نتائج البحث عن (فَأُخْبَرَ)

1-شمس العلوم (عِنْدَ)

الكلمة: عِنْدَ. الجذر: عند. الوزن: فِعْل.

[عِنْدَ]: كلمة يخفض ما بعدها بالإضافة، وهي من ظروف المكان، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن، وقرأ الباقون (عِبادُ) جمع: عَبْد، وكذلك عن ابن عباس، وهو رأي أبي عُبيد قال: لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله فأخبر أنهم عبادُه.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


2-شمس العلوم (العُنُق)

الكلمة: العُنُق. الجذر: عنق. الوزن: فُعُل.

[العُنُق]: عُنُق الإنسان وغيره يذكَّر ويؤنث، قال الله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}.

ويقولون في الاستخلاف: أمانة الله في عنقك.

ولذلك قيل في عبارة الرؤيا: إن العنق موضع الأمانة والدين، فتكون قوتها وزيادتها قوة لصاحبها على أداء الأمانة، وضعفها عجزٌ عن ذلك.

والعُنُق: الجماعة من الناس، قال الله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ} أي: جماعاتهم، ولو أراد جمع عُنُق من البدن لقال: خاضعة.

قيل: والأعناق: أشراف القوم وسَرواتُهم.

وقيل: معناه: فظلوا خاضعين، فأخبر عن المضاف إليه، وجاء بالمضاف مُقْحَمًا توكيدًا، لأنهم إذا ذَلُّوا ذَلَّت رقابُهم، وإذا ذَلَّت رقابُهم ذَلُّوا، كما قال:

رأتْ مَرَّ السنين أخذن مني *** كما أخذ السِّرارُ من الهلال

وكقوله:

ويشرق بالقول الذي قد أذعتُهُ *** كما شرقت صدرُ القناةِ من الدم

وقال الكسائي: أي خاضعيها.

وعند البصريين لا يجوز مثل هذا الحذف.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


3-شمس العلوم (الملأ)

الكلمة: الملأ. الجذر: ملو/ملء. الوزن: فَعَل.

[الملأ]: أشراف الناس، والجميع: الأملاء، قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي}: قيل: سموا ملأً لأنهم مليؤون بما يراد منهم، وقيل: لأن هيبتهم تملأ الصدور.

وقوله تعالى: {عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}: قال الأخفش سعيد: الضمير يعود على الذرية؛ أي وملأ الذرية.

وقيل: الضمير يعود على قومه.

وقيل: إِن فرعون كان جبارًا فأخبر عنه بفعل الجميع.

وقيل: إِن الجماعة سميت لفرعون مثل ثمود.

وللفراء قولان: أحدهما: أن فرعون لمّا ذكر عُلِم أن معه غيره فعاد الضمير عليه وعليهم.

والقول الثاني: إِن التقدير: على خوف من آل فرعون وملائهم مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


4-شمس العلوم (وَرِثَ يَرِثُ)

الكلمة: وَرِثَ يَرِثُ. الجذر: ورث. الوزن: فَعِلَ/يَفْعِلُ.

[وَرِث] الشيءَ من الميت، وورث الميتَ وراثةً.

قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ} أي ورث منه الحكمة والعلم.

ومنه الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء»} أي في العلم.

وكذلك قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قرأ أبو عمرو والأعمش والكسائي بجزم الثاء، والباقون بالرفع، وهو اختيار أبي عُبيد، قال: لأن المعنى {فَهَبْ [لِي]} {مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} هذه حاله، لأن الأولياء منهم من لا يرث.

وردَّ أبو عبيد الجزم، قال لأن معناه وهبْت لي وليًا ورثني، لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، فكيف يخبر الله بهذا وهو أعلم به منه؟

وفي الحديث عن النبي عليه‌السلام: «لا نورث ما تركنا صدقة» قيل: معناه أن الأنبياء عليهم ‌السلام لا يورثون، وأن الذي في أيديهم مباحٌ لهم، ثم هو من بعدهم مصروف في المصالح، وقيل: ذلك له خاصةً فأخبر عن نفسه بلفظ الجمع.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


5-شمس العلوم (اليمامة)

الكلمة: اليمامة. الجذر: يمم. الوزن: فَعَالَة.

[اليمامة] واحدة اليمام من الطير.

واليمامة: اسم بلدٍ، سمي باليمامة، وهي امرأة كانت تنظر على مسير ثلاثة أيام، ولها حديث.

قال الأعشى:

ما نظرت ذاتُ أشفار كنظرتها *** حقًا كما صدق الذئبي إِذ سجعا

قالت: أرى رجلًا في كفه كتف *** ويخصف النعل لهفي أيَّةً صنعا

فكذبوها بما قالت فصبَّحهم *** ذو آل حسّان تُزجي الخيلَ والشَّرعا

يعني الملك الحميري حسّان بن أسعد تُبَّع؛ وذلك أنه خرج إِلى اليمامة منتصفًا لجديس من طسم فأخبر بنظر اليمامة على البُعد، فأمر جنوده أن يجعل كلٌ منهم على رأسه شيئًا من أغصان الشجر، وكانت اليمامة مشرفة على رأس حصنٍ تنظر، فصاحت بقومها وقالت: لقد جاءتكم حمير، أو سار إِليكم الشجر، ففنّدوها وقالوا: كيف يسير الشجر، ثم نظرت رجلًا منفردًا عن الجنود يخصف نعله فقالت: أرى رجلًا يخصف نعلًا أو يأكل كتفًا.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


6-شمس العلوم (يَزَن)

الكلمة: يَزَن. الجذر: يزن. الوزن: فَعَل.

[ذو يَزَن]: ملكٌ من ملوك حمير تنسب إِليه الرماح اليزنية والأزنية ويقال أيضًا يزأنيّة، بهمزة بعد الزاي.

قال قس ابن ساعدة:

والقَيْلَ ذا يَزَنٍ شهدت مكانَه *** قد كان حَرَّم عنه شرب الراحِ

وابنه سيف بن ذي يزن الذي قتل الحبشة وطردهم من اليمن؛ وذلك أنه استنجد بملكِ الروم فهمَّ بنصره، فأُخبر أن الحبشة نصارى على دينه، وأن سيفًا على دين اليهود فلم ينصره، فاستنجد بملكِ الفرس فوعده المادة بالمال فكرِه وقال: المال عندنا أكثر فأشار بعضُ مرازبة الملك عليه بأن يمده بمن في حبوسه، وقال: إِن ظفروا فأبناؤك، وإِن قُتلوا فأعداؤك، فأمدَّه (بهم ووهبهم له فسموا الأبناء) وقيل: إِنما سموا الأبناء لأنه كان يقال لهم: أبناء سيف، فسار بهم سيف، وتبعته قبائل (العرب فأباد الحبشة، وسبب) دخول الحبشةِ اليمنَ أن ذا ثَعلبان الملكَ الحميري أدخلهم لما أحرق ذو نواسِ الملك الحميري نصارى نجران في الأخدود وكان ذو ثَعلبان على دين النصارى.

قال سيف:

خَيَّمْتُ في لجج البحار فلم يكن *** للناس غير ترجُّم الأخبارِ

قالوا ابن ذي يزنٍ يسير إِليكمُ *** فحَذارِ منه ولات حين حذارِ

والعام عام قفوله ولعله *** نابت عليه نوائب الأقدارِ

حتى إِذا أمنوا المغار عليهم *** وافيتُ بين كتائب الأحرارِ

ما زلْتُ أقتل فلَّهم وشريدهم *** حتى اقتضيت من العبيد بثاري

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


7-معجم ما استعجم (بيسان)

بيسان: بفتح أوّله، وبالسين المهملة: موضعان؛ أحدهما بالشام، تنسب إليه الخمر الطيّبة، قال الأخطل:

«وجاءوا ببيسانيّة هى بعد ما *** يعلّ بها السّاقى ألذّ وأسهل»

والثانى بالحجاز، قال أبو داود:

«نخلات من نخل بيسان أينعن *** جميعا ونبتهنّ تؤام»

وقال نصيب:

سقى أهل مثوانا ببيسان وابل الرّبيع وصوب الديمة المتهلّل روى عن رجاء بن حيوة، أنه قال لعروة بن رديم: اذكر لى رجلين من صالحى أهل بيسان، فبلغنى أن الله اختصهم برجلين من الأبدال، لا ينقص منهم رجل إلا أبدل الله مكانه رجلا. لا تذكره لى متماوتا ولا طعّانا على الأئمة، فإنه لا يكون منهم الأبدال.

وذكر الزّبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بماء يقال له بيسان، فى غزوة ذى قرد، فسأل عنه، فقيل: اسمه يا رسول الله بيسان، وهو ملح. فقال:

بل هو نعمان، وهو طيّب. فغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وغيّر الله الماء. فاشتراه طلحة بن عبيد الله، ثم تصدّق به، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ما أنت يا طلحة إلّا فيّاض؛ فسمّى بذلك الفيّاض.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


8-معجم ما استعجم (مدين)

مدين: بلد بالشام معلوم تلقاء غزّة، وهو المذكور فى كتاب الله تعالى.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة إلى مدين، أميرهم زيد بن حارثة، فأصاب سبيا من أهل ميناء، قال ابن إسحاق: وميناء هى السواحل، فبيعوا، وفرّق بين الأمّهات وأولادهنّ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: ما لهم؟ فأخبر خبرهم، فقال: لا بيعوهم إلّا جميعا.

ومدين: منازل جذام. والصحيح فى نسبه أنه جذام بن عدىّ بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان. وشعيب النّبيّ عليه السلام المبعوث إلى أهل مدين أحد بنى وائل من جذام. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لوفد جذام: مرحبا بقوم شعيب، وأصهار موسى، ولا تقوم الساعة حتّى يتزوّج فيكم المسيح، ويولد له.

قال محمّد بن سهل الأحول: ومدين من أعراض المدينة أيضا، مثل فدك والفرع ورهاط.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


9-جمهرة اللغة (جزن جنز زجن زنج نجز نزج)

استُعمل من وجوهها؛ جَنَزْتُ الشيءَ أجنُزه جَنْزًا: إذا سترته.

وزعم قوم أن منه اشتقاق الجِنازة، ولا أدري ما صحته.

وأهل اليمن يسمّون البيت الصغير جَنْزًا.

وفي الخبر أن النَّوار لما احتُضرت أوصت أن يصلِّيَ عليها الحَسَن، فأُخبر الحَسَن بذلك فقال: إذا جنَّزتموها فآذنوني.

قال: فاستَبْرَكْنا هذه الكلمة من الحَسَن يومئذ.

وقال بعض أهل اللغة: الجِنازة: المَيْت بعينه.

وأنشدوا:

«حَنينَ الثَّكالى أوجعتْها الجنائزُ»

والزَّنج: جيل معروف، فأما قولهم الزِّنج فخطأ.

والزَّجْن: لغة في الزَّجْم، ما سمعتُ له زُجنة ولا زُجمة.

والنَّجْز: بِنْيَة قولهمِ: أنجزتُ الوعد فنَجَزَ.

ومن أمثالهم: "ضرْحَ الشَّموس ناجزًا بناجِزِ".

ومن أمثالهم: "أَنْجَزَ حُرّ ما وعد".

وتناجز القومُ في الحرب، إذا تسافكوا دماءهم كأنهم أسرعوا فيها.

ويقال: الُمحاجَزة قبل المُناجَزة.

وفي وصية بعضهم لبنيه: "إن أردتم المُحاجَزة فقبل المُناجَزة".

قال الشَّمّاخ:

«فقال إزارٌ شَرْعَبيٌّ وأربـعٌ*** من السِّيَراء، أو أواقٍ نَواجِزُ»

أي نَقْد سريع.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


10-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (دوعن)

دوعن

وأمّا دوعن: فإنّه اسم عجميّ فارسيّ كما يأتي في حوفة ـ ومنه تعرف انتجاع الأعجام بكثرة لبلاد حضرموت من عهد استيلاء الفرس على اليمن، حسبما سبق في حصن الغراب، ولم يزل بها وباليمن من أعقابهم الكثير، إلّا أنّهم اندمجوا فيهم مع مرور الأيّام، ودوعن يطلق على واديين بأعلى حضرموت، يقال لأحدهما: الأيمن، وهو مسيل مغروس بالنّخيل المثمنة، وعلى حفافيه بلدانه وقراه.

فأمّا شقّه الغربيّ:

فأوّل بلاده من أعلاه: قرحة آل باحميش: وهي على رأس الوادي الأيمن بين واديين، يقال لأحدهما: وادي النّبيّ، وهو الغربيّ، ويقال للآخر: وادي حموضة، في شرقيّه واد آخر يقال له: منوه.

وآل باحميش من حملة السّلاح وأهل النّجدة.

ومن متأخّري علمائهم: الشّيخ عليّ بن أحمد بن سعيد باصبرين، كان جبلا من جبال العلم، قال والدي: (زرت دوعن في شوّال من سنة «1290 ه‍»، فطفنا بلاد دوعن، ووجدنا أكثر أهلها يقرؤون القرآن لروح والدي؛ لأنّ ذلك كان حدثان وفاته من رمضان منها، ولمّا انتهينا إلى قرحة آل باحميش أوان المغرب.. أدركنا صلاتها في مسجدها خلف إمام حسن الأداء، شجيّ الصّوت، محافظ على السّنن والهيئات، وبعد أن فرغ من الأدعية والرّاتبة.. جلس للتّدريس في «شرح المقدّمة الحضرميّة»، وكان يكتب عليه حاشية، فسمعنا أحسن تدريس، وأتقن تحقيق، وأبلغ إلقاء، وأوضح تفهيم، ثمّ صلّى بنا العشاء بسورتين من أوساط المفصّل بصوت عذب أخذ بقلوبنا، وبقي طنينه بأسماعنا، وخيّل لنا أنّنا لم نسمع تلك السّور ولم تنزل إلّا تلك السّاعة، وما كاد يخرج من المسجد وبندقيّته على كتده إلّا وأشعل النّار في فتيلتها، فقلنا له: ما شأنك؟ قال: بيننا وبين قوم قتل ولم نأخذ صلحا، فتمثّلت لنا رسوم الصّحابة والسّلف الطّيّب، حيث اجتمعت العبادة والشّجاعة والعلم في ذلك الهيكل الشّريف، وهو شخص الشّيخ عليّ بن أحمد باصبرين).

«جمع الشّجاعة والعلوم فأصبحا *** كالحسن شيب لمغرم بدلال »

هذا ما يحدّثني بمعناه والدي ذات المرّات، فيبني في نفسي العلاليّ والقصور من الشّغف بالمجد والطّموح إلى الشّرف.

وقال السّيّد عمر بن حسن الحدّاد: (قرأت على الشّيخ عليّ باصبرين، وهو إمام في كلّ العلوم، حادّ الطّبع مثل الشّيخ عليّ بن قاضي باكثير) اه

وفي «مجموع» كلام العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس: (أنّ بعض العلماء المصريّين قال له: نعرف من الحضارم حدّة الطّبع، وأنت بعيد عنها، قال له: من عرفت من الحضارم؟ قال له: عرفت الشّيخ عليّا باصبرين، وجلست معه في الحرمين سنتين، فرأيت من حدّته ما لا مزيد عليه. فقال السّيّد أحمد: ذاك رجل من أهل البادية، وتلقّى شيئا من العلم، وقد حجر سلفنا وأشياخنا على المتعلّقين بهم الأخذ عنه؛ لأنّه ليس بأهل للإلقاء ولا للتّلقّي، ولا يخفى عليكم ما في طباع البادية من الغلظة والجفاء) اه

وهذا لا يخلو عن حيف كثير على الشّيخ باصبرين، ويكفي لردّه ما أخرجه الطّبرانيّ عن ابن عبّاس: «تعتري الحدّة خيار أمّتي»، وكان موسى عليه السّلام حديدا، وورد: «المؤمن سريع الغضب سريع الفيء»، وضمّ إليه ما سبق من أخذ سيّدنا عمر بن حسن الحدّاد عنه، وبإشارته كان تحويط الجمرتين بمنى، فسلم النّاس، ولا سيّما الضّعفاء من كثير من أضرار الزّحام، فلقد كان رأيه موفّقا، ولهذا بادر الشّريف بتنفيذه، وطلب منه أن يكثر التّردّد عليه كما أخبرني وجيه جدّة النّبيل محمّد بن حسين بن عمر نصيف عن جدّه، فأبى؛ لأنّه كان شريف النّفس عليّ الهمّة رحمة الله عليه.

وحدّثني الوجيه محمّد نصيف أيضا أنّ أحد الدّلّالين باع له بنّا من يهوديّ، فدلّس عليه في مئتي رطل، فأخبر الشّيخ ممتنّا عليه بهذا الصّنيع، فقال له الشّيخ: لا أرضى ولا أحبّ أن يطلبني اليهوديّ بحقّه في الدّار الآخرة، وردّ عليه ما اختانه الدّلّال. ومنه تعرف أنّ له تجارة بجدّة، وكانت دار هجرته ونشر علمه، وله بها تلاميذ كثيرون.

وقد علمت أنّ السّيّد عمر بن حسن الحدّاد قرأ عليه، وهو من مراجيح العلويّين.

وحدّثني الشّيخ عبد الله باحشوان ـ أحد قضاة المكلّا السّابقين ـ قال: (كنت مع الشّيخ عليّ باصبرين وأنا صغير، فسمع مزمارا فسدّ أذنيه بأصبعيه، وجعل يقول لي: هل تسمع شيئا؟ فأقول: نعم، حتّى قلت: لا، فأبعدهما، يتسمّت بذلك ما فعل عبد الله بن عمر مع مولاه نافع، ينقل ما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما سمع مزمار الرّاعي) [د 4924]، وقد جوّدت القول على هذه المسألة في كتابي «بلابل التّغريد».

وجرت بينه وبين علماء تريم منازعات في عدّة مسائل:

منها: التّوسّل والاستغاثة. ومنها: ثبوت النّسب بمشجّرات العلويّين المحرّرة، وكان الشّيخ يبالغ في إنكار ذلك، وألّفت رسائل من الطّرفين.

ففي سنة (1298 ه‍) فرغ الشّيخ عليّ باصبرين من رسالته الّتي سمّاها: «حدائق البواسق المثمرة في بيان صواب أحكام الشّجرة»، وقد علّق عليها السّيّد سالم بن محمّد الحبشيّ بما يشبه الرّدّ، وبعد اطّلاع باصبرين عليه كتب: (أمّا التّهاميش: فأمعنّا النّظر في جميعها.. فما وجدنا فيها زيادة فائدة عمّا في الأصل، فما زاد إلّا إتلاف ورق لم يؤذن له في إتلافه بتسويده بما لا يجدي فائدة جديدة).

وللحبيب أحمد بن محمّد المحضار شبه ردّ على باصبرين في «الحدائق» المذكورة، قال فيه: (وبعض النّاس قوله وبوله سواء).

ثمّ إنّ الشّيخ باصبرين كتب رسالة أخرى في نقض تعليقات السّيّد سالم الحبشيّ، سمّاها: «إنسان العين»، فكتب عليها الإمام المحضار كتابة طويلة، جاء فيها: (وما أوضحه الشّيخ عليّ في هذه الجملة.. فذاك شفاء الصّدور، تبرأ به العلّة، وهو مجرّب في تجربته، وحريص في أجوبته، وبالله الّذي فرض الصّلاة والوضوء ما أردته بسوء).

ثمّ إنّ الشّيخ عليّا سيّر كتابا للسّيّد محمّد بن عليّ، والسّيّد صافي بن شيخ آل السّقّاف، وسيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، والسّيّد عليّ بن محمّد، والسّيّد شيخان بن محمّد آل الحبشيّ.

فأمّا الأوّلان: فصرّحا بمخالفة باصبرين، وأمّا الآخرون.. فلم أر لهم كلاما بخلاف ولا وفاق. وكان كتابه إليهم في سنة (1299 ه‍).

وكثيرا ما ينشب الخلاف بين الشّيخ عليّ باصبرين وبين علماء العلويّين كآل يحيى بالمسيلة وغيرهم، وتؤلّف الرّسائل في الجانبين وتعرض على سيّدنا الإمام أحمد بن محمّد المحضار ـ صاحب القويرة ـ فيقرّظ عليهما، إلّا أنّه بأسلوبه العجيب وترسّله

العذب، وعارضته القويّة، وسيره بسوق الطّبيعة، يتخلّص من المآزق بما يذكّرني بما قاله ابن الجوزيّ، لمّا تواضع أهل السّنّة والشّيعة على ما يقوله، فسألوه وهو على المنبر عن عليّ وأبي بكر. أيّهما الأفضل؟ فأجاب بما لو روّى فيه عالم دهرا.. لم يوفّق إليه؛ إذ قال: (أفضلهما وأحبّهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بنته في بيته) أو ما هذا معناه، فحملها كلّ على ما يريد.

وقال الإمام المحضار في بعض كتاباته بتلك المناسبة: (والاعتماد على ما قاله الجمهور، لا ما قاله عبد الرّحمن مشهور)؛ يعني مفتي حضرموت لذلك العهد، صاحب «بغية المسترشدين»، وهو لا يقصد خلافه ولا إدخال المساءة عليه، ولكنّه قام في طريق الفاصلة وهو لا يبالي بشيء من أجلها؛ لأنّه يمرّ مع خاطره بلا تكلّف ولا تنطّع.

ولا غرو؛ فقد طلّق بعضهم امرأته من أجلها، وتكلّف الصّاحب بن عبّاد السّفر إلى قندهار ليقول:

«صدرت من قندهار *** في ضحوة النّهار»

وعند ما زار المحضار حضرموت وذهب لزيارة هود عليه السلام.. اتّفق حلول الجمعة بفغمة، فجمّع بها المحضار وتبعه كثير من النّاس، ولكنّ السّيّد المشهور لم يوافقه، بل انعزل بآل تريم وكثير من غيرهم، لا أدري ألشيء من أمثال ذلك أم للتّشدّد بما قال الشّافعيّة من شروط الجمعة.

ومن إهداء السّلام في كتب الشّيخ عليّ باصبرين للإمام المحضار.. يفهم أنّ له أولادا يهدي سلامهم إليه، ومنهم حسن بن عليّ باصبرين، قتله أحد آل ضروس غيلة بالقرحة في رمضان، ولا يزال بها أحفاده وعشائر آل باحميش إلى الآن، ومن وجهائهم أحمد بن يسلم باحميش وإخوانه.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


11-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حوطة سلطانة)

حوطة سلطانة

بين مريمه الشّرقيّة وقارة العر فضاء فيه نخيل، وله واد مخصوص، سكن فيه آل الزبيديّ، ثمّ اشتهر بحوطة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّ، وهي من أكابر الصّالحين، لها عبادات وأحوال تشبه أحوال رابعة العدويّة.

قيل: إنّ بعض أهل الفضل قال لها: (والبكرة يومها ناقه تماري الجمال).

فقالت: (الحمل بالحمل والزايد لبن والعيال) قال الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد في «ترجمته» للشّيخ عبد الله بن محمّد القديم: (كان الشّيخ عمر الزّبيديّ الحارثيّ من الصّالحين، وكانت له أخت اسمها سلطانة، لها أحوال عظيمة، وقد تحكّمت للشّيخ محمّد بن عبد الله القديم هي وإخوانها ورجعوا عن طريق العوامّ، وكان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف وأولاده أبو بكر وعمر يزورونها، وقد بنت رباطا بالعرّ) اه

ومنه يتأكّد ما ارتأيناه في مريمه الشّرقيّة من أنّ العرّ اسم شامل لذلك الفضاء بأسره، وأنّ القارة ليست إلّا منسوبة إليه.

ولرباط الشّيخة سلطانة ذكر كثير في كتب التّراجم الحضرميّة.

أمّا كون الشّيخة سلطانة تحكّمت هي وأخوها للشّيخ محمّد باعبّاد.. فلا يخالفه ما جاء في «مفتاح السّعادة والخير» لمؤلّف صاحب «القلائد» من قوله: (أخبرني من أعرفه وأشكّ في عينه، وأظنّه عليّ بن عثمان الزّبيديّ: أنّ سبب رجوع جدّهم عمر الزّبيديّ عن طريق الجهالة إلى طريق الفقر أنّه كمن ومعه غيره بطريق كحلان، فمرّ بهم بعير للفقيه محمّد بن حكم باقشير، فأخذوه ولم يعرفوا أنّه له، فأخبر الشّيخ محمّد بن حكم بذلك، فقال: إن كان أخذوه من حاجة وفاقة.. تاب الله عليهم. وكذلك كان، فحصل له رجوع صادق وتاب في الحال) اه لأنّه لو جاء إلى الشّيخ محمّد بن حكم وتاب على يده، وتحكّم له.. لذكر ذلك، ولكنّه لم يذهب إلّا إلى عند الشّيخ محمّد بن عبد الله باعبّاد بشبام، مع أنّ التّوبة لا تصحّ إلّا بالاستحلال وردّ المظلمة، وكيف يقبله الشّيخ محمّد باعبّاد من دونها، ولعلّه لم يعلم بذلك، أو لعلّه بلغه أنّ الشّيخ محمّد بن حكم حلّله، غير أنّ التّحليل المذكور في كلام باقشير لم يستوف الشّرائط. والله أعلم.

وكان للسّيّد الفاضل، الكثير الإحسان، طه بن عبد القادر بن عمر السّقّاف، المتوفّى بسيئون في سنة (1320 ه‍) تعلّق كثير بحوطة سلطانة وتردّد إليها، وقد ابتنى بها دارا واسعة للمنصب هي الّتي يسكنها الآن. وأكثر نفقاتها ممّا كان يرسله إليه الشّيخ زين بن عبد القادر بن أحمد بن عمر الزّبيديّ أخو المنصب لذلك العهد ـ الشّيخ كرامة بن عبد القادر ـ وكان الشّيخ زين هذا وقف حياته على خدمة الحبيب طه بن عبد القادر.. فكان يسافر السّفرات الطّويلة إلى جاوة، وكلّما عاد.. دفع جميع ما يأتي به من المال للحبيب طه. وكان هذا السّيّد آية من آيات الله في رقّة القلب، والانفعال عند سماع القرآن، وكان مطبوعا على الجود، حتّى إنّه ليستدين ويتصدّق، إلى أن بلغ دينه يوم مات خمسة عشر ألفا من الرّيالات، لم ينفقه إلّا في هذه السّبيل، فقضاه الله لصحّة قصده وإخلاص نيّته.

وولده أبو بكر بن طه من أهل العلم والأدب، والشّهامة والفضل، وهو الآن منذ زمان بسنغافورة، وله بها ابن ذكيّ نبيه، يحرّر صحيفة عربيّة تظهر تارة وتغيب أخرى.

وللزّبدة بلدان كثيرة ذاهبة في الوادي حفافي مسيال عدم، ما بين ساه والغرف ومسيلة آل شيخ؛ منها: الرّدود، وسونه، وتمران، وشريوف.

وللشّيخ سعيد بن محمّد الزّبيديّ نهضة أخضع بها آل جابر وآل تميم، وحرّر بها بيت مسلمة من أخذ الشّراحة منه بدون رضى من أرباب الأموال، وكانت تلك النّهضة في حدود سنة (1230 ه‍)، وقد استوفيناها ب «الأصل».

ومنصب الزّبدة اليوم العامّ هو: الشّيخ محمّد بن كرامة الزّبيديّ، من أكثر المناصب رمادا، وأوسعهم صدرا، وأكثرهم ضيفانا، وهو من التّواضع في الاعتبار الأوّل، لا تدلّ عليه هيئته الرّثّة، ولا يعرف إلّا بالتّعريف، وقد لدغته حيّة يعاوده سمّها في كثير من الأوقات، كما قال شاعر المعرّة [في «سقط الزند» 161 من الوافر]:

«ومن تعلق به حمة الأفاعي *** يعش ـ إن فاته أجل ـ عليلا»

ومن فحول الزّبدة: الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ، ممدوح شيخنا العلّامة ابن شهاب. وهو صاحب القصّة السّابقة في شبام وإلى رأيه يرجع كثير من العظماء عند المهمّات.

ومنهم: الولد النّجيب عبد الله بن أبي بكر بن أحمد الزّبيديّ.

ومرجعهم في النّسب إلى مذحج، وقيل: إلى بني أميّة، ويؤكّده أنّهم يتّفقون مع آل سند، وقد مرّ في الدّحقه الّتي إلى جنب الحزم: أنّهم من بني أميّة.

ومن النّاس من ينسب بني حارثة إلى كندة، والزّبدة مصفقون على أنّهم من بني أميّة، والنّاس مأمونون على أنسابهم.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


12-التوقيف على مهمات التعاريف (الحديث القدسي)

الحديث القدسي: ما أخبر الله نبيه بإلهام أو منام. فأخبر عن ذلك المعنى بعبارته، فالقرآن مفضل عليه بإنزال لفظه أيضًا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


13-القاموس المحيط (الأحمر)

الأَحْمَرُ: ما لَوْنُهُ الحُمْرةُ، ومن لا سِلاحَ معه، جَمْعُهُما حُمْرٌ وحُمْرانٌ، وتَمْرٌ، والأَبْيَضُ، ضِدُّ، ومنه الحديثُ: "يا

حُمَيْراءُ" والذَّهَبُ، والزَّعْفَرانُ، واللَّحْمُ، والخَمْرُ.

والأَحَامِرَةُ: قومٌ من العَجَمِ نَزلوا بالبَصْرَةِ، واللَّحْمُ، والخمرُ، والخَلوقُ.

والموتُ الأَحْمَرُ: القَتْلُ أو الموتُ الشَّديدُ. وقولُهُم: الحُسْنُ أحمرُ، أي: يَلْقَى العاشِقُ منه ما يَلْقَى من الحَرْبِ.

والحَمْراءُ: العَجَمُ، والسَّنَةُ الشديدَةُ، وشِدَّةُ الظَّهيرَةِ، ومَدينةُ لَبْلَةَ،

وع بِفُسْطاطِ مِصْرَ، وبالقُدْسِ،

وة باليَمَنِ.

وحَمْراءُ الأَسَدِ: ع ثَمانِيَةِ أميالٍ من المَدِينةِ، وثَلاثُ قُرًى بِمِصْرَ.

والحِمارُ: م، ويكونُ وحْشِيًّا

ج: أحْمِرَةٌ وحُمُرٌ وحَمِيرٌ وحُمورٌ وحُمُرَاتٌ ومَحْمُوراءُ،

و=: خَشَبَةٌ في مُقَدَّمِ الرَّحْلِ، والخَشَبَةُ يَعْمَلَ عليها الصَّيْقَلُ، وثلاثُ خَشَباتٍ تُعَرَّضُ عليها خَشَبَةٌ وتُؤْسَرُ بها، ووادٍ باليَمَنِ، وبِهاءٍ: الأَتَانُ، وحَجَرٌ يُنْصَبُ حَوْلَ بَيْتِ الصائِدِ، والصَّخْرَةُ العظيمَةُ، وخَشَبَةٌ في الهَوْدَجِ، وحَجَرٌ عَريضٌ يُوضَعُ على اللَّحْدِ

ج: حَمائِرُ، وحَرَّةٌ،

وـ من القَدَمِ: المُشْرِفَةُ فَوْقَ أصابِعِها، والفَريضَةُ المُشَرَّكَةُ الحِمارِيَّةُ.

وحِمارُ قَبَّانَ: دُوَيْبَّةٌ.

والحِمارانِ: حَجَرانِ يُطْرَحُ عليهما آخَرُ، يُجَفَّفُ عليه الأَقِطُ.

و"هو أكفَرُ من حِمارٍ" هو ابنُ مالِكٍ، أو مُوَيْلِعٍ، كان مُسْلِمًا أربعينَ سنةً في كَرَمٍ وجُودٍ، فَخَرَجَ بَنُوهُ عَشَرَةً للصَّيْدِ، فأصابَتْهُمْ صاعِقَةٌ، فَهَلَكُوا، فَكَفَرَ وقال: لا أعْبُدُ من فَعَلَ بِبَنِيَّ هذا، فَأَهْلَكَهُ اللهُ تعالى، وأخْرَبَ وادِيَهُ، فَضُرِبَ بِكُفْرِهِ المَثَلُ.

وذو الحِمارِ: الأَسْودُ العَنْسِيُّ الكَذَّابُ المُتَنَبِّئُ، كانَ له حمارٌ أسْودُ مُعَلَّمُ، يقولُ له: اسْجُدْ لرَبِّكَ، فَيَسْجُدُ له، ويقولُ له: ابْرُكْ، فَيَبْرُكُ.

وأذُنُ الحمارِ: نَبْتٌ.

والحُمَرُ، كصُرَدٍ: التَّمْرُ الهِنْدِيُّ،

كالحَوْمَرِ، وطائِرٌ، وتُشَدَّدُ الميمُ واحِدَتُهُما: بهاءٍ. وابنُ لِسانِ الحُمَّرَةِ، كسُكَّرَةٍ: خَطيبٌ بليغٌ نَسَّابَةٌ، اسْمُهُ عبدُ اللهِ بنُ حُصَيْنٍ، أو ورْقاءُ بنُ الأَشْعَرِ.

واليَحْمُورُ: الأَحْمَرُ، ودابَّةٌ، وطائِرٌ، وحِمارُ الوَحْشِ.

والحَمَّارَةُ، كجَبَّانَةٍ: الفَرَسُ الهَجِينُ،

كالمُحَمَّرِ، فارِسِيَّتُهُ: بالانِي، وأصحابُ الحَمِيرِ،

كالحامِرَةِ، وبتخفيفِ الميمِ وتشديدِ الراءِ وقد تُخَفَّفُ في الشِّعْرِ: شِدَّةُ الحرِّ.

وأحْمَرُ: مَوْلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَوْلًى لأُمِّ سَلَمَةَ، وابنُ مُعاويَةَ بنِ سُلَيْمٍ، وابنُ سَواءِ بنِ عَدِيٍّ، وابنُ قَطَنٍ الهَمَذانِيُّ، والأَحْمَريُّ المَدَنِيُّ: صحابيُّونَ.

والحَمِيرُ والحَمِيرَةُ الأُشْكُزُّ: لسَيْرٍ في السَّرْجِ،

وحَمَرَ السَّيْرَ: سَحَا قِشْرَهُ،

وـ الشاةَ: سَلَخَها،

وـ الرَّأسَ: حَلَقَه.

وغَيْثٌ حِمِرٌّ، كفِلِزٍّ: يَقْشِرُ الأرضَ.

والحِمِرُّ من حَرِّ القَيْظِ: أشدُّه،

وـ من الرجلِ: شَرُّهُ.

وبنُو حمِرَّى، كزِمِكَّى: قبيلةٌ.

والمِحْمَرُ، كمِنبرٍ: المِحْلأُ، والذي لا يُعْطِي إلاَّ على الكَدِّ، واللئيمُ.

وحَمِرَ الفرسُ، كفَرِحَ: سَنِقَ من أكْلِ الشَّعِيرِ، أو تَغَيَّرَتْ رائِحةُ فيه،

وـ الرجلُ: تَحَرَّقَ غَضَبًا،

وـ الدابَّةُ: صارَتْ من السِّمَنِ كالحِمارِ بَلادَةً.

وأُحامِرُ، بالضم: جبلٌ،

وع بالمدينةِ، يُضافُ إلى البُغَيْبِغَةِ، وبهاءٍ: رَدْهَةٌ.

والحُمْرَةُ: اللَّوْنُ المَعْرُوفُ، وشجرةٌ تُحِبُّها الحُمُرُ، وورَمٌ من جِنْسِ الطَّواعِينِ. وحُمْرَةُ بنُ يَشْرَحَ بنِ عبدِ كُلالٍ: تابِعيٌّ، وابنُ مالكٍ في هَمْدانَ، وابنُ جَعْفَرِ بنِ ثَعْلَبَةَ في تَميمٍ. ومالكُ بنُ حُمْرَةَ: صَحابِيٌّ. ومالكُ بنُ أبي حُمْرَةَ الكُوفِيُّ، والضَّحَّاكُ بنُ حُمْرَةَ، وعبدُ اللهِ بنُ علِيِّ بنِ نَصْرِ بنِ حُمْرَةَ، وهو ضعيفٌ: محدِّثونَ.

وحُمَيِّرٌ، كمُصَغَّرِ حمارٍ: ابنُ عَدِيٍّ، وابنُ أشْجَعَ: صحابيَّانِ. وحُمَيِّرُ بنُ عَدِيٍّ العابِدُ: محدِّثٌ. وكزُبَيْرٍ: عبدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ: ابنا حُمَيْرِ بنِ عمرٍو، قُتلا مع عائِشَةَ.

ورُطَبٌ ذُو حُمْرَةٍ: حُلْوَةٌ.

وحُمْرانُ، بالضم: ماءٌ بِديارِ الرَّبابِ،

وع بالرَّقَّةِ، وقَصْرُ حُمْرانَ بالبادِيَةِ،

وة قُرْبَ تَكْريتَ.

وحامِرٌ: ع على الفُراتِ، ووادٍ في طَرَفِ السماوَةِ، ووادٍ وراءَ يَبْرِينَ، ووادٍ لبني زُهَيْرِ بنِ جَنابٍ،

وع لِغَطَفانَ.

وأحْمَرَ: وُلِدَ له ولَدٌ أحْمَرُ،

وـ الدابَّةَ: عَلَفَها حتى تَغَيَّرَ فُوها.

وحَمَّرَهُ تَحْمِيرًا: قال له: يا حِمارُ، وقَطَعَ كَهَيْئَةِ الهَبْرِ، وتَكَلَّمَ بالحِمْيَرِيَّةِ،

كتَحَمْيَرَ، ودَخَلَ أعْرابِيٌّ على مَلِكٍ لِحِمْيَرَ، فقال له ـ وكان على مكانٍ عالٍ ـ ثِبْ، أي: اجْلِسْ بالحِمْيَرِيَّةِ، فوثَبَ الأَعْرابِيُّ، فَتَكَسَّرَ، فسألَ المَلِك عنه، فأخْبِرَ بلُغَةِ العَرَبِ، فقالَ: ليسَ عندنا عَرَبِيَّتْ، مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّرَ، أي: فَلْيُحَمِّرْ.

والتَّحْمِيرُ أيضًا: دَبْغٌ رَدِيءٌ.

وتَحَمْيَرَ: ساءَ خُلُقُهُ.

واحْمَرَّ احْمِرارًا: صارَ أحْمَرَ،

كاحْمارَّ،

وـ البأسُ: اشْتَدَّ.

والمُحْمِرُ: الناقةُ يَلْتَوِي في بَطْنها ولدُها، فلا يَخْرُجُ حتى تَمُوتَ.

والمُحَمِّرَةُ، مشدَّدةً: فِرْقَةٌ من الخُرَّمِيَّةِ يُخالِفونَ المُبَيِّضَةَ، واحِدُهُمْ: مُحَمِّرٌ.

وحِمْيَرٌ، كدِرْهَمٍ: ع غَربيَّ صَنْعاءِ اليَمنِ، وابنُ سَبَأ بنِ يَشْجُبَ: أبو قبيلةٍ. وخارِجَةُ بنُ حِمْيَرٍ: صحابِيٌّ، أو هو كتَصْغِيرِ حِمارٍ، أو هو بالجيمِ، وتقدَّمَ. وسَمَّوْا حِمارًا وحُمْرانَ وحَمْراءَ وحُمَيْراءَ.

والحُمَيراءُ: ع قُرْبَ المدينةِ. ومُضَرُ الحَمْراءِ: لأَنَّهُ أُعْطِيَ الذَّهَبَ من ميراثِ أبيه، ورَبيعةُ أُعْطِيَ الخَيْلَ، أو لأَنَّ شعارَهُم كانَ في الحَرْبِ الرَّاياتِ الحُمْرَ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


14-القاموس المحيط (براقش)

أبو بَرَاقِشَ: طائرٌ صغيرٌ بَرِّيٌّ كالقُنْفُذِ، أعْلَى ريشِهِ أغَرُّ، وأوسَطُهُ أحْمَرُ، وأسْفَلُهُ أسْوَدُ. فإذا هُيِّجَ، انْتَفَشَ فَتَغَيَّرَ لَوْنُه ألْوانًا شَتَّى.

والبِرْقِشُ، بالكسر: طائِرٌ آخَرُ يُسَمَّى الشُّرْشُورَ، وشاعِرٌ تَيْمِيٌّ.

والبَرْقَشَةُ: التَّفَرُّقُ، وخَلْطُ الكلامِ، والإِقْبَالُ على الأكلِ.

وبراقِشُ: كَلْبَةٌ سَمِعَتْ وَقْعَ حَوافِرِ دَوابَّ، فَنَبَحَتْ، فاسْتَدَلُّوا بِنُبَاحِهَا على القبيلةِ، فاسْتَبَاحُوهم، أو اسمُ امرأةِ لُقْمَانَ بنِ عادٍ، اسْتَخْلَفَهَا زَوْجُها، وكان لهُمْ مَوْضِعٌ، إذا فَزِعُوا، دَخَّنُوا فيه، فَيَجْتَمِعُ الجُنْدُ. وإنَّ جَوارِيها عَبِثْنَ لَيْلَةً، فَدَخَّنَّ، فاجْتَمَعُوا، فقيل لها: إنْ رَدَدْتِيهِم ولم تَسْتَعْمِلِيهِمْ في شيءٍ، لم يَأْتِكِ أحدٌ مَرَّةً أُخْرَى. فأمَرَتْهُمْ، فَبَنَوْا بناءً. فلما جاءَ، سألَ عن البِناءِ، فأُخْبرَ. فقال: "على أهْلِهَا تَجْنِي بَراقِشُ"، يُضْرَبُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ عليه. أو كان قَوْمُهُمْ لا يأكُلُونَ الإِبِلَ، فأصابَ لُقْمَانُ من بَراقِشَ غُلامًا، فَنَزَلَ مع لُقْمَانَ في بني أبِيها، فَراحَ ابنُ بَراقِشَ إلى أبِيهِ بِعَرْقٍ من جَزُورٍ، فأكَلَ لُقْمَانُ، فقال: ما هذا؟ فما تَعَرَّقْتُ طَيِّبًا مِثْلَهُ. فقال: جَزورٌ نَحَرَها أخْوالي. فقالت: جَمِّلُوا واجْتَمِلْ. أي: أطْعِمْنَا الجَمَلَ، واطْعَمْ أنتَ منه. وكانتْ بَراقِشُ أكثَرَ قَوْمِهَا بعيرًا، فأقْبَلَ لُقْمَانُ على إبِلِهَا، فأسْرَعَ فيها، وفَعَلَ ذلك بَنُو أبيه، لَمَّا أكلوا لَحْمَ الجَزُورِ. فقيل: "على أهْلِهَا تَجْنِي بَراقِشُ".

وبَراقِشُ وهَيْلاَنُ: جَبَلانِ، أو وادِيَانِ، أو مَدينَتانِ عادِيَّتانِ باليمنِ خَرِبَتَا.

وبَرْقَشَ عليَّ في الكلامِ: خَلَّطَهُ،

وـ في الأكلِ: أقْبَلَ عليه، أو خَلَطَهُ.

أو البَرْقَشَةُ: التَّفَرُّقُ، واخْتِلاَفُ لونِ الأَرْقَشِ،

وتَبَرْقَشَ لنا: تَزَيَّنَ بألْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


15-القاموس المحيط (سرق)

سَرَقَ منه الشيءَ يَسْرِقُ سَرَقًا، مُحرَّكةً، وككتِفٍ، وسَرَقَةً، مُحرَّكةً، وكفَرِحَةٍ، وسَرْقًا، بالفتحِ،

واسْتَرَقَهُ: جاءَ مُسْتتِرًا إلى حِرْزٍ، فأَخَذَ مالًا لِغَيْرِهِ، والاسْمُ:

السَّرْقَةُ، بالفتحِ، وكفَرِحَةٍ وكَتِفٍ.

وسَرِقَ، كفَرِحَ: خَفِيَ.

والسَّرَقُ، مُحرَّكةً: شُقَقُ الحَريرِ الأبْيَضِ، أو الحَريرُ عامَّةً، الواحدَةُ: بهاءٍ.

وسَرِقَتْ مَفاصِلُهُ، كفَرِحَ: ضَعُفَتْ،

كانْسَرَقَتْ،

وـ الشيءُ: خَفِيَ.

وسَرَقَةُ، مُحرَّكةً: أقْصى ماءٍ بالعالِيَةِ. ومَسْروقُ بنُ الأجْدَعِ: تابِعِيٌّ، وابنُ المَرْزُبانِ: مُحدِّثٌ.

وكسُكَّرٍ: ع بسِنْجارَ، وكُورَةٌ بالأهْوازِ، وابنُ أسَدٍ الجُهَنِيُّ: صَحابِيٌّ، وكان اسْمُه الحُبابَ، فابْتاعَ من بَدَويٍّ راحِلَتَيْنِ، ثم أجْلَسَه على بابِ دارٍ ليَخْرُجَ إليه بِثَمَنِهما، فَخَرَجَ من البابِ الآخَرِ، وهَرَبَ بهما، فأُخْبِرَ به النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، فقالَ: "التَمِسُوهُ"، فلما أُتيَ به، قال له: "أنتَ سُرَّقٌ"، وكانَ يقولُ: لا أُحِبُّ أن أُدْعَى بغيرِ ما سَمَّانِي به رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم. وأحمدُ بنُ سُرَّقٍ المَرْوَزيُّ: أخْباريٌّ.

والسَّوارِقيَّةُ: ة بينَ الحَرَمَيْنِ.

والسِرْقينُ، (وقد يُفْتَحُ) مُعَرَّبُ: سِرْكين.

والسَّوارِقُ: الجَوامِعُ، جَمْعُ سارِقَةٍ، والزوائِدُ في فَرَاشِ القُفْلِ.

وساروقُ: ة بالرومِ. وسُراقَةُ، كثُمامَةٍ، ابنُ كعْبٍ، وابنُ عَمْرٍو، وابنُ الحَارِثِ، وابنُ مالِكٍ المُدْلِجِيُّ، وابنُ أبي الحُبابِ، وابنُ عَمْرٍو (ذو النونِ): صَحابيُّونَ. وقولُ الجَوهرِيِّ: ابنُ جُعْشُمٍ، وهَمٌ، (وإنما هو جَدُّهُ). وسَمَّوا: سارِقًا وسَرَّاقًا.

والتَّسْريقُ: النِسْبَةُ إلى السَّرِقَةِ.

والمُسْتَرِقُ: الناقِصُ الضَّعيفُ الخَلْقِ، والمُسْتَمِعُ مُخْتَفِيًا.

ومُسْتَرِقُ العُنُقِ: قَصيرُها.

وهو يُسارِقُ النَّظَرَ إليه، أي: يَطْلُبُ غَفْلَةً لِيَنْظُرَ إليه.

وانْسَرَقَ: فَتَرَ وضَعُفَ،

وـ عنهم: خَنَسَ لِيَذْهَبَ.

وتَسَرَّقَ: سَرَقَ شيئًا فشيئًا.

والإِسْتَبْرَقُ: للغَليظِ من الديباجِ في: ب ر ق.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


16-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ذرر)

(ذرر) - قَولُه تَبارَك وتَعالَى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.

قال بَعضُ العُلمَاءِ: الشَّعِيرة أَربعُ رُزَّات، والرُّزَّة: أَربعُ سِمْسِمات، والسِّمْسِمَة: أَربعُ خَرْدَلات، والخَردَلة: أَربعُ ورَقَات نُخالَة، والوَرَقة: أربع ذَرَّات، وقد تُشَبَّه أَجزاءُ الغُبار التي تُرَى عند طُلوعِ الشَّمسِ في الكُوَّة بالذَّرَّات، والذَّرَّة: هي النَّملَة الحَمْراء الصَّغِيرة، فأَمَّا ما كان لها قُراعٌ فهي النَّمْل. وهي الطَّوالُ الأرجُل لا ضَرَرَ فيها, ولا يَجوزُ قَتلُها، والصِّغار هي المُؤذِيَة.

وسُئِل ثَعْلَب عن الذَّرَّة. فقال: إن مِائَةَ نَمْلَة وَزنُ حَبَّة، والذَّرَّة واحِدةٌ منها. وقال يَزِيد بن هارون: زَعَمُوا أن الذَّرَّة ليس لها وَزْن، وذُكِر عن بَعضِهم. قال: وَضعتُ كَذَا وكَذَا ذَرَّةً في كِفَّة المِيزان فَلمْ يترجَّح بها.

وقال آخر: وضَعتُ خُبزًا فغَشِيَتْه النَّملُ بحَيْث عَمَّته، فوزَنْتُه مع النَّملِ ثم نَقَّيْته فوزَنْته فما نَقَص من وَزْنه شَىء.

وقيل: إنَّ الذَّرَّةَ ليس لها في الدُّنيا وَزنٌ أَصلًا. فأَخبرَ اللهُ تَباركَ وتَعالَى أنه يُحاسِب في الآخرة بِما لا وَزْن له في الدُّنيا.

- في حَديثِ إبراهيم: "تكتَحِل المُحِدُّ بالذَّرُور".

الذَّرُور: ما يُذرُّ على العَيْن. يقال: ذَررْتُ عينَه بالدَّواء، وذَرَرَتُ الدَّواءَ في العَيْن، إذا أَخذتَه بأطراف أَصابِعِك فطَرحتَه فيها، ولَعلَّه من الذَّرِّ أيضا.

- وفي حَدِيثهِ أيضًا: "يُنْثَرُ على قَمِيص الميِّتِ الزَّرِيرَةُ".

وهي فُتاتُ قَصَبٍ مّا، كالنُّشَّابِ وغيره.

- وفي حَدِيثِ عُمَر: "ذُرِّى وأَحِرُّ لَكِ"

: أي ذُرِّى الدَّقيق في القِدْر، والذَّرُّ: التَّفْرِيق.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


17-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (زبى)

(زَبَى) - في حديث لعلىّ - رضي الله عنه -: "سُئل عن زُبْيَةٍ أَصْبَح النَّاسُ يتدَافَعُون فيها، فهَوَى فيها رجلٌ، فتعلق بآخَرَ، وتعلَّقِ الثَّاني بثَالثٍ، والثالِثُ برابع، فوقَعُوا أربعتُهم فيها، فَخَدشَهُم الأسدُ فماتُوا، فقال: عَلَى حافرها الدِّيَة،: للأوّل رُبعها، وللثاني ثلاثَةُ أَرباعِها، وللثالث نصفها، وللرابع جميعُ الدِّية، فأُخْبر النَّبىُّ - صلى الله عليه وسلم - فأجاز قَضاءَه،

ويُحكَى هذا الحكم على غير هذا الوجه.

الزُّبْيَة: حَفِيرة تحفَر للأسد وللصَّيْد، يُغَطَّى رَأسُها بما يَسْتُرها لِيقَع فيها.

وفي رواية: "فَزَبَوْا زُبْيَةً": أي حَفَروها.

- في الحديث: "نهى عن مَزَابى القُبور"

قيل: المزَابى من الزُّبْيَة، كره - والله أعلم - أن يُشَقَّ القَبرُ ضَريحًا كالزُّبْيَة لَا يُلحَدُ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "الَّلحْدُ لنا والشَّقُّ لِغَيْرِنَا".

وقيل: هو تَصْحِيف، وإنما هو نَهْي عن المَراثِي، وهو تأبين الميِّت.

من قولهم: مَا زَبَاهم إليه: أي دَعَاهم؟

قال الأصمعي: سمعت نَغْمَتَه وأُزْبِيّه: أي صوتَه.

وكذا أُزْبيّ القوس، وقال النضر: الأزَابيّ: الصَّخَب لا واحد لها.

- في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -: "فقلتُ له كلمة أُزْبيه بذلك".

: أي أُحَرّكه. يقاك زَبَيْت الشىءَ وازدبيته، إذا احتملتَه فمعنى أزْبيه: أُزعِجُه وأُقْلِقُه كالشيء يُحمَل فَيُزال عن مكانه.

قال الخطابي: قال بعضُ أهل اللغة، وذاكرته بهذا - هذا مقلوب من أَبْزَيْتُ الرَّجلَ وبَزَوْتُه؛ إذا قهرته. وقال غَيره: زبيتُ كَذَا أَزْبِيه؛ أي سُقْته وحملته، وكذا ازْدَبَيْتهُ وزَبَّيْتُه تَزْبيَةً، وزَبَى له شرًّا، وزَبَاهُ بشرٍّ: دَعَاهُ به، وما زَبَاه إلى هذا: أي دعاه.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


18-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (طير)

(طير) - في حديث عَبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "فَقَدْنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - ليلةً فقُلنَا: اغْتِيلَ أو اسْتُطِير"

: أي ذُهِب به بسُرعة كأنَّ الطَّيَر حَمَلتْه، ومعناه استَهوتْه الشَّيَاطِينُ والاسْتِطَارة والتَّطَاير: التَّفَرُّق والذَّهاب.

- ومنه في حديث عُروةَ: "حتى تَطَايَرَت شُؤُونُ رأسِه"

: أي تَفرَّقت، فصارت قِطَعًا.

- وفي حديث عائشة، - رضي الله عنها -: "أنها سَمِعَت مَنْ يقول: إن الشُّؤْمَ في الدَّارِ والمَرْأَة، فطارَت شِقَّةٌ منها في السَّماءِ وشِقَّةٌ في الأَرضِ".

: أي كأنها تَفَرَّقَتَ قِطَعًا من شِدَّة الغَضَب، كما قال الله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}.

ويقال للسَّريع الغَضَب طَيُورٌ - بتَخْفِيف اليَاءِ وبتَثْقِيله - وإنه لطَيُّورٌ فَيُّوءٌ: أي سرِيعُ الغَضَب سَرِيعُ الرُّجوُع.

- في الحديث: "خُذْ ما تَطَايَر من شَعَرِ رَأسِك"

: أي ما طَاَلَ أو تَفرَّق، ومِثلُه طَار.

- وفي الحديِث: "أَحدُنا يَطِيرُ له النَّصلُ والرِّيشُ"

: أي يُصِيبُه في القِسْمة. وأنشد:

« فَمَا طَاَر لى في القَسْم إلا ثَمِينُها »

: أي ثُمُنُها.

- في الحديث: " لا طِيَرةَ وإن يَكُن في شىءٍ فَفِى المَرْأَةِ والفَرسَ والدَّارِ"

الطِّيَرَة: التَّشاؤُم، وهي مَصْدر التَّطَيّر. يقال: تَطَيَّر طِيَرَةً، كما يقال: تَخَيَّر خِيَرةً ولم يَجىء من المَصَادرِ هكذا غَيرُهما، فأَمَّا من الأَسْماء فقد جَاءَ التِّوَلَةُ لِنَوْع من السِّحر، وسَبْىُ

طِيبَة: أي طَيِّب ومعناه إبطال مَذْهَبِهم في التَّطَيُّر بالسَّوَانِح والبَوَارح، من الطَّير والظِّباء ونَحوِهما، وكان ذلك يَصُدُّهم عن المَسِير وَيردُّهم عن مقاصِدِهم، فأَخبرَ أنه لَيسَ لها تأثِيرٌ في اجْتِلاب نَفْعٍ أو ضُرّ.

- وفي حديث: "الطِّيَرَة شِرْكٌ، وما مِنَّا إلاَّ، ولكِنَّ الله تَعالَى يُذْهِبُه بالتَّوكُّل".

أَىْ إلَّا وقد يَعترِيه التَّطَيُّر وَيسْبِق إلى قَلبِه الكَراهَة فحُذِف اخْتِصارًا للكَلَام واعتِمادًا على فَهْم السَّامع.

وقيل: إن قَولَه: "وماَ مِنَّا إلاَّ" من قَولِ ابنِ مَسْعُود أُدْرِجَ في الحديث.

- وفي حديث آخر: " العِيافَة والطِّيَرة والطَّرْق من الجبْت"

في الحديث: "الرُّؤْيَا على رِجْل طائِرٍ ما لم تُعْبَر"

: أي لا يستَقِرّ تأْوِيلُها، كما أن الطَّيرَ لا يَسْتَقِرّ في أكثرِ أَحوالهِ، يَطِير ولا يَستَقِرّ، وإنما سُمِّى طائِرًا لِطَيَرانه.

يقال: طار فهو طائِرٌ. ويقال: أنا على جَنَاح طائِرٍ: أي مسافرٌ غَيرُ مُستَقِرِّ، أي إذا احْتَملت الرُّؤيا تأوِيلَيْن أو أكَثر، فعَبَرها مَنْ

يُحسِن عِبارَتَها وقَعَت على ما أوَّلهَا وانتَفَى عنه غَيرُه من التَّأوِيل

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


19-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (كنس)

(كنس) - قوله تعالى: {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}

يعني: النُّجومَ التي تجْرِى وتَسْتَتِرُ إمَّا بالنَّهار، وإمَّا بالغَيْم ونَحوِه.

وقيل: هي التي تَكنِس في المغِيب. وقيل: لأنَّها في بُروجِها كالظَّباءِ الكُنَّسِ.

- وفي حديث زياد: "ثم اطْرُقوا وَراءَكم في مَكانِس الرِّيَبِ"

: أي اسْتَترُوا، وهي جمع: مَكْنَس، وأصلُه: مَوضع الظَّبْىِ من أَصْلِ الشَجَرِ الذي تَقِيلُ فيه.

والكِناسُ: مَولجُ الوَحْشِ: وقد كنَسَت وتَكنَّسَتْ: دَخلَتْه.

- في حديث كعْب: "أوَلُ من لَبِس القَباءَ سُليمانُ عليه الصّلاة والسلام؛ لَأنّه كان إذا أدْخَل الرأسَ الثِّيابَ كَنَّسَتْ الشَّياطين استِهزاءً، فأخْبر سُليمان عليه السَّلام"

قيل: كَنَّسَ: أي حَرَّكَ أنفَهُ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


20-معجم البلدان (حديثة الموصل)

حديثة الموصل:

وهي بليدة كانت على دجلة بالجانب الشرقي قرب الزاب الأعلى، وفي بعض الآثار أن حديثة الموصل كانت هي قصبة كورة الموصل الموجودة الآن وإنما أحدثها مروان بن محمد الحمار، وقال حمزة بن الحميد: الحديثة تعريب نوكرد، وكانت مدينة قديمة فخربت وبقي آثارها فأعادها مروان بن محمد بن مروان إلى العمارة وسأل عن اسمها فأخبر بمعناه فقال: سموها الحديثة، وقال ابن الكلبي: أول من مصّر الموصل هرثمة بن عرفجة البارقي في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأسكنها العرب ثم أتى الحديثة، وكانت قرية فيها بيعتان، ويقال: إن هرثمة نزل المدينة أولا فمصّرها واختطها قبل الموصل، وإنها إنما سميت الحديثة حين تحول إليها من تحول من أهل الأنبار لما ولي ابن الرّفيل صاحب النهر ببادوريا أيام الحجاج بن يوسف فعسّفهم، وكان فيهم قوم من أهل الحديثة التي بالأنبار فبنوا بها مسجدا وسموا المدينة الحديثة، وينسب إلى هذه الحديثة جماعة، منهم: أبو الحسن عليّ بن عبد الرحمن ابن محمد بن بابويه السّمنجاني الفقيه، نزل أصبهان ومات بها، قال أبو الفضل المقدسي: سمعت أبا المظفر الأبيوردي يقول: سمعته يقول نحن من حديثة الموصل، وكان إذا روى عنه نسبه الحديثي، قلت:

وسمنجان بلد من أعمال طخارستان من وراء بلخ.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


21-معجم البلدان (رغال)

رِغالٌ:

بكسر أوّله، وآخره لام، كأنّه جمع رغل:

وهو نبت من الحمض ورقه مفتول، وقال الليث:

الرّغل نبات تسمّيه الفرس السّرمق، وقبر أبي رغال يرجم قرب مكّة، وكان وافد عاد جاء إلى مكّة يستسقي لهم وله قصة، وقيل: إن أبا رغال رجل من بقية ثمود وإنّه كان ملكا بالطائف وكان يظلم رعيته فمرّ بامرأة ترضع صبيّا يتيما بلبن عنز لها فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة فمات، وكانت سنة مجدبة فرماه الله بقارعة أهلكته فرجمت العرب قبره وهو بين مكّة والطائف، وقيل: بل كان قائد الفيل ودليل الحبشة لما غزوا الكعبة فهلك فيمن هلك منهم فدفن بين مكّة والطائف فمرّ النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بقبره فأمر برجمه فصار ذلك سنّة، وقيل: إن ثقيفا واسمه قسي كان عبدا لأبي رغال وأصله من قوم نجوا من ثمود فهرب من مولاه ثمّ ثقفه فسمّاه ثقيفا وانتمى ولده بعد ذلك إلى قيس، وقال حمّاد الراوية: أبو رغال أبو ثقيف كلّها وإنّه من بقيّة ثمود، ولذلك قال حسّان بن ثابت يهجو ثقيفا:

«إذا الثّقفيّ فاخركم فقولوا *** هلمّ فعدّ شأن أبي رغال»

«أبوكم أخبث الأحياء قدما، *** وأنتم مشبهوه على مثال»

«عبيد الفزر أورثه بنيه *** وولّى عنهم أخرى اللّيالي»

وكان الحجّاج يقول: يقولون إنّنا بقية ثمود وهل مع صالح إلّا المقرّبون؟ وقال السكري في شرح قول جرير:

«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»

قال: أبو رغال اسمه زيد بن مخلف، كان عبدا لصالح النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بعثه مصدّقا، وإنّه أتى قوما ليس لهم لبن إلّا شاة واحدة ولهم صبيّ قد ماتت أمّه فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني يغذونه، والعجيّ: الذي يغذى بغير لبن أمّه، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها تحايي هذا الصبي، فأبى، فيقال: إنّه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قتله ربّ الشاة، فلمّا فقده صالح، عليه السلام، قام في الموسم فنشد الناس فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكّة والطائف ترجمه الناس، وقد ذكر ابن إسحاق في أبي رغال ما هو أحسن من جميع ما تقدم: وهو أن أبرهة بن الصباح صاحب الفيل لما قدم لهدم الكعبة مرّ بالطائف فخرج إليه مسعود بن معتّب في رجال ثقيف فقالوا له: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك سامعون

لك مطيعون وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريده، يعنون اللات، إنّما تريد البيت الذي بمكّة ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم وبعثوا معه بأبي رغال رجل منهم يدلّه على مكّة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمّس، فلمّا نزله مات أبو رغال

«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


22-معجم البلدان (سجستان)

سِجِسْتَانُ:

بكسر أوّله وثانيه، وسين أخرى مهملة، وتاء مثناة من فوق، وآخره نون: وهي ناحية كبيرة وولاية واسعة، ذهب بعضهم إلى أن سجستان اسم للناحية وأن اسم مدينتها زرنج، وبينها وبين هراة عشرة أيّام ثمانون فرسخا، وهي جنوبي هراة، وأرضها كلّها رملة سبخة، والرياح فيها لا تسكن أبدا ولا تزال شديدة تدير رحيّهم، وطحنهم كلّه على تلك الرحى. وطول سجستان أربع وستون درجة وربع، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وسدس، وهي من الإقليم الثالث. وقال حمزة في اشتقاقها واشتقاق أصبهان: إن أسباه وسك اسم للجند وللكلب مشترك وكل واحد منهما اسم للشيئين فسميت أصبهان والأصل أسباهان وسجستان والأصل سكان وسكستان لأنّهما كانتا بلدتي الجند، وقد ذكرت في أصبهان بأبسط من هذا، قال الإصطخري: أرض سجستان سبخة ورمال حارة، بها نخيل، ولا يقع بها الثلج، وهي أرض سهلة لا يرى فيها جبل، وأقرب جبال منها من ناحية فره، وتشتد رياحهم وتدوم على أنّهم قد نصبوا عليها أرحية تدور بها وتنقل رمالهم من مكان إلى مكان ولولا أنّهم يحتالون فيها لطمست على المدن والقرى، وبلغني أنّهم إذا أحبوا نقل الرمل من مكان إلى مكان من غير أن يقع على الأرض التي إلى جانب الرمل جمعوا حول الرمل مثل الحائط من حطب وشوك وغيرهما بقدر ما يعلو على ذلك الرمل وفتحوا إلى أسفله بابا فتدخله الريح فتطير الرمال إلى أعلاه مثل الزّوبعة فيقع على مدّ البصر حيث لا يضرّهم، وكانت مدينة سجستان قبل زرنج يقال لها رام شهرستان، وقد ذكرت في موضعها، وبسجستان نخل كثير وتمر، وفي رجالهم عظم خلق وجلادة ويمشون في أسواقهم وبأيديهم سيوف مشهورة، ويعتمّون بثلاث عمائم وأربع كلّ واحدة لون ما بين أحمر وأصفر وأخضر وأبيض وغير ذلك من الألوان على قلانس لهم شبيهة بالمكّوك ويلفونها لفّا يظهر ألوان على قلانس لهم شبيهة بالمكّوك ويلفونها لفّا يظهر ألوان كل واحدة منها، وأكثر ما تكون هذه العمائم إبريسم طولها ثلاثة أذرع أو أربعة وتشبه الميانبندات، وهم فرس وليس بينهم من المذاهب غير الحنفية من الفقهاء إلّا قليل نادر، ولا تخرج لهم امرأة من منزل أبدا وإن أرادت زيارة أهلها فبالليل، وبسجستان كثير من الخوارج يظهرون مذهبهم ولا يتحاشون منه ويفتخرون به عند المعاملة، حدثني رجل من التجار قال: تقدمت إلى رجل من سجستان لأشتري منه حاجة فماكسته فقال: يا أخي أنا من الخوارج لا تجد عندي إلّا الحق ولست ممن يبخسك حقك، وإن كنت لا تفهم حقيقة ما أقول فسل عنه، فمضيت وسألت عنه متعجبا، وهم يتزيون بغير زيّ الجمهور فهم معروفون مشهورون، وبها بليدة يقال لها كركويه كلّهم خوارج، وفيهم الصوم والصلاة والعبادة الزائدة، ولهم فقهاء وعلماء على حدة، قال محمد بن بحر الرّهني: سجستان إحدى بلدان المشرق ولم تزل لقاحا على الضيم ممتنعة من الهضم منفردة بمحاسن متوحدة بمآثر لم تعرف لغيرها من البلدان، ما في الدنيا سوقة أصح منهم معاملة ولا أقل منهم مخاتلة، ومن شأن سوقة البلدان أنّهم إذا باعهم أو اشترى منهم العبد أو الأجير أو الصبي كان أحبّ إليهم من

أن يشتري منهم الصاحب المحتاط والبالغ العارف، وهم بخلاف هذه الصفة، ثمّ مسارعتهم إلى إغاثة الملهوف ومداركة الضعيف، ثمّ أمرهم بالمعروف ولو كان فيه جدع الأنف، منها جرير بن عبد الله صاحب أبي عبد الله جعفر بن محمد الباقر، رضي الله عنه، ومنها خليدة السجستاني

«نضّر الله أعظما دفنوها *** بسجستان طلحة الطلحات»

«كان لا يحرم الخليل ولا يع *** تلّ بالنّجل طيّب العذرات»

وقال بعضهم يذمّ سجستان:

«يا سجستان قد بلوناك دهرا *** في حراميك من كلا طرفيك»

«أنت لولا الأمير فيك لقلنا: *** لعن الله من يصير إليك! »

وقال آخر:

«يا سجستان لا سقتك السحاب، *** وعلاك الخراب ثمّ اليباب»

«أنت في القرّ غصّة واكتئاب، *** أنت في الصيف حيّة وذباب»

«وبلاء موكّل ورياح *** ورمال كأنّهنّ سقاب»

«صاغك الله للأنام عذابا، *** وقضى أن يكون فيك عذاب»

وقال القاضي أبو علي المسبحي:

«حلولي سجستان إحدى النّوب، *** وكوني بها من عجيب العجب»

«وما بسجستان من طائل *** سوى حسن مسجدها والرّطب»

وذكر أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي قال: سمعت محمد بن أبي نصر قل هو الله أحد، خوان، يقول أبو داود السجستاني الإمام: هو من قرية بالبصرة يقال لها سجستان وليس من سجستان خراسان، وكذلك ذكر لي بعض الهرويين في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة قال: سمعت محمد بن يوسف يقول أبو حاتم السجستاني من كورة بالبصرة يقال لها سجستانة وليس من سجستان خراسان. وذكر ابن أبي نصر المذكور أنّه تتبع البصريين فلم يعرفوا بالبصرة قرية يقال لها سجستان غير أن بعضهم قال: إن بقرب الأهواز قرية تسمّى بشيء من نحو ما ذكره، ودرس من كتابي هذا لا أعرف له حقيقة لأنّه ورد أن ابن أبي داود كان بنيسابور في المكتب مع ولد إسحاق بن راهويه وأنّه أوّل ما كتب كتب عند محمد بن أسلم الطوسي وله دون عشر سنين، ولم يذكر أحد من الحفاظ أنّه من غير سجستان المعروف، وينسب إليها السجزي، منهم: أبو أحمد خلف بن أحمد بن خلف ابن الليث بن فرقد السجزي، كان ملكا بسجستان وكان من أهل العلم والفضل والسياسة والملك وسمع الحديث بخراسان والعراق، روى عن أبي عبد الله محمد بن علي الماليسي وأبي بكر الشافعي، سمع منه الحاكم أبو عبد الله وغيره، توفي في بلاد الهند محبوسا، وسلب ملكه في سنة 399 في رجب، ومولده في نصف محرم سنة 326، ودعلج بن علي السجزي، ومنها إمام أهل الحديث عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود أصله من سجستان، كتب من تاريخ الخطيب هو وأبوه وزاد ابن عساكر في تاريخه بإسناد إلى أبي عليّ الحسن بن بندار الزنجاني الشيخ الصالح قال: كان أحمد بن صالح يمتنع على المرد من رواية الحديث لهم تعفّفا وتنزها ونفيا للمظنة عن نفسه، وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابن أمرد يحب أن يسمع حديثه وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية فاحتال أبو داود بأن شد على ذقن ابنه قطعة من الشعر ليتوهم أنّه ملتح ثمّ أحضره المجلس وأسمعه جزءا، فأخبر الشيخ بذلك فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه هذا؟ فقال له: أيّها الشيخ لا تنكر عليّ ما فعلته واجمع أمردي هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذ من السماع عليك، قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ فتعرض لهم هذا الأمرد مطارحا وغلب الجميع بفهمه ولم يرو له الشيخ مع ذلك من حديثه شيئا وحصل له ذلك الجزء الأوّل وكان ليس إلّا أمرد يفتخر بروايته الجزء الأوّل.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


23-معجم البلدان (سنجار)

سِنْجَارُ:

بكسر أوّله، وسكون ثانيه ثمّ جيم، وآخره راء: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة، بينها وبين الموصل ثلاثة أيّام، وهي في لحف جبل عال، ويقولون: إن سفينة نوح، عليه السلام، لما مرّت به نطحته فقال نوح: هذا سنّ جبل جار علينا، فسميت سنجار، ولست أحقّق هذا، والله أعلم به، إلّا أن أهل هذه المدينة يعرفون هذا صغيرهم وكبيرهم ويتداولونه، وقال ابن الكلبي: إنّما سميت سنجار وآمد وهيت باسم بانيها، وهم بنو البلندى ابن مالك بن دعر بن بويب بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام، ويقال: سنجار بن دعر نزلها، قالوا: ودعر هو الذي استخرج يوسف من الجبّ وهو أخو آمد الذي بنى آمد وأخو هيت الذي بنى هيت، وذكر أحمد بن محمد الهمذاني قال: ويقال إن سفينة نوح نطحت في جبل سنجار بعد ستة أشهر وثمانية أيّام من ركوبه إيّاها فطابت نفسه وعلم أن الماء قد أخذ ينضب فسأل عن الجبل فأخبر به، فقال: ليكن هذا الجبل مباركا كثير الشجر والماء! ثمّ وقفت السفينة على جبل الجودي بعد مائة واثنين وتسعين يوما فبنى هناك قرية سماها قرية الثمانين لأنّهم كانوا ثمانين نفسا، وقال حمزة الأصبهاني: سنجار تعريب سنكار، ولم يفسره، وهي مدينة طيبة في وسطها نهر جار، وهي عامرة جدّا، وقدّامها واد فيه بساتين ذات أشجار ونخل وترنج ونارنج، وبينها وبين نصيبين ثلاثة أيام أيضا، وقيل: إن السلطان سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن سلجوق ولد بها فسمّي باسمها، عن الزمخشري، قال في الزيج: طول سنجار ثلاثون درجة، وعرضها خمس وثلاثون درجة ونصف وثلث، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب والشعر، قال أبو عبيدة: قدم خالد الزبيدي في ناس معه من زبيد إلى سنجار ومعه ابنا عمّ له يقال لأحدهما صابي وللآخر عويد، فشربوا يوما من شراب سنجار فحنّوا إلى بلادهم فقال خالد:

«أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا *** مقيظا ولا مشتى ولا متربّعا»

«ويا جبلي سنجار هلّا بكيتما *** لداعي الهوى منّا شنينين أدمعا»

«فلو جبلا عوج شكونا إليهما *** جرت عبرات منهما أو تصدّعا»

«بكى يوم تلّ المحلبيّة صابئ، *** وألهى عويدا بثّه فتقنّعا»

فانبرى له رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار أحد بني حييّ فقال:

«أيا جبلي سنجار هلّا دققتما *** بركنيكما أنف الزّبيديّ أجمعا»

«لعمرك ما جاءت زبيد لهجرة، *** ولكنّها كانت أرامل جوّعا»

«تبكّي على أرض الحجاز وقد رأت *** جرائب خمسا في جدال فأربعا»

جرائب: جمع جريب، وجدال: قرية قرب سنجار، كأنّه يتعجب من ذلك ويقول كيف تحنّ إلى أرض الحجاز وقد شبعت بهذه الديار؟ فأجابه خالد يقول:

«وسنجار تبكي سوقها كلّما رأت *** بها نمريّا ذا كساوين أيفعا»

«إذا نمريّ طالب الوتر غرّه *** من الوتر أن يلقى طعاما فيشبعا»

«إذا نمريّ ضاف بيتك فاقره *** مع الكلب زاد الكلب وازجرهما معا»

«أمن أجل مدّ من شعير قريته *** بكيت وناحت أمّك الحول أجمعا؟»

«بكى نمريّ أرغم الله أنفه *** بسنجار حتى تنفد العين أدمعا»

وقال المؤيد بن زيد التكريتي يخاطب الحسين بن عليّ السنجاري المعروف بابن دبّابة ويلقّب بأمين الدين:

«زاد أمين الدّين في وصفه *** سنجار حتى جئن سنجارا»

«فعاينت عيناي إذ جئتها *** مصيدة قد ملئت فارا»

وقد نسب إلى سنجار جماعة وافرة من أهل العلم، منهم من أهل عصرنا: أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور الشاعر يعرف بالبهاء السنجاري أحد المجيدين المشهورين، وكان أوّلا فقيها شافعيّا ثمّ غلب عليه قول الشعر فاشتهر به وقدّم عند الملوك وناهز التسعين وكان جريّا ثقة كيّسا لطيفا فيه مزاح وخفة روح، وله أشعار جيدة، منها في غلام اسمه عليّ وقد سئل القول فيه فقال في قطعة وكان مرّ به ومعه سيف:

«بي حامل الصارم الهنديّ منتصرا، *** ضع السّلاح قد استغنيت بالكحل»

«ما يفعل الظّبي بالسّيف الصّقيل وما *** ضرب الصّوارم بالضّروب بالمقل»

«قد كنت في الحبّ سنّيّا فما برحت *** بي شيعة الحبّ حتى صرت عبد علي»

وخرج من الموصل في سنة تسع عشرة وستمائة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


24-معجم البلدان (السوس)

السُّوسُ:

بضم أوّله، وسكون ثانيه، وسين مهملة أخرى، بلفظ السوس الذي يقع في الصوف: بلدة بخوزستان فيها قبر دانيال النبيّ، عليه السلام، قال حمزة: السوس تعريب الشوش، بنقط الشين، ومعناه الحسن والنزه والطيب واللطيف، بأيّ هذه الصفات وسمتها به جاز، قال بطليموس: مدينة السوس طولها أربع وثلاثون درجة، وطالعها القلب، بيت حياتها أوّل درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، عاقبتها مثلها من الميزان، قلت: لا أدري أيّ سوس هي، وقال ابن المقفّع: أوّل سور وضع في الأرض بعد الطوفان سور السوس وتستر ولا يدرى من بنى

سور السوس وتستر والأبلّة، وقال ابن الكلبي:

السوس بن سام بن نوح، عليه السلام، وقرأت في بعض كتبهم أن أوّل من بنى كور السوس وحفر نهرها أردشير بن بهمن القديم بن إسفنديار بن كشتاسف.

والسوس أيضا: بلد بالمغرب كانت الروم تسميها قمونية، وقيل: السوس بالمغرب كورة مدينتها طنجة، وهناك السوس الأقصى: كورة أخرى مدينتها طرقلة، ومن السوس الأدنى إلى السوس الأقصى مسيرة شهرين وبعده بحر الرمل وليس وراء ذلك شيء يعرف. والسوس أيضا: بلدة بما وراء النهر، وبالمغرب السوس أيضا، تذكر بعد هذا، وقال ابن طاهر المقدسي: السوس هو الأدنى ولا يقال له سوس، وفتحت الأهواز في أيّام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، على يد أبي موسى الأشعري وكان آخر ما فتح منها السوس فوجد بها موضعا فيه جثة دانيال النبيّ، عليه السلام، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فسأل المسلمين عن ذلك فأخبروه أن بخت نصّر نقله إليها لما فتح بيت المقدس وأنّه مات هناك فكان أهل تلك البلاد يستسقون بجثته إذا قحطوا، فأمر عمر، رضي الله عنه، بدفنه فسكر نهرا ثمّ حفر تحته ودفنه فيه وأجرى الماء عليه فلا يدرى أين قبره إلى الآن، وقال ابن طاهر المقدسي: السوس بلدة من بلاد خوزستان، خرج منها جماعة من المحدثين، منهم:

أبو العلاء عليّ بن عبد الرحمن الخراز السوسي اللغوي، سمع أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، روى عنه أبو نصر السجزي الحافظ، وأحمد بن يحيى السوسي، سمع الأسود بن عامر، وروى عنه أبو بكر بن أبي داود، ومحمد بن عبد الله بن غيلان الخراز يعرف بالسوسي، سمع سوّار بن عبد الله، روى عنه الدارقطني، ومحمد بن إسحاق بن عبد الرحيم أبو بكر السوسي، روى عن الحسين بن إسحاق الدقيقي وأبي سيار أحمد بن حمّوية التستري وعبد الله بن محمد بن نصر الرملي، روى عنه الدارقطني وابن رزقويه وغيرهما.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


25-معجم البلدان (طبرستان)

طَبَرِستانُ:

بفتح أوله وثانيه، وكسر الراء، قد ذكرنا معنى الطبر قبله، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه يقول: ناحية الطبر، وسنذكر سبب تسمية هذا الموضع بذلك، والنسبة إلى هذا الموضع الطّبري، قال البحتري:

«وأقيمت به القيامة في ق *** مّ على خالع وعات عنيد»

«وثنى معلما إلى طبرستا *** ن بخيل يرحن تحت اللّبود»

وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، خرج من نواحيها من لا يحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعيان بلدانها دهستان وجرجان واستراباذ وآمل، وهي قصبتها، وسارية، وهي مثلها، وشالوس، وهي مقاربة لها، وربما عدّت جرجان من خراسان إلى غير ذلك من البلدان، وطبرستان في البلاد المعروفة بمازندران، ولا أدري متى سميت بمازندران فانه اسم لم نجده في الكتب القديمة وإنما يسمع من أفواه أهل تلك البلاد ولا شكّ أنهما واحد، وهذه البلاد مجاورة لجيلان وديلمان، وهي بين الرّي وقومس والبحر وبلاد الديلم والجيل، رأيت أطرافها وعاينت جبالها، وهي كثيرة المياه متهدّلة الأشجار كثيرة الفواكه إلا أنها مخيفة وخمة قليلة الارتفاع كثيرة الاختلاف والنّزاع، وأنا أذكر ما قال العلماء في هذا القطر وأذكر فتوحه واشتقاقه ولا بدّ من احتمالك لفصل فيه تطويل بالفائدة الباردة، فهذا من عندنا مما استفدناه بالمشاهدة والمشافهة، وخذ الآن ما قالوه في كتبهم: زعم أهل العلم بهذا الشأن أن الطّيلسان والطالقان وخراسان ما عدا خوارزم من ولد اشبق بن إبراهيم الخليل والديلم بنو كماشج بن يافث بن نوح، عليه السلام، وأكثرهم سميت جبالهم بأسمائهم إلا الإيلام قبيل من الديلم فإنهم ولد باسل بن ضبّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، كما نذكره إن شاء الله في كتاب النسب، وموقان وجبالها وهم أهل طبرستان من ولد كماشج بن يافث بن نوح، عليه السّلام، وفيما روى ثقات الفرس قالوا: اجتمع في جيوش بعض الأكاسرة خلق كثير من الجناة وجب عليهم القتل فتحرّج منه وشاور وزراءه وسألهم عن عدّتهم فأخبروه بخلق كثير فقال: اطلبوا لي موضعا أحبسهم فيه، فساروا إلى بلاده يطلبون موضعا خاليا حتى وقعوا بجبال طبرستان فأخبروه بذلك فأمر بحملهم إليه وحبسهم فيه، وهو يومئذ جبل لا ساكن فيه، ثم سأل عنهم بعد حول فأرسلوا من يخبر بخبرهم فأشرفوا عليهم فإذا هم أحياء لكن بالسوء، فقيل لهم: ما تشتهون؟ وكان الجبل أشبا كثير الأشجار، فقالوا: طبرها طبرها، والهاء فيه بمعنى الجمع في جميع كلام الفرس، يعنون نريد أطبارا نقطع بها

الشجر ونتخذها بيوتا، فلما أخبر كسرى بذلك أمر أن يعطوا ما طلبوا فحمل إليهم ذلك، ثم أمهلهم حولا آخر وأنفذ من يتفقدهم فوجدهم قد اتخذوا بيوتا فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: زنان زنان، أي نريد نساء، فأخبر الملك بذلك فأمر بحمل من في حبوسه من النساء أن يحملن إل

«إذا الريح فيها جرّت الريح أعجلت *** فواختها في الغصن أن تترنّما»

«فكم طيّرت في الجوّ وردا مدنّرا *** تقلّبه فيه ووردا مدرهما»

«وأشجار تفّاح كأنّ ثمارها *** عوارض أبكار يضاحكن مغرما»

«فإن عقدتها الشمس فيها حسبتها *** خدودا على القضبان فذّا وتوأما»

«ترى خطباء الطير فوق غصونها *** تبثّ على العشّاق وجدا معتّما»

وقد كان في القديم أول طبرستان آمل ثم مامطير، وبينها وبين آمل ستة فراسخ، ثم ويمة، وهي من مامطير على ستة فراسخ، ثم سارية ثم طميس، وهي من سارية على ستة عشر فرسخا، هذا آخر حدّ طبرستان وجرجان، ومن ناحية الديم على خمسة فراسخ من آمل مدينة يقال لها ناتل ثم شالوس، وهي ثغر الجبل، هذه مدن السهل، وأما مدن الجبل فمنها مدينة يقال لها الكلار ثم تليها مدينة صغيرة يقال لها سعيدآباذ ثم الرويان، وهي أكبر مدن الجبل، ثم في الجبل من ناحية حدود خراسان مدينة يقال لها تمار وشرّز ودهستان، فإذا جزت الأرز وقعت في جبال ونداد هرمز، فإذا جزت هذه الجبال وقعت في جبال شروين، وهي مملكة ابن قارن، ثم الديلم وجيلان، وقال البلاذري: كور طبرستان ثمان: كورة سارية وبها منزل العامل وإنما صارت منزل العامل في أيام الطاهرية وقبل ذلك كان منزل العامل بآمل، وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد دار مقامهما، ومن رساتيق آمل أرم خاست الأعلى وأرم خاست الأسفل والمهروان والأصبهبذ ونامية وطميس، وبين سارية وسلينة على طريق الجبال ثلاثون فرسخا، وبين سارية والمهروان عشرة فراسخ، وبين سارية والبحر ثلاثة فراسخ، وبين جيلان والرويان اثنا عشر فرسخا، وبين آمل وشالوس وهي إلى ناحية الجبال عشرون فرسخا، وطول طبرستان من جرجان إلى الرويان ستة وثلاثون فرسخا، وعرضها عشرون فرسخا، في يد الشكري من ذلك ستة وثلاثون فرسخا في عرض أربعة فراسخ والباقي في أيدي الحروب من الجبال والسفوح، وهو طول ستة وثلاثين فرسخا في عرض ستة عشر فرسخا والعرض من الجبل إلى البحر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


26-معجم البلدان (عبادان)

عَبّادانُ:

بتشديد ثانيه، وفتح أوله، قال بطليموس:

عبّادان في الإقليم الثالث، طولها خمس وسبعون درجة وربع، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، قال البلاذري: كانت عبادان قطيعة لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قطيعة من عبد الملك بن مروان وبعضها فيما يقال من زياد، وكان حمران من سبي عين التمر يدّعي أنه من النمر بن قاسط، فقال الحجاج يوما وعنده عبّاد بن حصين الحبطي: ما يقول حمران؟

لئن انتمى إلى العرب ولم يقل إنه مولى لعثمان لأضربنّ عنقه! فخرج عبّاد من عند الحجاج مبادرا فأخبر حمران بقوله فوهب له غربيّ النهر وحبس الشرقيّ فنسب إلى عبّاد بن الحصين، وقال ابن الكلبي:

أول من رابط بعبّادان عبّاد بن الحصين، قال:

وكان الربيع بن صبح الفقيه مولى بني سعد جمع مالا من أهل البصرة فحصّن به عبّادان ورابط فيها، والربيع يروي عن الحسن البصري: وكان خرج غازيا إلى الهند في البحر فمات فدفن في جزيرة من الجزائر سنة 160، والعبّاد: الرجل الكثير العبادة، وأما إلحاق الألف والنون فهو لغة مستعملة في البصرة ونواحيها، إنهم إذا سمّوا موضعا أو نسبوه إلى رجل أو صفة يزيدون في آخره ألفا ونونا كقولهم في قرية عندهم منسوبة إلى زياد ابن أبيه زيادان وأخرى إلى عبد الله عبد الليان وأخرى إلى بلال بن أبي بردة بلالان، وهذا الموضع فيه قوم مقيمون للعبادة والانقطاع، وكانوا قديما في وجه ثغر، يسمّى الموضع بذلك، والله أعلم، وهو تحت البصرة قرب البحر الملح، فان دجلة إذا قاربت البحر انفرقت فرقتين عند قرية تسمّى المحرزي، ففرقة يركب فيها إلى ناحية البحرين نحو برّ العرب وهي اليمنى فأما اليسرى فيركب فيها إلى سيراف وجنّابة فارس فهي مثلثة الشكل، وعبّادان في هذه الجزيرة التي بين النهرين فيها مشاهد ورباطات، وهي موضع رديء سبخ لا خير فيه وماؤه ملح، فيه قوم منقطعون عليهم وقف في تلك الجزيرة يعطون بعضه، وأكثر موادّهم من النذور، وفيه مشهد لعليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وغير ذلك، وأكثر أكلهم السمك الذي يصطادونه من البحر، ويقصدهم المجاورون في المواسم للزيارة، ويروى في فضائلها أحاديث غير ثابتة، وينسب إليها نفر من رواة الحديث، والعجم يسمّونها ميان روذان لما ذكرنا من أنها بين نهرين، ومعنى ميان وسط وروذان الأنهر، وقد نسبوا إلى عبّادان جماعة من الزّهّاد والمحدّثين، منهم: أبو بكر أحمد بن سليمان بن أيوب بن إسحاق بن عبدة بن الربيع العبّاداني، سكن بغداد وروى عن عليّ بن حرب الطائي وأحمد بن منصور الزيادي وهلال بن العلاء الرّقّيّ، روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو عليّ ابن شاذان، ومولده في أول يوم من رجب سنة 248، والقاضي أبو شجاع أحمد بن الحسن بن أحمد الشافعي العبّاداني، روى عنه السلفي وقال: هو من أولاد الدهر، درّس بالبصرة أزيد من أربعين سنة في مذهب الشافعي، رضي الله عنه، قال: ذكر لي في سنة 500 وعاش بعد ذلك ما لا أتحقّقه، وسألته عن مولده فقال: سنة 434 بالبصرة، قال: ووالدي مولده عبّادان وجدّي الأعلى أصبهان، والحسن بن سعيد بن جعفر بن الفضل أبو العباس العبّاداني المقرئ رحّال، سمع عليّ بن عبد الله بن عليّ بن السّقّاء ببيروت، وحدث عنه وعن أبي خليفة والحسن بن

المثنّى ومغفر الفرّياني وأبي مسلم الكجّي وزكرياء ابن يحيى الساجي، روى عنه أبو نعيم الحافظ وجماعة وافرة، قال أبو نعيم: ومات بإصطخر وكان رأسا في القرآن وحفظه عن جدّته ورأسه في لين.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


27-معجم البلدان (قرقرى)

قَرْقَرَى:

بتكرير القاف والراء، وآخره مقصور، وقد تقدم اشتقاقه: أرض باليمامة، إذا خرج الخارج من وشم اليمامة يريد مهبّ الجنوب وجعل العارض شمالا فإنه يعلو أرضا تسمّى قرقرى فيها قرى وزروع ونخيل كثيرة، ومن قراها: الهزيمة، فيها ناس من بني قريش وبني قيس بن ثعلبة، وقرما والجواء والأطواء وتوضح، وعلى قرقرى يمرّ قاصد اليمامة من البصرة يدخل مرأة قرية المرأيّ الشاعر ينسب إليها، وفي قرقرى أربعة حصون: حصن لكندة وحصن لتميم وحصنان لثقيف، قال ذلك كله أبو عبيد الله السّكوني، رحمه الله تعالى، فقد سرّني بما أوضحه مما لم يتعرض له غيره عليّ، وحدث ابن الأنباري أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار حدّثني محمد بن حفص بإسناده عن يزيد بن العلاء بن مرقش قال حدثني أخي موسى بن العلاء قال: كنّا مع يحيى بن طالب الحنفي أحد بني ذهل بن الدّؤل بن حنيفة كان مولى لقريش وكان شيخا ديّنا يقرّئ أهل اليمامة وكانت له ضيعة باليمامة يقال لها البرّة العليا، وكان يشتري غلّات السلطان بقرقرى، وكان عظيم التجارة، وكان سخيّا فأصاب الناس جدب فجلا أهل البادية فنزلوا قرقرى ففرّق يحيى بن طالب فيهم الغلّات وكان معروفا بالسخاء، فباع عامل السلطان أملاكه وعزّه الدّين فهرب إلى العراق وقد كان كتب ضيعة من ضياعه لقوم قرارا لهم بها لئلا يبيعها السلطان فيما يبيع فكابره القوم عليها فخرج من اليمامة هاربا من الدّين يريد خراسان، فلما وصل إلى بغداد بعث رسولا إلى اليمامة وكنا معه فلما رآه في الزّورق اغرورقت عيناه بالدموع وكان معدودا من الفصحاء فأنشأ يقول:

«أحقّا، عباد الله، أن لست ناظرا *** إلى قرقرى يوما وأعلامها الغبر»

«كأنّ فؤادي كلما مرّ راكب *** جناح غراب رام نهضا إلى وكر»

«أقول لموسى، والدموع كأنها *** جداول فاضت من جوانبها تجري: »

«ألا هل لشيخ وابن ستين حجّة، *** بكى طربا نحو اليمامة، من عذر؟»

«وزهّدني في كلّ خير صنعته *** إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر»

«إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة *** دهاك الهوى واهتاج قلبك للذكر»

«فوا حزني مما أجنّ من الأسى *** ومن مضمر الشوق الدخيل إلى حجري»

«تغرّبت عنها كارها وهجرتها، *** وكان فراقيها أمرّ من الصبر»

«فيا راكب الوجناء أبت مسلّما، *** ولا زلت من ريب الحوادث في ستر»

«إذا ما أتيت العرض فاهتف بأهله: *** سقيت على شحط النوى مسبل القطر»

«فإنك من واد إليّ مرجّب *** وإن كنت لا تزداد إلا على عقري»

المرجّب: المعظّم، ومنه قول الأنصاري: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب.

