا الثوب، فيقول: وهو لك.

أصله يريد: هو لك؛ وقال أبو كبير الهُذلي:

فإذا وذلك لَيس إلا حِينَه

وإذا مَضى شيءٌ كأن لمْ يُفْعَلِ

أراد: فإذا ذلك، يعني شَبابه وما مضى من أيام تمتُّعه.

ومنها: واو النِّسْبة.

حكى أبو عبيد، عن اليَزيدي، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه كان يقول: يُنْسب إلى «أخ»: أخوي، وإلى «الرِّبَا»: رِبَويّ، وإلى «أخت»: أُخَويّ، وإلى «ابن»: بَنَوِيّ، وإلى «عالية» الحجاز: عُلْوِيّ، وإلى «عَشِيّة» عشويّ، وإلى «أب»: أبَوِيّ.

ومنها: الواو الدائمة، وهي كل وَاو تُلابس الجزاء، ومعناها: الدوام؛ كقولك: زُرْني وأَزورَك، وأزورُك، بالنصب والرفع.

فالنصب على المُجازاة، ومَن رَفع فمعناه: زيارتك عليّ واجبة أُديمها لك على كُلّ حال.

ومنها: الواو الفارقة، وهي كُل واو دَخلت في أحد الحرفين المُشْتبهين لُيفرق بينه وبين المُشْبه له في الخطّ، مثل واوِ «أولئك» وواو «أولى»؛ قال الله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31]: زيدت فيها الواو في الخط ليَفرق بينها وبين ما شاكلها في الصورة، مثل: إلي، وإليك.

ومنها: واو «عمرو» فإنها زيدت لتفرق بين «عمرو» و «عمر».

وزيدت في «عمرو» دون «عُمر»، لأن «عُمر» أثْقل من «عمرو».

الِّلحياني عن الكسائي: ما كان من ثلاثة أحرف وسطه «ألف» ففي فِعله لغتان: الواو والياء، كقولك: دَوّلت دالًا، وقَوّفت قافًا، أي كتبتهما: إلا «الواو» فإنها بالياء لا غير، لكثرة «الواوات»، فتقول فيها: وَيَّيْت واوًا حسنة، وغيره يقول: أَوَّيت، وبعضهم يقول: وَوَّيت.

الكسائي: تقول العرب: كلمة مُؤَوَّاة، مثل «مُعَوَّاة»، أي: مبنيّة من بنات «الواو».

غيره كلمة: مُؤَيّاة، من بنات «الواو» وكلمة مُيَوَّاة، من بنات «الياء».

وإذا صَغَّرت «الواو» قلت: أُوَيَّة؛ وإذا صغرت «الياء» قلت: أُيَيَّة.

غيره: هذه قصيدة واويّة، إذا كانت على «الواو»، ويائيّة، على الياء.

ويقال: أشبهت ياؤك يائِي، وأشبهت ياءَك، بوزن «ياعك».

فإذا ثَنّيت قلت: ياءَيّ، بوزن: «ياعَيّ».

وقال الكسائي: جائز أن تقول: يَيَّيت ياءً حسنةً، إذا كتبتها.

وكذلك: ووَّيت واوًا حَسنة.

وأما الألف فتأليفها من: همزة، ولام، وألف.

وقيل: إنها سُميت «ألفًا» لأنها تألف

الحروف، وهي أكثر الحُروف دُخولًا في المَنْطق.

ويقولون: هذه ألِفٌ مُؤَلَّفة.

وقد جاء عن بعضهم في قوله تعالى: {الم} [البقرة: 1] أن «الألف» من أسماء الله تعالى، والله أعلم بما أَراد.

وقال الخليل: وجدتُ كُلَّ «ياء» و «واو» في الهجاء لا تعتمد على شيء بعدها تَرجع في التَّصريف إلى «الياء»، نحو: يا، وفا، وطا، ونحوه.

روي عن ابن عباس في الحروف المُقطعة، مثل: الم، المص، المر، وغيرها: ثلاثة أقوال:

أحدهما: أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف، وأن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم هو الكتاب الذي عند الله لا شك فيه.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com