وبه سمّي رجب لتعظيمهم إياه، وحدث أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال أخبرني أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال: كان يحيى بن طالب الحنفي مولى لقريش باليمامة، وكان شيخا فصيحا ديّنا يقرّئ الناس، وكان عظيم التجارة، وذكر مثل ما تقدّم، فخرج إلى خراسان هاربا من الدّين، فلما وصل إلى قومس قال:

«أقول لأصحابي ونحن بقومس، *** ونحن على أثباج ساهمة جرد: »

«بعدنا، وبيت الله، عن أرض قرقرى، *** وعن قاع موحوش، وزدنا على البعد»

فلما وصل إلى خراسان قال:

«أيا أثلات القاع من بطن توضح *** حنيني، إلى أطلالكنّ، طويل»

«ويا أثلاث القاع قلبي موكّل *** بكنّ، وجدوى غيركنّ قليل»

«ويا أثلات القاع قد ملّ صحبتي *** مسيري، فهل في ظلّكنّ مقيل؟»

«ألا هل إلى شمّ الخزامى ونظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل»

«فأشرب من ماء الحجيلاء شربة *** يداوى بها، قبل الممات، عليل»

«أحدّث عنك النفس أن لست راجعا *** إليك، فحزني في الفؤاد دخيل»

«أريد انحدارا نحوها فيصدّني، *** إذا رمته، دين عليّ ثقيل»

قال أبو بكر بن الأنباري: وقد غنّي بهذه الأبيات عند الرشيد فسأل عن قائلها فأخبر فأمر برده وقضاء دينه، فسئل عنه فقيل إنه مات قبل ذلك بشهر، وقد قال:

«خليليّ عوجا، بارك الله فيكما، *** على البرّة العليا صدور الركائب»

«وقولا إذا ما نوّه القوم للقرى: *** ألا في سبيل الله يحيى بن طالب! »

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


28-معجم البلدان (القليس)

القُلَيْسُ:

تصغير قلس، وهو الحبل الذي يصير من ليف النخل أو خوصه، لما ملك أبرهة بن الصبّاح اليمن بنى بصنعاء مدينة لم ير الناس أحسن منها ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر وجعل فيها خشبا له رؤوس كرءوس الناس ولكّكها بأنواع الأصباغ وجعل لخارج القبة برنسا فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلمع البصر وسمّاها القلّيس، بتشديد اللام، وروى عبد الملك بن هشام والمغاربة القليس، بفتح القاف وكسر اللام، وكذا قرأته بخطّ السكري أبي سعيد الحسن بن الحسين، أخبرنا سلموية أبو صالح قال: حدثني عبد الله بن المبارك عن محمد بن زياد الصنعاني قال: رأيت مكتوبا على باب القليس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسند:

بنيت هذا لك من مالك ليذكر فيه اسمك وأنا عبدك، كذا بخط السكري بفتح القاف وكسر اللام، قال عبد الرحمن بن محمد: سميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوّها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، ويقال: تقلنس الرجل وتقلّس إذا لبس القلنسوة، وقلس طعامه إذا ارتفع من معدته إلى فيه، وما

ذكرنا من أنه جعل على أعلى الكنيسة خشبا كرءوس الناس ولكّكها دليل على صحة هذا الاشتقاق، وكان أبرهة قد استذلّ أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعا من السّخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزّع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صا

أصابه كعيت، وذكر أبو الوليد كذلك وأن كعيتا كان من خشب طوله ستون ذراعا، وقال الحسم شاعر من أهل اليمن:

«من القليس هلال كلما طلعا *** كادت له فتن في الأرض أن تقعا»

«حلو شمائله لولا غلائله *** لمال من شدّة التهييف فانقطعا»

«كأنه بطل يسعى إلى رجل *** قد شدّ أقبية السّدّان وادّرعا»

ولما استتمّ أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجّ العرب، فلما تحدّث العرب بكتاب أبرهة الذي أرسله إلى النجاشي غضب رجل من النّسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، والنسأة هم الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية أي يحلونها فيؤخرون الشهر من الأشهر الحرم إلى الذي بعده ويحرّمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، مثاله أن المحرّم من الأشهر الحرم فيحللون فيه القتال ويحرّمونه في صفر، وفيه قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ 9: 37، قال ابن إسحاق:

فخرج الفقيمي حتى أتى القليس وقعد فيها، يعني أحدث وأطلى حيطانها، ثم خرج حتى لحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: هذا فعل رجل من أهل البيت الذي تحج إليه العرب بمكة

لما سمع قولك أصرف إليها حجّ العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل، فغضب أبرهة وحلف ليسيرنّ حتى يهدمه وأمر الحبشة بالتجهيز، فتهيأت وخرج ومعه الفيل، فكانت قصة الفيل المذكورة في القرآن العظيم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


29-معجم البلدان (قومس)

قُومِسُ:

بالضم ثم السكون، وكسر الميم، وسين مهملة، وقومس في الإقليم الرابع، طولها سبع وسبعون درجة وربع، وعرضها ست وثلاثون درجة وخمس وثلاثون دقيقة، وهو تعريب كومس:

وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع وهي في ذيل جبال طبرستان وأكبر ما يكون في ولاية ملكها، وقصبتها المشهورة دامغان، وهي بين الري ونيسابور، ومن مدنها المشهورة بسطام وبيار، وبعض يدخل فيها سمنان وبعض

يجعل سمنان من ولاية الري، وقرأت في كتاب نتف الطرف للسلامي: حدثني ابن علويّة الدامغاني قال حدثني ابن عبد الدامغاني قال: كان أبو تمام حبيب بن أوس نزل عند والدي حين اجتاز بقومس إلى نيسابور ممتدحا عبد الله بن طاهر فسألناه عن مقصده فأجابنا بهذين البيتين:

«تقول في قومس صحبي وقد أخذت *** منّا السّرى وخطى المهريّة القود: »

«أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا؟ *** فقلت: كلّا ولكن مطلع الجود»

وقدم يحيى بن طالب الحنفي في مسيره إلى خراسان من دين كان عليه، فلما وصل إلى قومس سأل عنها فأخبر باسمها، فبكى وحنّ إلى وطنه وقال:

«أقول لأصحابي ونحن بقومس، *** ونحن على أثباج ساهمة جرد: »

«بعدنا، وبيت الله، عن أرض قرقرى *** وعن قاع موحوش وزدنا على البعد»

وكان الجوهري صاحب كتاب الصحاح بلغ قومس فقال:

«يا صاحب الدعوة لا تجزعن، *** فكلّنا أزهد من كرز»

«فالماء كالعنبر في قومس، *** من عزّه يجعل في الحرز»

«فسقّنا ماء بلا منّة، *** وأنت في حلّ من الخبز»

وقومس أيضا إقليم القومس: بالأندلس من نواحي كورة قبرة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


30-معجم البلدان (الكعبة)

الكَعْبَةُ:

بيت الله الحرام، قال ابن عباس: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات بعث ريحا فصفقت الماء فأبرزت عن خسفة في موضع البيت كأنها قبّة فدحا الأرض من تحتها فمادت فأوتدها بالجبال، الخسفة واحدة الخسف: تنبت في البحر نباتا، وقد جاء في الأخبار: أن أول ما خلق الله في الأرض مكان الكعبة ثم دحا الأرض من تحتها فهي سرّة الأرض ووسط الدنيا وأمّ القرى أولها الكعبة وبكّة حول مكة وحول مكة الحرم وحول الحرم الدنيا، وحدث أبو العباس القاضي أحمد ابن أبي أحمد الطبري حدثني المفضّل بن محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا الحسين ابن إبراهيم ومحمد بن جبير الهاشمي قال: حدثني حمزة بن عتبة عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إن أول خلق هذا البيت أن الله عز وجل قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون، ثم غضب عليهم فأعرض عنهم فطافوا بعرش الله سبعا كما يطوف الناس بالبيت الحرام وبقوا يسترضونه من غضبه يقولون: لبيك اللهم لبيك ربنا معذرة إليك نستغفرك ونتوب إليك، فرضي عنهم وأوحى إليهم أن ابنوا لي في الأرض بيتا يطوف به من عبادي من

أغضب عليه فأرضى عنه كما رضيت عنكم، قال أبو الحسين: ثم أقبل عليّ حمزة بن عتبة الهاشمي فقال:

يا ابن أخي لقد حدثتك والله حديثا لو ركبت فيه إلى العراق لكنت قد اعتفت، وأما صفته فذكر البشّاري وقال: هو في وسط المسجد الحرام مربع الشكل بابه مرتفع عن الأرض نحو قامة عليه مصراعان ملبسان بصفائح الفضة قد طليت بالذهب مقابلا للمشرق، وطول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعا، وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعا، وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعا وشبر، وعرضها ثلاثة وعشرون ذراعا وشبر، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعا، وذرع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع، وسمكها في السماء سبعة وعشرون ذراعا، والحجر من قبل الشام فيه يقلب الميزاب شبه الأندر قد ألبست حيطانه بالرخام مع أرضه ارتفاعها حقو ويسمونه الحطيم، والطواف من ورائه ولا يجوز الصلاة إليه، والحجر الأسود على الركن الشرقي عند الباب على لسان الزاوية في مقدار رأس الإنسان ينحني إليه من قبّله يسيرا، وقبة زمزم تقابل الباب والطواف بينهما ومن ورائهما قبة الشراب فيها حوض كان يسقى فيه السويق والسكر قديما، ومقام إبراهيم، عليه السلام، بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب وهو أقرب إلى البيت من زمزم يدخل في الطواف أيام الموسم، عليه صندوق حديد طوله أكثر من قامة مكسوّ ويرفع المقام في كل موسم إلى البيت فإذا ردّ جعل عليه صندوق خشب له باب يفتح أوقات الصلاة فإذا سلّم الإمام استلمه ثم أغلق الباب، وفيه أثر قدم إبراهيم، عليه السّلام، مخالفة، وهو أسود وأكبر من الحجر الأسود، وقد فرش الطواف بالرمل والمسجد بالحصى وأدير على صحنه أروقة ثلاثة على أعمدة رخام حملها المهدي من الإسكندرية في البحر إلى جدّة، قال وهب بن منبّه: لما أهبط الله عز وجل آدم، عليه السّلام، من الجنة إلى الأرض حزن واشتدّ بكاؤه عليها فعزّاه الله بخيمة من خيامها فجعلها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة وكانت ياقوتة حمراء، وقيل درّة مجوّفة من جوهر الجنة فيها قناديل من ذهب، ونزل معها الركن يومئذ وهو ياقوتة بيضاء وكان كرسيّا لآدم، فلما كان في زمن الطوفان رفع ومكثت الأرض خرابا ألفي سنة أعني موضع البيت حتى أمر الله نبيّه إبراهيم أن يبنيه فجاءت السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم فبنى هو وإسماعيل البيت على ما ظلّلته ولم يجعلا له سقفا وحرس الله آدم والبيت بالملائكة، فالحرم مقام الملائكة يومئذ، وقد روي أن خيمة آدم لم تزل منصوبة في مكان البيت إلى أن قبض فلما قبض رفعت فبنى بنوه في موضعها بيتا من الطين والحجارة ثم نسفه الغرق فغيّر مكانه حتى بعث الله إبراهيم، عليه السّلام، فحفر قواعده وبناه على ظل الغمامة، فهو أول بيت وضع للناس كما قال الله عز وجل، وكان الناس قبله يحجون إلى مكة وإلى موضع البيت حتى بوّأ الله مكانه لإبراهيم لما أراد الله من عمارته وإظهاره دينه وشعائره فلم يزل البيت منذ أهبط آدم إلى الأرض معظّما محرّما تناسخه الأمم والملل أمّة بعد أمّة وملة بعد ملة، وكانت الملائكة تحجه قبل آدم، فلما أراد إبراهيم بناءه عرج به إلى السماء فنظر إلى مشارق الأرض ومغاربها وقيل له اختر، فاختار موضع مكة، فقالت الملائكة: يا خليل الله اخترت موضع مكة وحرم الله في الأرض، فبناه وجعل أساسه من سبعة أجبل، ويقال من خمسة أو من أربعة، وكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم

من تلك الجبال، وروي عن مجاهد أنّه قال: أسّس إبراهيم زوايا البيت من أربعة أحجار: حجر من حراء وحجر من ثبير وحجر من طور وحجر من الجودي الذي بأرض الموصل وهو الذي استقرّت عليه سفينة نوح، وروي أن قواعده خلقت قبل الأرض بألفي سنة ثمّ بسطت الأرض من تحت الكعبة،

ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف ثم مضى وجبرائيل يعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفات، فقال له: أعرفت مناسكك؟ فقال له إبراهيم: نعم، فسميت عرفات لذلك، ثمّ أمره أن يؤذن في المسلمين بالحج، فقال: يا ربّ وما يبلغ من صوتي! فقال الله عزّ وجل: أذّن وعليّ البلاغ، فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أعلى الجبال وأشرفها وجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرّها وبحرها وجنها وإنسها حتى أسمعهم جميعا وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى بيت الله الحرام فأجيبوا ربكم فمن أجابه ولبّاه فلا بدّ له من أن يحجّ ومن لم يجبه لا سبيل له إلى ذلك، وخصائص الكعبة كثيرة وفضائلها لا تحصى ولا يسع كتابنا إحصاء الفضائل، وليست أمّة في الأرض إلّا وهم يعظّمون ذلك البيت ويعترفون بقدمه وفضله وأنّه من بناء إبراهيم حتى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وقد قيل إن زمزم سميت بزمزمة اليهود والمجوس، فأما الصابئون فهو بيت عبادتهم لا يفخرون إلّا به ولا يتعبّدون إلّا بفضله، قالوا: وبقيت الكعبة على ما هي عليه غير مسقفة فكان أوّل من كساها تبّع لما أتى به مالك بن العجلان إلى يثرب وقتل اليهود، في قصة ذكرتها في كتابي المسمى بالمبدإ والمآل في التاريخ، فمرّ بمكّة فأخبر بفضلها وشرفها فكساها الخصف، وهي حصر من خوص النخل، ثم رأى في المنام أن اكسها أحسن من هذا، فكساها الأنطاع، فرأى في المنام أن اكسها أحسن من ذلك، فكساها المعافر والوصائل، والمعافر: ثياب يمانية تنسب إلى قبيلة من همدان يقال لهم المعافر، اسم الثياب والقبيلة والموضع الذي تعمل فيه واحد، وربّما قيل لها المعافرية، وثوب

معافري يتصرّف في النسبة ولا يتصرّف في المفرد لأنّه على زنة الجمع ثالثة ألف، ونسب إلى الجمع لأنّه صار بمنزلة المفرد سمي به مفرد، وكان أوّل من حلّى البيت عبد المطّلب لما حفر بئر زمزم وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب فضربهما في باب الكعبة، فلمّا قام ال

إنّ قومك قصّرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا قومك حديثو عهد في الإسلام فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض، فأدخل ابن الزبير عشرة مشايخ من الصحابة حتى سمعوا ذلك منها ثمّ أمر بهدم الكعبة، فاجتمع إليه الناس وأبوا ذلك فأبى إلّا هدمها، فخرج الناس إلى فرسخ خوفا من نزول عذاب وعظم ذلك عليهم ولم يجر إلّا الخير، وذكر ابن القاضي عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم البيت ويبنيه قال للناس: اهدموا، فأبوا وخافوا أن ينزل العذاب عليهم، قال مجاهد:

فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم البيت، فلمّا رأوا أنّه لم يصبه شيء اجترؤوا على هدمه وبناها على ما حكت عائشة وتراجع الناس، فلمّا قدم الحجّاج تحرّم ابن الزبير بالكعبة فأمر بوضع المنجنيق على أبي قبيس وقال: ارموا الزيادة التي ابتدعها هذا المتكلّف، فرموا موضع الحطيم، فلمّا قتل ابن الزبير وملك الحجاج ردّ الحائط كما كان قديما وأخذ بقية الأحجار فسدّ منها الباب الغربي ورصف بقيتها في البيت حتى لا تضيع، فهي إلى الآن على ذلك، وقال تبّع لما كسا البيت:

«وكسونا البيت الذي حرّم اللّ *** هـ ملاء معضّدا وبرودا»

«وأقمنا به من الشهر عشرا، *** وجعلنا لبابه إقليدا»

«وخرجنا منه نؤمّ سهيلا *** قد رفعنا لواءنا المعقودا»

ويقال إنّ أوّل من كساه الديباج يزيد بن معاوية، ويقال عبد الله بن الزبير، ويقال عبد الملك بن مروان، وأوّل من خلّق الكعبة عبد الله بن الزبير، وقال ابن جريج: معاوية أوّل من طيّب الكعبة بالخلوق والمجمر وإحراق الزيت بقناديل المسجد من بيت مال المسلمين، ويروى عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنّه قال: خلق الله البيت قبل الأرض بأربعين عاما وكان غثاءة على الماء، وقال مجاهد في قوله تعالى:

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا 2: 125، قال: يثوبون إليه ويرجعون ولا يقضون منه وطرا، وفي قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً من النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ 14: 37، قال:

لو قال أفئدة الناس لازدحمت فارس والروم عليه.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


31-معجم البلدان (المحمدية)

المُحَمَّدِيّةُ:

أصله مفعّل مشدّد للتكثير والمبالغة من الحمد وهو اسم مفعول منه ومعناه أنه يحمد كثيرا، وهو اسم لمواضع، منها: قرية من نواحي بغداد من كورة طريق خراسان أكثر زرعها الأرز. والمحمدية أيضا: ببغداد من قرى بين النهرين، منها أبو علي محمد بن الحسين بن أحمد بن الطيّب الأديب، كتب عنه هبة الله الشيرازي وقال: أنشدنا الأديب محمد بن الحسين لنفسه بالمحمدية من العراق فقال:

«إذا اغترب الحرّ الكريم بدت له *** ثلاث خصال كلهنّ صعاب: »

«تفرّق أحباب، وبذل لهيبة، *** وإن مات لم تشقق عليه ثياب»

والمحمدية أيضا: من أعمال برقة من ناحية الإسكندرية. والمحمدية: مدينة بنواحي الزاب من أرض المغرب. ومدينة المسيلة بالمغرب يقال لها أيضا المحمدية اختطّها محمد بن المهدي الملقب بالقائم في أيام أبيه، وذلك أن أباه أنفذه في جيش حتى بلغ

تاهرت فقتل وتملّك ومرّ بموضع المسيلة فأعجبه فخطّ برمحه وهو راكب فرسه صفة مدينة وأمر علي بن حمدون الأندلسي ببنائها وسماها المحمدية باسمه، وكانت خطّة لبني كملان قبيلة من البربر فأمر بنقلهم إلى فحص القيروان فهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي عليه فأحكمها ون

والمحمدية: مدينة بكرمان في الإقليم الثالث، طولها تسعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة ونصف وربع، قال البلاذري: الإيتاخيّة تعرف بإيتاخ التركي ثم سماها المتوكل المحمدية باسم ابنه محمد المنتصر وكانت تعرف أولا بدير أبي الصّفرة وهم قوم من الخوارج وهي بقرب سامرّا، ووقع لي بمرو كتاب اسمه تمام الفصيح لابن فارس وبخطه وقد كتب في آخره: وكتب أحمد بن فارس ابن زكرياء بخطه في شهر رمضان سنة 390 بالمحمدية، فعبرت دهرا أسأل عن موضع بنواحي الجبال يعرف بهذا الاسم فلم أجده لأن ابن فارس في هذه الأيام هناك كان حيّا حتى وقعت على كتاب محمد بن أحمد بن الفقيه فذكر فيه قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهدي الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الري التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا وجرى ذلك على يد عمّار بن أبي الخصيب وكتب اسمه على حائطها وتم عملها سنة 158 وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آخر وسماها المحمدية، فأهل الري يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزبيدية في داخل المدينة بالمحمدية، وقد كان المهدي نزله أيام كونه بالري وكان مطلّا على المسجد الجامع ودار الإمارة ثم جعل بعد ذلك سجنا ثم خرب فعمّره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثم خربه أهل الري بعد خروج رافع عنها، فلما وقفت على هذا فرّج عني وإن كان في ألفاظ هذا الخبر اختلال إلا أن الغرض حصل أنها محلة بالري، وقرأت في تاريخ أبي سعد الآبي أن المهدي لما قدم الري بنى بها المسجد الجامع فذكر أنه لما أخذ في حفر الأساس أتي إلى أساس قديم في أبواب بيوت قد رسخت في الأرض كان السيل قد أتى عليها فطمّها ودفنها، فأخبر المهدي بذلك فنادى:

من كان له ههنا دار فليأت فإن شاء باع وإن شاء عوّض عنها دارا، فأتاه ناس كثير فاختار بعضهم الثمن فقبضوه وبعضهم اختار العوض فبنى لهم المحلة المعروفة بمهدي أباذ ووقع الفراغ من بناء جميع ذلك في سنة 158 فسميت الري المحمدية باسم المهدي وسميت البيوت المدينة الداخلة والفصيل المدينة الخارجة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


32-معجم البلدان (هيدة)

هَيْدَةُ:

ذكر في الذي قبله، وهيدة: اسم ردهة بأعلى المضجع، قالت ليلى الأخيلية:

«تخلّى عن أبي حرب فولّى *** بهيدة قابض قبل القتال»

وقال أبو عبيدة في المقاتل: لم يقف علماؤنا على هيدة ما هي حتى جاء الحسن فأخبر أنه موضع قتل فيه توبة، وهما هضبتان يقال لهما بنتا هيدة، ومرّت ليلى بقبره فعقرت بعير زوجها على قبره وقالت:

«عقرت على أنصاب توبة مقرما *** بهيدة إذ لم تحتضره أقاربه»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


33-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاحتجاج النظري إلجام الخصم بالحجة)

الاحتجاج النّظريّ- إلجام الخصم بالحجة:

احتج بالشيء اتخذه حجة، والحجة البرهان والدليل، وأحج خصمي أي أغلبه بالحجة.

والاحتجاج النظري لون من ألوان الكلام، وسماه بهذا الاسم جماعة منهم أبو حيان الاندلسي وابن قيّم الجوزية وابن النقيب، وسماه الزركشي «إلجام الخصم بالحجة»، ولكن البلاغيين يسمونه «المذهب الكلامي».

وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما ادعاه المتكلم وابطال ما أورده الخصم. وسمي المذهب الكلامي لأنّه «يسلك فيه مذهب أهل الكلام في استدلالهم على إبطال حجج خصومهم. والمراد بأهل الكلام علماء أصول الدين».

والمذهب الكلامي هو الفن الخامس من بديع ابن المعتز، قال: «وهو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي، وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا، وهو ينسب الى التكلف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» ولم يحدد هذا الفن، ولعله يريد به اصطناع أساليب الفلاسفة والمتكلمين في الجدل والاستدلال، ولذلك نفاه عن القرآن الكريم.

ولم نعثر في كتب الجاحظ المعروفة على هذا المصطلح، ولكنه يسخر أحيانا من الذين يتكلفون أداء الكلام تشبها بالمتكلمين.

والمذهب الكلامي عند المتأخرين هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام، وذلك أن يكون بعد تسليم المقدمات مقدمة مستلزمة للمطلوب، وهذا ما نجده في كتاب الله وكلام العرب الذي استشهد به البلاغيون. وقد ذكره العسكري وأشار الى أن ابن المعتز نسبه الى التكلف، وتحدث في أول كتاب الصناعتين عن وضوح الدلالة وقرع الحجة وهو مما يدخل في هذا الباب. قال: «ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. فهذه دلالة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها؛ لأنّ الاعادة ليست بأصعب في العقول من الابتداء، ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}، فزادها شرحا وقوة؛ لأنّ من يخرج النار من أجزاء الماء وهما ضدان ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه. ثم قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} فقوّاها أيضا وزاد في شرحها وبلغ بها غاية الايضاح والتوكيد لأنّ إعادة الخلق ليست بأصعب في العقول من خلق السماوات والأرض ابتداء». وهذا هو المذهب الكلامي عند المتأخرين، أما ما ذكره في فصل المذهب الكلامي فهو متابعة لابن المعتز في معنى هذا الفن وأمثلته.

وتحدث عنه ابن رشيق في باب التكرار ونقل كلام ابن المعتز وامثلته، وأقرّ بذلك النقل فقال: «وقد نقلت هذا الباب نقلا من كتاب عبد الله بن المعتز إلّا ما لاخفاء به عن أحد من أهل التمييز، واضطرني الى ذلك قلة الشواهد فيه إلا ما ناسب قول أبي نواس:

«سخنت من شدة البرودة حتى ***صرت عندي كأنك النار”

«لا يعجب السامعون من صفتي ***كذلك الثلج بارد حار»

فهذا مذهب كلامي فلسفي». ولكنه وجد أمثلة هي أولى بهذه التسمية مما ذكره المؤلفون كنحو قول ابراهيم بن المهدي يعتذر الى المأمون من وثوبه على الخلافة:

«البرّ منك وطاء العذر عندك لي ***فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم »

«وقام علمك بي فاحتج عندك لي ***مقام شاهد عدل غير متّهم »

وقول أبي عبد الرحمن العطوي:

«فوحق البيان يعضده البر***هان في مأقط ألدّ الخصام »

«ما رأينا سوى الحبيبة شيئا***جمع الحسن كلّه في نظام »

«هي تجري مجرى الاصابة في الرأ***ي ومجرى الأرواح في الأجسام »

وبدأ المذهب الكلامي يأخذ صورته الواضحة في كتب البلاغة، فالتبريزي علّق على أبيات النابغة الذبياني: ـ

«ولكنني كنت امرء لي جانب ***من الأرض فيه مستراد ومذهب »

«ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم ***أحكّم في أموالهم وأقرّب »

«كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ***فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا»

بقوله: «أي لا تلمني في مدحي آل جفنة وقد أحسنوا اليّ كما لو أحسنت الى قوم فشكروا لك ولم تر ذلك ذنبا. وهذه طريقة الجدل، وانما اتفق له بجودة القريحة وفضل التمييز».

وقال المصري: «المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه؛ لأنّه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية. وهو الذي نسبت تسميته الى الجاحظ وزعم ابن المعتز أنّه لا يوجد في الكتاب العزيز وهو محشو منه».

وبدأ هذا الفن يدخل في المحسنات المعنوية على يد أصحاب بلاغة السكاكي وقد عرّفه ابن مالك بقوله: «المذهب الكلامي أن تورد مع الحكم ردا لمنكره حجة على طريق المتكلمين أي صحيحة مسلّمة الاستلزام. وينقسم الى منطقي وجدلي، فالمنطقي ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام، والجدلي ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلا الرجحان. وأول من ذكر المذهب الكلامي الجاحظ وزعم أنّه ليس في القرآن منه شيء، ولعله انما عنى القسم المنطقي فان الجدلي في القرآن منه كثير».

وقال الحلبي: «هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام».

وقال ابن الأثير الحلبي: «وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما أدعاه المتكلم وإبطال ما أورده الخصم».

وسار القزويني وشراح تلخيصه على مذهب ابن مالك في إدخال هذا الفن في المحسنات المعنوية وقال عنه: «هو أن يورد المتكلم حجة لما يدعيه على طريقة أهل الكلام». وقال السبكي إنّ هذا ليس من البديع لأنّه تطبيق على مقتضى الحال فيكون من علم المعاني. والمذهب الكلامي نوعان:

الأول: الجدلي، وهو ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلّا الرجحان، وهذا النوع كثير في كتاب الله من ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. تقديره: والأهون أدخل في الامكان وقد أمكن البدء فالاعادة أدخل في الامكان من بدء الخلق. ومثله: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}. وقوله: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا}، وقوله {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ}. ومن هذا النوع أبيات النابغة الذبياني: «ولكنني كنت امرء...».

الثاني: المنطقي: وهو ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام، ولعل ابن المعتز عنى هذا النوع حينما نفاه من القرآن، ولكن المصري قال: «ومن هذا الباب نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين فانّ أهل هذا العلم قد ذكروا أنّ أول سورة الحج الى قوله: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات. فالمقدّمات من أول السورة الى قوله تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والنتائج من قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ} الى قوله: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: الله أخبر أنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحقّ، وأخبر عن المغيّب بالحق فهو حقّ، فالله هو الحق، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بأحياء الموتى ليدركوا ذلك. ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى. وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير، فالله على كل شيء قدير. وأخبر أنّ الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم، ولا بدّ من مجازاته، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية.

ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وإنّ الله ينزّل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور، وإن الله يبعث من في القبور».

وذكر المصري أنّ من هذا الباب جواب سؤال مقدر كقوله تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ} لأنّ التقدير انّ قائلا قال بعد قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، فقد استغفر ابراهيم لأبيه فأخبر بقوله: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ} والله أعلم.

فالمذهب الكلامي من أساليب القرآن الكريم وكلام العرب، وقد أوضح الحموي هذه المسألة ورفض ما ذكره ابن المعتز فقال: «وقيل: إنّ ابن المعتز قال: لا أعلم ذلك في القرآن، أعني المذهب الكلامي، وليس عدم علمه مانعا من علم غيره».

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


34-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاستطراد)

الاستطراد:

اطّرد الشيء: تبع بعضه بعضا وجرى، واطّردت الأشياء إذا تبع بعضها بعضا، واطّرد الكلام اذا تتابع.

والاستطراد عند الجاحظ هو الانتقال من موضوع الى آخر لكي لا يمل القارئ أو السامع، وهذا واضح في معظم مؤلفاته.

والاستطراد عند ثعلب هو حسن الخروج، وكذلك عند تلميذه ابن المعتز، وقيل إنّ أوّل من ابتدع هذا الاسلوب السموأل في قوله:

«وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة***إذا ما رأته عامر وسلول »

«يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا***وتكرهه آجالهم فتطول »

فكان هذا أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال، قال ابن رشيق: «وهو أول من نطق به»، وقال المصري: «وأحسب أنّ أول من استطرد بالهجاء السموأل». وقيل إنّ البحتري الشاعر نقل هذه التسمية عن أبي تمام، قال الصولي: «حدثني أبو الحسن على بن محمد الانباري، قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه:

«وسابح هطل التعداء هتّان ***على الجراء أمين غير خوّان »

«أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه ***فخلّ عينيك في ظمآن ريّان »

«فلو تراه مشيحا والحصى زيم ***بين السنابك من مثنى ووحدان »

«أيقنت أن لم تثبت أنّ حافره ***من صخر تدمر أو من وجه عثمان »

ثم قال لي: ما هذا الشعر؟ قلت: لا أدري. قال: هذا المستطرد؛ أو قال: الاستطراد. قلت: وما معنى ذلك؟

قال: يرى أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان، فاحتذى هذا البحتري فقال في قصيدته التي مدح فيها محمد بن علي القمي ويصف الفرس أولها:

«أهلا بذلكم الخيال المقبل ***فعل الذي نهواه أو لم يفعل »

ثم وصف الفرس فقال:

«وأغرّ في الزمن البهيم محجل ***قد رحت منه على أغرّ محجّل »

«كالهيكل المبنيّ إلا أنّه ***في الحسن جاء كصورة في هيكل »

«يهوي كما تهوي العقاب إذا رأت ***صيدا وينتصب انتصاب الأجدل »

«متوجس برقيقتين كأنّما***يريان من ورق عليه موصّل »

«وكأنما نفضت عليه صبغها***صهباء للبردان أو قطر بّل »

«ملك العيون فان بدا أعطيته ***نظر المحبّ الى الحبيب المقبل »

«ما إن يعاف قذى ولو أوردته ***يوما خلائق حمدويه الأحول» »

وعلّق الآمدي على بعض حسن الخروج عند الشعراء بقوله: «وهذا يسميه قوم الاستطراد، وهو حسن جدا» وسماه العسكري الاستطراد وقال في تعريفه: «هو أن يأخذ المتكلم في معنى فبينا يمر فيه يأخذ في معنى آخر وقد جعل الأول سببا اليه»، وذكر أمثلة من القرآن والشعر ولا سيما أبيات أبي تمام.

وقال ابن رشيق: «الاستطراد أن يبني الشاعر كلاما كثيرا على لفظة من غير ذلك النوع يقطع عليها الكلام وهي مراده دون جميع ما تقدم ويعود الى كلامه الأول وكأنما عثر بتلك اللفظة عن غير قصد ولا اعتقاد نيّة». وقال: «وهو أن يرى الشاعر أنّه في وصف شي وهو إنّما يريد غيره فان قطع أو رجع الى ما كان فيه فذلك استطراد وإن تمادى فذلك خروج، وأكثر الناس يسمي الجميع استطرادا والصواب ما بينته». وقال: «من الاستطراد نوع يسمى الادماج كقول عبيد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد:

«أبى الدهر في اسعافنا في نفوسنا***وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم »

«فقلت له: نعماك فيهم أتمّها***ودع أمرنا إنّ المهمّ المقدّم »

وسماه الاستطراد ـ أيضا ـ التبريزي والبغدادي وابن مالك، وعدّه الصنعاني من أنواع الفصاحة.

وذكر المصري أنّه لم يظفر منه بشيء في القرآن المجيد إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ}، وقال: «فمن ظفر فيه بشيء فهو المحسن بالحاقه في بابه ». وقال مثل ذلك ابن مالك فيما نقله السبكي، قال: «ان الاستطراد قليل في القرآن الكريم وأكثر ما يكون في الشعر وأكثره في الهجاء، ولم أظفر به إلّا في قوله تعالى: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ}. وذكر العسكري قبله غير هذه الآية كقوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}، فبينا يدلّ الله ـ سبحانه ـ على نفسه بانزال الغيث واهتزاز الارض بعد خشوعها قال: {إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى،} فأخبر عن قدرته على إعادة الموتى بعد إفنائها وإحيائها بعد إرجائها، وقد جعل ما تقدم من ذكر الغيث والنبات دليلا عليه ولم يكن في تقدير السامع لأول الكلام، إلا أنّه يريد الدلالة على نفسه بذكر المطر دون الدلالة على الاعادة فاستوفى المعنيين جميعا». وقال الزمخشري في قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: «وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السّوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، واشعارا بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى». وقال السيوطي: «وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فانّ أول الكلام ذكر فيه الرد على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطرد الرد على العرب الزاعمين بنوّة الملائكة».

وهذا يدل على أنّ لأسلوب الاستطراد أمثلة في كتاب الله الخالد غير ما ذكر المصري. وقال المظفر العلوي: «ومعنى الاستطراد خروج الشاعر من ذم الى مدح أو من مدح الى ذم»، كقول زهير:

«إنّ البخيل ملوم حيث كان ولكنّ ***الجواد على علّاته هرم »

وأشار القرطاجني الى الفرق بين الاستطراد والتخلص بقوله: «وأهل البديع يسمون ما كان الخروج فيه بتدرج تخلصا، وما لم يكن بتدرج ولا هجوم ولكن بانعطاف طارى على جهة من الالتفات استطرادا»، كقول حسان بن ثابت:

«إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ***فنجوت منجى الحارث بن هشام »

ولا يرى المدني ذلك استطرادا وانما هو تخلص لأنّ «الاستطراد يشترط فيه العود الى الكلام الأول كما تقدم، وحسان لم يعد الى ما كان عليه من ذكر العاذلة بل أتم القصيدة مستمرا على ذكر هزيمة الحارث بن هشام والإيقاع بقومه في يوم بدر».

وذكر السيوطي أنّ مما يقترب من الاستطراد ولا يكاد ان يفترقان حسن التخلص، وقال: «وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنّك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية وأقبلت على ما تخلصت اليه. وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت اليه مرورا كالبرق الخاطف ثم تتركه وتعود الى ما كنت فيه كأنك لم تقصده وإنّما عرض عروضا.

قال: وبهذا يظهر أنّ ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص لعوده في الأعراف الى قصة موسى بقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ..}.، وفي الشعراء الى ذكر الانبياء والأمم». وقال العلوي: «هو أن يشرع المتكلم في شيء من فنون الكلام ثم يستمر عليه فيخرج الى غيره ثم يرجع الى ما كان عليه من قبل، فان تمادى فهو الخروج وإن عاد فهو الاستطراد»، وفرّق بين الأثنين الحموي والمدني، ولكن قد يجتمع التخلص والاستطراد كما في قول مسلم:

«أجدّك لا تدرين أن ربّ ليلة***كأنّ دجاها من قرونك تنشر»

«أرقت لها حتى تجلّت بغرّة***كغرة يحيى حين يذكر جعفر»

وعرّف القزويني الاستطراد بقوله: «هو الانتقال من معنى الى معنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل الى ذكر الثاني»، وذكر السبكي والحموي والسيوطي هذا التعريف، وعرفه الزركشي تعريفا غريبا فقال: «وهو التعريض بعيب انسان بذكر عيب غيره»، كقوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ}، ونقل ابن قيم الجوزية هذا التعريف والمثال وأضاف اليه بيتي السموأل السابقين. وذكر المدني بعض التعريفات السابقة، وأشار الى ما بين الاستطراد والتخلص من فروق، وذكر أمثلة من القرآن الكريم.

ومن أمثلة الاستطراد التي أعجبت المصري قول بكر بن النطاح:

«عرضت عليها ما أرادت من المنى ***لترضى فقالت قم فجئني بكوكب »

«فقلت لها هذا التعنت كلّه ***كمن يتشهّى لحم عنقاء مغرب »

«سلي كلّ شيء يستقيم طلابه ***ولا تذهبي يا بدر بي كلّ مذهب »

«فأقسم لو أصبحت في عز مالك ***وقدرته أعيا بما رمت مطلبي »

«فتى شقيت أمواله بنواله ***كما شقيت بكر بأرماح تغلب »

قال: «وهذا أبدع استطراد سمعته في عمري، فانه قد جمع أحسن قسم، وأبدع تخلص، وأرشق استطراد، وتضمن مدح الممدوح بالكرم وقبيلته بالشجاعة والظفر وهجاء أعدائهم بالضعف والخور، وهذا لم يتفق لمن قبله ولا لمن بعده الى وقتنا هذا».

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


35-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (نسبة الشيء)

نسبة الشّيء:

نسبة الشيء إلى ما ليس منه من عيوب المعاني، قال قدامة: «هو أن ينسب الشيء الى ما ليس منه» كقول خالد بن صفوان:

«فان صورة راقتك فاخبر فربّما***أمرّ مذاق العود والعود أخضر»

فهذا الشاعر بقوله: «ربما أمرّ مذاق العود والعود أخضر» كأنه يومىء الى أنّ سبيل العود الأخضر في الأكثر أن يكون عذبا أو غير مرّ وليس هذا بواجب لأنّه ليس العود الأخضر بطعم من الطعوم أولى منه بالآخر.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


36-موسوعة الفقه الكويتية (اختصاص 1)

اخْتِصَاصٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاخْتِصَاصُ فِي اللُّغَةِ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ دُونَ الْغَيْرِ، أَوْ إِفْرَادُ الشَّخْصِ دُونَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مَا.

وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ مِمَّا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَقُولُونَ فِيمَنْ وَضَعَ سِلْعَتَهُ فِي مَقْعَدٍ مِنْ مَقَاعِدِ السُّوقِ الْمُبَاحَةِ: إِنَّهُ اخْتَصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ حَتَّى يَدَعَ.

مَنْ لَهُ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ

2- الِاخْتِصَاصُ إِمَّا لِلْمُشَرِّعِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ بِمَا لَهُ مِنْ وِلَايَةٍ أَوْ مِلْكٍ.

الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ

3- الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ وَاجِبُ الطَّاعَةِ، كَاخْتِصَاصِهِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَاخْتِصَاصِهِ الْكَعْبَةَ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ.وَمَحَلُّ الِاخْتِصَاصِ- فِي هَذَا الْبَحْثِ- قَدْ يَكُونُ شَخْصًا، أَوْ زَمَانًا، أَوْ مَكَانًا.

اخْتِصَاصَاتُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-

4- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِي بَحْثِ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَحْثِ فِي خَصَائِصِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا؛ لِأَنَّ فِي الْبَحْثِ فِي الْخَصَائِصِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ ثَابِتَةً فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَعَمِلَ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، فَوَجَبَ بَيَانُهَا لِتُعْرَفَ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا.

وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ الْيَوْمَ فَقَلِيلٌ، لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ لِلتَّدَرُّبِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَتَحْقِيقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ.وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخَصَائِصِ حُكْمٌ نَاجِزٌ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

أَنْوَاعُ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:

5- أ- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لَا يُورَثُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ب- الْمَزَايَا الْأُخْرَوِيَّةُ، كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ، وَكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ج- الْفَضَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ حَدِيثًا.

د- الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَغَيْرِهِ.

هـ- الْأُمُورُ الْخُلُقِيَّةُ، كَكَوْنِهِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتِ- اخْتِصَاصُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ.أَمَّا مَوْطِنُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَصَائِصِ الْأُخْرَى فَهُوَ كُتُبُ الْعَقَائِدِ، وَكُتُبُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي خَصَائِصِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفَضَائِلِهِ.

مَا اخْتُصَّ بِهِ- صلى الله عليه وسلم-

مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ:

6- هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْوَاجِبَةُ:

7- فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ عَلَى أُمَّتِهِ، إِعْلَاءً لِمَقَامِهِ عِنْدَهُ وَإِجْزَالًا لِثَوَابِهِ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ ثَوَابِ النَّفْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» وَمِنْ ذَلِكَ.

أ- قِيَامُ اللَّيْلِ:

8- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، هَلْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ.فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدِ اخْتُصَّ بِافْتِرَاضِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَتَابَعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَيْ نَفْلًا لَكَ، أَيْ فَضْلًا: (زِيَادَةً) عَنْ فَرَائِضِكَ الَّتِي فَرَضْتُهَا عَلَيْكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.قَالَ الطَّبَرِيُّ: «خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِ قِيَامَ اللَّيْلِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ».وَيُعَضِّدُ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ سُنَّةٌ، الْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ».وَذَهَبَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى، رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ هُوَ نَافِلَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَافِلَةً لَكَ} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَمَا عَمِلَ مَنْ عَمَلٍ سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فَهُوَ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ نَافِلَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَالنَّاسُ يَعْمَلُونَ مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ لِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ- فِي الْحَقِيقَةِ- نَوَافِلُ.

وَتَبِعَ مُجَاهِدًا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ نُسِخَ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ»،، خَاصَّةً أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِفَرْضِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

ب- صَلَاةُ الْوِتْرِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِافْتِرَاضِ صَلَاةِ الْوِتْرِ عَلَيْهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أُمَّتِهِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ خَاصٌّ بِالْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ».وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ جَوَازُ صَلَاتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ خَاصٌّ بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

وَيَرَى الْعَيْنِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ- إِنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوِتْرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْهِ الْوِتْرُ.

ج- صَلَاةُ الضُّحَى:

10- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَفْرُوضَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».

وَأَقَلُّ الْوَاجِبِ مِنْهَا عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ لِحَدِيثِ: «أُمِرْتُ بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا».وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ بِالْوِتْرِ وَالْأَضْحَى وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيَّ».

د- سُنَّةُ الْفَجْرِ:

11- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ السَّلَفِ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ».

هـ- السِّوَاكُ:

12- الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُفْتَرَضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ».وَفِي لَفْظٍ: «وُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ».

و- الْأُضْحِيَةُ:

13- الْأُضْحِيَةُ فَرْضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».

ز- الْمُشَاوَرَةُ:

14- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُنِّيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ لِيَسْتَنُّوا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَاوَرَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لِفِقْدَانِ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ.وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِرْشَادِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُشَاوِرُ فِيهِ: بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.

فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْحُرُوبِ وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ مَا شَاوَرَ فِيهِ الرَّسُولُ (ص) أَصْحَابَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ فَرِيقٌ آخَرُ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.أَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّ اسْتِشَارَتَهُ لَهُمْ تَكُونُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.

ح- مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ الزَّائِدِ عَلَى الضِّعْفِ:

15- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ وَزَادَ عَلَى الضِّعْفِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

ط- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ:

16- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا لِلْخَوْفِ، بِخِلَافِ أُمَّتِهِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهَا بِالْخَوْفِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ رَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا كَانَ الْمُرْتَكِبُ يَزِيدُهُ الْإِنْكَارُ إِغْرَاءً، لِئَلاَّ يَتَوَهَّمَ إِبَاحَتَهُ بِخِلَافِ أُمَّتِهِ.وَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى.

ي- قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَيْنَ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ مِنْهُ- عليه الصلاة والسلام- تَطَوُّعًا.ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْقَضَاءُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مِنْ مَالِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ بِخُصُوصِيَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهَا جَمِيعُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يُتَوَفَّى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».

ك- وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ وَإِمْسَاكُ مَنِ اخْتَارَتْهُ:

18- طَالَبَهُ أَزْوَاجُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَةِ- كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ- حَتَّى تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْن َأُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.

فَخَيَّرَهُنَّ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ إِلاَّ الْعَامِرِيَّةَ اخْتَارَتْ قَوْمَهَا، فَأُمِرَ- صلى الله عليه وسلم- بِإِمْسَاكِ مَنِ اخْتَارَتْهُ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} وَذَلِكَ مُكَافَأَةٌ لَهُنَّ عَلَى إِيثَارِهِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُحَرَّمَةُ- صلى الله عليه وسلم-

19- قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا أَحَلَّهُ لأُِمَّتِهِ، تَنْزِيهًا لَهُ- عليه الصلاة والسلام- عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ، وَإِعْلَاءً لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ أَجْرَ تَرْكِ الْمُحَرَّمِ أَكْبَرُ مِنْ أَجْرِ تَرْكِ الْمَكْرُوهِ، وَبِذَلِكَ يَزْدَادُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عُلُوًّا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ:

أ- الصَّدَقَاتُ:

20- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، كَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالنَّذْرِ وَالتَّطَوُّعِ، صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ، وَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ ذُلِّ الْآخِذِ وَعِزِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، الْمُنْبِئِ عَنْ عِزِّ الْآخِذِ وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآِلِ مُحَمَّدٍ».هَذَا، وَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى آلِ الْبَيْتِ إِنَّمَا هُوَ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم-.

ب- الْإِهْدَاءُ لِيَنَالَ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى:

21- حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهْدِيَ لِيُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ}؛ لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الْآدَابِ وَأَجَلِّ الْأَخْلَاقِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.

ج- أَكْلُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ:

22- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ نَحْوِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا.مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا أَيْ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي».

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ أَكْلَهُ لِتَعَرُّضِهِ لِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَأَذَّى بِالرِّيحِ الْخَبِيثَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ صَنَعَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِطَعَامٍ مِنْ خَضِرَةٍ فِيهِ بَصَلٌ وَكُرَّاثٌ، فَرَدَّهُ- عليه الصلاة والسلام- وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ».

د- نَظْمُ الشِّعْرِ:

23- هُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبُحُورِ، فَقَالَ: الرَّجَزُ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَغَيْرُهُ لَا يَجُوزُ.وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَنْشَدَهُ- عليه الصلاة والسلام- مِنَ الرَّجَزِ وَهُوَ يُشَارِكُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرَّجَزَ مِنَ الشِّعْرِ قَالَ: إِنَّ هَذَا خَاصَّةٌ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ لَا يَكُونُ شِعْرًا إِلاَّ إِنْ صَدَرَ عَنْ قَائِلِهِ بِقَصْدِ الْإِشْعَارِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِهَذَا الرَّجَزِ الَّذِي قَالَهُ

هـ- نَزْعُ لَامَتِهِ إِذَا لَبِسَهَا لِلْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتِلَ:

24- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا أَخَذَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ».وَوَاضِحٌ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ.

و- خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ:

25- الْمُرَادُ بِهَا الْإِيمَاءُ بِمَا يَظْهَرُ خِلَافُهُ، وَهُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ إِلاَّ فِي مَحْظُورٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ هُوَ تَنَزُّهُ مَقَامِ النُّبُوَّةِ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفَتْحِ أَمَّنَ النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَيْعَةِ، جَاءَ بِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدَيَّ عَنْ بَيْعَتِهِ لِيَقْتُلَهُ؟ قَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ بِعَيْنِكَ.قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ».وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ دُونَ الْأُمَمِ.

ز- نِكَاحُ الْكَافِرَةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُمْتَنِعَةِ عَنِ الْهِجْرَةِ:

26- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ، لِخَبَرِ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ أُزَوَّجَ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي»،، - أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ- وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ كَافِرَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَةَ تَكْرَهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

كَمَا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا مُعْتَبَرٌ لِخَوْفِ الْعَنَتِ (أَيِ الزِّنَا) وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنْهُ، أَوْ لِفِقْدَانِ مَهْرِ الْحُرَّةِ، وَنِكَاحُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَنِيٌّ عَنِ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً، إِذْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ مَهْرٍ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَهَا يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ وَمَقَامُ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا.

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ وَلَمْ تُهَاجِرْ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ وَاللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ)، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ»،، وَلِحَدِيثِ «أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ إِلَى قوله تعالى: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ».وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللاَّتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ.

ح- إِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْهُ:

27- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِمْسَاكُ كَارِهَتِهِ وَلَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ، حِفْظًا لِمَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ».وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُبَاحَةُ

أ- الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعَصْرِ:

28- ذَهَبَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنَّهُ أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ لأُِمَّتِهِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا». ب- الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ:

29- مَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ كَالْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ دُونَ أُمَّتِهِ لِأَمْرٍ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.

ج- صِيَامُ الْوِصَالِ:

30- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ صِيَامِ الْوِصَالِ (لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى».

د- الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الْقِتَالِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَكَّةَ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ».

هـ- دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ:

32- مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ كَانَ خَاصًّا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

و- الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ:

33- مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ جَعَلَ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِهِ لِهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ وَقَوْلَهُ لَهَا: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ» مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

ز- الْقَضَاءُ لِنَفْسِهِ:

34- خُصَّ- عليه الصلاة والسلام- بِإِبَاحَةِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِلرِّيبَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ قَطْعًا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ.

ح- أَخْذُ الْهَدِيَّةِ:

35- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّ الْهَدِيَّةَ حَلَالٌ لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ رَعَايَاهُمْ.

ط- فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ:

36- أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خُمُسُ الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.وَأُبِيحَ لَهُ الصَّفِيُّ مِنَ الْمَغْنَمِ- صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مَا يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَسَيْفٍ وَدِرْعٍ وَنَحْوِهِمَا، وَمِنْهُ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي اصْطَفَاهَا مِنَ الْمَغْنَمِ لِنَفْسِهِ.

ي- فِي النِّكَاحِ:

37- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُبِيحَ لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا.وَيُبَاحُ لَهُ أَلاَّ يَقْسِمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، مَعَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَانَ حَرِيصًا عَلَى الْقَسْمِ، حَتَّى فِي السَّفَرِ، حَيْثُ كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمَرَضُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.

الْخَصَائِصُ مِنَ الْفَضَائِلِ

38- هُنَاكَ أُمُورٌ اخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَزِيدِ فَضْلٍ وَمِنْهَا: أ- اخْتِصَاصُ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ:

39- لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُشَرِّعًا لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَجَعْلِهِ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَإِجَازَتِهِ الْأُضْحِيَةَ بِالْعَنَاقِ (الْجِذْعِ) لِأَبِي بُرْدَةَ وَلِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَتَزْوِيجِهِ رَجُلًا عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَزْوِيجِهِ أُمَّ سُلَيْمٍ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ.

ب- الرَّسُولُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:

40- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ: مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مَحَبَّتِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-: لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: الْآنَ يَا عُمَرُ».

وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ فِدَائِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-.وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ طَاعَتِهِ وَإِنْ خَالَفَتْ هَوَى النَّفْسِ- صلى الله عليه وسلم-، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

ج- الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الرَّسُولِ وَكُنْيَتِهِ لِمَوْلُودٍ:

41- ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَصْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَوْ لَا، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ: «وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا فَغَضِبَ الْأَنْصَارُ وَقَالُوا: حَتَّى نَسْتَأْمِرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَتِ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي أَبُو الْقَاسِمِ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ»- أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ- مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكُنْيَتِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنَّى بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي».وَهَؤُلَاءِ الْمَانِعُونَ: مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ كَرَاهَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ وَكُنْيَتِهِ كَانَ مَمْنُوعًا ثُمَّ نُسِخَ الْمَنْعُ وَثَبَتَ الْحِلُّ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَذُكِرَ لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي، أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي»، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي تَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِاسْمِ «مُحَمَّدٍ» وَتَكْنِيَتِهِمْ بِ «أَبِي الْقَاسِمِ» حَتَّى قَالَ رَاشِدُ بْنُ حَفْصٍ الزُّهْرِيُّ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ: مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَخْصُوصًا بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَتُبَاحُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سَبَبُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانُوا يُنَادُونَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: لَمْ نَعْنِكَ، إِظْهَارًا لِلْإِيذَاءِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَنْعُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ «أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ». د- التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ:

42- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ- أَيْ سَبْقُهُ بِالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِ- لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُسَدَّدٌ بِالْوَحْيِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كَمَا لَا يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ- عليه الصلاة والسلام- حَتَّى يَعْلُوَ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

هـ- قَتْلُ مَنْ سَبَّهُ:

43- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ سَبَّهُ أَوْ قَذَفَهُ فَعُقُوبَتُهُ الْقَتْلُ.

و- إِجَابَةُ مَنْ دَعَاهُ:

44- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ إِذَا دَعَا أَحَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ أَجَابَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


37-موسوعة الفقه الكويتية (إعذار 1)

إِعْذَارٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِعْذَارِ لُغَةً: الْمُبَالَغَةُ، يُقَالُ: أَعْذَرَ فِي الْأَمْرِ، إِذَا بَالَغَ فِيهِ، وَفِي الْمَثَلِ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ يَحْذَرُ أَمْرًا يُخَافُ، سَوَاءٌ حَذَّرَ أَمْ لَمْ يُحَذِّرْ، وَأَعْذَرَ أَيْضًا: صَارَ ذَا عُذْرٍ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.وَعَذَرْتُ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ عُذْرًا: خَتَنْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ لُغَةً فِيهِ، وَالْإِعْذَارُ أَيْضًا: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، وَيُقَالُ: هُوَ طَعَامُ الْخِتَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُسَمًّى بِهِ، يُقَالُ: أَعْذَرَ إِعْذَارًا: إِذَا صَنَعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ.

قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَالْإِعْذَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْإِعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ، وَمِنْهُ إِعْذَارُ الْقَاضِي إِلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيُعْذِرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِنْذَارُ:

2- الْإِنْذَارُ: الْإِبْلَاغُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْوِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} أَيْ خَوِّفْهُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ.فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِبْلَاغٌ مَعَ تَخْوِيفٍ إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.

ب- الْإِعْلَامُ:

3- الْإِعْلَامُ: مَصْدَرُ أَعْلَمَ.يُقَالُ أَعْلَمْتُهُ الْخَبَرَ: أَيْ عَرَّفْتُهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعْرِيفًا، إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.

ج- الْإِبْلَاغُ:

4- الْإِبْلَاغُ: مَصْدَرُ أَبْلَغَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْبَلَاغُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ.يُقَالُ: أَبْلَغْتُهُ السَّلَامَ: أَيْ أَوْصَلْتُهُ إِيَّاهُ.فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالًا لِمَا يُرَادُ، لَكِنَّ الْإِعْذَارَ يَنْفَرِدُ بِالْمُبَالَغَةِ.

د- التَّحْذِيرُ:

5- التَّحْذِيرُ: التَّخْوِيفُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ.يُقَالُ: حَذَّرْتُهُ الشَّيْءَ فَحَذِرَهُ: إِذَا خَوَّفْتُهُ فَخَافَهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي التَّخْوِيفِ، وَيَنْفَرِدُ الْإِعْذَارُ بِأَنَّهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ.

هـ- الْإِمْهَالُ:

6- الْإِمْهَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَمْهَلَ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ ذَلِكَ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِعْذَارِ: أَنَّ الْإِعْذَارَ قَدْ يَكُونُ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ وَقَدْ لَا يَكُونُ.وَالْإِمْهَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ.كَمَا أَنَّ الْإِمْهَالَ لَا تُلَاحَظُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ-

و- التَّلَوُّمُ:

7- التَّلَوُّمُ لُغَةً: الِانْتِظَارُ وَالتَّمَكُّثُ، وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْأَمْرِ، بَلْ يُطْلَقُ الِانْتِظَارُ فِي كُلِّ أَمْرٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ.

وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ خَاصٌّ بِالْإِعْذَارِ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ.أَمَّا بِمَعْنَى الْخِتَانِ أَوِ الطَّعَامِ الْمَصْنُوعِ لِسُرُورٍ حَادِثٍ فَيُنْظَرُ الْكَلَامُ فِيهِمَا تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (خِتَانٌ، وَوَلِيمَةٌ).

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- مَوَاطِنُ الْإِعْذَارِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُهَا، لَكِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يَأْتِي.

دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:

9- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله تعالى فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلاَّ بَعْدَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْعَذَابِ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّانِيَةِ: أَنَّ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.

الْإِعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ (الِاسْتِتَابَةُ):

10- (الرِّدَّةُ): الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا يَكُونُ رِدَّةً أَوْ لَا يَكُونُ، يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (إِسْلَامٌ، رِدَّةٌ).

حُكْمُ الْإِعْذَارِ إِلَى الْمُرْتَدِّ:

11- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ وُجُوبًا، وَقِيلَ: نَدْبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا إِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِيَتَفَكَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَكَشْفِ شُبْهَتِهِ قُتِلَ مِنْ سَاعَتِهِ، إِلاَّ إِذَا رُجِيَ إِسْلَامُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَإِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ضَرَبَهُ الْإِمَامُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فُعِلَ بِهِ هَكَذَا.

لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ آخَرِ حُدُودِ الْخَانِيَّةِ مَعْزِيًّا لِلْبَلْخِيِّ مَا يُفِيدُ قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا قَتْلُهُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعَرْضِ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَتَهُ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ وُجُوبًا، وَمُدَّةُ الِاسْتِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ مِنْ يَوْمِ الثُّبُوتِ لَا مِنْ يَوْمِ الْكُفْرِ، وَلَا يُحْسَبُ يَوْمُ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يَوْمُ الثُّبُوتِ إِنْ كَانَ الثُّبُوتُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ.

دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ:

12- احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ، وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.فَقَالَ عُمَرُ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، فَأَطْعَمْتُمُوهُ رَغِيفًا كُلَّ يَوْمٍ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.

وَلَوْ لَمْ تَجِبِ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إِتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».فَالْمُرَادُ بِهِ قَتْلُهُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ.

الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُرْتَدَّةِ:

13- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوِ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي وُجُوبِ الْإِعْذَارِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَلَا تُقْتَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً» وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ إِذْ قَالُوا: إِنَّهَا تُقْتَلُ إِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ تُسْتَبْرَأُ قَبْلَ الْقَتْلِ بِحَيْضَةٍ، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنْ حَاضَتْ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ انْتُظِرَ تَمَامُهَا فَيُنْتَظَرُ أَقْصَرُ الْأَجَلَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ.

وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَتَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلاَّ قُتِلَتْ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ جَبْرُهَا عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.

الْإِعْذَارُ فِي الْجِهَادِ:

14- الْحَرْبِيُّونَ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِبِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَا صُلْحَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.وَشَرْطُ مُحَارَبَتِهِمْ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَجُوزُ مُحَارَبَتُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتُهُمْ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُحَارَبَتُهُمْ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتِهِمْ، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمُ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لَمَّا أَقَامَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ ( ( ( (، لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةُ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ، وَدَعْوَةُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ.فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَلاَّ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إِلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ.دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ إِذَا دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ» فَإِنْ أَبَوِا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلاَّ الْإِسْلَامُ) فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ وُجُوبًا سَوَاءٌ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَمْ لَا، مَا لَمْ يُعَاجِلُونَا بِالْقِتَالِ أَوْ يَكُونُ الْجَيْشُ قَلِيلًا، قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَانَتْ إِغَارَةُ سَرَايَاهُ- عليه الصلاة والسلام-.

وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ لَا يُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدِ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلاَّ نَادِرًا بَعِيدًا.وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لَا يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دُعِيَ قَبْلَ الْقِتَالِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، فَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ دَعَا فَلَا بَأْسَ. الْإِعْذَارُ إِلَى الْبُغَاةِ:

15- الْبُغَاةُ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْإِمَامُ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ الْإِعْذَارِ نَصَحَهُمْ، بِأَنْ يَعِظَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِنِ اسْتَمْهَلُوهُ اجْتَهَدَ فِي الْإِمْهَالِ، وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا.

وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُعَاجِلُوا بِالْقِتَالِ، فَإِنْ عَاجَلُوا قُوتِلُوا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ دَعْوَتَهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَكَشْفَ شُبْهَتِهِمْ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ.

الْإِعْذَارُ فِي الدَّعْوَى:

16- الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ، إِمَّا بِإِقْرَارٍ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إِمْرَارُهُ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ دَفْعِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ، إِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بِلَدَدِهِ وَتَغَيُّبِهِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلَدَدِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى.

وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ: مِنْهُمُ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمُ الْغَائِبُ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفِيهِمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ.

فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَادُّعِيَتِ الدَّعْوَى وَكَانَتْ مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهَا، وَسَارَ الْقَاضِي فِيهَا حَسْبَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، فَهَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ حَالًا، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ إِجْرَاءً آخَرَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا؟

قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ آخَرَ كَالْإِعْذَارِ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْإِقْرَارِ شَاهِدَانِ.

وَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ فِي الْإِعْذَارِ إِلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فِي حُكْمِ الْإِعْذَارِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَفِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَمْتَنِعُ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ.

وَفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الْإِعْذَارِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْضَى عَلَيْهِ.وَتَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ فِي زَمَنِ الْإِعْذَارِ وَكَيْفِيَّتِهِ.

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِعْذَارُ:

17- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ تَعَدٍّ أَوْ غَصْبٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، أَوْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَلَا يُعْذَرُ إِلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ.كَمَا حَدَثَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ، لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا أَمَامَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ بِأَنَّهُ يُصَرِّحُ بِالْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يُعْذَرَ إِلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، لِأَنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، فَقِيلَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ وَجْهَ الْحُكْمِ، فَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا بِالْقَتْلِ بِدُونِ إِعْذَارٍ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ قَطْعُ الْإِعْذَارِ عَمَّنِ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلاَّبَةِ وَالْمُغَيِّرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ- إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ- بِدُونِ إِعْذَارٍ.وَكَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِي مِثْلِ رَجُلٍ يَتَعَلَّقُ بِرَجُلٍ، وَجُرْحُهُ يُدْمِي، فَيُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ.وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا، فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا.وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا إِعْذَارَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنهم-، وَهُمَا أَيْضًا مَلَاذُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا إِعْذَارَ مِنْهُمَا وَلَا إِقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْإِعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام- فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُمْ.قَالُوا: وَمَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِعْذَارُ كَثِيرٌ وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى أَقْوَالٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى فِي مِثْلِ هَذَا.

التَّأْجِيلُ فِي الْإِعْذَارِ:

18- الْإِعْذَارُ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعِي، فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: أَبَقِيَتْ لَكَ حَجَّةٌ؟ وَقَدْ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي: أَلَكَ دَفْعٌ فِيمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ؟ فَإِذَا أَعْذَرَ الْقَاضِي إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ.وَقَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلَهُ التَّأْجِيلَ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ فِي بُلُوغِ مَنْ أُجِّلَ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى قَصْدِهِ بِغَيْرِ إِضْرَارٍ بِخَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَتَى بِدَفْعٍ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي التَّأْجِيلَ أَيْضًا، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ دَفْعًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا أَيْضًا، وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ (انْتَظَرَ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَيَظْهَرَ عَجْزُ أَحَدِهِمَا، فَيُقْضَى عَلَى نَحْوِ مَا ثَبَتَ.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.

آجَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ:

19- هُنَاكَ آجَالٌ لَا يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، بَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ، مِنْهَا: تَأْجِيلُ الْعِنِّينِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (أَجَلٌ) وَيَأْتِي فِي (عُنَّةٌ).

إِعْذَارُ الْمُولِي:

20- فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَرَّفُوا الْإِيلَاءَ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الزَّوْجِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي أَقَلِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْلِفُ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالْإِعْذَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُولِي يَقِفُهُ (يُحْضِرُهُ) الْقَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا رَافَعَتْهُ امْرَأَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْفَيْئَةِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ تَطْلِيقٍ، أَوِ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ، وَتَبْدَأُ مِنْ تَارِيخِ الْحَلِفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (أَجَلٌ) وَمُصْطَلَحُ (إِيلَاءٌ).

إِعْذَارُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:

21- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً يَسْتَقِرُّ بِهَا الْمَهْرُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَلَهَا الْحَقُّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَجَلًا لِمَنْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْوَطْءَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَا يَجِبُ إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ لِلْإِضْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَوَّاقُ أَنَّ مَنْ وَاصَلَ الْعِبَادَةَ وَتَرَكَ الْوَطْءَ لَمْ يُنْهَ عَنْ تَبَتُّلِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِمَّا وَطِئْتَ أَوْ فَارَقْتَ.قَالَ مَالِكٌ: وَأَرَى أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ كَانَ زَاهِدًا قَاضَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَقِيلَ لَهُ: تَخْلُو مَعَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً، وَهُوَ قَسْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ ضَرَائِرِهَا، قَالَ خَلِيلٌ: بِلَا أَجَلٍ عَلَى الْأَصَحِّ.وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ بِمِقْدَارِ أَجَلِ الْإِيلَاءِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (فِي حَادِثَةِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْغُزَاةِ غَيْبَةً طَوِيلَةً عَنْ زَوْجَتِهِ) سَأَلَ حَفْصَةَ- زَوْجَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ النِّكَاحِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَهَا يَفْنَى صَبْرُهَا أَوْ يَقِلُّ، فَنَادَى حِينَئِذٍ أَلاَّ تَزِيدَ غَزْوَةٌ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَفِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْجِمَاعِ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً لَا أَقَلَّ، يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ سَمِعَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا سَمِعَ.

وَاسْتَدَلُّوا «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ.صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ.فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»

فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا.وَقَدِ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَإِفْضَائِهِ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الرَّجُلِ، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا.وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْلِ.

الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ:

22- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مَتَى تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَفِي كُلِّ مَذْهَبٍ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلَاتٌ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ، فَفَرَضَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا أَيْسَرَ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَسَأَلَتِ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ، لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ وَيُعْذَرُ إِلَيْهِ، بِأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ.فَإِنْ عَادَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَبَسَهُ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي دَيْنٍ آخَرَ غَيْرِ النَّفَقَةِ.وَإِذَا حَبَسَهُ الْقَاضِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً يُسْأَلُ عَنْهُ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَضْجَرُ وَيُؤَدِّي الدَّيْنَ يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَلَا يُمْنَعُ الطَّالِبُ عَنْ مُلَازَمَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ وَالنَّفَقَةَ إِلاَّ بِرِضَى الطَّالِبِ.فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ، وَيُؤَدِّي مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَذَا إِذَا ظَفِرَ بِطَعَامٍ فِي النَّفَقَةِ.وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُوجِبُ حَقَّ الْفِرَاقِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخَ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ، إِنْ عَجَزَ زَوْجُهَا عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، وَإِنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَإِذَا أَرَادَتِ الْفَسْخَ رَفَعَتِ الْأَمْرَ لِلْحَاكِمِ فَيَأْمُرُهُ- إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ تَصْدِيقِهَا بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْكِسْوَةِ إِنْ شَكَتْ عَدَمَهَا، أَوِ الطَّلَاقَ- وَيَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ تُطَلِّقَهَا.وَإِنْ أَثْبَتَ عُسْرَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالطَّلَاقِ، تَصْبِرُ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَزِيدَ فِي مُدَّةِ التَّلَوُّمِ إِنْ مَرِضَ أَوْ سُجِنَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْعُسْرِ، لَا فِي زَمَنِ إِثْبَاتِهِ، فَيُزَادُ بِقَدْرِ مَا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا إِذَا رُجِيَ بُرْؤُهُ مِنَ الْمَرَضِ وَخَلَاصُهُ مِنَ السِّجْنِ عَنْ قُرْبٍ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ غِيَابُ الزَّوْجِ أَوْ حُضُورُهُ، وَالزَّوْجُ الْغَائِبُ الَّذِي يُتَلَوَّمُ لَهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُقَابِلُ النَّفَقَةَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ، أَوْ زَادَتْ غَيْبَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.

وَأَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ، إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْكَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.

فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ حَاضِرًا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ غَائِبًا، لِانْتِفَاءِ الْإِعْسَارِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ تَحْصِيلِ حَقِّهَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ.وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ لِتَضَرُّرِهَا بِالْمَنْعِ.

وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ صَبَرَتْ، وَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا أَوِ الْقَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلَهَا الْفَسْخُ فِي الْأَظْهَرِ، كَمَا تَفْسَخُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ أَسْهَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَدَمِ النَّفَقَةِ، وَالثَّانِي: لَا فَسْخَ لَهَا لِأَنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَا فَسْخَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَ قَاضٍ إِعْسَارُهُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.

ثُمَّ فِي قَوْلٍ يُنَجَّزُ الْفَسْخُ لِلْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمْهَالُ، وَالْأَظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ بِنَفَقَتِهِ إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَ نَفَقَتَهُ.

وَلَوْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ الْعَارِضِ، أَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَهُ.وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ زَوْجَةَ الْمُعْسِرِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ.رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَغَيْرُهُمْ- رضي الله عنهم- أَجْمَعِينَ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي لُزُومِ الْإِعْذَارِ لِلْإِعْسَارِ عَنِ النَّفَقَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعْسَارٌ، وَنَفَقَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


38-موسوعة الفقه الكويتية (بر الوالدين)

بِرُّ الْوَالِدَيْنِ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ فِي اللُّغَةِ: الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ وَالصِّدْقُ وَالطَّاعَةُ وَالصَّلَاحُ

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ اللَّطِيفِ الدَّالِّ عَلَى الرِّفْقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِلنُّفْرَةِ، وَاقْتِرَانِ ذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوَدُّدِ وَالْإِحْسَانِ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّالِحَاتِ.وَالْأَبَوَانِ: هُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ.

وَيَشْمَلُ لَفْظُ (الْأَبَوَيْنِ) الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْأَجْدَادُ آبَاءٌ، وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، فَلَا يَغْزُو الْمَرْءُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، وَلَا أَعْلَمُ دَلَالَةً تُوجِبُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا.وَجَعَلَ طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ.وَنَهَى عَنْ عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ.كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَلَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ، وَالْقَضَاءُ هُنَا: بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالْإِلْزَامِ وَالْوُجُوبِ.

كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.فَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ.وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».فَأَخْبَرَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ.فَقَدْ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي.فَقَالَ: أَطِعْ أَبَوَيْكَ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ.

وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ.وَفِي خُصُوصِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَزْوِ.

فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا».

وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْيَمَنِ.فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: أَبَوَايَ.قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا».

هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا.وَإِلاَّ أَصْبَحَ خُرُوجُهُ فَرْضَ عَيْنٍ؛ إِذْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ الدَّفْعُ وَالْخُرُوجُ لِلْعَدُوِّ.وَإِذَا كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضَ عَيْنٍ، فَإِنَّ خِلَافَهُ يَكُونُ حَرَامًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرٍ بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، حَيْثُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

الْبِرُّ بِالْوَ الِدَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ:

3- الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ، بَلْ حَتَّى لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا ابْنَهُمَا بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ.قَالَ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا قَوْلًا لَيِّنًا لَطِيفًا دَالًّا عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا، وَيَجْتَنِبَ غَلِيظَ الْقَوْلِ الْمُوجِبَ لِنُفْرَتِهِمَا، وَيُنَادِيَهُمَا بِأَحَبِّ الْأَلْفَاظِ إِلَيْهِمَا، وَلْيَقُلْ لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِهِمَا بِالضَّجَرِ وَالْمَلَلِ وَالتَّأَفُّفِ، وَلَا يَنْهَرُهُمَا، وَلْيَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ «أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا قَالَتْ: «أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}.

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.قِيلَ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتَ بَارًّا بِأُمِّي فَأَسْلَمْتُ فَقَالَتْ: لَتَدَعَنَّ دِينَكَ أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أُشْرِبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي، وَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ..وَبَقِيتُ يَوْمًا وَيَوْمًا.فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ: لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي.فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَكَلَتْ.

هَذَا وَفِي الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ حَيَاتِهِمَا خِلَافٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

أَمَّا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا فَمَمْنُوعٌ، اسْتِنَادًا إِلَى قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ.وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا وَحُرْمَتِهِ، وَعَلَى عَدَمِ التَّصَدُّقِ عَلَى رُوحِهِمَا.

أَمَّا الِاسْتِغْفَارُ لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ حَالَ الْحَيَاةِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ إِذْ قَدْ يُسْلِمَانِ.

وَلَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ، مَخَافَةً عَلَيْهِ، وَمَشَقَّةً لَهُمَا بِخُرُوجِهِ وَتَرْكِهِمَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا بِرًّا بِهِمَا وَطَاعَةً لَهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْعُهُمَا لَهُ لِكَرَاهَةِ قِتَالِ أَهْلِ دِينِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يُطِيعُهُمَا وَيَخْرُجُ لَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي الدِّينِ، إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ الشَّفَقَةَ وَنَحْوَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ، أَوِ اسْتِنْفَارِ الْإِمَامِ لَهُ بِإِعْلَانِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِذْنُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛ إِذْ أَصْبَحَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ؛ لِصَيْرُورَتِهِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ.

التَّعَارُضُ بَيْنَ بِرِّ الْأَبِ وَبِرِّ الْأُمِّ:

4- لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ عَظِيمًا، فَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَوَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَيَقْضِي ذَلِكَ بِلُزُومِ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَرِعَايَةِ شُئُونِهِمَا وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِمَا، فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

وَنَظَرًا لِقِيَامِ الْأُمِّ بِالْعِبْءِ الْأَكْبَرِ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ اخْتَصَّهَا الشَّارِعُ بِمَزِيدٍ مِنَ الْبِرِّ، بَعْدَ أَنْ أَوْصَى بِبِرِّهِمَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ».

وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ».

وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: زَوْجُهَا.قُلْتُ: فَعَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ أُمُّهُ».

فَفِيمَا ذُكِرَ- وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ- مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ، وَتَقْدِيمِ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَبِ فِي ذَلِكَ؛ لِصُعُوبَةِ الْحَمْلِ، ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلَامِهِ، ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا الْأُمُّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّ الْأُمَّ أَحْوَجُ إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الْأَبِ، وَلَا سِيَّمَا حَالَ الْكِبَرِ.

وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا، فَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ.هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي بِرِّهِمَا.

5- فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ، بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا مَعْصِيَةُ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ وَالْآخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْآمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الْآمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ، فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُ الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ: طَاعَةُ الْأُمِّ مُقَدَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَفْضُلُ الْأَبَ فِي الْبِرِّ.وَقِيلَ: هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِمَالِكٍ: وَالِدِي فِي السُّودَانِ، كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ.يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ، وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ.

وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَالَ: أَطِعْ أُمَّكَ، فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ.كَمَا حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا، فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا: بِأَنْ يَتَوَكَّلَ لَهَا عَلَى أَبِيهِ، فَكَانَ يُحَاكِمُهُ، وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْأُمِّ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّهُ عُقُوقٌ لِلْأَبِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَلُّ مِنْ بِرِّ الْأُمِّ، لَا أَنَّ الْأَبَ يُعَقُّ.وَنَقَلَ الْمُحَاسِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَبِ.

بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ الْمُقِيمِينَ بِدَارِ الْحَرْبِ:

6- قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ، أَوْ مَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.

وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ الْمُشْرِكِ.وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِمَا صِلَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ وَصِلَةُ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ.وَمِنَ الْبِرِّ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ ابْنَهُمَا الْمُسْلِمَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (وَصِيَّة).

بِمَ يَكُونُ الْبِرُّ

7- يَكُونُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ الدَّالِّ عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا، وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِنُفْرَتِهِمَا، وَبِمُنَادَاتِهِمَا بِأَحَبِّ الْأَلْفَاظِ إِلَيْهِمَا، كَيَا أُمِّي وَيَا أَبِي، وَلْيَقُلْ لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا، وَيُعَلِّمْهُمَا مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمَا، وَلْيُعَاشِرْهُمَا بِالْمَعْرُوفِ.أَيْ بِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ جَوَازُهُ، فَيُطِيعُهُمَا فِي فِعْلِ جَمِيعِ مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ، مِنْ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، وَفِي تَرْكِ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ، وَلَا يُحَاذِيهِمَا فِي الْمَشْيِ، فَضْلًا عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِمَا، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ نَحْوِ ظَلَامٍ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمَا لَا يَجْلِسُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَإِذَا قَعَدَ لَا يَقُومُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْهُمَا نَحْوَ الْبَوْلِ عِنْدَ كِبَرِهِمَا أَوْ مَرَضِهِمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّتِهِمَا، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْبِرَّ بِهِمَا مَعَ اللُّطْفِ وَلِينِ الْجَانِبِ، فَلَا يُغْلِظُ لَهُمَا فِي الْجَوَابِ، وَلَا يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا.

وَمِنَ الْبِرِّ بِهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا: أَلاَّ يُسِيءَ إِلَيْهِمَا بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ أَوْ إِيذَاءٍ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ بِلَا خِلَافٍ.فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا.يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ.قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟.قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ».

8- وَمِنْ بِرِّهِمَا صِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ» فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ يَحْفَظُ أَهْلَ وُدِّهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.

وَرَوَى أَبُو أُسَيْدٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ وَالِدَيَّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ».

«وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُهْدِي لِصَدَائِقِ خَدِيجَةَ بِرًّا بِهَا وَوَفَاءً لَهَا» وَهِيَ زَوْجَتُهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْوَالِدَيْنِ.

اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:

9- وَضَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِذَلِكَ قَاعِدَةً حَاصِلُهَا: أَنَّ كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلَاكُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ، فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ.وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا؛ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.

وَبِذَا لَا يَلْزَمُهُ إِذْنُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتَّعَلُّمِ، إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ، وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ، بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ، فَلَا تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ.أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ، وَكَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ عَنْ خِدْمَةِ ابْنِهِمَا، وَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعُ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.أَمَّا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَيْهِ وَإِلَى خِدْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَافِرُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي السَّفَرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِتَحْصِيلِ دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا تَتَوَفَّرُ فِي بَلَدِهِ، كَالتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا إِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَمَّا إِنْ كَانَ لِلتَّفَقُّهِ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ، وَفِي بَلَدِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَلَا يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.

حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ أَوْ قَطْعِهَا:

10- قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَتَرْكِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذَا سَأَلَاهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَوَاهُ لِأَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمَا، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ.

حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ:

11- سَبَقَ حَدِيثُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَنْ أَرَادَ الْبَيْعَةَ وَأَحَدُ وَالِدَيْهِ حَيٌّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَتَقْدِيمِ خِدْمَتِهِمَا- الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا- عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَتَهُمَا وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى.

حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي طَلَبِهِمَا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ:

12- رَوَى التِّرْمِذِيُّ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ أَبِي يَكْرَهُهَا، فَأَمَرَنِي أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَأَبَيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلِّقِ امْرَأَتَكَ».

وَسَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ أَحْمَدَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي.قَالَ: لَا تُطَلِّقْهَا.قَالَ: أَلَيْسَ عُمَرُ- رضي الله عنه- أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: حَتَّى يَكُونَ أَبُوكَ مِثْلَ عُمَرَ- رضي الله عنه-.يَعْنِي لَا تُطَلِّقْهَا بِأَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ عُمَرَ فِي تَحَرِّيهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَعَدَمِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ.

وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِابْنِ عُمَرَ.وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ.قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا.بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا.وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا.

حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِيمَا لَوْ أَمَرَاهُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ:

13- قَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وَقَالَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَفِيهِمَا وُجُوبُ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَحُرْمَةُ عُقُوقِهِمَا وَمُخَالَفَتِهِمَا، إِلاَّ فِيمَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مِنْ شِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُطِيعُهُمَا وَلَا يَمْتَثِلُ لِأَوَامِرِهِمَا؛ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِمَا وَحُرْمَةِ طَاعَتِهِمَا فِي ذَلِكَ، يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةٍ الْخَالِقِ» وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَعَ أُمِّهِ فَقَدْ عَصَى أَمْرَهَا، حِينَ طَلَبَتْ إِلَيْهِ تَرْكَ دِينِهِ، وَبَقِيَ عَلَى مُصَاحَبَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ بِرًّا بِهَا.وَعِصْيَانُهُ لَهَا فِيمَا أَمَرَتْهُ بِهِ وَاجِبٌ، فَلَا تُطَاعُ فِي أَمْرِهَا لَهُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ.

عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:

14- بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعُقُوقِ السَّلْبِيِّ بِتَرْكِ بِرِّهِمَا، فَإِنَّ هُنَاكَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً لِلْعُقُوقِ بَعْضُهَا فِعْلِيٌّ وَبَعْضُهَا قَوْلِيٌّ.

وَمِنَ الْعُقُوقِ مَا يُبْدِيهِ الْوَلَدُ لِأَبَوَيْهِ مِنْ مَلَلٍ وَضَجَرٍ وَغَضَبٍ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، وَاسْتِطَالَتِهِ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ خَاصَّةً فِي حَالِ كِبَرِهِمَا.وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْحُسْنَى وَاللِّينِ وَالْمَوَدَّةِ، وَالْقَوْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ، السَّالِمِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَنُهِيَ عَنْ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا مَا يَكُونُ فِيهِ أَدْنَى تَبَرُّمٍ.

وَضَابِطُ عُقُوقِهِمَا- أَوْ أَحَدِهِمَا- هُوَ أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ وَالِدَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ، فَيَنْتَقِلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْكَبَائِرِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «يُرَاحُ رِيحُ الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا مَنَّانٌ بِعَمَلِهِ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: ثَلَاثًا.الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ.أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ.فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ».

وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «رِضَى اللَّهِ فِي رِضَى الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ».

وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ».

جَزَاءُ الْعُقُوقِ:

15- جَزَاءُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ أُخْرَوِيًّا سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهُ، وَأَمَّا جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ وَحَالِ فَاعِلِهِ.

فَإِنْ تَعَدَّى عَلَى أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، بِالشَّتْمِ أَوِ الضَّرْبِ مَثَلًا عَزَّرَاهُ، أَوْ عَزَّرَهُ الْإِمَامُ- بِطَلَبِهِمَا- إِنْ كَانَا مَشْتُومَيْنِ أَوْ مَضْرُوبَيْنِ مَعًا، أَوْ بِطَلَبِ مَنْ كَانَ مِنْهُمَا مُعْتَدًى عَلَيْهِ بِذَلِكَ.فَإِنْ عَفَا الْمَشْتُومُ أَوِ الْمَضْرُوبُ كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْلِ الْأَصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا، وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ.وَيَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِالْحَبْسِ عَلَى حَسَبِ الذَّنْبِ وَالْهَفْوَةِ، أَوْ بِالضَّرْبِ أَوِ التَّأْنِيبِ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَنْزَجِرُ وَيَرْتَدِعُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


39-موسوعة الفقه الكويتية (تزكية 1)

تَزْكِيَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّزْكِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَكَّى.يُقَالُ: زَكَّى فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الزَّكَاءِ، وَهُوَ الصَّلَاحُ.وَزَكَا الرَّجُلُ يَزْكُو: إِذَا صَلُحَ، فَهُوَ زَكِيٌّ وَالْجَمْعُ أَزْكِيَاءٌ.

قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الزَّكَاةِ النُّمُوُّ الْحَاصِلُ عَنْ بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو: إِذَا حَصَلَ مِنْهُ نُمُوٌّ وَبَرَكَةٌ.وَقَالَ تَعَالَى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ حَلَالًا لِمَا لَا يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ، وَمِنْهُ الزَّكَاةُ لِمَا يُخْرِجُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَجَاءِ الْبَرَكَةِ، أَوْ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَيْ تَنْمِيَتِهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ الْخَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهَا.

وَبِزَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا الْأَوْصَافَ الْمَحْمُودَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ الْأَجْرَ وَالْمَثُوبَةَ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ مَا فِيهِ تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ يُنْسَبُ تَارَةً إِلَى الْعَبْدِ؛ لِكَوْنِهِ مُكْتَسِبًا لِذَلِكَ؛ نَحْوُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَتَارَةً يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ فَاعِلًا لِذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وَتَارَةً إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً فِي وُصُولِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ نَحْوُ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} وَتَارَةً إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ آلَةٌ فِي ذَلِكَ نَحْوُ {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} وَنَحْوُ {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} أَيْ مُزَكًّى بِالْخِلْقَةِ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاجْتِبَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَالِمًا وَطَاهِرَ الْخَلْقِ لَا بِالتَّعَلُّمِ وَالْمُمَارَسَةِ، بَلْ بِتَوْفِيقٍ إِلَهِيٍّ.

وَتَزْكِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: بِالْفِعْلِ وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِلَيْهِ قُصِدَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَقَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}.

وَالثَّانِي: بِالْقَوْلِ كَتَزْكِيَةِ الْعَدْلِ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ؛ لِقُبْحِ مَدْحِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَلِهَذَا قِيلَ لِحَكِيمٍ: مَا الَّذِي لَا يَحْسُنُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَالَ: مَدْحُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ.

وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاحِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّعْدِيلِ فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ.

وَيُعَرِّفُونَ التَّزْكِيَةَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهَا: تَعْدِيلُ الشُّهُودِ.

وَتَزْكِيَةُ الرَّجُلِ مَالَهُ: أَنْ يُخْرِجَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهِ.وَالْجَرْحُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ فِي الْجِسْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَرَحَهُ بِلِسَانِهِ جَرْحًا: إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ: جَرَحْتُ الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ: إِذَا أَظْهَرْتَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ.

وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهِ لِلتَّحَرِّي عَنِ الشُّهُودِ (الْمُزَكِّي) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يُزَكِّي وَيَجْرَحُ، وَلَكِنْ وُصِفَ بِأَحْسَنِ الْوَصْفَيْنِ.

حُكْمُ التَّزْكِيَةِ:

2- ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلاَّ إِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَأَوْجَبَ فِيهِمَا التَّزْكِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَالُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْقَاضِي حَالَ الشُّهُودِ، فَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْكِيَةِ.وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

3- وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بِقَوْلِ عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.«وَبِأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَتَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ».

وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ سَبَبُهَا الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْإِسْلَامُ، فَإِذَا وُجِدَ فَلْيُكْتَفَ بِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ.

وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلُزُومِ التَّحَرِّي فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ: بِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّزْكِيَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَهُ.

وَبِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا كَالْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ.

أَمَّا الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ إِيثَارًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَصُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ.وَلِلْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ، فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: لَسْتُ أَعْرِفُكُمَا وَلَا يَضُرُّكُمَا إِنْ لَمْ أَعْرِفْكُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا، فَأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَعْرِفُهُمَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ.فَقَالَ عُمَرُ: صَحِبْتَهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ جَوَاهِرُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: عَامَلْتَهُمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الرَّحِمُ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: كُنْتَ جَارًا لَهُمَا تَعْرِفُ صَبَاحَهُمَا وَمَسَاءَهُمَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَسْت تَعْرِفُهُمَا.جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا بَحْثٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِدُونِهِ.

4- هَذَا، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا، بَلْ هُوَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِهِ كَانُوا أَهْلَ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ» فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ، فَوَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى السُّؤَالِ عَنِ الْعَدَالَةِ.وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَقَّقَ الِاخْتِلَافَ.

مَتَى تَسْقُطُ التَّزْكِيَةُ:

5- قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ نَاقِلًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَرْبَعَةُ شُهُودٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ: شَاهِدَا رَدِّ الظِّنَّةِ، وَشَاهِدَا تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ، وَشَاهِدَا الْغُرْبَةِ، وَشَاهِدَا الْأَشْخَاصِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الشَّاهِدَ الْمُبْرِزَ فِي الْعَدَالَةِ- أَيِ الْفَائِقَ أَقْرَانَهُ فِيهَا- لَا يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا.وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ.

وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ، وَذَلِكَ إِذَا حَضَرَ مُسَافِرَانِ، فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ لَا يَعْرِفُهُمَا، يُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إِذَا رَأَى فِيهِمَا سِيمَا الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمَا، فَفِي التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِهَا تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا إِلَى السِّيمَا الْجَمِيلَةِ.

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشُّهُودَ الْمَذْكُورِينَ لَا يُسَمُّونَ لِمَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ لِيُزَكِّيَهُمْ أَوْ يَطْعَنَ فِيهِمْ، بَلْ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ؛ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا.

أَقْسَامُ التَّزْكِيَةِ:

6- التَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ.

أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيُوَلِّيهِ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِ.وَبَعْدَ أَنْ يَخْتَارَ، يَكْتُبَ فِي رُقْعَةٍ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ جُمْلَةً بِأَنْسَابِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَمُصَلاَّهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ كُلَّ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ تَمْيِيزًا لَا تَتَمَكَّنُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ، فَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ تَتَّحِدَ الْأَسْمَاءُ وَتَتَّفِقَ الْأَوْصَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

فَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي دَفَعَ الْمَكْتُوبَ إِلَى مَنْ يَسْتَأْمِنُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَخْفَاهُ عَنْ كُلِّ مَنْ سِوَاهُ؛ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَيَخْدَعَ الْأَمِينَ، وَعَلَى الْمُرْسَلِ أَمِينِ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ الشُّهُودِ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ، فَيَسْأَلَ عَنْهُمْ أَهْلَ الثِّقَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ مَحِلاَّتِهِمْ، وَأَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ أَسْوَاقِهِمْ.

أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ، فَتَكُونُ بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ.وَكَيْفِيَّتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ بَعْدَمَا زَكَّى؛ لِيُزَكِّيَ الشُّهُودَ أَمَامَهُ.وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ وَالتَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْيَوْمَ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ مِنْ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْقَاضِي تَزْكِيَةُ السِّرِّ مَعَ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَزْكِيَةِ السِّرِّ أَجْزَأَهُ قَطْعًا كَالْعَلَانِيَةِ عَلَى الرَّاجِحِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ الْحَاكِمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ.

وَقِيلَ: يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُهُ الْمَبْعُوثُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ.وَقِيلَ: تَكْفِي كِتَابَتُهُ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ.

7- ثُمَّ هَلِ الْمُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ (الْمُزَكِّي) أَوْ قَوْلُ الْمُرْسَلِينَ، وَيُسَمُّونَ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ؟

قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْمُزَكِّي.وَنَقَلَ الشَّيْخَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمَا نَقَلَا عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ، وَأَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ اعْتَذَرَ عَنْ قَبُولِهَا، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ- وَالْأَصْلُ حَاضِرٌ- لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ.

التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ:

اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ، فَقَدْ نَقَلَ مُعِينُ الْحُكَّامِ عَنِ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَوْ عَدَّلَهُ وَاحِدٌ، وَجَرَّحَهُ آخَرُ، أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ.وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ.لِأَنَّ الْعَدَالَةَ وَالْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ فَصَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: الْجَرْحُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَجَّحَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ فِي الْجَرْحِ اعْتَمَدَ عَلَى الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْجَرْحِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ.

وَلَوْ جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ، فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى.وَلَوْ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى الِاثْنَيْنِ.

8- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ عَدَّلَ شَاهِدَانِ رَجُلًا وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.

قِيلَ: يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا؛ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.

وَقِيلَ: يُقْضَى بِشُهُودِ الْجَرْحِ، لِأَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيلِ، إِذِ الْجَرْحُ مِمَّا يَبْطُنُ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُلُّ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ.وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ، قَالَ: إِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْلِ شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَتِ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا.وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ.وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قُضِيَ بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ، أَوْ كَانَ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ.

فَإِنْ قَالَ الْمُعَدِّلُ: عَرَفْتُ سَبَبَ الْجَرْحِ وَتَابَ مِنْهُ وَأَصْلَحَ، قُدِّمَ قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ الْجَارِحِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي: فَإِذَا رَجَعَ أَصْحَابُ مَسْأَلَةٍ فَأَخْبَرَ اثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، قَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ.وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ رَدَّ شَهَادَتَهُ وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ وَالْآخَرُ بِالْجَرْحِ بَعَثَ آخَرَيْنِ، فَإِنْ عَادَا فَأَخْبَرَا بِالتَّعْدِيلِ تَمَّتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ، وَسَقَطَ الْجَرْحُ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَتِمَّ، وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ ثَبَتَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ.وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْجَرْحِ وَالْآخَرُ بِالتَّعْدِيلِ تَمَّتِ الْبَيِّنَتَانِ وَيُقَدَّمُ الْجَرْحُ.

وَقْتُ التَّزْكِيَةِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَكُونُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَا قَبْلَهَا.

عَدَدُ مَنْ يُقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ:

10- تَقَدَّمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ.

فَبِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ السِّرِّ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنَّ الْقَاضِيَ يَجْتَزِئُ بِوَاحِدٍ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ شَهَادَةً بَلْ هِيَ إِخْبَارٌ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِمَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ، فَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِلاَّ اثْنَانِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ.

وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ.وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ أَقَلَّ مَا يُزَكِّي الرَّجُلَ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: وَالتَّزْكِيَةُ تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ.

قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَمَا كَثُرَ مِنَ الشُّهُودِ فَهُوَ أَحْسَنُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ التَّزْكِيَةُ فِي شَاهِدٍ شَهِدَ بِزِنًا، فَإِنَّ مُطَرِّفًا رَوَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُزَكِّيهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ.

مَنْ تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ:

11- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ- عَدَا الْحَنَفِيَّةِ- قَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا نَاقِدًا فَطِنًا، لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ شُرُوطُ التَّعْدِيلِ.وَلَا تُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنَ الْأَبْلَهِ وَالْجَاهِلِ بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَدْلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَرَى تَعْدِيلَ كُلِّ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَعْدِيلُ السِّرِّ يُقْبَلُ فِيهِ تَعْدِيلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِرَحِمِهِ؛ لِأَنَّ تَعْدِيلَ السِّرِّ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ شَهَادَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.

12- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً تُخَالِطُ النَّاسَ وَتُعَامِلُهُمْ؛ لِأَنَّ لَهَا خِبْرَةً بِأُمُورِهِمْ فَيُفِيدُ السُّؤَالُ.قَالُوا: وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ السِّرِّ مِنَ الْأَعْمَى وَالصَّبِيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ.وَهَذَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ النِّسَاءِ، لَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَلَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ.

قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُنَّ يُزَكِّينَ الرِّجَالَ إِذَا شَهِدُوا فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَبْسُوطَةِ.وَالْقِيَاسُ جَوَازُ تَزْكِيَتِهِنَّ لِلنِّسَاءِ.

تَزْكِيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدِ

13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَدَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شُهُودَ الْمُدَّعِي، بِأَنْ قَالَ: صَدَقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، أَوْ قَالَ: هُمْ عُدُولٌ فِي شَهَادَتِهِمْ، يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ بِإِقْرَارِهِ لَا بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ.

وَإِنْ قَالَ: هُمْ عُدُولٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجُحُودِ ظَالِمٌ وَكَاذِبٌ، فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ.

وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ: وَيَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي، وَإِقْرَارُهُ بِكَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلًا لَا يَكُونُ إِقْرَارًا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْعَدَالَةِ لِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِهَذَا الْإِقْرَارِ، وَلَوْ عَلِمَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِعَدَالَتِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، حَتَّى لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَجْهُولُ الْحَالِ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَهُمَا وَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَوَّلًا- لَا يَكْفِي فِي الْأَصَحِّ فِي التَّعْدِيلِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ.

وَقِيلَ: يَكْفِي فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يُقْضَى عَلَيْهِ.

وَالْقَوْلَانِ هُمَا الْوَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لِحَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِعَدَالَتِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ كَسَائِرِ أَقَارِيرِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِهَا تَعْدِيلًا لَهُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ فَاسِقٍ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَعْدِيلِهِ أَوْ مَعَ انْتِفَائِهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَعَ تَعْدِيلِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ.وَلَا يَجُوزُ مَعَ انْتِفَاءِ تَعْدِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيلِ شَهَادَةِ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ.فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ تَعْدِيلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُودِ شُرُوطِ الْحُكْمِ، وَإِقْرَارُهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ.

تَجْدِيدُ التَّزْكِيَةِ:

14- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهِ كُلَّ قَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَلْ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ، فَلَا يَزُولُ حَتَّى يَثْبُتَ الْجَرْحُ.

وَالثَّانِي: يَجِبُ الْبَحْثُ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَتَغَيَّرُ الْحَالُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ يَحْدُثُ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.

وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ مِثْلُ هَذَيْنِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتِ الْعَدَالَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَعْدِيلِهِمْ إِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا، وَإِلاَّ سَأَلَ عَنْهُمْ.

وَفِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرِيبَ مُقَدَّرٌ بِسِتِّهِ أَشْهُرٍ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْمُزَكِّي ثَانِيًا: قَبْلَ عَامٍ مِنْ تَارِيخِ شَهَادَتِهِ السَّابِقَةِ، وَجَهِلَ، وَلَمْ يَكْثُرْ مُعَدِّلُوهُ، وَوُجِدَ مَنْ يُعَدِّلُهُ عِنْدَ شَهَادَتِهِ ثَانِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِسَحْنُونَ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.

فَإِنْ فُقِدَ قَيْدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ: بِأَنْ لَمْ يُجْهَلْ حَالُهُ، أَوْ كَثُرَ مُعَدِّلُوهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُعَدِّلُهُ ثَانِيًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَزْكِيَةٍ أُخْرَى اكْتِفَاءً بِالتَّزْكِيَةِ السَّابِقَةِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا لَوْ فُقِدَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ مَجْهُولُ الْحَالِ بَعْدَ تَمَامِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ زَكَّاهُ قَبْلَهُ كَثِيرُونَ احْتَاجَ لِإِعَادَةِ التَّزْكِيَةِ اتِّفَاقًا.

بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

15- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ.وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ يَجْعَلُ الْمُجَرَّحَ فَاسِقًا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ.وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى، فَيُفْضِي الْجَرْحُ إِلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَتَجَرَّحُ بِهَا الْمَجْرُوحُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، بِخِلَافِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ.وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالُوا بِاشْتِرَاطِ بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ بِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُقْبَلَ مُجَرَّدُ الْجَرْحِ؛ لِئَلاَّ يُجَرِّحَهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْقَاضِي جَرْحًا؛ وَلِأَنَّ الْجَرْحَ يَنْقُلُ عَنِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ وَالْجَرْحُ يَنْقُلُ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ النَّاقِلَ؛ لِئَلاَّ يَعْتَقِدَ نَقْلَهُ عَنْ أَصْلِ الْعَدَالَةِ بِمَا لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ نَاقِلًا.

الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ الدَّعْوَى وَشُهُودِ التَّزْكِيَةِ:

16- يَخْتَلِفُ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ عَنْ شُهُودِ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ، وَيَتَّفِقَانِ فِي أُمُورٍ:

فَيَتَّفِقَانِ فِي الْجُمْلَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالضَّبْطِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الشَّاهِدُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَأَلاَّ تَجُرَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ نَفْعًا.وَهَذِهِ الشَّرَائِطُ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ.وَهَذَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.

أَمَّا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَالشَّهَادَةِ أَمَامَ الْقَاضِي.

وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ شَاهِدَ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ: مُبْرَزًّا فِي الْعَدَالَةِ فَطِنًا حَذِرًا لَا يُخْدَعُ وَلَا يُسْتَغْفَلُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي النَّوَادِرِ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَلَا أَقْبَلُ تَعْدِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْسِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا سَمِعَ وَلَا يُحْسِنُ التَّعْدِيلَ.

وَفِي كِتَابِ (الْمُتَيْطِيَّةِ) مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ بِخِلَافِ شُهُودِ الْحُقُوقِ.قَالَ مَالِكٌ: قَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ، وَلَا يَجُوزُ إِلاَّ تَعْدِيلُ الْعَارِفِ.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ فِي التَّعْدِيلِ إِلاَّ الْعَدْلُ الْمُبَرَّزُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يَسْتَزِلُّ فِي رَأْيِهِ.وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ.وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ كَشُهُودِ سَائِرِ الْحُقُوقِ.

17- وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكِّي مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِهِمَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: خِبْرَةُ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ أَوْ يُجَرِّحُهُ، بِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، لِيَتَأَتَّى لَهُ بِهَا التَّعْدِيلُ أَوِ الْجَرْحُ.

وَلَا يَخْرُجُ كَلَامُ الْحَنَابِلَةِ عَنْ ذَلِكَ.فَقَدْ قَالُوا: لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ؛ وَلِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ فِي بَاطِنِهِ فَاسِقٌ.

تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الذِّمِّيِّينَ لِمِثْلِهِمْ:

18- إِذَا تَرَافَعَ الذِّمِّيُّونَ أَمَامَ قَاضٍ مُسْلِمٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْفَصْلَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ الذِّمِّيِّينَ، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّزْكِيَةُ لِلذِّمِّيِّ تَكُونُ بِالْأَمَانَةِ فِي دِينِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ يَقَظَةٍ.فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُسْلِمُونَ سَأَلُوا عَنْهُ عُدُولَ الذِّمِّيِّينَ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى حُكْمِ تَزْكِيَةِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

رُجُوعُ الْمُزَكِّي عَنِ التَّزْكِيَةِ:

19- يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِلشُّهُودِ، بِأَنْ قَالُوا مَثَلًا: إِنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ، وَقَدْ زَكَّيْنَاهُمْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لَوْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: بَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ وَأَمَّا إِذَا قَالُوا: أَخْطَأْنَا فِي التَّزْكِيَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ.

وَقِيلَ: الْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ الْمُزَكُّونَ أَنَّ الشُّهُودَ أَحْرَارٌ، فَإِذَا هُمْ عَبِيدٌ أَمَّا إِذَا قَالُوا: هُمْ عُدُولٌ، فَبَانُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكِّي لِشُهُودِ الزِّنَا أَوْ قَتْلِ الْعَمْدِ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ، بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ قَتْلِهِ قِصَاصًا، فَلَا يَغْرَمُ الْمُزَكِّي شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ رَجَعَ الشُّهُودُ الْأُصُولُ أَمْ لَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُزَكِّي الرَّاجِعِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَ الْقَاضِيَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَثْنَى عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْحُكْمُ يَقَعُ بِالشَّاهِدِ، فَكَانَ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ.

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ دُونَ الْقِصَاصِ.قَالَ الْقَفَّالُ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْمُزَكِّيَانِ: عَلِمْنَا كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ.فَإِنْ قَالَا: عَلِمْنَا فِسْقَهُمَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَكُونَانِ صَادِقَيْنِ مَعَ الْفِسْقِ، وَطَرَدَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِي الْحَالَيْنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُزَكِّيَيْنِ إِذَا رَجَعَا عَنِ التَّزْكِيَةِ ضَمِنَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْحُكْمِ غَيْرِ الْحَقِّ، فَيَضْمَنَانِ كَرُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ.

تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:

20- يَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَزْكِيَةُ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ صَاحِبَهُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ.وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ.وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ.وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا، كَذَلِكَ تَعْدِيلُهُ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُزَكِّي مَنْ شَهِدَ مَعَهُ، وَلَا تُقْبَلُ مَعَهُ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ.

وَأَجَازَ سَحْنُونٌ إِذَا شَهِدَتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُزَكِّيَ كُلُّ طَائِفَةٍ صَاحِبَتَهَا، وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ.

التَّزْكِيَةُ تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي:

21- التَّزْكِيَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ وَتُقْبَلُ تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي، وَذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.وَصِفَتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ- بَعْدَمَا زَكَّى الشُّهُودَ فِي السِّرِّ- لِيُزَكِّيَهُمْ عَلَانِيَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُشِيرَ إِلَيْهِمْ فَيَقُولَ: هَؤُلَاءِ عُدُولٌ عِنْدِي، إِزَالَةً لِلِالْتِبَاسِ، وَاحْتِرَازًا عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّزْوِيرِ.

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: لَا يُزَكَّى الشَّاهِدُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي إِلاَّ عَلَى عَيْنِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُزَكِّيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَدَالَةِ إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي عَالِمًا بِوُجُوهِهَا، وَلَا عَنِ الْجُرْحَةِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا.

وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِتَكْرَارِ سُؤَالِ الْمُزَكِّي أَمَامَ الشُّهُودِ وَإِشَارَتِهِ إِلَى عَيْنِ مَنْ يُزَكِّيهِمْ.الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تَزْكِيَةِ الْمُزَكِّينَ

22- هَلْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَعْذُرَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؟ أَوْ يَطْلُبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْذُرَ أَصْلًا.

الَّذِي يُفِيدُهُ كَلَامُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَعْذُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى شُهُودَ الْمُدَّعِي.إِذْ قَالُوا: الْيَوْمَ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ مِنْ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّا لَا يُعْذَرُ فِيهِ مُزَكِّي السِّرِّ، وَهُوَ مَنْ يُخْبِرُ الْقَاضِيَ فِي السِّرِّ بِحَالِ الشُّهُودِ مِنْ عَدَالَةٍ أَوْ جَرْحٍ.وَلَوْ سَأَلَ الطَّالِبُ الْمُقِيمَ لِلْبَيِّنَةِ عَمَّنْ جَرَّحَهَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَى سُؤَالِهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَ الْمَطْلُوبُ عَمَّنْ زَكَّى بَيِّنَةَ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لِذَلِكَ إِلاَّ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي فَلَا يُعْذَرُ فِي نَفْسِهِ.

وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ الْفَائِقُ أَقْرَانَهُ فِيهَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا، وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ.وَكَذَلِكَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى مَنْ يُخْشَى مِنْهُ لَا يُسَمَّى لَهُ.

وَمُؤَدَّى ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ يُعْذَرُ فِيهِمْ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْبَحْثِ وَمُشَافَهَةِ الْمُزَكِّي بِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا سَتَرَهُ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي فِي شُهُودِكَ، أَوْ تَعْدِيلًا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ.

وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي الَّذِي أَحْضَرَ الشُّهُودَ: إِنَّ شُهُودَكَ قَدْ جَرَّحَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَلَا يَقُولُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّ مَنْ شَهِدُوا عَلَيْكَ قَدْ عَدَّلَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ.

هَذَا وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


40-موسوعة الفقه الكويتية (تفسير)

تَفْسِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَغَلَبَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، كَمَا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّأْوِيلُ:

2- التَّأْوِيلُ مَصْدَرُ أَوَّلَ.يُقَالُ: أَوَّلَ الْكَلَامَ تَأْوِيلًا: دَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ وَفَسَّرَهُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ أَنَّ التَّفْسِيرَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَلْفَاظِ وَمُفْرَدَاتِهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ.وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ التَّأْوِيلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ.أَمَّا التَّفْسِيرُ فَيُسْتَعْمَلُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا.

وَقَالَ قَوْمٌ: مَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمُعَيَّنًا فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ سُمِّيَ تَفْسِيرًا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالتَّأْوِيلُ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِمَعَانِي الْخِطَابِ، الْمَاهِرُونَ بِآلَاتِ الْعُلُومِ.

قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: التَّفْسِيرُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ هَذَا، وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ.وَالتَّأْوِيلُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ ب- الْبَيَانُ:

3- الْبَيَانُ: إِظْهَارُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُرَادَ لِلسَّامِعِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِشُمُولِهِ- عَدَا بَيَانَ التَّفْسِيرِ- كُلًّا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ، وَبَيَانِ الضَّرُورَةِ، وَبَيَانِ التَّبْدِيلِ.حُكْمُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللُّغَةِ، لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأَجَلُّ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ الشَّرْعِيَّةِ (أَيْ: التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ) وَقَالَ: - نَقْلًا عَنِ الْأَصْفَهَانِيِّ- أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا الْإِنْسَانُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ.

كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى حَظْرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ وَلَا نَقْلٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ، وَلَا نَقْلٍ.

أَقْسَامُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:

5- قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أ- مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَمِنْهُ أَوْقَاتُ وُقُوعِ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، مِثْلُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ نُزُولِ عِيسَى، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالتَّأْوِيلِ.

ب- مَا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَيَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَى تَفْسِيرِهِ لِأُمُورِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ أَيْضًا إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيَانِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ تَأْوِيلَهُ.

ج- مَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ عِلْمُ تَأْوِيلِ عَرَبِيَّتِهِ وَإِعْرَابِهِ، فَلَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمْ.

طُرُقُ التَّفْسِيرِ:

6- قَالَ السُّيُوطِيُّ:

قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ طَلَبَهُ أَوَّلًا مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَمَا أُجْمِلَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ.فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ طَلَبَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ.

لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}.

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «أَلَا إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

وَقَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى، يُرْجَعُ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَلِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، فَأَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا التَّأْوِيلَ.فَتَفْسِيرُهُ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ.وَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَهُوَ تَوْقِيفٌ.

وَقَالَ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ لَزِمَ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ نَقْلَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صَيَّرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ.

7- أَمَّا تَفْسِيرُ التَّابِعِيِّ فَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ.

وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا جَاءَ عَنِ الرَّجُلِ مِنَ التَّابِعِينَ لَا يُوجَدُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- نَقْلٌ لَا يَلْزَمُ الْأَخْذُ بِهِ.وَقَالَ الْمَرْوِيُّ: يُنْظَرُ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْخَذُ وُجُوبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ.فَإِنْ قِيلَ: الْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْهَمُ مِنْ قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الْجِهَةَ، وَالِاسْتِقْرَارَ.وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ.قُلْنَا هَيْهَاتَ، فَإِنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ، وَاسْتِعَارَاتٌ يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ الْمُصَدِّقُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلَاتٌ تُنَاسِبُ تَفَاهُمَ الْعَرَبِ.

وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا، مَعَ الْتِزَامِ التَّنْزِيهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي حَثِّ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْبَيَانَاتِ فِي قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَحَثَّهُمْ فِيهَا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِ آيِ الْقُرْآنِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ تَأْوِيلِ مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيِهِ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ- لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يَعْقِلُ تَأْوِيلَهُ-: اعْتَبِرْ بِمَا لَا فَهْمَ لَكَ بِهِ، وَلَا مَعْرِفَةَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْبَيَانِ وَالْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَفْهَمَهُ، وَيَفْقَهَهُ ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَعْتَبِرَ بِهِ.فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَمُسْتَحِيلٌ أَمْرُهُ بِتَدَبُّرِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ عَنْ مَعْنَاهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدْ فَسَدَ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، مَا لَمْ يَحْجُبِ اللَّهُ تَأْوِيلَهُ عَنْ خَلْقِهِ.وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لَا إِلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً.فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَسْبَابَ النُّزُولِ أَنْ يُفَسِّرَهُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ كَذَا- وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ.

شُرُوطُ الْمُفَسِّرِ لِلْقُرْآنِ، وَآدَابُهُ:

9- يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَا، فَبِالْعِلْمِ بِهَا يُعْرَفُ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَمَدْلُولَاتِهَا حَسَبَ الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ).

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَبِالصَّرْفِ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ أَبْنِيَةَ الْكَلِمَاتِ وَاشْتِقَاقَاتِهَا، لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِهَا.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ عُلُومَ الْبَلَاغَةِ: الْمَعَانِيَ، وَالْبَيَانَ، وَالْبَدِيعَ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ يَعْرِفُ خَوَاصَّ تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهَا الْمَعْنَى، وَخَوَاصَّهَا مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُهَا، حَسَبَ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، وَخَفَائِهَا، وَتَحْسِينِ الْكَلَامِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ وُجُوهَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَطُرُقَ الِاسْتِنْبَاطِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَسْبَابَ النُّزُولِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ مَعْنَى الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ بِحَسَبِ مَا أُنْزِلَتْ.

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ لِيَعْلَمَ الْمُحْكَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأَحَادِيثَ الْمُبَيِّنَةَ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ، وَالْمُبْهَمِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفَسِّرِ صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ، وَلُزُومُ السُّنَّةِ، وَأَلاَّ يُتَّهَمَ بِإِلْحَادٍ، وَلَا هَوًى، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الدُّنْيَا مَنْ كَانَ مَغْمُوصًا فِي دِينِهِ فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ هُوَ لَا يُؤْتَمَنُ فِي الدِّينِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَالِمٍ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ اللَّهِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِإِلْحَادٍ أَنْ يَبْغِيَ الْفِتْنَةَ وَيَغُرَّ النَّاسَ بِلَيِّهِ، وَخِدَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِهَوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْمِلَهُ هَوَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ بِدْعَتَهُ

وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ عِلْمَ الْمَوْهِبَةِ قَالَ: وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

10- وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُ الْمُفَسِّرِ عَلَى النَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ الْمُحْدَثَاتِ- أَيِ الْأَقْوَالَ الْمُبْتَدَعَةَ- وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَعَلَ.وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ السَّمْعُ.فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَمْعًا، وَكَانَ لِلِاسْتِدْلَالِ طَرِيقٌ إِلَى تَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا رَجَّحَ مَا قَوِيَ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا نَقْلَ فِيهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَفْسِيرِهِ.

وَعَامَّةُ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَالْبَعْضُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَاسْمُ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى- عليه السلام-، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَشْغَلَ أَنْفُسَنَا بِذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَسِّرُ سَلِيمَ الْمَقْصِدِ فِيمَا يَقُولُ، لِيَلْقَى التَّسْدِيدَ مِنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهُ لَهَا:

11- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ: مَعَانِي الْقُرْآنِ، لَا تِلَاوَتُهُ، فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِمَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ، وَحَدَثٌ).

قَطْعُ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهَا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ).

تَفْسِيرُ الْمُقِرِّ مَا أَبْهَمَهُ فِي الْإِقْرَارِ:

13- إِذَا قَالَ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، صَحَّ الْإِقْرَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُتَمَوَّلُ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يُتَمَوَّلُ وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى آخِذِهِ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُفَسَّرَ بِذِي قِيمَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِمَنْفَعَتِهِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِلِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالسِّرْجِينِ، فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، كَخَمْرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ، أَوْ كَكَلْبٍ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، فَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ.وَإِنْ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، أَوْ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ قُبِلَ.

وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لِأَنَّ التَّفْسِيرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا أَقَرَّ بِهِ مُجْمَلًا- كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُحْبَسُ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ جُعِلَ مُنْكِرًا، وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصَرَّ وَلَمْ يَحْلِفْ جُعِلَ نَاكِلًا، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبْقِ دَعْوَى ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُقِرُّ لَهُ بِالْحَقِّ، وَقَالُوا: حَيْثُ أَمْكَنَ حُصُولُ الْغَرَضِ فَلَا يُحْبَسُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


41-موسوعة الفقه الكويتية (تيسير 3)

تَيْسِيرٌ -3

النَّوْعُ الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ، كَإِجَازَةِ الْجَمْعِ تَأْخِيرًا لِوُجُودِ عُذْرٍ يَجْعَلُ أَدَاءَهُ فِي وَقْتِهِ شَاقًّا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَتَأْخِيرِ صِيَامِ رَمَضَانَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَقَدْ خُفِّفَ عَنْهُمَا بِالْفِطْرِ، مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ، الْمُحَرِّمِ لِلْفِطْرِ، وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالنَّاسِي.

النَّوْعُ السَّادِسُ: تَخْفِيفُ تَرْخِيصٍ، وَهُوَ مَا اُسْتُبِيحَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَإِبَاحَةِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَنْ أُكْرِهَ بِإِجْرَاءِ قَوْلِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِإِزَالَةِ الْغُصَّةِ.وَإِجَازَةِ الصَّلَاةِ لِلْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ النَّجْوِ.

قَالَ السُّيُوطِيّ: وَأَضَافَ الْعَلَائِيُّ سَابِعًا، وَهُوَ تَخْفِيفُ التَّغْيِيرِ، كَتَغْيِيرِ نَظْمِ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ.

45- وَلَمَّا كَانَ التَّخْفِيفُ وَارِدًا فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْفِقْهِ، فَمِنَ الصَّعْبِ جَمْعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُخَفَّفَةِ كُلِّهَا مِنْ أَبْوَابِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.فَنُورِدُ أَمْثِلَةً مِنْهَا.

التَّخْفِيفُ فِي النَّجَاسَاتِ:

46- أَوْجَبَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْبُقْعَةِ، عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ طَاهِرًا.وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنْ بَعْضُ صُوَرِ النَّجَاسَاتِ اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَصُعُوبَةِ التَّحَرُّزِ مِنْهَا، وَالتَّخْفِيفُ وَارِدٌ عَلَى مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غَسْلَهَا، لَوَقَعَ النَّاسُ فِي حَرَجٍ وَضِيقٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (نَجَاسَةٌ وَطَهَارَةٌ).

التَّخْفِيفُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ:

47- سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنِ النَّظَرِ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَاجِبٌ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ بِشَرْطِيَّتِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ سَتْرَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ السَّهْوِ.

وَقَالَ التَّمِيمِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ وَقْتًا، وَاسْتَتَرَتْ وَقْتًا، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.

وَالْعُرْيَانُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، خُفِّفَ عَنْهُ، فَإِذَا وَجَدَ جِلْدًا طَاهِرًا، أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفُهُ عَلَيْهِ، أَوْ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْبِطَهُ فَيَسْتَتِرَ بِهِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَصَحَّتِ الصَّلَاةُ بِمَا ذُكِرَ، فَإِذَا وَجَدَ ثَوْبًا نَجَسًا جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.

فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ، سَتَرَ السَّوْأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْحَشُ، وَسَتْرُهُمَا آكَدُ.فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمَا سَتَرَ أَيَّهمَا شَاءَ- عَلَى خِلَافٍ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى بِالسَّتْرِ.وَالْعُرْيُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، غَيْرُ مَانِعٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَالِانْفِرَادُ حَالَ الْعُرْيِ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمَاعَةِ.

وَإِنِ انْكَشَفَ مِنَ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعْرِهَا أَوْ رُبُعِ فَخِذِهَا، أَوْ رُبُعِ بَطْنِهَا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا، تَخْفِيفًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ).

التَّيْسِيرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

48- لِلْمُعَامَلَاتِ نَصِيبٌ مِنَ التَّخْفِيفِ كَمَا لِلْعِبَادَاتِ وَالْحُدُودِ.

فَقَدْ خَفَّفَتِ الشَّرِيعَةُ وَيَسَّرَتِ الْمُعَامَلَاتِ، فَشَرَعَتْ: خِيَارَ الْمَجْلِسِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ.

وَشَرَعَتْ خِيَارَ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلنَّدَمِ.

وَشَرَعَتِ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ دَفْعًا لِمَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ مِنَ الضَّرَرِ، إِذَا بَانَ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَرَى عَيْبٌ، وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ الْمُشْتَرِي.

وَكَذَا خَفَّفَتِ الشَّرِيعَةُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَلَمْ تُلْزِمْ بِهَا أَحَدَ طَرَفَي الْعَقْدِ؛ إِذْ أَنَّ لُزُومَهَا شَاقٌّ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ تَعَاطِيهَا.

التَّيْسِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:

49- يُنْدَبُ تَلْقِينُ مَنْ أَقَرَّ بِمُوجِبِ الْحَدِّ الرُّجُوعَ عَنْهُ، إِمَّا بِالتَّعْرِيضِ، وَإِمَّا بِأَوْضَحَ مِنْهُ؛ لِيُدْرَأَ عَنْهُ الْحَدُّ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا «فَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ مَاعِزٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ: لَعَلَّك قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ».

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْبَةَ وَالتَّكْفِيرَ عَنِ الذُّنُوبِ رَفْعًا لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَمَاحِيًا لِلشُّعُورِ بِالذَّنْبِ وَالْخَطِيئَةِ.

وَمِنْ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ أَنَّ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ فَوَطِئَهَا ظَنًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا؛ لِثُبُوتِ عُذْرِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ هُنَا مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ).

تَخْفِيفُ الدِّيَةِ:

50- الْجَانِي الْمُخْطِئُ خَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَاقِلَةُ الْجَانِي ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى: ذُكُورُ عَصَبَتِهِ نَسَبًا، كَالْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ، وَالْإِخْوَةِ لِغَيْرِ أُمٍّ وَبَنُوهُمْ، وَالْأَعْمَامُ، وَالْمُعْتِقُ.

وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى أَنْ يَعْقِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا، وَلَا يَرِثُونَ مِنْهَا إِلاَّ مَا فَضَلَ عَنْ وِرْثِهَا».

وَكَمَا خُفِّفَ عَنِ الْجَانِي بِتَحْمِيلِ الدِّيَةِ الْعَاقِلَةَ، خُفِّفَ عَنِ الْعَاقِلَةِ، فَجَعَلَ الشَّارِعُ دِيَةَ شَبَهِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ- تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ- فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا، إِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةً كَامِلَةً، كَدِيَةِ النَّفْسِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما- وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا.

وَخُفِّفَ أَيْضًا عَنِ الْعَاقِلَةِ: فَمَنْ مَاتَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوِ افْتَقَرَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ:

أَوَّلًا: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَاتِ:

51- أَرْشَد النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي النَّوَافِلِ وَمَا فِيهِ تَخْيِيرٌ مِنَ الْفَرَائِضِ، كَالصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، بِالْمَيْسُورِ، فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» وَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» وَقَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ».وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ.وَقَالَ: «لَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ».

وَلَيْسَ مَعْنَى الْيُسْرِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْكُ الْعَمَلِ وَالتَّكَاسُلُ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَلَكِنِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَحْمِلَ نَفْسَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا، بَلْ يَتَعَبَّدُ مَا شَاءَ مَا دَامَ نَشِيطًا لِذَلِكَ، فَإِنْ نَشَأَتْ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ أَرَاحَ نَفْسَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَرْبُوطٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: حُلُّوهُ؛ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ.فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: صَائِمٌ.فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» فُسِّرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يُفْطِرْ.وَأَرْشَدَ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَنَّ تَحْصِيلَ أَجْرِ النَّوَافِلِ بِفِعْلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْهَا وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ حِينًا وَالتَّرَاخِي حِينًا آخَرَ، فَقَالَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».

ثَانِيًا: تَيْسِيرُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُؤُونِ الدُّنْيَا:

52- لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُؤُونِ حَيَاتِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ أَنَّ التَّضْيِيقَ عَلَيْهَا مِنَ الزُّهْدِ، أَوْ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، بَلْ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَلَالِ، فِي مَأْكَلٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَسْكَنٍ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، كَمَا يُؤْجَرُ إِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ السَّرَفِ وَالتَّرَفِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي الْحَدِيثِ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِك، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِك شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِك، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِك شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا».

وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَالِ، وَقَدْ «قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنهما-: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَخْبَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِذَلِكَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: صَدَقَ سَلْمَانُ» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ».

مَشَقَّةُ الْوَرَعِ وَاجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ:

53- مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَى نَفْسِهِ تَوَرُّعًا وَاتِّقَاءً لِلشُّبُهَاتِ وَالْتِزَامًا لِجَانِبِ التَّقْوَى، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: (وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْتِزَامَ جَانِبِ التَّقْوَى شَدِيدٌ) وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» وَقَوْلُهُ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إِلَى مَا لَا يَرِيبُك» فَالْوَرَعُ بِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، لَكِنْ مَا دَامَ خَارِجَ دَائِرَةِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّوَرُّعِ حَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَمَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ سَقَطَ، كَمَا يَسْقُطُ الْحَرَامُ لِلضَّرُورَةِ.

غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِغَالِبِ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مُعْتَادًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَمِنْ هُنَا تَمَيَّزَ أَهْلُ شِدَّةِ الْوَرَعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ.

ثَالِثًا: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى غَيْرِهِ:

54- الْمُؤْمِنُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالتَّيْسِيرِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَاقَةٌ وَمُعَامَلَةٌ، حَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّيْسِيرُ، وَلَا يُخَالِفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَمِنَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ التَّيْسِيرُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّيْسِيرُ فِيهِ.وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الرِّفْقِ فِي تَنَاوُلِ الْأُمُورِ وَمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمِ الرِّفْقَ» وَقَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» وَقَالَ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ».

وَيَظْهَرُ هَذَا الْأَصْلُ فِي أَبْوَابٍ مِنَ الْفِقْهِ مِنْهَا مَا يَلِي:

تَخْفِيفُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:

55- أَوْرَدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ التَّخْفِيفَ فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ؛ مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَتَيْسِيرًا لَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ- صلى الله عليه وسلم- الْأَئِمَّةَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَمِ تَطْوِيلِ قِرَاءَتِهَا، وَهُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَأْمُومِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِمِ الضَّعِيفَ، وَالْمَرِيضَ، وَالْعَاجِزَ.

فَلَا يُطَوِّلُ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ لِئَلاَّ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ».وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدُّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ».

وَسَبَبُهُ أَنَّ «أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، كَانَ يُصَلِّي بِأَهْلِ قُبَاءٍ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةً طَوِيلَةً، فَدَخَلَ مَعَهُ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ اسْتَفْتَحَهَا، انْفَلَتَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَغَضِبَ أُبَيٌّ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو الْغُلَامَ، وَأَتَى الْغُلَامُ يَشْكُو أُبَيًّا فَغَضِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ» وَنَحْوُهُ حَدِيثُ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفُ.

وَالْمُرَادُ بِالتَّخْفِيفِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَدْنَى الْكَمَالِ، فَيَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَقَلِّ وَلَا يَسْتَوْفِي الْأَكْمَلَ.وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُونَ مَحْصُورِينَ وَرَضُوا بِتَطْوِيلِهِ الصَّلَاةَ جَازَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ تَطْوِيلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ مَا أُثِرَ عَنْهُ.

وَيُشْرَعُ لَهُ أَيْضًا التَّخْفِيفُ لِنَازِلَةٍ تَسْتَدْعِي ذَلِكَ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمِّهِ».

وَالتَّخْفِيفُ لِلْأَئِمَّةِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.وَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ).

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ عَدَمَ التَّطْوِيلِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ».

تَيْسِيرُ الْإِمَامِ، وَالْوُلَاةِ، وَالْعُمَّالِ، عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:

56- يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ وَيَلْزَمُهُمْ طَاعَتُهُ أَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُكَلِّفُهُمْ مَشَقَّةً تَغْلِبُهُمْ، وَذَلِكَ لِيُمْكِنَهُمْ طَاعَتُهُ وَمُوَاصَلَةُ الِامْتِثَالِ لَهُ؛ وَلِئَلاَّ يَخْرُجُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُضْطَرُّ هُوَ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْعُقُوبَةِ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ».

وَإِذَا كَانَ فِي مَنْ تَحْتَ يَدِهِ الضَّعِيفُ وَالصَّغِيرُ وَالْمَرْأَةُ خَصَّهُمْ بِمَزِيدٍ مِنَ الرِّفْقِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَحَدَا الْحَادِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ» يَعْنِي النِّسَاءَ.

وَعَلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَرْفُقَ بِمَنْ مَعَهُ فِي الْمَسِيرِ.وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَمِيرِ فِي الْمَسِيرِ سَبْعَةُ حُقُوقٍ: أَوَّلُهَا: الرِّفْقُ بِهِمْ فِي الْمَسِيرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَضْعَفُهُمْ، وَتُحْفَظُ بِهِ قُوَّةُ أَقْوَاهُمْ، وَلَا يُجِدُّ السَّيْرَ فَيُهْلِكَ الضَّعِيفَ، وَيَسْتَفْرِغُ جَلَدَ الْقَوِيِّ.وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْمُضْعَفُ أَمِيرُ الرَّكْبِ» يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ضَعُفَتْ دَابَّتُهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ.

وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَمِيرِ الْحَجِّ.

تَيْسِيرُ الْمُعَلِّمِينَ، وَالدُّعَاةِ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:

57- يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَتَوَلَّى التَّعْلِيمَ أَوِ الدَّعْوَةَ أَنْ يَرْفُقَ بِمَنْ مَعَهُ، وَيَأْخُذَهُمْ بِاللِّينِ لَا بِالْعُنْفِ.

وَلَا يَأْتِيَ بِمَا يُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْحَقِّ، بَلْ يَنْتَقِلُ بِهِمْ مِمَّا يَعْرِفُونَ إِلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ، بِلُطْفٍ وَيُسْرٍ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.قَالَ النَّوَوِيُّ: «يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ، وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ، حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَيُفْهِمُ كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ، فَلَا يُعْطِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا يَقْصُرُ بِهِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ بِلَا مَشَقَّةٍ، وَيُخَاطِبُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ دَرَجَتِهِ، وَبِحَسَبِ فَهْمِهِ وَهِمَّتِهِ».

وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ:

{هَلْ أَتَّبِعُك عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ثُمَّ قَالَ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} وَقَدْ «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُمَا بِهِ أَنْ قَالَ: بَشِّرَا وَيَسِّرَا وَعَلِّمَا وَلَا تُنَفِّرَا» وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

التَّيْسِيرُ فِي الْفُتْيَا:

58- عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ السَّائِلِينَ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّحَرُّجُ وَالتَّشَدُّدُ، وَأَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ مَا يُرْهِقُهَا، يُفْتِي بِمَا فِيهِ التَّرْجِيَةُ، وَالتَّرْغِيبُ، وَالتَّرْخِيصُ، وَيُخْبِرُ بِمَا فِيهِ سِعَةٌ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ إِنْ كَانَ خَالِصًا صَوَابًا.وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّهَاوُنُ، وَالتَّسَاهُلُ، وَالِانْحِلَالُ مِنَ الدِّينِ يُفْتِي بِمَا فِيهِ التَّرْهِيبُ، وَالتَّخْوِيفُ، وَالزَّجْرُ، فِعْلَ الطَّبِيبِ بِمَنِ انْحَرَفَتْ بِهِ الْعِلَّةُ عَنْ حَالِ الِاسْتِوَاءِ.وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَدِّلَ الْمُفْتِي حُكْمًا شَرْعِيًّا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ تَكُونُ فُتْيَاهُ طِبْقًا لِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأُصُولِ الْفُتْيَا، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ رَأَى الْمُفْتِي الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفْتِي الْعَامِّيُّ بِمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُ، وَلَهُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، جَازَ ذَلِكَ، زَجْرًا لِلْعَامَّةِ؛ وَلِمَنْ قَلَّ دِينُهُ وَمُرُوءَتُهُ.

- فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ، بَلْ أَفْتَاهُ بِمَا فِيهِ الرُّخْصَةُ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، فَيَكُونُ التَّرْخِيصُ تَشَهِّيًا وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَلَيْسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْفَقِيهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَ الْأَقْوَالِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلَا أَنْ يُفْتِيَ بِهِ أَحَدًا.وَالْمُقَلِّدُ فِي اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى الْمُفْتِي.

- هَذَا وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ حَرَجٌ وَشِدَّةٌ عَلَى الْمُسْتَفْتِي مَا دَامَ يَجِدُ لَهُ مَخْرَجًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا.قَالَ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ عِنْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} قَالَ: لَمَّا كَانَ الْحَرَجُ الضِّيقُ، وَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْحَرَجِ بِنَا، سَاغَ الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِهِ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَإِثْبَاتِ التَّوْسِعَةِ فِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ السَّمْعِيَّاتِ، فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِمَا يُوجِبُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ مَحْجُوجًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ الرُّخْصَةِ عَنْ ثِقَةٍ فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ».

- أَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْتَفْتِينَ جَارِيًا عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِنَّ فُتْيَاهُ تَكُونُ عَلَى التَّوَسُّطِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَسْهِيلٍ.وَالتَّوَسُّطُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

التَّيْسِيرُ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:

الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ:

59- أَرْشَد اللَّهُ تَعَالَى إِلَى تَسْهِيلِ أَمْرِ التَّزْوِيجِ وَلَوْ كَانَ الْخَاطِبُ فَقِيرًا، إِنْ كَانَ صَالِحًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمِ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: لَا تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى فِي الْآخِرَةِ كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَقْلِيلُ الصَّدَاقِ سُنَّةٌ.

وَكَذَا أَرْشَد اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِلْآخَرِ، مَعَ تَرْكِ الشُّحِّ بِحَقِّهِ هُوَ؛ لِتَتَيَسَّرَ الْحَيَاةُ بَيْنَهُمَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

هَذَا فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَذَا بَعْدَ انْفِصَامِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

التَّيْسِيرُ فِي مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ:

60- أَذِنَتِ الشَّرِيعَةُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِ الَّذِي عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَجَعَلَتْ لَهُ التَّشَدُّدَ فِي الْمُطَالَبَةِ إِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُمَاطِلًا، بِأَنْ كَانَ وَاجِدًا مُمْتَنِعًا مِنَ الْأَدَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ عِنْدَهُ الْحَقُّ فِي ضِيقٍ مِنَ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى تَنَاوُلِ الطَّعَامِ، أَوِالشَّرَابِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَيُؤَخِّرُهُ ذَلِكَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ.فَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ الدَّائِنَ إِلَى التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا يَجِدُ مَا يُؤَدِّي، فَإِنَّ الْإِنْظَارَ وَاجِبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رَوْحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا.قَالُوا: تَذَكَّرْ قَالَ: كُنْت أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ.قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَجَوَّزُوا عَنْهُ».وَفِي الْحَدِيثِ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَمْرٌ بِأَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَ.وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَارٌ).

مُيَاسَرَةُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبِ:

61- أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ جَمَعَك بِهِ السَّفَرُ، أَوِ الْعَمَلُ، أَوْ نَحْوُهُمَا.وَمِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ عَدَمُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَمُعَاوَنَتُهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ.قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرُوءَةُ فِي السَّفَرِ بَذْلُ الزَّادِ، وَقِلَّةُ الْخِلَافِ، وَكَثْرَةُ الْمِزَاحِ فِي غَيْرِ مَسَاخِطِ اللَّهِ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنِ الْجِهَادِ «فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الْإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ».وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ: مِنَ الْمُيَاسَرَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاهَلَةِ، أَيْ سَاهَلَ الرَّفِيقَ وَعَامَلَهُ بِالْيُسْرِ.

التَّيْسِيرُ عَلَى الْأُجَرَاءِ:

62- يَنْبَغِي التَّخْفِيفُ عَنِ الْعُمَّالِ فِي أَوْقَاتِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالصَّلَاةِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنًى شَرْعًا عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ؛ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَكَذَا مَنِ اسْتُؤْجِرَ سَنَةً، أَوْ شَهْرًا، أَوْ جُمُعَةً، خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لأَدَّى إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، فَلِذَا خَفَّفَ عَنِ الْأُجَرَاءِ.وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْعَمَلِ تَكْلِيفُ الْأَجِيرِ عَمَلًا لَا يُطِيقُهُ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ ضَرَرٌ لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الرَّقِيقِ: «لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


42-موسوعة الفقه الكويتية (جنابة)

جَنَابَةٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَنَابَةُ لُغَةً: ضِدُّ الْقُرْبِ وَالْقَرَابَةِ، وَجَنَبَ الشَّيْءَ، وَتَجَنَّبَهُ، وَجَانَبَهُ، وَتَجَانَبَهُ، وَاجْتَنَبَهُ: بَعُدَ عَنْهُ، وَالْجَنَابَةُ فِي الْأَصْلِ: الْبُعْدُ، وَيُقَالُ: أَجْنَبَ الرَّجُلُ وَجَنُبَ- وِزَانُ قَرُبَ- فَهُوَ جُنُبٌ مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ جُنُبٌ؛ لِأَنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَقْرَبَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَطَهَّرْ، فَتَجَنَّبَهَا وَأَجْنَبَ عَنْهَا، أَيْ تَنَحَّى عَنْهَا، وَقِيلَ: لِمُجَانَبَتِهِ النَّاسَ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ.

وَالْجُنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدُ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْجَمْعُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ.

أَمَّا تَعْرِيفُهَا اصْطِلَاحًا فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: تُطْلَقُ الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَنْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ، وَعَلَى مَنْ جَامَعَ، وَسُمِّيَ جُنُبًا؛ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ الصَّلَاةَ وَالْمَسْجِدَ وَالْقِرَاءَةَ وَيَتَبَاعَدُ عَنْهَا وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْجَنَابَةُ شَرْعًا أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَقُومُ بِالْبَدَنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَدَثُ:

2- الْحَدَثُ لُغَةً: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا.

وَاصْطِلَاحًا: الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ الْحُكْمِيُّ الَّذِي يَحِلُّ فِي الْأَعْضَاءِ وَيُزِيلُ الطَّهَارَةَ، وَقِيلَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ.

فَالْحَدَثُ أَعَمُّ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.أَمَّا الْحَدَثُ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ.

ب- الْخَبَثُ:

3- الْخَبَثُ لُغَةً: النَّجَسُ.وَاصْطِلَاحًا: الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذَرَةُ شَرْعًا أَيِ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.

ج- النَّجَسُ:

4- النَّجَسُ: اسْمٌ لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ

ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَهُوَ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْحَقِيقِيِّ كَالْخَبَثِ، فَلَا يُقَالُ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِنَّهُ نَجَسٌ، فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

د- الطَّهَارَةُ:

5- الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ، وَاصْطِلَاحًا: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْجَنَابَةِ.

أَسْبَابُ الْجَنَابَةِ:

لِلْجَنَابَةِ سَبَبَانِ:

6- أَحَدُهُمَا: غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ، وَسَوَاءٌ أَحَصَلَ إِنْزَالٌ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِاتِّفَاقٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجِمَاعَ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ- جَنَابَةً، وَالْجَنَابَةُ تَحْصُلُ لِمَنْ وَقَعَ الْوَطْءُ مِنْهُ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ.

وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ لِغَيْرِ مُشْتَهًى كَمَيِّتَةٍ وَبَهِيمَةٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَحْدُثُ الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَ الْإِيلَاجِ إِنْزَالٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْلِ فِي فَرْجِ الْإِنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجْنُبُ الصَّغِيرُ بِإِيلَاجِهِ عَلَى الْوَصْفِ السَّابِقِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ تَجْنُبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهَا، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ غَيْرُ الْبَالِغِ مِمَّنْ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ وَبِنْتُ تِسْعٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ الْوَاطِئُ صَغِيرًا، أَوِ الْمَوْطُوءَةُ صَغِيرَةً وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ وَقَالَ: إِذَا أَتَى عَلَى الصَّبِيَّةِ تِسْعُ سِنِينَ وَمِثْلُهَا يُوطَأُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَسُئِلَ عَنِ الْغُلَامِ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ فَجَامَعَ الْمَرْأَةَ يَكُونُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْغُسْلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَأْثَمُ، وَلَا هِيَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ الطَّهَارَةُ لَهَا، لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَرِوَايَتِهَا لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ وَلِأَنَّهَا أَجَابَتْ بِفِعْلِهَا وَفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهَا: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاغْتَسَلْنَا» فَكَيْفَ تَكُونُ خَارِجَةً مِنْهُ.

وَبِقَوْلِ الْحَنَابِلَةِ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الصَّغِيرَ الْمُطِيقَ لَا يَجْنُبُ بِإِيلَاجِهِ أَوِ الْإِيلَاجِ فِيهِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ الْمُطِيقَةُ لَا تَجْنُبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهَا، وَيَجْنُبُ الْبَالِغُ بِإِيلَاجِهِ فِي الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ، وَتَجْنُبُ الْبَالِغَةُ بِإِيلَاجِ الصَّغِيرِ فِيهَا إِذَا أَنْزَلَتْ، وَالْقَوْلُ بِالْغُسْلِ عَلَى الصَّغِيرِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّأْثِيمَ بِتَرْكِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، وَهَكَذَا.وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي حَقِّهِ شَرْطًا كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ كَانَ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّهِ بَاقِيًا وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَيَسْتَوِي فِي حُصُولِ الْجَنَابَةِ بِالْإِيلَاجِ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ مَعَ نَائِمٍ، أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ مُكْرَهٍ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَفِيهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَغُسْلٌ).

7- الثَّانِي: خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ احْتِلَامٍ أَمِ اسْتِمْنَاءٍ، أَمْ نَظَرٍ، أَمْ فِكْرٍ، أَمْ تَقْبِيلٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

وَاشْتِرَاطُ الشَّهْوَةِ لِحُصُولِ الْجَنَابَةِ هُوَ مَا قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلِذَلِكَ لَا تَحْصُلُ الْجَنَابَةُ عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِهِ لِمَرَضٍ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُلُ عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ مُطْلَقًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ هُوَ بُرُوزُهُ إِلَى مَحَلِّ اسْتِنْجَائِهَا، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْهَا عِنْدَ جُلُوسِهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خِلَافًا لِسَنَدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ، وَقَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِكْرِ لَوْ أَنْزَلَتِ الْمَنِيَّ إِلَى فَرْجِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ فَرْجِهَا؛ لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُهُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَالْغُسْلِ، فَأَشْبَهَ إِحْلِيلَ الذَّكَرِ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بِكْرٍ وَثَيِّبٍ بَلْ هِيَ تَجْنُبُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْمَنِيُّ إِلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا.

قَالُوا: لِأَنَّ لَهُ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.

وَمَنْ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّهْوَةِ فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجِ الْمَنِيُّ فَلَا يُعْتَبَرُ جُنُبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ جُنُبًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تُبَاعِدُ الْمَاءَ عَنْ مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَكُونُ الْجَنَابَةُ مَوْجُودَةً فَيَجِبُ الْغُسْلُ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ تُرَاعَى فِيهِ الشَّهْوَةُ وَقَدْ حَصَلَتْ بِانْتِقَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَهَرَ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَابَةِ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ، بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَّقَ الِاغْتِسَالَ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَفَضْخِهِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ» «وَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ» فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى جُنُبًا لِمُجَانَبَتِهِ الْمَاءَ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ.وَكَلَامُ أَحْمَدَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْتَقَلَ لَزِمَ مِنْهُ الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ.

وَيُعْتَبَرُ جُنُبًا مَنِ انْتَقَلَ مَنِيُّهُ مِنْ مَحَلِّهِ بِشَهْوَةٍ وَخَرَجَ لَا عَنْ شَهْوَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ إِذْ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ هُوَ الِانْفِصَالُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ.

مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَنَابَة:

8- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ وَلَوْ بِدُونِ إِنْزَالٍ أَوْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ بِمَا يَأْتِي:

أ- بِالْغُسْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجِمَاعِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ».

وَالْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَنُسِخَ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ، وَالْآثَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الصَّحَابَةِ قَالُوهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمُ النَّسْخُ، قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ «الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ»

كَانَ رُخْصَةً أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ نَهَى عَنْهَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (غُسْلٌ).

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ.قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».

9- ب- التَّيَمُّمُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ هَلْ هُوَ رَافِعٌ لِلْجَنَابَةِ، أَوْ غَيْرُ رَافِعٍ لَهَا؟ وَمَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يُبَاحُ بِهِ مَا يُبَاحُ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» فَقَدْ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا، وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا» وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ، إِلاَّ أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إِلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ، وَلَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُكَلَّفِ، وَهُوَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ إِجْمَاعًا وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ ثَابِتَةً قَطْعًا، وَالْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ قَطْعًا كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ قَطْعًا.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ- أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، أَوْ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى ثُمَّ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ، فَلَمَّا حَضَرَ الْمَاءُ أَعْطَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- هَذَا الرَّجُلَ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: اغْتَسِلْ بِهِ».

وَحَدِيثُ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ وَصَلَّى بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ».

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَعْزُبُ فِي الْإِبِلِ وَتُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسُّهُ بَشَرَتَهُ».قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَدَثَ مَا ارْتَفَعَ، إِذْ لَوِ ارْتَفَعَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاغْتِسَالِ.

مَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ:

10- يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الصَّلَاةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ».

وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَيَشْمَلُ ذَلِكَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ.

11- وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ الطَّوَافَ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ» وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ شَرْطًا وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبَدَنَةُ تَجِبُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ: إِذَا طَافَ جُنُبًا، وَالثَّانِي: إِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ. 12- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا لِلْقُرْآنِ، أَمْ كَانَ جُزْءًا أَمْ وَرَقًا مَكْتُوبًا فِيهِ بَعْضُ السُّوَرِ، وَكَذَا مَسُّ جِلْدِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

13- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ كَذَلِكَ حَمْلُ الْقُرْآنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِأَمْتِعَةٍ، وَالْأَمْتِعَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلُهُ لِضَرُورَةٍ، كَخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ حَمْلَهُ بِعَلاَّقَةٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ حَمْلُ الْمُصْحَفِ بِعَلاَّقَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَأَبِي وَائِلٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَاسٍّ لَهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي رَحْلِهِ.

14- وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهَا مَاسًّا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ كَبَعْضِ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ حَرُمَ مَسُّهُ، وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ لَا يَحْرُمُ مَسُّهُ فِي الْأَصَحِّ.

وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ- غَيْرَ ابْنِ عَرَفَةَ- وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ مُصْحَفٍ.

15- وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ كَالْوَرَقَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا قُرْآنٌ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَالْبَلْوَى تَعُمُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ.

16- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ.

17- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلاَّ الْجَنَابَةُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ كُلِّ الْقُرْآنِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا: اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ تِلَاوَةُ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ كَالْأَدْعِيَةِ وَالذِّكْرِ الْبَحْتِ.

18- وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثُ فِيهِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عُبُورَهُ، لِلِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ فِي قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}.وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْعُبُورَ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ.

19- وَيَحْرُمُ الِاعْتِكَافُ لِلْجُنُبِ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)

مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ:

20- يُبَاحُ لِلْجُنُبِ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ».

21- يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَوْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَطَأَ ثَانِيًا أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ».وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ أَوْ لِمُعَاوَدَةِ الْأَهْلِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ النَّوْمِ، فَهَلِ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِلنَّدْبِ؟ قَوْلَانِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ أَوْ مُعَاوَدَةَ الْأَهْلِ الْوُضُوءَ وَعَدَمَهُ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً» وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي النَّوْمِ ذَلِكَ- وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ.

لَكِنِ اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمَنْ كَانَ جُنُبًا أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَغْسِلُ كَفَّيْهِ.

22- يَصِحُّ مِنَ الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ بِأَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ «عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أِنْ كَانَ لِيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ثُمَّ يَصُومُ».

23- يَصِحُّ أَذَانُ الْجُنُبِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ).

24- تَجُوزُ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الذِّكْرِ، فَإِنْ خَطَبَ جُنُبًا وَاسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ فَلَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ بِدُونِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، خُطْبَةٌ).

أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الصَّوْمِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْحَاصِلَ قَدِ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلَكِنِ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ مَعَ الْكَفَّارَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ قَالَ لَا.قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ لَا.قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ لَا.قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعِرْقٍ فِيهَا تَمْرٌ- وَالْعِرْقُ: الْمِكْتَلُ- قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ أَنَا.قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ.فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

وَالْكَفَّارَةُ فِيمَا سَبَقَ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ نِسْيَانًا فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ.وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

26- أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْإِنْزَالِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.فَإِنْ كَانَ عَنِ احْتِلَامٍ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ».وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ تَعَمُّدٍ بِمُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ قُبْلَةٍ، أَوْ لَمْسٍ بِشَهْوَةٍ، أَوِ اسْتِمْنَاءٍ فَسَدَ الصَّوْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِفَسَادِ الصَّوْمِ يَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

أَمَّا الْجَنَابَةُ الَّتِي تَكُونُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فَلَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ».

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اعْتَادَ الْإِنْزَالَ بِالنَّظَرِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ دَاوَمَ الْفِكْرَ أَوِ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ الْإِنْزَالِ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يُدِمِ النَّظَرَ أَوِ الْفِكْرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ الْإِنْزَالَ فَقَوْلَانِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا.

أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الْحَجِّ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ بِجِمَاعٍ فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَاةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ نِسْيَانًا.

وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِقَوْلِ

النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ الْحَجُّ وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُوبِ بَدَنَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَشَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْسُدِ الْحَجُّ عِنْدَهُمَا وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، قِيلَ بَدَنَةٌ وَقِيلَ شَاةٌ.

وَلَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِالْجَنَابَةِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَأَنْ كَانَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَمْ بَعْدَهُ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْخِلَافِ هَلْ هِيَ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْلَ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ يَفْسُدُ بِالْجَنَابَةِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا وَذَلِكَ إِنْ وَقَعَتِ الْجَنَابَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي.

أ- إِذَا كَانَتْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.

ب- إِذَا كَانَتْ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ).وَلَكِنْ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ.

وَلَا يَفْسُدُ الْحَجُّ إِنْ وَقَعَ الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ.

أَوْ وَقَعَ الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَوْ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.وَإِذَا فَسَدَ الْحَجُّ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ.

وَالْعُمْرَةُ تَفْسُدُ بِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْمَذَاهِبِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بَعْدَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَلَا تَفْسُدُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ.

وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (حَجٌّ، عُمْرَةٌ، إِحْرَامٌ).

- رحمه الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


43-موسوعة الفقه الكويتية (جناية على ما دون النفس 1)

جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ -1

التَّعْرِيف:

1- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ.وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الْأَطْرَافِ أَوِ الْأَعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

2- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلَافِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الْأَرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ.

فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ وَغَيْرِهَا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ:

3- تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إِتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتِ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الْأَدَبِ لَا قِصَاصَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لَا تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ.

(2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.كَأَنْ يَكُونَ الْجَانِي:

أ- غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِلَ الْأَهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ.

ب- إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْلِ الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.

فَلَا يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلًا أَمْ قَطْعًا، وَلَا مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ بِشُرُوطِهِ.وَلَا مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ عَلَيْهِمَا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ، بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الْأَدَبُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْأَدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.

(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ الْآتِيَةِ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الْآتِيَيْنِ:

أ- التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ):

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى، فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ الْأَرْشِ.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ.

ب- التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْأَرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِلِ مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الْأَدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا عَكْسَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلَا يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ. ج- التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ:

8- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ: بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الْآخَرُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ.وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُلِّ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالْآخَرُ قَطَعَ يَدَهُ، وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ وَقَطَعَ الرِّجْلَ أَوِ الْيَدَ، وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالِاثْنَيْنِ إِذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَلْ عَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْفِعْلِ.وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ التَّمَاثُلِ بَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمَحَلِّ الْقِصَاصِ، فَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الْأَصْلِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا، إِذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْلُ، وَالْإِصْبَعُ، وَالْعَيْنُ، وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا.وَكَذَا لَا تُؤْخَذُ الْأَصَابِعُ إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلَا تُؤْخَذُ الْإِبْهَامُ إِلاَّ بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا.وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْنَانِ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مِنَ الْأَسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل.

(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَلَ مَنَافِعُهَا عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي الْأَطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَجْمِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا.وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ.

إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ:

11- يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ، قَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ..

أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا):

12- الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلَا شَقٍّ وَلَا إِبَانَةَ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ- أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ:

13- يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى كُلٍّ:

1- الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ، وَلَا يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ.وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَالُ وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- الْكَمَال:

15- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الْأَصَابِعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَا ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لَا أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى حَقِّهِ، وَلَا بِنَاقِصَةِ الْأَظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي بِذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ هُوَ السَّلِيمُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ السَّلَامَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا: إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا، فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِلِ الْأَصَابِعِ وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْأُصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا.وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.

وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْلُ الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا بِالْكَامِلَةِ بِلَا غُرْمٍ عَلَيْهِ لِأَرْشِ الْأُصْبُعِ، إِذْ هُوَ نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ.وَلَا خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.

وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ، وَمِنَ الْأُخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ب- الصِّحَّة:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الشَّلاَّءَ لَا نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الْأَشَلِّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا.وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلَا تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا: لَا يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.

وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ، لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَافَ نَزْفُ الدَّمِ.وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَالَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلًا، فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ.

2- الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}؛ وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ، بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِأُصْبُعِهِ لَا يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الْإِبْصَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَرْجَحِ- إِلَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلَاءَ، وَكَانَ الْحَوَلُ لَا يَضُرُّ بِبَصَرِهِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلَاءِ مُطْلَقًا.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ. جِنَايَةُ الْأَعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا:

18- إِذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.

وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ».

وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ أَعْوَرَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}.

وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

19- أَمَّا الْأَجْفَانُ، وَالْأَشْفَارُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ.

3- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَنْفِ:

20- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ- وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ- مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ مَعَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ قِصَاصٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الْأَنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ الشَّمِّ بِالْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَالْأَنْفُ صَحِيحٌ.وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُؤْخَذُ الْأَنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الِاحْمِرَارِ، وَإِنِ اسْوَدَّ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ قَاطِعُ الْأَنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الْأَنْفِ، أَوْ بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.

وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الْأَيْمَنُ بِالْأَيْمَنِ، وَالْأَيْسَرُ بِالْأَيْسَرِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى حَدٍّ.

وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

4- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُذُنِ:

21- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأُذُنَ تُؤْخَذُ بِالْأُذُنِ؛ لقوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ}.وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ أُذُنِ السَّمِيعِ وَالْأَصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.

فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الْأُذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ.

وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.

أَمَّا الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْجَمَالِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا، كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ، فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

5- الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:

22- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ.

6- الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:

23- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


44-موسوعة الفقه الكويتية (حجر 1)

حَجْرٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ.يُقَالُ: حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرًا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ.وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَطِيمُ حَجَرًا لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ.وَقِيلَ: الْحَطِيمُ جِدَارُ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ مَا حَوَاهُ الْجُدُرُ.وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبَائِحِ، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أَيْ لِذِي عَقْلٍ.

وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:

فَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ قَدْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَى الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ لِمَصْلَحَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِهِ

وَغَيْرِهَا، أَمْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَالصَّغِيرِ، وَالسَّفِيهِ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ- لَا فِعْلِيٍّ-

فَإِنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا فَلَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْإِجَازَةِ.

وَإِنَّمَا كَانَ الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ لِأَنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ هِيَ الَّتِي يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهَا بِالْمَنْعِ مِنْ نَفَاذِهَا.أَمَّا التَّصَرُّفُ الْفِعْلِيُّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَا مُفَادُهُ: الْحَجْرُ عَلَى مَرَاتِبَ: أَقْوَى، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ انْعِقَادِهِ (الْبُطْلَانُ) كَتَصَرُّفِ الْمَجْنُونِ.وَمُتَوَسِّطٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِهِ وَهُوَ النَّفَاذُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ.وَضَعِيفٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِ وَصْفِهِ، وَهُوَ كَوْنُ النَّفَاذِ حَالًّا مِثْلُ تَأْخِيرِ نَفَاذِ الْإِقْرَارِ مِنَ لْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْإِفْلَاسِ إِلَى مَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَدْخَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْعَ عَنِ الْفِعْلِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، فَإِنَّهُ إِنْ جُعِلَ الْحَجْرُ هُوَ الْمَنْعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ، فَمَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِالْقَوْلِيِّ وَنَفْيِ الْفِعْلِيِّ مَعَ أَنَّ لِكُلٍّ حُكْمًا؟ وَأَمَّا مَا عَلَّلَ بِهِ (صَاحِبُ الدُّرِّ) مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، نَقُولُ: الْكَلَامُ فِي مَنْعِ حُكْمِهِ لَا مَنْعِ ذَاتِهِ، وَمِثْلُهُ: الْقَوْلُ، لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِذَاتِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بَلْ رَدُّ حُكْمِهِ.

وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَجْرَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى قُوَّتِهِ، أَوْ مِنْ نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ.

فَدَخَلَ بِالثَّانِي حَجْرُ الْمَرِيضِ وَالزَّوْجَةِ، وَدَخَلَ بِالْأَوَّلِ حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالرَّقِيقِ فَيُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ غَيْرَ تَبَرُّعٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فَلَا يُمْنَعَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ تَبَرُّعٍ أَوْ كَانَ تَبَرُّعًا وَكَانَ بِثُلُثِ مَالِهِمَا، وَأَمَّا تَبَرُّعُهُمَا بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُمْنَعَانِ مِنْهُ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ:

2- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}

وَقَوْلُهُ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.

فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ السَّفِيهَ بِالْمُبَذِّرِ، وَالضَّعِيفَ بِالصَّبِيِّ وَالْكَبِيرِ الْمُخْتَلِّ، وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ بِالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ- رضي الله عنه- مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ» وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- حَجَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ- رضي الله عنه- بِسَبَبِ تَبْذِيرِهِ

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْحَجْرِ:

3- قَرَّرَ الشَّارِعُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يُصَابُ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ كَجُنُونٍ وَعَتَهٍ حَتَّى تَكُونَ الْأَمْوَالُ مَصُونَةً مِنَ الْأَيْدِي الَّتِي تَسْلُبُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ.وَتَكُونَ مَصُونَةً أَيْضًا مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ.

وَقَرَّرَ الْحَجْرَ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَلْوَاءِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالْخَلَاعَةِ وَيُبَدِّدُونَ أَمْوَالَهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ صَوْنًا لِأَمْوَالِهِمْ، وَحِرْصًا عَلَى أَرْزَاقِ أَوْلَادِهِمْ، وَمَنْ يَعُولُونَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ.

كَمَا شَمِلَ الْحَجْرُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلْإِفْتَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَضِلُّ وَيُضِلُّ وَتُصْبِحُ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ فُتْيَاهُ، وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ الَّذِي يُدَاوِي الْأُمَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ فَنِّ الطِّبِّ، فَتَرُوحُ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ لِجَهْلِهِ، وَيَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ.وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، لِأَنَّهُ يُتْلِفُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

أَسْبَابُ الْحَجْرِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ وَالْجُنُونَ وَالرِّقَّ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ وَالْمَرَضَ الْمُتَّصِلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ أَيْضًا.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ- فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ- وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ لِمُصْلِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ.

تَقْسِيمُ الْحَجْرِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ:

5- يَنْقَسِمُ الْحَجْرُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- قِسْمٍ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (غَالِبًا)، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمُبَذِّرِ وَغَيْرِهِمْ- عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ- فَالْحَجْرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ هَؤُلَاءِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الضَّيَاعِ.

ب- قِسْمٌ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ (غَالِبًا)، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ (الدَّائِنِينَ)، وَحَجْرِ الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَكَحَجْرِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ حَيْثُ لَا دَيْنَ، وَحَجْرِ الرَّقِيقِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ.

أَوَّلًا- الْحَجْرُ عَلَى الصَّغِيرِ:

6- يَبْدَأُ الصِّغَرُ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْبُلُوغِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَتَى يَتِمُّ الْبُلُوغُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٌ).

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى يَبْلُغَ ثُمَّ يَسْتَمِرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ.

لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِ.

وَيَنْتَهِي الْحَجْرُ بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ: أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ.وَلَا يَنْتَهِي الْحَجْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّبِيِّ وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ قَبْلَ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَيَأْتِي.

أ- الْبُلُوغُ: الْبُلُوغُ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الصِّغَرِ وَالدُّخُولُ فِي حَدِّ الْكِبَرِ وَلَهُ أَمَارَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ إِنْ تَحَقَّقَتْ حُكِمَ بِهِ وَإِلاَّ فَيُرْجَعُ لِلسِّنِّ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُلُوغٌ).

ب- الرُّشْدُ:

الرُّشْدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ فَقَطْ.وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ.

وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ.فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَالِ أَوْ حِفْظِهِ.

وَلَوْ كَانَ الرُّشْدُ صَلَاحَ الدِّينِ فَالْحَجْرُ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْفَاسِقُ يُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِي الْمَعَاصِي كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْفَسَادِ فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ وَتَضْيِيعِهِ إِيَّاهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْكَذِبِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ دُفِعَ مَالُهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَالِ، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يُنْزَعْ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ جَمِيعًا.

وَالْآيَةُ عِنْدَهُمْ عَامَّةٌ لِأَنَّ كَلِمَةَ «رُشْدًا» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَالَ وَالدِّينَ، فَالرَّشِيدُ هُوَ مَنْ لَا يَفْعَلُ مُحَرَّمًا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ، وَلَا يُبَذِّرُ بِأَنْ يُضَيِّعَ الْمَالَ بِاحْتِمَالِ غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ رَمْيِهِ فِي بَحْرٍ، أَوْ إِنْفَاقِهِ فِي مُحَرَّمٍ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ «رُشْدًا» فِي الْآيَةِ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ: صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ وَحِفْظُ الْمَالِ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ وَمَا بَلَغَ رُشْدَهُ.فَلَا يُدْفَعُ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ.

وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُعْطَى الْيَتِيمُ وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ إِصْلَاحُ مَالِهِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رُشْدًا يَعْنِي فِي الْعَقْلِ خَاصَّةً.

وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ وَإِنْ شَاخَ لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهُ.

أَثَرُ الْحَجْرِ عَلَى تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ:

7- سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رَشِيدًا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِهِ، هَلْ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ أَمْ تَقَعُ فَاسِدَةً؟

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَلَا إِقْرَارُهُ وَلَا عِتْقُهُ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا، وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا فِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ صَحَّ الْعَقْدُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَكَذَا إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ اسْتِحْسَانًا.

وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا يَدُورُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَكَانَ يَعْقِلُهُ (أَيْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ)، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ صَحَّ، وَإِذَا رَدَّهُ بَطَلَ الْعَقْدُ.هَذَا إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَقْدُ غَبْنًا فَاحِشًا وَإِلاَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَعْقِلُهُ فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ.

وَإِذَا أَتْلَفَ الصَّبِيُّ- سَوَاءٌ عَقَلَ أَمْ لَا- شَيْئًا مُتَقَوِّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ، إِذْ لَا حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ، وَتَضْمِينُهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّكْلِيفِ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنَ الْمَالِ لِلْحَالِ، وَإِذَا قَتَلَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ لَا يَضْمَنُ فِيهَا لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ: كَمَا إِذَا أَتْلَفَ مَا اقْتَرَضَهُ، وَمَا أُودِعَ عِنْدَهُ بِلَا إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلَا إِذْنٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، وَزِيدَ فِي الْأُنْثَى دُخُولُ الزَّوْجِ بِهَا، وَشَهَادَةُ الْعُدُولِ عَلَى صَلَاحِ حَالِهَا.

وَلَوْ تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ بِمُعَاوَضَةٍ بِلَا إِذْنِ وَلِيِّهِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةِ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) فَلِلْوَلِيِّ رَدُّ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ تَعَيَّنَ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهُ كَإِقْرَارٍ بِدَيْنٍ.

وَلِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رَدُّ تَصَرُّفِ نَفْسِهِ قَبْلَ رُشْدِهِ إِنْ رَشَدَ حَيْثُ تَرَكَهُ وَلِيُّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِسَهْوِهِ أَوْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ.

وَلَوْ حَنِثَ بَعْدَ رُشْدِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ حَالَ صِغَرِهِ: أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ كَذَا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ، فَفَعَلَهُ بَعْدَ رُشْدِهِ فَلَهُ رَدُّهُ فَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ.وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ الْعَيْشِ كَدِرْهَمٍ مَثَلًا، وَلَا يُرَدُّ فِعْلُهُ فِيهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.

وَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ مَا أَفْسَدَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، فَتُؤْخَذُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ مَالٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يُؤْتَمَنِ الصَّبِيُّ عَلَى مَا أَتْلَفَهُ، فَإِنِ اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ.وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَرَفَةَ: الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَزِدْ عَنْ شَهْرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَالْعَجْمَاءِ.وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَخْلِطْ فِيهَا، فَإِنْ خَلَطَ بِأَنْ تَنَاقَضَ فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَمْ تَصِحَّ.

وَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ الرَّشِيدَةَ يُحْجَرُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا فِي تَصَرُّفٍ زَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا وَتَبَرُّعُهَا مَاضٍ حَتَّى يُرَدَّ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ.

وَالصِّبَا يَسْلُبُ الْوِلَايَةَ وَالْعِبَارَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ، وَفِي الدَّيْنِ كَالْإِسْلَامِ، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ عِبَادَةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ، لَكِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْفَرِيضَةِ أَقَلُّ مِنْ ثَوَابِ الْبَالِغِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ عَدَمُ خِطَابِهِ بِهَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا ثَوَابَ أَصْلًا لِعَدَمِ خِطَابِهِ بِالْعِبَادَةِ، لَكِنَّهُ أُثِيبَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَا يَتْرُكُهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاسْتُثْنِيَ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَيِّزِ الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الدَّارِ، وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا إِيصَالُ هَدِيَّةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ مَأْمُونٍ أَيْ لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذِبٌ.

وَلِلصَّبِيِّ تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ وَيُثَابُ عَلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْحُكْمِ فِي السَّفِيهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِدَانَةِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمَا، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ.

مَتَى يُدْفَعُ الْمَالُ إِلَى الصَّغِيرِ:

8- إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا أَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ ثُمَّ رَشَدَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَفُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ».وَلَا يُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُولُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمَذْهَبِ- وَالْحَنَابِلَةُ).

وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الصَّغِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى:

فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ سَفَهٌ أَوْ يَحْجُرْهُ أَبُوهُ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ وَصِيٌّ فَلَا يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِالتَّرْشِيدِ.فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مِنَ الْأَبِ (وَهُوَ الْوَصِيُّ الْمُخْتَارُ) فَلَهُ أَنْ يُرَشِّدَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُقَدَّمًا مِنْ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْشِيدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ يَكُونُ لِبُلُوغِهِ مَعَ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِمَالِهِ بَعْدَهُ فَقَطْ إِنْ كَانَ ذَا أَبٍ أَوْ مَعَ فَكِّ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمُ (الْوَصِيُّ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْقَاضِي) إِنْ كَانَ ذَا وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ فَذُو الْأَبِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِلْمَالِ بَعْدَ بُلُوغِهِ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَفُكَّهُ أَبُوهُ عَنْهُ، قَالَ ابْن عَاشِرٍ: يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا حَجَرَ الْأَبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ عِنْوَانُ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِلْمَالِ إِلاَّ لِفَكِّ الْأَبِ.

وَأَمَّا فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْوَصِيِّ فَيَحْتَاجُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْعُدُولِ: اشْهَدُوا أَنِّي فَكَكْتُ الْحَجْرَ عَنْ فُلَانٍ وَأَطْلَقْتُ لَهُ التَّصَرُّفَ لِمَا قَامَ عِنْدِي مِنْ رُشْدِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْفَكِّ لَازِمٌ لَا يُرَدُّ.وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِي الْفَكِّ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ وَلَا يَكُونَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ، وَهُوَ الْمُهْمَلُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ سَفَهُهُ.

وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَبٍ فَإِنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ تَبْقَى فِي حِجْرِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا وَتَبْقَى مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُولِ.

وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ عَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَعْوَامٍ.

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا حُسْنُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَالِ وَشَهَادَةُ الْعُدُولِ بِذَلِكَ.

الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ لَا يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهَا إِلاَّ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ (وَهِيَ بُلُوغُهَا، وَالدُّخُولُ بِهَا، وَبَقَاؤُهَا مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُولِ، وَثُبُوتُ حُسْنِ التَّصَرُّفِ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ) وَفَكَّ الْوَصِيُّ أَوِ الْمُقَدَّمُ.فَإِنْ لَمْ يَفُكَّا الْحَجْرَ عَنْهَا بِتَرْشِيدِهَا كَانَ تَصَرُّفُهَا مَرْدُودًا وَلَوْ عَنَسَتْ أَوْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَطَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَهُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ (أَيْ قَبْلَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ) وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ مَتَى بَلَغَ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَ مُفْسِدًا.لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ هُنَا مَنْ بَلَغَ، وَسُمِّيَ فِي الْآيَةِ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لِأَنَّهُ حَالُ كَمَالِ لُبِّهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.وَقَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ (الْأَطِبَّاءُ): مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ فِيهَا جَدًّا، لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلَامُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا، حَتَّى لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ مُبَذِّرًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ مَالُهُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالُ ذعِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ بَعْدَهُ.

الْحَجْرُ عَلَى الْمَجْنُونِ:

9- الْجُنُونُ هُوَ اخْتِلَالُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا.

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَمْ طَارِئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَوِيًّا أَمْ ضَعِيفًا، وَالْقَوِيُّ: الْمُطْبِقُ، وَالضَّعِيفُ: غَيْرُهُ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ فَهُوَ يُزِيلُ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ إِنْ كَانَ مُطْبِقًا، فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُنُونُ مُتَقَطِّعًا فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ وَلَا يَنْفِي أَصْلَ الْوُجُوبِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَحُكْمُهُ كَمُمَيِّزٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِثْلُهُ فِي الْمِنَحِ وَالدُّرَرِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَكَذَا الْمِعْرَاجُ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَغْلُوبَ بِاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا.ثُمَّ قَالَ: وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنِ الْمَجْنُونِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْتُوهُ.

وَجَعَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ كَالْعَاقِلِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ (الْحَصْكَفِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ) أَنْ يَقُولَ: فَحُكْمُهُ كَعَاقِلٍ أَيْ: فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ لِيَظْهَرَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْمَغْلُوبِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ غَيْرُ الْمَغْلُوبِ كَمُمَيِّزٍ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا إِعْتَاقُهُ كَالْمَغْلُوبِ.

وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ شَيْئًا مُقَوَّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ إِذْ لَا حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا فَفِي مَالِهِ، وَالدِّيَةُ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ كَالْمَالِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ الْوِلَايَاتُ الثَّابِتَةُ بِالشَّرْعِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، أَوِ التَّفْوِيضِ كَالْإِيصَاءِ وَالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَلِ أَمْرَ نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.

وَلَا تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُ أَمْ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالْإِسْلَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.

وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ كَإِحْبَالِهِ وَإِتْلَافِهِ مَالَ غَيْرِهِ وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ، وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَالْتِقَاطِهِ وَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ، وَعَمْدُهُ عَمْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: حَيْثُ كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ سَبَقَ كَلَامُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الصَّبِيِّ.

وَيَرْتَفِعُ حَجْرُ الْمَجْنُونِ بِالْإِفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى فَكٍّ فَتُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ (ر: جُنُونٌ).

الْحَجْرُ عَلَى الْمَعْتُوهِ:

10- اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْتُوهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: هُوَ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتِمُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَجْنُونُ.

وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسِيرًا لِلْعَتَهِ فِي الِاصْطِلَاحِ.

وَالْمَعْتُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْعَاقِلِ.

أَمَّا إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِحُكْمِ تَصَرُّفَاتِ الْمَعْتُوهِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٌ).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا كَانَ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.

وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَمَجْنُونٌ وَإِلاَّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ.

وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضًا لِلْمَسْأَلَةِ.

الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ:

أ- السَّفَهُ:

11- السَّفَهُ لُغَةً: هُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَسَفِهَ الْحَقَّ جَهِلَهُ، وَسَفَّهْتُهُ تَسْفِيهًا: نَسَبْتُهُ إِلَى السَّفَهِ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ سَفِيهٌ.

وَهُوَ سَفِيهٌ، وَالْأُنْثَى سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ.

وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَتَضْيِيعُهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَوِ الْعَقْلِ، كَالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَاتٍ لَا لِغَرَضٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لَا يَعُدُّهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ غَرَضًا، كَدَفْعِ الْمَالِ إِلَى الْمُغَنِّينَ وَاللَّعَّابِينَ وَشِرَاءِ الْحَمَامِ الطَّيَّارِ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَالْغَبْنِ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ غَيْرِ مَحْمَدَةٍ (أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ).

وَأَصْلُ الْمُسَامَحَاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ كَالْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلِذَا كَانَ مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَتَضْيِيعُهُ وَلَوْ فِي الْخَيْرِ كَأَنْ يَصْرِفَهُ كُلَّهُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ (أَيْ: صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا يُرَادُ لَهُ شَرْعًا) بِصَرْفِ الْمَالِ فِي مَعْصِيَةٍ كَخَمْرٍ وَقِمَارٍ، أَوْ بِصَرْفِهِ فِي مُعَامَلَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (خَارِجٍ عَنِ الْعَادَةِ) بِلَا مَصْلَحَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَأْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ، أَوْ صَرْفُهُ فِي شَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ مِثْلِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمُشْرَبِهِ وَمَلْبُوسِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

أَوْ بِإِتْلَافِهِ هَدَرًا كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَرْمِيَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ مِرْحَاضٍ، كَمَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ السُّفَهَاءِ يَطْرَحُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالْأَشْرِبَةَ فِيمَا ذُكِرَ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ بِهَا.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، فَقَالَ: التَّبْذِيرُ: الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْلُ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ.وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرَادُفَهُمَا.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ السَّفِيهَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الَّذِي يُضَيِّعُ مَالَهُ بِاحْتِمَالِ غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِهَا- أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْمُعَامَلَةِ فَأَعْطَى أَكْثَر مِنْ ثَمَنِهَا فَإِنَّ الزَّائِدَ صَدَقَةٌ خَفِيَّةٌ مَحْمُودَةٌ، أَيْ إِنْ كَانَ التَّعَامُلُ مَعَ مُحْتَاجٍ وَإِلاَّ فَهِبَةٌ.

وَمِنَ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْمِيَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِي مُحَرَّمٍ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَرْفَ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُلَابِسِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ.أَمَّا فِي الْأُولَى وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ فَلِأَنَّ لَهُ فِي الصَّرْفِ فِي الْخَيْرِ عِوَضًا، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَإِنَّهُ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ كَمَا لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ.وَحَقِيقَةُ السَّرَفِ: مَا لَا يُكْسِبُ حَمْدًا فِي الْعَاجِلِ وَلَا أَجْرًا فِي الْآجِلِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَذِّرًا إِنْ بَلَغَ مُفْرِطًا فِي الْإِنْفَاقِ.فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُقْتَصِدًا فَلَا.وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمُلَابِسِ فَلِأَنَّ الْمَالَ يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ وَيُلْتَذَّ بِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ تَبْذِيرًا عَادَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ الْمُبَذِّرُ لَهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُلِّ مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.

ب- حُكْمُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إِذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَبِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.وقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

فَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا، وَأَمَرَنَا بِالدَّفْعِ إِنْ وُجِدَ مِنْهُ الرُّشْدُ، إِذْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ مَنْعَ مَالِهِ لِعِلَّةِ السَّفَهِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ مَا بَقِيَتِ الْعِلَّةُ، صَغِيرًا كَانَ السَّفِيهُ أَوْ كَبِيرًا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ»

وَأَوْرَدَ ابْنُ قُدَامَةَ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا، فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: قَدِ ابْتَعْتُ بَيْعًا وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ.فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْبَيْعِ.

فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدِ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا فَاحْجُرْ عَلَيْهِ.فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟

ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ فَتَكُونُ إِجْمَاعًا حِينَئِذٍ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَالِ كَالْجُنُونِ، وَفِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ صِيَانَةٌ لِمَالِهِ وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِمَا سَبَقَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


45-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 7)

حَوَالَةٌ -7

152- ثُمَّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- فِي حَالَتَيِ الْبُطْلَانِ وَعَدَمِهِ- بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طُرُوءُ الطَّارِئِ الْمُسْقِطِ لِلدَّيْنِ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ قَبْلَهُ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلَانِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُ الْمَالِ (الْمُحِيلُ) عَلَى الْمُحَالِ الَّذِي قَبَضَهُ- إِمَّا بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا- وَلَوْ رَدَّهُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي هَذَا الرَّدِّ، فَقَدْ قَبَضَ بِإِذْنٍ، فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَعَ عَنِ الْآذِنِ، وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَقَاءِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّفْعِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ: فَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عِنْدَهُمْ جَزْمًا، بَلْ يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ حَيْثُ كَانَ.أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ: بِالْبُطْلَانِ وَبِعَدَمِهِ.

أَمَّا أَشْهَبُ- وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ- فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ هُنَا بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ عَارِضٌ- إِلاَّ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ أَوْ عَلَيْهِ، إِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ.

153- وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، جَارِيَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فِي الْبُطْلَانِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ، وَلَا يَأْبَهُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْحَوَالَةِ.

وَآخَرُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ- مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- فَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ، بَلْ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ وَصَحَّتِ الْحَوَالَةُ وَبَرِئَتْ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، فَلَا يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ.

وَالْقِيَاسُ الَّذِي كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ نَفْسُهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ: هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ، إِذَا طَرَأَ فَاسِخٌ لِسَبَبِ وُجُوبِهِ، تُقَاسُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدِ عِوَضَيِ الْبَيْعِ، إِذَا طَرَأَ مَا يَفْسَخُهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى زَيْدٌ بِثَوْبِهِ شَيْئًا مَا مِنْ عَمْرٍو، وَبَاعَ زَيْدٌ هَذَا الشَّيْءَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، فَإِنَّ الصَّفْقَةَ الثَّانِيَةَ مَاضِيَةٌ.وَالْجَامِعُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَفْقَةٌ سَبَقَتْهَا أُخْرَى، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الثَّانِيَةِ طُرُوءُ انْفِسَاخِ الْأُولَى.

4- الِانْتِهَاءُ بِالتَّوَى:

154- التَّوَى فِي اللُّغَةِ: وِزَانُ الْهَوَى- وَقَدْ يُمَدُّ- التَّلَفُ وَالْهَلَاكُ.هَكَذَا عُمِّمَ فِي- الْمِصْبَاحِ- وَقَصَرَهُ صَاحِبُ- الصِّحَاحِ- عَلَى هَلَاكِ الْمَالِ.وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَالُ: تَوِيَ الْمَالُ- مِنْ بَابِ فَرِحَ- يَتْوَى، فَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ.

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُنَا: فَالتَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

155- الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَمْ يَقُلْ بِهِ سِوَى الْحَنَفِيَّةِ.

وَالَّذِينَ وَافَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ خَاصَّةً، لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فَاسِخًا لِلْحَوَالَةِ- إِنْ صَحَّحُوا انْعِقَادَهَا- بَلْ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِيَارِ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَى عُقْدَةِ الْحَوَالَةِ أَوْ فَسْخِهَا.

لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ نَتِيجَةً لِاعْتِبَارِهَا كَالْقَبْضِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ نِهَائِيًّا، فَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فَلَسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَلَسُ قَائِمًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَا بِجَحْدِهِ لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، إِلاَّ أَنْ غَرَّهُ الْمُحِيلُ، بِأَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا فَقْرَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ جَحْدَهُ، فَكَتَمَهُ عَنِ الْمُحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ، بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، لَمْ يَتَحَوَّلِ الدَّيْنُ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ.

156- نِعْمَ إِذَا شَرَطَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ قِبَلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مَعِينٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُنَا يَخْتَلِفُ نُفَاةُ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى: فَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، يَقُولُونَ إِنَّ لَهُ شَرْطَهُ.وَيُعَلِّلُهُ الْبَاجِيُّ قَائِلًا: (وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِيهَا سَلَامَةَ ذِمَّتِهِ، فَلَهُ شَرْطُهُ).

أَمَّا جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْعَجْزِ شَرْطٌ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ نَفْسُهُ أَيْضًا.

157- يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ التَّوَى نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي.يُخَالِفُهُمْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى وَغَيْرُهُمْ:

فَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ التَّوَى لَا يُعْتَبَرُ نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ، وَبِالتَّالِي لَا رُجُوعَ بِهِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ.وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَدُ إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُحَالُ بِإِفْلَاسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ- إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عِلْمُ الْمُحَالِ بِذَلِكَ وَرِضَاهُ بِهِ- وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ تَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مَقْبُولٌ وَيُعْمَلُ بِهِ، وَلَكِنْ بِشَرِيطَةِ عِلْمِ الْمُحِيلِ بِهَذَا الْإِفْلَاسِ.

وَأَلْحَقُوا بِهِ عِلْمَهُ بِجَحْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (ف 155).

158- وَبِهَذَا يَتَحَرَّرُ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الرُّجُوعِ بِالتَّوَى ثَلَاثَةٌ:

1- إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِهِ: عَلَى خِلَافٍ فِي تَحْدِيدِ أَسْبَابِهِ أَوْ إِطْلَاقِهَا.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (مَا عَدَا زُفَرَ)، وَرَأْيُ بَعْضِ السَّلَفِ.

2- إِطْلَاقُ رَفْضِهِ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ.

3- وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ إِذَا شُرِطَ، وَإِلاَّ فَلَا رُجُوعَ إِلاَّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ- وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.

أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ:

يَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ بِالرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى بِمَا يَلِي:

(أ) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ:

159- فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا أَنَّهُ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَوًى)

وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَجَاءَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ.

(ب) - الْمَعْقُولُ:

160- قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ أَنْ يَنُوبَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ فِي الْإِيفَاءِ، لَا مُجَرَّدَ نَقْلِ الْوُجُوبِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، إِذِ الذِّمَمُ لَا تَتَفَاوَتُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، هَذَا هُوَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَمَا تَعَارَفُوهُ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ.

وَعَلَى هَذَا، فَبَرَاءَةُ الْمُحِيلِ لَمْ تَثْبُتْ مُطْلَقَةً، بَلْ مَشْرُوطَةً بِعِوَضٍ.فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ هَذَا الْعِوَضُ عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فَشَغَلَهَا كَمَا كَانَ.نَظِيرُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مُسْتَحَقًّا، أَوْ يَتَبَيَّنَ بِهِ عَيْبٌ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ، إِذِ الْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهُ مَا بَذَلَ الثَّمَنَ إِلاَّ لِيَحْصُلَ عَلَى مَبِيعٍ سَلِيمٍ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَشْرُوطِ، عَادَ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ.هَذَا قِيَاسٌ لَا شَكَّ فِي جَلَائِهِ.

أَدِلَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:

وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مُطْلَقًا بِالْأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:

أ- السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ:

161- فَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» هَذَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ تَوًى وَغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ مُخَصِّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ.

ب- آثَارُ الصَّحَابَةِ:

162- مِنْ ذَلِكَ: (أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اخْتَرْتَ عَلَيْنَا، أَبْعَدَكَ اللَّهُ) وَرَوَى ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ كَانَ لِأَبِيهِ الْمُسَيِّبِ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ: فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِلْمُسَيِّبِ: أَنَا أُحِيلُكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَحِلْنِي أَنْتَ عَلَى فُلَانٍ، فَفَعَلَا.فَانْتَصَفَ الْمُسَيِّبُ مِنْ عَلِيٍّ، وَتَلِفَ مَالُ الَّذِي أَحَالَهُ الْمُسَيِّبُ عَلَيْهِ.فَأَخْبَرَ الْمُسَيِّبُ بِذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ.

أَدِلَّةُ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:

162 م- الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي التَّوَى إِلاَّ فِي حَالَتَيِ الشَّرْطِ أَوِ الْغُرُورِ يَقُولُونَ:

إِنَّ أَدِلَّةَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَفْضِ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّالِيَيْنِ وَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا:

(1) الْمُحَالُ عَلَى مُفْلِسٍ يَجْهَلُ إِفْلَاسَهُ كَمُشْتَرِي السِّلْعَةِ يَجْهَلُ عَيْبَهَا، إِذِ الْإِفْلَاسُ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.وَهَكَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ (2) الْمُحِيلُ الَّذِي يَكْتُمُ إِفْلَاسَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ يُدَلِّسُ عَيْبَ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ تَقَعَ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَى الْمُدَلِّسِ، وَلَا تَقْتَصِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ.هَكَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنَّمَا خَصُّوا بِالذِّكْرِ فِي قِيَاسِهِمْ حَالَةَ التَّدْلِيسِ مِنْ حَالَاتِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ سَوَاءٌ أَدَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يُدَلِّسْ، لِأَنَّ لِلذِّمَمِ خَفَاءً وَسَرِيَّةً لَا تُعْلَمُ، فَصَارَتْ أَشْبَهَ بِالْمَبِيعِ الَّذِي يُجْهَلُ بَاطِنُهُ، وَهَذَا لَا رَدَّ بِعَيْبِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَنْ تَدْلِيسٍ.

أَسْبَابُ التَّوَى:

163- لِلتَّوَى- فِي الْحَوَالَةِ بِنَوْعَيْهَا الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ- سَبَبَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.وَتَنْفَرِدُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَسْبَابِ أَرْبَعَةً فِي الْجُمْلَةِ.

(أَوَّلًا) مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ.

(ثَانِيًا) جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَلَا بَيِّنَةَ.

(ثَالِثًا) تَفْلِيسُ الْقَاضِي لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ.

(رَابِعًا) تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ، أَوْ ضَيَاعُهَا.

أَوَّلًا- مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ:

164- وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُحَالِ، وَلَا كَفِيلًا بِهِ.

أَمَّا إِذَا تَرَكَ مَا يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُ الْمُحَالِ- مَهْمَا كَانَ مَا تَرَكَهُ، وَلَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ- فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِفْلَاسُهُ، وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ، مَهْمَا تَكُنِ الْأَسْبَابُ وَالْمَعَاذِيرُ.حَتَّى إِنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مَلِيئًا وَلَهُ دَيْنٌ سَيُفْضِي انْتِظَارُ قِسْمَتِهِ إِلَى تَأْخِيرِ أَدَاءِ الْحَوَالَةِ لِمَا بَعْدَ الْأَجَلِ لَا يَكُونُ لِلطَّالِبِ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ، لِبَقَاءِ الْحَوَالَةِ، إِذِ التَّرِكَةُ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْمَقْصُودِ هُنَا، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ.

فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَا يَفِي إِلاَّ بِبَعْضِ دَيْنِ الْمُحَالِ، فَلَا إِفْلَاسَ وَلَا تَوَى إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ.وَلِذَا يَقُولُونَ: (إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدْيُونًا، قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَالِ بِالْحِصَصِ، وَمَا بَقِيَ لَهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).

165- كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ كَفِيلًا بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، لَا يُعَدُّ مُفْلِسًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ- لِأَنَّ الْكَفِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصِيلِ، وَخَلَفٌ عَنْهُ- إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ أَيْضًا مُفْلِسًا، أَوْ يُبَرِّئَهُ الْمُحَالُ- لِأَنَّ هَذَا الْإِبْرَاءَ كَالْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ مَعْنًى- وَهَذَا وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ، حِينَ قَالَ: (إِنَّ الْمُحَالَ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).

هَذَا، وَفِي حَالَةِ الْكَفَالَةِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ التَّوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ لَا غَيْرُ.

166- وَلِهَذَا وَذَاكَ يَقُولُ فِي «الْبَزَّازِيَّةِ»: أَخَذَ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَفِيلًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، لَا يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ حَالَّةً أَمْ مُؤَجَّلَةً، أَمْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ- أَيْ بِالْمَالِ- كَفِيلٌ، وَلَكِنْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ وَرَهَنَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَالُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَالثَّمَنُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ.

ثَانِيًا- جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ:

167- إِذَا جَحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا، فَقَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى بِهَذَا السَّبَبِ.فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا الْجَحْدَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْحَوَالَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَهَا الْمُحَالُ أَمِ الْمُحِيلُ.فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْحَوَالَةِ يَحْلِفُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ: أَنْ لَا حَوَالَةَ عَلَيْهِ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

فَإِذَا قَبِلَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَحْدَهُ هَذَا وَقَضَى بِمَنْعِ الْمُحَالِ عَنْهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنَّهُ تَوَى.

ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِحُجَّةِ التَّوَى بِسَبَبِ هَذَا الْجَحْدِ لَا يَثْبُتُ الْجَحْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمُحَالِ لِأَجْلِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْجَحْدِ بِالْبَيِّنَةِ.

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِمُقْتَضَاهَا إِلاَّ بِحُضُورِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى غَائِبٍ، لَكِنِ الْمُحَالُ يَكْفِي مَئُونَةَ هَذَا الْقَضَاءِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمُحِيلُ فِي دَعْوَى الْجَحْدِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ.

ثَالِثًا- تَفْلِيسُ الْقَاضِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

168- وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ حَالُهُ.

وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْحَالِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ بِالْإِفْلَاسِ عَنْ شَهَادَةِ شُهُودٍ- وَإِنْ كَانَ هَذَا احْتِيَاطًا حَسَنًا- فَإِنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، بَلْ يَكْفِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ.وَفِي مَوْضُوعِنَا هَذَا لَا يَكُونُ التَّفْلِيسُ إِلاَّ بَعْدَ الْحَبْسِ.

169- وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ إِمْكَانُ تَحَقُّقِ التَّوَى بِالتَّفْلِيسِ، مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَوَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: بَلْ يَحْصُلُ التَّوَى بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي لِهَذَا الْمَدِينِ.

رَابِعًا- تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ أَوْ ضَيَاعُهَا:

170- إِذَا أَصَابَ الْوَدِيعَةَ مَثَلًا تَلَفٌ أَوْ ضَيَاعٌ وَلَوْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَدِيعِ- كَمَا لَوِ ادَّعَى ضَيَاعَ الدَّنَانِيرِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ- تَكُونُ النَّتِيجَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخَ الْحَوَالَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا، وَبَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِذَنْ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّسْلِيمَ مُطْلَقًا، بَلْ مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ، فَلَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ مَا.

بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ- كَالْمَغْصُوبِ- فَإِنَّ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِهَا لَا تَنْفَسِخُ بِفَوَاتِهَا، لِأَنَّهَا تَفُوتُ- إِنْ فَاتَتْ- إِلَى خَلَفٍ، مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ الْحَوَالَةُ بِهَذَا الْخَلَفِ، فَإِنْ فَاتَتْ لَا إِلَى خَلَفٍ بِأَنْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً- بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ (ر: ف 144).

آثَارُ التَّوَى:

171- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ التَّوَى فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَثَبَتَ بِأَحَدِ أَسْبَابِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَانِ:

(أَوَّلًا) - انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ، فَتَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا أَحْكَامُهَا.

(ثَانِيًا) - رُجُوعُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ: لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِسَلَامَةِ عَاقِبَةِ الْحَوَالَةِ، أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، فَلَمَّا انْتَفَتِ الشَّرِيطَةُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ.وَإِذَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ جَمِيعُ حُقُوقِ الدَّائِنِينَ تُجَاهَ مَدِينِهِمْ، كَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُقَاضَاةِ.

نَعَمْ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ أَحَالَ الطَّالِبَ عَلَى الْمُحَالِ نَفْسِهِ، فَتَوِيَ الْمَالُ عِنْدَهُ- وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ) حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَحَلٌّ تَوِيَ مَالُ حَوَالَتِهِ-

وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ إِذَا اشْتُرِطَتْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ صَرَاحَةً- رَغْمَ أَنَّ مُقْتَضَاهَا هَذِهِ الْبَرَاءَةَ دُونَ شَرْطٍ- هَلْ يَرْجِعُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ فِي حَالَةِ التَّوَى؟ إِنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حَوَالَةً أَنْ تَثْبُتَ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِسَبَبِ التَّوَى، وَمُقْتَضَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ صَرَاحَةً عَدَمُ هَذَا الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى فَي هَذِهِ الْحَالَةَ.

وَهْم يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ عَوْدِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ حِينَئِذٍ:

(1) فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقَ الْفَسْخِ: أَيْ أَنَّ الْمُحَالَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْحَوَالَةَ مَتَى تَحَقَّقَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَى، وَمِنْ ثَمَّ يُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطِ عُرْفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

(2) وَمِنْ قَائِلٍ: بَلْ عَنْ طَرِيقِ الِانْفِسَاخِ التِّلْقَائِيِّ: دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَدَخُّلِ الْمُحَالِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ أَحَدٍ، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَيَعُودُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ هُنَا- بِنَفْسِ الْعِلَّةِ- تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ تِلْقَائِيًّا عِنْدَ التَّوَى، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.

(3) وَمِنْ قَائِلٍ: إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْجُحُودَ فَالطَّرِيقُ هُوَ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ عَنْ إِفْلَاسٍ فَالطَّرِيقُ هُوَ الِانْفِسَاخُ.

وَلَا يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


46-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 2)

خَرَاجٌ -2

إِحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ:

24- إِذَا كَانَ الْمُحْيِي لِلْأَرْضِ الْمَوَاتِ ذِمِّيًّا، فَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ- بِإِذْنِ الْإِمَامِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ ضِمْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَمْ دَارِ الْعَهْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي وَظِيفَةِ الْأَرْضِ، فَالْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ الْعُشْرُ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سِوَى الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ.

وَيَرَى آخَرُونَ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

انْظُرْ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) ف 22 وَ 23

مِقْدَارُ الْخَرَاجِ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَفِي جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (الْفَصْفَصَةِ) خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ (الْعِنَبِ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهَا، يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ- قَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّخْلَ- وَعَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ.

26- وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِتَقْدِيرِ إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِأَيِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ ابْنَ حُنَيْفٍ إِلَى السَّوَادِ فَطَرَّزَ الْخَرَاجَ فَوَضَعَ عَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّيْتُونِ اثْنَيْ عَشَرَ.وَوَضَعَ عَلَى الرَّجُلِ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ فِي الشَّهْرِ.

27- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ.وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَجَرٍ، وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ كَرْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.

28- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ حَيْثُ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَأَتَاهُ ابْنُ حُنَيْفٍ- فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَضَعْتُ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْأَرْضِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ لَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجْهِدُهُمْ.

الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه-:

29- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِتَقْدِيرَاتِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِلْخَرَاجِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَاقَةِ الْأَرْضِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّحَمُّلِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَيْثُ قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: (لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ) فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ لَا تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رِيعِهَا فَتَنْقُصُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، لِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (وَلَوْ زِدْنَا لأَطَاقَتْ) فَلَمْ يَزِدْ عُمَرُ مَعَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَرْضَ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، لِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لِعُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ زِدْتُ عَلَيْهِمْ لأَجْهَدْتُهُمْ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُجْهِدْهُمْ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، فَجَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ النُّقْصَانِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لِأَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ كَالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.

مَا يُرَاعَى عِنْدَ تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ:

30- يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تُرْبَةِ الْأَرْضِ، وَمَدَى إِنْتَاجِيَّتِهَا وَخُصُوبَتِهَا، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الرَّدِيئَةِ.

وَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي عَامٍ، وَتُرَاحُ فِي عَامٍ.فَيُرَاعَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ حَالُهَا، وَاعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ أَصْلَحَ الْأُمُورِ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَأَهْلُ الْفَيْءِ يَكُونُ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ.

أ- إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ خَرَاجُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ.

ب- وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُلَّ جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالْآخَرُ لِلْمَتْرُوكِ.

ج- وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْضِهِمْ.

خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا:

31- مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُرَاعَى أَيْضًا عِنْدَ تَحْدِيدِ وَظِيفَةِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا.فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَوْجَبَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْآبَارِ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى مَئُونَةٍ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْأَمْطَارِ، أَوِ الْعُيُونِ، أَوِ الْأَنْهَارِ يَزِيدُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْآبَارِ.

نَوْعِيَّةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَزْرُوعَةِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

32- الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْقَمْحِ، أَوِ الشَّعِيرِ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالْعِنَبِ، وَالنَّخِيلِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قِيمَةِ كُلِّ نَوْعٍ عَنِ الْآخَرِ.

33- قُرْبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ وَبُعْدُهَا عَنْهَا:

فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ لِأَنَّ بُعْدَهَا عَنِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ يَزِيدُ مِنَ الْمَئُونَةِ وَالْكُلْفَةِ.

مَا يَنْزِلُ بِأَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنْ نَوَائِبَ

وَمُلِمَّاتٍ.

34- يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ الَّتِي قَدْ تَنْزِلُ بِأَرْبَابِ الْأَرْضِ فَيَتْرُكَ لَهُمْ مِنْ غَايَةِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً لِمُوَاجَهَةِ تِلْكَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ.

كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خَرْصِ الثِّمَارِ الْمُزَكَّاةِ حَيْثُ قَالَ: « إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ » وَقَدْ عَلَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: « فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَطِيَّةَ » وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْأَكَلَةَ.

وَقَدْ رَاعَى عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ عِنْدَمَا وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَقَالَ: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ مُطِيقَةٌ لَهُ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ.وَقَالَ أَيْضًا: (وَلَوْ زِدْنَا لأَطَاقَتْ.

وَقَدْ نَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَلْ مِنْهُ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ، حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ أَمْوَالِ السَّوَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا).

اسْتِيفَاءُ الْخَرَاجِ:

إِذَا وُضِعَ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ لِيُصْرَفَ فِيْ مَصَارِفَهُ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ سَدِّ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

35- لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ- غَالِبًا- مَا يَكُونُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ.

أ- وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ

35 م- وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ الْخَرَاجِ الْمَفْرُوضِ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ.

فَإِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ، يَكُونُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ كَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، وَيَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ، فَلَا يُؤْخَذُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ، وَلَوِ اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا فِي السَّنَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ؛ وَلِأَنَّ رِيعَ عَامَّةِ الْأَرَاضِي يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ.

وَالْوَظِيفَةُ الْمَفْرُوضَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ.

فَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ، فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا السَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا.

وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا السَّنَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْأَمْطَارُ وَيُزْرَعُ الزَّرْعُ.

وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ، الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فِي يَدِهِ سَنَةً، إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ.

ب- تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ:

36- الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْخَرَاجِ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ وُجُوبِهِ.فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُطَالَبَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْخَرَاجِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِهِ؟

أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَعْجِيلَ الْخَرَاجِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ عُجِّلَ رِفْقًا فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَجَلِهِ كَالدَّيْنِ.

وَمُقْتَضَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَعْجِيلِهِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ، وَالْأُجْرَةُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَلَوْ تَعَجَّلَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ قَبْلَ وُجُوبِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ وُجُوبُهُ فَهَلْ يَرُدُّ الْإِمَامُ مَا أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؟

فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْ صُرِفَ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بَاقِيًا.فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ صُرِفَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الْخَرَاجِ أَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا- أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا أَوْ قَدْ صُرِفَ- لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ لِيَقَعَ نَفْلاً.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ.وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.

ج- تَأْخِيرُ الْخَرَاجِ:

37- إِذَا تَأَخَّرَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.

فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَلَ حُبِسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ فِي خَرَاجِهِ كَالْمَدْيُونِ.وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيُتْرَكُ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ، إِمَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَهَا عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ مِنْ أُجْرَتِهَا وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ.وَإِنْ نَقَصَتِ الْأُجْرَةُ عَنِ الْخَرَاجِ كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ نُقْصَانُهَا.

وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ لِلْأَرْضِ، وَالْأُجْرَةُ لَا تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ كَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْحَوَانِيتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ- أَيْ لَيْسَ بَدَلاً عَنْ شَيْءٍ- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَأْيَهُمْ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ أُجْرَةٌ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.

الشَّخْصُ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْخَرَاجُ:

38- الْمُطَالَبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِيَدِهِ ابْتِدَاءً أَمِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالْخَرَاجِ، أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ فِي يَدِهِ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا.وَقَدَّرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنْ غَيْرِهِ، فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ شَهْرٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِهِ كَذَلِكَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَرْضُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، لَا خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ.

وَإِذَا آجَرَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ أَرْضَهُ، أَوْ أَعَارَهَا، أَوْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً، فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُعِيرِ، لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَهُوَ لِلْمَالِكِ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ أَوِ الْمُؤَجِّرُ مِنَ الْأُجْرَةِ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ النَّمَاءِ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْأَرْضِ.فَلَا يَكُونُ النَّفْعُ لَهُ وَالْخَرَاجُ عَلَى غَيْرِهِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ مَجَّانًا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ قِيَاسًا عَلَى الْعُشْرِ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ تَمَامِ تُرْبَةِ الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ، وَتَهْيِئَتِهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَإِذَا غَصَبَ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ غَاصِبٌ، فَإِمَّا أَنْ يُعَطِّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَزْرَعَهَا وَيَسْتَغِلَّهَا.فَإِذَا عَطَّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَهَا الزِّرَاعَةُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تُنْقِصَهَا، فَإِذَا لَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ فَيَجِبَ خَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِبِ.

وَإِذَا نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، يَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ، وَلَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ صَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُنْظَرُ إِلَى ضَمَانِ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ.فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ.فَيَأْخُذُ مِنَ الْغَاصِبِ غَرَامَةَ النُّقْصَانِ وَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ.وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أُجْرَةَ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَنَافِعِ، أَنَّ غَاصِبَ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَضْمَنُ الْخَرَاجَ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ.

مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

39- قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ.فَالْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْخَرَاجَ ابْتِدَاءً، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُقَرِّرُ صَرْفَهُ وَفْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَكِيلٌ عَنِ الْأُمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَفِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهَا.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.

وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ، وَالْقَهْرِ، وَالْغَلَبَةِ.

وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا إِيجَافٍ، كَالصُّلْحِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِ الْكُفَّارِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالْمُطَالِبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ الْإِمَامُ، وَيَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَرْضِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ:

40- الْإِمَامُ الْعَادِلُ: هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مَالاً لَا يَطْلُبُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالاً عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ، وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ ».

وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}

فَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَوْزِيعُ خَرَاجِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْخَرَاجَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ ثَانِيًا، لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ. أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَعَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:

41- الْإِمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ.

فَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا أَدَّوْا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ سَقَطَ عَنْهُمْ وَلَا يُطَالَبُونَ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ، وَالْعُشُورَ، وَالْخَرَاجَ، لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟.

اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ، فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ كَطَلَبِ الْخَرَاجِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ- فِي بَيَانِ مَعْنَى « ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ »:- أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَمْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَفِي الْأَنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ ».

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْبُغَاةِ:

42- الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْإِمَامَ مُتَأَوِّلِينَ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَالَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشَبَهِهَا فَيَدْعُونَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ.

فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، وَنَصَّبُوا إِمَامًا فَجَبَى الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهِ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ مَرَّةً ثَانِيَةً، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ.وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهِ ضَرَرًا عَظِيمًا، وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى ثَنْيِ الْوَاجِبِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إِلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ « قُطَّاعِ الطَّرِيقِ »:

43- الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلَاحِ، فَيَغْصِبُونَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً، أَوْ يَقْتُلُونَ، أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ.

فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ الْخَرَاجُ بِأَدَائِهِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ، لِأَنَّهُ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا.

طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

الطَّرِيقَةُ الْأُولَى- الْعِمَالَةُ عَلَى الْخَرَاجِ:

44- تَعْيِينُ عَامِلِ الْخَرَاجِ مِنَ اخْتِصَاصَاتِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْعَامِلُ بِهَذَا التَّعْيِينِ وَكِيلاً عَنِ الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ وَقَبْضِهِ، فَتَكُونُ جِبَايَتُهُ لِلْخَرَاجِ مُحَدَّدَةً بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْسِيمُ مَا جَبَاهُ مِنْ أَمْوَالِ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تُصْرَفُ إِلاَّ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

وَعَامِلُ الْخَرَاجِ- بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ- أَمِينٌ إِذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ فَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَلَا يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ.

شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِلِ الْخَرَاجِ:

يُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ: الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

1- الْإِسْلَامُ:

45- عَامِلُ الْخَرَاجِ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْأَمَانَةِ.

وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الذِّمِّيُّ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ، وَوَضْعِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- يُسْتَعْمَلُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ الْخَرَاجِ؟ قَالَ: لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْيَهُودِ، وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ، وَوُلَجَاءَ، يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ، وَيَسْنُدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ.

وَقَالَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا، فَلَوِ اتَّخَذْتُهُ كَاتِبًا، فَقَالَ: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. عَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ بِقَوْلِهِ: فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ » أَيْ لَا تَسْتَنْصِحُوهُمْ، وَلَا تَسْتَضِيئُوا بِرَأْيِهِمْ.

وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ- رضي الله عنه- خِطَابًا جَاءَ فِيهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ فِي عَمَلِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِهِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُقَلِّدَهُ دُونَ أَمْرِكَ.فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، قَرَأْتُ كِتَابَكَ فِي أَمْرِ النَّصْرَانِيِّ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ مَاتَ وَالسَّلَامُ.

وَقَدْ سَارَ الْخُلَفَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ فِي الْأُمَّةِ عَلَى نَهْجِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي اسْتِبْعَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي فِيهَا اطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ الْمُسْلِمِينَ.

فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَحَدِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ فِي عَمَلِكَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا يَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانًا- يَعْنِي ذَلِكَ الْكَاتِبَ- إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ، وَلَا تَتَّخِذْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.فَأَسْلَمَ حَسَّانٌ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

وَلِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ مُتَوَلِّي هَذَا الْعَمَلِ الْأَمَانَةَ وَالنُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحِرْص عَلَى مَصَالِحِهِمْ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِفَاتِهِمْ فَهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَغُشُّونَ، وَلَا يَنْصَحُونَ، قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.

وَلِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الذِّمِّيُّ فِي عَمَلٍ يَخْتَصُّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ.

فَإِذَا كَانَ يَجْبِيهِ مِنَ الذِّمِّيِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمُ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ.

وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.

2- الْحُرِّيَّةُ:

46- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْمُخْتَصِّ بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ الْحُرِّيَّةُ.وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْعَبْدُ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ وَوَضْعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ جَابِيًا فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي هَذَا الْعَمَلِ إِلاَّ عَنِ اسْتِنَابَةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالرَّسُولِ لِلْمَأْمُورِ.

3- الْأَمَانَةُ:

47- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْأَمَانَةُ.وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْخَائِنُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ، لِئَلاَّ يَخُونَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَغُشُّ فِيمَا قَدِ اسْتُنْصِحَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ: وَرَأَيْتُ أَنْ تَتَّخِذَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالدِّينِ، وَالْأَمَانَةِ فَتُوَلِّيهِمُ الْخَرَاجَ.

4- الْكِفَايَةُ:

48- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْكِفَايَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَكَيْفِيَّةِ خَرْصِ الثِّمَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ يَضَعُ الْأَرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ.فَأُخْبِرَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَعَيَّنَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا بَصَرٍ وَعَقْلٍ، وَتَجْرِبَةٍ.

قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ- فِي بَيَانِ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ كِفَايَةُ عَامِلِ الْخَرَاجِ-:

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَمَجَارِي

الْمِيَاهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمِسَاحَاتِ، وَتَخْمِينِ الْغَلاَّتِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفُصُولِ السَّنَةِ، وَمَجَارِي الشَّمْسِ، وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْحِسَابِ وَكُسُورِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ دُرْبَةٌ بِعَقْدِ الْجُسُورِ، وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا يُدْفَعُ عَنِ الزَّرْعِ فِي الْأَرَاضِي، وَأَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَوْقَاتِ الزَّرْعِ وَأَحْوَالِ الْأَسْعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا يَجِبُ لَهُ.

هَذَا إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرَهُ، أَمَّا إِنِ اقْتَصَرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى طَلَبِ جِبَايَتِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.

5- الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ:

49- إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


47-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 1)

خِيَارُ الْعَيْبِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- (خِيَارُ الْعَيْبِ) مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ (خِيَارٌ) (وَعَيْبٌ).أَمَّا كَلِمَةُ «خِيَارٌ» فَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخِيَارِ بِوَجْهٍ عَامٍّ بَيَانُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ أَيْضًا.

أَمَّا كَلِمَةُ عَيْبٍ، فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ عَابَ، يُقَالُ: عَابَ الْمَتَاعَ يَعِيبُ عَيْبًا: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَجَمْعُهُ عُيُوبٌ وَأَعْيَابٌ.قَالَ الْفَيُّومِيُّ: اسْتُعْمِلَ الْعَيْبُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى عُيُوبٍ.وَالْمَعِيبُ مَكَانُ الْعَيْبِ وَزَمَانُهُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَعَارِيفُ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعَيْبِ، مِنْهَا: مَا عَرَّفَهُ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّهُ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا.وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ: مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ عَنِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ.

وَعَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ: كُلُّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ اقْتَضَى الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ: فَمِنَ الْكِتَابِ: اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ.

فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَعِيبُ، بَلْ لَهُ رَدُّهُ وَالِاعْتِرَاضُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ الرَّدِّ وَالْإِصْلَاحِ لِذَلِكَ الْخَلَلِ فِي تَكَافُؤِ الْمُبَادَلَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ: عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلَامًا، فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ حُصُولِ الْمَبِيعِ السَّلِيمِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ الثَّمَنَ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَبِيعٌ سَلِيمٌ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِثْبَاتُ النَّبِيِّ الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ.

وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ، وَأَدِلَّتُهُ:

3- وُجُوبُهُ عَلَى الْعَاقِدِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ إِعْلَامَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي فِي مَبِيعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِلْخِيَارِ فَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَيْسَ مِنَ التَّدْلِيسِ الْمُحَرَّمِ كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ مَطْلُوبٌ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ- عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَتَحْرِيمُهُ مَعْرُوفٌ.

وَدَلَّ عَلَى هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:

حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ».

وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ».

وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ لِوُرُودِهَا بِتَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ- كَمَا صَرَّحَ السُّبْكِيُّ- وَذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قِصَّةٍ هِيَ: أَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي الْمَطَرَ قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ بِالْفِعْلِ الْمُجْزِئِ عَنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ:

وَهَلْ يَظَلُّ الْإِثْمُ لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ قَائِلًا: (إِنْ رَضِيَهُ فَقَدْ أَثِمَ الْبَائِعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ).

حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ الْكِتْمَانِ:

4- الْبَيْعُ دُونَ بَيَانِ الْعَيْبِ الْمُسَبِّبِ لِلْخِيَارِ صَحِيحٌ مَعَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ الْمُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالتَّصْرِيَةُ عَيْبٌ، وَهَاهُنَا التَّدْلِيسُ لِلْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مَمْنُوعًا، أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَصْلًا (لَا لِمَعْنًى فِيهِ وَلَا لِاسْتِلْزَامِهِ مَمْنُوعًا) بَلْ قَدْ تَحَقَّقَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ الْغِشُّ، وَتِلْكَ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّهْيِ الثَّلَاثِ فَلَا إِثْمَ فِي الْعَقْدِ، بَلِ الْإِثْمُ فِي الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتْمَانِ لَا عَنِ الْعَقْدِ.

وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى إِبِلًا هِيمًا فَلَمَّا أُخْبِرَ بِعَيْبِهَا رَضِيَهَا وَأَمْضَى الْعَقْدَ.

وُجُوبُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ:

5- وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَائِعِ، بَلْ يَمْتَدُّ إِلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ- وَالْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ كَتَمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ- وَالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْعَدِيدَةِ فِي وُجُوبِ النُّصْحِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَالنَّوَوِيُّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: وَذَلِكَ مِمَّا لَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا.

وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الْأَجْنَبِيُّ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِهِ فَالْوُجُوبُ حَيْثُ يَعْلَمُ، أَوْ يَظُنُّ، أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ قِيَامَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ- أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ لِتَدَيُّنِهِ- فَهُنَاكَ احْتِمَالَانِ

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُجُوبِ خَشْيَةَ إِيغَارِ صَدْرِ الْبَائِعِ لِتَوَهُّمِهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وُجُوبُ الِاسْتِفْسَارِ مِنَ الْمُشْتَرِي هَلْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ.

وَوَقْتُ الْإِعْلَامِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْأَجْنَبِيِّ قَبْلَ الْبَيْعِ، لِيَكُفَّ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَجْنَبِيُّ حَاضِرًا، أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَهُ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ خِيَارِ الْعَيْبِ:

الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ (الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُبَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ، لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا، فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ.

شَرَائِطُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

6- يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرَائِطَ ثَلَاثٍ:

1- ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ.

(الشَّرِيطَةُ الْأُولَى) ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ:

7- الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ بُرُوزُ الْعَيْبِ وَانْكِشَافُهُ بَعْدَمَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلَا حُكْمَ لِلْعَيْبِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، لِأَنَّ الْمُفْتَرَضَ أَنَّهُ خَفِيٌّ وَمَجْهُولٌ لِلْمُشْتَرِي فَكَأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ سَالِمًا- فِي نَظَرِهِ- حَتَّى وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا.

وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِقْهًا- لَا مُطْلَقَ الْعَيْبِ لُغَةً- وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ هُمَا:

1- كَوْنُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ أَوْ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.

2- كَوْنُ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعَيْبِ. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ- نَقْصُ الْقِيمَةِ، أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ صَحِيحٍ:

8- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلْعَيْبِ: هُوَ كُلُّ مَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ سَوَاءٌ نَقَّصَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يُنَقِّصْهَا.

وَقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ- وَغَيْرُهُمْ- بِالثَّمَنِ بَدَلَ الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَالِبِ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.

وَالْعَيْبُ الْفَاحِشُ فِي الْمَهْرِ كُلُّ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ إِلَى الْوَسَطِ، وَمِنَ الْوَسَطِ إِلَى الرَّدِيءِ.

وَإِنَّمَا لَا يُرَدُّ الْمَهْرُ بِيَسِيرِ الْعَيْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ فَيُرَدُّ بِيَسِيرِهِ أَيْضًا.

قَالَ فِي «مُخْتَارِ الْفَتَاوَى»: وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ فِيهِ: كُلُّ عَيْبٍ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، بِأَنْ يُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَمَعَ الْعَيْبِ بِأَقَلَّ، وَيُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ آخَرُ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ بِأَلْفٍ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِأَنِ اتَّفَقَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِهِ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَاتَّفَقُوا فِي تَقْوِيمِهِ مَعَ هَذَا بِأَقَلَّ فَهُوَ فَاحِشٌ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَدْخُلُ فِي الزَّوَاجِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الْفَسْخِ بِعُيُوبٍ ثَلَاثَةٍ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجٍ فِيهِ أَحَدُهَا، وَجَاءَ فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّ كُلَّ عَيْبٍ تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ.وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ بِعُيُوبٍ تُخِلُّ بِمَقْصِدِ الزَّوَاجِ كَالْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «نِكَاحٌ».

وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُنْقِصُ لِلْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَالِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ.وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الضَّابِطُ عَلَى الْعُنْصُرَيْنِ الْمُقَوِّمَيْنِ لَهُ فِي حِينِ خَلَا مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُرَجَّحُ عَنْ ضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ أُحِيلَ فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ دُونَ ضَبْطِ الْعَيْبِ، وَمُجَرَّدُ الْإِحَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ يَقَعُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلْبَاسٌ.وَأَنَّ اشْتِرَاطَ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ النَّقْصِ الْيَسِيرِ فِي فَخِذِ شَاةٍ أَوْ سَاقِهَا بِشَكْلٍ لَا يُورِثُ شَيْئًا، وَلَا يَفُوتُ بِهِ غَرَضُ صِحَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَقْصَ الْعَيْنِ وَحْدَهُ كَافٍ وَلَوْ لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الْقِيمَةُ، بَلْ زَادَتْ، وَبِالْمُقَابِلِ إِنَّ مِنَ الْعَيْبِ نَقْصَ الْقِيمَةِ (أَوِ الْمَالِيَّةِ بِعِبَارَةِ ابْنِ قُدَامَةَ) عَادَةً فِي عُرْفِ التُّجَّارِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ عَيْنُهُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ نَقِيصَةً يَقْتَضِي الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا، الْبَيْتُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ إِنْسَانٌ وَأَصْبَحَ يُوحِشُ سَاكِنِيهِ وَتَنْفِرُ نُفُوسُهُمْ عَنْهُ، وَيَأْبَى الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ سُكْنَاهُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ خَيَالَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ مُقْلِقَةٌ.وَقَدْ جَعَلُوهُ مِمَّا يَنْفِرُ النَّاسُ عَنْهُ، وَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَيُبْخَسُ ثَمَنُهُ، فَهُوَ مِنْ تَطْبِيقَاتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي- كَوْنُ الْأَصْلِ سَلَامَةَ أَمْثَالِ الْمَبِيعِ.مِنَ الْعَيْبِ:

9- الْمُرَادُ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْعَارِضِ هِيَ الْأَصْلُ فِي نَوْعِ الْمَبِيعِ وَأَمْثَالِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمَأْلُوفِ وُجُودُهُ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مُعْتَبَرًا.وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَعَابِيرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.وَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَائِلًا: وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ.وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلًا بِوُجُودِ الثُّفْلِ فِي الزَّيْتِ بِالْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَمِنْ تَعَابِيرِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَمْرِ، لِيَكُونَ الْعَيْبُ مُعْتَبَرًا، التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، أَوِ اقْتِضَاءُ الْعُرْفِ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ مَا خَالَفَ الْخِلْقَةَ الْأَصْلِيَّةَ، أَوْ أَصْلَ الْخِلْقَةِ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، أَوْ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ (كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ)، أَوْ مَا خَالَفَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.

الرُّجُوعُ لِلْعُرْفِ فِي تَحَقُّقِ ضَابِطِ الْعَيْبِ

10- تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا (أَيْ مُؤَدِّيًا إِلَى نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ) إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُمُ التُّجَّارُ، أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: التَّعْوِيلُ فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَّصَ الثَّمَنَ (أَيِ الْقِيمَةَ) فِي عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: التَّعْوِيلُ فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ عَيْبًا أَوْ عَدَمَهُ هُوَ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ..وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ التُّجَّارِ يَرَوْنَهُ، أَوْ لَا يَرَوْنَهُ.وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ التُّجَّارِ لَيْسَ تَخْصِيصًا، بَلِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَيْبًا؟ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُلِّ.

وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُطْلَبُ هَذَا الْإِجْمَاعُ بَلِ التَّعَدُّدُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عَلَى مَا نَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبَيِ التَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.ثُمَّ قَالَ: لَوِ اخْتَلَفَا هَلْ هُوَ عَيْبٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ.

شَرَائِطُ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ نَفْسِهِ:

11- فَفِي الْبَيْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ، فَالْعُيُوبُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ لَا أَثَرَ لَهَا كَالْعُيُوبِ فِي شَخْصِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الرَّهْنِ الْمُقَدَّمِ، أَوِ الْكَفِيلِ وَنَحْوِهِ..وَضَرَبَ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مَثَلًا بِمَا إِذَا بَاعَ حَقَّ الْكَدَكِ (مِنْ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ فِي الْعَقَارِ) فِي حَانُوتٍ لِغَيْرِهِ فَأَخْبَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّهَا أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِهَذَا السَّبَبِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:

12- وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ.فَالْمُقَارِنُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ مَا وُجِدَ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَا جُزْؤُهُ وَصِفَتُهُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ قَدِيمًا بَلْ حَدَثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلَالَةً فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَلِيمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِذِ الْعَيْبُ لَمْ يَحْدُثْ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.

قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْعَيْبُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ يُوجِبُ الرَّدَّ.

وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَأَخَذُوا بِقَضِيَّةِ الْعُهْدَةِ: وَهِيَ عُهْدَتَانِ، الْأُولَى فِي عُيُوبِ الرَّقِيقِ وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ الثَّلَاثِ، وَالثَّانِيَةُ فِي عُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ السُّنَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَةٌ).

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُفْسَخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَوُجُودُ الْعَيْبِ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفَاعِ فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَ حَادِثًا.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْعَيْبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- يُعْتَبَرُ فِي مَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا (حَصَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَلَكِنَّهُ وُجِدَ بِفِعْلٍ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ.وَهَذَا الْقَيْدُ كَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهُ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ- وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لَا تَأْبَاهُ- وَقَدْ صَرَّحَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْقِدُ الْعَيْبُ أَثَرَهُ.

4- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بَاقِيًا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمُسْتَمِرًّا حَتَّى الرَّدِّ:

14- وَالْمُرَادُ مِنْ بَقَائِهِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إِمَّا بِأَنْ يَظَلَّ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَخْفَى عِنْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَظْهَرَ ثَانِيَةً فَلَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ قِدَمِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَظُهُورِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ فَقَطْ، كَمَا لَا يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ خَفَائِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعُودَ لِلظُّهُورِ ثَانِيَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَيَسْتَمِرَّ بَاقِيًا إِلَى حِينِ الرَّدِّ.

فَفِي شَرِيطَةِ الْبَقَاءِ- أَوِ الْمُعَاوَدَةِ- احْتِرَازٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ إِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّدِّ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الرَّدِّ.لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْبِ- فَهُوَ سَبَبُهُ- وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَضْحَى سَلِيمًا فَلَا قِيَامَ لِلْخِيَارِ مَعَ سَلَامَتِهِ.هَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْعَيْبَ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالَ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا بُدَّ فِي صِفَةِ الْعَيْبِ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ.وَذَكَرَ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ، أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَقِيَ إِلَى الْفَسْخِ.

5- أَنْ لَا تُمْكِنَ إِزَالَةُ الْعَيْبِ بِلَا مَشَقَّةٍ:

15- أَمَّا لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ حَقُّ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْقُمَاشِ طَابَعُ الْمَصْنَعِ مَثَلًا، وَكَانَ مِمَّا لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ، أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْبِطَانَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بِالثَّوْبِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يَفْسُدُ بِالْغَسْلِ وَلَا يُنْتَقَصُ، لِلتَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهِ.

وَكَثِيرًا مَا يُهَوِّنُ الْبَائِعُ مِنْ شَأْنِ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ سَهْلُ الْإِزَالَةِ، أَوْ لَا يُكَلِّفُ إِلاَّ قَلِيلًا لِإِصْلَاحِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعَكْسُ فَمَا مَصِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الرِّضَا مِنَ الْمُشْتَرِي؟ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَئِذٍ مَا لَمْ يَحْدُثْ لَدَيْهِ عَيْبٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ، جَاءَ فِي نَوَازِلِ الْوَنْشَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى دَابَّةً وَبِهَا جُرْحُ رُمْحٍ، فَرَضِيَ بَعْدَمَا قَالَ الْبَائِعُ لَهُ هُوَ جُرْحٌ لَا يَضُرُّهَا،، فَتَغَيَّبَ هَذَا الْمُشْتَرِي نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْجُرْحُ فَادِحًا.

(فَأَجَابَ) إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا أَوْ يَتَمَاسَكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بَعْدُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقِيمَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَيْبِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّاءِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ:

16- إِثْبَاتُ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ مِنْ حَيْثُ دَرَجَةُ الظُّهُورِ.وَالْعَيْبُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

1- عَيْبٌ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.

2- عَيْبٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ.

3- عَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ.

4- عَيْبٌ لَا يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.

1- الْعَيْبُ الْمُشَاهَدُ: لَا حَاجَةَ لِتَكْلِيفِ الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ خُصُومَةِ الْبَائِعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَيْبِ، وَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ النَّظَرُ فِي الْأَمْرِ.

فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِتَيَقُّنِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ وَالْإِبْرَاءَ عَنْهُ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُ.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ قُضِيَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ اسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَلَ (أَحْجَمَ عَنِ الْيَمِينِ) لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ.وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيْ بِشَكْلٍ بَاتٍّ قَاطِعٍ جَازِمٍ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ الْعِلْمِ: «لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ، وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، لَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ».

2- الْعَيْبُ إِذَا كَانَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْمُخْتَصُّونَ كَالْأَطِبَّاءِ وَالْبَيَاطِرَةِ مِثْلُ وَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمُمَارَسَةِ حَقِّ الْخُصُومَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. 3- الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ: يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إِلَى قَوْلِ النِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ يَرَيْنَ الْعَيْبَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ، بَلْ يَكْفِي قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ.

فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَيْبِ، فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الثِّنْتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، لَا فِي حَقِّ الرَّدِّ.

4- الْعَيْبُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلَا يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّجْرِبَةِ: كَالْإِبَاقِ: فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشْتَرِي إِثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، هَلْ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي الْبَائِعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟

قَالَ الصَّاحِبَانِ: يَسْتَحْلِفُ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَحْلِفُ.

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِحْلَافِ الْبَائِعِ: هِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتَاتِ أَيِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ فَيَقُولَ: بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْآنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (أَيْ بِصِيغَةِ الْبَتِّ وَالْجَزْمِ)، فَإِنْ نَكَلَ- أَيِ الْبَائِعُ- عَنِ الْيَمِينِ، ثَبَتَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بُرِّئَ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) الْجَهْلُ بِالْعَيْبِ:

17- فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، قَالَ السُّبْكِيُّ: «عِنْدَ الْعِلْمِ لَا خِيَارَ».

وَسَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اشْتَرَاهُ جَاهِلًا بِعَيْبِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْخِيَارِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: (الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْقَبْضِ مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالْأَرْشِ). 18- وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بَارِزًا لَا يَخْفَى عِنْدَ الرُّؤْيَةِ غَالِبًا فَيُعْتَبَرُ الْمُتَعَاقِدُ عَالِمًا بِهِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فَدَلَّ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ أَوْ صِفَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ دُونَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي تَعَامَى عَنْ إِبْصَارِ الْعَيْبِ الْوَاضِحِ.كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أَرَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُعَايَنُ، فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ قِيَامِ الْخِيَارِ بِشَرَائِطِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ خَفِيًّا، لَكِنَّ الْمُتَعَاقِدَ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ اشْتِرَاطِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ.كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرًا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَرْقُدُ فِي الْمِحْرَاثِ أَوْ يَعْصِي فِي الطَّاحُونِ، أَوْ بَاعَ فَرَسًا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا جَمُوحٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذَلِكَ، فَالْبَائِعُ بَرِيءٌ.

وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِبْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا إِذَا أَقْبَضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ اسْتَنْقِذْهُ فَإِنَّ فِيهِ زَيْفًا، فَقَالَ: رَضِيتُ بِزَيْفِهِ فَطَلَعَ فِيهِ زَيْفٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرِ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا رَدَّ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَائِلًا: وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ الزَّيْفَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ فِي الدِّرْهَمِ بِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ الرِّضَا بِهِ.وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ- الَّذِي يَنْتَفِي بِهِ الْخِيَارُ- هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُفِيدُ، وَهُنَا لَمْ يَسْتَفِدْ إِلاَّ وُجُودَ زَيْفٍ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا كَمْ هُوَ؟ فَلَمْ يُحَدِّدْ.

19- وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صُورَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ نَادِرَةً فِي السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَصْبَحَتِ الْآنَ مُحْتَمِلَةَ الْوُقُوعِ كَثِيرًا لِتَنَوُّعِ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ وَخَفَاءِ عِلَلِهَا، بِحَيْثُ يَرَى الْمَرْءُ الْأَمْرَ الَّذِي يُلَابِسُهُ الْعَيْبُ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ عَيْبًا وَلَكِنْ يَحْسِبُهُ لَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.فَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْأَمْرِ الْمُعْتَبَرِ عَيْبًا دُونَ أَنْ يَدْرِيَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ عَيْبٌ، فَالْحُكْمُ هُنَا أَنْ يُنْظَرَ: إِنْ كَانَ عَيْبًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى وَلَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ ذَوُو الْخِبْرَةِ أَوِ الْمُخْتَصُّونَ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ الرَّدُّ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) عَدَمُ الْبَرَاءَةِ:

20- يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ الْخِيَارِ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ أَوِ الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْمَبِيعِ.وَلِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ تَفَاصِيلُ وَافِيَةٌ، بَلِ اقْتِرَانُهَا بِالْبَيْعِ يَجْعَلُ مِنْهُ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ يُدْعَى بَيْعَ الْبَرَاءَةِ. مَسَائِلُ الْبَرَاءَةِ:

21- حُكْمُهَا وَمَجَالُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِطِ أَمْ مَجْهُولًا لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّ الْعَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ.لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ عَيْبٍ خَفِيٍّ أَوْ ظَاهِرٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- حِينَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي.فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ.فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ.فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.

تَلْخِيصُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:

22- الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُبَرَّأَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ.

الثَّانِي: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يُسَمِّيَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعَايَنُ أَمْ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.

الثَّالِثُ: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْيَدِ، إِمَّا الْمُعَايَنَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَإِمَّا حَقِيقَةُ وَضْعِ الْيَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّقْلِ عَنْ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ إِسْحَاقَ.

الرَّابِعُ: لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَيْعِ السُّلْطَانِ لِلْمَغْنَمِ، أَوْ عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ.

السَّادِسُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


48-موسوعة الفقه الكويتية (دار الحرب)

دَارُ الْحَرْبِ

التَّعْرِيفُ:

1- دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:

الْهِجْرَةُ:

2- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

أ- مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.

وَلِحَدِيثِ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَحَدِيثِ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» أَمَّا حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ب- مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.

ج- مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ.

د- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ».

أَمَّا حَدِيثُ: «ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ».فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ».

التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لِافْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا

الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا).

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.لِحَدِيثِ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.

وَلِأَنَّ «أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ».

وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا.

إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: {لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ».وَقَوْلِهِ: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ» وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِيهَا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلَا تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ.

حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:

6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.

أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالُوا: وَلَا يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ.وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّلَ حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.

وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ.وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا.

حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

7- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالِاسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلَافُ الدِّينِ لَا اخْتِلَافُ الدَّارِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا دَارَ إِسْلَامٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلَافُ الدِّينِ.

فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ فُرْقَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَافُ الدَّارِ).

قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْفُلَ، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلِأَنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:

1- قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.

2- وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.

أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.

أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا.

9- وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.

مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.

وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ.

وَخَبَرُ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ».

وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ.لِأَنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا.وَقَالُوا: لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ.فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَقَالُوا: لِأَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ.

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ.وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا رَدِّ شَيْءٍ.

قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

11- إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لَا نُزِيلُ الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.كَمَا لَا تَزُولُ الصَّلَاةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالًا ثُمَّ دَخَلَ إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ.

أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلَامٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ.أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَلَا يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ.

عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

12- الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالَاتٍ تُثْبِتُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:

13- أ- إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ.

وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْلُ عَمْدٍ).

أَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.

وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.

أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا.

14- ب- وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.

وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا.

التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلَاحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَاحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ.

أَمَّا الِاتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ.إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّخُولِ فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَالِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ.

أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:

16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.

(ر: اخْتِلَافُ الدَّارِ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


49-موسوعة الفقه الكويتية (رق 9)

رِقّ -9

الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ:

121- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ- الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة).

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي إِتْلَافِ سَائِرِ الْمُمْتَلَكَاتِ.وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَلَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْلِ التَّكْفِيرِ.

وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

غَصْبُ الرَّقِيقِ:

122- مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب).

وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.

وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلَا مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ».وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْأَمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الْأَئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا.

الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:

حَدُّ الزِّنَا:

123- إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ بَلِ الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَالَ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» وَالْعَبْدُ كَالْأَمَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ.قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ».

السَّرِقَةُ:

الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:

124- ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ- رضي الله عنه- أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ.ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إِنِّي لأَرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ.ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ.قَالَ: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ.وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فَقَطَعَهُ.

وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَالَ سَيِّدِهِ أَوْ مَالَ رَقِيقٍ آخَرَ لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ، وَذَلِكَ كَزَوْجِ السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ، أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ.

حَدُّ الْقَذْفِ:

أ- إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً:

125- إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ إِلاَّ أَرْبَعِينَ.

ب- قَذْفُ الرَّقِيقِ:

126- مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.

وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زِنًا.وَدَلِيلُ عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَجَعَلَتِ الْآيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ الْإِحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ.وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ».وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ وَلِلْعَبْدِ إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ لِلْعَبْدِ لَا لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ.

حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:

127- يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَالَ حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَالَ: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ جَلْدَةً.

الرَّقِيقُ وَالْوِلَايَاتُ:

128- الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الْأَصْلِ الْكُفْرُ؛ وَلِأَنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى لَا تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ ذَلِكَ: أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ.ا هـ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِلَ الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلًا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.

وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».

وَفُسِّرَ اسْتِعْمَالُ الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَلَ عَامِلًا فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلًا، أَوْ يُوَلَّى فِيهَا وِلَايَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لَا يَقْضِي هُوَ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوَلَّى تَقْرِيرَ الْفَيْءِ وَلَا جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.

وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَلَا قَاسِمًا، وَلَا مُقَوِّمًا، وَلَا قَائِفًا وَلَا مُتَرْجِمًا، وَلَا كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلَا أَمِينًا لِحَاكِمٍ، وَلَا وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ، وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَا مُزَكِّيًا عَلَانِيَةً، وَلَا عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلَا خَارِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ قَوْمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا.

شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:

128 م- مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ.قَالَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْآيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الْأَحْرَارَ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَإِنَّمَا يُرْتَضَى الْأَحْرَارُ، قَالَ: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ نَوْعُ وِلَايَةٍ.يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَالَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَنَّ عَدَمَ وِلَايَتِهِ هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ: تُقْبَلُ عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الْأَحْرَارِ.

وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

قَالَ أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا فَدَخَلَ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَتْقِيَاءُ.وَلِأَنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ طَبْعًا وَلَا تُحْدِثُ عِلْمًا وَلَا مُرُوءَةً.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي الْأَمْوَالِ يُورِثُ شُبْهَةً.

وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْأَمْوَالَ.

قَالُوا: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَالِ.

وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالِابْنِ مَعَ أَبِيهِ.

وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لَا يُقْبَلُ قَضَاؤُهُ لَهُ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَالِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلَا لِأَمَتِهِ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ فِي طَلَاقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ.

وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَحْرَارِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:

129- رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ، وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ، وَكَحِلِّ اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ، لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي مَوْلَايَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْعَبْدِ الْعَارِفِ.وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ.

الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:

130- الْجِهَادُ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ».وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ، بَلِ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ.ا هـ.

لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَالِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلَاءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِكَوْنِ الْقِتَالِ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ.

وَلَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ».وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالْأَحْرَارِ، لِمَا رَوَى الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالِاغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا.

وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَا زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا. حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:

131- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْيَوْمَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ.ا هـ.وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلاَّ الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ..فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فَاضَلَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ.

وَمِنْ هُنَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِلِ، يُعْطِي لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الرِّجَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ.

نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:

132- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لَا تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْنِي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.وَحَدِيثَ: «إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلَاتِهِ الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ».

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلَافِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا. ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:

133- يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ، لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: كُلُوهَا».

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.

وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ.

(ر: ذَبَائِح).

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ.وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

النَّوْعُ الثَّانِي

أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ

134- قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَيَنْشَأُ الِاشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلَاهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ.

وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.

وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِأَنَّهُ قِنٌّ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:

135- لَيْسَ لِأَيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر: تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا. وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لَا.

وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا كَالْمَحْرَمِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.

136- وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ.

137- وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.

ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا.

وَالِاشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ، أَوِ الْإِذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلَا يَرْضَى مِنْهُ الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لِاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ (سَالِمًا لِرَجُلٍ).

وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيلِ نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.

138- وَمِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا، الْمُهَايَأَةُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.

أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ وَالْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ، أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي نَوْبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ وَالْكَسْبِ الْعَامِّ.

وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْخِدْمَةِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالْآخَرَ الْآخَرُ.وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لَا يُسَامَحُ فِيهَا.

وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلَافِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلَالِ الدَّارِ مَثَلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.فَلَوْ فَعَلَا فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ، وَلِأَنَّ الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَكْثُرُ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ.

وَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيلِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْلَالِ.وَحَيْثُ جَازَ قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لَا أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ الْآخَرِ كَذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ

الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ

وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.

وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:

139- أ- أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ، وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ، قَالُوا: لِأَنَّ زَوَالَ الرِّقِّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40).

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ غَيْرَ سَفِيهٍ.

ب- أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيلِ قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُلُّ الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي عِتْقٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ الْأَوَّلِ.وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الْأَوَّلُ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.

أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ».وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41).

وَعَلَى مِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَلْ يَبْقَى مُبَعَّضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ.

ج- أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ.

د- وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ

هـ- أَنْ يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الْأَسِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا أُخْرَى نَادِرَةً.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


50-موسوعة الفقه الكويتية (رهان)

رِهَان

التَّعْرِيفُ:

يَأْتِي الرِّهَانُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:

1- الْمُخَاطَرَةُ: جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الرِّهَانُ وَالْمُرَاهَنَةُ: الْمُخَاطَرَةُ.يُقَال: رَاهَنَهُ فِي كَذَا، وَهُمْ يَتَرَاهَنُونَ، وَأَرْهَنُوا بَيْنَهُمْ خَطَرًا، وَصُورَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الرِّهَانِ: أَنْ يَتَرَاهَنَ شَخْصَانِ أَوْ حِزْبَانِ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ حُصُولُهُ كَمَا يُمْكِنُ عَدَمُ حُصُولِهِ بِدُونِهِ، كَأَنْ يَقُولَا مَثَلًا: إِنْ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ غَدًا فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا مِنَ الْمَالِ، وَإِلاَّ فَلِي عَلَيْكَ مِثْلُهُ مِنَ الْمَالِ، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِينَ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ.

وَأَمَّا الرِّهَانُ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي تَحْرِيمِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ (ر: مَيْسِر، رِبًا).

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرِّهَانُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَالْحَرْبِيِّ، لِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقَةٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِيأَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِأَبِي بَكْرٍ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسًا قَالَ: نَعَمْ، فَقَالُوا: أَتُخَاطِرُنَا عَلَى ذَلِكَ؟ فَخَاطَرَهُمْ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ».قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا هُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (مَيْسِر).

2- وَيَأْتِي الرِّهَانُ بِمَعْنَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ أَوِ الرَّمْيِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ- (ر: مُسَابَقَة).

3- وَيَأْتِي بِمَعْنَى: رَهْنٍ، وَالرِّهَانُ جَمْعُهُ، وَهُوَ جَعْلُ مَالٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَائِهِ. (ر: رَهْن).

4- وَيُطْلَقُ الرِّهَانُ عَلَى الْمَالِ الْمَشْرُوطِ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ، جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّبَقُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- الْخَطَرُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الرِّهَانِ عَلَى الْخَيْلِ وَالنِّضَالِ، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ.

5- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرِّهَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ فِي الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْفِيلِ، وَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ إِلاَّ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَعَلَى الْأَرْجُلِ.

شُرُوطُ جَوَازِ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ:

6- يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الرِّهَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ: عِلْمُ الْمَوْقِفِ الَّذِي يَجْرِيَانِ مِنْهُ، وَالْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِيَانِ إِلَيْهَا، وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَالْعِلْمُ بِالْمَشْرُوطِ، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ الْمَالُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَمِنْ أَحَدِهِمَا، فَيَقُولُ: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلَا شَيْءَ لِي عَلَيْكَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا فَلَهُ عَلَى الْآخَرِ كَذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ وَأَنْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُحَلِّلٌ فَرَسُهُ كُفْءٌ لِفَرَسَيْهِمَا، إِنْ سَبَقَ أَخَذَ مَالَهُمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا.

وَالتَّفْصِيلُ وَأَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي (مُسَابَقَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


51-موسوعة الفقه الكويتية (سحر)

سِحْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- السِّحْرُ لُغَةً: كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَسَحَرَهُ أَيْ خَدَعَهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أَيِ الْمَخْدُوعِينَ.

وَيُطْلَقُ السِّحْرُ عَلَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَبِمَعُونَةٍ مِنْهُ، كُلُّ ذَلِكَ الْأَمْرِ كَيْنُونَةٌ لِلسِّحْرِ.قَالَ: وَأَصْلُ السِّحْرِ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّ السَّاحِرَ لَمَّا أَرَى الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَخَيَّلَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، قَدْ سَحَرَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ، أَيْ صَرَفَهُ.ا هـ.وَرَوَى شِمْرٌ: أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتِ السِّحْرَ سِحْرًا لِأَنَّهُ يُزِيلُ الصِّحَّةَ إِلَى الْمَرَضِ، وَالْبُغْضَ إِلَى الْحُبِّ.

وَقَدْ يُسَمَّى السِّحْرُ طِبًّا، وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ السِّحْرُ طِبًّا؛ لِأَنَّ الطِّبَّ بِمَعْنَى الْحِذْقِ، فَلُوحِظَ حِذْقُ السَّاحِرِ فَسُمِّيَ عَمَلُهُ طِبًّا.وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ الْجِبْتِ، فَسَّرَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالسِّحْرِ، وَقِيلَ: الْجِبْتُ أَعَمُّ مِنَ السِّحْرِ، فَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ.وَالتَّنْجِيمِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ اخْتِلَافًا وَاسِعًا، وَلَعَلَّ مَرَدَّ الِاخْتِلَافِ إِلَى خَفَاءِ طَبِيعَةِ السِّحْرِ وَآثَارِهِ.فَاخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُهُمْ لَهُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ تَصَوُّرِهِمْ لِحَقِيقَتِهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ.

قَالَ: وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ وَالْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ فِي الْأَصْلِ لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ.ا هـ.

وَنَقَلَ التَّهَانُوِيُّ عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ: السِّحْرُ نَوْعٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْجَوَاهِرِ وَبِأُمُورٍ حِسَابِيَّةٍ فِي مَطَالِعِ النُّجُومِ، فَيُتَّخَذُ مِنْ ذَلِكَ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ، وَيَتَرَصَّدُ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ فِي الْمَطَالِعِ، وَتُقْرَنُ بِهِ كَلِمَاتٌ يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُحْشِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ فِي الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: السِّحْرُ شَرْعًا مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ لِأَقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشَّعْوَذَةُ:

2- قَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّعْوَذَةُ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ، وَأَخْذٌ كَالسِّحْرِ، يُرِي الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَقَالُوا: رَجُلٌ مُشَعْوِذٌ وَمُشَعْوِذَةٌ، وَقَدْ يُسَمَّى الشَّعْبَذَةَ.

ب- النَّشْرَةُ:

3- النَّشْرَةُ ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ.سُمِّيَتْ نَشْرَةً لِأَنَّهُ يَنْشُرُ بِهَا مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ، أَيْ يُكْشَفُ وَيُزَالُ، قَالَ الْحَسَنُ: النَّشْرَةُ مِنَ السِّحْرِ.وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «سُئِلَ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّشْرَةِ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ».

ج- الْعَزِيمَةُ:

4- الْعَزِيمَةُ مِنَ الرُّقَى الَّتِي كَانُوا يَعْزِمُونَ بِهَا عَلَى الْجِنِّ، وَجَمْعُهَا الْعَزَائِمُ، يُقَالُ: عَزَمَ الرَّاقِي: كَأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى الدَّاءِ، وَأَصْلُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ: الْإِقْسَامُ وَالتَّعْزِيمُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا أَسْمَاءُ مَلَائِكَةٍ وَكَّلَهُمْ سُلَيْمَانُ بِقَبَائِلِ الْجَانِّ، فَإِذَا أَقْسَمَ عَلَى صَاحِبِ الِاسْمِ أَلْزَمَ الْجِنَّ بِمَا يُرِيدُ.

د- الرُّقْيَةُ:

5- الرُّقْيَةُ وَجَمْعُهَا الرُّقَى، وَهِيَ أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِهَا الشِّفَاءُ مِنَ الْمَرَضِ، إِذَا كَانَتْ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنَ الْآفَاتِ مِنَ الصَّرْعِ وَالْحُمَّى، وَفِي الْحَدِيثِ «أَعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ».

وَمِنَ الرُّقَى مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْلِ الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَشْفُونَ بِهَا مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْأَسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ.قَالَ الْقَرَافِيُّ: الرُّقْيَةُ لِمَا يُطْلَبُ بِهِ النَّفْعُ، أَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ الضَّرَرُ فَلَا يُسَمَّى رُقْيَةً بَلْ هُوَ سِحْرٌ.وَانْظُرْ (تَعْوِيذَةٌ).

هـ- الطَّلْسَمُ:

6- الطَّلْسَمَاتُ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْكَوَاكِبِ، تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُحْدِثُ آثَارًا خَاصَّةً.

و- الْأَوْفَاقُ:

7- الْأَوْفَاقُ هِيَ أَعْدَادٌ تُوضَعُ فِي أَشْكَالٍ هَنْدَسِيَّةٍ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ عَمِلَهُ فِي وَرَقٍ وَحَمَلَهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَيْسِيرِ الْوِلَادَةِ، أَوْ نَصْرِ جَيْشٍ عَلَى جَيْشٍ، أَوْ إِخْرَاجِ مَسْجُونٍ مِنْ سِجْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ز- التَّنْجِيمُ:

8- التَّنْجِيمُ لُغَةً: النَّظَرُ فِي النُّجُومِ، اصْطِلَاحًا: مَا يُسْتَدَلُّ بِالتَّشَكُّلَاتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُونَ.

حَقِيقَةُ السِّحْرِ:

9- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ السِّحْرَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ، أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ.

فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَصَّاصِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ وَالْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى إِنْكَارِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْيِيلٌ مِنَ السَّاحِرِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ، وَإِيهَامٌ لَهُ بِمَا هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَأَنَّ السِّحْرَ لَا يَضُرُّ إِلاَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ السَّاحِرُ سُمًّا أَوْ دُخَانًا يَصِلُ إِلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذِيهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لَا يَسْتَطِيعُ بِسِحْرِهِ قَلْبَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يُمْكِنُهُ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً، وَلَا قَلْبُ الْإِنْسَانِ حِمَارًا.

قَالَ الْجَصَّاصُ: السِّحْرُ مَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ قِسْمَانِ:

10- قِسْمٌ هُوَ حِيَلٌ وَمُخْرَقَةٌ وَتَهْوِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِيهَامٌ لَيْسَ لَهُ حَقَائِقُ، أَوْ لَهُ حَقَائِقُ لَكِنْ لَطُفَ مَأْخَذُهَا، وَلَوْ كُشِفَ أَمْرُهَا لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْعَالٌ مُعْتَادَةٌ يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ وَجْهَهَا أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ خَوَاصِّ الْمَوَادِّ وَالْحِيَلِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى السِّحْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ خَفَاءُ وَجْهِهِ ضَعِيفًا فَلَا يُسَمَّى سِحْرًا اصْطِلَاحًا، وَقَدْ يُسَمَّى سِحْرًا لُغَةً، كَمَا قَالُوا: (سَحَرْتُ الصَّبِيَّ) بِمَعْنَى خَدَعْتُهُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ فِي الْأَبْدَانِ.فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ السِّحْرِ وَإِحْدَاثِهِ الْمَرَضَ وَالضَّرَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا قوله تعالى: {قُلْأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وَالنَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ: هُنَّ السَّوَاحِرُ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا.

وَمِنْهَا قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «سُحِرَ حَتَّى أَنَّهُ لَيُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ» وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهَا أَنَّ الَّذِي سَحَرَهُ جَعَلَ سِحْرَهُ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَخْرَجَهَا، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَتَانِ فَمَا قَرَأَ عَلَى عُقْدَةٍ إِلاَّ انْحَلَّتْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَفَاهُ.بِذَلِكَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

11- عَمَلُ السِّحْرِ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:

أ- قوله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.

ب- قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فَجَعَلَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّيَاطِينِ وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} فَأَثْبَتَ فِيهِ ضَرَرًا بِلَا نَفْعٍ.

ج- قوله تعالى حِكَايَةً عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ: {إِنَّاآمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌوَأَبْقَى} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ السِّحْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ.

د- قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ...الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ...».الْحَدِيثُ.

وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ السِّحْرِ تَمْوِيهًا وَحِيلَةً، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْأَوَّلَ مُبَاحٌ؛ أَيْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ اللَّهْوِ فَيُبَاحُ مَا لَمْ يُتَوَصَّلْ بِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ كَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ وَإِرْهَابِهِمْ.قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ.

كُفْرُ السَّاحِرِ بِفِعْلِ السِّحْرِ:

12- لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي تَكْفِيرِ السَّاحِرِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَمْ لَا.ثُمَّ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ فَلَيْسَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ بِفِعْلِ السِّحْرِ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى كُفْرٍ، أَوْ كَانَ سِحْرُهُ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ.وَأَضَافَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى حَالَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَةَ تَحْبِيبِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى (التُّوَلَةُ).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالسِّحْرِ حَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لَا يَكْفُرُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ هُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ كُفْرٌ، أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ.وَأَضَافَ ابْنُ الْهُمَامِ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ مَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ.

حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ:

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ دُونَ الْعَمَلِ بِهِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ حَرَامٌ وَكُفْرٌ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اسْتَثْنَى أَحْوَالًا.فَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ ذَخِيرَةِ النَّاظِرِ أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِرَدِّ فِعْلِ سَاحِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَرْضٌ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُوَفِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ جَائِزٌ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ» وَالتُّوَلَةُ شَيْءٌ كَانُوا يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا.

وَاسْتَدَلَّ الطُّرْطُوشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أَيْ بِتَعَلُّمِهِ، ( (: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلاَّ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْسَامِ، وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ.قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَيْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ظَاهِرًا؛ وَلِأَنَّ تَعْلِيمَهُ لَا يَتَأَتَّى إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْكَوْكَبِ وَيَخْضَعَ لَهُ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ قَهْرَ السُّلْطَانِ.

ثُمَّ فَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ لِمَا يَصْنَعُ السَّحَرَةُ كَأَنْ يَقْرَؤُهُ فِي كِتَابٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَ السِّحْرِ لِيَتَعَلَّمَهُ فَلَا يَكْفُرُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَيَكْفُرُ بِالثَّانِي حَيْثُ كَانَ الْفِعْلُ مُكَفِّرًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَعْلِيمُهُ حَرَامٌ، إِلاَّ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيلِ نَفْعٍ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٍ، قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ.قَالَ: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَبِيحًا أَوْ حَرَامًا؟.

النَّشْرَةُ، أَوْ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ:

14- يُحَلُّ السِّحْرُ عَنِ الْمَسْحُورِ بِطَرِيقَتَيْنِ:

الْأُولَى: أَنْ يُحَلَّ بِالرُّقَى الْمُبَاحَةِ وَالتَّعَوُّذِ الْمَشْرُوعِ، كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالِاسْتِعَاذَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَلَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْثُورِ، فَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا.وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا سُحِرَ، اسْتَخْرَجَ الْمُشْطَ وَالْمِشَاطَةَ اللَّتَيْنِ سُحِرَ بِهِمَا، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَشَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى».

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحَلَّ السِّحْرُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.وَهَذَا النَّوْعُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ- أَنَّهُ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ سِحْرٌ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا.وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ.وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ.وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: لَا يَحُلُّ السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ.فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا، وَلَا أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حَلُّ السِّحْرِ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ فَيَبْطُلُ الْعَمَلُ عَنِ الْمَسْحُورِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ حَلَّ السِّحْرِ بِسِحْرٍ لَا كُفْرَ فِيهِ وَلَا مَعْصِيَةَ جَائِزٌ، فَقَدْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَلُّ عَنْهُ، أَوْ يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَإِنَّ مَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ.

وَالْقَوْلَانِ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: يَجُوزُ حَلُّ السِّحْرِ بِسِحْرٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ إِلَى الْجَوَازِ أَمْيَلُ.

عُقُوبَةُ السَّاحِرِ:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ فِي حَالَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ كُفْرًا، وَالثَّانِي إِذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِلسِّحْرِ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ وَإِفْسَادٌ وَلَوْ بِغَيْرِ كُفْرٍ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: السَّاحِرُ إِذَا أَقَرَّ بِسِحْرِهِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا.

وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ قَتْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ، لَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ قَتْلُ السَّاحِرِ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ لَا بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، لَكِنْ إِنْ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ قُبِلَتْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قَتْلِ السَّاحِرِ، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّمَا يُقْتَلُ إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَدَى الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ قُتِلَ وَمَالُهُ فَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ- أَيْضًا- السَّاحِرَ الذِّمِّيَّ، فَقَالُوا: لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُؤَدَّبُ.لَكِنْ قَالُوا: إِنْ أَدْخَلَ السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَةٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ.لَكِنْ قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ، فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ.

أَمَّا إِنْ أَدْخَلَ السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ مَا لَمْ يَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ سِحْرُ السَّاحِرِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَكْفُرُ بِهِ، فَهُوَ فِسْقٌ لَا يُقْتَلُ بِهِ مَا لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا وَيَثْبُتُ تَعَمُّدُهُ لِلْقَتْلِ بِهِ بِإِقْرَارِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ حَدًّا وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ بِسِحْرِهِ أَحَدًا، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، أَوْ يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ السِّحْرِ، بِخِلَافِ مَا لَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ فَتُطِيعُهُ، أَوْ يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ، وَسَقْيِ شَيْءٍ لَا يَضُرُّ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْتَلْ؛ لِأَنَّهُ أُقِرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السِّحْرِ، وَلِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَقْتُلْهُ، قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِقَتْلِ السَّاحِرِ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ.

وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، لَكِنْ إِنْ قُتِلَ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، قُتِلَ قِصَاصًا.

وَشَرْطٌ آخَرُ أَضَافَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ بِالسِّحْرِ، إِذْ لَا يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ أَيْضًا مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّ السِّحْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقْتَلُ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

وَاحْتَجُّوا لِقَتْلِ السَّاحِرِ بِمَا رَوَى جُنْدُبٌ مَرْفُوعًا «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ».

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ.وَبِأَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ بِقَتْلِ سَاحِرَةٍ سَحَرَتْهَا.وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَقَتَلَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ.

حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ:

16- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّحْرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، وَفِيهِ الْقِصَاصُ.وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَقَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، أَوْ قَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا، وَيَشْهَدُ عَدْلَانِ يَعْرِفَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَا تَابَا، بِأَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ يَقْتُلُ غَالِبًا.فَإِنْ كَانَ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ.فَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ مِنَ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ.

وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِتَعَذُّرِ مُشَاهَدَةِ الشُّهُودِ قَصْدَ السَّاحِرِ وَتَأْثِيرَ سِحْرِهِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِمَّنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُسْتَوْفَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، أَيْ لِأَنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ؛ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ.

تَعْزِيرُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ:

17- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّاحِرَ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَتْلِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرُهُ كُفْرًا وَلَمْ يَقْتُلْ بِسِحْرِهِ أَحَدًا، إِذَا عَمِلَ بِسِحْرِهِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ الْقَتْلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَفِي قَوْلٍ لِلْإِمَامِ: تَعْزِيرُهُ بِالْقَتْلِ.

الْإِجَارَةُ عَلَى فِعْلِ السَّحَرِ أَوْ تَعْلِيمِهِ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ لِعَمَلِ السِّحْرِ لَا يَحِلُّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ السِّحْرِ حَرَامًا- عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ- وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَلَا تَحِلُّ إِعْطَاءُ الْأُجْرَةِ، وَلَا يَحِلُّ لآِخِذِهَا أَخْذُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلَاتِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سَاحِرًا لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا هُوَ سِحْرٌ فَالْإِجَارَةُ حَرَامٌ وَلَا تَصِحُّ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ، حَتَّى لَوْ قَتَلَ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ ذَاكَ أَحَدًا، وَيُؤَدَّبُ الْمُسْتَأْجَرُ أَدَبًا شَدِيدًا، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ لِحَلِّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، فَأَجَازُوا ذَلِكَ- أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ حَلِّ السِّحْرِ- لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِلَاجِ وَكَذَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْإِجَارَةَ عَلَى إِزَالَةِ السِّحْرِ نَحْوَ مَا يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ مِنَ الِانْحِلَالِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالرَّبْطِ.قَالُوا: وَالْأُجْرَةُ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ الْعِوَضَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّجُلَ نَفْسَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ وَلَا تُسْتَحَقُّ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ أُجْرَةٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَجِبُ إِتْلَافُهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى السِّحْرِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُبَاحًا فَلَا مَانِعَ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، كَتَعْلِيمِ رُقًى عَرَبِيَّةً لِيَحِلَّ بِهَا السِّحْرَ.وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ سِحْرٍ لِأَنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ آلَةَ سِحْرٍ..

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


52-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 3)

سَرِقَةٌ -3

وَالْحِرْزُ نَوْعَانِ:

1- حِرْزٌ بِنَفْسِهِ، وَيُسَمَّى حِرْزًا بِالْمَكَانِ: وَهُوَ كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ، يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ.

2- وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ، وَيُسَمَّى حِرْزًا بِالْحَافِظِ: وَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ، لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ دُخُولِهِ، كَالْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ.وَلَمَّا كَانَ ضَابِطُ الْحِرْزِ وَتَحْدِيدُ مَفْهُومِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَوْعِ الْمَالِ الْمُرَادِ حِفْظُهُ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ السُّلْطَانِ مِنَ الْعَدْلِ أَوِ الْجَوْرِ، وَمِنَ الْقُوَّةِ أَوِ الضَّعْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَافُرُهَا لِيَكُونَ الْحِرْزُ تَامًّا، وَبِالتَّالِي يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ.

38- أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِرْزَ نَفْسَهُ: كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ بِمَنْعِ دُخُولِهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْخِيَمِ وَالْخَزَائِنِ وَالصَّنَادِيقِ وَالْجُرْنِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، أَوْ لَا بَابَ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَبْنِيَةَ قُصِدَ بِهَا الْإِحْرَازُ كَيْفَمَا كَانَ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمْ وُجُودُ الْحَافِظِ، وَلَوْ وُجِدَ فَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَّ، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ، فَلَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَافِظٌ.وَعَلَى هَذَا: لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الضَّيْفِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالدُّخُولِ أَحْدَثَ خَلَلًا فِي الْحِرْزِ، وَلَا عَلَى الْخَادِمِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُوصَفُ بِالْخِيَانَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْحَوَانِيتِ فِي فَتَرَاتِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.

وَالسَّرِقَةُ مِنَ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ لَا تَشْمَلُ سَرِقَةَ الْحِرْزِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ مِنَ الْحِرْزِ، وَنَفْسُ الْحِرْزِ لَيْسَ فِي الْحِرْزِ، فَلَا إِخْرَاجَ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَرَقَ بَابَ الدَّارِ، أَوْ حَائِطَ الْحَانُوتِ، أَوِ الْخَيْمَةَ الْمَضْرُوبَةَ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ، وَلَمْ يَسْرِقْ مِنَ الْحِرْزِ.

أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ، يَدْخُلُ إِلَيْهِ بِدُونِ إِذْنٍ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، وَهِيَ لَا تُعْتَبَرُ حِرْزًا إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا حَافِظٌ أَيْ شَخْصٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ مَقْصِدٍ سِوَى الْحِرَاسَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَقْصِدٌ آخَرُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ مُحْرَزًا بِهِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْمَرْعَى، وَلَوْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الرَّاعِي هُوَ الرَّعْيُ، وَالْحِرَاسَةُ تَحْصُلُ تَبَعًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَعَ الرَّاعِي حَافِظٌ يَخْتَصُّ بِالْحِرَاسَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ الْمَاشِيَةُ مُحْرَزَةً بِالْحَافِظِ، فَيُقَامُ الْحَدُّ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَتَاعًا تَرَكَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَيَدْخُلُ إِلَيْهِ بِلَا إِذْنٍ، فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ الْمَتَاعَ حَالَةَ وُجُودِ الْحَافِظِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ يَدَ سَارِقِ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ، وَكَانَ نَائِمًا عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ».وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ بِالْحَافِظِ: كَمَنْ يَسْرِقُ بَعِيرًا، وَرَاكِبُهُ نَائِمٌ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ، فَإِذَا أَخَذَهُمَا جَمِيعًا صَارَ كَمَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ وَاقِعًا تَحْتَ بَصَرِهِ، مُمَيَّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيَّزٍ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ لِلْحِفْظِ وَيَقْصِدُهُ.وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّ مَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَحْمِلُهُ أَوْ يَرْكَبُهُ أَوْ يَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِحَافِظٍ، يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَارِسٌ وَسَرَقَ شَخْصٌ شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الْمَسْجِدَ ضَرُورَةً، كَالْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ، أَوْ لِلزِّينَةِ كَالْعَلَمِ وَالْمِشْكَاةِ، أَوْ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِانْعِدَامِ الْحِرْزِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ حَارِسٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرَزًا بِهِ.

39- ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ: كُلُّ مَكَانٍ اتَّخَذَهُ صَاحِبُهُ مُسْتَقَرًّا لَهُ، أَوِ اعْتَادَ النَّاسُ وَضْعَ أَمْتِعَتِهِمْ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَاطًا أَمْ غَيْرَ مُحَاطٍ، كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْخَزَائِنِ، وَكَالْجَرِينِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلَا حَائِطٌ وَلَا غَلْقٌ، وَكَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يَضَعُ التُّجَّارُ بَضَائِعَهُمْ فِيهَا، فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ دُونَ تَحْصِينٍ، وَكَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُرَاحُ فِيهَا الدَّوَابُّ دُونَ بِنَاءٍ، أَوِ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الْإِبِلُ لِلْكِرَاءِ.

وَلَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَّ الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ، صَارَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِنْ كَانَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ.وَعَلَى ذَلِكَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَنْزِلِ مُضِيفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُضِيفُ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا، مَا دَامَ الشَّيْءُ الْمَسْرُوقُ يَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ.كَمَا يَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ أَفْنِيَةِ الْحَوَانِيتِ وَقْتَ الْإِذْنِ بِدُخُولِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَافِظٌ؛ لِأَنَّهَا تُحْفَظُ عَادَةً بِأَعْيُنِ الْجِيرَانِ وَمُلَاحَظَتِهِمْ.

وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحِرْزِ يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِإِقَامَتِهِ، فَالْحَائِطُ مُحْرَزٌ بِبِنَائِهِ، وَالْبَابُ مُحْرَزٌ بِتَثْبِيتِهِ، وَالْفُسْطَاطُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ.

أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْهُ صَاحِبُهُ مُسْتَقَرًّا لَهُ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ، كَالطَّرِيقِ وَالصَّحْرَاءِ.وَهُوَ يَكُونُ حِرْزًا بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَتَاعِهِ عُرْفًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَاقِلًا مُمَيِّزًا.وَلِذَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مَتَاعًا بِحَضْرَةِ مَيِّتٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ.

وَيَسْتَثْنِي الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَرِقَةَ الْغَنَمِ فِي الْمَرْعَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا رَاعِيهَا فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا؛ لِتَشَتُّتِ الْغَنَمِ وَعَدَمِ ضَبْطِهَا أَثْنَاءَ الرَّعْيِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ».وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: سَرِقَةُ الثِّيَابِ الْمَنْشُورَةِ وَلَوْ بِحَضْرَةِ الْحَافِظِ؛ لِأَنَّ آخِذَهُ خَائِنٌ أَوْ مُخْتَلِسٌ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مَتَاعًا وَضَعَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ لِحِفْظِ الْمَالِ أَصْلًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَارِسٌ يُلَاحِظُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ.وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ كَذَلِكَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ بِالْحَافِظِ، كَمَنْ يَسْرِقُ بَعِيرًا وَرَاكِبُهُ نَائِمٌ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَافِظِ لَمْ تَزُلْ عَنِ الْبَعِيرِ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّاكِبُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ اخْتِلَاسًا إِذَا أُزِيلَتْ يَدُهُ عَنِ الْبَعِيرِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ فِي حُكْمِ سَارِقِ الْمَسْجِدِ: تَذْهَبُ الْأُولَى إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، كَالْحَائِطِ أَوِ الْبَابِ أَوِ السَّقْفِ، وَعَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ أَدَوَاتِهِ الْمُعَدَّةِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَالْحُصْرِ أَوِ الْبُسُطِ أَوِ الْقَنَادِيلِ، لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ بِنَفْسِهَا.

أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَتُفَرَّقُ فِي أَدَوَاتِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ مَا هُوَ مُثَبَّتٌ كَالْبَلَاطِ.أَوْ مَا هُوَ مُسَمَّرٌ كَالْقَنَادِيلِ الْمَشْدُودَةِ بِالسَّلَاسِلِ، أَوْ مَا شُدَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ كَالْبُسُطِ الْمُخَيَّطِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَهَذِهِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا، وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُثَبَّتِ أَوِ الْمُسَمَّرِ أَوِ الْمَشْدُودِ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا.

40- ج- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ إِلاَّ الْمَكَانُ الْمُغْلَقُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَالِ دَاخِلَ الْعُمْرَانِ، كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ.فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُغْلَقٍ، بِأَنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا، أَوْ لَيْسَ لَهُ بَابٌ، أَوْ كَانَ حَائِطُهُ مُتَهَدِّمًا أَوْ بِهِ نَقْبٌ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ.وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُعَدٍّ لِحِفْظِ الْمَالِ كَالسُّوقِ وَالْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ.وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ خَارِجَ الْعُمْرَانِ، بِأَنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ مَبَانِي الْقَرْيَةِ أَوِ الْبَلْدَةِ وَلَوْ بِبُسْتَانٍ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ.وَلَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ مَا يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِذَا اخْتَلَّ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ بِالدُّخُولِ، أَوْ فَتْحِ الْبَابِ، أَوْ أَحْدَثَ بِهِ نَقْبٌ وَعَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، لِاخْتِلَالِ الْحِرْزِ بِالْإِذْنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ حَافِظٌ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَكَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، وَلَوْ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا اخْتَلَّ الْحِرْزُ، إِلاَّ إِذَا سَرَقَ الضَّيْفُ شَيْئًا يَلْبَسُهُ النَّائِمُ، أَوْ يَتَوَسَّدُهُ، أَوْ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ، أَوْ يَلْتَفُّ بِهِ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ.وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْطَعُ مَنْ يَسْرِقُ حِجَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ بَابَ الْبَيْتِ أَوْ خَشَبَ السَّقْفِ.

أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ لَمْ يُعَدَّ لِحِفْظِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ خَارِجَ الْعُمْرَانِ، أَوْ غَيْرَ مُغْلَقٍ.وَهُوَ لَا يَكُونُ حِرْزًا إِلاَّ بِمُلَاحِظٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَبِرُ الْعُرْفُ صَاحِبَهُ مُقَصِّرًا عِنْدَ سَرِقَتِهِ.فَالْمُلَاحَظَةُ يَخْتَلِفُ مَدَاهَا بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْحِرْزِ:

1- فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي مَكَانٍ لَا حَصَانَةَ لَهُ، كَصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ شَارِعٍ، اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِاعْتِبَارِهِ مُحْرَزًا دَوَامَ مُلَاحَظَتِهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ مِمَّنِ اسْتَحْفَظَهُ الْمَالِكُ، وَلَا يَقْطَعُ هَذَا الدَّوَامُ الْفَتَرَاتِ الْعَارِضَةَ فِي الْعَادَةِ الَّتِي يَغْفُلُ فِيهَا الْمُلَاحَظُ، فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ أَثْنَاءَهَا.وَلِذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا الْمَكَانُ حِرْزًا، إِذَا كَانَ الْمُلَاحِظُ بَعِيدًا عُرْفًا عَنِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ أَعْطَاهُ ظَهْرَهُ، أَوْ كَانَ ثَمَّةَ ازْدِحَامٍ يَحُولُ بَيْنَ الْمُلَاحِظِ وَبَيْنَ الْمَالِ.

وَدَوَامُ الْمُلَاحَظَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُلَاحِظُ قَادِرًا عَلَى مَنْعِ السَّارِقِ مِنَ السَّرِقَةِ بِقُوَّةٍ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ بِقُوَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ كَاسْتِغَاثَةٍ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ السَّارِقِ، وَالْمَوْضُوعُ بَعِيدٌ عَنِ الْغَوْثِ، فَإِنَّ الْمَالَ لَا يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِهِ.وَيُعْتَبَرُ الْمَرْعَى مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى لِحَاظٍ دَائِمٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِلْمَاشِيَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ يَرَاهَا وَيَسْمَعُ صَوْتَهَا إِذَا بَعُدَتْ عَنْهُ.وَإِنْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ مَقْطُورَةً يَقُودُهَا قَائِدٌ، فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا كُلَّ سَاعَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ، أَوْ كَانَ الْقَائِدُ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ بَعْضِهَا لِحَائِلٍ، اخْتَلَّ الْحِرْزُ، وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنِ السَّارِقِ.

2- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي مَكَانٍ مُحْصَنٍ، كَدَارٍ وَحَانُوتٍ وَإِصْطَبْلٍ، كَفَى لِحَاظٌ مُعْتَادٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ مُتَّصِلًا بِالْعُمْرَانِ، وَلَهُ بَابٌ مُغْلَقٌ، اعْتُبِرَ حِرْزًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا، نَائِمًا أَوْ يَقِظًا، فِي النَّهَارِ أَوْ فِي اللَّيْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ أَمْنٍ، أَمْ كَانَ زَمَنَ خَوْفٍ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَافِظٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا وَالْوَقْتُ نَهَارًا وَالزَّمَنُ زَمَنَ أَمْنٍ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ بَعِيدًا عَنِ الْعُمْرَانِ، وَبِهِ حَافِظٌ قَوِيٌّ يَقْظَانُ، اعْتُبِرَ حِرْزًا سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَكُونُ حِرْزًا إِذَا كَانَ بِهِ شَخْصٌ قَوِيٌّ نَائِمٌ، وَالْبَابُ مُغْلَقٌ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَكَانِ أَحَدٌ، أَوْ كَانَ بِهِ شَخْصٌ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِمَا فِيهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا.

وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ فِيمَا جُعِلَ لِعِمَارَتِهِ كَالْبِنَاءِ وَالسَّقْفِ، أَوْ لِتَحْصِينِهِ كَالْأَبْوَابِ وَالشَّبَابِيكِ، أَوْ لِزِينَتِهِ كَالسَّتَائِرِ وَالْقَنَادِيلِ الْمُعَلَّقَةِ لِلزِّينَةِ.

فَأَمَّا مَا أُعِدَّ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ كَالْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ الَّتِي تُسْرَجُ فِيهِ وَالْمَصَاحِفِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ، لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: وُجُوبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ. 41- د- وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ: هُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ مُغْلَقٍ مُعَدٍّ لِحِفْظِ الْمَالِ دَاخِلَ الْعُمْرَانِ كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْلَقًا: بِأَنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا أَوْ بِهِ نَقْبٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِحِفْظِ الْمَالِ كَالسُّوقِ وَالْمَسْجِدِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ.وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْعُمْرَانِ فَلَا يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ.وَلَا يَرَى الْحَنَابِلَةُ مَانِعًا مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِذَا اخْتَلَّ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ بِالدُّخُولِ، أَوْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، أَوْ أَحْدَثَ بِالْمَكَانِ نَقْبٌ.وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ بِدُخُولِهِ لِاخْتِلَالِ الْحِرْزِ بِالْإِذْنِ.

فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِدُخُولِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُعَامَلَةِ الضَّيْفِ: فَإِنْ كَانَ الْمُضِيفُ قَدْ مَنَعَهُ قِرَاهُ فَسَرَقَ بِقَدْرِهِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنَعَهُ قِرَاهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ.

وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ، لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ.وَعَلَى ذَلِكَ يُقْطَعُ مَنْ يَسْرِقُ حِجَارَةً مِنْ حَائِطِ الدَّارِ، أَوْ بَابِهِ، أَوْ نَحْوِهِ.

أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُعَدَّ لِحِفْظِ الْمَالِ دُونَ حَافِظٍ فِي الْعَادَةِ، كَالْخِيَامِ وَالْمَضَارِبِ، أَوِ الْمَوْضِعِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الْعُمْرَانِ، كَالْبُيُوتِ فِي الْبَسَاتِينِ وَالطُّرُقِ وَالصَّحْرَاءِ، مُغْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مَفْتُوحَةً، فَلَا تَكُونُ حِرْزًا إِلاَّ بِحَافِظٍ أَيًّا كَانَ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا، مَا دَامَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْحِفْظِ بِنَحْوِ نَوْمٍ، أَوْ يَشْتَغِلْ عَنِ الْمُلَاحَظَةِ بِنَحْوِ لَهْوٍ.وَعَلَى ذَلِكَ تُحْرَزُ الْمَاشِيَةُ فِي الْمَرْعَى بِمُلَاحَظَةِ الرَّاعِي لَهَا، بِأَنْ يَرَاهَا وَيَبْلُغَهَا صَوْتُهُ.فَإِنْ نَامَ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا أَوِ اسْتَتَرَ بَعْضُهَا عَنْهُ فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً.أَمَّا الْإِبِلُ فَإِنَّهَا تُحْرَزُ وَهِيَ بَارِكَةٌ إِذَا عُقِلَتْ وَكَانَ مَعَهَا حَافِظٌ وَلَوْ نَائِمًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ إِلاَّ فِيمَا جُعِلَ لِعِمَارَتِهِ أَوْ لِزِينَتِهِ، كَالسَّقْفِ وَالْأَبْوَابِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا مَا أُعِدَّ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ، كَالْحُصْرِ أَوِ الْبُسُطِ أَوْ قَنَادِيلِ الْإِضَاءَةِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْرَزَةً بِحَافِظٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ السَّارِقِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.وَالرَّأْيُ الْآخَرُ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ لِعِمَارَتِهِ وَزِينَتِهِ، أَوْ كَانَ مُعَدًّا لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا مَالِكَ لَهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَلِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مِنْ حِرْزٍ بِالْحَافِظِ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْأَخْذُ خُفْيَةً:

42- يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَأْخُذَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ خُفْيَةً، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ.

فَإِذَا شَرَعَ فِي الْأَخْذِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، فَلَا يُقْطَعُ، بَلْ يُعَزَّرُ.وَقَدْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّرِيكِ إِذَا بَلَغَ فِعْلُهُ حَدًّا يُمْكِنُ مَعَهُ نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ.

1- الْأَخْذُ:

43- لَا يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الْأَخْذِ سَرِقَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا نَتَجَ عَنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَفْتَحَ السَّارِقُ إِغْلَاقَهُ وَيَدْخُلَ، أَوْ يَكْسِرَ بَابَهُ أَوْ شُبَّاكَهُ، أَوْ يَنْقُبَ فِي سَطْحِهِ أَوْ جِدَارِهِ، أَوْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي الْجَيْبِ لِأَخْذِ مَا بِهِ، أَوْ يَأْخُذَ ثَوْبًا تَوَسَّدَهُ شَخْصٌ نَائِمٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأَخْذِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ- إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا كَانَ هَتْكُ الْحِرْزِ هَتْكًا كَامِلًا تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ، بِأَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ فِعْلًا، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دُخُولُهُ، كَبَيْتٍ وَحَانُوتٍ، فَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ، كَصُنْدُوقٍ وَجَيْبٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: اللِّصُّ إِذَا كَانَ ظَرِيفًا لَا يُقْطَعُ.قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ فَيُدْخِلَ يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ دُخُولَ الْحِرْزِ لَيْسَ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْأَخْذِ وَهَتْكِ الْحِرْزِ، فَدُخُولُ الْحِرْزِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، بَلْ لِأَخْذِ الْمَالِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ بِمَدِّ الْيَدِ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ الْمَالِ، كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسْرِقُ الْحُجَّاجَ بِمِحْجَنِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَسْرِقُ مَتَاعَ الْحُجَّاجِ؟ قَالَ: لَسْتُ أَسْرِقُ، وَإِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ.فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ».يَعْنِي: أَمْعَاءَهُ، لِمَا كَانَ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِ الْحُجَّاجِ. 2- الْخُفْيَةُ:

44- يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يُؤْخَذَ الشَّيْءُ خُفْيَةً وَاسْتِتَارًا، بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ عِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَدُونَ رِضَاهُ.فَإِنْ أَخَذَ الشَّيْءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ، سُمِّيَ: مُغَالَبَةً أَوْ نَهْبًا أَوْ خِلْسَةً أَوِ اغْتِصَابًا أَوِ انْتِهَابًا، لَا سَرِقَةً.وَإِنْ حَدَثَ الْأَخْذُ دُونَ عِلْمِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، ثُمَّ رَضِيَ، فَلَا سَرِقَةَ.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْأَخْذِ فِي: الِاخْتِلَاسِ، وَجَحْدِ الْأَمَانَةِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالنَّبْشِ، وَالنَّشْلِ، وَالنَّهْبِ.

3- الْإِخْرَاجُ:

45- لَا تَكْتَمِلُ صُورَةُ الْأَخْذِ خُفْيَةً إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ.

أ- الْإِخْرَاجُ مِنَ الْحِرْزِ:

46- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ لِكَيْ يُقَامَ حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِالْحَافِظِ فَيَكْفِي مُجَرَّدُ الْأَخْذِ، حَيْثُ لَا اعْتِبَارَ لِلْمَكَانِ فِي الْحِرْزِ بِالْحَافِظِ.وَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِحِفْظِهِ، فَإِذَا ضُبِطَ السَّارِقُ دَاخِلَ الْحِرْزِ، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ بِمَا سَرَقَهُ، فَلَا يُقْطَعُ بَلْ يُعَزَّرُ.

وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْحِرْزِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا، بِأَنْ يَقُومَ السَّارِقُ بِأَخْذِ الْمَسْرُوقِ خُفْيَةً مِنَ الْحِرْزِ وَيَخْرُجَ بِهِ مِنْهُ، أَوْ بِأَنْ يُؤَدِّيَ فِعْلُهُ مُبَاشَرَةً إِلَى إِخْرَاجِهِ، كَأَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ وَيَأْخُذَ الْمَسْرُوقَ ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْأَخْذُ بِالتَّسَبُّبِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ فِعْلُ السَّارِقِ- بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ- إِلَى إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ وَيَقُودَهَا خَارِجَ الْحِرْزِ، أَوْ يُلْقِيَهُ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ ثُمَّ يَفْتَحَ مَصْدَرَ الْمَاءِ فَيُخْرِجَهُ التَّيَّارُ مِنَ الْحِرْزِ.وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْرَاجُ مُبَاشِرًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ فَإِنَّ شُرُوطَ الْأَخْذِ خُفْيَةً تَكُونُ تَامَّةً وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لِلشَّيْءِ: إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِآلَتِهِ.غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْإِخْرَاجِ كَانَتْ مَحَلًّا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَفْهُومِ الْأَخْذِ التَّامِّ.فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَهْتِكَ السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلَهُ، وَيَأْخُذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ فَيَأْخُذُهُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَتَّفِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ تَامٌّ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ زُفَرُ، حَيْثُ يَرَى أَنَّ الْأَخْذَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِالْإِخْرَاجِ، وَالرَّمْيُ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ، وَالْأَخْذُ مِنَ الْخَارِجِ لَا يُعْتَبَرُ أَخْذًا مِنَ الْحِرْزِ.

ب- إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ مَالِكِهِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ:

46 م- يَتَرَتَّبُ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ أَنْ يَخْرُجَ كَذَلِكَ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، ذَلِكَ أَنَّ السَّارِقَ إِذَا أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْبَيْتِ أَوِ الْحَانُوتِ أَوِ الْحَظِيرَةِ أَوِ الْجَيْبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ أَزَالَ يَدَ الْحَائِزِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ.وَلَكِنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ مَالِكِهِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِ السَّارِقِ بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَقَدْ تَزُولُ يَدُ الْحَائِزِ عَنِ الْمَسْرُوقِ رَغْمَ بَقَاءِ السَّارِقِ فِي الْحِرْزِ وَعَدَمِ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ، كَمَا إِذَا ابْتَلَعَ السَّارِقُ مَا سَرَقَهُ دُونَ أَنْ يُغَادِرَ الْحِرْزَ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا يَخْرُجُ الْمَسْرُوقُ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.

ج- دُخُولُ الْمَسْرُوقِ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ:

47- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لَا يَسْتَتْبِعُ حَتْمًا دُخُولَهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَهْتِكَ السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلَهُ، وَيَأْخُذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ لِأَخْذِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مِنَ الْحِرْزِ لِيَأْخُذَهُ فَيَجِدَ غَيْرَهُ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ.وَهُنَا يُعْتَبَرُ الْمَسْرُوقُ قَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْحِرْزِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ فَلَا تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الْمَسْرُوقِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حِيَازَتِهِ فِعْلًا.وَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَسْرُوقَ، تَكُونُ يَدُ الْآخِذِ قَدِ اعْتَرَضَتْ يَدَ السَّارِقِ، فَدَخَلَ الْمَسْرُوقُ فِي حِيَازَةِ مَنْ أَخَذَهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي حِيَازَةِ مَنْ سَرَقَهُ، وَحِينَئِذٍ تَحُولُ هَذِهِ «الْيَدُ الْمُعْتَرِضَةُ» دُونَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، وَإِنْ كَانَ يُعَزَّرُ.وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى مَنْ يَهْتِكُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلُهُ، وَيَأْخُذُ الشَّيْءَ خُفْيَةً وَلَكِنَّهُ يُتْلِفُهُ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَتْلَفَ مَا يَفْسُدُ بِالْإِتْلَافِ كَأَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ، أَوْ أَحْرَقَ الْمَتَاعَ، أَوْ مَزَّقَ الثَّوْبَ، أَوْ كَسَرَ الْآنِيَةَ، فَلَا يُعَدُّ سَارِقًا، بَلْ مُتْلِفًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالتَّعْزِيرُ.أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ بَعْضَهُ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَكَانَتْ قِيمَةُ مَا أَخْرَجَهُ تُسَاوِي نِصَابًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَارِقًا، لِتَحَقُّقِ تَمَامِ الْأَخْذِ بِالْهَتْكِ وَالْإِخْرَاجِ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ إِذَا أَتْلَفَ الْبَعْضَ يَصِيرُ ضَامِنًا، وَالْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، فَيَكُونُ سَبَبُ الْمِلْكِ قَدِ انْعَقَدَ لَهُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَلَا يُقْطَعُ أَحَدٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ.وَإِنْ كَانَ مَا أَتْلَفَهُ- وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ- لَا يَفْسُدُ بِالْإِتْلَافِ، كَأَنْ يَبْتَلِعَ جَوْهَرَةً أَوْ دِينَارًا فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ سَارِقًا أَيْضًا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ بِمَا ابْتَلَعَهُ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاعَ يُعْتَبَرُ اسْتِهْلَاكًا لِلشَّيْءِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِتْلَافِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَسْتَتْبِعُ حَتْمًا إِدْخَالَهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ إِدْخَالًا فِعْلِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا.وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوْ دَخَلَ السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَأَخَذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، وَرَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخْرَجَ الشَّيْءَ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، يَكُونُ أَدْخَلَهُ حُكْمًا فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ، فَإِنَّ وَضْعَ الْيَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمَسْرُوقِ يَنْضَمُّ إِلَى الْحِيَازَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِمُفْرَدِهِ.وَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِرْزِ فَوَجَدَ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ أَخَذَ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ، لِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ دَخَلَ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ حُكْمًا، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ فِعْلًا، وَصَاحِبُ الْيَدِ الْمُعْتَرَضَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ- عِنْدَهُمْ- لِأَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَرِضَةَ لَا تُجَوِّزُ الْمَسْرُوقَ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.

وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَيْضًا- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- إِذَا رَمَى الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ خَارِجَ الْحِرْزِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِأَخْذِهِ، بِأَنْ تَمَّ ضَبْطُهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ أَوْ مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْحِيَازَةُ الْحُكْمِيَّةُ تَكْفِي لِاعْتِبَارِ الْأَخْذِ تَامًّا كَالْحِيَازَةِ الْفِعْلِيَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

وَلَئِنْ كَانَ مَالِكٌ تَرَدَّدَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا ضُبِطَ فِي الْحِرْزِ، بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِأَخْذِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْمَدَارُ فِي الْقَطْعِ عَلَى

إِخْرَاجِ النِّصَابِ مِنَ الْحِرْزِ، خَرَجَ مِنْهُ السَّارِقُ إِذَا دَخَلَ أَمْ لَا، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ لَوْ أَخْرَجَ النِّصَابَ مِنَ الْحِرْزِ، ثُمَّ عَادَ بِهِ فَأَدْخَلَهُ، قُطِعَ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَهْتِكُ الْحِرْزَ وَيَدْخُلُهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا يَفْسُدُ بِالْإِتْلَافِ، ثُمَّ يُتْلِفُهُ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا يُعْتَبَرُ اسْتِهْلَاكًا، لَا سَرِقَةً، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالتَّعْزِيرُ.أَمَّا إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الْآخَرَ مِنْهُ، وَكَانَتْ قِيمَةُ مَا أَخْرَجَ تُسَاوِي النِّصَابَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِتَحَقُّقِ الْأَخْذِ بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ مِنْهُ.وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ يُتْلِفُ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ شَيْئًا لَا يَفْسُدُ بِالْإِتْلَافِ، كَأَنْ يَبْتَلِعَ دِينَارًا أَوْ جَوْهَرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْحِرْزِ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِابْتِلَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ أَخْذًا تَامًّا، كَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ فِي وِعَاءٍ وَخَرَجَ بِهِ، وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَوْلًا وَاحِدًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ الْفِعْلِ إِتْلَافًا، إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْمَسْرُوقُ مِنْ

= أسنى المطالب 4/ 138، 147، حاشية الدسوقي Tab4/ 338.

جَوْفِهِ بَعْدَ ابْتِلَاعِهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ، فَصَارَ كَأَكْلِ الطَّعَامِ.أَمَّا إِذَا خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جَوْفِهِ بَعْدَ ابْتِلَاعِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَفْسُدْ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَخْرَجَهُ فِي فِيهِ أَوْ فِي وِعَاءٍ.

وَلَدَى الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا: يُعْتَبَرُ الْفِعْلُ إِتْلَافًا فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَا قَطْعَ، بَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ، وَالْآخَرُ: يُعْتَبَرُ الْفِعْلُ إِتْلَافًا إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جَوْفِ مَنِ ابْتَلَعَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَعْتَبِرُهُ سَرِقَةً إِذَا خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ، وَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي جَيْبِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ.

د- الشُّرُوعُ فِي الْأَخْذِ:

48- يُعْتَبَرُ شُرُوعًا فِي السَّرِقَةِ كُلُّ فِعْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى سَرِقَةٍ، وَلَكِنَّ السَّرِقَةَ لَمْ تَكْتَمِلْ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَالْوَسَائِلِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى هَتْكِ الْحِرْزِ، أَوْ أَخْذِ الشَّيْءِ دُونَ عِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَرِضَاهُ، أَوْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، دُونَ أَنْ يَدْخُلَ فِي حِيَازَةِ الْآخِذِ، أَوْ إِخْرَاجِ مَا دُونَ النِّصَابِ.أَمَّا إِذَا تَمَّتِ السَّرِقَةُ فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى السَّارِقِ بِاعْتِبَارِهِ قَدِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ شَرْعًا، وَذَلِكَ دُونَ نَظَرٍ إِلَى كُلِّ فِعْلٍ بِمُفْرَدِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي كَوَّنَتِ السَّرِقَةَ. حُكْمُ الشُّرُوعِ فِي السَّرِقَةِ:

49- مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ: أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ يَنْجُمُ عَنْهَا عُدْوَانٌ عَلَى حَقِّ إِنْسَانٍ أَوْ عَلَى حَقِّ الْأُمَّةِ فَإِنَّ مُرْتَكِبَهَا يَخْضَعُ لِلْحَدِّ أَوْ لِلتَّعْزِيرِ أَوْ لِلْكَفَّارَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ مُحَدَّدَةٌ شَرْعًا، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَاقَبَ مُرْتَكِبُهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى جَرِيمَةً كَامِلَةً، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ فِعْلِهِ يُعْتَبَرُ شُرُوعًا فِي جَرِيمَةٍ أُخْرَى.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِير).

وَعَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ، وَلَكِنَّهُمْ يُوجِبُونَ التَّعْزِيرَ عَلَى مَنْ يَبْدَأُ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُكَوِّنُ بِمَجْمُوعِهَا جَرِيمَةَ السَّرِقَةِ.لَيْسَ بِاعْتِبَارِهِ شَارِعًا فِي السَّرِقَةِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِهِ مُرْتَكِبًا لِمَعْصِيَةٍ تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ سَارِقًا نَقَبَ خِزَانَةَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، فَوُجِدَ بِهَا، قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ.فَأُتِيَ بِهِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَجَلَدَهُ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ.فَمَرَّ بِابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ، فَأَتَى ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: أَمَرْتَ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَمَا شَأْنُ الْجَلْدِ؟ قَالَ: غَضِبْتُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ، أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ لَمْ يُصِبْهَا، أَأَنْتَ حَادُّهُ؟ قَالَ: لَا.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي السَّرِقَةِ لَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَإِنَّمَا تُطَبَّقُ فِيهِ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِلتَّعْزِيرِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


53-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة 2)

شَهَادَةٌ -2

حُكْمُ الْإِشْهَادِ:

30- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ الْإِعْلَانُ.

أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ.

قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَدَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.

وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَشْهَدَ، وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَلَمْ يُشْهِدْ.

وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الِاسْتِئْلَافَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الِائْتِمَانِ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ)

مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:

31- الْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

وقوله تعالى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}.

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَلَا تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.

وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لَا تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ».

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ.

لَكِنَّ الْأُمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا:

فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.

فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمُورَ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.

فَمِنْهَا أُمُورٌ لَا يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلَامُهُمَا.

وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ، كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَقْفِ.

فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى التَّسَامُعِ.

الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ وَالتَّسَامُعِ:

الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ بِاعْتِبَارِ دَرَجَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِهَا:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى:

32- تُفِيدُ عِلْمًا جَازِمًا مَقْطُوعًا بِهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ كَالسَّمَاعِ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَغْدَادَ وَالْقَاهِرَةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُدُنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ثَبَتَ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا سَمَاعًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا مُشَاهَدَةً مُبَاشَرَةً فَهَذِهِ عِنْدَ حُصُولِهَا تَكُونُ- مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْقَبُولِ وَالِاعْتِبَارِ- بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ إِجْمَاعًا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:

33- تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا يَقْرُبُ مِنَ الْقَطْعِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنَ الْخَلْقِ الْغَفِيرِ: كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَوْثَقِ مَنْ أَخَذَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُعْتَبَرُ الصَّاحِبَ الْأَوَّلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُولِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً مِنْ جَمٍّ غَفِيرٍ وَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَلَدِ لَزِمَ الْفِطْرُ أَوِ الصَّوْمُ مَنْ رَآهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَدُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِثْبَاتِ تَعْدِيلِ نَقَلَتِهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَالْمَحْكُومِينَ:

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ لِاسْتِفَاضَةِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ سَمَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ لِاشْتِهَارِ جُرْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِالْكَشْفِ عَمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لَا بِهَذِهِ وَلَا بِتِلْكَ.

وَقَدْ تَنَاقَلَ الْفُقَهَاءُ، وَأَصْحَابُ التَّرَاجِمِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ شَهِدَ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَمَّا الِاسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّكَ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَخْصُهُ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:

34- تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا دُونَ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ يَكُونُ مَصْدَرُهَا سَمَاعًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يَبْلُغْ فِي اسْتِفَاضَتِهِ حَدَّ الْأُولَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِمُ الْحَدِيثَ عَلَى شَهَادَةِ السَّمَاعِ، أَوِ الشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ، أَوْ بِالتَّسَامُعِ.وَهِيَ الَّتِي قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: إِنَّهَا لَقَبٌ لِمَا يُصَرِّحُ الشَّاهِدُ فِيهِ بِاسْتِنَادِ شَهَادَتِهِ لِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَخْرُجُ- بِذَلِكَ- شَهَادَةُ الْبَتِّ وَالنَّقْلِ.وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِهَا قَضَاءً لِلضَّرُورَةِ، أَوِ الْحَاجَةِ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ اخْتَلَفَتْ كَمَا بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، وَضَبْطِ الْقُيُودِ الَّتِي تَعُودُ إِلَيْهَا، وَالثَّابِتُ عِنْدَ الدَّارِسِينَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَسَامُحًا فِي الْأَخْذِ بِهَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيُّ.

وَأَفَاضَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي شَهَادَةِ السَّامِعِ يَتَنَاوَلُ الْجَوَانِبَ التَّالِيَةَ:

الْأَوَّلُ: الصِّفَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا:

35- الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ- عِنْدَ تَأْدِيَتِهَا- «سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ- مَثَلًا- صَدَقَةٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ»، أَيْ: لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُدُولِ، وَغَيْرِ الْعُدُولِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: «إِنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنَ الثِّقَاتِ، أَوْ سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ».وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ حَصْرَ مَصْدَرِ سَمَاعِهِمْ فِي الثِّقَاتِ وَالْعُدُولِ يُخْرِجُهَا مِنَ السَّمَاعِ إِلَى النَّقْلِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ آخَرُ.

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَلَا يَكُونُ السَّمَاعُ بِأَنْ يَقُولُوا: «سَمِعْنَا مِنْ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ» يُسَمُّونَهُمْ أَوْ يَعْرِفُونَهُمْ، إِذْ لَيْسَتْ- حِينَئِذٍ- شَهَادَةَ تَسَامُعٍ بَلْ هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ.

وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِمْ: «سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا».دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى إِضَافَةٍ «مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ» حَيْثُ لَا عِبْرَةَ بِذِكْرٍ الْعُدُولِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ خِلَافًا لِمَا يَرَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَاجِشُونَ.

وَالثَّانِي: شُرُوطُ قَبُولِهَا:

36- وَأَهَمُّهَا بِاخْتِصَارٍ:

(1) أَنْ تَكُونَ مِنْ عَدْلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَيُكْتَفَى بِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ.

(2) السَّلَامَةُ مِنَ الرِّيَبِ: فَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ مَثَلًا عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْحَيِّ أَوْ فِي الْقَبِيلَةِ مِائَةُ رَجُلٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تُرَدُّ لِلرِّيبَةِ الَّتِي حُفَّتْ بِهَا، فَإِذَا انْتَفَتِ الرِّيبَةُ قُبِلَتْ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَلَى أَمْرٍ مَا، شَيْخَانِ قَدِ انْقَرَضَ جِيلُهُمَا، فَلَا تُرَدُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ طَارِئَانِ بِاسْتِفَاضَةِ مَوْتٍ، أَوْ وِلَايَةٍ، أَوْ عَزْلٍ، قَدْ حَدَثَ بِبَلَدِهِمَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا- فِي الْغُرْبَةِ- غَيْرُهُمَا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ لِلْغَرَضِ نَفْسِهِ.

(3) أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا، وَهَذَا الْقَدْرُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ دَاخِلَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ وَخَارِجَهُ.إِلاَّ أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِضَافَةِ: «مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ» أَوْ «مِنَ الثِّقَاتِ» فَقَطْ، أَوْ عَدَمِ إِضَافَتِهِمَا.

(4) أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ: فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لِأَحَدٍ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ إِلاَّ بَعْدَ يَمِينِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ السَّمَاعِ الَّذِي فَشَا وَانْتَشَرَ مَنْقُولًا عَنْ وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى الْمَالِيَّةِ.

الثَّالِثُ: مَحَالُّهَا: أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ.

37- سَلَكَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخُصُوصِ- لِتَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَحَالِّ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ- ثَلَاثَ طُرُقٍ:

أَحَدُهَا: لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الَّذِي يَرْوِي أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ، كَالْمَوْتِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَقْفِ، وَنَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي النِّكَاحِ.

الثَّانِيَةُ: لِابْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: حَكَى فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: تُقْبَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ، تُقْبَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا النَّسَبَ، وَالْقَضَاءَ وَالنِّكَاحَ وَالْمَوْتَ، إِذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ اسْتِفَاضَةً يَحْصُلُ بِهَا الْقَطْعُ لَا الظَّنُّ، وَرَابِعُ الْأَقْوَالِ عَكْسُ السَّابِقِ، لَا تُقْبَلُ إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالْقَضَاءِ، وَالنِّكَاحِ وَالْمَوْتِ.

وَالثَّالِثَةُ: لِابْنِ شَاسٍ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى عِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَنْهَاهَا أَحَدُهُمْ إِلَى تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ.

مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْحَمْلُ، وَالْوِلَادَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَحْبَاسُ، وَالضَّرَرُ، وَتَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ، وَتَرْشِيدُ السَّفِيهِ، وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي الصَّدَقَاتِ، وَالْأَحْبَاسِ الَّتِي تَقَادَمَ أَمْرُهَا، وَطَالَ زَمَانُهَا، وَفِي الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالتَّجْرِيحِ، وَالْمِلْكِ لِلْحَائِزِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ التَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ وَلَا تُمْكِنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَجُوزُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ- فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ: النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَقْفِ وَمَصْرِفِهِ، وَالْمَوْتِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْعَزْلِ، مُعَلِّلِينَ رَأْيَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَتَعَذَّرُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا غَالِبًا بِمُشَاهَدَتِهَا أَوْ مُشَاهَدَةِ أَسْبَابِهَا، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ وَضَيَاعِ الْحُقُوقِ.

وَيَرَى الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِي الْوَقْفِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْعِتْقِ وَالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِيهَا بِالْقَطْعِ حَيْثُ إِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عَقْدٍ كَبَقِيَّةِ الْعُقُودِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ إِلاَّ فِي النِّكَاحِ وَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهَادَةً بِمَالٍ، وَمَا دَامَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ، وَأَمَّا صَاحِبَاهُ فَقَدْ نَصَّا عَلَى قَبُولِهَا فِي الْوَلَاءِ مِثْلُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ:

38- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّوَسُّمُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ يَكُونُ عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْقَوَافِلِ وَالرِّفَاقِ تَمُرُّ بِأُمَّهَاتِ الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَلُّوا بِهَا، أَوْ مَرُّوا بِهَا، فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَجَازُوا شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِمَّنْ جَمَعَهُ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَوُجْهَةُ تِلْكَ الْمُرَافَقَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلَا سَخْطَةٍ إِلاَّ عَلَى التَّوَسُّمِ لَهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ خَاصَّةً مِنَ الْأَسْلَافِ وَالْأَكْرِيَةِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْأَشْرِبَةِ، كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَلَدَيْنِ مَتَى كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا، أَوْ مَعْرُوفًا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى كَرْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا عَمِلُوهُ بِهِ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ قَالَا (أَيْ: مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ): وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ مِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، مِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحَاتِ.قَالَا: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي كُلِّ حَقٍّ كَانَ ثَابِتًا فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلَ سَفَرِهِمْ، إِلاَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُجِيزُوا عَلَى التَّوَسُّمِ فَلَيْسَ فِيهِمْ جُرْحَةٌ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرِيبَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ قَبْلَ حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِسَبَبِ قَطْعِ يَدٍ، أَوْ جَلْدٍ فِي ظَهْرٍ فَلْيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ انْتِفَاءُ تِلْكَ الرِّيبَةِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَهُمْ.قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَتَوَسَّمَ فِيهِمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ تَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِمْ فَلَا يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ: أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ مَسْخُوطَيْنِ قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي سَرِقَةٍ، وَلَا زِنًا، وَلَا غَصْبٍ، وَلَا تَلَصُّصٍ، وَلَا مُشَاتَمَةٍ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ فِي الْمَالِ فِي السَّفَرِ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ذَلِكَ يَعْنِي شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ، لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ دُونَ أَنْ تُعْرَفَ عَدَالَتُهُمْ.انْتَهَى.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْغُرَبَاءِ حَيْثُ لَا تَكُونُ ضَرُورَةٌ مِثْلُ شَهَادَتِهِمْ فِي الْحَضَرِ

أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

39- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}.

أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّلَ الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}.

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْفَاقَ الْإِنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَا يُشْتَغَلُ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ.

تَعْدِيلُ الشُّهُودِ:

40- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَلَا فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالسُّؤَالِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.

وَفِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَزْكِيَةٌ).

تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ:

41- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حُكِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: أَنَّهُ حَلَّفَ شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ «بِاللَّهِ إِنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ».وَعَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ.وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَكَذَا.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَحْلِيفِ الْمَرْأَةِ إِذَا شَهِدَتْ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.

قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ عَلَى أَصْلِنَا إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (قَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ قُبِلَ فِيهِمَا الْكَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لِلضَّرُورَةِ، فَقِيَاسُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ اسْتُحْلِفَ (قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ): وَإِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ يُخَلِّفَهُمْ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ.

الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:

42- قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالْإِدْلَاءَ بِهَا أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَلِ.

وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.

هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ.

فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مَالًا أَوْ عُقُوبَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.

وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لَا تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَتَعَذَّرُ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لَازِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ كَالْإِقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ، كَالْأَقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ.سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الْآدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ.أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ.خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ».

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مِنَ الْأَصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.

43- وَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛ لِسُقُوطِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الْأَصْلَ لَا مَا شَهِدَ بِهِ؛ وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْلَ امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْأُصُولُ فَدَخَلَ فِيهِ النِّسَاءُ، فَيُقْبَلُ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ فَرْعَيْنِ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَلُ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ. وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الْأَصِيلُ أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ.وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.

الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

44- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالِاسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ بِالِاسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْأَصْلِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.

45- وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.

وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيلِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيلِ جَازَ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَ الْأَصْلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُلِ الشَّهَادَةَ عَنْهُ.

وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. 46- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْإِنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلَاقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا التَّصَرُّفَ لِأَمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الِاسْتِرْعَاءِ.وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الِاسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الِاسْتِرْعَاءِ.فَقَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ: يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ: أَشْهَدَ فُلَانٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ، وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلَا وَجْهَ الْحَبْسِ بَلْ لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا.

وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الِاسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.

وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.

وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ الرَّجُلُ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ، وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ.

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلَامِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُلِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ.فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ، وَالِاشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ.

مَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِيهِ:

47- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلَاقِ، وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ بِقَوْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ.وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ.وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْإِخَافَةَ فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


54-موسوعة الفقه الكويتية (عين)

عَيْن

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ الْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ضَبَطَتْهَا كُتُبُ اللُّغَةِ.

وَالْعَيْنُ فِي مَوْضُوعِنَا يُقْصَدُ بِهَا الْعَيْنُ الَّتِي تُسَبِّبُ الْإِصَابَةَ بِهَا، يُقَالُ: عَانَهُ يُعِينُهُ عَيْنًا أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَائِنٌ وَالْمُصَابُ مَعِينٌ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- وَمَا أَعْيَنَهُ،..أَيْ: مَا أَشَدَّ إِصَابَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَالْعَيُونُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- وَالْمِعْيَانُ الشَّدِيدُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَعِينُ وَالْمَعْيُونُ الْمُصَابُ بِهَا وَالْعَائِنَةُ مُؤَنَّثُ الْعَائِنِ.

وَاسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ مَادَّةَ: نَجَأَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَيُقَالُ: نَجَأَهُ نَجَأً أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ وَرَجُلٌ نَجُوءُ الْعَيْنِ أَيْ خَبِيثُهَا شَدِيدُ الْإِصَابَةِ بِهَا، وَأَيْضًا يُقَالُ: رَجُلٌ مَسْفُوعٌ أَيْ أَصَابَتْهُ سَفْعَةٌ- بِالْفَتْحِ- أَيْ عَيْنٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا: رَجُلٌ نَفُوسٌ إِذَا كَانَ حَسُودًا يَتَعَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لِيُصِيبَهَا بِعَيْنٍ وَأَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ مِنْهُ ضَرَرٌ.

وَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَنُوفِيُّ بِأَنَّهَا: سُمٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ وَنَطَقَ بِهِ وَلَمْ يُبَارِكْ فِيمَا تَعَجَّبَ مِنْهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَسَدُ:

2- الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: كُرْهُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا، يُقَالُ: حَسَدْتُهُ النِّعْمَةَ: إِذَا كَرِهْتَهَا عِنْدَهُ.

وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ إِلَى الْحَاسِدِ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحَسَدَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ.

ب- الْحِقْدُ:

3- الْحِقْدُ لُغَةً: الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: سُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلَائِقِ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ.وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحِقْدَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ.

ثُبُوتُ الْعَيْنِ:

4- الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أَيْ يَعْتَانُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزِيلُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً وَبُغْضًا فِيكَ، فَهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ حَاسِدٍ شَدِيدِ الْعَدَاوَةِ يَكَادُ يُزْلِقُهُ لَوْلَا حِفْظُ اللَّهِ وَعِصْمَتُهُ لَهُ.

وَقَدْ أَرَادُوا بِالْفِعْلِ أَنْ يُصِيبُوهُ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا مُشْتَهِرِينَ بِذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حُجَجِهِ، بِقَصْدِ إِصَابَتِهِ بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ.

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ».

وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إِلَى الْمُعَايَنِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ إِذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلَمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَكَمَا يَخْلُقُهُ بِإِعْجَابِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ فَقَدْ يَخْلُقُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ دُونَ سَبَبٍ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، فَقَدْ كَانَ- عليه الصلاة والسلام- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ- رضي الله عنهما- بِمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ- عليهم السلام- بِقَوْلِهِ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»

مَا يُسْتَطَبُّ بِهِ مِنَ الْعَيْنِ:

أ- التَّبْرِيكُ:

5- الْمَقْصُودُ بِالتَّبْرِيكِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ بِالْبَرَكَةِ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ- بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ- يَحُولُ دُونَ إِحْدَاثِ أَيِّ ضَرَرٍ بِالْمَعِينِ وَيُبْطِلُ كُلَّ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَيْنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ سَهْلُ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ قَالَ: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ- أَيْ صُرِعَ- فَأُتِيَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلاَّ بَرَّكْتَ»- مُخَاطِبًا بِذَلِكَ عَامِرًا مُتَغَيِّظًا عَلَيْهِ وَمُنْكِرًا- أَيْ قُلْتَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنَ الْعَيْنِ وَيُذْهِبُ تَأْثِيرَهُ- ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ».

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُولُ لَهُ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرَّهُ، وَأَيْضًا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ» قَالَ الْعَدَوِيُّ: فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يُبَارِكَ لِيَأْمَنَ مِنَ الْمَحْذُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ.

ب- الْغُسْلُ:

6- يَجِبُ عَلَى الْعَائِنِ إِذَا دَعَاهُ الْمَعِينُ لِلِاغْتِسَالِ أَنْ يَغْتَسِلَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا».

قَالَ الذَّهَبِيُّ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتُغْسِلْتُمْ أَيْ إِذَا طَلَبَ مِنْكُمْ مَنْ أَصَبْتُمُوهُ بِالْعَيْنِ أَنْ تَغْسِلُوا لَهُ فَأَجِيبُوهُ وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ الْعَائِنُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى الْمَعِينِ وَيَكْفَأَ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَقِيلَ: يَغْسِلُهُ بِذَلِكَ حِينَ يَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

ج- الرُّقْيَةُ:

7- الرُّقِيُّ مِمَّا يُسْتَطَبُّ بِهِ لِلْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ مَشْرُوعٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أَمَرَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَالَ: «اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ».

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: الرُّقِيُّ وَالتَّعَاوُذُ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا أُخِذَتْ بِقَبُولٍ وَصَادَفَتْ إِجَابَةً وَأَجَلًا، فَالرُّقِيُّ وَالتَّعَوُّذُ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَهَبَ الشِّفَاءَ كَمَا يُعْطِيهِ بِالدَّوَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّمَا يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْعَائِنُ.أَمَّا إِذَا عُرِفَ الْعَائِنُ الَّذِي أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ.

عُقُوبَةُ الْعَائِنِ:

8- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ أَمَّا إِذَا قَتَلَ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً.

وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: لَا يُقْتَلُ الْعَائِنُ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُنْضَبِطِ الْعَامِّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَالِ الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ.وَالنُّقُولُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْمَذَاهِبِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الْعَائِنَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِذَا عَرَفَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُ عَلَى لُزُومِ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ وَآكِلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ فِي مَنْعِهِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَبَيْتُ الْمَالِ تَكْفِيهِ الْحَاجَةَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَكَفِّ الْأَذَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


55-موسوعة الفقه الكويتية (قسامة 1)

قَسَامَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الْأَيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.

وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ.

وَالْقَسَامَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ- إِنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى إِثْبَاتِ الدَّمِ.

وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيلِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْيَمِينُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ.

وَاصْطِلَاحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ.

ب- اللَّوْثُ:

3- اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.

حُكْمُ الْقَسَامَةِ:

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ.

وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: «مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ- يُرِيدُ السِّنّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ».

وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ الْأَخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.

وَمِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ: أَنْ لَا يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِلَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِلُ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:

5- شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، حَتَّى لَا يُهْدَرَ دَمٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُطَلَّ، وَكَيْ لَا يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ- رضي الله عنهما- فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

فَالشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِلُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَتَحَرَّى بِالْقَتْلِ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ.

شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:

6- سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث).

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:

7- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ مُكَلَّفًا حَتَّى تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:

8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، بَلْ يَدَّعِي لَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْلِ كَامِلًا مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَالُ بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:

9- قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ فَإِنِ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ لَا يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ.وَلَوْ قَالَ: قَتَلَ أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَلْ يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا، وَلَوْ قَالَ فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ، لِإِبْهَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَذَلِكَ مِثْلُ لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَالِ، لَمْ يُسْمَعْ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُشْرَطُ لِلْقَسَامَةِ، بَلْ إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ابْتِدَاءً عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي:

10- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَالَ الْقَتِيلُ قَبْلَ مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا، وَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِلُ مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الْأُولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ عَكْسُهُ بَطَلَ الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ دَعْوَى الْقَتْلِ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ:

11- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ الْأَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَقْتُولَ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ الْأَيْمَانُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يَقْدَحُ غَيْبَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»؛ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْلُ الْعَمْدِ، فَلَا تُسْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْلُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهَا الْمَالَ.

الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْلِ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً.

الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ:

13- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا.

وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْلِ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ الْقَتْلِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلَا جُرْحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ وَقَوْلَ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ.

الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللاَّزِمِ.

وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُولِ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لَا يُعْتَبَرُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَإِنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- جَعَلَ فِيهِ الْقَسَامَةَ لِابْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ خَيْبَرَ مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا.

الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

15- ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ.

الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِسْلَامُ:

16- وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُولِ فَلَا تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِذِمَّتِهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:

17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ..

وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْلَ أَمْ لَا فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ قَتَلَ فُلَانًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَرِكَهُ غَيْرُهُ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الْأَيْمَانُ مُتَوَالِيَةً، فَلَا تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَالَاةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُوجِبِ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلَا تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ فَإِنْ حَلَفُوا عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لَا شَيْءَ لَهُمْ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ نَكَلَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيلَ: يُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ- وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْيَمِينَ أَوَّلًا إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلًا: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الْأَيْمَانِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ».

دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ لِأَهْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ كَيْ لَا يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَلَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا إِنْ نَكَلَ جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيلِ غَيْرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَالِ بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَالُ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ مَنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُولِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَلَا يُحْبَسُونَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَالُ فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُولِ.

وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَالَ نَعَمْ.

مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُولِ الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُولُ كَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَمْدِ، لِانْفِرَادِ الرِّجَالِ بِهِ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَلُ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَلَّ نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ كَسْرَهُ، كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُلُ عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا.

جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْلِ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ بِلَا وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَالِ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَالُ وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ عَمْدًا لَا يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ، فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ- وَهُمْ وَرَثَتُهُ- وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ، كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ الِاخْتِيَارُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ عَوَاقِلِ كُلِّ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


56-موسوعة الفقه الكويتية (قسامة 2)

قَسَامَةٌ -2

وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ قَاتِلًا مُعَيَّنًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِلَ الْمُخَصَّصَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً.

الْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، لِأَنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، يَكُونُ إِبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتِ الْقَسَامَةُ.

وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالِاتِّهَامِ، وَإِذَا اتَّهَمَتِ الْمَحَلَّةُ قَاتِلًا مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَتِ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إِنْ وَافَقَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.

وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ، فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُزَاحِمُهُمُ الذِّمِّيُّ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي قَرْيَةٍ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَدْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ.

أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَحَمَّلُ عَوَاقِلُهُمُ الدِّيَةَ، وَالذِّمِّيَّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ السَّرَخْسِيُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ مِنْ قِبَلِ الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ، إِذْ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى، فِيهِمُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ (خَيْبَرَ) وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلاَّ فَفِي أَمْوَالِهِمْ وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا، فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي مِلْكِهَا، وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهَا، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا، وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ: فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولًا عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقَسَامَةِ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَجِبُ بِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ الْمُدَّعَى بِهِ عَمْدًا

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا».

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَسَامَةُ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ فَإِضَافَةُ قَسَامَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الدَّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحْكَمُ بِهَا بِالْقِصَاصِ.

وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: «أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ- يُرِيدُ السِّنَّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رضي الله عنه- أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ قَالَ لِي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ، وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الْأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصٍ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٍ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ..إِلَخْ.الْحَدِيثَ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إِلاَّ هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ- وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ- مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ قَصَرَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى دَفْعِ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ.

وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيلُ بِهَا بِالْقَتَلَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ مَحَلَّتِهِمْ وَصِيَانَتُهَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ وُقُوعُ الْقَتْلِ بِمَحَلَّتِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الصِّيَانَةِ وَحِفْظِهَا.

مُبْطِلَاتُ الْقَسَامَةِ:

20- تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِالْإِبْرَاءِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً.

أَمَّا الْإِبْرَاءُ الصَّرِيحُ: فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ، أَوْ أَسْقَطْتُ، أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.لِأَنَّ رُكْنَ الْإِبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْرَاءِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ، فَيَصِحُّ.

وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الضِّمْنِيُّ «دَلَالَةً» فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ قَتَلَ الْقَتِيلَ، فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ مِنَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلٌ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْيًا لِلْقَتْلِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ.

كَمَا تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ بِإِقْرَارِ رَجُلٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ الْقَاتِلُ، فَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ قَبَضَهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجِبِ الْقَتْلِ لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ قَوْلَانِ.

وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُ هَذَا، كَأَنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ لَا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْهُ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا نَفْيٌ مُجَرَّدٌ، وَإِنْ قَالَا: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، بَلْ فُلَانٌ، سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ. وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا أَخَذَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


57-موسوعة الفقه الكويتية (كفر 1)

كُفْر -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ.

وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} وَيُقَالُ: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّلَ، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ- بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَلَ الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.

وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسِّلَامُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرِّدَّةُ:

2- الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ.

وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ.

ب- الْإِشْرَاكُ:

3- الْإِشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَالُ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ.وَالِاسْمُ: الشِّرْكُ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْإِشْرَاكَ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَالْإِشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَيَشْمَلُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

ج- الْإِلْحَادُ:

4- الْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.

وَمِنَ الْإِلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ، أَوِ التَّأْوِيلُ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ:

أَنَّ الْإِلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».

جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا:

6- جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:

فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ يَجُوزُ قَتْلُهُ.

(ر: أَهْلُ الْحَرْبِ ف 11)

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ.

(ر: جِهَادٌ ف 29).

وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ).

الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:

7- مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وَوَرَدَ «أَنَّ عَمَّارًا- رضي الله عنه- أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلَالًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»،، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ.

وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:

إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَوْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ.

وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لَا يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَفَعَلَ وَقَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.

وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لِأَنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.

وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَلَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَلَ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.

أَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَالضَّرْبِ وَقَتْلِ الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَالِ وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ.

وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِإِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ.

8- وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْلِ أَفَضْلُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ».

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: الْأَفْضَلُ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.

صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.

أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:

9- ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ

صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ

10- الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.

فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رِدَّةٌ ف 10- 21).

مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:

11- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حُصُولُ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا.

أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- مَذَاهِبُ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالْمُرْسَلِ كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

فَالْآيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، لَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلَا مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ؟.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْأَوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.

وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ.

وَنَقَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.

وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ.

وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ

12- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يُقَاتَلُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَالِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ».

ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»،، فَإِنْ أَبَوُا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25- 30، وَجِهَادٌ ف 24).

مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ

13- قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَحْوَالُ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلَا الْغَصْبُ وَلَا النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ- وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا- مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلَا الزَّكَوَاتِ وَلَا شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.

أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.

وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ.

مُعَامَلَةُ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ

14- أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3).

نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالْآدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نَجَاسَةَ الْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ.

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَلَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ. دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:

17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.

وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.

أَمَّا الْمَسَاجِدُ الْأُخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى- رضي الله عنه- وَفَدَ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَالَ: قُلْ لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.

فَإِنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَلَ فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.

وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ».

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.

وَإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَلِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ.

وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ»،، وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُولِ.

تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:

18- قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ- أَيِ الْمُحْتَضِرُ- كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».

وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلَامُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.

قَالَ الْجَمَلُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلَافُهُ وَإِنْ كُنَّا لَا نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ.

وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ

19- لَا يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلَايَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

أ- لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ( (: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

ب- الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.

وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22).

أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:

20- أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَالِ مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يُقَرَّ.

وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: «أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا».

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلَامٌ ف 5).

نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:

21- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا بِاتِّفَاقِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.

وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.

22- وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه- بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ.وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلَامِهَا، لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ.

وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْلَ دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ طَلِّقْهَا، قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلَالٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لِي.

وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلَا مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.

23- وَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ.

24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا.

وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ،.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


58-موسوعة الفقه الكويتية (لوث)

لَوْثٌ

التَّعْرِيفُ:

1- اللَّوْثُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ وَالشَّرُّ، وَاللَّوْثُ: الضَّعْفُ.

وَاللَّوْثُ: شِبْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً تَامَّةً يُقَالُ: لَمْ يَقُمْ عَلَى اتِّهَامِ فُلَانٍ بِالْجِنَايَةِ إِلاَّ لَوْثٌ.

وَاللَّوْثُ: الْجِرَاحَاتُ وَالْمُطَالَبَاتُ بِالْأَحْقَادِ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصَدْقِ الْمُدَّعِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التُّهْمَةُ:

2- التُّهْمَةُ فِي اللُّغَةِ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا: الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْوَهْمِ.

وَالتُّهْمَةُ هِيَ الْخَصْلَةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ تُظَنُّ بِالْإِنْسَانِ أَوْ تُقَالُ فِيهِ، يُقَالُ: وَقَعَتْ عَلَى فُلَانٍ تُهْمَةٌ: إِذَا ذُكِرَ بِخَصْلَةٍ مَكْرُوهَةٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّوْثَ مِنْ شُرُوطِ الْقَسَامَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ- رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ قَتْلِ يَهُودِ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ (يُرِيدُ السِّنَّ) فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

4- وَلَكِنَّ اللَّوْثَ لَهُ صُوَرٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صَدْقَ الْمُدَّعِي وَلَهُ طُرُقٌ مِنْهَا.

الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ أَوْ بَعْضُهُ الَّذِي يُحَقِّقُ مَوْتَهُ كَرَأْسِهِ فِي قَبِيلَةٍ أَوْ فِي حِصْنٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الْبَلَدِ الْكَبِيرِ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ أَوْ قَبِيلَةِ الْقَتِيلِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ قَاتِلٌ وَلَا بَيِّنَةٌ بِقَتْلِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقَرْيَةُ بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ يَطْرُقُهَا التُّجَّارُ وَالْمُجْتَازُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا لَوْثَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَيْرَ قَتَلَهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا تُعْلَمُ صَدَاقَتُهُ لِلْقَتِيلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَتِيلِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنِ الْمُصَنِّفُ- أَيِ النَّوَوِيُّ- فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَكَى الْأَوَّلَ- أَيِ اشْتِرَاطَ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ- عَنِ الشَّافِعِيِّ وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ.

الثَّانِي: أَنْ تَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فِي دَارٍ دَخَلَهَا عَلَيْهِمْ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ مَعَهُمْ لِحَاجَةٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ صَحْرَاءَ، وَكَذَا لَوِ ازْدَحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي مَضِيقٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، لِقُوَّةِ الظَّنِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتِيلِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ فَيَقْتَتِلَا فَيَنْكَشِفُوا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا طَرِيٍّ- كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- فَإِنِ الْتَحَمَ قِتَالٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَوْ وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ رَمْيًا أَوْ طَعْنًا أَوْ ضَرْبًا، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الصَّفِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَهْلَ صَفِّهِ لَا يَقْتُلُونَهُ سَوَاءٌ أَوُجِدَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَمْ فِي صَفِّ نَفْسِهِ، أَمْ فِي صَفِّ خَصْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِمْ قِتَالٌ بَيْنَهُمَا وَلَا وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ صَفِّهِ أَيِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ.

الرَّابِعُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي صَحْرَاءَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مَعَهُ سِلَاحٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَثَرُ دَمٍ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تُعَارِضُهُ كَأَنْ وُجِدَ بِقُرْبِ الْقَتِيلِ سَبُعٌ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ أَوْ وُجِدَ أَثَرُ قَدَمٍ أَوْ تَرْشِيشُ دَمٍ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ السِّلَاحِ فَلَيْسَ بِلَوْثٍ فِي حَقِّهِ، أَيْ صَاحِبِ السِّلَاحِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ رَأَيْنَا مِنْ بُعْدٍ رَجُلًا يُحَرِّكُ يَدَهُ كَمَا يَفْعَلُ مِنْ يَضْرِبُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ ثُمَّ وَجَدْنَا فِي الْمَوْضِعِ قَتِيلًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ بِأَنَّ زَيْدًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الدَّعْوَى أَوْ تَأَخَّرَتْ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصَدْقِهِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ فِي خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا، بَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَا يُوجِبُ قِصَاصًا كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ قَتْلِ الْخَطَأِ فِي أَصْلِ الْمَالِ لَا فِي صِفَتِهِ وَلَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَنِسَاءٍ فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَلَوْثٌ وَكَذَا لَوْ جَاءُوا دَفْعَةً عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي وَجْهٍ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَفِي التَّهْذِيبِ: أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الْجَمْعِ.

وَفِي الْوَجِيزِ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْثٌ.

وَأَمَّا فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَصِبْيَانٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ فَأَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَوْثٌ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَالثَّالِثُ: لَوْثٌ مِنْ غَيْرِ الْكُفَّارِ.

وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: جَرَحَنِي فُلَانٌ أَوْ قَتَلَنِي أَوْ دَمِيَ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِلُوثٍ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ.

السَّادِسُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ وَقَعَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَهَجِهِمْ: أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اسْتَحْلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَتَخَيَّرُهُمُ الْوَلِيُّ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: بِاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِمُدَّعِي الْقَتْلِ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ هُوَ قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِلَوْثٍ، وَذَكَرُوا خَمْسَةَ أَمْثِلَةٍ لِلَّوْثِ: -

أَوَّلُهَا: أَنْ يَقُولَ الْبَالِغُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَسْخُوطًا وَادَّعَى عَلَى عَدْلٍ وَلَوْ أَعْدَلَ وَأَوْرَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ.

أَوْ تَدَّعِي زَوْجَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَتَلَهَا أَوْ وَلَدٌ يَدَّعِي أَنَّ أَبَاهُ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْعَمْدِ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ، وَفِي الْخَطَأِ يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ وَيَكُونُ لَوْثًا بِشَرْطِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ عَدْلَانِ فَأَكْثَرَ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْتُولُ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ سُمٍّ.

ثَانِيهَا: شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ عَلَى مُعَايَنَةِ الضَّرْبِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ أَثَرِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ.

ثَالِثُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْجُرْحِ أَوِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، وَحَلَفَ الْوُلَاةُ مَعَ الشَّاهِدِ الْمَذْكُورِ يَمِينًا وَاحِدَةً لَقَدْ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ الْيَمِينُ مُكَمِّلَةٌ لِلنِّصَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا وَتُقْسِمُ الْوُلَاةُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ إِنْ ثَبَتَ الْمَوْتُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.

رَابِعُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَوْثًا وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ لَا تَكُونُ لَوْثًا، وَالْمَرْأَتَانِ كَالْعَدْلِ فِي هَذَا وَفِي سَائِرِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ فِيهِ لَوْثًا.

خَامِسُهَا: إِنَّ الْعَدْلَ إِذَا رَأَى الْمَقْتُولَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالشَّخْصُ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ قَرِيبٌ مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى الْمُتَّهَمِ آثَارُ الْقَتْلِ بِأَنْ كَانَتِ الْآلَةُ بِيَدِهِ وَهِيَ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ أَوْ خَارِجًا مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَشَهِدَ الْعَدْلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ.

وَلَيْسَ مِنَ اللَّوْثِ وُجُودُ الْمَقْتُولِ بَقَرِيَّةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِذَلِكَ لَمْ يَشَأْ رَجُلٌ أَنْ يُلَطِّخَ قَوْمًا بِذَلِكَ إِلاَّ فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ لَا يَدَعُهُ فِي مَكَانٍ يُتَّهَمُ هُوَ بِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ.

وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ- وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَأَهْلِ خَيْبَرَ، وَكَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي يَطْلُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِثَأْرٍ، وَمَا بَيْنَ الشُّرَطِ وَاللُّصُوصِ، وَكُلِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ ضَغَنٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قَتْلُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ اللَّوْثَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ.

الثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُوجَدُ بِقُرْبِهِ إِلاَّ رَجُلٌ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ بِالْقَتْلِ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمْ.وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَابْنُ رَزِينٍ وَتَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ.

قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتْلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَدَمٍ فِي أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ، وَقَوْلُ الْقَتِيلِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَيْسَ بِلَوْثٍ عِنْدَهُمْ.

مُسْقِطَاتُ اللَّوْثِ

5- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ ثُمَّ قَالَ بَلْ فُلَانٌ بَطَلَ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ هَذَا الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ جُرْجٌ أَوْ أَثَرُ الضَّرْبِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إِذَا خَالَفُوا قَوْلَهُ، بِأَنْ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا فَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ.

وَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ قَالُوا كُلُّهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا وَنَكَلُوا عَنِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الدَّمَ يَبْطُلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَكُونُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَبِنْتٍ وَعَصَبَةٍ، بِأَنِ ادَّعَى الْعَصَبَةُ الْعَمْدَ وَالْبِنْتُ الْخَطَأَ فَهُوَ هَدَرٌ وَلَا قَسَامَةَ وَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَدْ يُعَارِضُ الْقَرِينَةَ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لَوْثًا، وَقَدْ يُعَارِضُ اللَّوْثَ مَا يُسْقِطُ أَثَرَهُ وَيُبْطِلُ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يُتَعَذَّرَ إِثْبَاتُ اللَّوْثِ فَإِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وَيُقْسِمُ، فَلَوْ قَالَ: الْقَاتِلُ أَحَدُهُمْ وَلَا أَعْرِفُهُ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ فَإِنْ حَلَفُوا إِلاَّ وَاحِدًا فَنُكُولُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْقَاتِلُ وَيَكُونُ لَوْثًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْجَمِيعُ ثُمَّ عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمْ وَقَالَ: قَدْ بَانَ لِي أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

الثَّانِي: قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهَلْ يَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَصْلِ الْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا.

قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوْثًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِفَةَ الْقَتْلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مُوجِبَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ كَأَنْ يَقُولَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ الْقَوْمِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْقَتِيلِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الَّذِي رُئِيَ مَعَهُ السِّكِّينُ الْمُتَلَطِّخُ بِالدَّمِ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الْمَرْئِيِّ مِنْ بَعِيدٍ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا وَسَقَطَ اللَّوْثُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى.

وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ أَوِ ادَّعَى عَلَى جَمْعٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: كُنْتُ غَائِبًا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى حُضُورِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْ إِقْرَارُهُ بِالْحُضُورِ يَوْمَئِذٍ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِغَيْبَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِي الْوَسِيطِ تَتَسَاقَطَانِ وَفِي التَّهْذِيبِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ أَقَسَمَ الْمُدَّعِي وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجَبِ الْقَسَامَةِ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى غَيْبَتِهِ يَوْمَ الْقَتْلِ أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعِي نُقِضَ الْحُكْمُ وَاسْتَرَدَّ الْمَالَ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ.

الرَّابِعُ: تَكْذِيبُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بَعْضَهُمْ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ زَيْدٌ أَبَانَا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ اللَّوْثُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ زَيْدٌ بَلْ كَانَ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْ زَيْدٍ، أَوْ قَالَ: بَرَأَ أَبِي مِنَ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بَطَلَ اللَّوْثُ، فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَمْ فَاسِقًا فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَتِيلَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَلَا يَكُونُ هَذَا لَوْثًا، وَلَوْ شَهِدَ أَوْ شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا وَادَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ، وَقِيلَ: لَا لَوْثَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَذَّبَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْضًا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا، أَوْ بَلْ قَتَلَهُ هَذَا لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ، عَدْلًا كَانَ الْمُكَذِّبُ أَوْ فَاسِقًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي الدَّعْوَى، مِثْلُ: إِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا نَعْلَمُ قَاتِلَهُ لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ غَائِبًا فَادَّعَى الْحَاضِرُ دُونَ الْغَائِبِ، أَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا عَلَى وَاحِدٍ وَنَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْأَيْمَانِ لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ لَا يُمْكِنُهُ مَجِيئُهُ إِلَيْهِ بَطَلَتِ الدَّعْوَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


59-موسوعة الفقه الكويتية (مجاهرة)

مُجَاهَرَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْمُجَاهَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْإِظْهَارُ، يُقَالُ: جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا أَظْهَرَهَا.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

قَالَ عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالْإِجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْإِظْهَارِ، يُقَالُ: جَهَرَ وَأَجْهَرَ بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ: إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِظْهَارُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْإِظْهَارِ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ وَالْإِبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، يُقَالُ: أَظْهَرَ الشَّيْءَ: بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ فُلَانًا عَلَى السِّرِّ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ وَالْإِظْهَارِ: أَنَّ الْمُجَاهَرَةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِظْهَارِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- الْمُجَاهَرَةُ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّبَجُّحِ وَالِافْتِخَارِ بِهَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعَةً، كَمَنْ قَوِيَ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَيَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاهَرَةِ:

الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي

4- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا، بَلْ يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ وَيَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا شَيْخَهُ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْجُو بِإِخْبَارِهِ أَنْ يُعْلِمَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا، أَوْ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، أَوْ يُعَرِّفُهُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهَا، أَوْ يَدْعُو لَهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ بِدَلِيلِ خَبَرِ مَنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.

5- وَجَعَلَ ابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ إِفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُبَاحِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوِقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ.

(ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 6).

الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ

6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَقَالُوا: مَنْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ يَكُونُ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ تَقِيٍّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي إِمَامَةِ الْفَاسِقِ بِالْجَوَارِحِ فَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الْمَشْهُورُ إِعَادَةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ أَبَدًا، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَتَرْكِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلَاةِ كَالزِّنَا وَغَصْبِ الْمَالِ أَجْزَأَتْهُ، لَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ شَارِبِ الْخَمْرِ أَعَادَ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ حِينَئِذٍ وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ هَلْ يَكُونُ إِمَامًا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ فَلَا.وَالْمَسْتُورُ الْمُعْتَرِفُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْكَامِلِ أَوْلَى، وَخَلْفَهُ لَا بَأْسَ بِهَا.

وَسُئِلَ عَمَّنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْكَذِبُ الْعَظِيمُ، أَوْ قَتَّاتٌ كَذَلِكَ، هَلْ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ؟ فَأَجَابَ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْمَشْهُورِ بِالْكَذِبِ وَالْقَتَّاتِ وَالْمُعْلِنِ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَمَّا مَنْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ فَلَا يَتْبَعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ وَلَيْسَ الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ كَغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ.

وَاخْتَارَ الشَّيْخَانِ أَنَّ الْبُطْلَانَ مُخْتَصٌّ بِظَاهِرِ الْفِسْقِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَقَالَ فِي الْوَجِيزِ: لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ الْمَشْهُورِ فِسْقُهُ.

عِيَادَةُ الْمُجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ

7- تُسَنُّ عِيَادَةُ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ».

وَلَا تُسَنُّ عِيَادَةُ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ إِذَا مَرِضَ لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ يُعَادُ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ.

قَالَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الرَّدْعِ، قَالَ: وَيُصَلِّي عَلَيْهِمُ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِالْمَعَاصِي وَمَنْ قُتِلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ وَلَا أَهْلُ الْفَضْلِ.

وَقَالَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوا الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ مَيِّتًا إِذَا كَانَ

فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ، فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

(ر: جَنَائِزُ ف 40).

السَّتْرُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ السَّتْرُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى أَوْ فَسَادٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ وَالْمُتَهَتِّكُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَلْ يُظْهَرُ حَالُهُ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ وَاجِبَهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً، لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْأَذَى وَالْفَسَادِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ سَتْرِ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ (ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 10 وَسَتْرٌ ف 2).

غِيبَةُ الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ

10- الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجَازُوا غِيبَةَ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ.

قَالَ الْخَلاَّلُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ) عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ». هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي

11- يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِنِ ارْتَدَعَ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا صِلَةٌ إِذَا كَانَ مُعْلِنًا مُكَاشِفًا.

قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ» إِذَا كَانَ الْهَجْرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنِ ارْتَكَبَ الْمَهْجُورُ بِدْعَةً أَوْ تَجَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، وَالْوَعِيدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.

إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ

12- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.

وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا: لَا يُجِيبُ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِفِسْقِهِ، وَكَذَا دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ حَلَالٌ.

إِنْكَارُ مَا يُجَاهِرُ بِهِ مِنْ مَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ

13- قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: إِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إِظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرَاقَتِهَا عَلَيْهِ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا الْكَافِرِ.

فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ إِرَاقَتِهِ وَمِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى إِظْهَارِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إِرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْهَى عَنِ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ وَلَا يُرِيقُهُ إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِئَلاَّ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِنْ حُوكِمَ فِيهِ.

وَمِنْ قَبِيلِ إِنْكَارِ مَا يُجَاهَرُ بِهِ مِنْ مُبَاحَاتٍ مَا نَقَلَهُ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ.

قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ، مِثْلُ الزَّمْرِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَكْسِرَهَا إِنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي كَسَرَهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِسْرَارِ بِهَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَّمَ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّاعَاتِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا

14- جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: الطَّاعَاتُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:

أَحَدُهَا: مَا شُرِعَ مَجْهُورًا بِهِ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجِهَادِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْأَمْوَاتِ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ إِخْلَاصِهِ فَيَأْتِيَ بِهِ مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَ، فَيَحْصُلَ عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعَلَى أَجْرِ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ.

الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلَانِهِ كَإِسْرَارِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِسْرَارِ أَذْكَارِهَا، فَهَذَا إِسْرَارُهُ خَيْرٌ مِنْ إِعْلَانِهِ.

الثَّالِثُ: مَا يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِبْدَاءِ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَنْ أَمِنَ مِنَ الرِّيَاءِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِخْفَاؤُهَا أَفْضَلُ إِذْ لَا يَأْمَنُ مِنَ الرِّيَاءِ عِنْدَ الْإِظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ الْإِبْدَاءُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ مَصْلَحَةِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَفَعَ الْأَغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي نَفْعِ الْفُقَرَاءِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


60-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 3)

نُشُوزٌ -3

ج- كَوْنُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ:

27- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، لَكِنَّهُ الْأَوْلَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَلِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْحَاكِمِ وَلَا فِي الْوَكِيلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إِرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ- حَكَمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٌ مِنْ أَهْلِهَا- إِنْ أَمْكَنَ، لِأَنَّ الْأَقَارِبَ أَعْرَفُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَأَقْعَدُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَأَطْيَبُ لِلْإِصْلَاحِ، وَنُفُوسُ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنُ إِلَيْهِمَا، فَيُبْرِزَانِ لَهُمَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمَا مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْثُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَهْلَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَالظَّاهِرُ نَقْضُ حُكْمِهِمَا، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مَعَ الْوِجْدَانِ وَاجِبٌ شَرْطٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُمَا مَعًا مِنَ الْأَهْلِ، بَلْ وَاحِدٌ فَقَطْ مِنْ أَهْلِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُضَمُّ لِأَهْلِ أَحَدِهِمَا أَجْنَبِيٌّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَتَرْكُ الْقَرِيبِ لِأَحَدِهِمَا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِئَلاَّ يَمِيلَ الْقَرِيبُ لِقَرِيبِهِ.

وَنَدَبَ كَوْنَهُمَا جَارَيْنِ فِي بَعْثِ الْأَهْلَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ وَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسِلُ مِنْ غَيْرِهِمَا.

وَقَالَ الْجَصَّاصُ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهَا وَالْآخِرُ مِنْ أَهْلِهِ لِئَلاَّ تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إِذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِهِ وَالْآخَرُ مَنْ قِبَلِهَا زَالَتِ الظِّنَّةُ، وَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّنْ هُوَ مِنْ قِبَلِهِ.

د- شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ الْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْحَكَمَيْنِ الذُّكُورَةُ وَالرُّشْدُ وَالْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِمَا حَكَمَا فِيهِ، وَبَطَلَ حُكْمُ غَيْرِ الْعَدْلِ- وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ- بِإِبْقَاءٍ أَوْ بِطَلَاقٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ فِي خُلْعٍ، وَبَطَلَ حُكْمُ سَفِيهٍ- وَهُوَ الْمُبَذِّرُ فِي الشَّهَوَاتِ وَلَوْ مُبَاحَةً عَلَى الْمَذْهَبِ- وَحُكْمُ امْرَأَةٍ، وَحُكْمُ غَيْرِ فَقِيهٍ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ مَا لَمْ يُشَاوِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ التَّكْلِيفُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِمَا بُعِثَا لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِيهِمَا ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِتَعَلُّقِ وَكَالَتِهِمَا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي أَمِينِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الذُّكُورَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَتُنْدَبُ وَتُشْتَرَطُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَكَمَانِ لَا يَكُونَانِ إِلاَّ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ عَدْلًا كَمَا لَوْ نُصِّبَ وَكِيلًا لِصَبِيٍّ أَوْ مُفْلِسٍ، وَيَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ، قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ تُعْتَبَرِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ اعْتُبِرَتِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ.

هـ- صِفَةُ الْحَكَمَيْنِ وَصَلَاحِيَّتُهُمَا:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، لَا يُبْعَثَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ يَفْعَلَانِ مَا يَرَيَانِ أَنَّهُ الْمَصْلَحَةُ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ أَوْ لَمْ يُوكِّلَاهُمَا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ:

30- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، أَحَدُهُمَا وَكَيْلُ الْمَرْأَةِ وَالْآخَرُ وَكِيلُ الزَّوْجِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ، قَالَ الرَّجُلَ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا يَنْقَلِبُ حَتَّى يُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَنَّ قَوْلَ الْحَكَمَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ.

وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الزَّوْجَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ عَلَى خُلْعٍ وَلَا عَلَى رَدِّ مَهْرِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بَعْثِهِمَا لَا يَجُوزُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ وَلَا إِخْرَاجِ الْمَهْرِ عَنْ مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُمَا إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْحَكَمَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي التَّفْرِيقِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ، وَلَا يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إِلاَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيُخْرِجَا الْمَالَ عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَمَنَعَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِ أَحَدٍ وَدَفْعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعَهُ إِلَى زَوْجِهَا، وَلَا يَمْلِكُ إِقَاعَ طَلَاقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلَا رِضَاهُ

31- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِزٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا، وَيَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا بِأَنْ كَانَ بِلَا عِوَضٍ، وَيُنَفَّذُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِهِ بَعْدَ إِيقَاعِهِ- وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلِلزَّوْجَيْنِ الَّذَيْنِ أَقَامَا الْحَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ الرُّجُوعُ- وَيُنَفَّذُ حُكْمُ الْحَاكِمَيْنِ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَوْ خَالَفَ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَدِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مُقَامَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَهُمَا الْحُكْمُ لَا الشَّهَادَةُ وَلَا الْوَكَالَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ وَلَا شَاهِدَانِ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، وَلِلْحَكَمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَكَّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ- أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: «أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا» فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا؟.

وَلَا يَلْزَمُ طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ الْحَكَمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا إِيقَاعُ الْأَكْثَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْإِصْلَاحِ الَّذِي بُعِثَا لَهُ فَلِلزَّوْجِ رَدُّ الزَّائِدِ، قَالَ الْآبِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُفَرِّقَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهِيَ بَائِنَةٌ فَإِنْ حَكَمَا بِهِ سَقَطَ.

وَإِنْ طَلَّقَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ وَاحِدَةً وَطَلَّقَ الْآخَرُ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّفَاقِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ.

وَإِنْ طَلَّقَ الْحَكَمَانِ، وَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ بِالْمَالِ لِلزَّوْجِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ كَوْنِهِ بِلَا مَالٍ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْتُهَا بِمَالٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: طَلَّقْتُهَا بِلَا مَالٍ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَاهَا مَعًا بِمَالٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِلَا مَالٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمِ الزَّوْجَةُ الْمَالَ فَلَا طَلَاقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَالُ كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ.

وَيَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- أَنْ يَأْتِيَا لِلْحَاكِمِ الَّذِي أَرْسَلَهُمَا فَيُخْبِرَاهُ بِمَا فَعَلَاهُ لِيَحْتَاطَ عِلْمُهُ بِالْقَضِيَّةِ، فَإِذَا أَخْبَرَاهُ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: حَكَمْتُ بِمَا حَكَمْتُمَا بِهِ.

وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ، جَازَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَرْجِعَا عَنِ التَّحْكِيمِ وَيَعْزِلَا الْحَكَمَيْنِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ وَيَعْزِمَا عَلَى الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ، أَمَّا إِنِ اسْتَوْعَبَاهُ وَعَزَمَا عَلَى ذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمَا عَنِ التَّحْكِيمِ، وَيَلْزَمُهُمَا مَا حَكَمَا بِهِ، سَوَاءٌ رَجَعَ أَحَدُهُمَا أَوْ رَجَعَا مَعًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ رَضِيَا بِالْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَوَّازِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: يَنْبَغِي إِذَا رَضِيَا مَعًا بِالْبَقَاءِ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: مَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُوَجَّهَيْنِ مِنَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ- أَيْ لِلزَّوْجَيْنِ- الْإِقْلَاعُ عَنِ التَّحْكِيمِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْحَكَمَانِ الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.

32- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ، وَالْبُضْعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَالُ حَقُّ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي حَقِّهِمَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ إِلاَّ فِي الْمَوْلَى وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّلُ الزَّوْجُ إِنْ شَاءَ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ الزَّوْجَةُ إِنْ شَاءَتْ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ لِلْخُلْعِ وَقَبُولِ طَلَاقٍ بِهِ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا.

وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي طَلَاقٍ أَنْ يُخَالِعَ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ أَفَادَهُ مَالًا فَوَّتَ عَلَيْهِ الرُّجْعَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي خُلْعٍ أَنْ يُطَلِّقَ مَجَّانًا.

وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَكَمَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ عَجِزَا أَيْضًا أَدَّبَ الْقَاضِي الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَأَخَذَ حَقَّ الْآخَرِ مِنْهُ.

وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ

حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ قَالَ الْخَطِيبُ: وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمَا فِي الْآيَةِ حَكَمَيْنِ، وَالْوَكِيلُ مَأْذُونٌ لَيْسَ بِحَكَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا، وَيَحْكُمَانِ بِمَا يَرَيَاهُ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِذَا رَأَى حَكَمُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ اسْتَقَلَّ بِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَإِنْ رَأَى الْخُلْعَ وَوَافَقَهُ حَكَمُهَا تَخَالَعَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ.

33- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَكَمَيْنِ:

فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، لَا يُرْسَلَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا، وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ حَقُّهُ وَالْمَالَ حَقُّهَا، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا أَوْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَلَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قُلْنَا: هُمَا وَكِيلَانِ فَلَا يَفْعَلَانِ شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ صُلْحٍ، وَتَأْذَنُ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَلَا يَصْلُحُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوَكَّلَا فِيهِ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ خَاصَّةً مِنْ وَكِيلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ فَتَصِحُّ بَرَاءَتُهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِعِوَضٍ، فَتَوْكِيلُهَا فِيهِ إِذْنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَمِنْهَا الْإِبْرَاءُ.

وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَخُلْعٍ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ.

و- إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ:

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالِ الشِّقَاقِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ يَكُونُ عَدْلًا رَشِيدًا ذَكَرًا فَقِيهًا بِمَا بُعِثَ لَهُ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَكَمَانِ مِنَ الْإِصْلَاحِ أَوِ التَّطْلِيقِ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ إِقَامَةِ الْوَلِيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَحْجُورَيْنِ حَكَمًا وَاحِدًا عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالرُّشْدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْفِقْهِ، وَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُمَا، فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْأَظْهَرُ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ وَحَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: لَا يَكْفِي حَكَمٌ وَاحِدٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي أَمْرِهِمَا بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِ كُلٍّ بِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُ.

وَقَالَ الْخَطِيبُ: اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ- النَّوَوِيِّ- عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِحَكَمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَّهِمُهُ وَلَا يُفْشِي إِلَيْهِ سِرَّهُ.

ز- مَا يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا اسْتَطَاعَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ رَفَعَا الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ فَرَّقَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ وَعَظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا، وَأَنْكَرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، وَأَعْلَمَا الْحَاكِمَ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُمَا لِأَجْلِ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَرِيبِهِ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا كَرِهَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فِي صَاحِبِكَ رَدَدْنَاهُ لِمَا تَخْتَارُ مَعَهُ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِصْلَاحُ نَظَرَ الْحَكَمَانِ: فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ بِلَا خُلْعٍ، أَيْ بِلَا مَالٍ يَأْخُذَانِهُ مِنْهَا لَهُ لِظُلْمِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْهَا ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا وَأَقَرَّاهَا عِنْدَهُ- إِنْ رَأَيَاهُ صَلَاحًا- وَأَمَرَاهُ بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، أَوْ خَالَعَا لَهُ بِنَظَرِهِمَا فِي قَدْرِ الْمُخَالَعِ بِهِ وَلَوْ زَادَ عَلَى الصَّدَاقِ، إِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ الْفِرَاقَ أَوْ عَلِمَا أَنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِصْلَاحِ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ إِنْ لَمْ تَرْضَ الزَّوْجَةُ بِالْمَقَامِ مَعَهُ، أَوْ لَهُمَا أَنْ يُخَالِعَا بِالنَّظَرِ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا لَهُ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ- أَيْ عَلَى الْخُلْعِ بِالنَّظَرِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ شُرَّاحِ الْمُدَوَّنَةِ- وَقَالَ الشَّبْرَخِيتِيُّ: إِنَّ الْأَوَّلَ- وَهُوَ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ- هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

وَقَالَ الْآبِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْرِقَةِ عِبَارَاتٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَرَّقَ الْحَكَمَانِ عَلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ فَلَا يَسْتَوْعِبَاهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ فَتْحُونٍ: إِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصُّلْحِ فَرَّقَا بِشَيْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ لَهُ، أَوْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى الْمُتَارَكَةِ دُونَ أَخْذٍ وَإِسْقَاطٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ الْمُتَيْطِيُّ.

وَعَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ فَيُخْبِرَاهُ بِمَا حَكَمَا بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِهِ بِهِ وَحَكَمِهَا بِهَا وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَا يُخْفِي حَكَمٌ عَنْ حَكَمٍ شَيْئًا إِذَا اجْتَمَعَا، وَيُصْلِحَانِ بَيْنَهُمَا أَوْ يُفَرِّقَانِ بِطَلْقَةٍ إِنْ عَسُرَ الْإِصْلَاحُ، وَيَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْتَاطَ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِوَكِيلِهِ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا، أَوْ طَلِّقْهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَالِي مِنْهَا اشْتَرَطَ تَقْدِيمَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا- كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَصْحِيحِ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ- لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ قَالَ: طَلِّقْهَا ثُمَّ خُذْ مَالِي مِنْهَا جَازَ تَقْدِيمُ أَخْذِ الْمَالِ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَكَالتَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فِيمَا ذُكِرَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ، كَأَنْ قَالَتْ: خُذْ مَالِي مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلِعْنِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْوِيَا الْإِصْلَاحَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَأَنْ يُلَطِّفَا الْقَوْلَ، وَأَنْ يُنْصِفَا، وَيُرَغِّبَا، وَيُخَوِّفَا، وَلَا يَخُصَّا بِذَلِكَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا.

ح- غِيَابُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنُونُهُ:

36- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّحْكِيمِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ بِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ إِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنَّ وَلَوْ بَعْدَ اسْتِعْلَامِ الْحَكَمَيْنِ رَأْيَهُ لَمْ يُنَفَّذْ أَمْرُهُمَا، لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْبَعْثِ لَمْ يَجُزْ بَعْثُ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ نُفِّذَ أَمْرُهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْوُكَلَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى- بِاعْتِبَارِهِمَا وَكِيلَيْنِ، وَهِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ- وَيَنْقَطِعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَعْتَبِرُهُمَا حَاكِمَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَنْقَطِعُ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِاعْتِبَارِهِمَا حَاكِمَيْنِ.

وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَى الْمَجْنُونِ، قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَأَضَافَ قَوْلَهُ: وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ نَظَرَهُمَا يَنْقَطِعُ أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ بَقَاءُ الشِّقَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إِمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَا قَدْ وَكَّلَاهُمَا فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ لَا بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّلَ جَازَ لِوَكِيلِهِ فِعْلَ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ.

وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا بَطَلَ حُكْمُ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ وَحُضُورَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ.

ط- امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَوْكِيلِ الْحَكَمَيْنِ:

37- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَا يُرْسَلُ الْحَكَمَانِ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِبَعْثِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنْ تَوْكِيلِهِمَا لَمْ يُجْبَرَا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَزَالُ الْحَاكِمُ يَبْحَثُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَنِ الظَّالِمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَيَرْدَعُهُ وَيُسْتَوْفِي مِنْهُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ إِقَامَةً لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


61-موسوعة الفقه الكويتية (نميمة)

نَمِيمَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي النَّمِيمَةِ لُغَةً: السَّعْيُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفِتْنَةِ، يُقَالُ: نَمَّ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ نَمًّا مِنْ بَابَيْ قَتَلَ وَضَرَبَ سَعَى بِهِ لِيُوقِعَ فِتْنَةً أَوْ وَحْشَةً فَالرَّجُلُ نَمٌّ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ وَنَمَّامٌ مُبَالَغَةٌ وَالِاسْمُ النَّمِيمَةُ وَالنَّمِيمُ أَيْضًا.

وَاصْطِلَاحًا: هِيَ نَقْلُ الْكَلَامِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ.

وَعَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ: بِأَنَّهَا كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوِ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَشْفُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْكِتَابَةِ أَوِ الرَّمْزِ أَوِ الْإِيمَاءِ أَوْ نَحْوِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ مِنَ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَعْمَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ، فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ: إِفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْغِيبَةُ:

2- الْغِيبَةُ لُغَةً: مِنَ الِاغْتِيَابِ، وَاغْتَابَهُ اغْتِيَابًا: إِذَا ذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهُوَ حَقُّ، وَالِاسْمُ الْغِيبَةُ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بُهْتٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ: أَنَّ النَّمِيمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْغِيبَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَكْرَهُ الْمُغْتَابُ، بِخِلَافِ النَّمِيمَةِ فَإِنَّهَا نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ، سَوَاءٌ فِيمَا يَكْرَهُهُ أَوْ لَا يَكْرَهُهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- النَّمِيمَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}.وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ».وَالْقَتَّاتُ النَّمَّامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرَةٍ، وَإِنَّهُ لِكَبِيرٌ، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ النَّمِيمَةَ مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِحِلِّهَا أَوْ جَوَازِهَا.

وَعَدَّهَا الْفُقَهَاءُ مِنَ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدِ الْإِفْسَادُ بَيْنَ النَّاسِ.

مَا يَجِبُ عَلَى النَّمَّامِ:

4- يَجِبُ عَلَى النَّمَّامِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فِعْلِهِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 4).وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ وَمِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لأَنْ أَتَوَضَّأَ مِنَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَضَّأَ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ.وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: الْحَدَثُ حَدَثَانِ حَدَثُ اللِّسَانِ وَحَدَثُ الْفَرْجِ وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَمَلَ الشِّيرَازِيُّ هَذِهِ الْآثَارَ عَلَى الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَذَلِكَ حَمَلَهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.

وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا غَسْلَ الْفَمِ، وَكَذَا حَمَلَهَا الْمُتَوَلِّي عَلَى غَسْلِ الْفَمِ، وَحَكَى الشَّاشِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ كَلَامَ ابْنِ الصَّبَّاغِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، قَالَ: وَالْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَسْلَ الْفَمِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا جَرَى مِنَ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَحَصَلَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَوِ الصَّوَابَ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْفُحْشِ وَأَشْبَاهِهَا.

مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النَّمِيمَةَ:

5- يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النَّمِيمَةَ أُمُورٌ:

الْأُولَى: أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ وَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْصَحَ لَهُ وَيُقَبِّحَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَيَذْكُرَ لَهُ قَوْلَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}.وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْآيَةِ: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}.وَإِنْ شِئْتَ عَفْوَنَا عَنْكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا.وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَحْنُ نَرَى أَنَّ قَبُولَ السِّعَايَةِ شَرٌّ مِنَ السِّعَايَةِ، لِأَنَّ السِّعَايَةَ دَلَالَةٌ وَالْقَبُولَ إِجَازَةٌ وَلَيْسَ مَنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَأَخْبَرَ بِهِ كَمَنْ قَبِلَهُ وَأَجَازَهُ، فَاتَّقُوا السَّاعِيَ فَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ لَكَانَ لَئِيمًا فِي صِدْقِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْفَظِ الْحُرْمَةَ وَلَمْ يَسْتُرِ الْعَوْرَةَ.

وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» وَقَالَ رَجُلٌ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ الْأَسْوَارِيَّ مَا يَزَالُ يَذْكُرُكَ فِي قَصَصِهِ بِشَرٍّ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: يَا هَذَا مَا رَعَيْتَ حَقَّ مُجَالَسَةِ الرَّجُلِ حَيْثُ نَقَلْتَ إِلَيْنَا حَدِيثَهُ، وَلَا أَدَّيْتَ حَقِّي حِينَ أَعْلَمْتَنِي عَنْ أَخِي مَا أَكْرَهُ، وَلَكِنْ أَعْلِمْهُ أَنَّ الْمَوْتَ يَعُمُّنَا وَالْقَبْرَ يَضُمُّنَا وَالْقِيَامَةَ تَجْمَعُنَا وَاللَّهَ تَعَالَى يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَبْغَضَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ بَغِيضٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ بُغْضُ مَنْ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى.

الرَّابِعُ: أَنْ لَا تَظُنَّ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ السُّوءَ لقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.

الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَحْمِلَكَ مَا حُكِيَ لَكَ عَلَى التَّجَسُّسِ وَالْبَحْثِ لِتَتَحَقَّقَ اتِّبَاعًا لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}

السَّادِسُ: أَنْ لَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ مَا نَهَيْتَ النَّمَّامَ عَنْهُ وَلَا تَحْكِي نَمِيمَتَهُ فَتَقُولُ: فُلَانٌ حَكَى لِي كَذَا وَكَذَا فَتَكُونَ نَمَّامًا وَمُغْتَابًا، وَتَكُونَ قَدْ أَتَيْتَ مَا عَنْهُ نَهَيْتَ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


62-موسوعة الفقه الكويتية (هزل 2)

هَزْلٌ -2

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَزْلُ فِي عُقُودٍ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَالْمَالُ فِيهَا مَقْصُودٌ

28- هُنَاكَ عُقُودٌ، لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَيَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا، أَيْ أَنَّ الْمَالَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَجِبُ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ هِيَ: الْخُلْعُ، وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ، وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ.

فَإِذَا وَقَعَ الْهَزْلُ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقَعَ الْهَزْلُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي قَدْرِ الْمُسَمَّى مِنَ الْمَالِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ كَمَا إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ، أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفٌ، أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ، وَنُوَضِّحُ آرَاءَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَلِي:

أ- الْهَزْلُ فِي أَصْلِ الْخُلْعِ:

29- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَزَلَ الزَّوْجَانِ فِي أَصْلِ الْخُلْعِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، أَوْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الْإِعْرَاضِ، أَوْ يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ:

الصُّورَةُ الْأُولَى: الْهَزْلُ فِي أَصْلِ الْخُلْعِ:

30- إِذَا هَزَلَ الزَّوْجَانِ بِأَصْلِ الْخُلْعِ، بِأَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا يُخَالِعَانِ بِكَذَا عِنْدَ النَّاسِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ هَزْلًا، وَأَشْهَدَا عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَا بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ بَنَيَا الْعَقْدَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ:

فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَالْمَالَ لَازِمٌ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخُلْعِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَحْتَمِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَا فِي الْخُلْعِ الْخِيَارَ لَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ؛ لأَنَّ الْخُلْعَ تَصَرُّفُ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ، فَلَا يُحْتَمَلُ الْخِيَارُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَإِذَا لَمْ يُحْتَمَلِ الْخِيَارُ لَا يُحْتَمَلُ الْهَزْلُ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ.

هَذَا، وَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، أَوْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، أَوْ بِالِاخْتِلَافِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْجِدِّ وَإِسْقَاطِ الْهَزْلِ، سَوَاءٌ هَزِلَا بِأَصْلِ الْعَقْدِ، أَوْ بِقْدَرِ الْبَدَلِ، أَوْ بِجِنْسِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهَا.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: كَمَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّكِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُ الْمَالُ.وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ رَدَّتِ الطَّلَاقَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَطَلَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَجَازَتْ، أَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ لَازِمٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله-: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الِاتِّفَاقُ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْهَزْلِ:

31- إِذَا أَعْرَضَ الزَّوْجَانِ فِي الْخُلْعِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ كَانَ جِدًّا، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَوَجَبَ الْمَالُ الْمُسَمَّى عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ؛ فَلِأَنَّ الْهَزْلَ بَاطِلٌ مِنَ الْأَصْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِأَنَّ الْهَزْلَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ أَوْ فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا:

32- إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ، حَتَّى لَزِمَ التَّصَرُّفُ وَوَجَبَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْهَزْلَ مُؤَثِّرًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْوُقُوعِ؛ وَفِي الْخُلْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَقَعُ؛ كَمَا جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْبَيْعِ؛ ثُمَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ تَرْجِيحًا لِلْجِدِّ- الَّذِي هُوَ أَصْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَى الْهَزْلِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.

وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) الْخُلْعُ جَائِزٌ أَيْ لَازِمٌ وَالْمَالُ وَاجِبٌ، وَلَا يُفِيدُ اخْتِلَافُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْهَزْلِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ لِأَنَّ الْهَزْلَ عِنْدَهُمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَلَا فِي الْمَالِ فِي حَالِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ؛ فَفِي حَالِ الِاخْتِلَافِ أَوْلَى أَلاَّ يُؤَثِّرَ.

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: السُّكُوتُ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالْبِنَاءِ، حَيْثُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ.

33- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ أَيْ لَازِمٌ حَتَّى وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَ الْمَالُ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِرُجْحَانِ جَانِبِ الْجِدِّ عِنْدَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَلِبُطْلَانِ الْهَزْلِ.

ب- الْهَزْلُ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمُخَالَعِ عَلَيْهِ:

34- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْهَزْلُ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمُخَالَعِ عَلَيْهِ، بِأَنْ سَمَّى الزَّوْجَانِ أَلْفَيْنِ، وَالْبَدَلُ فِي الْوَاقِعِ أَلْفٌ، أَيْ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفٌ: فَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ- بَعْدَ الْمُخَالَعَةِ- عَلَى بِنَائِهِمَا الْعَقْدَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ: فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ لَازِمٌ كُلُّهُ، وَهُوَ الْأَلْفَانِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخُلْعِ عِنْدَهُمَا؛ وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْمَالِ، لَكِنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلْخُلْعِ، وَثَابِتٌ فِي ضِمْنِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْهَزْلُ فِيهِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْبَدَلِ، وَبَعْضُ الْبَدَلِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ، فَبَعْضُ الطَّلَاقِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهَا، لَكِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ فَتَعَلَّقَ الْكُلُّ بِاخْتِيَارِهَا، فَمَا لَمْ تَقْبَلْ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ لَا يَقَعُ، وَقَدْ عَبَّرَ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ رَأْيِ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى مَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ، لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ: أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ.وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهَا.

وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْهَزْلِ لَزِمَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ كُلُّهُ لِرِضَاهُمَا بِذَلِكَ.

وَكَذَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْجِدِّ، وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنَ الْمُوَاضَعَةِ.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِبُطْلَانِ الْهَزْلِ مِنَ الْأَصْلِ، فَكَذَا فِي الْمَالِ تَبَعًا، حَتَّى وَجَبَ الْمَالُ فِيمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْهَزْلُ فِيهِ، فَفِيمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنِ اخْتَلَفَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ عَنِ الْهَزْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْجِدِّ عِنْدَهُ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِبُطْلَانِ الْهَزْلِ مِنَ الْأَصْلِ عِنْدَهُمَا، فَالِاخْتِلَافُ لَا يُفِيدُ.

ج- الْهَزْلُ فِي جِنْسِ الْمَالِ الْمُخَالَعِ عَلَيْهِ.

35- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْهَزْلُ فِي جِنْسِ الْمَالِ الْمُخَالَعِ عَلَيْهِ، بِأَنْ تَوَاضَعَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَيَكُونَ الْبَدَلُ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ صَاحِبَيْهِ:

فَيَرَى الصَّاحِبَانِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِكُلِّ حَالٍ، أَيْ سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ وَذَلِكَ لِبُطْلَانِ الْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَهُمَا، فَكَذَا فِي الْمَالِ، أَوْ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ فَكَذَا فِي الْمَالِ، تَبَعًا لِلْأَصْلِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ، وَجَبَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ لِصَيْرُورَةِ الْهَزْلِ بَاطِلًا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَلِرِضَاهُمَا بِهِ.

وَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، تَوَقَّفَ الطَّلَاقُ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْجِدِّ، وَاخْتِيَارِهَا الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ مَنَعَ صِحَّةَ قَبُولِ الْمَرْأَةِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِقَبُولِ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ لَمْ تَقْبَلْ، فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ.

وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ وَجَبَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ الدَّنَانِيرُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْجِدِّ.

وَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، فِي الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ...فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الْأَصْلَ عِنْدَ الْإِمَامِ.

وَفِي كُلٍّ مِنَ الْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ مِثْلُ مَا فِي الطَّلَاقِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالتَّعْرِيفَاتِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْهَزْلِ بِالْخُلْعِ كَحُكْمِ الطَّلَاقِ هَزْلًا لِلْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ». وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ طَلَاقَ الْهَازِلِ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يُدَيَّنُ.

جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: إِذَا تَخَالَعَا هَازِلَيْنِ نَفَذَ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ طَلَاقٌ، وَإِنْ قُلْنَا فَسْخٌ فَهُوَ كَبَيْعِ الْهَازِلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي (ف 19).

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنْ تَخَالَعَا هَازِلَيْنِ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَوْ نِيَّتِهِ صَحَّ الطَّلَاقُ، أَمَّا إِنْ تَخَالَعَا هَازِلَيْنِ بِغَيْرِ لَفْظِ طَلَاقٍ وَلَا نِيَّتِهِ فَلَا يَصِحُّ الْخُلْعُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْعِوَضِ، كَمَبِيعٍ....

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْهَزْلُ فِي التَّبَرُّعَاتِ.

أ- الْهَزْلُ فِي الْهِبَةِ:

36- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هِبَةِ الْهَازِلِ وَلَهُمْ فِي حُكْمِهَا قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ هِبَةِ الْهَازِلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ هَزْلًا وَلَا تُلْجِئُةً، بِأَلاَّ تُرَادَ الْهِبَةُ بَاطِنًا، كَأَنْ تُوهَبَ فِي الظَّاهِرِ وَتُقْبَضَ، مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، أَوْ تُوهَبَ لِخَوْفٍ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تَصِحُّ، وَلِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُهَا إِذَا زَالَ مَا يَخَافُ، أَوْ جُعِلَتِ الْهِبَةُ طَرِيقًا إِلَى مَنْعِ وَارِثٍ حَقَّهُ، أَوْ مَنْعِ غَرِيمٍ حَقَّهُ فَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.

وَنَصَّ فِي الِاخْتِيَارَاتِ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّمْلِيكَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْهَازِلِ عَلَى الصَّحِيحِ.

ب- الْهَزْلُ فِي الْوَقْفِ:

37- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى حُكْمِ الْهَزْلِ بِالْوَقْفِ، وَلَهُمْ فِي حُكْمِهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْهَازِلِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَقْفُهُ. قَالَ الْبَهْوَتِيُّ: وَوَقْفُ الْهَازِلِ...إِنْ غَلَبَ عَلَى الْوَقْفِ جِهَةُ التَّحْرِيرِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ كَالْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شِبْهُ التَّمْلِيكِ، فَيُشْبِهُ الْهِبَةَ وَالتَّمْلِيكَ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْهَازِلِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ.

ج- الْهَزْلُ فِي الْوَصِيَّةِ:

38- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُوصِي: رِضَا الْمُوصِي؛ لِأَنَّهَا إِيجَابُ مِلْكٍ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الرِّضَا، كَإِيجَابِ الْمَلِكِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَفَوِّتُ الرِّضَا.

د- تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ:

39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ هَازِلًا قَبْلَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ كَالسُّكُوتِ مُخْتَارًا، إِذِ اشْتِغَالُهُ بِالتَّسْلِيمِ هَازِلًا سُكُوتٌ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ ضَرُورَةً، وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِحَقِيقَةِ السُّكُوتِ مُخْتَارًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِهَا، فَكَذَا تَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ حُكْمًا.

أَمَّا بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ بَاطِلٌ، وَالشُّفْعَةُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَطَلَ التَّسْلِيمُ، وَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ تَسْلِيمَ شُفْعَةِ الصَّبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، كَمَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَهُ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ الرِّضَا بِهِ، فَيَبْطُلُ التَّسْلِيمُ، فَكَذَا الْهَزْلُ يَمْنَعُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، فَيَبْطُلُ بِهِ التَّسْلِيمُ، كَمَا يَبْطُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ.

هـ- إِبْرَاءُ الْغَرِيمِ هَزْلًا:

40- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاءَ الْغَرِيمِ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَقَالُوا: يَبْطُلُ إِبْرَاءُ الْغَرِيمِ مِنْ دَيْنِهِ هَزْلًا، فَلَوْ أَبْرَأَهُ هَازِلًا، لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَإِلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ أُشِيرَ فِي قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَيُؤَثِّرُ فِي الْإِبْرَاءِ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَكَذَا الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ.

و- إِبْرَاءُ الْكَفِيلِ هَزْلًا:

41- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ هَازِلًا لَا يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيلَ عَلَى عَيْنٍ، وَهَلَكَتِ الْعَيْنُ، أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَتَعُودُ الْكَفَالَةُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَمْنَعُهُ مِنَ الثُّبُوتِ، كَالْخِيَارِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْهَزْلُ فِي الْإِخْبَارَاتِ:

42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْهَزْلَ يُبْطِلُ الْإِخْبَارَاتِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَاتِ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ إِخْبَارًا عَمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ إِخْبَارًا شَرْعًا وَلُغَةً كَمَا إِذَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِأَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا، أَوْ بِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ بِكَذَا، أَوْ كَانَتْ إِخْبَارًا لُغَةً فَقَطْ، كَمَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ كَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ الْحُكْمُ الَّذِي صَارَ الْخَبَرُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِعْلَامًا بِثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالْهَزْلُ يُنَافِي ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا، كَذَلِكَ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِهِمَا هَازِلًا؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ دَلِيلُ الْكَذِبِ كَالْإِكْرَاهِ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهَزْلِ بِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَلْحَقُ شَيْئًا مُنْعَقِدًا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ، وَبِالْإِجَازَةِ لَا يَصِيرُ الْكَذِبُ صِدْقًا، وَهَذَا بِخِلَافِ إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ فِيهِ لِلْهَزْلِ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ: أَقْرَرْتُ بِكَذَا وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَيْثُ قَالَهُ نَسَقًا (أَيْ بِدُونِ فَصْلٍ فِي الْكَلَامِ)، وَلَمْ تُكَذِّبْهُ الْبَيِّنَةُ.وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا قَالَ: أَقْرَرْتُ بِكَذَا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ حَيْثُ قَالَهُ نَسَقًا؛ لِأَنَّ هَذَا خَارِجٌ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ؛ فَلَوْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْرِ أَكُنْتُ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ بَالِغٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُلُوغِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَكُنْتُ عَاقِلًا أَمْ لَا فَيَلْزَمُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَقْلُ حَتَّى يَثْبُتَ انْتِفَاؤُهُ.

وَجَاءَ فِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ اعْتِذَارًا: سُمِعَ أَشْهَبُ: مَنِ اشْتَرَى مَالًا فَسَأَلَ الْإِقَالَةَ، فَقَالَ: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى أَبِي، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، فَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ ظَاهِرَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَازِمَهُ، وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهُ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: وَإِنْ سُئِلَ كِرَاءَ مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: هُوَ لِابْنَتِي ثُمَّ مَاتَ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِهَذَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فِي حِجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَذَرُ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ يُرِيدُ مَنْعَهُ.

وَسُمِعَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ: لَوْ سَأَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلًا، فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَالَ لِثَانٍ وَثَالِثٍ ذَلِكَ الْقَوْلَ عِنْدَمَا سَأَلَاهُ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِهَذَا.

وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلسُّلْطَانِ فِي الْأَمَةِ: وَلَدَتْ مِنِّي، وَفِي الْعَبْدِ هُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِئَلاَّ يَأْخُذَهُمَا السُّلْطَانُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ فِيهِ.أَيْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ:

فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى الْخَطِيبِ: أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَلَوْ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا أَوْ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ.

وَجَاءَ فِي نَيْلِ الْمَآرِبِ: لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إِلاَّ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ وَلَوْ كَانَ الْمُقِرُّ هَازِلًا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ مِنَ الْإِقْرَارِ وَمَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ- سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ- فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَار، ف 59- 69).

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْهَزْلُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ:

إِذَا هَزَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا يَمَسُّ عَقِيدَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَهْزِلَ بِمَا يُوجِبُ كُفْرًا، أَوْ يَهْزِلَ بِمَا يُوجِبُ إِسْلَامًا.

أ- هَزْلُ الْمُسْلِمِ بِمَا يُوجِبُ كُفْرًا:

43- إِنْ هَزَلَ الْمُسْلِمُ بِمَا يُوجِبُ كُفْرًا، كَأَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ مَلَائِكَتَهُ، أَوْ كُتُبَهُ، أَوْ رُسُلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ، أَوِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ تَفْصِيلَاتٍ نُوَضِّحُهَا فِيمَا يَلِي:

نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ فِي الرِّدَّةِ كُفْرٌ، كَقَوْلِهِ لِلصَّنَمِ إِلَهٌ- هَزْلًا- وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْهَازِلُ مَا هَزَلَ بِهِ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ كَفَرَ بِعَيْنِ تَلَفُّظِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ هَزْلًا؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ نَطَقَ بِذَلِكَ عَنْ رِضًا وَاخْتِيَارٍ فَتَعَيَّنَ فِي حَقِّهِ الْهَزْلُ جِدًّا، وَلِكَوْنِ الْهَزْلِ بِذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ الْحَقِّ كُفْرٌ وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَبِالْقِيَاسِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (64) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (65) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.

قَالَ الْجَصَّاصُ: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اللاَّعِبَ وَالْجَادَّ سَوَاءٌ فِي إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا مَا قَالُوهُ لَعِبًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّعِبِ.وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ كُفْرَ الْهَازِلِ بِذَلِكَ كَكُفْرِ الْعِنَادِ، أَيْ كَكُفْرِ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وَامْتَنَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، عِنَادًا وَمُخَالَفَةً، فَإِنَّهُ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ بِصَرِيحٍ- كَقَوْلِهِ: الْعُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ- أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، كَأَنْ يَجْحَدَ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ وَيَقْتَضِيهِ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَذِرٍ، أَوْ حَرْقِهِ اسْتِخْفَافًا، وَشَدِّ زُنَّارٍ فِي وَسَطِهِ بِأَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَحَبَّةً فِي ذَلِكَ الزِّيِّ وَمَيْلًا لِأَهْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ فَعَلَهُ هَزْلًا وَلَعِبًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْكُفْرِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ هِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ، وَدَوَامُهُ بِنِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَطْعُ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ قَوْلِ كُفْرٍ، أَوْ فِعْلِ مُكَفِّرٍ، وَسَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً، أَوْ عِنَادًا أَوِ اعْتِقَادًا لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (65) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.

ب- هَزْلُ الْكَافِرِ بِمَا يُوجِبُ إِسْلَامًا:

44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا هَزَلَ الْكَافِرُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا:

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِإِيمَانِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ بَاشَرَ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَا، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَيْهِ، كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَسْلَمَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.

وَهُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ إِنْشَاءٍ لَا يَقْبَلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَدَّ إِسْلَامُهُ بِسَبَبٍ كَمَا يُرَدُّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا الْإِسْلَامُ هَازِلًا فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ، تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: لَوْ أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْحِكَايَةِ، وَقَالَ: لَمْ أُرِدِ الْإِسْلَامَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي رِوَايَتَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَوْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ هَازِلًا أُلْزِمَ بِهِ وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ظَاهِرًا.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْهَزْلُ فِي الْجِنَايَاتِ.

45- صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَثَرِ الْهَزْلِ فِي الْقَذْفِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْهَزْلَ بِالْقَذْفِ كَالْجِدِّ بِهِ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا وَلَدَ الزِّنَا، وَلَوْ كَانَ هَازِلًا، كَانَ قَاذِفًا لأُِمِّهِ، فَيُحَدُّ لَهَا حَدَّ الْقَذْفِ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ إِقَامَةِ الْحَدِّ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ مَنْ تَعَوَّدَ الْهَزْلَ بِالْقَبِيحِ عُزِّرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


63-الغريبين في القرآن والحديث (رعى)

(رعى)

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.

أي: حافظون، والأصل في الرعي: القيام على إصلاح ما يتولى الراعي من كل شيء.

وفي حديث عمر رضي الله عنه: (لا يعطي من المغانم شيء حتى تقسم إلا لراع أو دليل) الراعي- ههنا- عين: القوم على العدو.

وفي حديث ابن عباس: (إذا كانت عندك شهادة فسئلت عنها فأخبر بها، ولا تقل: حتى آتي الأمير لعله يرجع أو ير عوي).

قال أبو عبيد: الأرعواء: الندم على الشيء والانصراف عنه الترك له، وقد

جاءنا درا في هذا الباب لا يعرف في المعتلات مثله كأنه بنوه على الرعوى، وهو الإبقاء.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


64-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الإعارة التكرار)

الْفرق بَين الْإِعَارَة التّكْرَار

أَن التّكْرَار يَقع على إِعَادَة الشَّيْء مرّة وعَلى إِعَادَته مَرَّات والإعادة للمرة الْوَاحِدَة أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل أعَاد فلَان كَذَا لَا يُفِيد إِلَّا إِعَادَته مرّة وَاحِدَة وَإِذا قَالَ كرر هَذَا كَانَ كَلَامه مُبْهما لم يدر أَعَادَهُ مرَّتَيْنِ أَو مَرَّات وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَال أَعَادَهُ مَرَّات وَلَا يُقَال كَرَّرَه مَرَّات إِلَّا أَن يَقُول ذَلِك عَامي لَا يعرف الْكَلَام وَلِهَذَا قَالَت الْفُقَهَاء الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَالنَّهْي يقتض التّكْرَار وَلم يَقُولُوا الاعارة وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِأَن النَّهْي الْكَفّ عَن الْمنْهِي وَلَا شيق فِي الْكَفّ عَنهُ وَلَا حرج فَاقْتضى الدَّوَام والتكرار وَلَو اقْتضى الْأَمر التّكْرَار للحق الْمَأْمُور بِهِ الضّيق والتشاغل بهْن أُمُوره فَاقْتضى فعله مرّة وَلَو كَانَ ظَاهر الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار مَا قَالَ سراقه للنَّبِي لِلْأَبَد قَالَ وَلَو قَالَت نعم لَوَجَبَتْ فَأخْبر أَن الظَّاهِر لَا يُوجِبهُ وَأَنه يصير وَاجِبا بقوله والمنهي عَن الشَّيْء إِذا عَاد إِلَى فعله لم يقل إِنَّه قد انْتهى عَنهُ وَإِذا أَمر بالشَّيْء فَفعله مرّة وَاحِدَة لم يقل إِنَّه لم يَفْعَله فَالْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي فِي ذَلِك ظَاهر وَمَعْلُوم أَن من يولل غَيره بطلاف امراته كَانَ لَهُ أَن يُطلق مرّة وَاحِدَة وَمَا كَانَ من أوَامِر الْقُرْآن مقتضيا للتكرار فَإِن ذَلِك قد عرف من حَالَة بِدَلِيل لَا يظاهره وَلَا يتَكَرَّر الْأَمر مَعَ الشَّرْط أَيْضا أَلا ترى أَن من قَالَ لغلامه اشْتَرِ اللَّحْم دخلت السُّوق لم يعقل ذَلِك التّكْرَار.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


65-المغرب في ترتيب المعرب (‏فقر-‏الفقير‏)

‏ (‏فقر‏) ‏‏

(‏الْفَقِيرُ‏) ‏ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْس لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ‏ {‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ‏} ‏ فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً وَهِيَ تُسَاوِي جُمْلَة وَقَالَ ‏ {‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ‏} ‏ وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاعِي أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَمَعْنَاهُ كَانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ فِيمَا مَضَى فَالْآن مَا بَقِيَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَالَة ‏ (‏وَالْحَلُوبَةُ‏) ‏ النَّاقَةُ الَّتِي تُحْلَب ‏ (‏وَقَوْلُهُ‏) ‏ لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدٌ مِنْ مَثَلِ الْعَرَبِ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَا لَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ أَيْ شَيْءٌ وَالسَّبَدُ‏) ‏ فِي الْأَصْل الشَّعْرُ ‏ (‏وَاللَّبَدُ‏) ‏ الصُّوفُ ‏ (‏وَفْقَ الْعِيَالِ‏) ‏ أَيْ لَبَنُهَا يَكْفِيهِمْ ‏ (‏وَالْفَقِير‏) ‏ البير وَجَمْعُهُ فُقُرٌ ‏ (‏وَأَفْقَرْتُ‏) ‏ فُلَانًا بَعِيرًا أَيْ أَعَرْتُهُ إيَّاهُ لِيَرْكَبَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ‏ (‏فَقَارِ‏) ‏ الظَّهْرِ وَهِيَ ‏ (‏خَرَزَاتُهُ‏) ‏ الْوَاحِدَةُ فَقَارَة وَأَفْقَرَ فِي ‏ (‏ن ج‏) ‏‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


66-التعريفات الفقهية (الحَدِيث القُدْسي)

الحَدِيث القُدْسي: ما أخبر الله تعالى به نبيَّه بإلهام أو بالمنام فأخبر عليه الصلاة والسلام على ذلك المعنى بعبارة نفسه، وللقرآن المجيد تفضيل عليه، لأن نظمه منزل وهو معجزة.

التعريفات الفقهية-محمد عميم الإحسان-صدر: 1407هـ/1986م


67-تعريفات الجرجاني (الحديث القدسي)

الحديث القدسي: هو من حيث المعنى من عند الله تعالى، ومن حيث

اللفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما أخبر الله تعالى نبيه بإلهام أو بالمنام، فأخبر عليه السلام عن ذلك المعنى بعبارة نفسه، فالقرآن مفضلٌ عليه؛ لأن لفظه منزل أيضًا.

التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م


68-طِلبة الطلبة (حمر)

(حمر):

وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْوِتْرِ «هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» بِتَسْكِينِ الْمِيمِ جَمْعُ أَحْمَرَ وَالنَّعَمُ وَاحِدُ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الْبَهَائِمُ وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْإِبِلُ الْحُمْرُ أَعَزُّ أَمْوَالِ الْعَرَبِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


69-طِلبة الطلبة (وقف)

(وقف):

الْوَقْفُ الْحَبْسُ لُغَةً وَوَقْفُ الضَّيْعَةِ هُوَ حَبْسُهَا عَنْ تَمَلُّكِ الْوَاقِفِ وَغَيْرِ الْوَاقِفِ وَاسْتِغْلَالُهَا لِلصَّرْفِ إلَى مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَصَارِفِ وَلِذَا سُمِّيَ حَبِيسًا فِيمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ أَيْ بِجَوَازِ مَا حَبَسُوهُ بِالْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «اسْتَفَادَ مَالًا نَفِيسًا أَيْ مَلَكَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْعَى ثَمْغًا هُوَ اسْمُ تِلْكَ الضَّيْعَةِ الَّتِي مَلَكَهَا فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ لِيُنْفَقَ ثَمَرَتُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لِلْغُزَاةِ وَفِي الرِّقَابِ أَيْ الْمُكَاتِبِينَ وَفِي الضَّيْفِ وَفِي الْمَسَاكِينِ وَلِذِي الْقُرْبَى أَيْ لِأَقْرِبَائِهِ» وَكَانَ فِيهِ وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَيْ بَاشَرَ أَمْرَهُ بِنَفْسِهِ وَتَوَلَّاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ أَوْ يُؤَكِّلُ صَدِيقًا لَهُ أَيْ يُطْعِمُ صَدِيقَهُ أَيْضًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ أَيْ غَيْرَ جَامِعٍ الْمَالَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ هَذَا الْوَقْفِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَمَا رُوِيَ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إلَّا مَقْبُوضَةٌ مَحُوزَةٌ أَيْ مَجْمُوعَةٌ وَقَدْ حَازَ يَحُوزُ حَوْزًا وَحِيَازَةً إذَا جَمَعَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمَةُ فَإِنَّهَا جَمْعُ الْأَنْصِبَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي مَحَلٍّ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا أَيْ تَوَالَدُوا وَالنَّسْلُ الْوَلَدُ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


70-تاج العروس (سبأ)

[سبأ]: سَبَأ الخَمْرَ كجَعَل يَسْبَؤُها سبْأً وَسِبَاءً ككتاب ومَسْبَأً: شَرَاهَا الأَكثر استعمالُ شَرى في مَعنى البَيْعِ والإِخراج، نحو قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَي باعوه، ولذا فَسَّره في الصحاح والعباب باشتراها، لأَنه المعروف في معنى الأَخذ والإِدخال، نحو: {إِنَّ اللهَ اشْتَرى}، وإِن كان كلٌّ مِنْ شَرَى وباعَ يُستعمل في المعنيينِ، وكذا فَسَّره ابنُ الأَثير أَيضًا، وزاد الجوهريُّ والصغانيُّ قَيْدًا آخَرَ، وهو لِيَشْربَها، قال إِبراهيمُ بنُ عليِّ بن مُحمّد بن سَلَمة بن عامرِ بن هرْمَةَ:

خَوْدٌ تُعاطِيكَ بَعْدَ رَقْدَتِها *** إِذَا يُلَاقي العُيُونَ مَهْدَؤُهَا

كَأْسًا بِفيِها صَهْبَاءَ مُعْرَقَةً *** يَغْلُو بِأَيْدِي التِّجَارِ مَسْبَؤُهَا

قوله مُعْرَقَةً أَي قَليلَة المِزاجِ؛ أَي أَنها مِن جَوْدَتِها يَغْلُو اشْتِراؤُهَا، قال الكِسائيُّ: وإِذا اشْتَرَيْتَ الخمرَ لتَحْمِلها إِلى بَلَدٍ آخَر قُلت: سَبَيْتُهَا، بلا هَمْزٍ، وعلى هذه التفرقةِ مَشاهيرُ اللُّغوِيِّين إِلّا الفَيُّومِيَّ صاحبَ المِصباح فإِنه قال: ويُقال في الخمرِ خَاصَّةً سَبَأْتُها، بالهمز إِذا جَلَبْتَها من أَرْضٍ إِلى أَرْضٍ، فهي سَبِيئَةٌ، قاله شيخُنا كاسْتَبَأهَا، ولا يقال ذلك إِلّا في الخَمْرِ خَاصَّةً، قال مالكُ بنُ أَبِي كَعْبٍ:

بَعَثْتُ إِلى حانُوتِها فَاسْتَبَأْتُهَا

وَبيَّاعُها السَّبَّاءُ كعَطَّارٍ، وقال خالدُ بنُ عبد الله لِعُمَر بنِ يُوسُفَ الثقفيِّ: يا ابْنَ السَّبَّاءِ، حكى ذلك أَبو حنيفة.

* ومما أَغفله المؤَّلف: سَبَأَ الشَّرابَ، إِذا جَمَعها وَجَبَاها، قاله أَبو موسى في معنى حَدِيثِ عُمرَ رضي ‌الله‌ عنه، أَنه دَعَا بِالجِفَانِ فَسَبأَ الشَّرابَ فيها.

وسَبَأَ الجِلْد بالنارِ سَبْأً: أَحْرَقَه قاله أَبو زيد، وسَبَأَ الرجلُ سَبْأً: جَلَدَ، وسَبَأَ سَلَخَ فيه قَلَقٌ، لأَنه قول في سَبَأَ الجِلْدَ: أَحرقه، وقيل: سَلَخَه، فالمناسبُ ذِكْرُه تحتَ أَحرقه وانْسَبَأَ الجِلْدُ انْسَلَخ، وانسبأْ جِلْدُه إِذا تَقَشَّر، قال الشاعر:

وَقَدْ نَصَلَ الأَظفارُ وانْسَبَأَ الجِلْدُ

وسبأَ: صَافَحَ قال شيخنا: هو معنى غَرِيبٌ خَلَت عنه زُبُرُ الأَوَّلين. قلت: وهو في العُباب، فلا معنى لإنكاره وسَبَأَتِ النَّارُ وكذا السِّيَاطُ، كذا في المحكم الجِلْدَ سَبْأً: لَذَعَتْه بالذال المعجمة والعين المهملة وقيل غَيَّرَتْه ولَوَّحَتْه، وكذلك الشمسُ والسَّيْرُ والحُمَّى، كُلُّهنَّ يَسْبَأْنَ الإِنسانَ؛ أَي يُغَيِّرْنَه.

وسَبَأٌ كَجَبَلٍ يُصرَف على إِرادة الحي قال الشاعر:

أَضْحَتْ يُنَفِّرُها الوِلْدَانُ مِنْ سَبَإٍ *** كَأَنَّهُمْ تَحْتَ دَفَّيْهَا دَحَارِيجُ

ويُمْنَعُ من الصرف لأَنه اسم بَلْدَة بَلْقِيسَ باليمن، كانت تَسكُنها، كذا ورد في الحديث قال الشاعر:

مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذ *** يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهَا العَرِمَا

وقال تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال الزجاج: سَبَأَ هي مدينة تُعرَف بمَأْرِب، من صَنْعاءَ على مَسيرِة ثلاثِ ليالٍ، ونقل شيخنا عن زَهر الأَكَمْ في الأَمثال والحِكم ما نصه: وكانَتْ أَخصَبَ بِلادِ الله، كما قال تعالى: {جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ} قيل: كانت مسافة شهرٍ للراكب المُجِدّ، يسير الماشي في الجِنانِ من أَوّلها إِلى آخرها لا يُفارِقه الظِّلُّ مع تدفُّقِ الماءِ وصفَاءِ الأَنهار واتِّساع الفَضاءِ، فَمَكَثُوا مُدَّة في أَمْنٍ، لا يُعَانِدُهم أَحدٌ إِلّا قَصَموه، وكانت في بَدْءِ الأَمرِ تَركَبُها السُّيول فجَمعَ لذلك حِمْيَرٌ أَهْلَ مملكتِه، وشاوَرَهم، فاتَّخذوا سَدًّا في بَدْءِ جَرَيَانِ الماءِ، وَرَصفوه بالحجارة والحَديد، وجعلوا فيه مَخَارِقَ للماءِ، فإِذا جاءَت السُّيولُ انقسمت على وَجْهٍ يَعُمُّهم نَفْعُه في الجَنَّاتِ والمُزْدَرَعَاتِ، فلما كَفروا نِعَمَ اللهِ تعالى ورأَوْا أَنَّ مُلْكَهم لا يُبِيدُه شي‌ءٌ، وعَبدُوا الشَّمْسَ، سَلَّط الله على سَدِّهم فَأْرةً فخَرقَتْه، وأَرْسَلَ عليهم السَّيْلَ فمزّقهم اللهُ كلَّ مُمَزَّقٍ، وأَباد خَضْرَاءَهم.

وقال ابنُ دُريدٍ في كتاب الاشتقاق: سَبَأٌ لَقَبُ ابْنِ يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبَ بن قَحْطانَ، كذا في النسخ، وفي بعضها: ولَقَبُ يَشْجُب، وهو خطأٌ واسمُه عَبْدُ شَمْس، يَجْمَعُ قبائلَ اليَمَن عامةً يُمَدُّ ولا يُمَدُّ، وقول شيخنا: وزاد بعضٌ فيه المَدَّ أَيضًا، وهو غريبٌ غريبٌ، لأَنه إِذا ثبت في الأُمهات فلا غرابةَ، مع أَنه موجود في الصحاح، وأَما الحديث المُشار إِليه الذي وَقَع فيه ذِكْرُ سَبإٍ فأَخرجه التّرمذيُّ في التفسير، عن فَرْوَةَ بنِ مُسَيْكٍ المُرادِيُّ قال: أَتيْنَا رَسولَ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، فقلتُ: يا رسول الله، أَلَا أُقاتِلُ مَنْ أَدبَر مِن قَوْمِي بِمَن أَقْبلَ منهم؟ فأَذِنَ لي في قِتَالِهم، وأَمَّرني، فلما خَرجْتُ من عنده سأَل عني: «مَا فَعَلَ الغُطَيْفِيُّ؟» فأُخْبِر أَني قدْ سِرْتُ، قال: فأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّني، فَأَتَيْتُه، وهو في نَفَرٍ من أَصحابِه، فقال «ادْعُ القَوْمَ، فَمَنْ أَسلَم منهم فاقْبَلْ مِنْه، ومن لَمْ يُسْلِمْ فلا تَعْجَل حتى أُحْدِثَ إِليك، قال: وأُنْزِل في سَبَإٍ ما أُنْزِلَ، فقال رَجلٌ: يا رسول الله، وما سَبَأٌ؟ أَرْضٌ أَو امرأَةٌ؟ قال: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ ولكنّه رَجُلٌ وَلدَ عَشْرَةً مِن اليمن فَتَيَامَنَ منهم ستّةٌ، وتشاءَم منهم أَربعةٌ، فأَما الذين تشاءَموا فَلَخْمٌ وجُذَامٌ وغَسَّانُ وعَاملة، وأَما الذين تَيَامَنُوا فالأَزْدُ والأَشْعَرِيُّونَ وحِمْيَر وكِنْدَة ومَذْحِج وأَنمار فقال رجل: يا رسولَ الله، وما أَنمار؟ قال: «الذين منهم خَثْعَمُ وَبجِيلَةُ» قال أَبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ [غَرِيب].

وسبَأٌ والدُ عَبْدِ الله المَنسوبِ إِليه الطائفةُ السَّبَائِيَّةُ بالمد، كذا في نسختنا، وصحَّح شيخُنا السَّبَئيَّة بالقصر، كالعَرَبِيَّة، وكلاهما صحيح مِنَ الغُلاةِ جمع غَالٍ وهو المُتعصِّبُ الخارج عن الحَدِّ في الغُلُوِّ من المبتدعة، وهذه الطائفةُ من غُلاةِ الشِّيعة، وهم يتفرَّقون على ثَمانِي عَشْرَةَ فِرْقَةً.

والسِّبَاءُ كَكِتابٍ والسَّبَأُ كجَبَلٍ، قال ابنُ الأَنباريّ: حكى الكِسائيُّ: السَّبأَ: الخَمْرُ، واللَّطَأُ: الشَّرُّ الثقيلُ، حكاهما مهموزَيْنِ مَقصورَيْنِ، قال: ولم يَحْكِهما غيرُه، قال والمعروف في الخمر السِّبَاءُ بكسر السين والمدّ. والسَّبِيئَة، كَكَرِيمَةِ: الخَمْرُ أَي مطلقًا، وفي الصحاح والمحكم وغيرهما: سَبَأَ الخَمْرَ واسْتَبأَها: اشتراها، وقد تقدّم الاستشهادُ ببيتَيْ إِبراهيم بن هَرْمَة ومالكِ بن أَبي كَعْبٍ، والاسمُ السِّباءُ، على فِعَالٍ بكسر الفاءِ، ومنه سُمِّيَت الخمرُ سَبِيئَةً، قال حسان بن ثابت:

كَأَنَّ سَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ *** يَكُون مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ

عَلَى أَنْيَابِها أَوْ طَعْمُ غَضٍّ *** مِنَ التُّفَّاحِ هَصَّرَه اجْتِنَاءُ

وهذا البيت في الصحاح:

كأَنَّ سَبِيئَةً فِي بَيْتِ رأْس

قال ابن بَرّيّ: وصوابُه «مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ، وهو موضعٌ بالشأْم.

ويقال: أَسْبَأَ لأَمْر الله وذلك إِذا أَخْبَتَ له قَلْبُه. كذا في لسان العرب وأَسبأ على الشَّي‌ءِ: خَبَتَ أَي انْخَضَع له قَلْبُهُ والمَسْبَأُ كَمَقْعَدِ: الطَّرِيقُ في الجَبَل.

وسَبِي‌ءُ كأَمير الحَيَّةِ وسَبِيُّها يُهمز ولا يهمز: سِلْخُها بكسر السين المهملة، كذا في نُسختنا، وفي بعضها على صيغة الفِعْلِ، سَبَأَ الحَيَّةَ كمنع: سَلَخَها، وصحَّحها شيخُنا، وفيه تأَمُّلٌ ومخالفةٌ للأُصول.

وقالوا في المثل: تَفَرَّقُوا، كذا في المحكم، وفي التهذيب: ذَهَبُوا، وبهما أَورده الميادنيُّ في مَجمع الأَمثال أَيْدي سَبَا وأيادِي سَبَا يُكتب بالأَلف لأَن أَصله الهمز، قاله أَبو عليٍّ القالي في الممدود والمقصور، وقال الأَزهريُّ: العربُ لا تهمز سَبَا في هذا الموضع، لأَنه كَثُر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمْزَ، وإِن كان أَصلُه مهموزًا، ومثلَه قال أَبو بكر بن الأَنباريّ وغيرُه، وفي زهر الأَكم: الذَّهَابُ مَعلومٌ، والأَيادي جَمْعُ أَيْدٍ، والأَيْدِي بمعنى الجَارِحة وبمعنى النِّعْمة وبمعنى الطَّرِيق: تَبَدَّدُوا قال ابنُ مالك: إِنه مُركَّب تَركيب خَمْسَةَ عَشَرَ، بَنَوْهُ على السُّكُونِ أَي تكلَّموا به مبنيًّا على السكون كخمسةَ عشرَ، فلم يجمعوا بين ثِقَلِ البناءِ وثِقَلِ الهَمزة، وكان الظاهر بَنَوْهُما أَو بنَوْهَا؛ أَي الأَلفاظ الأَربعة، قاله شيخُنا وليس بتَخفيف عن سَبَإٍ لأَن صورةَ تخفيفه ليست على ذلك وإِنما هو بدلٌ وذلك لكثرته في كلامهم، قال العجَّاج:

مِنْ صادِرٍ أَوْ وارِدٍ أَيْدِي سبا

وقال كُثيِّر:

أَيَادِي سَبَا يَا عزَّ ما كُنْتُ بَعْدَكُمْ *** فَلَمْ يحْلَ للْعيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْزِلُ

ضُرِبَ المَثَلُ بهم لأَنه لمَّا غَرِقَ مَكَانُهم وذَهبَتْ جَنَّاتُهم أَي لما أشرف مَكَانُهم على الغَرق وقَرُبَ ذهابُ جَنَّاتِهم قَبْلَ أَن يَدْهَمهم السَّيْلُ، وأَنهم توجهوا إِلى مكة ثم إِلى كل جِهَةٍ برأْيِ الكاهِنةِ أَو الكاهِن، وإِنما بَقِيَ هناك طائفةٌ منهم فقط تَبَدَّدُوا في البِلادِ فلحق الأَزدُ بِعُمَان، وخُزَاعةُ بِبَطن مَرّ، والأوْسُ والخَزرجُ بيثرِبَ، وآلُ جَفْنَةَ بأَرض الشأْمِ، وآلُ جَذِيمَةَ الأَبَرشِ بالعراق:

وفي التهذيب: قولُهم ذَهَبُوا أَيادِي سَبَا؛ أَي مُتفرِّقِينَ، شُبِّهوا بأَهْل سَبَإٍ لمَّا مَزَّقَهم الله في الأَرضِ كُلَّ مُمَزَّق فأَخذَ كُلُّ طائفةٍ منهم طَرِيقًا على حِدَة، واليَدُ: الطَّرِيقُ، يقال: أَخذ القَوْمُ يَدَ بَحْرٍ، فقيلَ للقومِ إِذا تفرَّقوا في جِهاتٍ مُختلِفةٍ: ذَهبوا أَيدِي سَبَا؛ أَي فَرَّقَتْهم طُرقُهم التي سَلَكُوها كما تَفرَّق أَهلُ سَبإٍ في مَذاهِبَ شَتَّى.

وقال ابنُ الأَعرابيّ: يقال: إِنك تُرِيدُ سُبْأَةً، بالضَّمِّ أَي إِنك تريد سَفَرًا بَعيدًا يُغيِّرُك، وفي التهذيب: السُّبْأَةُ: السَّفَر البَعِيد، سُمِّي سُبْأَةً، لأَن الإِنسانَ إِذا طالَ سفَرُه سَبَأَتْه الشمسُ ولَوَّحَتْه، وإِذا كان السفرُ قَرِيبًا قيل: تُرِيدُ سَرْبَةً.

* ومما بقي على المؤلف من هذه المادة: سبَأَ عَلَى يَمينٍ كَاذبةٍ يَسْبَأُ سَبْأً: حَلَفَ، وقيل: سَبَأَ عَلَى يمِين يَسْبَأُ سَبْأً: مَرَّ عَلَيْهَا كاذِبًا غير مُكْتَرِثٍ بها، وقد ذَكرهما صاحبُ المحكم والصحاح والعُباب.

وصالح بن خَيْوَان السَّبَائِي، الأَصحّ أَنه تابعي، وأَحمد بن إِبراهيم بن محمد بن سَبَإ الفقيهُ اليمنيُّ من المتأَخرين.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


71-تاج العروس (سكرج)

[سكرج]: وبقي على المصنِّف مما يستدرك عليه.

لفظة السُّكُرُّجَة. وهو في حديث أَنس «لا آكُلُ في سُكُرُّجَةٍ». قال عِياض في «المشارِق»، وتابعه ابن قُرْقُول في «المطالع»: بضمّ السين والكاف والرّاءِ مشدّدة وفتح الجيم؛ كذا قيدنا. وقال ابنُ مَكِّيّ: صوابه بفتح الراء: قِصَاعٌ يُؤكَل فيها، صِغارٌ، وليست بعربيّة، وهي كُبْرَى وصُغْرَى: الكُبْرَى تَحْمِلُ سِتَّ أَوَاقٍ، والصُّغْرَى ثَلَاثَ أَواقٍ، وقيل: أَرْبَعَ مَثَاقيلَ وقيل: ما بينَ ثُلْثَىْ أُوقِيّة. ومعنى ذلك أَنّ العربَ كانَتْ تَسْتَعْمِلُهَا في الكَوَامِخِ وأَشباهِهَا من الجَوَارِشِ على المَوائد حَوْلَ الأَطعمةِ للتَّشهِّي والهَضْمِ.

فأَخبر أَنّ النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم لم يأْكل على هذه الصِّفةِ قطُّ. وقال الداووديّ: هي القَصْعةُ الصغيرةُ المَدْهُونةُ. ومثلُه كلامُ ابنِ منظورٍ وابنِ الأَثير وغيرهم، وهو يَرْجِع إِلى ما ذَكَرنا. فكان ينبغي الإِشارة إِليه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


72-تاج العروس (فتح)

[فتح]: فَتَحَ البَابَ كَمَنَعَ يَفْتَحُه فَتْحًا فانفتحَ: ضِدُّ أَغلقَ، كَفَتَّح الأَبوابَ فانْفَتَحَتْ، شُدِّد للكثرة.

وافتَتَحَ البَابَ، وفَتَّحه فانفتَحَ وتَفتَّحَ.

ومن المجاز: الفَتْح: الماءُ المفتَّح إِلى الأَرْض ليُسقَى به. وعن أَبي حنيفَةَ: هو الماءُ الجَارِي على وَجْه الأَرْض.

وفي التهذيب: الفَتْحِ: النَّهْر.

وجاءَ في الحديث: «ما سُقِيَ فَتْحًا ومَا سُقِيَ بالفَتْح ففيه العُشْرُ» المعنى ما فُتِح إِليه ماءُ النَّهْر فَتْحًا من الزُّروع والنَّخِيل ففيه العُشْر. والفَتْح: الماءُ يَجْرِي من عَيْنٍ أَو غيرها. والفَتْح: النَّصْرُ.

وفي حديث الحُدَيْبِيَة: «أَهو فَتْح؟» أَي نَصْرٌ. وفي قوله تعالى: {فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} أَي النَّصْر كالفَتَاحةِ، بالفتح، وهو النُّصْرة.

ومن المجاز: الفَتْح: افْتِتَاحُ دارِ الحَرْب. وجمعه فُتوحٌ. وفَتَحَ المسلمون دارَ الكُفْر. والفَتْح: ثَمَرٌ للنَّبْع يُشبهُ الحَبَّةَ الخضراء إِلّا أَنّه أَحمرُ حُلوٌ مُدَحْرَج يأْكله الناس.

ومن المجاز: الفَتْح: أَوّلُ مَطَرِ الوَسْمِيّ وقيل: أَوّلُ المطرِ مُطلقًا، وجمْعه فَتُوح، بفتح الفاءِ. قال:

كأَنَّ تَحْتِي مُخْلِفًا قَرُوحَا *** رَعَى غُيُوثَ العَهْدِ والفَتُوحَا

وهو الفَتْحَةُ أَيضًا. ومن ذلك قولهم فَتَحَ اللهُ فُتُوحًا كثيرةً، إِذا مُطِرُوا. وأَصابت الأَرضَ فُتوحٌ. ويومٌ مُنْفَتِحٌ بالماءِ: [مُنْبعقٌ به].

والفَتْح: مَجْرَى السِّنْخ، بالكسْر، من القِدْحِ؛ أَي مُرَكَّب النَّصْل من السَّهْم. وجمعُه فُتوح.

ومن المجاز: الفَتْح في لغة حِمَير: الحُكْمُ بينَ الخَصْمَيْنِ. وقد فَتحَ الحاكمُ بينهم، إِذا حَكَمَ. وفي التهذيب: الفَتْحُ: أَن تَحكُم بين قَوْمٍ يَخْتَصمونَ إِليكَ، كما قال سبحانَه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} كالفُتَاحَةِ بالكسرِ والضمِّ. يقال: ما أَحْسَنَ فُتاحَتَه؛ أَي حُكومته. وبينهما فُتَاحاتٌ أَي خُصومات.

وفلانٌ وَلِيَ الفِتَاحَةَ، بالكسر، وهي ولايَةُ القضاءِ. وقال الأَسْعَرُ الجُعْفِيّ:

أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا *** فَإِنّي عنْ فُتَاحَتِكمْ غَنِيُّ

والفُتُحُ بضمَّتَيْنِ: البابُ الواسعُ المَفْتُوحُ. والفُتُحُ من القواريرِ: الواسِعةُ الرأْسِ.

وقال الكسائيّ: مَا لَيْسَ لها صِمَامٌ ولا غِلافٌ لأَنّها حينئذٍ مَفْتُوحة، وهو فُعُلٌ بمعنَى مفعول.

والاسْتِفْتَاحُ: الاسْتِنْصار.

وفي الحديث «أَنّه كَان يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ المهاجِرِين» أَي يَستنصر بِهم. ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قاله الزَّجَّاج. ويجوز أَن يكون معناه إِنَ تَسْتَقْضُوا فقد جاءَكُم القَضاءُ. وقد جاءَ التفسيرُ بالمعنَيَيْنِ جميعًا.

واسْتَفْتَحَ الله على فلانٍ: سَأَلَه النَّصرَ عليه.

والاستفتاحُ: الافِتتَاحُ، يقال: استَفْتَحْت الشْي‌ءَ وافتَتحْتُه، وجاءَ يَستفتِح البابَ.

والمِفْتَاحُ: مِفتاحُ الباب، وهو آلَةُ الفَتْح؛ أَي كلُّ ما فُتِح به الشْي‌ءُ. قال الجَوْهَرِيّ: وكلّ مُسْتَغْلَقٍ. كالمِفْتَحِ، قال سِيبَوِيْهِ: هذا الضَّرْب مّما يُعتمل مكسورَ الأَوّلِ، كانت فيه الهاءُ أَو لم تكَن. والجمع مَفَاتِيحُ ومَفاتِحُ أَيضًا. قال الأَخفش: هو مثلُ قولهم: أَمَانِي وأَمانيّ، يخفّف ويشدَّد.

وفي الحديث: «أُتِيتُ مَفَاتِيحَ الكَلِم» وفي رواية: «مَفاتِح» هما جمعُ مِفْتَاحٍ ومِفْتَح، وهما في الأَصل مّما يُتوصَّل به إِلى استخراج المُغْلقات التي يتعذَّر الوصولُ إِليها، فأَخْبَرَ أَنه أُوتِيَ مفاتيحَ الكلامِ وهو ما يَسَّرَ الله له من البَلاغة والفصاحة والوُصُولِ إِلى غوامِضِ المعاني وبدائع الحِكَم، ومحاسن العِباراتِ والأَلفاظ التي أُغلِقَتْ على غيره وتعذّرتْ عليه. ومَن كان في يده مَفَاتِيح شْي‌ءٍ مخزونٍ سَهُل عليه الوصولُ إِليه.

والمِفْتاح: سِمَةٌ؛ أَي عَلَامة، في الفَخِذِ والعُنُقِ من البَعِير على هَيْئته.

والمَفْتَحَ، كَمَسْكَنِ: الخِزَانَةُ، قال الأَزهَرِيّ: وكلُّ خِزَانَةٍ كانَت لِصِنْفٍ من الأَشياءِ فهي مَفْتَحٌ.

والمَفْتَحُ أَيضًا الكَنْزُ والمَخْزِنُ. وقوله تعالى: {ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}. قيل: هي الكُنُوزُ والخَزَائنُ. قال الزَّجَّاج: رُوِيَ أَن خَزائِنه مَفاتِحُه. ورُوي عن أَبي صالح قال: ما في الخزائن مِن مالٍ تَنُوءُ به العُصْبةُ. قال الأَزهريّ: والأَشبَه في التفسير أَنّ مَفَاتحَه خزائنُ مالِه، والله أعلم بما أَراد. قال: وقال الليث: جمع المِفْتَاحِ الذي يُفْتَح به المِغْلَاقُ مَفاتِيحُ، وجمع المَفْتَحِ: الخزانةِ المَفَاتِحُ. وجاءَ في التفسير أَيضًا أَنّ مَفَاتِحه كانت من جُلودٍ على مقدارِ الإِصْبع، وكانت تُحمَلُ على سَبْعِين بَغْلًا أَو ستّين. قال: وهذا ليس بقويّ وروَى الأَزهريُّ عن أَبي رزِين قال: مَفاتحُه: خَزائنُه، إِنْ كَان لَكافِيًا مِفتاحٌ واحدٌ خَزائنَ الكوفِةِ، إِنّما مَفاتحُه المالُ.

وفَاتَحَ الرَّجلُ امرأَتَه: جامَعَ. ومن المجاز: فاتحَ: قَاضَي وحاكم، مُفاتحةً وفِتَاحًا.

وفي حديث ابن عباس رضي ‌الله‌ عنهما: «ما كُنْتُ أَدْرِي ما قَوْلُ اللهِ عزّ وجلّ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا} حتى سمعْت بنتَ ذي يَزَن تقول لزوجها: تعال أُفاتِحْك؛ أَي أُحَاكمْك».

ومنه: لا تُفَاتِحُوا أَهل القَدَرِ. أَي تُحَاكِموهم، وقيل: لا تَبْدؤُوهم بالمجَادلةِ والمناظَرة. ويقال تفَاتحَا كَلامًا بينهما، إِذا تَخَافتَا دُونَ النّاسِ.

والحُروفُ المُنْفتِحَةُ هِي التي يُحْتَاج فيها لِفَتْحِ الحنَكِ ما عَدَا ضَطْصَظَ وهي أَربعة أَحرف فإِنّها مُطبقة.

ومن المجاز قول الأَعرابِيّة لزوجِها: بيني وبينك الفتَّاح، ككَتّان، وهو الحاكمُ، بلغة حِمير.

وفاتِحَةُ الشَّيْ‌ءِ: أَوُّله.

وفي التهذيب عن ابن بُزُرْج: الفَتْحَى، كسكْرى: الرِّيح، وأَنشد:

أَكُلُّهم لا بَاركَ الله فِيهِمُ *** إِذَا ذُكِرت فَتْحي مِنَ البَيْعِ عاجِبُ

فَتْحَى على فَعْلَى.

والفَتُوح كصَبُور: أَوّلُ المَطَر الوَسمْيّ.

وقد تقدّم النقل عن اللّسان أَنّ الفَتوحَ بالفتح، جمْع الفَتْح بمعنَى المطرِ. وقد أَنكر ذلك شيخنا وشَدَّد فيه وقال: لا قائِلَ به، ولا يُعرَف في العربيّة جمع فَعْلٍ، بالفتح، على فَعُول، بالفتحِ، بل لا يُعرف في أَوزان الجُموع فَعول بالفتح مطلقًا.

ومن المجازِ الفَتُوح: النّاقَة الواسِعَةُ الإِحْلِيل، وفي بعض النسخ: الأَحاليل، وقد فَتَحَتْ، كمَنَع، وأَفْتَحتْ بمعنًى، والنَّزورُ مثلُ الفَتوح، وفي حديث أَبي ذَرٍّ «قَدْر حَلْبِ شاةٍ فَتُوحٍ». ونُوقٌ فُتُحٌ. والفُتْحَة بالضَّم: تَفَتُّحُ الإِنسانِ بما عِندَه من مِلْكٍ وأَدَبٍ. وفي نُسخة: من مالٍ، بدل مِلْك، يَتَطَاوَلُ أَي يتَفاخر به، تقول: ما هذِه الفُتْحَة الّتي أَظْهَرتَها وتَفتَّحْت بها علينا. قال ابن دُريد: ولا أَحسبه عربيًّا.

وفَتّاح ككَتّان: طائرٌ أَسودُ يُكثرُ تحريكَ ذَنَبهِ، أَبيضُ أَصلِ الذَّنَب من تَحتِه، ومنها أَحمر الجمع: فَتَاتِيحُ، بغير أَلفٍ ولام، هكذا في النُّسخ، وهو غير ظاهر. قال شيخنا: هذا غير جارٍ على قواعدِ العَرب، فإِنّه لا مانِعَ من دُخُول ال على جمع من الجموع، فتأَمّل. قلت: ولعل الصواب: بغير أَلفٍ وتاءٍ، كما في اللّسان وغيره؛ أَي ولا يُجمع بالأَلف والتاءِ، وقد اشتبه على المصنّف.

والفُتَاحِية، بالضمّ، مخففة: طائرٌ آخَرُ مُمشَّق بحمرة، وفي نسخ اللسان وغيرِه من الأُمّهات: والفُتَاحة، بالضَّمّ، من غير زيادة الياءِ بعد الحاءِ.

ونَاقَةٌ مفَاتِيحُ، قال شيخنا: هو مما لا نظير له في المفردات وأَينُقٌ مفاتِيحَاتٌ: سِمَان، حكاها السِّيرافيّ.

ومن المجاز فَواتِحُ القُرْآنِ، هي أَوائِل السُّوَرِ. وقرأَ فاتِحةَ السُّورةِ وخاتِمَتها؛ أَي أَوّلها وآخرها.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

المِفْتَحُ، كمنْبر: قناةُ الماءِ. وكُلّ ما انكشفَ عن شَيْ‌ءٍ فقد انفتَحَ عنه وتَفتّحَ. وتَفتُّحُ الأَكمَّةِ عن النَّوْر: تشقُّقُها. ويَومُ الفتْح يَومُ القِيامة، قاله مُجاهد.

والمُفْتتَحُ، بصِيغَة اسم المفعول، ويكون اسمَ زَمان ومكانٍ ومَصدرًا ميميًّا، وهي لغة شائعة فصيحة، كذا في شرح دِيباجة الكَشَّاف للمصنّف، قال: وأَمّا المُخْتَتَم فغير فَصيحةٍ، وأَشار إِليه الخفاجيُّ في العناية.

وبيت فَتَّاح: واسع، كما في الفائق.

ومن المجاز: الفُتُوحة الحُكُومَةُ كالفِتَاح، بالكسر.

ويقال للقاضي: الفَتَّاح، لأَنّه يَفْتَح مواضِعَ الحقّ.

قال الأَزهريّ: والفَتَّاح في صفةِ الله تعالى: الحاكِم. وفي التنزيل: {وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ}. وقال ابن الأَثير: هو الذي يَفْتَح أَبوابَ الرِّزق والرّحمة لعباده.

والفَاتِحُ: الحاكِمُ.

وفَتَحَ عليه: عَلَّمَه وعرّفَه، وقد فُسِّرَ به قولُه تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} ومنه الفَتْح على القارئ، إِذا أُرْتِج عليه. وإِذا اسْتَفْتَحَكَ الإِمَامُ فافْتَحْ عليه. والفَتْح: الرِّزْق الّذِي يَفتَح الله به، وجمْعه فُتُوحٌ.

وفاتَحَ الرَّجلَ: سَاوَمَه ولم يُعْطِه شيْئًا، فإِن أَعطاهُ قيل فَاتَكَه، حكاه ابن الأَعْرَابيّ.

وافتتَاحُ الصَّلاةِ: التكبيرةُ الأُولَى.

وأُمُّ الكِتابِ: فاتِحَةُ القُرآنِ.

والفَتْحُ: أَن تَفْتَحَ عَلَى من يَستَقْرِئك.

وفُتِحَ على فُلانٍ: جُدَّ وأَقْبَلَتْ عليه الدُّنْيَا.

وافْتَحْ سِرَّك عَلَيّ لا عَلى فلان.

ومَا أَحْسَنَ ما افتُتِحَ عامُنَا به، إِذا ظَهرتْ أَمَارَةُ الخصْب.

وذَا وَقْتُ افْتتاح الخَراجِ. وكلّ ذلك مَجاز.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


73-تاج العروس (وضح)

[وضح]: الوضَحُ، محرّكة: بَيَاضُ الصُّبْحِ وقد يراد به مُطلقُ الضَّوْءِ والبَيَاضِ من كلِّ شيْ‌ءٍ.

وفي الحديث «أَنّه كانَ يَرفَع يديْه في السُّجودِ حتّى يَتبيَّنَ وَضَحُ إِبطيْه» أَي البياضُ الّذي تحْتهما، وذلك للمبالغةِ في رفْعِهما وتَجافِيهِمَا عن الجَنبَين.

وفي حديث عُمَر رضي ‌الله‌ عنه: «صُومُوا من الوَضَح إِلى الوَضَح»؛ أَي من الضَّوءِ إِلى الضَّوْءِ، وقيل: من الهِلَال إِلى الهِلال. قال ابن الأَثير: وهو الوَجْه، لأَنَّ سِياقَ الحديثِ يدلُّ عليه، وتَمامه «فإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فأَتِمُّوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا». والوَضَحُ: بَياضُ القَمَر وضَوْؤُه، وقد يُكنَى به عن البَرَص، ومنه قيل لجَذِيمةَ الأَبرِش: الوَضَّاحُ، وسيأْتي الكلامُ عليه.

وفي الحدِيث «جاءَه رجُلٌ بكفِّه وَضَحٌ»؛ أَي بَرَصٌ. والوَضَح: الشِّيَةُ، والغُرَّةُ والتَّحْجِيلُ في القَوَائِمِ وغير ذلك من الأَلْوَان، ومنه قولهم: فَرسٌ ذو أَوْضاحٍ.

والوَضَح: ماءٌ لبني كلَابٍ، قال أَبو زياد: هو لبني جعفَرِ بن كِلابٍ، وهي الحِمَى في شقّه الّذي يَلِي مهَبَّ الجَنوبِ.

وإِنّما سُمِّيَ به لأَنّه أَرْضٌ بَيضاءُ تُنْبِتُ النَّصِيَّ بين جبال الحِمَى وبينَ النِّيرِ، والنِّيرُ جِبالٌ لغَاضِرةَ بنِ صَعْصعة. كذا في المعجم.

وفي الحديث: «غَيِّرُوا الوَضَحَ»؛ أَي الشَّيْبَ، يعنِي اخْضِبوه..

والوَضَحُ: الدِّرْهَمُ الصَّحِيحُ ودِرهمٌ وَضَحٌ: نقِيٌّ أَبيضُ، على النّسب. وحكَى ابن الأَعرابيّ: أَعطَيته دَراهِمَ أَوْضَاحًا كأَنّهَا أَلْبَانُ شَوْلٍ رعَتْ بِدَكْدَاكِ مَالكٍ. مَالِكٌ: رَمْلٌ بعَينه قَلّما تَرْعى الإِبلُ هُنالك إِلّا الحَلِيَّ، وهو أَبيضُ، فَشبَّه الدّراهمَ في بياضها بأَلبانِ الإِبل الّتي لا تَرْعَى إِلّا الحَلِيَّ.

والوَضَحُ: مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ ووَسطُه.

ومن المجاز: حَبَّذا الوَضَحُ: اللَّبَنُ. قال أَبو ذُؤَيب:

عَقّوا بسهْمٍ فلم يَشعُرْ به أَحدٌ *** ثمّ استفاءُوا وقالوا: حَبّذا الوَضَحُ

أَي قالوا: اللَّبنُ إِلينا أَحَبُّ من القَود، فأَخبَرَ أَنّهم آثروا إِبلَ الدِّيَة وأَلبانَها على دَمِ قاتلِ صاحبهم. قال ابن سيده: وأُراه سُمِّيَ بذلك لبَياضه. وقيل: الوَضَحُ من اللَّبَن: ما لم يُمْذق، ويقال: كَثُر الوَضَحُ عند بني فُلان، إِذا كَثُرتْ أَلْبانُ نعَمِهم.

والوَضَحُ: حَلْيٌ من الفِضَّة هكذا ذَكرَه أَبو عُبيد في الغريب. وفي المَشَارِق: حَلْيٌ من الحجارة. قال في التوشيح: أَي حجَارة الفضّة. والجمع: الكُلِّ أَوضَاحٌ، سُمِّيت بذلك لبياضها.

وفي الحديث «أَنَّ النّبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم أَقَاد مِن يَهوديٍّ قتَلَ جُوَيْريةً علَى أَوْضَاحٍ لها».

وقيل: الوَضَحُ: الخَلْخَالُ، فخَصَّ.

ووَضحُ الطَّرِيفَة: صِغَارُ الكَلَإِ، وقال أَبو حنيفةَ: هو ما ابيَضَّ منها، والجمْع أَوْضاحٌ. وقال الأَصمعيّ: يقال: في الأَرض أَوْضَاحٌ من كَلَإِ، إِذا كان فيها شي‌ءٌ قد ابيضَّ. قال الأَزهريّ: وأَكثرُ ما سمعتُهم يَذكرون الوَضَحَ في الكَلإِ للنَّصِيِّ والصِّلِّيانِ الصَّيفِيَّ الذي لم يأْتِ عَلَيْه عامٌ ويَسودُّ.

قال ابن أحمرَ ووصَفَ إِبلًا:

تَتَبَّعُ أَوْضَاحًا بسُرَّةِ يَذْبُلٍ *** وتَرْعَى هَشِيمًا من حُلَيْمةَ بالِيَا

وقال مَرَّةً: هي بَقَايَا الحَلِيّ والصِّلِّيان، لا تكون إِلّا من ذلك.

وقد وَضَحَ الأمْرُ والشيْ‌ءُ يَضحُ وُضُوحًا وضِحَةً، كعِدَة، وضَحَةً، بالفتح لمكان حرْف الحلْق، وهو واضحٌ ووَضَّاحٌ.

واتَّضَحَ وأَوْضَحَ وتَوضَّحَ: بانَ وظَهَرَ. ووَضَّحَه هو تَوْضيحًا وأَوْضَحَه إِيضاحًا، وأَوضَحَ عنه.

وتَوضَّحَ الطّريقُ: استبانَ.

والوَضَّاحُ، ككتّان: الرَّجلُ الأَبيضُ اللَّوْنِ الحسَنُهُ الحَسَنُ الوَجْهِ البَسّامُ.

والعرب تُسمِّي النَّهار الوَضَّاحَ واللّيلَ الدُّهْمَانَ.

والوَضّاح لَقَبُ جَذِيمةَ الأَبرِش. وفي الصّحاح: وقد يُكنى بالوضَحِ عن البَرص، ومنه قيل لجَذِيمة الأبرِش الوَضّاحُ. قال: وهذا سببُ تَسْمية العرب له، لا ما قاله الخليلُ: سُمِّي جَذِيمةَ الأَبرشَ لأَنّه أَصابَه حرْقُ نارٍ فبقِيَ أَثره نقطٌ سودٌ وحمر.

والوَضّاح مَولًى بَرْبَرِيٌّ لبنِي أُميَّة، قال ذلك السُّكَّريّ في قول جرير:

لقد جاهدَ الوَضّاحُ بالحقِّ مُعلِمًا *** فأَوْرثَ مَجْدًا باقيًا آل برْبَرَا

كان شاعرًا، وهو المعروف بوَضَّاحِ اليمن، وكانت أُمُّ البنينَ بنت عبد العزيز بن مرْوان تحْت الوليد بن عبد الملك، وكان تُحبُّ الوَضّاحَ. وفي المضاف والمنسوب للثعالبيّ: قال الجاحظ: قُتِل بسبب الفِسق ثلاثةٌ من العبيد: وَضَّاحُ اليمنِ، ويسَارُ الكواعِبِ، وعبْدُ بني الحسْحاس.

وإِليه نُسِبَتِ الوَضَّاحِيَّة وهي قرية معروفة.

وفي حديث المبْعَث «أَنّ النَّبيَّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم كان يَلْعَبُ وهو صغِيرٌ مع الغِلْمانِ ب عَظْمِ وضّاحٍ وهي لُعبةٌ لصِبيانِ الأَعراب، وذلك أَن تأْخُذ الصِّبْيةُ عَظْمًا أَبيضَ فيَرْمُونه في ظُلْمَة اللّيْلِ. و، أَيْ ثُمّ يَتفرَّقُون في طلبِهِ فمَن وجده منهم فلَه القَمْرُ. قال: ورأَيت الصِّبيان يُصَغِّرونه فيقولون عُظيمُ وضّاحٍ. قال: وأَنشدني بعضُهم:

عُظيم وضّاحٍ ضِحَنَّ اللَّيْلهْ *** لا تَضحنّ بعْدَها مِنْ ليْلةْ

وبِكْرُ الوضَّاحِ: صلاةُ الغَداةِ. وثِنْيُ دُهْمانَ: العِشَاءُ الآخِرةُ، قال الراجز:

لوْ قِسْتَ ما بيْن مُنَاخيْ سَبَّاحْ *** لثِنْيِ دُهْمان وبِكْرِ الوضَّاحْ

لقِسْتَ مَرْتًا مُسْبَطِرَّ الأَبْدَاحْ

سبَّاحٌ بَعيرُه. والأَبداحُ: جوانِبُه.

وعن أبي عمْرٍو: استَوْضَح الشَّيْ‌ءَ واستَكفَّه واستشْرفه، وذلك إِذا وَضَعَ يَدَه على عَيْنَيْه في الشَّمس لينظرَ هَلْ يَراه يُوَقِّي بكفّه عَينيه شُعاعَ الشَّمسِ. يقال: استوضِحْ عنه يا فُلان. واستوضح فُلانًا أَمْرًا، وكذلك الكلامَ، إِذا سأَله أَن يُوَضِّحه له واستوضَح عن الأَمر: بَحثَ.

والمُتَوَضِّحُ: مَنْ يظْهَر. وقد تَوضَّحَ الطَّرِيقُ: استَبَانَ.

ومَنْ يَرْكَب وضَحَ الطريق ولا يَدْخُل في الخَمَرِ محرَّكةً.

وقال النضْر: المُتوضِّح من الإِبل: الأَبيضُ غيرُ ـ وفي بعض الأُمّهات: وليس ـ شَدِيد البَياضِ، أَشدُّ بَياضًا من الأَعْيَصِ والأَصهَبِ، كالوَاضِح، وهو المُتَوضِّح الأَقْرَاب، وأَنشد:

مُتَوضِّح الأَقْرابِ فيه شُهْلةٌ *** شَنِج اليَدَيْنِ تَخَالُه مَشكولَا

والوَاضحة: الأَسْنَانُ التي تَبْدُو عِنْد الضَّحك، صفة غالبة. وأَنشدَ:

كلُّ خَليلٍ كنت صافَيتُه *** لا تركَ الله له وَاضِحَهْ

كلُّهُمُ أَرْوَغُ من ثَعلبٍ *** ما أَشْبه اللَّيلَةَ بالبارِحَهْ

وفي الحديث: «حتَّى ما أَوْضَحُوا بضاحِكَةٍ»؛ أَي ما طلَعُوا بضاحِكَة ولا أَبدوْها، وهي إِحْدَى ضَواحِكِ الإِنسان.

وتَوضِحُ بالضّمّ وكسْر الضّاد: موضع، بين إِمَّرَة إِلى أَسْودِ العيْنِ، وهو كَثيبٌ أَبيضُ في كُثبانٍ حُمْرٍ بالدَّهناءِ بين أَجإِ واليمامةِ.

والوَضَحةُ، محرَّكةً: الأَتانُ أُنثَى الحِمَارِ. والواضِحة والمُوضِحةُ من الشِّجَاج: الّتي بَلَغت العَظْمَ فأَوضحَتْ عنه، وقيل: هي الّتي تَقْشِر الجِلْدَةَ الّتي بين اللَّحم والعظم، أَو الشَّجَّةُ الّتي تُبْدِي وَضَحَ العِظَامِ وهي التي يكون فيها القِصَاصُ خاصّةً، لأنّه ليْس من الشِّجاج شَيْ‌ءٌ له حَدٌّ يَنتهِي إِليه سِوَاهَا، وأَمَّا غيرُها من الشِّجَاج ففيها دِيَتُهَا.

والجمعُ المَوَاضِحُ. والتي فُرِض فيها خَمْسٌ من الإِبل هي ما كان منها في الرّأْس والوَجهِ، فأَمّا المُوضِحةُ في غيرِهِما ففيها الحُكومة.

وفي الحديث أَمَرَ النّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم بصِيَامِ الأَوَاضِحِ» حكَاه الهرويّ في الغَريبَين.

قال ابن الأَثير: وفي الحديث: «أَمرَ بصيَام الأَوضاحِ»، أَيْ أَيّامِ الَّليالي البِيضِ، جمْع واضحة، وهي ثالثَ عشَرَ ورابعَ عشَرَ وخامِسَ عَشَر، وأَصْلُه وَوَاضِحُ فقُلِبَت الواوُ الأُولَى هَمْزَةً كما عُرِف ذلك في كُتُبِ الصرف.

والوَضِيحَة: النَّعَم. الجمع: وَضَائحُ، قال أَبو وَجْزةَ:

لِقَوْمِيَ إِذْ قَوْمِي جَميعٌ نَواهُمُ *** وإِذْ أَنَا في حَيٍّ كثيرِ الوَضَائِحِ

ومن المجاز: وَضَحَتِ الإِبلُ بالَّلبَن: أَلمعَتْ، كذا في الأَساس:

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الوَضَحُ: بياضٌ غالبٌ في أَلوانِ الشَّاءِ قد فَشَا في جَميع جَسَدِهَا؛ والجمْعُ أَوضاحٌ. وفي التهذيب: في الصَّدْرِ والظَّهْرِ والوَجْهِ، يقال له: توضيحٌ، وقد تَوضَّحَ.

وأَوضحَ، الرَّجلُ والمرأَةُ: وُلِدَ لهما أولادٌ وُضَّحٌ بِيضٌ.

وقال ثعلب: هو منْك أَدْنَى واضحةٍ، إِذا وَضَحَ لك وظَهَرَ حتَّى كأَنّه مُبْيَضٌّ.

ورجلٌ واضحُ الحَسَب ووَضَّاحُه: ظاهِرُه نَقِيُّه مُبْيضُّه، على المَثَل. وكذا قولهم: له النَّسَبُ الوضَّاحُ.

ووَضَحُ القَدمِ: بَياضُ أَخمَصه.

وقال الجُميح:

والشَّوْك في وَضَحِ الرِّجْلينِ مَركُوزُ

وقال أَبو زيد: من أَين وَضَحَ الرَّاكبُ؛ أَي مِن أَيْن بَدَا.

وقال غيره: من أَين أَوضَحَ، بالأَلف. وقال ابن سيده: وَضَحَ الرّاكِبُ: طَلَعَ، ومن أَين أَوْضَحْتَ، بالأَلف؛ أَي من أَين خَرَجْت، عن ابن الأَعرابيّ. وفي التهذيب: من أَين أَوْضَحَ الرَّاكِبُ، ومن أَين أَوْضَعَ، ومن أَين بَدَا وَضَحُك.

وأَوضَحْتُ قَومًا: رأَيْتهم.

والواضِح: ضدُّ الخاملِ، لِوُضوح حاله وظُهور فَضْلِه، عن السَّعْديّ. والوُضَّح: الكَوَاكِبُ الخُنَّسُ إِذا اجْتَمَعَتْ مع الكواكِب المُضيئة من كواكِب المنازلِ. وقال الّليث: إِذا اجتمَعتِ الكواكِبُ الخُنَّس مع الكواكب المُضِيئةِ مِن كواكب المَنازِل سُمِّينَ جميعًا الوُضَّحَ.

وعن اللِّحْيَانيّ: يقال: فيها: أوضاحٌ من النّاس وأَوباشٌ وأَسقاطٌ، يُعنَى جماعاتٌ من قبائلَ شَتَّى. قالوا: ولم يُسْمَعْ لهذه الحروفِ واحدًا وقال أَبو حنيفة: رأَيتُ أَوْضاحًا من النَّاس هاهُنا وهاهُنا لا واحدَ لها.

وأَبو عبد الله محمّدُ بن الحسَيْنِ بن عليّ بن الوَضّاح الأَنباريّ الشاعر، حدّثَ عن أَبي عبد الله المَحَامليّ، وأَبي حامدٍ الإِسماعِيليّ، وانتقلَ إِلى نَيْسابُورَ وبها تُوُفِّيَ سنة 345.

وأَبو عُمَرَ عامرُ بن أَسيدِ بن وَاضِحٍ الأَصبهانيّ عن ابن عُيينَةَ ويَحيى القَطَّانِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


74-تاج العروس (حمر)

والحُمْرَةُ، بالضَّمِّ: اللَّوْنُ المعرُوف. يَكُونُ في الحيوان والثِّيَاب وغَيْر ذلك مّما يَقْبَلُهَا، وحكاها ابنُ الأَعرابيّ في المَاءِ أَيضًا.

والحُمْرَة: شَجَرَةٌ تُحِبُّها الحُمُرُ.

قال ابنُ السِّكِّيت: الحُمْرَة: نَبْتٌ.

والحُمْرَة: داءٌ يَعْتَرِي النّاسَ فيَحْمَرُّ مَوْضعُهَا.

وقال الأَزهريّ: هو وَرَمٌ من جِنْس الطَّوَاعين، نَعُوذُ بالله مِنها.

وحُمْرةُ بْنُ يَشْرَحَ بْن عَبْدِ كُلَال بن عَرِيب الرُّعَيْنيّ، وقال الذَّهَبيّ هو حُمْرَة بنُ عَبْد كُلَال تَابعيّ، عن عُمَر، وعنه راشِد بن سعد، شَهدَ فتْحَ مصر، ذَكرَه ابنُ يُونُس، وابْنُه يَعْفُرُ بنُ حُمْرَةَ، رَوَى عن عبد الله بن عَمرو. وحُمْرَةُ بْنُ مَالكٍ، في هَمْدَانَ، هو حُمْرَة بنُ مالك بْن مُنَبِّه بن سَلَمَة، وولده حُمْرَة بنُ مالك بن سعْد بن حُمْرَة من وُجُوه أَهْل الشام وأُولِي الهِبَات، له وِفَادَة ورِوَايَة، وسَمَّاه بعضُهم حَمْزة، وهو خَطَأٌ، كذا في تاريخ حلب لابن العَديم. وحُمْرَةُ بْنُ جَعْفَر بْن ثَعْلَبَةَ بَنْ يَربُوع، في تَمِيمٍ، وقيل في هذا بتَشْديد المِيم أَيضًا. ومَالِكُ بْنُ حُمْرَةَ صَحَابيٌّ من بَني هَمْدَان، أَسْلم هو وعَمَّاه مالكٌ وعَمْرٌو ابْنَا أَيفع ومالكُ بْنُ أَبي حُمْرَةَ الكُوفِيُّ يَرْوِي عن عائِشَة. ويقال: ابن أَبي حَمْزة، وعنه أَبو إِسحاق السَّبيعِيّ، كذا في الثِّقات. والضَّحَّاكُ بْنُ حُمْرَةَ نَزَلَ الشَّأْمَ، وسمِع منه بَقِيَّةُ. قال النّسائيّ: ليس بثِقَة، قاله الذَّهبيّ.

قلت: ورَوَى عن منْصُور بن زَازَانَ. وعَبْدُ الله بْنُ عَليِّ بْن نَصْر بْن حُمْرَةَ، ويُعْرفُ بابن المارِسْتانِيّة، كان على رَأْس السِّتِّمائَة، وهُو ضَعِيفٌ ليس بثِقةٍ، مُحدِّثُون.

وحُمَيِّر، كمُصَغَّر حَمَارٍ، هو ابْنُ عَديٍّ، أَحَدُ بَني خَطْمَة، ذكرَه ابنُ مَاكُولا. وحُمَيِّر بنُ أَشْجَعَ، ويقال له: حُمَيِّر الأَشْجَعيّ حَليفُ بني سَلمَةَ، من أَصحاب مَسْجد الضِّرار، ثمّ تابَ وصَحَّت صُحْبَتُه، صَحابيَّان. وحُمَيّر بْنُ عَديٍّ العابدُ، مُحَدِّثٌ. قلت: وهو زَوْجُ مُعَاذَةَ جاريَةِ عبْدِ الله بن أُبَيّ بن سَلُول.

وحُمَيْرٌ، كزُبَيْر، عَبْدُ الله وعَبْدُ الرَّحْمن ابنَا حُمَيْرِ بْن عَمْرٍو، قُتِلَا مَعَ عَائشَةَ، رَضي الله عَنْهَا، يَوْمَ الجَمَل، هذا قَولُ ابن الكَلْبيّ وأَمّا الزُّبيْر فأَبدل عبد الله بعَمْرو، وهُمَا من بَني عَامِر بْن لُؤَى.

ويقال: رُطَبٌ: ذُو حُمْرَة؛ أَي حُلْوَةٌ، عن الصَّاغانيّ.

وحُمْرانُ، بالضِّم: مَاءٌ بدِيَار الرِّبَاب، ذَكَرَه أَبو عُبَيد.

وحُمْرَانُ: موضع بالرَّقَّةِ، ذكرَه أَبو عُبَيْد.

وقَصْرُ حُمْرَانَ، بالبَادِيَة، بين العَقيق والقَاعَة، يطَؤُه طَريقُ حَاجِّ الكُوفَة.

وقَصْر حُمْرَانَ: قرية قُرْبَ تَكْرِيت.

وحَامِرٌ: موضع على شَطِّ الفُرَات بَيْن الرَّقَّةِ ومَنْبجَ. وحَامِرٌ: وَادٍ في طَرَف السَّمَاوَة البَرِّيَّة المَشْهُورة.

وحَامِرٌ: وَادٍ ورَاءَ يَبْرِينَ في رِمَال بَني سَعْدٍ، زَعَمُوا أَنّه لا يُوصَل إِليه.

وحَامِرٌ: واد لبَنِي زُهَيْر بْن جنابٍ، من بَني كَلْبٍ، وفيه جِبَابٌ. وحَامِرٌ: موضع لِغَطفَانَ عند أُرُلٍ مِن الشَّرَبَّة.

ويقال: أَحْمَرَ الرَّجلُ، إِذا وُلِد لَه وَلَدٌ أَحْمَرُ، عن الزَّجّاج.

وأَحْمَرَ الدَّابَّةَ: عَلَفَهَا حَتَّى حَمِرت؛ أَي تَغَيَّر فُوها من كَثْرة الشَّعِير، عن الزّجّاج.

وحَمَّرَهُ تَحْمِيرًا: قَالَ لَهُ يا حِمَارُ وحَمَّرَ، إِذا قَطَعَ كهَيْئَة الهَبْر وحَمَّرَ الرّجلُ: تَكَلَّمَّ بالحِمْيَرية، كتَحَمْيَرَ. ولهم أَلفاظٌ ولُغاتٌ تُخَالف لُغَات سائِرِ العَرَبَ. ويُحْكَى أَنه دَخَلَ أَعرابيٌّ، وهو زَيدُ بْنُ عبْدِ الله بْنِ دارِمٍ، كما في النّوع السّادِسَ عَشَرَ مِن المُزْهر، على مَلِكٍ لِحِمْير في مدينة ظَفَارِ، فَقَال لَهُ المَلِك وَكَانَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ: ثِبْ؛ أَي اجْلِس، بالحِمْيَريَّة، فوَثَبَ الأَعْرَابيّ فتَكَسَّر، كذا لابن السِّكِّيت، وفي رواية، فاندَقَّت رِجْلاه، وهو رواية الأَصْمعِيّ، فسأَل المَلِكُ عَنْه فأُخْبِر بلُغَةِ العَرب، فَقَالَ وفي روَاية فضَحِك المَلك وقال: لَيْسَ وفي بَعْض الرّوايَات لَيْسَت عِنْدَنَا عَرَبِيَّتْ، أَراد عَربيّة، لكنّه وَقَفَ على هاءِ التَّأْنِيثِ بالتَّاءِ، وكذلك لُغتهم، كما نَبَّه عليه في إِصلاح المَنْطِق وأَوْضَحَه، قاله شيخنا. «مَنْ دَخَلَ ظفَارَ حَمَّرَ» أَي تَعَلَّم الحِمْيَريَّة. قال ابنُ سِيدَه: هذه حِكاية ابْنُ جِنِّي، يَرْفَع ذلك إِلَى الأَصْمَعِيّ، وهذا أَمْرٌ أُخْرِج مُخْرَج الخَبَر؛ أَي فَلْيُحَمِّر، وهكذا أَورده المَيْدَانيّ في الأَمثال، وشَرَحَه بقَريب من كَلام المُصَنِّف. وقرأْتُ في كِتَاب الأَنْسَاب للسَّمْعَانَيّ ما نَصُّه: وأَصْلُ هذَا المَثَل ما سَمِعتُ أَبا الفَضْلِ جَعْفَر بْنَ الحَسَن الكبيريّ ببُخارَاءَ مُذاكرةً يقول: دَخَلَ بعضُ الأَعراب على مَلِك من مُلوك ظَفَارِ، وهي بَلْدة مِنْ بلَاد حِمْيَر باليَمَن، فقال المِلك للدّاخل: ثِبْ، فَقَفَز قَفْرَةً. فقال له مَرَّة أُخرَى: ثِبْ، فقَفَز، فعَجِب المَلك وقال: ما هذا؟ فقال: ثِبْ بلُغَة العرَب هذا، وبلُغَة حِمْير ثِبْ يعني اقْعُدْ. فقال المَلِك: أَما عَلِمْت أَن من دَخَلَ ظَفَارَ حَمَّرَ.

والتَّحْمِيرُ. التَّقْشِير، وهو أَيْضًا دَبْغٌ ردِئٌ وتَحَمْيَرَ الرَّجُلُ: سَاءَ خُلُقُه.

وقد احْمَرَّ الشيْ‌ءُ احْمِرَارًا: صَارَ أَحْمَرَ، كاحْمَارَّ، وكُلّ افْعَلَّ من هذا الضَّرْب فمحذوفٌ من افْعَالَّ، وافْعَلَّ فِيهِ أَكْثرُ لِخِفَّته. ويقال: احْمَرَّ الشي‌ءُ احْمِرارًا إِذا لَزِمَ لونَه فلم يَتَغَيَّر من حَالٍ إِلى حالِ. واحْمارَّ يَحمارُّ احْمِيرارًا إِذا كان يَحْمارُّ مَرَّة ويَصْفارُّ أُخرى.

قال الجَوْهَريّ: إِنّمَا جازَ إِدْغَامُ احْمَارَّ، لأَنَّه ليس بمُلْحَق، ولو كان له في الرُّبَاعِي مِثَالٌ لَمَا جازَ إِدْغامه، كما لا يَجُوزُ إِدغامُ اقْعَنْسَسَ لما كان مُلْحَقًا باحْرَنْجَمَ.

ومن المَجاز: احْمَرَّ البَأْسُ: اشْتَدَّ. وجاءَ في حَدِيث عَلِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه «كُنَّا إِذا احْمَرَّ البأْسُ اتَّقيناهُ برَسُول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، فلم يَكُنْ أَحَدٌ أَقربَ إِليه منه». حكَى ذلِك أَبُو عُبَيْد في كتَابه المَوْسُوم بالمَثَل. قال ابنُ الأَثِير: إِذا اشْتَدَّت الحَرْبُ اسْتَقْبَلْنَا العَدُوَّ به وجَعَلْنَاه لنا وِقايةً. وقيل: أَرادَ إِذا اضْطرمَت نَارُ الحَرْب وتَسَعَّرتْ. كما يُقَال في الشَّرِّ بين القَوْم: اضْطَرَمَتْ نَارُهُم، تَشْبيهًا بحُمْرة النّار. وكثيرًا ما يُطْلِقُون الحُمْرَةَ على الشِّدَّة.

والمُحْمَرُ، على صيغة اسم الفَاعل والمَفْعُول، هكذا ضُبط بالوَجْهَيْن: النَّاقَةُ يَلْتَوِي في بَطْنِهَا وَلَدُهَا فلا يَخْرُج حَتَّى تَمُوتَ.

والمُحَمِّرةُ، على صيغَة اسْم الفاعِل مُشَدَّدَةً: فِرْقَةٌ من الخُرَّمِيَّة، وهم يُخَالِفُون المُبَيِّضَةَ والمُسَوِّدَةَ، وَاحِدهُم مُحَمِّر.

وفي التهذيب: ويقال للذين يُحَمِّرُون رَاياتِهم خلَافَ زِيّ المُسَوِّدَة من بَني هاشم: المُحَمِّرةُ، كما يقال للحَرُورِيَّةِ المُبَيِّضةِ لأَن راياتِهم في الحُرُوب كانَتْ بَيْضَاءَ.

وحِمْيَرٌ كدِرْهَم ـ قال شيخنا: الوَزْنُ به غَيْرُ صَوَاب عند المُحَقِّقِين من أَئِمَّة الصرف ـ: موضع غَربيَّ صَنْعَاءِ اليَمَن، نَقَلَه الصَّاغانِيُّ.

وحِمْيَرُ بْنُ سَبَإِ بْن يَشْجُبَ بْن يَعْرُبَ بْن قَحْطَان: أَبو قَبيلَة. وذَكر ابْنُ الكَلْبيّ أَنّه كان يَلْبَس حُلَلًا حُمْرًا، وليس ذلك بقَويٍّ. قال الجوهَريّ: ومنهم كانت الملوك في الدَّهْر الأَوَّل. واسم حِمْيَر العَرَنْجَجُ، كما تقدَّم، ونُقِل عن النَّحْوِييّن يُصْرَف ولا يُصْرَف. قال شيخُنا: جَرْيًا على جَوَاز الوَجْهَيْن في أَسماءِ القبائل، قال الهَمْدَانيّ: حِمْيَر في قَحْطَان ثلاثةٌ: الأَكبرُ، والأَصغرُ، والأَدْنَى. فالأَدْنَى: حِمْيَر بن الغَوْث بن سَعْد بن عَوْف بن عَدِيّ بن مَالك بن زَيْد بن سَدَد بن زُرْعَةَ ـ وهو حِمْيَرُ الأَصْغَر ـ بنُ سَبَإِ الأَصغر، ابن كَعْب بن سَهْل بن زَيْد بن عَمْرو بن قَيْس بن مُعَاوية بن جُشَم بن عَبْد شَمْس بن وَائل بن الغَوْث بن حُذَار بن قَطَن بن عَرِيب بن زُهَيْر بن أَيْمَن بن الهَمَيْسَع بن العَرَنْجَج، ـ وهو حِمْيَر الأَكْبَرُ بن سَبَإِ الأَكْبَر، بن يَشْجُب.

وخارِجَةُ بْنُ حِمْيَر: صَحابِيّ من بني أَشْجَعَ، قاله ابنُ إِسحاقَ. وقال موسى بن عُقبة: خارجةُ بن جاريَةَ شَهِدَ بَدْرًا. أَو هو كتَصْغير حِمَارٍ، أَو هُوَ بالجِيم، وقد تَقَدَّم الاخْتَلافُ فِيه.

وسَمَّوْا حِمَارًا، بالكسر، وحُمْرَانَ، بالضَّمّ، وحَمْرَاءَ، كصَحْرَاءَ، وحُمَيْرَاءَ، مُصَغَّرًا، وأَحْمَر وحُمَيْر وحُمَيّر.

والحُمَيْرَاءُ: موضع قُربَ المَدينَة المُشَرَّفة، على ساكنها أَفْضَلُ الصلاة والسّلام. ومُضَرُ الحَمْرَاءِ، بالإِضافَة لأَنَّه أُعْطِيَ الذَّهَبَ مِنْ مِيرَاث أَبيه. وأَخو رَبيعَةُ أُعْطِيَ الخَيْلَ فلُقِّب بالفَرَس. أَو لِأَنَّ شِعَارَهُم كان في الحَرْب الرّايَاتِ الحُمْرَ، وسيأْتي طَرَفٌ من ذلك في «م ض ر» إِن شاءَ الله تعالى.

* ومما يُستَدرك عليه:

بَعِيرٌ أَحْمرُ، إِذَا كان لونُه مثْل لَوْن الزَّعْفَرَان إِذا أُجْسِدَ الثَّوْبُ به وقيل: إِذا لم يُخَالِطْ حُمْرَتَه شَيْ‌ءٌ.

وقال أَبو نَصْر النَّعَاميّ: هَجِّرْ بحَمْراءَ، واسْرِ بوَرْقاءَ، وصَبِّح القَومَ على صَهْبَاءَ. قيل له: ولمَ ذلك؟ قال: لأَن الحَمْراءَ أَصْبَرُ على الهَواجِر، والوَرقاءَ أَصبَرُ على طُول السُّرَى، والصَّهباءَ أَشْهَرُ وأَحْسَن حين يُنْظَر إِلَيها. والعَرَب تَقولُ: خَيْرُ الإِبل حُمْرُها وصُهْبُها. ومنه قولُ بعضهم: ما أُحِبُّ أَنَّ لي بمَعَاريضِ الكَلِمِ حُمْرَ النَّعَم. والحَمراءُ من المَعز: الخالصَةُ اللَّوْنِ.

وعن الأَصْمَعِيّ: يقال: هذه وَطْأَةٌ حَمْرَاءُ، إِذَا كَانَتْ جَديدَةً، ووطْأَةٌ دَهْمَاءُ، إِذا كانَتْ دارِسَةً، وهو مَجاز.

وقَرَبٌ حِمِرٌّ، كفِلِزٍّ: شَديدٌ.

ومُقَيِّدةُ الحِمَار: الحَرَّة، لأَنَّ الحِمَارَ الوَحْشيَّ يُعْتَقَل فيها فكَأَنَّه مُقَيَّد.

وبَنُو مُقَيِّدَةِ الحِمَارِ: العَقَاربُ؛ لأَنَّ أَكثرَ ما تَكُون في الحَرَّة.

وفي حديثِ جابِر: «فوضَعْته على حِمَارَةٍ من جَرِيد»، هي ثَلَاثَةُ أَعْوَادٍ يُشَدُّ بَعْضُ أَطْرافها إِلَى بَعْض، ويُخَالَف بين أَرْجُلِهَا، تُعَلَّق عليها الإِدَاوَةُ ليَبْرُدَ المَاءُ، وتُسَمَّى بالفارسيَّة: سهباى.

والحَمَائرُ: ثَلَاثُ خَشَبَات يُوثَقْن ويُجْعَل عليهن الوَطْبُ لئلا يَقْرِضَه الحُرْقُوص، واحدتها حِمَارَةٌ.

وحِمَارُ الطُّنْبُورِ مَعْرُوفٌ.

ويقال: جاءَ بغَنَمِه حُمْرَ الكُلَى، وجاءَ بهَا سُودَ البُطُونِ، مَعْنَاهُمَا المَهَازيل. وهو مَجَازٌ، والعَرَب تُسَمِّي المَوالِيَ الحَمْرَاءَ. ويا ابْنَ حَمْراءِ العِجَان؛ أَي يا ابْنَ الأَمَةِ. كلمةٌ تقولُها العَرَب في السَّبِّ والذَّمِّ.

وحَمَّرَ الرَّجلُ تَحْمِيرًا: رَكِبَ مِحْمَرًا، ورَكِبوا مَحامِرَ.

والأُحَيْمِر، مُصَغَّرُ، رِيحٌ نَكْبَاءُ تُغرِق السُّفنَ.

وهو أَشْقَى من أَشْقَرِ ثَمُودَ، وأَحْمَر ثَمُودَ. وأَحْمَرُ ثَمودَ، ويقال: أُحَيْمرُ ثَمُودَ: لَقَبُ قُدَارِ بْن سالفٍ عَاقِرِ نَاقةِ صَالِحٍ، على نبيِّنَا وَعَليه الصّلاةُ والسلام.

وتَوبَةُ بْنُ الحُمَيِّر الخَفاجيّ: صاحِب لَيْلَى الأَخْيَلِيَّة وهو في الأَصل تصْغِير الحِمَار، ذكره الجَوْهَريّ وغيره.

وحُمَرُ، كزُفَر: جزيرة.

ولَقِيَ أَعرابيُّ قُتَيْبَةَ الأَحمَرَ فقال: يا يَحْمَرَّى، ذَهَبْتَ في اليَهْبَرَّى. يُريد يا أَحْمر، ذَهَبْت في البَاطل.

والحُمُورَة: الحُمْرَة، عن الصَّاغانيّ.

والحامِرُ: نَوْعٌ من السّمَك.

وكشَدَّاد: مَوْضعٌ بالجَزيرة.

والحَمْرَاءُ: اسمُ غَرْنَاطَةَ، من أَعظم أَمْصَارِ الأَنْدلُس.

قال شيخنا: وإِيَّاهَا قَصَدَ الأَدِيب ابنُ مَالك الرُّعَيْنيّ:

رَعَى اللهُ بالحَمْرَاءِ عَيْشًا قَطعْتُه *** ذَهَبْتُ به للأُنْس واللَّيْلُ قد ذَهَبْ

تَرَى الأَرْضَ منها فِضَّةً فإِذا اكْتَسَت *** بشَمْسِ الضُّحَى عادَت سَبيكَتُهَا ذَهَبْ

والحَمْرَاءُ: اسمُ فَاسَ الجَديدَةِ في مُقَابَلَة فاسَ القَديمةِ، فإِنَّها اشْتَهَرَت بالبَيْضَاءِ، وكانُوا يَقُولُون لمَرَّاكُش أَيْضًا الحَمْراءُ.

وحِصْن الحَمْرَاءِ: معروفٌ في جَيَّانَ بالأَنْدَلُس.

والحَمْرَاءُ: أَحَدُ الأَخْشَبَيْن، من جبال مَكَّةَ، وقد مَرّ إِيماءٌ إِليه في أَخْشَب. قال الشَّريفُ الإِدْريسيّ: وهو جَبَلٌ أَحمَرُ، محجرٌ، فيه صَخْرَة كَبيرَةٌ شَديدَةُ البَيَاض، كأَنَّهَا مُعَلَّقة تُشْبه الإِنسانَ إِذا نَظَرْتَ إِليها مِن بَعِيد، تَبْدُو مِنَ المَسْجد من باب السّهْمين وفي هذا الجَبَل تَحَصَّنَ أَهلُ مَكَّةَ أَيّامَ القَرَامِطَة.

والحَمْرَاءُ: قَريَة بدِمَشْق، ذَكَرَه الهَجَريّ.

وحَمْرَةُ، بالفَتْح: قَرْيَةٌ من عَمَلِ شاطِبَةَ. منها عَبْدُ الوَهّاب بن إِسْحَاقَ بن لُبّ الحَمْرِيّ، تُوفِّي سنة 535، ذَكره الذهبيّ.

ومحْمر، كمِنْبَر ومَجْلِس: صُقْعٌ قُرْبَ مَكَّةَ من مَنَازِل خُزاعَةَ.

وحُمْرَانُ: مَوْلَى عُثْمَانَ رَضي الله عنه، عُرَف بالنِّسْبَة إِلَيْه الأَشْعَثُ بْنُ عَبْد الملك البَصْريّ الحُمْرَانيّ. وحُمْرانُ بنُ أَعْفَى: تابعيّ. وأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّد بنُ جَعْفَرَ بن بَقِيَّة الحُمْرانيّ: محدِّث. وحِمْيَر بْنُ كراثَةَ، كدِرْهَم، ويقال حِمْيَريّ الرَّبَعيّ، أَورده ابن حِبّانَ في الثِّقَات.

وحِمَار: اسم رجل من الصحابة.

وأَبو عبد الله جَعْفَر بْنُ زياد الأَحْمَر: كُوفيٌّ ضَعِيف.

وأَحْمَرُ بْنُ يَعْمُر بْن عَوْف: قبيلة. منهم ذو السَّهْمَيْن كُرْزُ بنُ الحَارث بن عَبد الله. ورَزِين بْنُ سُلَيْمَان، وهِلَالُ بنُ سُويد، الأَحَمَريَّان، مُحَدِّثان.

والأَحْمَرُ: لقب محمّد بن يَزيدَ المَقَابريّ المُحَدِّث، وحَجّاج بْنُ عَبْد الله بن حُمْرَة بن شفى، بالضَّمّ، الرُّعَيْنيّ الحُمْرِيّ نِسْبَة إِلى جَدّه عن بَكْرِ بْن الأَشَجّ، وَعَمْرو بن الحارث مات سنة 149.

وسَعْدُ بْنُ حُمْرَة الهَمْدَانيّ، كان عَلى جُنْد الأُرْدُنِّ زَمَنَ يَزيدَ بْنِ مُعَاويَةَ. وزيادُ بن أَبي حُمْرَةَ اللَّخْمِيّ، رَوَى عَنْه اللَّيْثُ وابنُ وَهْب، وكَانَ فَقيهًا.

وحُمْرَةُ بن زيَادٍ الحَضْرَميّ، حَدَّثَ عنه رمْلَة، وعَبْدُ الصَّمَد بنُ حُمْرَة، وحُمْرَة بن هانئ، عن أَبي أُمامة، وقيل هو بالزَّاي. ومُحَمَّد بنُ عَقِيل بن العَبَّاس الهاشميّ الكُوفيّ لَقَبُه حُمْرة. له ذُرِّيّة يُعرفون ببنِي حُمْرَة، عِدادُهم في العَبّاسيّين. وحُمْرَة بن مالكٍ الصُّدائيّ. ذكره أَبو عُبَيْد في غَرِيب الحَدِيث، واستَشْهَد بقوله، وضبَطه بتشديد الميم المَفْتُوحة. وقال ابنُ الأَنباريّ: هو بسكُون الميم.

والحَمّار نسبَةٌ إِلى بَيْع الحَمير. منهم أَحمدُ بنُ مُوسَى بن إِسحاق الأَسَديّ الكُوفيّ قال الدَّارَ قُطنيّ: حدثنا عنه جَماعَةٌ من شُيُوخنا، وسعِيدُ بنُ الحَمَّار، عن الليث، وجعفرُ بنُ مُحَمّد بن إِسحاق الحَمَّار: مصْريّ.

ومَرْوَانُ الحِمَارُ، ككِتَاب، آخَرُ خُلَفَاءِ بني أُمَيَّةَ، مَعْرُوف.

وحَمْرور، بالفتح، لَقَب بَعْضهم.

وحَمْرور، بالفتح، لَقَب بَعْضهم.

وحَمْرُون، بالفَتْح: مَوْضعٌ من أَعمال قَابِسَ بالمَغْرب.

وحِمَارٌ الأَسَديُّ: تابعيّ.

والحَمْرَاءُ: قرية بنَيْسَابورَ، على عشرةِ فَراسخَ منها.

وقَرْيَة بأَسْيُوط.

وبنو حَمُّور، كتَنّور، ببَيْت المَقْدِس.

وتَحَمَّرَ: نَسَب نَفْسَه إِلى حِمْيَر أَو ظَنَّ نفسَه كأَنَّه مَلكٌ من مُلوك حِمْيَر، هكذا فَسَّر ابنُ الأَعْرابيّ قولَ الشَّاعر:

أَريْتَكَ مَوْلاي الَّذي لَسْتُ شاتمًا *** ولا حارِمًا مَا بالُه يَتَحَمَّرُ

والحَمّاريّة: قَرْيَة من الشَّرْقيَّة، والحَمَّارِين: أُخْرَى من عَمَل حَوْفِ رَمْسيس. والكَوْمُ الأَحمَرُ: ثلاثة مَواضِعَ من مصْر، من الدَّقَهْليّة، ومن الجِيزة، ومن حقوق هُوّ من القُوصيّة. وقد رَأَيْتُ الثَّانيَ.

والساقيَة الحَمْرَاءُ: مَدينَة بالمَغْرب ومنْهَا كان انْتقَالُ الهَوَّارَة إِلى وادِي الصَّعِيد. وحمر: موضع.

وبنو الأَحْمَر: مُلُوكُ الأَندلس ووُزراؤُها من وَلَد سَعْد بن عُبَادَة. ذَكَرَهم المَقَّرِيّ في نَفْح الطِّيب. ومنْهُمْ بَقيَّةٌ في زَبيد. وعَمْرُو بن مِخْلاة الحِمَار: من شُعَراءِ الحَمَاسة ومُحَمَّدُ بنُ حِمْيَر الحِمْصيُّ، كدِرْهَم، مشهور، وأَبو حِمْير تبيع، كَنَّاه ابن مُعِين: وأَبو حِمْيَر إِياد بن طاهر الرُّعَيْنيّ شيخ لابن يُونُس مات سنة 304. وعبدُ الرحمّن والحارث ابْنَا الحُمَيّر بن قُتَيْبَة الأَشْجعِيَّان، شاعران ذكرهما الآمديّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


75-تاج العروس (ظفر)

[ظفر]: الظُّفْرُ، بالضَّمِّ فالسُّكُونِ، والظُّفُرُ، بضَمَّتَيْنِ، قيل: هو أَفصحُ اللُّغَات، وقَرَأَ أَبو السَّمَّالَ: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، بالكَسْرِ، وهو شَاذٌّ غيرُ مأْنوسٍ به؛ إِذْ لا يُعْرَف ظِفْرٌ، بالكسر، هكذا قالوا، وأَنكرَ شيخُنَا الشُّذوذَ ومخالفَتَه للقياس.

والظُّفْرُ: معروفٌ، يَكُونُ للإِنْسانِ وغَيْرِه.

وقيل: الظُّفْرُ: لمَا لا يَصِيدُ، والمِخْلَبُ لما يَصِيدُ، كُلُّه مذَكَّرٌ، صَرَّحَ به اللِّحْيَانِيّ، وخَصَّه ابنُ السيّد في «الفَرق» بالإِنْسَان، كالأَظْفُورِ، بالضَّمِّ، وهو لغة في الظُّفْرِ، وصَرّح به الأَزْهَرِيّ، وأَنشَدَ البيتَ.

وَقَوْلُ الجَوْهَرِيّ: جَمْعُه أُظْفُورٌ، غَلَطٌ، وإِنّمَا هو واحِدٌ، مثل الظُّفْرِ، قالَ الشّاعر:

ما بَيْنَ لُقْمَتِهَا الأُولَى إِذَا انْحَدَرَتْ *** وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قِيسُ أُظْفُورِ

ويروى: «إِذا ازْدَرَدَتْ» وهكذا أَنْشَدَه المصنّف في كتابه البصائر.

ج: أَظفَارٌ، وأَظافِيرُ، وقد سبَقَ المصَنّفَ في الردّ على الجَوْهَرِيّ الصاغانيُّ.

وقد تَمَحَّل شيخُنا من طَرَفِ الجَوْهَريّ بجَوَابٍ كاد أَن يَكُونَ الصّوَاب، قال: عبارَةُ الجَوْهَرِيّ الظُّفُرُ جمعه أَظْفَار، وأُظْفُورٌ جمعه أَظافِيرُ، كذا في أَكثرِ أُوصولِنا، وهو صَوابٌ، بل هو أَصوبُ من عبارةِ المصنّف؛ لأَنّه أَعطَى كلَّ جَمْعٍ لمُفْرَدِه، فالأَظفار جمع ظُفُر، كعُنُقٍ وأَعْنَاق، والأَظافِيرُ، جَمْع أُظْفُورٍ، كما هو ظاهِر. وكلامُ المصنّفِ يُوهم أَنّ كلًّا من الأَظْفَارِ والأَظَافِير جمعٌ لظُفُرٍ، وليس كذلك، بل الأَظافِيرُ جمع أُظفُورِ المُفرد، أَو جمع لأَظفَار الجمع، فيكون جمعَ الجَمعِ، ووَقَعَ في بعض نُسَخ الصّحاح زِيَادَةُ واو قبل أَظافِير، فأَوْهَمَ أَنَّهَا عاطفة، وأَنّ أَظافِيرَ وأُظْفُور وأَظْفَار كلٌّ منها جمع لظُفُرٍ المفرد، وزيادةُ الواو تحريفٌ لا يَنْبَغِي حَمْلُ كَلام الجوهَرِيّ على ثُبوتِها والله أَعلم، انتهى.

قلت: نُسخ الصّحاحِ كلها بثُبُوتِ الواو، وليس في واحِدَة منها بحذفِهَا أَصلًا، وكذلك النُّسْخَة التي نَقَلَ منها الصّاغانِيُّ وصاحِبُ اللسان، وهُمَا هما ثم ما ذكره من كونِ الأَظافِيرِ جمعَ الجمعِ، فقد قال اللّيْثُ: الظُّفُرُ ظُفُرُ الإِصبع، وظُفُرُ الطّائِر، والجميع أَظْفَارٌ، وجماعةُ الأَظْفَارِ أَظَافِيرُ، وهو في الأَشعار جَيّد جائز.

وقال غيره: الجمعُ أَظْفَارٌ، وهو الأُظْفُور، وعلى هذا قولهم: أَظافير، لا على أَنّه جمعُ أَظْفَار الذِي هو جَمْعُ ظُفُرٍ؛ لأَنّه ليس كلُّ جمْعٍ يُجمع، ولهذا حَمَلَ الأَخفش قِرَاءَةَ من قَرَأَ: فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ على أَنّه جَمْع رَهْنٍ، ويجوزُ قِلَّتُه؛ لئَلّا يَضطَرَّه إِلى ذلك أَن يكونَ جمعَ رِهان الذِي هو جمعُ رَهْنٍ.

وأَمّا من لم يَقُلْ إِلا ظُفرٌ فإِنّ أَظافيرَ عندَهُ مُلْحِقَةٌ له بباب دُمْلُوج، بدليلِ ما انضافَ إِليها من زِيَادةِ الواوِ معها، قال ابنُ سِيدَه: هذا مَذْهَبُ بعضِهم.

وإِذا عَرفْتَ ذلك فاعْلَمْ أَنّه لا تَوَهُّمَ في كلامِ المصنّف، كما زَعَمَه شيخُنَا. فتأَمَّلْ.

والأَظْفَرُ: الطَّوِيلُ الأَظْفَارِ العَرِيضُهَا، ولا فَعْلَاءَ لها من جِهَةِ السّمَاع، كما يقال: رجلٌ أَشْعَرُ للطَّوِيلِ الشَّعرِ، ومَنْسِمٌ أَظْفَرُ كذلك، قال ذو الرُّمَّةِ:

بأَظْفَرَ كالعَمُودِ إِذَا اصْمَعَدَّتْ *** عَلَى وَهَلٍ وأَصْفَرَ كالعَمُودِ

وظَفَرَهُ يَظْفِرُه، بالكسر، وظَفَّرَه تَظْفِيرًا، وأَظْفَرَه، المضبوط في النُّسخ بفتح الهَمْزَة وسكون الظاءِ، والصواب اظَّفَرَه، بتشديد الظاءِ، كافتعله، وكذلك اطَّفَرَه، بالطَّاءِ المشدّدةِ، إِذا غَرَزَ في وَجْهِهِ ظُفْرَه، ويقال: ظَفَّرَ فُلانٌ في وَجْهِ فُلانٍ، إِذا غَرَزَ ظَفْرَه في لَحْمِه فعَقَره، وكذلك التَّظْفِيرُ في القِثَّاءِ والبطِّيخ، وكلُّ ما غَرَزْتَ فيه ظُفْرَك فشدَخْتَه، أَو أَثَّرتَ فيه فقد ظَفَّرْتَه.

ومن المَجَاز: رَجُلٌ مُقَلَّمُ الظُّفرِ عن أَذى النّاسِ؛ أَي قليلُ الأَذَى، ويقال: إِنّه لمَقْلَومُ الظُّفرِ؛ أَي لا يُنْكِي عَدُوًّا، أَو كَلِيلُه؛ أَي الظُّفرِ عن العِدَاءِ؛ أَي مَهِينٌ، قال طَرَفةُ:

لَسْتُ بالفَانِي ولا كَلِّ الظُّفُرْ

وقال الزَّمَخْشَرِيّ: هو كَلِيلُ الظُّفُر للمَرِيضِ.

والظُّفْرَةُ، بالضّمّ: نَبَاتٌ حِرِّيفٌ يُشْبِه الظُّفُر في طُلُوعِهِ، يَنْفَعُ القُرُوحَ الخَبِيثَة والثَّآلِيلَ.

وظُفْرَةُ العَجُوزِ: ثَمَرُ الحَسَكِ، وهي شَوْكَةٌ مُدَحْرَجَةٌ.

وظُفْرُ النَّسْرِ: نَبَاتٌ يُشْبِهُه.

وظُفْرُ القِطِّ: نَبَاتٌ آخَرُ.

ومن المَجازِ: الأَظْفَارُ، وظَفَارٌ، كسَحابٍ، وقد يُمْنَعُ من الصّرفِ، فيقال: هذه ظَفَارُ ورأَيْتُ ظَفَارَ، ومررتُ بظَفَارَ، هكذا. نقَلَه الصاغانيُّ في التكملة، وتَبِعَه المصَنّف، وفيه تأَمُّل، فإَنّ الصاغانيّ نَقَل عن ابنِ دُرَيْد ظَفَار، ونقل فيه الصَّرْفَ والمَنعَ إِنّمَا عَنَى به المدينَةَ التي باليَمَنِ، بدليلِ قولِ الصاغانيّ بعدُ: وقال الجَوْهَرِيُّ: وظَفَارِ مثْلُ قَطامِ، فأَشَار إِلى أَنَّ الجَوْهَرِيّ اقتصر على المَنْعِ وابنُ دُرَيْد ذَكَرَ الوجهين، ثم قال بَعْدُ: مدينةٌ باليَمَنِ، وهذا من المصنِّفِ غَرِيبٌ جِدًّا يَنْبَغِى التَّفَطُّنُ له، فإِني رَاجَعْتُ المُحْكَمَ والتهذيبَ والعُبَابَ وغيرَهَا من الأُمَّهَاتِ فلم أَجِدْهُمْ ذَكَرُوا في مَعْنَى الطِّيبِ إِلّا الأَظْفَارَ فقط، وكذلك الصّاغانِيّ في التَّكْمِلَة مع ذِكْرِه الغَرَائِبَ والنَّوادِرَ، واقتصرَ على ذِكْر الأَظْفَار، ونصُّ عبارَتِه: الأَظْفَارُ شَيْ‌ءٌ من العِطْر أَسْوَدُ كأَنَّه ظُفُرٌ مُقْتَلَفٌ من أَصْلِه يُجْعَلُ في الدُّخْنَةِ، انتهى.

وفي المحكم: والظُّفْرُ: ضَرْبٌ من العِطْرِ أَسْوَدُ مُقْتَلَفٌ من أَصْلِهِ على شَكْلِ ظُفْر الإِنسانِ يُوضَعُ في الدُّخْنَةِ، والجمعُ أَظْفَارٌ، وأَظافِيرُ. انتهى، وفيه نوْعُ مَخالَفةٍ لما ذَهَب إِليه المصنّف.

وقال صاحِبُ العَيْنِ: لا واحدَ لَهُ، وقال الأَزْهَرِيّ في التهذيب، وتَبعه الصّاغانِيّ في التكملة: لا يُفْرَد منه الواحد، قالا: ورُبّمَا قِيلَ أَظْفَارَةٌ واحِدَةٌ، ولا يَجُوزُ في القِيَاس، الجمع: أَي ويَجمعونه على أَظَافِير، وهذا في الطِّيبِ فإِن أُفْرِدَ شيْ‌ءٌ من نَحْوِهَا فالقِيَاسُ أَن يُقَالَ: ظُفْرٌ وفُوهٌ، وهم يقولون أَظفارٌ وأَظَافِير، وأَفْوَاهٌ وأَفَاوِيهُ، لهذين العِطْرَيْنِ، انتَهَى، وفي حديث أُمِّ عَطِيَّةَ: «لا تَمَسُّ المُحِدُّ إِلّا نُبْذَةً من قُسْطِ أَظْفَارٍ» وفي رواية: «من قُسْطٍ وأَظْفَارٍ» قال ابنُ الأَثِيرِ: الأَظْفَارُ: جِنْسٌ من الطِّيبِ لا واحدَ له من لفظِه، وقيل: واحده ظُفْرٌ، وهو شيْ‌ءٌ من العِطْرِ أَسوَدُ، والقِطْعَةُ منه شَبِيهةٌ بالظُّفْرِ. انتهى.

قلت: وفي المنهاج: أَظْفَارُ الطِّيب أَقطاعٌ تُشْبِه الأَظْفَارَ عَطِرَةُ الرّائحةِ، قال ديسقُورِيدُوس: هي من جِنْس أَخْزافِ الصَّدَفِ تُوجَدُ في جَزِيرَةِ بَحْرِ الهِنْدِ حيثُ يكونُ فيه السُّنْبُل، منه قلْزميٌّ ومنه نَابليٌّ أَسْوَدُ صغيرٌ وأَجودُه الذي إِلى البياض الواقع إِلى اليمن والبَحريَن.

وظَفَّرَ [به] ثَوبَهُ تظْفيرًا: طَيَّبَه بِهِ بالظُّفْرِ.

والظُّفْرُ، بالضّمّ: جُلَيْدَةٌ تُغَشِّي العَيْنَ نابتَةٌ من الجانِبِ الذي يَلِي الأَنفَ على بَياضِ العَيْنِ إِلى سَوادِهَا، ونَسَبَهُ الجَوْهَرِيُّ إِلى أَبي عُبَيْدٍ، كالظَّفَرَةِ، مُحَرَّكَة، والظَّفَرِ، بلا هاءٍ أَيضًا، وقد جاءَ في صِفَةِ الدَّجّال: «وعَلَى عَيْنِه ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ» قالوا: هي جُلَيْدَة تَغْشَى العَيْنَ، تَنْبُتُ تِلقاءَ المآقِي، ورُبّمَا قُطِعَتْ، وإِنْ تُرِكَتْ غَشِيَتْ بَصَرَ العَيْنِ حتّى تَكِلَّ.

وقد ظَفِرَت العَيْنُ، كفَرِحَ، تَظْفَر ظَفَرًا، فهيَ ظَفِرَةٌ.

ويُقَال: ظُفِرَ الرّجُلُ كعُنِيَ، فهو مَظْفُورٌ، من الظَّفَرَةِ، قال أَبو الهَيْثَمِ:

ما القَوْلُ في عُجَيِّزٍ كالحُمَّرَة *** بعَيْنِها من البُكَاءِ ظَفَرَهْ

حَلَّ ابْنُها في السِّجْنِ وَسْطَ الكَفَرَهْ

وقال الفَرّاءُ: الظَّفَرَةُ: لحْمَةٌ تَنْبُتُ في الحَدقَةِ.

وقال غيرُه: الظُّفْرُ: لَحْمٌ يَنْبُت في بَياضِ العَيْن، وربّمَا جَلَّلَ الحَدَقَةَ.

ومن المَجَاز: قَوْسٌ لَطِيفَةُ الظُّفْرَيْنِ، قال الأَصمَعِيُّ: في السِّيَة الظُّفْرُ، وهو مَا وَرَاءَ مَعْقِدِ الوَتَرِ إِلى طَرَفِ القَوْسِ، جمْعه ظِفَرَةٌ كعِنَبَة، أَو طَرَفَاهَا، لا يَخْفَى أَنه لا فَرْقَ بينهما، ولذا اقتصر الأَزهرِيُّ وابنُ سِيدَه على ما ذَكَرَه الأَصْمَعِيّ، وبيّنَه الزَّمَخْشَرِيّ، فقال: قَوْسٌ لَطِيفَةُ الظُّفْرَيْنِ، وهما طَرَفاهَا وَرَاءَ مَعْقِدِ الوَتَرِ، فتأَمَّلْ.

والظُّفْرُ، بالضَّمّ: حَصْنٌ من حُصونِ اليَمَن.

ومن المَجَاز: ما بالدَّارِ شُفْرٌ ولا ظُفْرٌ؛ أَي أَحَدٌ، كذا في الأَساسِ والتَّكْمِلَة.

والظَّفَرُ، بالتَّحْرِيكِ: المُطْمَئنُّ من الأَرْضِ، وعبارَةُ الصّحاح: ما اطمَأَنَّ من الأَرض وأَنْبَتَ.

والظَّفَرُ: الفَوْزُ بالمَطْلُوبِ، وقال اللَّيْث: الظَّفَرُ: الفَوْزُ بما طَلَبْتَ والفَلْجُ على مَنْ خاصَمْتَ.

وقد ظَفِرَهُ ظَفَرًا وظَفِرَ بِهِ، مثل لَحِقَه، ولَحِقَ به، وظَفِرَ عَلَيْهِ، كلّ ذلك كفَرِحَ، فهو ظَفِرٌ.

وتقول: ظَفِرَ اللهُ فُلانًا على فُلان، وكذلك أَظْفَرَهُ الله بهِ، وعليه، وظَفَّرَه به تَظْفِيرًا.

واظَّفَرَ، كافْتَعَلَ، فأُدْغِم، بمعنَى ظَفِرَ بهم.

ورجُلٌ مُظَفَّرٌ، كمُعَظَّم، وظَفِرٌ، ككَتِفٍ، وظَفِيرٌ، كأَمِيرٍ، وظِفِّيرٌ، كسِكِّيتٍ: كثيرُ الظَّفَرِ، عن ابن دريد قال: وليس بثبت ولكن ضَبطَه الصّاغانِيُّ بوَزْنِ أَمِير، وأَصلَحَه بخَطِّه.

قال ابنُ دُرَيْد: ورجُلٌ مِظْفَارٌ، بالكسر: كثيرُ الظَّفَرِ، وقال غيرُه: مُظَفَّرٌ، وظَفِيرٌ وظَفِرٌ: لا يُحَاوِلُ أَمْرًا إِلَّا ظَفِرَ بِهِ، وهو مَجاز، قال العُجَيْرُ السَّلُولِيُّ يَمدحُ رجلًا:

هو الظَّفِرُ المَيْمُونُ إِن رَاحَ أَوْ غَدَا *** به الرّكْبُ والتِّلْعَابَةُ المُتَحَبِّبُ

ورَجُلٌ مُظَفَّرٌ: صاحِبُ دَوْلَةٍ في الحربِ.

وفُلانٌ مُظَفَّرٌ: لا يَؤُوبُ إِلا بالظَّفَرِ، فثُقِّل نَعْتُه للكثرةِ والمُبَالَغةِ.

وإِن قيل: ظَفَّرَ الله فُلانًا؛ أَي جعَلَه مُظَفَّرًا، جازَ وحَسُنَ أَيضًا.

وتقول: ظَفَّرَهُ الله عليه؛ أَي غَلّبَه عليه، وكذلك إِذا سُئلَ: أَيُّهما أَظفَرُ؟ فأَخْبِرْ عن واحدٍ غَلَبَ الآخرَ، وقد ظَفَّرَه. وتقولُ العَرَبُ: ظَفِرْتُ عليهِ، في مَعْنَى ظَفِرْتُ بهِ.

وظَفَّرَهُ تَظْفِيرًا: دَعَا لهُ به؛ أَي بالظَّفَرِ.

وظَفِرْتُ به فأَنا ظَافِرٌ، وهو مَظْفُورٌ بهِ، ويقال: أَظْفَرَنِي الله به.

ومن المَجَاز: ظَفَّرَ العَرْفَجُ والأَرْطَى: خَرَجَ منه شِبْهُ الأَظْفَارِ وذلك حين يُخَوِّصُ.

وظَفَّرَ البَقْلُ: خَرَجَ كأَنَّه أَظْفَارُ الطّائرِ.

وظَفَّرَ النَّصِيُّ، والوَشِيجُ، والبَرْدِيُّ، والثُّمَامُ، والصِّلِّيَانُ، والعَرَزُ، والهَدَبُ، إِذَا خَرَجَ له عُنْقُرٌ أَصْفَرُ كالظُّفرِ، وهي خُوصَةٌ تَنْدُرُ منه فيها نَوْرٌ أَغْبَرُ.

وقال الكِسَائِيّ: إِذَا طَلَعَ النَّبْتُ قيلَ: قد ظَفَّرَ تَظْفِيرًا، قال أَبو منصور: هو مأْخوذٌ من الأَظْفَارِ.

وظَفَّرَت الأَرْضُ تَظْفِيرًا: أَخْرَجَتْ من النّبَاتِ ما يُمْكِنُ احْتِفَارُه بالأَصابعِ، وفي اللسان: بظُفْرِ، وهو الأَشْبَهُ.

وظَفَّرَ الجِلْدَ تَظْفِيرًا: دَلَكَه لتَمْلَاسَّ أَظْفارُه.

وأَظْفارُ الجِلْدِ: ما تكَسَّرَ منه فصارَت له غُضُونٌ.

وظَفَّرَ تَظْفِيرًا: غَمَزَ الظُّفْرَ في التُّفَّاحَةِ ونَحْوِهَا، كالقِثّاءِ والبِطِّيخِ، وكلُّ ما غَرَزْتَ فيه ظُفْرَك فشَدَخْتَه أَو أَثَّرْت فيه فقَدْ ظَفَّرْتَه، وقد تَقَدَّم قريبًا.

وظَفَارِ كقَطَامِ: د، باليَمَنِ، يقال: «مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ حَمَّرَ»، كذا في الصّحاحِ؛ أَي تَعلَّمَ الحِمْيَرِيَّةَ، وقد تَقَدَّم، وذكر ابنُ دُرَيْدٍ فيه الصَّرْفَ نقله الصّاغانيّ، وقال غيره: وقد جاءَت مَرفوعَةً أُجْرِيَت مُجْرَى رَبَاب إِذَا سَمَّيتَ بها، وهذا قد أَغفلَه المصنِّف هنا، وذَكَرَه في أَظْفَار الطِّيبِ، وتقدّمَت الإِشَارةُ إِليه.

قال الصاغانيّ: وفي اليمنِ أَربعَةُ مَواضِعَ يُسَمَّى كلُّ واحدٍ منها بظَفَارِ: مَدِينَتانِ وحِصْنانِ، أَمّا المَدِينَتَان فَظَفَارُ الحَقْلِ: قُرْبَ صَنْعَاءِ على مَرحَلَتَيْنِ منها يَمَانِيَهَا، وكانَ يَنْزِلُهَا التَّبَابِعَةُ، وقيل: هي صَنْعَاءُ، قالَهُ ياقُوت، إِليه يُنْسَبُ الجَزْعُ الظَّفَارِيّ، وقال ابن السِّكِّيتِ: الجَزْعُ الظَّفَارِيّ: مَنْسُوبٌ إِلى ظَفَارِ أَسَدٍ: مدينَةٍ باليَمَن.

وآخَرُ بِهَا قُرْبَ مِرْباطَ، بأَقْصَى اليَمَنِ، ويُعْرَف بظَفارِ السّاحِلِ، وإِليه يُنْسَبُ القُسْطُ. وهو العُود الذي يُتَبَخَّرُ بهِ؛ لأَنّه يُجْلَبُ إِليهِ من الهِنْدِ، ومنه إِلى اليَمَن، كنِسْبَةِ الرِّمَاحِ إِلى الخَطّ فإِنَّه لا يَنْبُت به.

قلت: وإِيّاه عَنَى ياقُوت، فإِنّه قال: ظَفَارِ مبنِيَّة على الكَسْرِ: مدينةٌ بأَقْصَى اليَمَنِ على سَاحِل بَحْرِ الهِنْدِ قريبة من الشِّحْر.

وأَمّا الحِصْنَانِ فَأَحَدُهُما حِصْنٌ يمانِيَّ صَنْعَاءَ، على مَرْحَلَتَيْنِ منها في بِلادِ بني مُرَادٍ، ويَسَمَّى ظَفَارَ الوَادِيَيْنِ.

قلت: ويُسَمَّى أَيضًا ظَفَارَ زَيْدٍ.

وآخَرُ شَامِيَّهَا، على مرحَلَتَيْنِ منها أَيضًا في بلاد هَمْدَانَ، ويُسَمَّى ظَفَارَ الظّاهِرِ.

قلْت: وإِلى أَحدِ هؤلاء نُسِب الخَطِيبُ أَبو جَعْفَرٍ حمدين بنُ جَعْفَرِ بنِ فارسٍ القَحْطَانِيّ، وابنُه الخطيبُ عُمَرُ، وحَفِيدُه المُقْرِي محمَّدُ بنُ عُمَرَ.

وبَنُو ظَفَرٍ، مُحَركَةً، بَطنانٍ: بَطْنٌ في الأَنْصَارِ، وهم بنُو كَعْبِ بنِ الخَزْرَجِ بنِ عَمْرٍو النَّبِيتِ بنِ مالِكِ بنِ الأَوْسِ، وبَطْنٌ في بَنِي سُلَيْمٍ، وهم بَنُو ظَفَرِ بن الحَارِثِ بنِ بُهْثَةَ بنِ سُلَيْمٍ. والأَنصار يقولون: هو ظَفَرٌ الَّذِي في الأَنْصارِ، كذا لابن الكَلْبِيّ، والصّوابُ ما قاله المصَنِّف.

واظَّفَرَ الرجلُ، كافْتَعَلَ، وكذلك اطَّفَرَ، بالطاءِ المهملة: أَعْلَقَ ظُفْرَهُ وأَنْشَب، فهو مَجَازٌ.

واظَّفَرَ الصَّقْرُ الطّائِرَ: أَخَذَه بِبَرَاثِنِه، قال العَجّاجُ يَصِف بازِيًا:

تَقَضِّيَ البازِي إِذا الَبازِي كَسَرْ *** أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءٍ فانْكَدَرْ

شَاكِي الكَلالِيبِ إِذَا أَهْوَى اظَّفَرْ

الكَلالِيبُ: مَخالِيبُ البازِي، والشّاكي: مأْخُوذٌ من الشَّوْكَة، وهو مَقلوبٌ؛ أَي حادُّ المَخَالِيبِ. ومن المَجَاز: ما ظَفرَتْكَ عَيْنِي، بالفتح، منذُ حِين؛ أَي مَا رَأَتْكَ، وكذلك ما أَخَذَتْكَ وما عَجَمَتْكَ.

والمِظْفَارُ، بالكسر: المِنْقَاشُ، نقله الصّاغانِيُّ عن الفَرّاءِ.

وسَمَّوْا ظَفْرًا، بفتح فسكون، وفي بعض النسخ بالتحريك، ومُظَفَّرًا، كمُعَظّم، ومِظْفَارًا، وظَفِيرًا، على التَّفَاؤُلِ. وفَاتَه ظافِرٌ.

والأُظْفُورُ، بالضَّمّ: الدَّقِيقُ الّذي يَلْتَوِي على قَضِيبِ الكَرْمِ، ونَصُّ أَبي حيّان جَمْعٌ: خُيُوطٌ تَلْتَوِي على قُضْبانِ الكَرْم.

وظَفِرَانُ، وظَفِرٌ، وظَفِيرٌ ـ بكسر فائِهنّ ـ: حُصونٌ باليَمَنِ، ظَفِر: من حُصون آنِس، وظَفِيرٌ يُعْرَف بظَفِيرِ حجَّةَ.

وظَفَرٌ، كجَبَل: موضع، قُرْبَ الحَوْأَبِ إِلى جَنْبِ الشمط بينَ المَدِينَةِ والشَّأْم من دِيَارِ فَزَارَةَ، هُنَاك قُتِلَت أُمُّ قِرْفَةَ، قتلَها خالِدُ بنُ الوَلِيدِ لمّا تَأَلَّفَ إِليهَا ضُلّالُ طُلَيْحَةَ. ومنهُم مَنْ ضَبَطَه بضمّ فسكونٍ أَيضًا. وظَفَرُ: قرية، بالحِجازِ، وقيل؛ هي التي قَتَلَ بها أُمَّ قِرْفَةَ. والحَوْأَبُ: من مياه العَرَب على طَرِيقِ البَصْرَةِ، وقد تقدّم.

وظَفَرُ الفَنْجِ: حِصْنٌ من جَبَلِ وَصَابٍ من أَعْمَالِ زَبِيدَ، وضبَطَه الصّاغانيّ بكسر الفّاءِ من ظَفِر. والفَنْجُ بفتح فسكون.

والظَّفَرِيَّةُ، مُحَرَّكةً، وقَرَاحُ، كسَحابٍ مضاف إِلى ظَفَرَ، بالتحريك: مَحَلَّتانِ بِبَغْدَادَ شَرْقِيَّتانِ، ومن الأُولى: أَبو نَصْر أَحْمَدُ [بن محمد] بنُ عبدِ المَلِك الأَسَدِيّ الظَّفَرِيّ، عن أَبي بَكْر الخَطِيب، تُوُفِّيَ سنة 532.

ومن المَجَاز: رَأَيْتُه بظُفْرِه، بالضَّمِّ؛ أَي بِنَفْسِه.

ويُقَال: قَوْسٌ مُظَفَّرَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ. إِذا قُطِعَ مِنْ ظُفْرَيْها؛ أَي طَرَفَيْها شَيْ‌ءٌ، نقله الصّاغانِيّ.

والأَظْفَارُ، كأَنَّه جَمْع ظُفْر: كَوَاكِبُ صِغَارٌ قُدّامَ النَّسْرِ.

والأَظْفَارُ: كِبَارُ القِرْدَانِ.

وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا} كُلَّ ذِي ظُفُرٍ دَخَلَ فيهِ؛ أَي في ذِي ظُفُرٍ ذواتُ المَنَاسِمِ من الإِبِلِ والأَنْعَامِ؛ لأَنّها كالأَظْفارِ لَهَا. هكذا في سائر النُّسَخ، «والأَنْعَام» وهو خطأٌ، والصوابُ والنَّعَامُ، كما في التهذيبِ والمُحْكَمِ واللِّسانِ والتَّكْمِلَةِ، وقد رَدَّه عليه البَلْقِينِيّ في حواشيه والبَدْر القَرَافيّ، وتَبِعَهُم شَيخُنَا، قال: لأَنَّ الأَنْعَامَ هي الإِبِلُ، أَو معها غيرُهَا، فالأَوّلُ مُوجِبٌ لعَطْفِ التّرادُفِ بِلا حاجَةٍ، والثاني قد يَدْخُلُ فيه الشّاءُ مع أَنّه من ذَوَاتِ المَناسِم، انتهى. ونقل القَرَافِيّ عن تَفْسِير القُرْطُبِيّ، عن مُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ أَنّ كُلّ ذِي الظُّفُرِ هُوَ ما لَيْسَ بمُنْفَرِجِ الأَصابِعِ من البهائِمِ والطَّيْرِ، كالإِبِلِ، والنَّعامِ والإِوَزّ والبَطّ.

وعن ابن عبّاس: الإِبِل والنَّعام؛ لأَنّها ذاتُ ظُفُرٍ كالإِبِل، أَو كل ذِي مِخْلَبٍ من الطّائِرِ، وحافِرٍ من البَهَائِم؛ لأَنّهَا كالأَظْفارِ لها.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

تَظَافَرَ القَوْمُ، وتَظَاهَرُوا بمعنًى واحدٍ، قاله الصاغانيّ.

قلْتُ: وفي إِضاءَة الأُدموس لشيخِ مشايخِنا أَحْمَدَ بنِ عبدِ العَزِيزِ الفيلالي ما نَصُّه: وقد نَبَّه السَّعْدُ في شَرْح العَضُدِ أَن التّظافُرَ بالظَّاءِ لَحْن، قال: لكِنّي رأَيْتُ في تأْليفٍ لطيف لابن مالِكٍ فيما جاءَ بالوَجْهَيْنِ أَنّ التضافر مما يُقَالُ بالضَّادِ وبالظّاءِ، انتهى. قلْت: يَعِني بذلك التأْليفِ اللطيف كتابَه: الاعْتِضاد في الفَرْقِ بين الظاء والضّاد، واختصرَه أَبو حَيّان، فسماه: الارتضاء، وهذا القولُ مذكور فيهما.

وكلُّ أَرْضٍ ذاتِ مَغَرَّةٍ ظَفَارِ. وظَفُورٌ، كصَبُورٍ: من أَسمائه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم، نقله شيخُنَا من سيرة الشّاميّ.

ورجل ظَفِرٌ، ككَتِفٍ: حَدِيدُ الظُّفُرِ قالَه الزَّمَخْشَرِيّ.

ومن المَجَاز: ظَفِرَت النّاقَةُ لَقْحًا: أَخَذَتْهُ وقَبِلَتْه.

ويُقَال: به ظُفُرٌ من مَرَضٍ.

وأَفْرحْته من ظُفْرِه إِلى شُفْرِه، كما تقولُ: من قَدَمِه إِلى قَرْنه، كما في الأَساس.

وأَظْفَارُ: أُبَيْرِقَاتٌ حُمْرٌ في دِيَارِ فَزَارَةَ.

وظَفَرٌ، محركةً: مكانٌ مُطمَئنٌّ يُنْبِتُ.

وظُفِرَت العَيْنُ كعُنِيَ، فهي مَظْفُورَةٌ، إِذا حَدَثَتْ فيها الظَّفَرَةُ.

وظَفَرَه: كَسَرَ ظُفْرَه، أَو قَلَعَه.

وهو كَلِيلُ الظُّفْرِ؛ أَي ذَلِيلٌ.

والتَّظْفِيرُ: دَلْكُ الرْجُلِ الجِلْدَ.

والظُّفْرُ، بالضمِّ: ظَفَرَةُ العَيْنِ ورأْسُ الكُظْر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


76-تاج العروس (برقش)

[برقش]: أَبُو بَرَاقِشَ: طائِرٌ صغِيرٌ بَرِّيٌّ كالقُنْفُذِ، أَعْلَى رِيشِهِ أَغْبَرُ، وأَوْسَطُه أَحْمَرُ، وأَسْفَلُه أَسْوَدُ، فإِذا هِيجَ انْتَفَشَ، فتَغيَّرَ لَوْنُه أَلْوانًا شَتَّى، قالَهُ اللَّيْثُ، وأَنشد الجَوْهَرِيّ للأَسَدِيّ:

كَأَبِي بَراقِشَ كُلّ لَوْ *** نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ

وفي رِوَايَةٍ «كُلّ يَوْمٍ». قال ابنُ بَرَّيّ: وقال ابنُ خَالَوَيْه: أَبو بَراقِشَ: طائِرٌ يكون في العِضَاهِ، ولَوْنُه بين السَّوَادِ والبَيَاضِ، وله سِتُّ قَوَائمَ، ثَلاثٌ من جَانِبٍ، وثَلَاثٌ من جانِبٍ، وهو يَتَلَوَّنُ أَلْوانًا.

والبِرْقِشُ، بالكَسْرِ: طائِرٌ آخَرُ صَغِيرٌ مُتَلَوِّنٌ، من الحُمَّرِ، مثلُ العُصْفُور، يُسَمَّى الشُّرْشُورُ، بلُغَة الحِجَاز، نقله الجَوْهَرِيُّ، قال الأَزْهَرِيّ: وسَمِعتُ صِبْيَانَ الأَعْرَابِ يُسَمُّونَه أَبا بَرَاقِشَ.

وبِرْقِشٌ: شاعِرٌ تَيْمِيٌّ، من شُعَرَاءِ الدَّوْلَة العَبّاسِيّة، نَقَلَه الصّاغَانِيّ.

والبَرْقَشَةُ: التَّفَرُّقُ، عن ابنِ الأَعْرَابِي.

والبَرْقَشَةُ: خَلْطُ الكَلَامِ، مَأْخُوذ من أَبي بَرَاقِشَ.

والبَرْقَشَةُ: الإِقْبَالُ عَلَى الأَكْلِ.

وبَرَاقِشُ: اسْمُ كَلْبَةٍ، ولَهَا حَدِيثٌ، وفي المَثَلِ: «علَى أَهْلِهَا دَلَّتْ بَرَاقِشُ» لأَنَّهَا سَمِعَتْ وَقْعَ حَوَافِرِ دَوَابَّ، فنَبَحَتْ، فاسْتَدَلَّوا بِنُبَاحِهَا عَلَى القَبِيلَةِ، فاسْتَبَاحُوهُم، فذَهَبَ مَثَلًا، هكذا نَقَلَه الجَوْهرِيُّ، وحَكَاه أَبو عُبَيْدٍ عن إِبِي عُبَيْدَةَ مثل ما ذَكَرَه الجَوْهَرِيّ.

وقال ابنُ هانِئ: زَعَمَ يُونُس عن أَبِي عمْرٍو أَنَّه قال: هذا المَثَلُ «على أَهْلِها تَجْنِي بَراقِشُ» فصارَتْ مَثَلًا، وعليه قولُ حَمْزَةَ بنِ بِيض:

لَمْ يَكُنْ عن جِنَايَةٍ لَحِقَتْنِي *** لا يَسَارِي ولا يَمِينِي جَنَتْنِي

بَلْ جَنَاهَا أَخٌ عَلَيَّ كَرِيمٌ *** وعَلَى أَهْلِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي

أَو اسْمُ امْرَأَةِ لُقْمَانَ بنِ عادٍ، هذا نصُّ قَوْلِ الشَّرْقِيِّ بنِ القُطَامِيّ، وتَمَامُه هو القَوْلُ الَّذِي يَأْتِي فيما بَعْدُ، كما سَيُنَبِّهُ عليه، وأَمّا الّذِي سَيَذْكُرُه المصنِّف الآن فهوَ من سِيَاقِ قَوْلِ أَبي عُبَيْدَةَ، ونَصُّه: بَرَاقِشُ: اسمُ امْرَأَةٍ، وهي ابْنَةُ مَلِكٍ قَدِيمٍ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ مَغَازِيه، واسْتَخْلَفَها زَوْجُهَا على مُلْكِه، فأَشَارَ عَلَيْهَا بعضُ وُزَرَائهَا أَنْ تَبْنِيَ بِنَاءً تُذْكَرُ به، فبنَتْ موضعينَ: بَراقِشُ ومَعِينٌ، فلَمَّا قَدِمَ أَبُوهَا قال: أَرَدْتِ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ لَكِ دُونِي، فأَمَرَ الصُّنَّاعَ الَّذِين بَنَوْهُمَا أَنْ يَهْدِموهما، فقالت العَرَبُ «على أَهْلِها تَجْنِي بَرَاقِشُ».

وقال أَبو عَمْرٍو: بَرَاقِشُ كانَتْ امرأَةً لِبَعْضِ المُلُوكِ، فسافَرَ المَلِكُ واسْتَخْلَفَهَا، وكَانَ لَهُمْ مَوْضِعٌ إِذا فَزِعُوا دَخَّنُوا فِيهِ، فيَجْتَمِعُ الجُنْدُ إِذا أَبْصَرُوه، وإِنَّ جَوَارِيَهَا عَبِثْنَ لَيْلَةً، فدَخَّنَّ، فاجْتَمَعُوا، فقِيلَ لَهَا، إِنْ رَدَدْتِيهم، ولم تَسْتَعْمِلِيهِم في شَيْ‌ءٍ فدَخَّنْتم لمْ يأْتِكِ أَحَدٌ مَرّةً أُخْرَى، فأَمَرتَهُم فبَنَوْا بِناءً دُونَ دَارِهَا، فلمّا جاءَ المِلكُ سَأَلَ عن البِنَاءِ، فأُخْبِرَ بالقِصّة، فقالَ: على أَهْلِها تَجْنِي بَرَاقِشُ، فصارَتْ مَثَلًا يُضْرَبُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَرْجِعُ ضَرَرُه عَلَيْه، هكذا نَقَلَه الصّاغَانِيّ.

أَو بَرَاقِشُ: امرأَةُ لُقْمَانَ بنِ عادٍ، وكان لُقْمانُ من بَنِي صُدَاءٍ، وكانَ قوْمُهُم لا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الإِبِلِ، فأَصابَ لُقْمَانُ مِنْ بِرَاقِشَ غُلَامًا، فَنَزل مع لُقْمَانَ في بَنِي أَبِيهَا، فأَوْلَمَوا، ونَحَرُوا جَزُورًا إِكرامًا له، فَراحَ ابنُ بَرَاقِشَ إِلى أَبِيهِ بِعرْقٍ منْ جَزُورٍ ونص ابن القُطامِيّ: فرَاحتْ بَراقِشُ بِعَرْقٍ من الجَزُورِ، فدَفعتْهُ لزوجِها، فأَكَلَ لُقْمانُ، فقالَ: ما هذَا، فَما تَعَرَّقْتُ طَيِّبًا مِثْلَه قَطُّ؟ فقالَ: جَزُورٌ نَحَرَها أَخْوالِي، ونصُّ ابنِ القُطَامِيّ: فقالت بَرَاقِشُ: هذا من لحْم جَزُورٍ، قال: أَوَ لُحُومُ الإِبِلِ كُلِّها هكذا في الطِّيبِ؟ قالت: نَعَم، فَقالَتْ: جَمِّلُوا، هكذا في النُّسَخ، والصَّوَابُ «جَمِّلْنَا واجْتَمِلْ»، فأَرْسلْتَهَا مَثَلًا؛ أَي أَطْعِمْنَا الجَمَلَ واطْعمْ أَنْتَ مِنْهُ، وكَانَتْ بَرَاقِشُ أَكْثَرَ قَوْمِهَا بَعِيرًا، فأَقْبَلَ لُقْمَانُ على إِبِلِهَا وإِبِلِ أَهْلِهَا، فَأَشْرَعَ فِيهَا، وفَعَلَ ذلِكَ بنُو أَبِيهِ لمّا أَكَلُوا لَحْمَ الجَزُورِ، هكذا في النُّسخ، والصَّوَابُ لُحُومَ الجَزُورِ، فقِيلَ: «عَلَى أَهْلِهَا تَجْنِي بَراقِشُ»، فصارَتْ مَثَلًا.

وبَراقِشُ وهَيْلانُ: جبَلانِ، عن أَبِي عَمْرٍو، أَو وَادِيَانِ، عن الأَصْمَعِيّ، أَو مدِينَتَانِ عادِيَّتَانِ باليَمنِ خَرِبَتَا، وهذا الأَخِيرُ هُو قَوْلُ أَبِي حَنِيفَة الدِّينَوَرِيّ، قال: زَعَمُوا. وقال النّابِغَةُ الجعْدِيّ يَذكر امْرأَةً:

يُسَنُّ بالضِّرْوِ من بَرَاقِشَ أَو *** هَيْلانَ أَو ضَامِرٍ من العُتُمِ

أَيْ يُسَوَّكُ، ويُرْوَى «نَاضِر» كذا في التّكْمِلَةِ، وفي المُعْجَم: يَسْتَنّ، وقال: يَصِفُ بَقَرًا، قال: والضِّرْوُ: شَجَرٌ يُسْتَاكُ به، والعُتْمُ: شَجَرُ الزَّيْتُونِ، قال الصَّاغانيّ: ورَوَاه الجاحِظُ:

ويَرْتَعِي الضِّرْوَ مِنْ بَرَاقِشَ...

إِلى آخره، قال: وليستْ رِوَايَتُه بشَيْ‌ءٍ.

وبَرْقَشَ عَليَّ في الكَلَامِ: خَلَّطَهُ.

وبَرْقَشَ في الأَكْلِ: أَقْبَلَ عَلَيْه، وهذانِ قد ذَكَرَ مَصْدَرَيْهِمَا آنِفًا، وتفريقُ المَصَادِرِ من الأَفْعَالِ غيرُ مُناسِب. أو خَلَّطه*.

وكَذا قولُه البَرْقَشَةُ، وفي بَعْضِ النُّسَخ، أَو البَرْقَشَةُ: التَّفَرُّقُ، قد تقَدَّمَ بِعَيْنِه قريبًا، فهو تَكْرارٌ مَحْضٌ. والبَرْقَشَةُ: اخْتِلافُ لَوْنِ الأَرْقَشِ.

ويُقَال: تَبَرْقَشَ لَنَا؛ أَي تَزَيَّنَ بأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ كُلّ لونٍ.

* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:

بَرْقَشَ الرّجُلُ بَرْقَشَةً: وَلَّى هارِبًا.

والبَرْقَشَةُ: شِبْهُ تَنْقِيشٍ بأَلْوَانٍ شَتَّى، وبَرْقَشَهُ: نَقَشَه.

وتَبَرْقَشَ النَّبْتُ: تَلَوَّنَ، وتَبَرْقَشَتِ البِلَادُ: تَزَيَّنَت، وتَلَوَّنَتْ، وأَصلُه من أَبِي بَرَاقِشَ.

ويُقَال: تَرَكْتُ البِلادَ بَرَاقِشَ؛ أَي ممتَلِئَةً زَهْرًا مُخْتَلِفَة مِنْ كلّ لَوْنٍ، عن ابنِ الأَعْرَابِيّ، وأَنشَدَ للْخَنْسَاءِ تَرْثِي أَخَاهَا:

تَطَيَّرَ حَوْلِي والبِلادُ بَرَاقِشٌ *** بأَرْوَعَ طَلاّبِ التِّرَاتِ مُطَلَّبِ

ويُرْوَى: تُطَيِّرُ؛ أَي تُسْرِع وتَعْدُو.

وقِيل: بلادٌ بَرَاقِشُ: أَيْ مُجْدِبَةٌ خَلاءٌ، كبَلَاقِعَ: سَوَاءٌ، فإِنْ كَانَ كذلِكَ فهُوَ من الأَضْداد.

والمُبْرَنْقِشُ: الفَرِحُ المَسْرورُ كالمُبْرَنْستِقِ.

وابْرَنْقَشَت العِضَاهُ: حَسُنَت.

وابرَنْقَشَت الأَرْضُ: اخْضَرَّتْ.

وابْرَنْقَشَ المَكَانُ: انْقَطَعَ عن غَيْرِه.

وحَكَى أَبُو حاتِمٍ عن الأَصْمَعِيّ، عن أَبِي عَمْرِو بن العَلَاءِ أَنّ بَرَاقِشَ ومَعِينَ مَدِينَتان بُنِيَتَا في سَبْعِينَ أَو ثَمَانِينَ سَنَةً، وقد فَسَّرَهما الأَصْمَعِيُّ في شِعْرِ عَمْرِو بنِ مَعْدِيكَرِب، وهُمَا مَوْضِعَان، وهو:

دَعانَا من بَراقِشَ أَوْ مَعِينٍ *** فأَسْرَعَ واتْلأَبَّ بِنَا مَلِيعُ

وفسّرَ أَتْلأَبَّ باسْتَقَامَ، والمَلِيعَ بالمُسْتَوِي من الأَرْض، وزاد في المعجَمِ: كان بعضُ التَّبَابِعَةِ أَمَرَ ببِنَاءِ سَلْحِينَ فبُنيَ في ثَمَانِينَ عامًا، وبُني بَرَاقِشُ ومَعِينُ بغُسَالَةِ أَيْدِي صُنّاعِ سَلْحِينَ، ولا تَرَى لِسَلْحِينَ أثَرًا، وهَاتَانِ قائِمَتَانِ.

قلتُ: والظّاهِرُ أَنَّهما غَيْرُ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّف، من وُجُوهٍ، فتَأَمَّلْ.

قال الزَّمَخْشَرِيّ: ويُقَالُ للمُتَلَوِّنِ: أَبُو بَرَاقِشَ.

وبُرْقَاشُ، بالضّمِّ: من القُرَى المِصْريّة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


77-تاج العروس (كنص)

[كنص]: الكُنَاصُ، كغُرَاب، أَهْمَله الجَوْهَرِيّ، وهو الكُبَاصُ بالمُوَحَّدَةِ، الَّذِي تَقَدَّم عن اللَّيْثِ، أَو الصَّوابُ بالنُّونِ والبَاءُ تَصْحِيفٌ، والَّذِي في كتَابِ العَيْن بالبَاءِ، كما تَقَدَّم، ومنهُم مَنْ ضَبَطَه بالنُّون.

وكَنَّصَ في وَجْهِ فُلانٍ تَكْنِيصًا: حَرَّكَ أَنْفَهُ اسْتِهْزَاءً، قالهُ ابنُ الأَعْرَابِيّ. ومنه‌ حَدِيثُ كَعْبٍ أَنَّه قال: «كَنَّصَتِ الشيَاطِينُ لِسُلَيْمَانَ» قال كَعْبٌ: أَوَّل مَنْ لبِسَ القَبَاءَ سُلَيْمَانُ عَليْه السَّلامُ؛ وذلِكَ أَنَّهُ كانَ إِذا أَدْخَلَ رَأْسَهُ للُبْسِ الثَّوْبِ‌ كَنَّصَتِ الشيَاطِينُ اسْتِهْزَاءً، فأُخبِرَ بذلِكَ فلبِسَ القَبَاءَ.

ويُرْوَى بالسين، وقد تَقَدَّمَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


78-تاج العروس (وجع)

[وجع]: الوَجَعُ، مُحَرَّكَةً: المَرَضُ المُؤْلِمُ، اسمٌ جامِعٌ له، ج: أَوْجَاعٌ، وَوِجَاعٌ، كجِبَالٍ وأَجْبَالٍ، كما فِي الصِّحاحِ.

وَجِعَ، كسَمِعَ هذِه اللُّغَةُ الفُصْحَى، ووَجَعَ، مِثالُ وَعَدَ وهذِه لُغَيَّةٌ، هكَذا في سائِرِ الأُصُولِ، ونَصُّ العَيْنِ ـ بَعْدَ ما ذَكَرَ اللُّغَاتِ الآتِي ذِكْرُهَا ـ: وأَقْبَحُهَا وَجِعَ يَجِعُ، وهكَذا نَقَلَهُ عنهُ الأَزْهَرِيُّ. فِي التَّهْذِيبِ، ونَصُّ اللِّسَانِ: قالَ الأَزْهَرِيُّ: ولُغَةٌ قَبِيحَةٌ مَنْ يَقُولُ: وَجِعَ يَجِعُ، وأَوْرَدَهُ الصّاغَانِيُّ فِي العُبَابِ مِثْلَ ذلِك، وقالَ في التَّكْمِلَةِ: أَيْ مِثَالُ وَرِثَ يَرِثُ، فظَهَرَ بذلِكَ أَنَّ الَّذِي عَنَى بهِ اللَّيْثُ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ هُوَ بكَسْرِ العَيْنِ في الماضِي والمُضَارِعِ، ولَمْ أَرَ أَحَدًا ضَبَطَهُ مِثْلَ وَعَدَ يَعِدُ، فانْظُرْه، وتَأَمَّلْ فيهِ، فكَمْ له مِثْلُ هذَا وأَمْثَالِه، يَوْجَعُ كيَسْمَعُ، وهِيَ اللُّغَةُ العَالِيَةُ المَشْهُورَةُ، ويَيْجَعُ بِقَلْبِ الواوِ ياءً، وياجَعُ بِقَلْبِهَا أَلِفًا، قالَ الجَوْهَرِيُّ: وبَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ: يِيْجَعُ بكَسْرِ أَوَّلهِ، وهُمْ لا يَقُولُونَ: يِعْلَمُ اسْتِثْقَالًا للكَسْرَةِ عَلَى الياءِ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الياءان قَوِيَتَا، واحْتَمَلَتَا ما لَمْ تَحْتَمِلْهُ المُفْرَدَةُ، ويُنْشَدُ لِمُتَمِّمِ بنِ نُوَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى هذِه اللُّغَةِ:

قَعِيدَكِ أَلَّا تُسْمِعِينِي مَلامَةً *** وِلا تَنْكَئِي قَرْحَ الفُؤادِ فيِيجَعَا

ومِنْهُم [مَنْ] يَقُولُ: أَنَا إِيْجَعُ، وأَنْتَ تِيجَعُ، قالَ ابنُ بَرّيّ: الأَصْلُ فِي يِيجَعُ يَوْجَعُ، فلَمّا أَرادُوا قَلْبَ الواوِ ياءً كَسَرُوا الياءَ الَّتِي هِيَ حَرْفُ المُضَارَعَةِ؛ لتَنْقَلِبَ الواوُ ياءً قَلْبًا صَحِيحًا، ومن قالَ: يَيْجَلُ ويَيْجَعُ فإِنَّهُ قَلَبَ الواوَ ياءً قَلْبًا شاذًّا جاءَ بخِلافِ القَلْبِ الأَوّلِ؛ لأَنَّ الوَاوَ السّاكِنَةَ إِنّمَا تَقْلِبُهَا إِلى الياءِ لِكَسْرَةِ ما قَبْلَهَا، ويَجِعُ، وهذِهِ هيَ اللُّغَةُ القَبِيحَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّيْثُ، فَعَلَى ما ضَبَطَهُ الصّاغَانِيُّ في التَّكْمِلَةِ كيَرِثُ، وَعَلَى ما ذَهَبَ إِلَيْهِ المُصَنِّفُ كيَعِدُ، فهو وَجِعٌ، كخَجِلٍ، ج: وَجِعُونَ، ووَجْعَى، ووَجاعَى، كسَكْرَى وسَكَارَى وكذلِكَ وِجاعٌ وأَوْجَاعٌ، وهُنَّ وَجَاعَى ووَجِعَاتٌ.

وِيُقَالُ: فُلانٌ يَوْجَعُ رَأْسَهُ بنَصْبِ الرَّأْسِ، وإِذا جِئْتَ بالهَاءِ رَفَعْتَ، وقُلْتَ: يَوْجَعُه رَأْسُه كَمَا في الصِّحاحِ، كيَمْنَعُ فِيهِمَا، ولو قالَ: كيَسْمَعُ كانَ أَحْسَنَ.

ثُمّ قالَ الجَوْهَرِيُّ: وأَنَا أَيْجَعُ رَأْسِي، ويَوْجَعُنِي رَأْسِي، ولا تَقُلْ يُوجِعُنِي، فإِنَّ ضَمّ الياءِ لَحْنٌ وهِيَ لُغَةُ العامَّةِ، قالَ الصّاغَانِيُّ ـ فِي التَّكْمِلَةِ ـ قالَ الجَوْهَرِيُّ: فُلانٌ يَوْجَعُ رَأْسَهُ، نَصَبْتَ الرَّأْسَ، ولم يَذْكُرِ العِلَّةَ في انْتِصَابِهِ، كما هُوَ عادَتُه في ذِكْرِ فَرائِدِ العَرَبِيَّةِ، والفَوَائِدِ النَّحْوِيَّةِ، وهذِه المَسْأَلَةُ فِيها أَدْنَى غُمُوضٍ، قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ للرَّجُلِ: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، مثل: سَفِهْتَ رَأْيَكَ، ورَشِدْتَ أَمْرَكَ، قالَ: وهذا مِنَ المَعْرِفَةِ الَّتِي كالنَّكِرَةِ؛ لأَنَّ قَوْلَكَ: بَطْنَكَ مُفَسِّرٌ، وكَذلِكَ: غَبِنْتَ رَأْيَكَ، والأَصْلُ فيهِ: وَجِعَ رَأْسُكَ، وأَلِمَ بَطْنُكَ، وسَفِهَ رَأْيُكَ ونَفْسُكَ، فلمّا حُوِّلَ الفِعْلُ خَرَجَ قَوْلُكَ: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، وما أَشْبَهَهُ مُفَسِّرًا، قال: وجاءَ هذا نادِرًا في أَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ، وقالَ غَيْرُه: إِنَّمَا نَصَبُوا وَجِعْتَ بَطْنَكَ بنَزْعِ الخافِضِ مِنْهُ، كأَنَّه قالَ: وَجِعْتَ مِنْ بَطْنِكَ، وكَذلِكَ: سَفَهْتَ فِي رَأْيِكَ، وهذَا قَوْلُ البَصْرِيِّينَ؛ لأَنَّ المُفَسِّراتِ لا تَكُونُ إِلّا نَكِرَاتٍ.

وِضَرْبٌ وَجِيعٌ: مُوجِعٌ، وهُوَ أَحَدُ ما جاءَ عَلَى فَعِيلٍ مِنْ أَفْعَلَ، كَما يُقَالُ: عَذَابٌ أَلِيمٌ بمَعْنَى مُؤْلِمٍ، قالَ المَرّارُ بنُ سَعِيد:

وِقَدْ طالَتْ بِكَ الأَيّامُ حَتّى *** رَأَيْتَ الشَّرَّ والحَدَثَ الوَجِيعَا

وقِيلَ: ضَرْبٌ وجِيعٌ وأَلِيمٌ: ذُو وَجَع وأَلَمٍ.

وِالوَجْعاءُ: موضع قالَ أَبُو خِراشٍ الهُذَلِيَّ:

وِكادَ أَخُو الوَجْعَاءِ لَوْلا خُوَيْلِدٌ *** تَفَرَّعَنِي بنَصْلِه غَيْرَ قاصِدِ

وأَخُوها: صاحِبُهَا، وَتَفَرَّعَنِي: عَلانِي بنَصْلِ السَّيْفِ غَيْرَ مُقْتَصِدٍ.

وِالوَجْعاءُ: السّافِلَةُ، وهي الدُّبُرُ* مَمْدَوُدَة، قال أَنَسُ بنُ مُدْرِكَةَ الخَثْعَمِيُّ:

غَضِبْتُ للمَرْءِ إِذْ نِيكَتْ حَلِيلَتُهُ *** وِإِذْ يُشَدُّ عَلَى وَجْعَائِهَا الثَّفَرُ

أَغْشَى الحُرُوبَ وسِرْبَالِي مُضَاعَفَةٌ *** تَغْشَى البَنانَ وسَيْفٌ صارِمٌ ذَكَرُ

إِنِّي وقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَه *** كالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمّا عافَتِ البَقَرُ

يَعْنِي أَنّهَا بُوضِعَتْ، والجَمْعُ وَجْعاواتٌ، والسَّبَبُ فِي هذا الشِّعْرِ أَنَّ سُلَيْكًا مَرَّ فِي بَعْضِ غَزَواتِهِ بِبَيْتٍ مِنْ خَثْعَمٍ، وأَهْلُه خُلُوفٌ، فرَأَى فِيهِنَّ امْرَأَةً بَضَّةً شابَّةً، فعَلاهَا، فأُخْبِرَ أَنَسٌ بذلِكَ، فأَدْرَكَه، فَقَتَلَه.

وِفي الحَدِيثِ: «لا تَحِلُّ المَسْأَلَةُ إِلّا لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» هو أَنْ يَتَحَمَّلَ دِيَّةً، فيَسْعَى بِها حَتّى يُؤَدِّيَها إِلى أَوْلِياءِ المَقْتُولِ.

وِقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أُمُّ وَجَعِ الكَبِدِ: بَقْلَةٌ من دِقِّ البَقْلِ، يُحِبهَا الضَّأْنُ، لَها زَهْرَةٌ غَبْرَاءُ فِي بُرْعُمَةٍ مُدَوَّرَةٍ، ولَهَا وَرَقٌ صَغِيرٌ جِدًّا أَغْبَرُ سُمِّيَتْ لأَنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ وَجَعِ الكَبِدِ قالَ: والصَّفَرُ إِذا عَضَّ بالشُّرْسُوفِ يُسْقَى الرَّجُلُ عَصِيرَها.

وِالجِعَةُ، كعِدَةٍ: نَبِيذُ الشَّعِيرِ عن أَبِي عُبَيْدٍ: قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولَسْتُ أَدْرِي ما نُقْصانُه، وقالَ الصّاغَانِيُّ: فإِنْ كَانَتْ من بابِ ثِقَةٍ. وزِنَةٍ، وعِدَةٍ، فهذا مَوْضِعُ ذِكْرِها.

قلتُ: وقالَ ابنُ بَرِّيٍّ: الجِعَةُ لامُهَا واوٌ، مِنْ جَعَوْتُ، أَيْ: جَمَعْتُ، كأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذلِكَ لِكَوْنِهَا تَجْعُو النّاسَ عَلَى شُرْبِها؛ أَي تَجْمَعُهُم، وذَكَرَ الأَزْهَرِيُّ هذا الحَرْفَ فِي المُعْتَلِّ لِذلِكَ، وسَيَأْتِي هُنَاكَ، إِنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

وِأَوْجَعَهُ: أَلَمَهُ فهُوَ مُوجِعٌ، وفي الحَدِيثِ: «مُرِي بَنِيكِ يُقَلِّمُوا أَظْفَارَهُمْ أَنْ يُوجِعُوا الضُّرُوعَ» أَي: لِئَلَّا يُوجِعُوهَا إِذا حَلَبُوها بأَظْفَارِهِمْ.

وِتَوَجَّعَ الرَّجُلُ: تَفَجَّعَ، أَو تَشَكَّى الوَجَعَ، وتَوَجَّعَ لِفُلانٍ مِنْ كَذا: رَثَى لَهُ مِنْ مَكْرُوهٍ، قالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ *** وِالدَّهْرُ لَيْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

وقالَ غَيْرُه:

وِلا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مُرُوءَةٍ *** يُواسِيكَ أَو يُسْلِيكَ أَو يَتَوَجَّعُ

* ومِمّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

أَوْجَعَ في العدُوِّ: أَثْخَنَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


79-تاج العروس (سرغ)

[سرغ]: السَّرْغُ، أَهْمَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: هُوَ قَضِيبُ الكَرْمِ الرَّطْبُ، ج: سُرُوغٌ وقال اللَّيْثُ: هِيَ السُّرُوعُ، بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ، وقد تَقَدَّمَ.

وسَرْغٌ بلا لامٍ: موضع، قُرْبَ الشّامِ، وهُو في آخِرِ الشّامِ وأَوَّلِ الحِجَازِ، بَيْنَ المُغِيثَةِ وتَبُوكَ، مِنْ مَنَازِلِ حاجِّ الشّامِ، وقِيلَ: عَلَى ثَلاثَ عَشَرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ المَدِينَةِ، عَلَى ساكِنِها الصَّلاةُ والسَّلامُ، هُنَاكَ لَقِيَ عُمَرُ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ أُمْراءَ الأَجْنَادِ، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «حَتَّى إذا كانَ بِسَرْغٍ لَقِيهُ النّاسُ، فأُخْبِرَ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشّامِ»، وقِيلَ: إنَّهُ مِنْ وادِي تَبُوكَ، وقِيلَ: يَقْرُبُ مِنْ رِيفِ الشّامِ.

وسَرْغَى مَرْطَى، كِلاهُمَا، كسَكْرى: قرية، بالجَزِيرَةِ، مِنْ دِيارِ مُضَرَ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيُّ: سَرِغَ كفَرِحَ: أَكَلَ السُّرُوغَ، أي: القُطُوفَ مِنَ العِنَبِ بأُصُولِهَا، ورَوَاهُ اللَّيْثُ بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ، وقد تَقَدَّمَ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

سَرَغٌ، مُحَرَّكَةً: لُغَةً في سَرْغٍ، بالفَتْحِ للمَوْضِعِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


80-تاج العروس (ذوق)

[ذوق]: ذاقَهُ ذَوْقًا، وذَواقًا، ومَذاقًا: ومَذاقَةً: اخْتَبَر طَعْمَه وأَصْلُه فيما يَقِلُّ تَناوُلُه، فإِنَّ ما يَكْثُرُ منه ذلك يُقالُ له: الأَكْلُ وأَذَقْتُه أَنا إِذاقَةً.

وفي البَصائِر والمُفْرَداتِ: اخْتِيرَ في القُرآنِ لَفْظُ الذَّوْق للعَذاب؛ لأَنَّ ذلِكَ وإِنْ كانَ في التَّعارُفِ للقَلِيلِ، فهو مُسْتَصْلَحٌ للكَثِيرِ، فخَصَّهُ بالذِّكْرِ ليُعْلمَ الأَمرين، وكثُر اسْتِعْمالُه في العَذابِ، وقد جاءَ في الرَّحْمَة، نحو قَوْله تَعالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا} ويُعَبَّرُ به عن الاخْتِبارِ، يُقالُ: أَذَقْتُه كذا فذَاقَ، ويُقال: فُلانٌ ذاقَ كذا، وأَنا أَكَلْتُه؛ أَي خَبَرْتُه أَكْثَرَ مما خَبَرَه، وقوله تَعالَى: {فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فاسْتِعْمالُ الذَّوْقِ مع اللِّباسِ من أَجْل أَنَّه أُرِيدَ بهِ التَّجْرِبَة والاخْتِبار، أَي: جَعَلَها بحيثُ تُمارِسُ الجُوعَ، وقِيلَ: إِنَّ ذلكَ على تَقْدِيرِ كَلامَيْنِ، كأَنّه قِيلَ: أَذاقَها [طعم] الجُوعَ والخَوْفَ، وأَلْبَسَها لِباسَهُما، وقولُه تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً} اسْتَعْمَلَ في الرَّحْمَةِ الإِذاقَةَ، وفي مُقابِلَتِها الإِصَابَة في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} تَنْبِيهًا على أَنَّ الإِنْسانَ بأَدْنَى ما يُعْطَى من النِّعْمَة يَبْطَرُ ويَأشَرُ.

قال المُصَنِّفُ: وقالَ بعضُ مَشايخِنا: الذَّوْقُ: مُباشَرَةُ الحاسَّةِ الظّاهِرَةِ، أَو الباطِنَةِ، ولا يَخْتَصُّ ذلك بحاسَّةِ الفَمِ في لُغَةِ القُرآنِ، ولا في لُغَةِ العَرَبِ، قالَ تعالى: {وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} وقالَ تعالَى: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ} وقالَ تَعالَى: {فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فتَأَمَّلْ كَيفَ جَمَعَ الذَّوْقَ واللِّباسَ حَتّى يَدُلَّ على مُباشَرةِ الذَّوْقِ وإِحاطَتِه وشُمُولِه، فأَفادَ الإِخْبارُ عن إِذاقَتِه أَنّه واقِعٌ مُباشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَر، فإِنَّ الخَوْفَ قد يُتَوَقَّعُ ولا يُباشَر، وأَفادَ الإِخْبارُ عن لِباسِه أَنّه مُحِيطٌ شامِلٌ كاللِّباسِ للبَدَنِ، وفي الحَدِيثِ: «ذاقَ طَعْمَ الإِيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإِسْلامِ دِينًا وبمُحَمَّدٍ رَسُولًا»، فأَخْبَرَ أَنَّ للإِيمانِ طَعْمًا، وأَنَّ القَلْبَ يَذُوقُه، كما يَذُوقُ الفَمُ طَعْمَ الطَّعامِ والشَّرابِ، وقد عَبَّرَ النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم عن إِدْراكِ حَقِيقَةِ الإِيمان والإِحْسانِ.

حصولهِ للقلبِ ومُباشَرَتِه له بالذَّوْقِ تارَةً، وبالطَّعامِ والشَّرابِ تارةً، وبوِجْدانِ الحَلاوَةِ تارةً، كما قالَ: «ذاقَ طَعْمَ الإِيمانِ... الحديث» وقالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ».

قالَ: والذَّوْقُ عندَ العارِفينَ: مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنازِلِ السّالِكِينَ أَثْبَتُ وأَرْسَخُ من مَنْزلَة الوَجْدِ، فتَأَمَّلْ ذلك.

ومن المَجازِ ذاقَ القَوْسَ ذَوْقًا: إِذا جَذَبَ وَتَرَها اخْتِبارًا ليَنْظُر ما شِدَّتُها، قال الشَّمّاخُ:

فذاقَ فأَعْطَتْهُ من اللِّينِ جانِبًا *** كَفَى وَلَهَا أَنْ يُغْرِقَ النَّبْلَ حاجزُ

أَي: لَها حاجِزٌ يمنَعُ من إِغراقٍ.

وما ذاقَ ذَواقًا أَي: شَيْئًا والذَّواقُ فَعالٌ: بمعنى مَفْعُول من الذَّوْقِ، ويَقعُ على المَصْدَرِ والاسمِ، وفي الحَدِيثِ: «لم يَكُنْ يَذُمُّ ذَواقًا» وفي الحَدِيثِ ـ في صِفَةِ الصَّحابَةِ ـ: «يَدْخُلُونَ رُوّادًا، ولا يَتَفَرَّقُونَ إِلّا عَنْ ذَواق، ويَخْرُجُونَ أَدِلَّةً» قال القُتَيْبيُّ: الذَّواقُ: أَصْلُه الطَّعْمُ، ولم يُرِدِ الطَّعْمَ ههُنا، ولكِنَّهُ ضَرَبَهُ مَثَلًا لما يَنالُونَ عِنْدَهُ من الخَيْرِ، وقالَ ابنُ الأَنْبارِيِّ: أَراد لا يَتَفَرَّقُونَ إِلّا عَن عِلْمٍ يتَعَلَّمُونَه، يقومُ لهم مَقامَ الطَّعامِ والشَّرابِ، لأَنّه كانَ يَحْفَظُ أَرْواحَهُم، كما كانَ يَحْفَظُ الطَّعامُ أَجْسامَهُمْ. وقالَ أَبو حَمْزَةَ: يقالُ: أَذاقَ زَيْدٌ بَعْدَكَ سَرْوًا؛ أَي صارَ: سَرِيًّا، وكَرَمًا أَي: صارَ كَرِيمًا وأَذاقَ الفَرَسُ بعدَك عَدْوًا، أَي: صارَ عَدّاءً بعدَك، وهو مَجازٌ.

وتَذَوَّقَهُ أَي: ذاقَهُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةِ وشَيْئًا بعدَ شَيْ‌ءٍ.

وتَذاوَقُوا الرِّماحَ: إِذا تَناوَلُوها قالَ ابنُ مُقْبِلٍ:

أَو كاهْتِزازِ رُدَيْنيٍّ تَذاوَقَهُ *** أَيْدِي التِّجارِ فزَادُوا مَتْنَه لِينَا

وهو مَجازٌ.

* ومما يُسْتَدرَكُ عليه:

المَذاقُ، يكونُ مَصْدَرًا، ويكونُ اسْمًا.

وتَقُول: ذُقْتُ فُلانًا، وذُقْتُ ما عِنْدَه، أَي: خَبَرْتُه.

والذَّوّاقُ، كشَدّادٍ: السَّرِيعُ النِّكاحِ السَّرِيعُ الطّلاقِ، وهي ذَوّاقَةٌ، وقد نُهِيَ عن ذلِك.

والذَّوّاقُ أَيْضًا: المَلُولُ.

واسْتَذاقَ فُلانًا: خَبَره فلَمْ يَحْمَدْ مَخْبَرَتَه.

وأَمْرٌ مُسْتَذاقٌ، أَي: مُجَرَّبٌ مَعْلُومٌ.

وذَوْقُ العُسَيْلَةِ: كِنايَةٌ عن الإِيلاجِ.

ويَومٌ ما ذُقْتُه طَعامًا، أَي: ما ذُقْتُ فيهِ.

وتَذاوَقَه، كذَاقَهُ.

وهو حَسَنُ الذَّوْقِ للشِّعْرِ: مَطْبُوعٌ عليه.

وما ذُقْت غَماضًا، وما ذُقْتُ في عَيْنِيَ نَوْمًا.

وذاقَتْها يَدِي، وذاقَتْ [كَفِّي] فُلانَةَ: إِذا مَسَّتْها.

ويُقال: ذِيقَ كَذِبُه، وخُبِرَتْ حالُه.

واسْتَذاقَ الأَمْرُ لفُلانٍ: انْقادَ لَهُ، ولا يَسْتَدِيقُ لي الشِّعْر إِلّا في فُلان.

ودَعْنِي أَتَذَوَّق طَعْمَ فُلانٍ.

وتَذَوَّقْتُ طَعْمَ فِراقِه، وكلُّ ذلِك مَجازٌ وكِنايَةٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


81-تاج العروس (سرق)

[سرق]: سَرَقَ مِنْهُ الشَّيْ‌ءَ يَسْرِقُ سَرَقًا، مُحَرَّكَةً، وككَتِفٍ، وسَرَقَةً مُحَرَّكَةً، وكفَرِحَةٍ، وسَرْقًا بالفَتْحِ ورُبَّما قالُوا: سَرَقَةُ مالًا، كما في الصِّحاحِ، وتَقُولُ في بيعِ العَبْدِ: بَرِئْتُ إِلَيْكَ من الإِباقِ والسَّرَقِ.

واسْتَرَقَهُ وهذه عن ابْنِ الأَعْرابِيِّ، وأَنْشَدَ:

بِعْتُكَها زانِيَةً أَو تَسْتَرِقْ *** إِنَّ الخَبِيثَ للخَبِيثِ يَتَّفِقْ

وقالَ ابنُ عَرَفَه: السّارِقُ عندَ العَرَبِ: مَنْ جاءَ مُسْتَتِرًا إِلى حِرْزٍ فأَخَذَ مالًا لغَيْرِه، فإِنْ أَخَذَهُ من ظاهِرٍ، فهُو مُخْتَلِسٌ، ومُسْتَلِبٌ، ومُنْتَهِبٌ، ومُحْتَرِسٌ، فإِنْ مَنَع ما فِي يَدِه فهو غاضِبٌ. والاسْمُ السَّرْقَةُ بالفتح، وكفَرِحَةٍ، وكَتِفٍ واقْتَصَر الجَوْهَرِيُّ على الأَخِيرَتَيْنِ، والأُولى نَقَلَها الصّاغانِيُّ.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: سَرِقَ الشَّيْ‌ءُ كفَرِحَ: خَفِيَ هكذا يَقُولُ يُونُس، وأَنْشَدَ:

وتَبِيتُ مُنْتَبِذَ القَذُورِ كأَنَّما *** سَرِقَتْ بُيُوتُك أَنْ تَزُورَ المَرْفَدَا

القَذُورُ: التي لا تُبارِكُ الإِبِلَ، والمَرْفَدُ: الذي تُرْفَدُ فيه.

والسَّرَقُ، مُحَرَّكَةً: شُقَقُ الحَرِير قالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الأَبْيَضُ وأَنْشَدَ للعَجّاجِ:

ونَسَجَتْ لَوامِعُ الحَرورِ *** مِنْ رَقْرَقانِ آلِها المَسْجُورِ

سَبائِبًا كسَرَقِ الحَرِيرِ

أَو الحَرِيرُ عَامَّةً قالَ أَبو عُبَيْدٍ: أَصْلُها بالفارِسِيَّةِ سَرَهْ، أَي: جَيِّدٌ، فعَرَّبُوه، كما عُرِّب بَرَقٌ للحَمَلِ، ويَلْمَق للقَباءِ، وهما بَرَهْ ويَلْمَهْ الواحِدَةُ بهاءٍ ومنه الحَدِيثُ: ـ قالَ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم ـ لعائِشَةَ رضي ‌الله‌ عنها: «رَأَيْتُكِ في المَنامِ مَرَّتَيْنِ؛ أَرَى أَنَّكِ في سَرَقَةٍ من حَرِيرٍ أَتانِي بكِ المَلَكُ» أَي: في قِطْعَةٍ من جَيِّدِ الحَرِيرِ.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: سَرِقَتْ مَفاصِلُه، كفَرِحَ سَرَقًا، مُحَرَّكَةً: ضَعُفَتْ وقالَ غيرُه: كانْسَرَقَتْ ومنه قَوْلُ الأَعْشَى:

فهْيَ تَتْلُو رَخْصَ الظُّلُوفِ ضَئيلًا *** فاتِرَ الطَّرْفِ في قُواه انْسِراقَ

أَي: فُتُورٌ وَضَعْفٌ.

والشَّيْ‌ءُ: خَفِيَ هكذا في سائِرِ النُّسَخِ، وهو مُكَرَّرٌ.

وسَرَقَةُ، محَرَّكَةً: أَقْصَى ماءٍ لضَبَّةَ بالعالِيَةِ كذا في التَّكْمِلَة.

وأَبو عائِشَةَ: مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَعِ بنِ مالِكٍ الهَمْدانِيُّ: تابِعِيٌّ كَبِيرٌ، والأَجْدَعُ اسمُه عبدُ الرَّحْمنِ، من أَهْلِ الكُوفَةِ، رأَى مَسْرُوقٌ أَبا بَكْرٍ وعُمَرَ، ورَوَى عن عبدِ اللهِ، وعائِشَةَ، وكانَ من عُبّادِ أَهْلِ الكُوفَةِ، روى عَنْه أَهْلُها، ولّاه زِيادٌ عَلَى السِّلْسِلَةِ، وماتَ بِها سنة 163 رَوَى عنهُ الشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ، قاله ابنُ حِبّان.

ومَسْرُوقُ بنُ المَرْزُبانِ: مُحَدِّثٌ قالَ أَبو حاتِمٍ: ليسَ بقَوِيٍّ.

وفاتَه: مَسْرُوقُ بنُ أَوْسٍ اليَرْبُوعِيُّ: تابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ عَمْرٍو وأَبِي مُوسَى، وعنه حُمَيْدُ بنُ هِلالٍ.

وسُرَّقٌ كرُكَّعٍ*: موضع، بسِنْجارَ بظاهِرِ مَدِينَتِها.

وأَيْضًا كُورَةٌ بالأَهْوازِ ومَدِينَتُها دَوْرَقُ، قال يَزِيدُ بنُ مُفَرِّغٍ:

إِلَى الفَيِّفِ الأَعْلَى إِلى رامَهُرْمُزٍ *** إِلى قُرَيات الشيخِ من نَهْرِ سُرَّقَا

وقالَ أَنَسُ بنُ زُنَيْمٍ يُخاطِبُ الحارِثَ بنَ بَدْرٍ الغُدانِيَّ حِينَ وَلّاهُ عُبَيْدُ الله بنُ زِيادٍ سُرَّقَ:

ولا تَحْقِرَنْ يا حارِ شَيْئًا أَصَبْتَه *** فحَظُّكَ من مُلْكِ العِراقَيْنِ سُرَّقُ

وسُرَّقُ بنُ أَسَدٍ الجُهَنِيُّ نَزِيلُ الإِسْكندَرِيَّةِ: صَحابِيٌّ رضي ‌الله‌ عنه، ويُقالُ فيه أَيضًا: الأَنْصارِيُّ له حَدِيثٌ في التَّغْلِيسِ، وقالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: يُقال: إِنَّه رَجُلٌ من بَنِي الدِّيل، سَكَنَ مِصْرَ وكانَ اسْمُه الحُبابَ فيما يَقُولُونَ فابْتاعَ من بَدَوِيٍّ راحِلَتَيْنِ كانَ قَدِمَ بِهِما المَدِينةَ، فأَخَذَهُما، ثُمَّ هَرَبَ، وتَغَيَّبَ عنه، قال: وبَعْضُهم يَقُولُ في حديثِه هذا: إِنَّه لمّا ابْتاعَ من البَدَوِيِّ راحِلَتَيْهِ أَتَى بِهما إِلى دارٍ لها بابانِ ثُمَّ أَجْلَسَه عَلَى بابِ دارٍ ليَخْرُجَ إِليه بثَمَنِهما، فخَرَج من البابِ الآخَرِ، وهَرَبَ بِهِما، فأُخْبِرَ رَسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم بذلِك، فقالَ: الْتَمِسُوه، فلما أُتِيَ به قالَ: أَنْتَ سُرَّقٌ في حَدِيثٍ فيه طُولٌ وكانَ سُرَّقٌ يَقُولُ: لا أُحِبُّ أَنْ أُدْعَى بغَيْرِ ما سَمّانِي بهِ رَسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم.

وأَبُو حامِدٍ أَحْمَدُ بنُ سُرَّقٍ المَرْوَزِيُّ: إِخْبارِيُّ حَدَّثَ عن إِبْراهِيمَ بنِ الحُسَيْنِ وجَمَاعَةٍ، قال الحافِظُ بن حَجَر: وزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ العَسْكَرِيُّ: «أَنَّ الصّحابِيَّ بتَخْفِيفِ الرّاءِ، وأَنَّ المُحَدِّثِينَ يُشَدِّدُونَها».

والسَّوارِقِيَّةُ: قرية بينَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، من مُضَحَّياتِ حاجِّ العِراقِ بالحَدْرَةِ، وضَبَطَهُ بعضٌ بضَمِّ السِّينِ، وقالَ: تُعْرَفُ بأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي ‌الله‌ عنه.

قلتُ: وهذا هو الصَّوابُ في الضَّبْطِ، كما سَمِعْتُ ذلك من أَفْواهِ أَهْلِها، وأَنْكَرُوا الفَتْحَ، ومنها: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَتِيقِ بنِ بَحْرِ بنِ أَحْمَدَ البَكْرِيُّ السُّوارِقِيُّ، شَرِيفٌ فَقِيهٌ شاعِرٌ، سارَ إِلى خُراسانَ، وماتَ بطُوسَ، سنة 538 سمِعَ منه ابنُ السَّمْعانِيِّ شَيْئًا من شِعْرِه.

والسِّرْقِينُ بالكسرِ وقد يُفْتَحُ: مُعَرَّبُ سِرْكين مَعْرُوفٌ، ويُقال أَيضًا بالجِيمِ بَدَلَ القافِ.

والسَّوارِقُ: الجَوامِعُ، جَمْعُ سارِقَةٍ قالَ أَبُو الطَّمَحانِ:

ولم يَدْعُ داعٍ مِثْلَكُم لعَظِيمَةٍ *** إِذا أَزَمَتْ بالسّاعِدَيْنِ السَّوارِقُ

والمُرادُ بالجَوامِعِ: جَوامِعُ الحَدِيدِ الَّتِي تكونُ في القُيُودِ.

وقِيلَ: السَّوارِقُ: الزَّوائِدُ في فَرَاش القُفْلِ وبه فُسِّرَ قولُ الرّاعِي:

وأَزْهَر سَخَّى نَفْسَه عن تِلادِه *** حَنايا حَدِيدٍ مُقْفَلٍ وسَوارِقُه

وسارُوقُ: قرية وفي العُبابِ: بَلَدٌ بالرُّومِ سُمِّيَ باسْمِ بانِيه سارُو، فعُرِّبَ بقافٍ في آخِرِه.

قلتُ: وفي المُعْجَم لياقُوت: أَنّ سارُو: اسمُ مَدِينَةِ همَذانَ ثم عُرِّبَ فانظره.

وسُراقَةُ، كثُمامَةٍ: ابنُ كَعْبِ بنِ عَمْرِو بنِ عَبْدِ العُزَّى الأَنْصارِيُّ النَّجّارِيُّ، بَدْرِيٌّ، توفي في زَمَنِ مُعاوِيَةَ.

وسُراقَةُ بنُ عَمْرِو بنِ عَطِيَّةَ النَّجّارِيُّ المازِنِيُّ، بَدْرِيٌّ، اسْتُشْهِدَ يومَ مُؤْتَةَ.

وسُراقَةُ بنُ الحارِثِ بنِ عَدِيِّ بنِ عَجْلانَ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ.

وسُراقَةُ بنُ مالِكِ بنِ جُعْشُمٍ المُدْلِجِيُّ الكِنانِيُّ، أَبو سُفْيانَ، أَسْلَمَ بعدَ الطائِفِ.

وسُراقَةُ بنُ أَبي الحُبابِ كذا في النُّسَخِ، والصّوابُ ابنُ الحُبابِ، واستُشْهِدَ يومَ حُنَيْنٍ، قِيلَ: هو وابنُ الحارِثِ الَّذِي تَقَدَّم واحِدٌ، وقِيلَ: بل هُما اثْنانِ، كما فَعَلَه المُصَنِّفُ.

وسُراقَةُ بنُ عَمْرٍو الّذِي صالَحَ أَهْلَ أَرْمِينِيَةَ، وماتَ هُناكَ في خِلافَةِ عُمَرَ، ولَقَبُه ذُو النُّون صوابُه: ذُو النُّورِ؛ لأَنَّهُ يُرَى على قَبْرِه نُورٌ، فلُقِّبَ بهِ: صحابِيُّونَ رضي ‌الله‌ عنهم.

وفاتَه في الصَّحابَةِ: سُراقَةُ بنُ عُمَيْرٍ: أَحَدُ البَكّائِينَ، وسُراقَةُ بنُ المُعْتَمِرِ بنِ أَذَاة، ذَكَره ابنُ الكَلْبِيِّ.

وسُراقَةُ بنُ المُعْتَمِرِ بنِ أَنَسٍ، ذَكَرَه إِبْراهِيمُ بنُ الأَمِينِ الحافِظُ في ذَيْلِه على الاسْتِيعابِ، وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: سُراقَةُ بنُ مالِكٍ القُرَشِيُّ: مُحَدِّثٌ، عن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ يُونانَ، وعنه مُوسَى بنُ يَعْقُوبَ الزَّمَعِيُّ، قُتِلَ سنة 131.

وقَوْلُ الجَوْهَرِيِّ: سُراقَةُ بن جُعْشُمٍ وَهَمٌ، وإِنّما هُو جَدُّهُ قالَ شَيْخُنا: لا وَهَمَ فيهِ؛ لأَنَّه نَسَبَهُ إِلى جَدِّه، فقَدْ ذَكَرَ في المِيمِ أَنَّه سُراقَةُ بنُ مالِكِ بنِ جُعْشُمٍ: صَحابِيٌّ، فهو نَظِيرُ قولِ المُصَنِّفِ نَفْسِه: أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، ونَظِيرُ قَوْلِ العامَّةِ، مُحَمَّدُ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ، ووالِدُهُما عَبْدُ اللهِ، والشُّهْرَةُ كافِيَةٌ. وسَمَّوْا، سارِقًا: وسَرَّاقًا كشَدّادٍ، ومَسْرُوقًا، وسُراقَةَ، وأَنْشَدَ سِيَبَوَيْه في الأَخِيرِ:

هذا سُراقَةُ للقُرْآنِ يَدْرُسُه *** والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَها ذِيبُ

والتَّسْرِيقُ: النِّسْبَةُ إِلى السَّرِقَةِ ومنه قراءَةُ أَبِي البَرَهْسَمِ وابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: إِنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ بضَمِّ السِّينِ وكَسْرِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ.

والمُسْتَرِقُ: النّاقِصُ الضَّعِيفُ الخَلْقِ عن ابْنِ عَبّادٍ، يُقال: هو مُسْتَرِقُ القَوْلِ، أَي: ضَعِيفٌ، وهو مَجازٌ، كما في الأَساسِ.

ومن المَجازِ: المُسْتَرِقُ: المُسْتَمِعُ مُخْتَفِيًا كما يَفْعَلُ السّارِقُ.

ومِنَ المَجازِ: رَجُلٌ مُسْتَرِقُ العُنُقِ أَي: قَصِيرُها مُقَبَّضُها، كما في المُحِيطِ والأَساسِ.

ويُقال: هو يُسارِقُ النَّظَرَ إِليهِ، أَي: يَطْلُبُ غَفْلَةً منه ليَنْظُرَ إِلَيْهِ وكذلك اسْتِراقُ النَّظَرِ، وتَسَرُّقُه، وهو مَجازٌ.

وانْسَرَقَ: فَتَرَ وضَعُفَ وهذا قد تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فهو تَكْرارٌ، وتَقَدَّمَ شاهِدُه من قَوْلِ الأَعْشَى يَصِفُ الظَّبْيَ:

فاتِرَ الطَّرْفِ في قُواهُ انْسِراقُ

وانْسَرَق عَنْهُم: إِذا خَنَسَ ليَذْهَبَ.

ويُقال: تَسَرَّقَ: إِذا سَرَقَ شَيْئًا فشَيْئًا ومنه قَوْلُ رُؤْبَةَ:

وهاجَنِي جَلّابَةٌ تَسَرَّقَا *** شِعْرِي ولا يَزْكُو له ما لَزَّقَا

والإِسْتَبْرَقُ للغَلِيظِ من الدِّيباجِ مُعَرَّبُ اسْتَبْرَه، ذكره بعضٌ هُنا، وقد ذُكِر في ب ر ق وسَبَقَ ما يَتَعَلَّقُ به هناك.

* ومما يُسْتَدركُ عليه:

رجلٌ سارِقٌ، من قَوْمٍ سَرَقَةٍ، وسَرّاقٌ وسَرُوقٌ من قَوْمٍ سُرَّقٍ، وسَرُوقَةٌ، ولا جَمْعَ له، إِنّما هو كصَرُورَة.

وكَلْبٌ سَرُوقٌ لا غَيْرُ، قالَ:

ولا يَسْرِقُ الكَلْبُ السَّرُوقُ نِعالَها

وفي المَثَل: «سُرِقَ السّارِقُ فانْتَحَرَ» نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، قالَ الصّاغانِيُّ: أَي سُرِقَ منه فنَحَرَ نَفْسَه غَمًّا، يُضْرَبُ لمَنْ يُنْتَزَعُ منه ما لَيْسَ له فيُفْرِطُ جَزَعُه.

والاسْتِراقُ: الخَتْلُ سِرًّا، كالّذِي يَسْتَمعُ، وهو مَجازٌ.

والتَّسَرُّقُ: اخْتِلاسُ النَّظَرِ والسَّمْعِ، قالَ القُطامِيُّ:

بَخِلَتْ عَلَيْكَ فما تَجُودُ بنائِلٍ *** إِلّا اخْتِلاسَ حَدِيثِها المُتَسَرَّقِ

والسُّراقَةُ، بالضَّمِّ: اسمُ ما سُرِقَ، كما قِيلَ: الخُلاصَةُ، والنُّقايةُ: لما خُلِّصَ ونُقِّيَ، وبِها سُمِّي سُراقَة.

وعِنْدَه سُراقاتُ الشِّعْرِ، ومنه قولُ ابنِ مُقْبِلٍ:

فأَمّا سُراقاتُ الهِجاءِ فإِنَّها *** كلامٌ تَهاداهُ اللِّئامُ تَهادِيَا

وسَرَّقَه تَسْرِيقًا بمَعْنَى سَرَقَه، قالَهُ ابنُ بَرِّيّ، وأَنْشَدَ للفَرَزْدَق:

لا تَحْسَبَنّ دراهِمًا سَرَّقْتَها *** تَمْحُو مَخازِيَكَ الَّتِي بعُمانِ

أَي: سَرَقْتَها.

ومن المجازِ: سُرِقَ صَوْتُه، وهو مَسْرُوقُ الصَّوْتِ: إِذا بُحَّ صَوْتُه، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، ومنه قولُ الأَعْشَى:

فيهِنَّ مَخْرُوفُ النّواصِفِ مَسْ *** رُوقُ البُغامِ شادِنٌ أَكْحَلْ

أَرادَ أَنَّ في بُغامِه غُنَّةً، فكأَنَّ صَوْتَه مَسْرُوقٌ.

ومَسْرُقانُ، بضَمِّ الرّاءِ: موضِعٌ، قالَ يَزِيدُ بنُ مُفَرِّغٍ الحِمْيَرِيُّ ـ وجَمَع بينَه وبَيْنَ سُرَّقٍ ـ:

سَقَى هَزِمُ الأَوْساطِ مُنْبجِسُ العُرَى *** مَنازِلَها مِنْ مَسْرُقانَ وسُرَّقَا

قالَ ابنُ بَرِّيّ: ويُقال لسارِقِ الشِّعْرِ: سُرَاقَةُ، ولِسارِقِ النَّظَرِ إِلى الغِلْمانِ: شافِنٌ، ويُقال: سُرِقْتُ يا قَوْم، أَي: سُرِقَتْ غُرْفَتِي.

واسْتَرَق الكاتِبُ بعضَ المُحاسَباتِ: إِذا لَمْ يُبْرِزْه، وهو مَجازٌ، وسَرَقْنا لَيْلَةً من الشَّهْرِ: إِذا نَعِمُوا فِيها.

وسَرَقَتْنِي عَيْنِي: غَلَبَتْنِي، وهو مجازٌ.

وقالَ ابنُ عَبّادٍ: السُّورَقُ، بالضمِّ: داءٌ بالجَوارِحِ.

ومَحَلَّةُ مَسْرُوقٍ: قريةٌ بمِصْرَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


82-تاج العروس (برمك)

[برمك]: بَرْمَكُ كجَعْفَرٍ أَهْمَلَه الجَمَاعَةُ، وهو جَدُّ يَحْيَى بنِ خالِدٍ البَرْمَكِيِّ وهو بَرْمَكُ الأَصْغَرِ وكانَ خَالِدُ يكُنَّى أبا العَوْنِ وأَبَا العَبَّاسِ، وقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ الكَاتِبِ، وعنه ابنه يَحْيَى، وخالِدِ أَحَد العِشْرِين الذين اخْتَارَهم الشِّيْعَةُ لإِقامةِ دَعْوةِ بَنِي العَبَّاس بَعْد النُّقَباءُ الاثْنَي عَشَرَ، قالَ ابنُ العَدِيمِ في تارِيخِ حَلَب: قالَ ابنُ الأَزْرَقِ: حدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِيمٌ قال: كانَ بَرْمَكُ واقِفًا ببابِ هِشَام فمرَّ به مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاس فأَعْجَبَه ما رَأَى مِنْ هَيْئَتِه فسَأَلَ عنه فأُخْبِرَ بقَرَابتِه مِنَ النبيِّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، فقالَ لابنِهِ خالِد: يا بُنيَّ إنَّ هؤلاءَ أَهْل بيتِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، وهُمْ وَرَثَته وأَحَقُّ بخلافَتِهِ، والأَمْرُ صائِرٌ إِليهم فإنْ قَدِرْتَ يا بُنيّ أنْ يكونَ لكَ في ذلكَ أَثَرٌ تَنَال به دُنْيا ودِينًا فافْعَل، قالَ: فحفِظَ خالِدٌ ذلكَ عَنْه وعَمِلَ عَلَيه عِنْدَ خُروجهِ في الدَّعْوةِ وهم أي أَوْلادهُ يُسَمَّونَ: البَرامِكَةُ وكانَ جَدُّهم بَرْمَك مَجُوسيًّا، وهو الذي قَدِمَ إلى الرَّصَافةِ ومعه ابنُه خَالِد، وكانَ قَدْ تَعَلَّمَ العِلْم في جبَالِ كُشْمِيْر. وأمَّا بَرْمَكُ الأَكْبَر فهو ابنُ بَشْتاسِف بن جَامَاس، وأَخْبَارُ جَعْفَر والفَضْل ابنَيْ يَحْيَى بن خَالِد مَشْهُورَةٌ مدَوَّنةٌ في الكتُبِ يُضْرَبُ بهم المَثَلُ في الجُودِ والكَرَمِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه: البَرْمَكِيَّةُ مَحَلَّة ببَغْدَادَ، وقِيلَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَاها، ويُقالُ لها أَيْضًا البَرَامِكَةُ كأنَّه نِسْبَةٌ إلى آلِ بَرْمَك الوزَرَاء كالمَهَالبةِ والمَرَازِبةِ نُسِبَ إليها أبو حفصٍ عُمَرُ بنُ أَحْمَد بن إبْرَاهيم البَرْمَكِيُّ كانَ ثِقَةً صالِحًا ماتَ سَنَةَ ثلثمائةٍ وتِسْعٍ وثَمَانِيْن، وابنُه أبو إسْحق إبْرَاهِيم بن عُمَر بن أَحْمد البَرْمَكِيّ الحَنْبَليّ رَوَى عَنْه الخَطِيْبُ وقاضِي المَارسْتَان وماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وخَمْسٍ وأَرْبَعِين، وأَخُوهُ أبو الحَسَنِ عَلِيٍّ كانَ ثِقَةً دَرَسَ فِقْهَ الشافِعِيّ عَلَى أبي حامِدٍ الأَسْفَرَايني، رَوَى عَنْه الخَطِيْبُ وماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وخَمْسِين، وأَخُوهُما أبو العَبَّاس أَحْمدُ سَمِعَ ابنَ شاهِيْن وعَنْه الخَطِيْب كانَ صَدُوقًا ماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وأحد وأَرْبَعِين، وأَحْمَدُ بن إبْرَاهِيم بن عُمَر البَرْمَكِيّ محدِّثٌ جَلِيلٌ رَوَى عَنْه القاضِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقي.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


83-تاج العروس (رغل)

[رغل]: الرُّغْلُ: بالضمِ، نَبْتٌ.

وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَمْضَةٌ تَنْفرشُ وعِيدَانُها صِلابٌ، ووَرَقُها نحو من وَرَقِ الجَمَاجمِ إلَّا أَنَّها بَيْضاءُ ومَنابتُها السُّهولُ، قالَ أَبُو النَّجْمِ:

تَظَلُّ حِفْراه من التَّهَدُّل *** في روض ذَفْراء ورُغْلٍ مُخْجِل

أو هو الذي يُسَمِّيه الفُرْس السَّرْمَقُ، قالَهُ اللَّيْثُ، وأَنْشَدَ:

باتَ من الخَلْصاء في رُغْل أَغَنِّ

قالَ الأَزْهَرِيُّ: غَلِطَ اللَّيْثُ في تَفْسيرِ الرُّغْل أَنَّه السَّرْمَق؛ والرُّغْلُ من شَجَرِ الحَمْضِ ووَرَقُه مَفْتولٌ؛ والإِبِلُ تُحْمِض به، الجمع: أَرْغالٌ.

وأَرْغَلَتِ الأَرْضُ: أَنْبَتَتْه أي الرُّغْلُ.

وأَرْغَلَ الزَّرْعُ: جاوَزَ سُنْبُلُه الإِلْحامَ، والاسمُ الرَّغْلُ، بالفتحِ عن أَبي حَنِيفَةَ؛ قالَ ابنُ عَبَّادٍ: وذلِكَ إذا اشْتَدَّ حَبُّه في السُّنْبُلِ.

وأَرْغَلَ إليه: مالَ بهَوًى أَو مَعُونَةٍ عن ابنِ دُرَيْدٍ كأَرْغَنَ.

وأَرْغَلَ أَيْضًا: أخْطَأ.

وأَرْغَلَتِ الإِبِلُ عن مَراتِعِها؛ أَي ضَلَّتْ.

وأَرْغَلَ أَيْضًا: وَضَعَ الشي‌ءَ في غيرِ مَوْضِعِه.

والرَّغْلَةُ: البَهْمَةُ، تَرْغَلُ أُمَّها أَي تَرْضَعُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

والرُّغْلَةُ: بالضمِ، القُلْفَةُ كالغُرْلَةِ.

والأَرْغَلُ: الأَقْلَفُ، كالأَغْرَلِ عن الأَحْمر؛ ومنه حدِيثُ ابنِ عَبَّاس: أَنَّه كانَ يَكْرَه ذَبِيْحَة الأَرْغَل، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي:

فإنِّي امرُؤٌ من بنِي عامِرٍ *** وإِنَّكِ دارِيَّةٌ ثَيْتَلٌ

تَبُول العُنوقُ على أَنْفه *** كما بالَ ذو الوَدْغة الْأَرْغَل

والأَرْغَلُ: الطَّويلُ الخُصْيَتَيْنِ، نَقَلَه الصَّاغَانيُّ.

والأَرْغَلُ: الواسِعُ النَّاعِمُ من العَيْشِ والزَّمانِ، يقالُ: عَيْشٌ أَرْغَلُ وأَغْرَل، وعامٌ أَرْغَلُ وأَغَرَلُ.

ورَغَلَ المَوْلودُ أُمُّه، كمَنَعَ، يَرْغَلُها: رَضَعَها في غَفْلةٍ وسُرْعةٍ، فأَرْغَلَتْهُ: أَرْضَعَتْهُ، فهي مُرْغِلٌ بالرَّاءِ والزاي جَمِيعًا، أو خاصٌّ بالجَدْي، هكذا خَصَّه الرياشيُّ، قالَ الشاعِرُ:

يَسْبِق فيها الحَمَلَ العَجِيَّا *** رَغْلًا إذا ما آنَسَ العَشِيَّا

يقولُ: إنَّه يبادِرُ بالعَشِيِّ إلى الشاةِ يَرْغَلُها، يَصِفُه باللُّؤْمِ.

وقالَ أَبُو زَيْدٍ: يقالُ هو رَمٌّ رَغولٌ إِذا اغْتَنَمَ كلَّ شي‌ءٍ وأَكَلَه، قالَ أَبُو وَجْزَةَ:

رَمٌّ رَغولٌ إذا اغْبَرَّتْ موارِدُه *** ولا ينامُ له جارٌ إذا اخْتَرفا

يقولُ: إذا أَجْدَب لم يَحْتقر شيئًا وشَرِه إليه، وإنْ أَخْصَب لم يَنَمْ جَارُه خوفًا من غائِلَتِه.

والرَّغولُ: الشَّاةُ تَرْضَعُ الغَنَمَ، كما في العُبَابِ.

ورَغالٌ: كقَطامٍ، الأَمَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ وأَنْشَدَ لدَخْتَنُوسَ بنت لَقِيط:

فَخْرَ البَغِيِّ بِحِدْج *** رَبَّتِها إذا الناس اسْتَقَلُّوا

لا رِجْلَها حَمَلَتْ ولا *** لرَغالِ فيها مُسْتَظَلُّ

قالَ: رَغالُ هي الأَمَةُ لأَنَّها تَطْعَم وتَسْتَطْعِم.

وأَبُو رِغالٍ، ككِتابٍ كُنْيَةٌ من رَاغَلَ يُرَاغِلُ مُرَاغَلَةً ورِغالًا عن ابنِ دُرَيْدٍ ولم يُفَسِّرْه.

وفي سُنَنِ الإِمَام أَبي داوُدَ سُلَيْمن بن الأَشْعَثِ السِّجِسْتانيّ، ودَلائِلِ النُّبُوَّةِ للبَيْهَقِي وغَيْرِهِما عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي ‌الله‌ عنهما، وبه جَزَمَ ابنُ إسْحق والشَّاميّة وغَيْرُهُما من أَئِمَّةِ السِّيَرِ.

وفي بعضِ النسخِ

عن أَنَس قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، حينَ خَرَجْنا معه إِلى الطَّائِفِ فمَرَرْنا بِقَبْرٍ فقالَ: «هذا قَبْرِ أَبي رِغالٍ وهو أَبُو ثَقيفٍ وكان من ثَمودَ وكان بهذا الحَرَمِ يَدْفَعُ عنه فلمَّا خَرَجَ منه أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ التي أَصابَتْ قَوْمَهُ بهذا المَكانِ فدُفِنَ فيه». الحديثَ. وأَوْرَدَه القَسْطلانيُّ هكذا في المَوَاهِبِ في وفادَةِ ثَقيفٍ وبَسطَهُ الشُّرَّاحُ. وقَوْلُ الجَوْهَرِيِّ والصَّاغانيِّ كذلِكَ إنَّه كانَ دَليلًا للحَبَشَةِ حينَ تَوَجَّهوا إلى مكَّة حَرَسَها اللهُ تعالَى، فماتَ في الطَّريقِ بالمغمس؛ قالَ جَرِيرُ:

إذا ماتَ الفَرَزْدق فارْجُمُوه *** كما تَرْمُون قَبْر أَبي رِغَال

غَيُر جَيِّدٍ، وكذا قَوْلُ ابنِ سِيْدَه: كانَ عَبْدًا لشُعَيْبٍ على نَبيِّنا وعليه الصَّلاة والسَّلام؛ وكانَ عَشَّارًا جائِرًا فقَبْرُه بَيْن مَكَّة والطائِفِ يُرْجَمُ إلى اليومِ.

وقالَ ابنُ المكرم: ورَأَيْت في هامِشِ الصِّحَاحِ ما صُورَتُه أَبو رِغَالٍ اسْمُه زَيْدُ بنُ مخلفٍ عَبْدٌ كانَ لصَالحِ النبيِّ عليه‌السلام بَعَثَه مُصَدِّقًا، وأنَّه أَتَى قَوْمًا ليسَ لَهُمْ لَبَنٌ إلَّا شاةٌ واحِدَةٌ ولَهُم صبيٌّ قد ماتَتْ أُمُّه، فهُم يُعاجُونه بلبنِ تلْكَ الشَّاةِ، يعْنِي يُغَذُّونه، فأَبَى أَنَ يأْخذَ غَيْرَهِا فقالُوا: دَعْها نُحابي بها هذا الصبيَّ، فأَبَى، فيُقالُ إنَّه نَزَلَت به قارِعَةٌ من السَّماءِ، ويقالُ: بلْ قَتَلَه رَبُّ الشَّاةِ، فلمَّا فَقَدَه صالِحٌ، عليه‌السلام، قامَ في المَوْسِمِ ينشدُ النَّاسَ فأُخْبِرَ بصَنِيعِه فلَعَنَه، فقَبْرُه بَيْن مكَّة والطَّائِفِ يَرْجُمُه النَّاسُ.

وابْنَا رَغالٍ كسَحابٍ، جَبَلانِ قُرْبَ ضَرِيَّةَ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ، وقد أَهْمَلَه ياقوتُ في المُعْجَمِ.

وناقَةٌ رَغْلاءُ: شُقَّتْ أُذُنُها وتُرِكَتْ مُعَلَّقَةً تنوسُ أَي تَتَحَرَّكُ. قالَ الصَّاغانيُّ: هكذا ذَكَرَه ابنُ دُرَيْدٍ في هذا التَّركيبِ فأخْطَأَ، والصَّوابُ: رَعْلاءُ بالعَيْنِ المهْمَلَةِ، وقد ذَكَرَه في ذلِكَ الترَّكِيبِ على الصِّحْةِ فإعَادَتُه هنا خَطَأٌ.

ورُغْلان: كعُثْمانَ، اسمٌ عن ابنِ دُرَيْدٍ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

فَصِيلٌ رَاغِلٌ: لاهِجٌ.

وأَرْغَلَ المَوْلودُ أُمَّه: أَرْضَعها كرَغَلَها، ومنه حدِيثُ مِسْعَرٍ: «أَنَّه قَرَأَ على عاصِم فَلَحَن، فقالَ: «أَرْغَلْتَ». أَي صرْتَ صَبِيًّا تَرْضعُ بعْدَما مَهَرْت القِراءَة. والزَّايُ لغَةٌ فيه.

وأَرْغَلَتِ القَطاةُ فَرْخَها إِذا زَقَّتْه، بالرَّاءِ والزَّاي، ويُنْشِدُ بَيْتَ ابن أَحْمر:

فأَرْغَلَتْ في حَلْقه رُغْلةً *** لم تُخْطِي‌ءِ الجيدَ ولم تَشْفَتِر

بالرِّوَايَتَيْن.

وأَرْغَلَ الماءَ: صَبَّه صَبًّا كثيرًا، عن ابنِ دُرَيْدٍ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


84-تاج العروس (عذل)

[عذل]: العَذْلُ: الملامةُ، عَذَلَهُ يَعْذِلُه عَذْلًا كالتعذيلِ، شُدِّدَ للكَثْرةِ، واعْتَذَلَ الرجُلُ وتَعَذَّلَ أَي قَبِلَ منه المَلامةَ، وأَعْتَبَ.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: العَذْلُ الإحْراقُ فكأَنَّ اللَّائمَ يُحْرِق بعَذْلِه قلبَ المَعْذولِ، فهو عُذَلَةُ كهُمَزَةٍ، يَعْذِلُ الناسَ كَثيرًا مِثْل ضُحَكَةٍ وهُزَأَةٍ، ومِنْه المَثَلُ: أَنَا عُذَلٌ وأَخي خُذَلةٌ، وكِلانا ليسَ بابْنِ أَمَة يقولُ: أَنَا أَعْذِل أَخي وهو يَخْذُلُني.

ورجُلٌ عَذَّالٌ مِثْل شَدَّادٍ: كثيرُهُ، وكذلِكَ امْرَأَةٌ عَذَّالَةٌ، كَثِيرةُ العَذْلِ قالَ:

غَدَتْ عَذَّالتايَ فقُلْتُ مَهْلًا *** أَفي وَجْدٍ بسَلْمَى تَعْذِلاني؟

وهم العَذَلَةُ، محرَّكةً والعُذَّالُ، كرُمَّانٍ، والعُذَّلُ، كسُكَّرٍ كلُّ ذلِكَ جَمْعُ عاذِل.

ومن المجازِ: أَيامٌ مُعْتذِلاتٌ وعُذُلٌ بضمَّتينِ وهذه عن ابن الأَعْرابيِّ شَدِيدةُ الحَرِّ كأَنَّ بعضَها يَعْذِلُ بعضًا فيقولُ اليومُ منها لصاحِبه أَنا أَشَدُّ حَرًّا منك ولِمَ لا يكونُ حَرُّك كَحرِّي؟ وفي الأَساسِ: اعْتَذَلَ يومُنا اشْتَدَّ حَرُّه، كأَنَّه فرطَ فتَدَارَك تَفْريطَه بالإفْراطِ لائمًا نفْسَه على ما فَرَط منه.

ومُعْتذِلاتُ سُهَيْل: أَيامٌ مُشْتعِلَة عنْدَ طُلُوعِه، انْتَهَى.

وقالَ ابنُ بَرِّي: مُعْتذِلاتُ سُهَيْلٍ: أَيامٌ شَدِيداتُ الحَرِّ تجِي‌ءُ قَبْل طُلُوعِه أَو بعْده. ويقالُ: مُعْتَدِلاتٌ، بدالٍ مُهْمَلةٍ؛ أَي أَنَّهُنَّ قد اسْتَوَيْن في شدَّةِ الحَرِّ ومَنْ رَوَاه بالذالِ أَي أَنَّهُنَّ يَتَعَاذَلْن ويأْمُرُ بعضُهن بعضًا إمَّا بشِدَّةِ الحَرِّ وإمَّا بالكَفِّ عن الحَرِّ.

ومِن المجازِ: العاذِلُ عِرْقٌ يَخْرُجُ منه دَمُ الإسْتحاضَةِ وفي الحدِيث «تلك عاذِلٌ تَغْذُو»، يعْنِي تَسِيلُ، ورُبَّما سُمِّي ذلِكَ العِرْقُ عاذِرًا، بالرَّاءِ، وأُنِّثَ على معْنَى العِرْقةِ، والجَمْعُ عُذُلٌ كشارِفٍ وشُرُفٍ.

وفي العُبَابِ سُمِّي العِرْقُ بذلِكَ لأَنَّ المرْأَةَ تَسْتَلِيم إلى زَوْجِها، فجَعلَ العذْل للعِرْق لكَوْنه سَببًا له.

وعاذِلُ ماءٌ أَو موضع موْضِعٌ، قالَ رُؤْبَة:

في ثُجَرٍ أَفُرَغْنَ في عَثَاجِلًا *** مُنْقَذِمَاتٍ أَو يَرِدْنَ عَاذِلا

قالَ المُفَضّلُ الضَّبِّيُّ: اسمُ شَعْبانَ في الجاهِلِيَّةِ عاذِلٌ، ورَمَضَان ناتِقٌ، وشَوَّال وَعْلٌ، وذي القعْدَةِ وَرْنَةٌ، وذي الحجَّةِ بُرَكٌ، ومُحَرَّم مُؤْتمِرٌ، وصَفَر ناجِرٌ ورَبِيع الأَوَّل، خوَّانٌ، ورَبِيع الآخَر وَبْصانٌ، وجمَادَى الأُوْلَى رُنَّى، وجَمادَى الآخرة خَنِين، ورَجَب الأصمُّ، أَو هو اسمُ شَوَّالٍ وتعقّبُوا عليه وصَوَّبُوا الأوَّل، وأَنْشَدَ شيْخُنا:

يلومُنِي العاذِلُ في حُبِّه *** وما دَرَى شَعْبان أني رَجَب

قالَ فتَمَّتْ له التَّوْرِية لأنَّ رَجَبًا اسْمُه الأَصمّ فكأنَّه يقولُ: وما دَرَى اللَّائِمُ العاذِلُ في الهَوَى أَنّي أَصَمُّ لا أَسْمَع المَلَامَ، الجمع: عَواذِلُ.

واعْتَذَلَ: واعْتَذَلَ الرَّامِي: رَمَى ثانيَةً.

قالَ ابنُ السِّكِّيت: سَمِعْتُ الكِلابيّ يقولُ: رَمَى فلانٌ فأَخْطَأَ ثم اعْتَذَلَ أَي رَمَى ثانيَةً.

وفي الأَسَاسِ: أَي عَذَلَ نفْسَه على الخَطَأ فرَمَى ثانيَةً فأَصَابَ.

والعَذَّالَةُ، مُشَدَّدَةً: الاسْتُ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ.

والمُعَذَّلُ، كمُعَظَّمٍ: من يُعْذَلُ أَي يُلامُ لإفْراطِ جُودِه، شُدِّدَ للكَثْرَةِ.

والمُعَذَّلُ: اسمُ جماعَةٍ منهم مُعَذَّلُ بنُ غَيْلان أَبو أَحْمد، رَوَى عنه عُمَرُ بنُ شَبَّةَ، وابنُه أَبو الفَضْل أَحمدُ بنُ مُعَذَّلٍ فقيهٌ مالِكِيٌّ، وعبدُ الصَّمدِ بنُ مُعَذَّلٍ شاعِرٌ بديعُ القَوْلِ، والمُعَذَّلُ بنُ حاتِمٍ عن نَصْر بنِ عليِّ الجَهْضَميّ، والمُعَذَّلُ بنُ البحتريّ عن وَهبِ بنِ ربيعَةَ، وأَبو المُعَذَّلِ الجرْجَانيّ عن زَكَريا بنِ أَبي زائِدَةَ، وأَبو المُعَذَّل عطيةُ الطفاويّ شيخٌ لعَوْفٍ الأَعْرَابيّ، وزيدُ بنُ المُعَذَّلِ النمريُّ شيخٌ لمحمدِ بنِ مَرْوان القَطَّان، ومحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مُعَذّلٍ عن محمدِ بنِ بِشْر العَبْديّ، وأَبو المُعَذّلِ مُرَّةَ عن عقبةَ بنِ عبدِ الغافِرِ وعنه حمادُ بنُ زيدٍ كذا في التَّبْصير.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

رجُلٌ عَذَّالَةٌ، مُشَدَّدة، كَثيرُ العَذْلِ، والهاءُ للمُبالَغَةِ، قالَ تأَبَّطَ شرًّا:

يا من لعَذَّالةٍ خدَّالة أَشبٍ *** خرَّقَ باللَّومِ جِلْدي أَيّ تَخْرِيق

والعَواذِلُ من النِّساءِ جَمْعُ العَاذِلةِ ويَجُوزُ العاذِلات.

ومن أَمْثالِهم: سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ، يُضْربُ لمَا قد فَاتَ، وأَصْلُ أَنَّ الحارِثِ بن ظالم ضَرَبَ رجُلًا فقَتَلَه، فأُخْبر بعُذْرِه فقالَ ذلِك.

وعَذَّالُ بنُ محمدٍ، ككَتَّانٍ، حدَّثَ عن محمدِ بنِ جَحَادَةَ وعنه زِيادُ بنُ يَحْيَى الحسبانيُّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


85-تاج العروس (أثم)

[أثم]: الإِثْمُ بالكسْرِ: الذَّنْبُ.

قالَ الرَّاغِبُ: هو أَعَمُّ مِن العُدْوان.

وقالَ غيرُه: هو فِعْل مُبْطئٌ عن الثَّوابِ، وقوْلُه تعالَى: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ}. قالَ الفرَّاءُ: الإِثْمُ ما دُوْن الحدِّ.

وقيلَ: الإثْمُ الخَمْرُ، قالَ:

شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلِي *** كذاكَ الإِثْمُ تَصْنَعُ بالعُقولِ

كذا في العُبَابِ والصِّحاحِ.

وقوْلُ الجوْهَرِيّ: وقد يسمَّى الخَمْر إثْمًا يُشِيرُ إلى ما حقَّقه ابنُ الأنْبارِي.

وقد أَنْكَر ابنُ الأنْبَارِي تَسْمِية الخَمْر إثْمًا وجَعَلَه مِن المجازِ، وأَطالَ في رَدّ كَوْنِه حَقِيقَة، نَقَلَه شيْخُنا.

والإثْمُ: القِمَارُ، وهو أَنْ يُهْلِكَ الرجُلُ مالَه ويذْهِبَه، وقوْلُه تعالَى: {قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ}.

قالَ ثَعْلَب: كانوا إذا قامَرُوا فَقَمَروا أطْعَمُوا منه وتصدَّقوا، فالإطْعامُ والصَّدقَةُ مَنْفَعَة.

وقيلَ الإثْمُ أَنْ يَعْمَلَ ما لا يَحِلُّ له، وقد أَثِمَ كعَلِمَ يَأْثَمُ إثْمًا، كعَلِمَ، ومَأْثَمًا كَمَقْعَدٍ وقَعَ في الإثْمِ قالَ:

لو قُلْتَ ما في قَوْمِها لم تِيثَمِ

أَرادَ: ما في قومِها أَحدٌ يفْضُلُها. وفي حَدِيْث سَعِيد بنِ زَيْدٍ: «ولو شَهِدْتُ على العاشِرِ لم إيثَم» هي لُغَةٌ لبعضِ العَرَبِ في آثَم، وذلِكَ أَنَّهم يكْسِرُون حُرُوف المُضارَعَةِ في نحْو نِعْلَم وتِعْلَمِ، فلمَّا كَسَرُوا الهَمْزَةَ في آثمُ انْقَلَبَتِ الهَمْزَةُ الأَصْلِيَّة ياءً، فهو آثِمٌ وأَثيمٌ وأَثَّامٌ، كشَدَّادٍ، وأَثُومٌ كصَبُورٍ.

وأَثَمَهُ اللهُ تعالى في كذا كَمنعَهُ ونَصَرَهُ: عَدَّهُ عليه إِثْمًا.

قالَ شيْخُنا: المَعْروفُ أنَّه كَنَصَرَ وضَرَبَ ولا قائِل إنَّه كمَنَعَ ولا وَرَدَ في كَلامِ مَنْ يُقُتَدَى به، ولا هنا مُوجِبٌ لفتحِ الماضِي والمُضارِع معًا، لأنَّ ذلِكَ إنَّما يَنْشأُ عن كَوْنِ العَيْن واللام حَلْقِيًّا، ولا كذلِكَ أَثم.

وفي اقْتطافِ الأَزَاهر فيمَا جَاءَ على فَعَل بفتحِ عَيْن الماضِي وضمِّها أَو كسْرِها في المُضارِع مع اخْتِلافِ المعْنَى أَو اتِّفاقِهِ وباب الهَمْزَة من المُتَّفق معْنَى أَثَمَه اللهُ في كذا يأْثُمُه ويَأْثِمُه عَدَّه عليه فهو مَأْثُومٌ، وفي المُحْكَمِ: عاقَبَه بالإِثْمِ.

وقالَ الفرَّاءُ: أَثَمَه اللهُ يأْثِمُه إثْمًا وأَثامًا: جَازَاهُ جزاءَ الإثْم، فالعَبْد مَأْثُوم أَي مجْزِيّ جَزَاء الإثْمِ، وأَنشَدَ لنُصيب.

قالَ ابنُ بَرِّي: هو الأَسْوَد المَرْوانّي لا نُصَيْب الأَسْودِ الهاشميّ.

وقالَ ابنُ السِّيْرافي: هو لنُصَيب بن رِيَاح الأَسْود الحُبَكيّ مَوْلَى بنى الحُبَيْك بنِ عَبْد مَنَاة بنِ كِنانَةَ.

وهَلْ يَأثِمَنِّى اللهُ فى أن ذكَرْتُها *** وعَلَّلْتُ أَصْحابي بها لَيْلة النفْرِ

معْناه: هل يَجْزينِّي اللهُ جَزاءَ إِثمِي بأنْ ذكرت هذه المْرأة في غِنائي ويُرْوَى بكسْرِ الثاءِ وضمِّها كما في الصِّحاح.

وآثَمَهُ، بالمدِّ، أَوْقَعَهُ فيه أي في الإِثْمِ، كما في الصِّحاحِ.

وأَثَّمَهُ تأْثيمًا: قالَ له أَثِمْتَ، كما في الصِّحاحِ، قالَ اللهُ تعالَى: {لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ}.

وتأَثَّمَ الرَّجُلُ: تَابَ منه أَي مِن الإِثْمِ، واسْتَغْفَرَ منه، وهو على السَّلْبِ كأنَّه سَلَبَ ذات الإثْم بالتَّوْبةِ والاسْتِغْفارِ أَو رَامَ ذلِكَ بهما.

وأَيْضًا: فَعَلَ فِعْلًا خَرَجَ به مِن الإثْمِ، كما يقالُ: تَحَرَّجَ إذا فَعَلَ فِعْلًا خَرَجَ به مِن الحَرَجِ.

وفي حَدِيْث مُعاذ: فأَخْبر بها عنْدَ موتِه تأَثُّمًا أَي تَجَنُّبًا للإِثْمِ.

والأَثَامُ، كسَحابٍ: وادٍ في جَهَنَّمَ، نعوذُ باللهِ منها.

والأَثامُ: العُقوبَةُ. وفي الصِّحاحِ: جَزاءُ الإثْم.

ومِن سَجَعاتِ الأساسِ: كانوا يَفْزَعونَ مِن الآثامِ أَشَدَّ ما يَفْزعونَ مِن الأثامِ، وبكلِّ منهما فسِّرَتِ الآية في قوْلِه تعالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا}، ويُكْسَرُ في المعْنَى الأَخِير وهو مَصْدرُ أَثَمَه يَأْثِمُه أثامًا بالكَسْرِ والفتحِ قالَهُ الفرَّاءُ.

وقيلَ: الإِثْمُ والإِثام بِكسْرِهِما اسمٌ للأفْعالِ المُبْطِئة عن الثَّوابِ كالمَأْثَمِ كَمَقْعَدٍ.

والأَثِيمُ: الكذَّابُ كالأَثُومِ.

قالَ المناوِيُّ: وتَسْميةُ الكَذِبِ إثْمًا كتَسْمِيةِ الإنْسانِ حَيوانًا لأنه مِن جمْلَتِه. وقوْلُه تعالَى: {كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ} أَي مُتَحَمِّل للإِثْمِ، وقيلَ: أَي كَذَّابٌ.

والأَثِيمُ: كَثْرَةُ رُكوبِ الإِثْمِ كالأَثيمَةِ. بالهاءِ، وقوْلُه، عزّ وجلّ: {طَعامُ الْأَثِيمِ} جَاءَ في التَّفْسيرِ أَنَّه أَبو جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللهُ وقيلَ: الكافِرُ.

والتأْثِيمُ: الإثْمُ، وبه فسِّرَتِ الآيةُ أَيْضًا: {لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ}.

والُمؤاثِمُ: الذي يَكْذِبُ في السَّيْرِ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ.

وفي الصِّحاحِ: ناقَةٌ آثِمَةٌ ونوقٌ آثِماتٌ أي مُبْطِئاتٌ مُعْيِياتٌ، قالَ الأعْشَى:

جُمالِيَّة تَغْتَلي بالرِّداف *** إذا كَذَّبَ الآثِماتُ الهَجِيرَ

قالَ الصَّاغانيُّ: ويُرْوَى بالتاءِ الفَوْقيَّةِ كما تقدَّمَ.

قالَ: وقالَ الفرَّاءُ في نوادِرِه: كان المُفَضَّل ينْشدُه الوَاثِماتُ مِن وَثَمَ ووَطَسَ أَي كسر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


86-لسان العرب (هيأ)

هيأ: الهَيْئَةُ والهِيئةُ: حالُ الشيءِ وكَيْفِيَّتُه.

وَرَجُلٌ هَيِّئٌ: حَسَنُ الهَيْئةِ.

اللَّيْثُ: الهَيْئةُ للمُتَهَيِّئِ فِي مَلْبَسِه وَنَحْوِهُ.

وَقَدْ هاءَ يَهاءُ هَيْئةً، ويَهِيءُ.

قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَلَيْسَتِ الأَخيرة بِالْوَجْهِ.

والهَيِّئُ، عَلَى مِثَالِ هَيِّعٍ: الحَسَن الهَيْئَةِ مِنْ كلِّ شيءٍ، ورجلٌ هَيِيءٌ، عَلَى مِثَالِ هَيِيعٍ، كهَيِّئٍ، عَنْهُ أَيضًا.

وَقَدْ هَيُؤَ، بِضَمِّ الْيَاءِ، حَكَى ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، قَالَ: وَوَجْهُهُ أَنه خرَج مَخْرَجَ الْمُبَالِغَةِ، فَلَحِقَ بِبَابِ قَوْلِهِمْ قَضُوَ الرَّجلُ إِذَا جادَ قَضاؤُه، ورَمُوَ إِذَا جَادَ رَمْيُه، فَكَمَا يُبْنَى فَعُلَ مِمَّا لَامَهُ ياءٌ كَذَلِكَ خَرَجَ هَذَا عَلَى أَصله فِي فَعُلَ مِمَّا عَيْنُهُ ياءٌ.

وعلَّتُهما جَمِيعًا، يَعْنِي هَيُؤَ وقَضُوَ: أنَّ هَذَا بناءٌ لَا يتصرَّف لِمُضارَعَتِه مِمَّا فِيهِ مِنَ المُبالَغةِ لِبَابِ التَّعَجُّب ونِعْمَ وبِئْسَ.

فَلَمَّا لَمْ يَتَصَرَّفْ احْتَمَلُوا فِيهِ خُروجَه فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُخَالِفًا لِلْبَابِ، أَلا تَرَاهُمْ إِنما تَحامَوْا أَن يَبْنُوا فَعُلَ مِمَّا عَيْنُهُ ياءٌ مَخَافَةَ انْتِقالهم مِنَ الأَثقل إِلَى مَا هُوَ أَثقلُ مِنْهُ، لأَنه كَانَ يَلْزَمُ أَن يَقُولُوا: بُعْت أَبُوعُ، وَهُوَ يَبوعُ، وأَنت أَو هِيَ تَبُوعُ، وبُوعا، وبُوعُوا، وبُوعِي.

وَكَذَلِكَ جاءَ فَعُلَ مِمَّا لَامُهُ ياءٌ ممَّا هُوَ مُتَصَرِّفٌ أَثقلَ مِنَ الياءِ، وَهَذَا كَمَا صَحَّ: مَا أَطْوَلَه وأَبْيَعَه.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ العامِرِيَّةِ: كَانَ لِي أَخٌ هَيِيٌّ عَليٌّ أَي يتأَنث لِلنِّسَاءِ، هَكَذَا حَكَاهُ هَيِيٌّ عَليٌّ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ: وأُرَى ذَلِكَ، إِنما هُوَ لِمَكَانِ عَليٍّ.

وهاءَ للأَمر يَهَاءُ ويَهِيءُ، وتَهَيَّأَ: أَخَذَ لَهُ هَيْأَتَه.

وهَيَّأَ الأَمرَ تَهْيِئةً وتَهْييئًا: أَصْلحه فَهُوَ مُهَيَّأٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَراتِهم».

قال: هم الذين لَا يُعْرَفُون بالشرِّ فَيَزِلُّ أَحدُهم الزلَّةَ.

الهَيْئَةُ: صورةُ الشيءِ وشَكْلُه وحالَتُه، يُرِيدُ بِهِ ذَوِي الهَيْئَاتِ الحَسَنةِ، الَّذِينَ يَلْزَمون هَيْئةً وَاحِدَةً وسَمْتًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُ حالاتُهم بِالتَّنَقُّلِ مِنْ هَيْئةٍ إِلَى هَيْئةٍ.

وَتَقُولُ: هِئْتُ للأَمر أَهِيءُ هَيْئةً، وتَهَيَّأْتُ تَهَيُّؤًا، بِمَعْنًى.

وقُرئَ: وَقَالَتْ هِئْتُ لَكَ، بِالْكَسْرِ وَالْهَمْزِ مِثْلُ هِعْتُ، بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لكَ.

والهَيْئَةُ: الشارةُ.

فُلَانٌ حَسَنُ الهَيْئةِ والهِيئةِ.

وتَهايَؤُوا على كذا: تَمالَؤُوا.

والمُهايَأَةُ: الأَمْرُ المُتَهايَأُ عَلَيْهِ.

والمُهايَأَةُ: أَمرٌ يَتَهايَأُ الْقَوْمُ فيَتَراضَوْنَ بِهِ.

وهاءَ إِلَى الأَمْر يَهَاءُ هِيئةً: اشتاقَ.

والهَيْءُ والهِيءُ: الدُعاءُ إِلَى الطَّعامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ أَيضًا دُعاءُ الإِبِل إِلَى الشُّرب، قَالَ الهَرَّاءُ:

وَمَا كانَ عَلَى الجِيئِي، ***وَلَا الهِيءِ امْتِداحِيكا

وهَيْءَ: كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الأَسَفُ عَلَى الشيءِ يَفُوتُ، وَقِيلَ هِيَ كَلِمَةُ التَّعَجُّبِ.

وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الهِيءِ والجِيءِ مَا نَفَعَه.

الهِيءُ: الطَّعام، والجِيءُ: الشَّرابُ، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ قَوْلِكَ جَاْجَأْتُ بالإِبل دَعَوْتُها للشُّرْب، وهَأْهَأْتُ بِهَا دَعَوْتُها للعَلف.

وَقَوْلُهُمْ: يَا هَيْءَ ما لي: كَلِمَةُ أَسَفٍ وتَلَهُّفٍ.

قَالَ الجُمَيْح بْنُ الطَّمَّاح الأَسدي، ويروى لنافع ابن لَقِيط الأَسَدي:

يَا هَيْءَ، مَا لِي؟ مَنْ يُعَمَّرْ يُفْنِهِ ***مَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ، والتَّقْلِيبُ

وَيُرْوَى: يَا شَيْءَ مَا لِي، ويا فَيْءَ ما لي، وكلُّه وَاحِدٌ.

وَيُرْوَى:

وَكَذَاكَ حَقًّا مَنْ يُعَمَّرْ يُبْلِه ***كَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ والتَّقْلِيبُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَذَكَرَ بَعْضِ أَهل اللُّغَةِ أَنَّ هَيْءَ اسْمٌ لِفِعْلِ أَمر، وَهُوَ تَنَبَّهْ واسْتَيْقِظْ، بِمَعْنَى صَهْ ومَهْ فِي كَوْنِهِمَا اسْمَيْنِ لاسْكُتْ واكْفُفْ، وَدَخَلَ حَرْفُ النداءِ عَلَيْهَا كَمَا دَخَلَ عَلَى فِعْلِ الأَمر فِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ: أَلا يَا اسْقِياني قَبْلَ غارةِ سِنْجارِ وإِنما بُنِيت عَلَى حَرَكَةٍ بِخِلَافِ صَهْ ومَهْ لِئَلَّا يَلْتَقِيَ سَاكِنَانِ، وخُصت بِالْفَتْحَةِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ بِمَنْزِلَةِ أَيْنَ وكَيْفَ.

وَقَوْلُهُ مَا لِي: بِمَعْنَى أَيُّ شيءٍ لِي، وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ تَغَيَّر عَمَّا كَانَ يَعْهَدُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، فأَخبر عَنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ، فَقَالَ: مَنْ يُعَمَّرْ يُبْلِه مَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ، والتَّغَيُّرُ مِنْ حالٍ إِلَى حَالٍ، وَاللَّهُ أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


87-لسان العرب (لبث)

لبث: اللَّبْثُ واللَّبَاثُ: المُكْثُ.

قَالَ اللَّهُ تعالى: {لابِثِينَ فِيها أَحْقابًا}.

الفرَّاء: النَّاسُ يقرؤُون لَابِثِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنه قرأَ لَبِثِينَ، قَالَ: وأَجود الْوَجْهَيْنِ لَابِثِينَ، لأَن لَابِثِينَ إِذا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ..... فَتَنْصِب كَانَتْ بالأَلِف، مثلَ الطامِعِ وَالْبَاخِلِ.

قَالَ: واللَّبِثُ البطيءُ، وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا يُقَالُ: طامِعٌ وطمِعٌ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَلَوْ قُلْتَ: هُوَ طمِعٌ فِيمَا قِبَلَكَ كَانَ جَائِزًا.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: يُقَالُ لَبِثَ لُبْثًا ولَبْثًا ولُبَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.

وتَلَبَّثَ تَلَبُّثًا، فَهُوَ مُتَلَبِّثٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَصْدَرُ لَبِثَ لَبْثًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، لأَن الْمَصْدَرَ مِنْ فَعِلَ، بِالْكَسْرِ، قِيَاسُهُ التَّحْرِيكُ إِذا لَمْ يتعدَّ مِثْلَ تَعِب تَعَبًا، قَالَ: وَقَدْ جاءَ فِي الشِّعْرِ عَلَى الْقِيَاسِ، قَالَ جَرِيرٌ:

وَقَدْ أَكُونُ عَلَى الحاجاتِ ذَا لَبَثٍ، ***وأَحْوَذِيًّا، إِذا انضمَّ الذَّعاليبُ

فَهُوَ لَابِثٌ ولبِثٌ أَيضًا.

ابْنُ سِيدَهْ: لَبِثَ بِالْمَكَانِ يَلْبَثُ لَبْثًا ولُبْثًا ولَبَثَانًا ولَباثَةً ولبِيثَةً، وأَلبثتُهُ أَنا، ولبَّثْتُهُ تَلْبِيثًا، وتَلَبَّثَ: أَقام، وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:

غرَّكِ منِّي شَعَثي ولَبَثي، ***ولِمَمٌ، حَوْلَك، مِثلُ الحُرْبُثِ

مَعْنَاهُ: أَنه شَيْخٌ كَبِيرٌ، فأَخبر أَنه إِذا مَشَى لَمْ يَلْحَقْ مِنْ ضَعْفِهِ، فَهُوَ يَتَلَبَّثُ، وَشَبَّهَ لَمَمَ الشُّبَّانِ فِي سَوَادِهَا بالحُرْبُث، وَهُوَ نَبْتٌ أَسود سَهْلِيٌّ.

وأَلبثه هُوَ، قَالَ:

لَنْ يُلْبِثَ الجارَيْنِ أَنْ يَتَفَرَّقا، ***لَيْلٌ، يَكُرُّ عليهمُ، ونهارُ

قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الْجَبْهَةُ تَسْقُطُ، وَقَدْ دفِئَتِ الأَرضُ، فإِذا حَاذَتْهَا فإِن الدِّفْءَ والرِّيَّ لَا يُلْبِثا أَن يُرْعيا، هَكَذَا حَكَاهُ يُلْبِثا، كَقَوْلِكَ يُكْرِما، قَالَ: وَلَا أَدري لِمَ جَزَمَهُ.

وَلِي عَلَى هَذَا الأَمر لُبْثَةٌ أَي تَوَقُّفٌ.

وشيءٌ لَبِيث: لَابِثٌ.

وَقَالُوا: نَجِيثٌ لَبيثٌ، إِتباع.

وَمَا لبِثَ أَن فَعَلَ كَذَا وَكَذَا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فاستلبثَ الوحْيُ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ، مِن اللُّبْثِ الإِبطاءِ والتأَخرِ، يُقَالُ لبِثَ لَبْثًا، بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَقَدْ تُفْتَحُ قَلِيلًا عَلَى القياس، وَقِيلَ: اللَّبْثُ الِاسْمُ واللُّبْثُ، بِالضَّمِّ، الْمَصْدَرُ».

وقوسٌ لَباث: بَطِيئَةٌ، حَكَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وأَنشد:

يُكَلِّفُني الحجاجُ دِرعًا ومِغْفَرًا، ***وطِرْفًا كَرِيمًا رَائِعًا بِثَلاثِ

وستِّين سَهْمًا صِيغَةً يَثْربِيةً، ***وَقَوْسًا طَرُوحَ النَّبْل غيرَ لَباثِ

وإِن الْمَجْلِسَ لَيَجْمَعُ لَبيثة مِنَ النَّاسِ إِذا كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شتَّى.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


88-لسان العرب (فتح)

فتح: الفَتْحُ: نَقِيضُ الإِغلاقِ، فَتَحه يَفْتَحه فَتْحًا وافْتَتَحه وفتَّحَه فانْفَتَحَ وتَفَتَّحَ.

الْجَوْهَرِيُّ: فُتِّحَت الأَبواب، شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ، فتَفَتَّحتْ هِيَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ}، قُرِئَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَبِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، أَي لَا تَصْعَدُ أَرواحُهم وَلَا أَعمالهم، لأَن أَعمال الْمُؤْمِنِينَ وأَرواحهم تَصْعَدُ إِلى السَّمَاءِ، قَالَ اللَّه تعالى: {إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَقَالَ جلَّ ثَنَاؤُهُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبواب السَّمَاءِ أَبواب الْجَنَّةِ لأَن الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فكأَنه قَالَ: لَا تُفتح لَهُمْ أَبواب الْجَنَّةِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ}، قَالَ أَبو عَلِيٍّ مَرَّةً: مَعْنَاهُ مُفَتَّحةً لَهُمُ الأَبوابُ مِنْهَا، وَقَالَ مَرَّةً: إِنما هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي مُفَتَّحَةً.

وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ فُتِّحَت الجِنانُ، تُرِيدُ فُتِّحَت أَبوابُ الْجِنَانِ، قَالَ تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا}، واللَّهُ أَعلم.

وَقَوْلُهُ تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَا يأْتيهم بِهِ اللَّه مِنْ مَطَرٍ أَو رِزْقٍ فَلَا يَقْدِرُ أَحد أَن يُمْسِكَهُ، وَمَا يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَقْدِرُ أَحد أَن يُرْسِلَهُ.

والمِفْتَحُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، والمِفْتاحُ: مِفْتاحُ الْبَابِ وَكُلُّ مَا فُتِحَ بِهِ الشَّيْءُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وكل مُسْتَغْلَق، قال سيبوبه: هَذَا الضَّرْبُ مِمَّا يُعْتَمَلُ مَكْسُورَ الأَول، كَانَتْ فِيهِ الْهَاءُ أَو لَمْ تَكُنْ، وَالْجَمْعُ مَفاتِيحُ ومَفاتح أَيضًا، قَالَ الأَخْفش: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَماني وأَمانيّ، يُخَفَّفُ ويشدَّد، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}، قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنه عَنَى قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، قَالَ: فَمَنِ ادَّعى أَنه يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ لأَنه قَدْ خَالَفَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أُوتِيتُ مَفاتِيحَ الكَلِم، وَفِي رِوَايَةٍ: مَفاتِحَ، هُمَا جَمْعُ مِفْتاح ومِفْتَح وَهُمَا فِي الأَصل مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلى اسْتِخْرَاجِ المُغْلَقات الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إِليها، فأَخبر أَنه أُوتي مَفَاتِيحَ الْكَلَامِ، وَهُوَ مَا يسَّر اللَّه لَهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَالْوُصُولِ إِلى غَوَامِضِ الْمَعَانِي وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ وَمَحَاسِنِ الْعِبَارَاتِ، والأَلفاظ الَّتِي أُغلقت عَلَى غَيْرِهِ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحُ شَيْءٍ مَخْزُونٍ سَهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ».

وبابٌ فُتُحٌ أَي واسِع مُفَتَّحٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبي الدَّرْدَاءِ: «وَمَنْ يأْت بَابًا مُغْلَقًا يَجِدْ إِلى جَنْبِهِ بَابًا فُتُحًا أَيْ وَاسِعًا»، وَلَمْ يُرِد المفتوحَ، وأَراد بِالْبَابِ الفُتُحِ: الطَّلَب إِلى اللَّه والمسأَلة.

وقارورةٌ فُتُحٌ: وَاسِعَةُ الرأْس بِلَا صِمامٍ وَلَا غِلاف، لأَنها تَكُونُ حِينَئِذٍ مَفْتُوحَةً، وَهُوَ فُعُلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.

والفَتْحُ: الْمَاءُ المُفَتَّحُ إِلى الأَرض ليُسقَى بِهِ.

والفَتْحُ: الْمَاءُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الأَرض، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

الأَزهري: والفَتْحُ النَّهْرُ.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا سُقِيَ فَتْحًا وَمَا سُقِيَ بالفَتْح فَفِيهِ العُشْر، الْمَعْنَى مَا فتِحَ إِليه ماءُ النَّهْرِ فَتْحًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالنَّخِيلِ فَفِيهِ الْعُشْرُ».

والفَتْحُ: الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ عَيْنٍ أَو غَيْرِهَا.

والمَفْتَحُ والمِفْتَح: قَناةُ الْمَاءِ.

وكلُّ مَا انْكَشَفَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدِ انْفَتَحَ عَنْهُ وَتَفَتَّحَ.

وتَفَتُّحُ الأَكَمة عَنِ النَّوْر: تَشَقُّقُها.

والفَتْحُ: افْتِتَاحُ دَارِ الْحَرْبِ، وَجَمْعُهُ فُتُوحٌ.

والفَتْحُ: النَّصْرُ.

وَفِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَهو فَتْحٌ»؛ أي نَصْرٌ.

واسْتَفْتَحْتُ الشيءَ وافْتَتَحْتُه، وَالِاسْتِفْتَاحُ: الِاسْتِنْصَارُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ» أَي يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ}.

واسْتَفْتَحَ الفَتْحَ: سأَله.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ أَبو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَفضلَ الدِّينَيْنِ وأَحَقَّه بِالنَّصْرِ، فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ أَبو إِسحاق: مَعْنَاهُ إِن تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِن تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ القَضاءُ، وَقَدْ جَاءَ التَّفْسِيرُ بِالْمَعْنَيَيْنِ جميعًا.

روي أَن أَبا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنا لِلرَّحِمِ وأَفْسَدُنا لِلْجَمَاعَةِ فأَحِنْه اليومَ! فسأَل اللَّه أَن يَحْكُمَ بحَيْنِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَالَهُ هُوَ الحَيْنُ وأَصحابُه، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، أَراد إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ إِنه قَالَ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَحَبَّ الفِئَتَينِ إِليك، فَهَذَا يَدُلُّ أَن مَعْنَاهُ إِن تَسْتَنْصِرُوا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ جَيِّدٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً مُبِينًا أَي حَكَمْنَا لَكَ بإِظهار دِينِ الإِسلام وَبِالنَّصْرِ عَلَى عدوِّكَ، قَالَ الأَزهري: قَالَ قَتَادَةُ أَي قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً فِيمَا اخْتَارَ اللَّه لَكَ مِنْ مُهادَنةِ أَهل مَكَّةَ وَمُوَادِعَتِهِمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ابْنُ سِيدَهْ قَالَ: وأَكثر مَا جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنه فَتْحُ الحُدَيْبية، وَكَانَتْ فِيهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ هَذَا الْفَتْحُ عَنْ غير قتال شديد، قيل: إِنه كَانَ عَنْ تَرَاضٍ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِئْرُ اسْتُقِيَ جميعُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ حَتَّى نَزَحَتْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَاءٌ، فَتَمَضْمَضَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَجَّه فِيهَا فَدَرَّتِ البئرُ بِالْمَاءِ حَتَّى شَرِبَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، قِيلَ عَنَى فَتْحَ مَكَّةَ، وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنه نُعِيَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُه فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فأُعْلِمَ أَنه إِذا جَاءَ فَتْحُ مَكَّةَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الإِسلام أَفواجًا فَقَدْ قَرُبَ أَجله، فَكَانَ يَقُولُ: إِنه قَدْ نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فأَمر اللَّه أَن يُكْثِرَ التَّسْبِيحَ وَالِاسْتِغْفَارَ.

الأَزهري: وَقَوْلُ اللَّه تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الْفَتْحِ هَاهُنَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ والكلبي، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَصحاب رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا يَوْمًا أَوْشَكَ أَن نَسْتَرِيحَ فِيهِ ونَنْعَمَ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَوْمُ الْفَتْحِ عَنَى بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ، قَالَ الأَزهري: وَالتَّفْسِيرُ جَاءَ بِخِلَافِ مَا قَالَ، وَقَدْ نَفَعَ الكفارَ مِنْ أَهل مَكَّةَ إِيمانُهم يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ أَيضًا فِي قوله: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ} مَتَّى هَذَا الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ فأَعلم اللَّه أَن يَوْمَ ذَلِكَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانهم أَي مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا فَالتَّوْبَةُ مُعَرَّضة وَلَا تَوْبَةَ فِي الْآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبواب السَّمَاءِ}، أَي فأَجَبْنا الدُّعَاءَ.

واسْتَفْتَحَ اللَّهَ عَلَى فلانٍ: سأَله النَّصْرَ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

والفَتَاحَةُ: النُّصْرَةُ.

الْجَوْهَرِيُّ: الفُتاحة، بِالضَّمِّ، الحُكمُ.

والفُتاحةُ والفِتاحةُ: أَن تَحْكُمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَقِيلَ: الفُتاحة الْحُكُومَةُ، قَالَ الأَشْعَرُ الجُعْفِيُّ: أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا، ***فإِني عَنْ فُتاحَتِكم غَنِيٌ الأَزهري: الفَتْحُ أَن تَحْكُمَ بَيْنَ قَوْمٍ يَخْتَصِمُونَ إِليك، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.

الأَزهري: والفُتاح [الفِتاح] الْحُكُومَةُ.

وَيُقَالُ لِلْقَاضِي: الفَتَّاحُ لأَنه يَفْتَحُ مَوَاضِعَ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا}، أَي اقْض بَيْنَنَا.

وَفِي حَدِيثِ الصَّلَاةِ: «لَا يُفْتَحُ عَلَى الإِمام»، أَراد إِذا أُرتِجَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَفْتَحُ لَهُ المأْموم مَا أُرْتِجَ عَلَيْهِ أَي لا يُلَقِّنُه، ويقال: أَراد بالإِمام السُّلْطَانَ، وبالفَتْحِ الحكمَ، أَي إِذا حَكَمَ بِشَيْءٍ فَلَا يُحْكَمُ بِخِلَافِهِ.

والفَتَّاحُ: الحاكِمُ، الأَزهري: الفَتَّاحُ فِي صِفَةِ اللَّه تَعَالَى الْحَاكِمُ، قَالَ: وأَهل الْيَمَنِ يَقُولُونَ لِلْقَاضِي الفَتَّاحُ، وَيَقُولُ أَحدهم لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أُفاتحكَ إِلى الفَتَّاح، وَيَقُولُ: افْتَحْ بَيْنَنَا أَي احْكُمْ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.

وفاتَحه مُفاتحة وفِتاحًا: حَاكَمَهُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَا كُنْتُ أَدري مَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا} »، حَتَّى سَمِعْتُ بنتَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تعالَ أُفاتِحْكَ أَي أُحاكمكَ، وَمِنْهُ: لَا تُفاتِحوا أَهل القَدَر أَي لَا تُحَاكِمُوهُمْ، وقيل: لا تَبْدَأُوهم بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ.

وَفِي أَسماء اللَّه تَعَالَى الْحُسْنَى: الفَتَّاحُ، قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ أَبواب الرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: فَتَحَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إِذا فَصَلَ بَيْنَهُمَا.

والفاتحُ: الْحَاكِمُ.

والفَتَّاحُ مِن أَبنية الْمُبَالِغَةِ.

وتَفَتَّحَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ مَالٍ أَو أَدب: تَطَاوَلَ بِهِ، وَهِيَ الفُتْحة، تَقُولُ: مَا هَذِهِ الفُتْحَةُ الَّتِي أَظهرتها وتَفَتَّحْتَ بِهَا عَلَيْنَا؟ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَلَا أَحسبه عَرَبِيًّا.

وفاتَحَ الرجلَ: ساوَمَه وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فإِن أَعطاه، قِيلَ: فاتَكه، حَكَاهُ ابْنِ الأَعرابي.

الأَزهري عَنِ ابْنِ بُزُرْجٍ: الفَتْحَى الرِّيحُ، وأَنشد: أَكُلُّهُمُ، لَا بَارَكَ اللَّهُ فيهمُ! ***إِذا ذُكِرَتْ فَتْحَى، مِنَ البَيْع عاجِبُ فَتْحَى عَلَى فَعْلَى.

وَفَاتِحَةُ الشَّيْءِ: أَوَّله.

وافتتاحُ الصَّلَاةِ: التَّكْبِيرَةُ الأَولى.

وفَواتحُ الْقُرْآنِ: أَوائل السُّوَرِ، الْوَاحِدَةُ فَاتِحَةٌ.

وأُم الْكِتَابِ يُقَالُ لَهَا: فَاتِحَةُ الْقُرْآنِ.

وَالْفَتْحُ: أَن تَفْتَحَ عَلَى مَنْ يَسْتَقْرِئُكَ.

والمَفْتَحُ: الخِزانة، الأَزهري: وكلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لصِنْفٍ مِنَ الأَشياء، فَهِيَ مَفْتَحٌ، والمَفْتَحُ: الكَنز، وَقَوْلُهُ تعالى: {مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، قِيلَ: هِيَ الْكُنُوزُ وَالْخَزَائِنُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: رُوِيَ أَن مَفَاتِحَهُ خَزَائِنُهُ.

الأَزهري: وَالْمَعْنَى مَا إِن مَفَاتِحَهُ لتُنِيءُ العُصْبَةَ أَي تُمِيلُهُمْ مِنْ ثِقَلها.

وَرُوِيَ عَنْ أَبي صَالِحٍ: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ، قَالَ: مَا فِي الْخَزَائِنِ مِنْ مَالٍ تَنُوءُ بِهِ العُصْبةُ، الأَزهري: والأَشبه فِي التَّفْسِيرِ أَن مَفَاتِحَهُ خَزَائِنُ مَالِهِ، واللَّهُ أَعلم بِمَا أَراد.

وَقَالَ: قَالَ اللَّيْثُ: جَمْعُ المِفْتاح الَّذِي يُفتح بِهِ المِغْلاقُ مَفاتِيحُ، وَجَمْعُ المَفْتَح الخِزانةِ المَفاتِحُ، وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَيضًا أَن مَفَاتِحَهُ كَانَتْ مِنْ جُلُودٍ عَلَى مِقْدَارِ الإِصبع، وَكَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى سَبْعِينَ بَغْلًا أَو سِتِّينَ، قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَبي رَزين قَالَ: مَفَاتِحُهُ خَزَائِنُهُ إِن كَانَ لَكَافِيًا مِفْتاحٌ وَاحِدٌ خَزائنَ الْكُوفَةِ إِنما مَفَاتِحُهُ الْمَالُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أُوتِيت مفاتيحَ خزائنِ الأَرض، أَراد مَا سَهَّل اللَّهُ لَهُ ولأُمَّته مِنِ افْتِتَاحِ الْبِلَادِ الْمُتَعَذِّرَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ الْمُمْتَنِعَاتِ».

والفَتُوحُ مِنَ الإِبل: النَّاقَةُ الْوَاسِعَةُ الأَحاليل، وَقَدْ فَتَحَت وأَفتَحَتْ، بِمَعْنًى.

والنَّزُور: مِثْلُ الفَتُوح.

وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: «قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ فَتُوحٍ»؛ أي وَاسِعَةِ الأَحاليل.

والفَتْحُ: أَوَّل مَطَرِ الوَسْمِيِّ، وَقِيلَ: أَول الْمَطَرِ، وَجَمْعُهُ فَتُوحٌ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ: كأَنّ تَحْتِي مُخْلِفًا قَرُوحا، ***رَعَى غُيُوثَ العَهْدِ والفَتُوحا وَيُرْوَى جَمِيمَ العَهْدِ، وَهُوَ الفَتْحةُ أَيضًا.

والفَتْحُ: الماءُ الْجَارِي فِي الأَنهار.

وناقةٌ مَفاتِيحُ وأَيْنُقٌ مَفاتِيحاتٌ: سِمَانٌ، حَكَاهَا السِّيرَافِيُّ.

والفَتْحُ: مُرَكَّبُ النَّصْلِ فِي السَّهْم، وَجَمْعُهُ فُتُوح.

والفَتْحُ: جَنَى النَّبْعِ، وَهُوَ كأَنه الحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ إِلَّا أَنه أَحمر حُلو مُدَحْرَجٌ يأْكله النَّاسُ.

الأَزهري: فاتَحَ الرجلُ امرأَتَه إِذا جَامَعَهَا.

وتَفاتَحَ الرَّجُلَانِ إِذا تَفاتَحا كَلَامًا بَيْنَهُمَا وتَخافَتا دُونَ النَّاسِ.

والفُتْحَةُ: الفُرْجةُ فِي الشَّيْءِ.

والفُتَاحةُ: طُوَيْرَة مُمَشَّقة بِحُمْرَةٍ.

والفَتَّاح: طَائِرٌ أَسود يُكْثِرُ تَحْرِيكَ ذَنَبِهِ أَبيض أَصل الذَّنَبِ مِنْ تَحْتِهِ وَمِنْهَا أَحمر، وَالْجَمْعُ فَتاتِيحُ، وَلَا يُجْمَعُ بالأَلف وَالتَّاءِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


89-لسان العرب (وضح)

وضح: الوَضَحُ: بياضُ الصُّبْحِ والقمرُ والبَرَصُ والغرةُ والتحجيلُ فِي الْقَوَائِمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَلوان.

التَّهْذِيبُ: الوَضَحُ بَيَاضُ الصُّبْح؛ قَالَ الأَعشى:

إِذْ أَتَتْكُمْ شَيْبانُ، فِي وَضَحِ الصُّبحِ، ***بكبشٍ تَرَى لَهُ قُدَّاما

وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّهَارَ الوَضَّاحَ، والليلَ الدُّهْمانَ؛ وبِكْرُ الوَضَّاحِ: صلاةُ الغَداة، وثِنْيُ دُهْمانَ: العِشاءُ الْآخِرَةُ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

لَوْ قِسْتَ مَا بينَ مَناحِي سَبَّاحْ، ***لِثِنْيِ دُهْمانَ وبِكْرِ الوَضَّاح،

لَقِسْتَ مَرْتًا مُسْبَطِرَّ الأَبْداحْ

سبَّاح: بَعِيرُهُ.

والأَبْداحُ: جَوَانِبُهُ، والوَضَحُ: بَيَاضٌ غَالِبٌ فِي أَلوان الشَّاءِ قَدْ فَشَا فِي جَمِيعِ جَسَدِهَا، وَالْجَمْعُ أَوضاح؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: فِي الصَّدْرِ وَالظَّهْرِ وَالْوَجْهِ، يُقَالُ لَهُ: تَوْضيح شَدِيدٌ، وَقَدْ تَوَضَّح.

وَيُقَالُ: بِالْفَرَسِ وَضَحٌ إِذا كَانَتْ بِهِ شِيَةٌ، وَقَدْ يُكْنَى بِهِ عَنِ البَرَصِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِجَذِيمَةَ الأَبْرَشِ: الوَضَّاحُ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «جَاءَهُ رَجُلٌ بكَفِّه وَضَح»أَي بَرَصٌ.

وَقَدْ وَضَحَ الشيءُ يَضِحُ وُضُوحًا وَضَحَةً وضِحَةً واتَّضَحَ: أَي بَانَ، وهو واضع ووَضَّاح.

وأَوضَحَ وتَوَضَّح ظَهَرَ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

وأَغْبَرَ لا يَجْتازُه مُتَوَضِّحُ الرجالِ، ***كفَرْق العامِرِيِّ يَلُوحُ

أَراد بالمُتَوَضِّح مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يُظْهِرُ نَفْسَهُ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الخَمَرِ.

ووَضَّحه هُوَ وأَوضَحَه وأَوضَحَ عَنْهُ وتَوَضَّح الطريقُ أَي اسْتَبَانَ.

والوَضَحُ: الضَّوْءُ والبياضُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حَتَّى يَبينَ وَضَحُ إبْطَيْهِ»أَي البياضُ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِهِمَا وَتَجَافِيهِمَا عَنِ الْجَنْبَيْنِ.

والوَضَحُ: البياضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: صُومُوا مِنَ الوَضَح إِلى الوَضَحِ

أَي مِنَ الضَّوء إِلى الضَّوْءِ؛ وَقِيلَ: مِنَ الْهِلَالِ إِلى الْهِلَالِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ الْوَجْهُ لأَن سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَمَامُهُ:

فإِن خَفِيَ عَلَيْكُمْ فأَتِمُّوا العِدَّة ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «غَيِّرُوا الوَضَحَ»أَي الشَّيْب يَعْنِي اخْضِبُوه.

والواضحةُ: الأَسْنانُ الَّتِي تَبْدُو عِنْدَ الضَّحِكِ، صِفَةٌ غَالِبَةٌ؛ وأَنشد:

كلُّ خَليلٍ كنتُ صافَيْتُه، ***لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُ واضِحه

كلُّهمُ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، ***مَا أَشْبَه الليلةَ بالبارِحه

وَفِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى مَا أَوضَحُوا بِضَاحِكَةٍ»أَي مَا طَلَعوا بِضَاحِكَةٍ وَلَا أَبْدَوْها، وَهِيَ إِحدى ضواحِكِ الإِنسان الَّتِي تَبْدُو عِنْدَ الضَّحِكِ.

وإِنه لَوَاضِحُ الجَبينِ إِذا ابيضَّ وحَسُنَ وَلَمْ يَكُنْ غَلِيظًا كَثِيرَ اللَّحْمِ.

وَرَجُلٌ وَضَّاحٌ: حَسَنُ الْوَجْهِ أَبيضُ بَسَّامٌ.

والوَضَّاحُ: الرجلُ الأَبيضُ اللَّوْنِ الحَسَنُه.

وأَوضَحَ الرجلُ والمرأَة: وُلِدَ لَهما أَولادٌ وُضَّحٌ بيضٌ؛ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ منكَ أَدنى واضحةٍ إِذا وَضَحَ لَكَ وَظَهَرَ حَتَّى كأَنه مُبْيَضُّ.

وَرَجُلٌ واضحُالحَسَبِ ووَضَّاحُه: ظَاهِرُهُ نَقِيُّه مُبْيَضُّهُ، عَلَى الْمَثَلِ.

وَدِرْهَمٌ وَضَحٌ: نَقِيّ أَبيض، عَلَى النَّسَبِ.

والوَضَحُ: الدِّرْهم الصَّحِيحُ.

والأَوضاحُ: حَلْيٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: أَعطيته دَرَاهِمَ أَوضاحًا، كأَنها أَلبانُ شَوْلٍ رَعَتْ بدَكْداكِ مالكٍ؛ مَالِكٌ: رَمْلٌ بِعَيْنِهِ وَقَلَّمَا تَرْعَى الإِبل هُنَالِكَ إِلا الحَلِيَّ وَهُوَ أَبيض، فَشَبَّهَ الدَّرَاهِمَ فِي بَيَاضِهَا بأَلبان الإِبل الَّتِي لَا تَرْعَى إِلا الحَلِيَّ.

ووَضَحُ القَدَم: بياضُ أَخْمَصِه؛ وَقَالَ الجُمَيْحُ:

والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرجلينِ مَرْكُوزُ

وَقَالَ النَّضْرُ: المتوضِّحُ وَالْوَاضِحُ مِنَ الإِبل الأَبيض، وَلَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْبَيَاضِ، أَشدُّ بَيَاضًا مِنَ الأَعْيَصِ والأَصْهَبِ وَهُوَ المتوضِّحُ الأَقْراب؛ وأَنشد:

مُتَوَضِّحُ الأَقْرابِ، فِيهِ شُهْلَةٌ، ***شَنِجُ الْيَدَيْنِ تَخالُه مَشْكُولا

والأَواضِحُ: الأَيامُ الْبِيضُ، إِما أَن يَكُونَ جمعَ الْوَاضِحِ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ الأُولى لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، وإِما أَن يَكُونَ جُمِعَ الأَوْضَح.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر بِصِيَامِ الأَواضِحِ»؛ حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَفِي الْحَدِيثِ أَمر بصيام الأَوْضاحِ

يُرِيدُ أَيامَ اللَّيَالِي الأَواضِح أَي الْبَيْضِ جَمْعُ وَاضِحَةٍ، وَهِيَ ثَالِثَ عَشَرَ وَرَابِعَ عَشَرَ وَخَامِسَ عَشَرَ، والأَصل وَواضِح، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الأُولى هَمْزَةً.

والواضِحة مِنَ الشِّجاج: الَّتِي تُبْدي وَضَحَ الْعَظْمِ؛ ابْنُ سِيدَهْ: والمُوضِحةُ مِنَ الشِّجاج الَّتِي بَلَغَتِ الْعَظْمَ فأَوضَحَتْ عَنْهُ؛ وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تَقْشِر الجلدةَ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَو تَشُقُّهَا حَتَّى يَبْدُوَ وَضَحُ الْعَظْمِ، وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْقِصَاصُ خَاصَّةً، لأَنه لَيْسَ مِنَ الشِّجَاجِ شَيْءٌ لَهُ حدَّ يَنْتَهِي إِليه سِوَاهَا، وأَما غَيْرُهَا مِنَ الشِّجَاجِ فَفِيهَا دِيَتُهَا، وَذَكَرَ المُوضِحة فِي أَحاديث كَثِيرَةٍ وَهِيَ الَّتِي تُبْدِي الْعَظْمَ أَي بَياضَه، قَالَ: وَالْجَمْعُ المَواضِح؛ وَالَّتِي فُرِضَ فِيهَا خُمْسُ مِنَ الإِبل: هِيَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الرأْس وَالْوَجْهِ، فأَما المُوضِحة فِي غَيْرِهِمَا فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، وَيُقَالُ للنَّعَم: وَضِيحةٌ ووَضائِحُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي وَجْزَة:

لقَوْمِيَ، إِذ قَوْمي جميعٌ نَواهُمُ، ***وإِذ أَنا فِي حَيٍّ كَثِيرِ الوَضائِح

والوَضَحُ: اللبنُ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:

عَقَّوْا بسَهْمٍ فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحدٌ، ***ثُمَّ اسْتَفاؤوا وَقَالُوا: حَبَّذا الوَضَحُ

أَي قَالُوا: اللبنُ أَحبُّ إِلينا مِنَ القَوَد، فأَخبر أَنهم آثَرُوا إِبل الدِّيَةِ وأَلبانها عَلَى دَمِ قَاتِلِ صَاحِبِهِمْ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُراه سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ؛ وَقِيلَ: الوَضَحُ مِنَ اللَّبَنِ مَا لَمْ يُمْذَقْ؛ وَيُقَالُ: كَثُرَ الوَضَحُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ إِذا كَثُرَت أَلبانُ نَعَمِهم.

أَبو زَيْدٍ: مِنْ أَين وَضَحَ الراكبُ؟ أَي مِنْ أَين بَدَا؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ أَين أَوضَح، بالأَلف.

ابْنُ سِيدَهْ: وَضَحَ الراكبُ طَلَع.

وَمِنْ أَين أَوضَحْتَ، بالأَلف، أَي مِنْ أَين خَرَجْتَ، عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ التَّهْذِيبُ: مَنْ أَين أَوضَح الراكبُ، وَمِنْ أَين أَوضَعَ، وَمِنْ أَين بَدَا وضَحُك؟ وأَوضَحْتُ قَوْمًا: رأَيتهم.

واستوضَحَ عَنِ الأَمر: بَحَثَ.

أَبو عَمْرٍو: استوضَحْتُ الشيءَ واستشرفْته واستكفَفْتُه وَذَلِكَ إِذا وَضَعْتَ يَدَكَ عَلَى عَيْنَيْكَ فِي الشَّمْسِ تَنْظُرُ هَلْ تَرَاهُ، تُوَقّيبِكَفِّكَ عينَك شُعاعَ الشَّمْسِ؛ يُقَالُ: اسْتَوْضِحْ عَنْهُ يَا فُلَانُ.

واستوضَحْتُ الأَمرَ والكلامَ إِذا سأَلته أَن يُوَضِّحَه لَكَ.

ووَضَحُ الطَّرِيقِ: مَحَجَّتُه ووَسَطُه.

والواضحُ: ضِدُّ الْخَامِلِ لوُضُوح حَالِهِ وَظُهُورِ فَضْلِهِ؛ عَنِ السَّعْدي.

والوَضَحُ: حَلْيٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَالْجَمْعُ أَوضاح، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبَيَاضِهَا، وَاحِدُهَا وَضَح؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقاد مِنْ يَهُودِيٍّ قَتَلَ جُوَيْرِيةً عَلَى أَوْضاح لَهَا»؛ وَقِيلَ: الوَضَحُ الخَلْخالُ، فَخَصَّ.

والوُضَّحُ: الكواكبُ الخُنَّسُ إِذا اجْتَمَعَتْ مَعَ الْكَوَاكِبِ المضيئة من كواكب المنازل؛ اللَّيْثُ: إِذا اجْتَمَعَتِ الْكَوَاكِبُ الْخُنَّسُ مَعَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ مِنْ كَوَاكِبَ الْمَنَازِلِ سُمِّين جَمِيعًا الوُضَّحَ؛ اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ فِيهَا أَوْضاحٌ مِنَ النَّاسِ وأَوْباش وأَسْقاطٌ يَعْنِي جَمَاعَاتٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى؛ قَالُوا: وَلَمْ يُسْمَعْ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ بِوَاحِدٍ.

قَالَ الأَصمعي: يُقَالُ فِي الأَرض أَوضاح مِنْ كَلإٍ إِذا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ قَدِ ابيضَّ؛ قَالَ الأَزهري: وأَكثر مَا سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ الوَضَحَ فِي الكلإِ للنَّصِيِّ والصِّلِّيانِ الصَّيْفِيِّ الَّذِي لَمْ يأْت عَلَيْهِ عامٌ ويَسْوَدُّ.

ووَضَحُ الطريقة مِنَ الكلإِ: صِغَارُهَا؛ وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: هُوَ مَا ابْيَضَّ مِنْهَا، وَالْجَمْعُ أَوضاحٌ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر وَوَصَفَ إِبلًا:

تَتَبَّعُ أَوْضاحًا بسُرَّةِ يَذْبُلٍ، ***وتَرْعى هَشِيمًا، مِنْ حُلَيْمةَ، بالِيا

وَقَالَ مَرَّةً: هِيَ بَقَايَا الحَلِيّ والصِّلِّيان لَا تَكُونُ إِلّا مِنَ ذَلِكَ.

ورأَيت أَوضاحًا أَي فِرَقًا قليلة هاهنا وهاهنا، لَا وَاحِدَ لَهَا.

وتُوضِحُ: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ.

وَفِي حَدِيثِ الْمَبْعَثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْعَبُ وَهُوَ صَغِيرٌ مَعَ الْغِلْمَانِ بعَظْمِ وَضَّاحٍ»؛ وَهِيَ لُعْبَة لِصِبْيَانِ الأَعراب يَعْمِدُون إِلى عَظْمٍ أَبيض فَيَرْمُونَهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ فِي طَلَبِهِ، فَمَنْ وَجَدَهُ مِنْهُمْ فَلَهُ القَمْرُ؛ قَالَ: ورأَيت الصِّبْيَانَ يُصَغِّرُونَهُ فَيَقُولُونَ عُظَيْمُ وَضَّاحٍ؛ قَالَ: وأَنشدني بَعْضُهُمْ:

عُظَيْم وَضَّاحٍ ضِحَنَّ اللَّيْلَهْ، ***لَا تَضِحَنَّ بَعْدَهَا مِنْ لَيْله

قَوْلُهُ: ضِحَنَّ أَمرٌ مَنْ وَضَحَ يَضِحُ، بِتَثْقِيلِ النُّونِ المؤَكدة، وَمَعْنَاهُ اظْهِرَنَّ كَمَا تَقُولُ مِنَ الْوَصْلِ: صِلَنّ.

ووَضَّاحٌ: فَعَّال مِنَ الوُضوح، الظُّهُورُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


90-لسان العرب (حسد)

حسد: الْحَسَدُ: مَعْرُوفٌ، حَسَدَه يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حَسَدًا وحَسَّدَه إِذا تَمَنَّى أَن تَتَحَوَّلَ إِليه نِعْمَتُهُ وَفَضِيلَتُهُ أَو يُسْلَبَهُمَا هُوَ؛ قَالَ:

وَتَرَى اللبيبَ مُحَسَّدًا لَمْ يَجْتَرِمْ ***شَتْمَ الرِّجَالِ، وعِرْضُه مَشْتوم

الْجَوْهَرِيُّ: الْحَسَدُ أَن تَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ إِليك.

يُقَالُ: حَسَدَه يَحْسُدُه حُسودًا؛ قال الأَخفش:

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ يحسِده، بِالْكَسْرِ، وَالْمَصْدَرُ حسَدًا، بِالتَّحْرِيكِ، وحَسادَةً.

وَتَحَاسَدَ الْقَوْمُ، وَرَجُلٌ حَاسِدٌ مِنْ قَوْمٍ حُسَّدٍ وحُسَّادٍ وحَسَدة مِثْلُ حَامِلٍ وحَمَلَة، وحَسودٌ مِنْ قَوْمٍ حُسُدٍ، والأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ، وَهُمْ يَتَحَاسَدُونَ.

وَحَكَى الأَزهري عَنِ ابْنِ الأَعرابي: الحَسْدَلُ القُراد، وَمِنْهُ أُخذ الْحَسَدُ يُقَشِّرُ الْقَلْبَ كَمَا تُقَشِّرُ الْقُرَادُ الْجِلْدَ فَتَمْتَصُّ دَمَهُ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله قرآنًا فهو يتلوه؛ الْحَسَدُ: أَن يَرَى الرَّجُلُ لأَخيه نِعْمَةً فَيَتَمَنَّى أَن تَزُولَ عَنْهُ وَتَكُونَ لَهُ دُونَهُ، والغَبْطُ: أَن يَتَمَنَّى أَن يَكُونَ لَهُ مِثْلُهَا وَلَا يَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ؛ وَسُئِلَ أَحمد بْنُ يَحْيَى عَنِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا حَسَدَ لَا يَضُرُّ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ؛ قَالَ الأَزهري: الْغَبْطُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَسَدِ وَهُوَ أَخف مِنْهُ، أَلا تَرَى أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ يَضُرُّ الغَبْط؟ فَقَالَ: نَعَمْ كَمَا يَضُرُّ الخَبْطُ، فأَخبر أَنه ضَارٌّ وَلَيْسَ كَضَرَرِ الْحَسَدِ الَّذِي يَتَمَنَّى صَاحِبُهُ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ أَخيه، وَالْخَبْطُ: ضَرْبُ وَرَقِ الشَّجَرِ حَتَّى يتحاتَّ عَنْهُ ثُمَّ يُسْتَخْلَفَ مِنْ غَيْرِ أَن يَضُرَّ ذَلِكَ بأَصل الشَّجَرَةِ وأَغصانها؛ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ

هُوَ أَن يَتَمَنَّى الرَّجُلُ أَن يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَالًا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، أَو يَتَمَنَّى أَن يَكُونَ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّه فَيَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وأَطراف النَّهَارِ، وَلَا يَتَمَنَّى أَن يُرزأَ صَاحِبُ الْمَالِ فِي مَالِهِ أَو تَالِي الْقُرْآنِ فِي حِفْظِهِ.

وأَصل الْحَسَدِ: الْقَشْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ الأَعرابي، وحَسَده عَلَى الشَّيْءِ وَحَسَدَهُ إِياه؛ قَالَ يَصِفُ الْجِنَّ مُسْتَشْهِدًا عَلَى حَسَدْتُك الشيءَ بإِسقاط عَلَى:

أَتَوْا نَارِي فقلتُ: مَنُونَ أَنتم، ***فَقَالُوا: الجِنُّ، قلتُ: عِمُوا ظَلامًا

فقلتُ: إِلى الطَّعَامِ، فَقَالَ مِنْهُمْ ***زَعِيمٌ: نَحْسِدُ الإِنس الطَّعَامَا

وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ أَراد عَلَى الطَّعَامِ فَحَذَفَ وأَوصل؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الشِّعْرُ لَشَمِرِ بْنِ الْحَرِثِ الضَّبِّيِّ وَرُبَّمَا رُوِيَ لتأَبط شَرًّا، وأَنكر أَبو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عِموا صَبَاحًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بأَن هَذَا الْبَيْتَ مِنْ قِطْعَةٍ كُلُّهَا عَلَى رَوِيِّ الْمِيمِ؛ قَالَ وَكَذَلِكَ قرأْتها عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وأَولها:

ونارٍ قَدْ حَضَأْتُ بُعَيْدَ وَهْنٍ ***بدارٍ، مَا أُريدُ بِهَا مُقاما

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ وَهِمَ أَبو الْقَاسِمِ فِي هَذَا، أَو لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لأَن الَّذِي يَرْوِيهِ عِموا صَبَاحًا يَذْكُرُهُ مَعَ أَبيات كُلُّهَا عَلَى رَوِيِّ الْحَاءِ، وَهِيَ لِخَرِع بْنِ سِنَانٍ الْغَسَّانِيِّ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ خَبَرِ سَدّ مَأْرِبَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الأَبيات:

نزلتُ بِشعْبِ وَادِي الجنِّ، لَمَّا ***رأَيتُ الليلَ قَدْ نَشَرَ الْجَنَاحَا

أَتاني قاشِرٌ وبَنُو أَبيه، ***وَقَدْ جَنَّ الدُّجى والنجمُ لَاحَا

وحدَّثني أُمورًا سَوْفَ تأْتي، ***أَهُزُّ لَهَا الصَّوارمَ والرِّماحا

قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَكاذيب الْعَرَبِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْعَرَبِ حَسَدَنِي اللَّهُ إِن كُنْتُ أَحسدك، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَقَالَ: هَذَا كَمَا يَقُولُونَ نَفِسَها اللَّهُ عليَّ إِن كُنْتُ أَنْفَسُها عَلَيْكَ، وَهُوَ كَلَامٌ شَنِيعٌ، لأَن اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَجِلُّ عَنْ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَتَّجِهُ هَذَا عَلَيْهِ أَنه أَراد: عَاقَبَنِي اللَّهُ عَلَى الْحَسَدِ أَو جَازَانِي عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


91-لسان العرب (ظفر)

ظفر: الظُّفْرُ والظُّفُرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَظْفارٌ وأُظْفورٌ وأَظافيرُ، يَكُونُ للإِنسان وَغَيْرِهِ، وأَما قِرَاءَةُ مَنْ قرأَ: كُلُّ ذِي ظِفْر "، بِالْكَسْرِ، فَشَاذٌّ غَيْرُ مأْنوسٍ بِهِ إِذ لَا يُعْرف ظِفْر، بالكسر، وقالوا: الظُّفْر لِمَا لَا يَصِيد، والمِخْلَبُ لِمَا يَصِيد؛ كُلُّهُ مُذَكَّرٌ صَرَّحَ بِهِ اللِّحْيَانِيُّ، وَالْجَمْعُ أَظفار، وَهُوَ الأُظْفُورُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ أَظافيرُ، لَا عَلَى أَنه جَمْعُ أَظفار الَّذِي هُوَ جَمْعُ ظُفْر لأَنه لَيْسَ كُلُّ جَمْعٍ يُجْمَعُ، وَلِهَذَا حَمَلَ الأَخفش قِرَاءَةُ مَنْ قرأَ: " فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ "، عَلَى أَنه جَمْعُ رَهْن ويُجَوّز قِلَّته لِئَلَّا يضْطَرَّه إِلى ذَلِكَ أَن يَكُونَ جمعَ رِهانٍ الَّذِي هُوَ جمعُ رَهْنٍ، وأَما مَنْ لَمْ يَقُلْ إِلَّا ظُفْر فإِن أَظافِيرَ عِنْدَهُ مُلْحَقةٌ بِبَابِ دُمْلوج، بِدَلِيلِ مَا انْضَافَ إِليها مِنْ زِيَادَةِ الْوَاوِ مَعَهَا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذَا مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ.

اللَّيْثُ: الظُّفْر ظُفْر الأُصبع وظُفْر الطَّائِرِ، والجمع الأَظفار، وجماعة" الأَظْفار أَظافِيرُ، لأَن أَظفارًا بِوَزْنِ إِعْصارٍ، تَقُولُ أَظافِيرُ وأَعاصيرُ، وإِنْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الأَشعار جَازَ وَلَا يُتَكلّم بِهِ بِالْقِيَاسِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ غَيْرَ أَن السَّمْعَ آنَسُ، فإِذا وَرَدَ عَلَى الإِنسان شَيْءٌ لَمْ يَسْمَعْهُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَلَامِ اسْتوحَشَ مِنْهُ فَنَفَر، وَهُوَ فِي الأَشعار جيّدٌ جَائِزٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}؛ دَخَلَ فِي ذِي الظُّفْرِ ذواتُ الْمَنَاسِمِ مِنَ الإِبل والنعامِ لأَنها كالأَظْفار لَهَا.

وَرَجُلٌ أَظْفَرُ: طَوِيلُ الأَظفار عريضُها، وَلَا فَعْلاء لَهَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ، ومَنْسِم أَظْفَرُ كَذَلِكَ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

بأَظْفَرَ كالعَمُودِ إِذا اصْمَعَدّتْ ***عَلَى وَهَلٍ، وأَصفَرَ كالعَمُودِ

والتَّظْفيرُ: غَمْزُ الظُّفْرِ فِي التُّفَّاحة وَغَيْرِهَا.

وظَفَرَه يَظْفِرُه وظَفَّرَه واظَّفَرَه: غرزَ فِي وَجْهه ظُفْرَه.

ويقال: ظَفَّرَ فلانٌ فِي وَجْهِ فلانٍ إِذا غَرَزَ ظُفْرَه فِي لَحْمِهِ فعَقَره، وَكَذَلِكَ التَّظْفِيرُ فِي القِثَّاء والبطِّيخ.

وكلُّ مَا غَرَزْت فِيهِ ظُفْرَك فشَدَخْتَه أَو أَثّرْتَ فِيهِ، فَقَدْ ظَفَرْته؛ أَنشد ثَعْلَبٌ لخَنْدَق بْنِ إِياد: " وَلَا تُوَقّ الحَلْقَ أَن تَظَفّرَا "واظّفَرَ الرجلُ واطَّفَر أَي أَعْلَقَ ظُفْرَه، وَهُوَ افْتَعَلَ فأَدغم؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ بَازِيًا:

تَقَضِّيَ البازِي إِذا البازِي كَسَرْ ***أَبْصَرَ خِرْبانَ فَضاءٍ فَانْكَدَرْ

شاكِي الكَلالِيبِ إِذا أَهْوَى اظَّفَرْ "الكَلالِيبُ: مَخالِيبُ الْبَازِي، الْوَاحِدُ كَلّوب.

وَالشَّاكِي: مأْخوذ مِنَ الشَّوْكةِ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ، أَي حادُّ المَخالِيبِ.

واظّفَرَ أَيضًا: بِمَعْنَى ظَفِرَ بِهِمْ.

وَرَجُلٌ مُقلَّم الظُّفْرِ عَنِ الأَذَى وكَلِيل الظُّفْرِ عَنِ العِدَى، وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَثَلِ.

وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: إِنه لمَقْلُومُ الظُّفُرِ أَي لَا يُنْكي عَدُوًّا؛ وَقَالَ طَرَفَةُ: " لَسْتُ بالفَانِي وَلَا كَلِّ الظُّفُرْ وَيُقَالُ للمَهين: هُوَ كَليلُ الظُّفُرِ.

وَرَجُلٌ أَظْفَرُ بَيِّن الظُّفُرِ إِذا كَانَ طويلَ الأَظْفارِ، كَمَا تَقُولُ رَجُلٌ أَشْعَرُ طَوِيلُ الشَّعْرِ.

ابْنُ سِيدَهْ: والظُّفْرُ ضَرْبٌ مِنَ العِطْر أَسْوَدُ مُقْتَلَفٌ مِنْ أَصله عَلَى شَكْلِ ظُفْر الإِنسان، يُوضَعُ فِي الدُّخْنَةِ، وَالْجَمْعُ أَظْفارٌ وأَظافِيرُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: لَا وَاحِدَ لَهُ، وَقَالَ الأَزهري: لَا يُفْرَدُ مِنْهُ الْوَاحِدُ، قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَظْفارةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ فِي الْقِيَاسِ، وَيَجْمَعُونَهَا عَلَى أَظافِيرَ، وَهَذَا فِي الطِّيب، وإِذا أُفرد شَيْءٌ مِنْ نَحْوِهَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ ظُفْرًا وفُوهًا، وَهُمْ يَقُولُونَ أَظفارٌ وأَظافِيرُ وأَفْواهٌ وأَفاوِيهُ لِهَذَيْنِ العِطْرَينِ.

وظَفَّرَ ثَوبه: طيَّبَه بالظُّفْر.

وَفِي حَدِيثِ أُمّ عَطِيَّةَ: «لَا تَمَسّ المُحِدّ إِلَّا نُبْذَةً مِنْ قُسْطِ أَظفارٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ قُسْطٍ وأَظفار»؛ قَالَ: الأَظْفارُ جِنْسٌ مِنَ الطِّيب، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ: وَاحِدَةُ ظُفْر، وَهُوَ شَيْءٌ مِنَ العِطْر أَسود والقطعةُ مِنْهُ شبيهةٌ بالظُّفْرِ.

وظَفَّرَت الأَرض: أَخْرجت مِنَ النَّبَاتِ مَا يُمْكِنُ احْتِفَارُهُ بالظُّفْرِ.

وظَفَّرَ العَرْفَجُ والأَرْطى: خَرَجَ مِنْهُ شِبهُ الأَظفار وَذَلِكَ حِينَ يُخَوِّصُ.

وظَفَّرَ البَقْلُ: خَرَجَ كأَنه أَظفارُ الطَّائِرِ.

وظَفَّرَ النَّصِيُّ والوَشِيجُ والبَرْدِيُّ والثُّمامُ والصِّلِّيَانُ والعَرَزُ والهَدَبُ إِذا خَرَجَ لَهُ عُنْقُرٌ أَصفر كالظُّفْرِ، وَهِيَ خُوصَةٌ تَنْدُرُ مِنْهُ فِيهَا نَوْرٌ أَغبر.

الْكِسَائِيُّ: إِذا طَلَعَ النَّبْتُ قِيلَ: قَدْ ظَفَّرَ تَظْفِيرًا؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: هُوَ مأْخوذ مِنَ الأَظْفارِ.

الْجَوْهَرِيُّ: والظَّفَرُ مَا اطْمَأَنَّ مِنَ الأَرض وأَنبت.

وَيُقَالُ: ظَفَّرَ النبتُ إِذا طَلَعَ مِقْدَارَ الظُّفْرِ.

والظُّفْرُ والظَّفَرَةُ، بِالتَّحْرِيكِ: دَاءٌ يَكُونُ فِي الْعَيْنِ يَتَجَلَّلُها مِنْهُ غاشِيةٌ كالظُّفْرِ، وَقِيلَ: هِيَ لُحْمَةٌ تَنْبُتُ عِنْدَ المَآقي حَتَّى تَبْلُغَ السَّوَادَ وَرُبَّمَا أَخَذَت فِيهِ، وَقِيلَ: الظَّفَرَةُ، بِالتَّحْرِيكِ، جُلَيْدَة تُغَشِّي العينَ تَنْبُتُ تِلْقَاءَ المَآقي وَرُبَّمَا قُطعت، وإِن تُركت غَشِيَتْ بَصر الْعَيْنِ حَتَّى تَكِلَّ، وَفِي الصِّحَاحِ: جُلَيْدة تُغَشِّي الْعَيْنَ نَابتة مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي الأَنف عَلَى بَيَاضِ الْعَيْنِ إِلى سوادهَا، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا ظُفْرٌ؛ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ.

وَفِي" صِفَةِ الدَّجَّالِ: وَعَلَى عَيْنِهِ ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ "، بِفَتْحِ الظَّاءِ وَالْفَاءِ، وَهِيَ لَحْمَةٌ تَنْبُتُ عِنْدَ المَآقي وَقَدْ تَمْتَدُّ إِلى السَّوَادِ فتُغَشِّيه؛ وَقَدْ ظَفِرَتْ عينُه، بِالْكَسْرِ، تَظْفَرُ ظَفَرًا، فَهِيَ ظَفِرَةٌ.

وَيُقَالُ ظُفِرَ فلانٌ، فَهُوَ مَظْفُورٌ؛ وَعَيْنٌ ظَفِرَةٌ؛ وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ:

مَا القولُ فِي عُجَيِّزٍ كالحُمّره، ***بِعَيْنها مِنَ البُكاء ظَفَرَه،

حَلَّ ابنُها فِي السِّجْن وَسْطَ الكَفَرَه؟ "الْفَرَّاءُ: الظَّفَرَةُ لَحْمَةٌ تَنْبُتُ فِي الحَدَقَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الظُّفْر لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ وَرُبَّمَا جَلَّلَ الحَدَقَةَ.

وأَظْفَارُ الْجِلْدِ: مَا تَكَسَّرَ مِنْهُ فَصَارَتْ لَهُ غُضُونٌ.

وظَفَّرَ الجلدَ: دَلَكَهُ لِتَمْلاسَّ أَظْفارُه.

الأَصمعي: فِي السِّيَةِ الظُّفْرُ وَهُوَ مَا وَرَاءَ معْقِدِ الوتَرِ إِلى طرَف القَوْس، وَالْجَمْعُ ظِفَرَةٌ؛ قَالَ الأَزهري: هُنَا يُقَالُ للظُّفْرِ أُظْفُورٌ، وَجَمْعُهُ أَظافير؛ وأَنشد:

مَا بَيْنَ لُقْمَتِها الأُولى، إِذا ازْدَرَدتْ، ***وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها، قِيسُ أُظْفُورِ

والظَّفَرُ، بِالْفَتْحِ: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ.

اللَّيْثُ: الظَّفَرُ الْفَوْزُ بِمَا طلبتَ والفَلْجُ عَلَى مَنْ خَاصَمْتَ؛ وَقَدْ ظَفِرَ بِهِ وَعَلَيْهِ وظَفِرَهُ ظَفَرًا، مِثْلَ لَحِقَ بِهِ ولَحِقَهُ فَهُوَ ظَفِرٌ، وأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَعَلَيْهِ وظَفَّرَهُ بِهِ تَظْفِيرًا.

وَيُقَالُ: ظَفِرَ اللهُ فُلانًا عَلَى فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ أَظْفَرَهُ اللهُ.

وَرَجُلٌ مُظَفَّرٌ وظَفِرٌ وظِفِّيرٌ: لَا يُحَاوِلُ أَمرًا إِلَّا ظَفِرَ بِهِ؛ قَالَ الْعُجَيْرُ السَّلُولِيُّ يَمْدَحُ رَجُلًا:

هُوَ الظَّفِرُ المَيْمُونُ، إِنْ رَاحَ أَو غَدَا ***بِهِ الركْبُ، والتِّلْعابةُ المُتَحَبِّبُ

وَرَجُلٌ مُظَفَّرٌ: صَاحِبُ دَوْلَةٍ فِي الْحَرْبِ.

وَفُلَانٌ مُظَفَّرٌ: لا يَؤُوب إِلَّا بالظَّفَر فثُقِّلَ نعتُه لِلْكَثْرَةِ وَالْمُبَالَغَةِ.

وإِن قِيلَ: ظَفَّرَ اللَّهُ فُلَانًا أَي جَعَلَهُ مُظَفَّرًا جَازَ وحسُن أَيضًا.

وَتَقُولُ: ظَفَّره اللَّهُ عَلَيْهِ أَي غَلّبه عَلَيْهِ؛ وَكَذَلِكَ إِذا سُئِلَ: أَيهما أَظْفَرُ، فأَخْبِرْ عَنْ وَاحِدٍ غلَب الْآخَرَ؛ وَقَدْ ظَفّره.

قَالَ الأَخفش: وَتَقُولُ الْعَرَبُ: ظَفِرْت عَلَيْهِ فِي مَعْنَى ظَفِرْت بِهِ.

وَمَا ظَفَرتْكَ عَيْني مُنْذ زمانٍ أَي مَا رَأَتْك، وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَتْكَ عيني مند حِينٍ.

وظَفَّرَه: دَعا لَه بالظَّفَر؛ وظَفِرْت بِهِ، فأَنا ظافرٌ وَهُوَ مَظْفُورٌ بِهِ.

وَيُقَالُ: أَظْفَرَنيَ اللَّهُ بِهِ.

وتَظَافَرَ القومُ عَلَيْهِ وتظاهَرُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وظَفارِ مِثْلَ قَطَامِ مَبْنِيَّةٌ: مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: هِيَ قَرْية مِنْ قُرَى حِمْير إِليها يُنْسَبُ الجَزْع الظَّفارِيّ، وَقَدْ جَاءَتْ مَرْفُوعَةً أُجْرِيَت مُجْرَى رَبابِ إِذا سَمّيْتَ بِهَا.

ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ جَزْعٌ ظَفارِيّ مَنْسُوبٌ إِلى ظَفارِ أَسد مَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ، وَكَذَلِكَ عُودٌ ظَفارِيّ مَنْسُوبٌ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخّر بِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ دَخل ظَفارِ حَمّرَ أَي تَعَلَّمَ الحِمْيَريّة؛ وَقِيلَ: كُلُّ أَرض ذَاتِ مَغَرّةٍ ظَفارِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ لباسُ آدَم، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الظُّفُرَ»؛ أَي شَيْءٌ يُشْبِه الظُّفُرَ فِي بَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ وكثافِته.

وَفِي حَدِيثِ الإِفْكِ: «عِقد مِنْ جَزْع أَظفار»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رُوِيَ وأُريد بِهَا العطْرُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا كأَنه يُؤْخَذُ فيُثْقَبُ ويُجْعل فِي العِقْد وَالْقِلَادَةِ؛ قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي الرِّوَايَةِ أَنه" مِنْ جَزْعِ ظَفارِ مَدِينَةٍ لحِمْير بِالْيَمَنِ.

والأَظْفارُ: كِبارُ القِرْدانِ وكواكبُ صِغارٌ.

وظَفْرٌ ومُظَفَّرٌ ومِظْفارٌ: أَسماء.

وَبَنُو ظَفَر: بَطْنانِ بَطْنٌ فِي الأَنصار، وَبَطْنٌ فِي بني سليم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


92-لسان العرب (نور)

نور: فِي أَسماء اللَّهِ تعالى: {النُّورُ}؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِنُورِهِ ذُو العَمَاية ويَرْشُدُ بِهُدَاهُ ذُو الغَوايَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي بِهِ كُلُّ ظُهُورٍ، وَالظَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ المُظْهِر لِغَيْرِهِ يُسَمَّى نُورًا.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: والنُّور مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ قِيلَ فِي تفسيره: هادي أَهل السموات والأَرض، وَقِيلَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ؛ أَي مَثَلُ نُورِ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.

والنُّورُ: الضِّيَاءُ.

وَالنُّورُ: ضِدُّ الظُّلْمَةِ.

وَفِي الْمُحْكَمِ: النُّور الضَّوْءُ، أَيًّا كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ شُعَاعُهُ وَسُطُوعُهُ، وَالْجَمْعُ أَنْوارٌ ونِيرانٌ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.

وَقَدْ نارَ نَوْرًا وأَنارَ واسْتَنارَ ونَوَّرَ؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَي أَضاء، كَمَا يُقَالُ: بانَ الشيءُ وأَبانَ وبَيَّنَ وتَبَيَّنَ واسْتَبانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

واسْتَنار بِهِ: اسْتَمَدَّ شُعاعَه.

ونَوَّرَ الصبحُ: ظَهَرَ نُورُه؛ قَالَ:

وحَتَّى يَبِيتَ القومُ فِي الصَّيفِ ليلَةً ***يَقُولُونَ: نَوِّرْ صُبْحُ، والليلُ عاتِمُ

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَرَض عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِلْجَدِّ ثُمَّ أَنارَها زيدُ بْنُ ثَابِتٍ»أَي نَوَّرَها وأَوضحها وبَيَّنَها.

والتَّنْوِير: وَقْتُ إِسفار الصُّبْحِ؛ يُقَالُ: قَدْ نَوَّر الصبحُ تَنْوِيرًا.

وَالتَّنْوِيرُ: الإِنارة.

وَالتَّنْوِيرُ: الإِسفار.

وَفِي حَدِيثِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ: «أَنه نَوَّرَ بالفَجْرِ» أَي صلَّاها، وَقَدِ اسْتنار الأُفق كَثِيرًا.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «نَائِرَاتُ الأَحكام ومُنِيرات الإِسلام»؛ النَّائِرَاتُ الْوَاضِحَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمُنِيرَاتُ كَذَلِكَ، فالأُولى مِنْ نارَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ أَنار، وأَنار لازمٌ ومُتَعَدٍّ؛ وَمِنْهُ: ثُمَّ أَنارها زيدُ بْنُ ثَابِتٍ.

وأَنار المكانَ: وَضَعَ فِيهِ النُّورَ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ للإِسلام لَمْ يَهْتَدِ.

وَالْمَنَارُ وَالْمَنَارَةُ: مَوْضِعُ النُّور.

والمَنارَةُ: الشَّمْعة ذَاتُ السِّرَاجِ.

ابْنُ سِيدَهْ: والمَنارَةُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا السِّرَاجُ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

وكِلاهُما فِي كَفِّه يَزَنِيَّةٌ، ***فِيهَا سِنانٌ كالمَنارَةِ أَصْلَعُ

أَراد أَن يُشَبِّهَ السِّنَانَ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ فأَوقع اللَّفْظَ عَلَى الْمَنَارَةِ.

وَقَوْلُهُ أَصلع يُرِيدُ أَنه لَا صَدَأَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَبْرُقُ، وَالْجَمْعُ مَناوِرُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمَنَائِرُ مَهْمُوزٌ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنما ذَلِكَ لأَن الْعَرَبَ تُشَبِّهُ الْحَرْفَ بِالْحَرْفِ فَشَبَّهُوا مَنَارَةً وَهِيَ مَفْعَلة مِنَ النُّور، بِفَتْحِ الْمِيمِ، بفَعَالةٍ فَكَسَّرُوها تَكْسِيرَهَا، كَمَا قَالُوا أَمْكِنَة فِيمَنْ جَعَلَ مَكَانًا مِنَ الكَوْنِ، فَعَامَلَ الْحَرْفَ الزَّائِدَ مُعَامَلَةَ الأَصلي، فَصَارَتِ الْمِيمُ عِنْدَهُمْ فِي مَكَانٍ كَالْقَافِ مِنْ قَذَالٍ، قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ.

قَالَ: وأَما سِيبَوَيْهِ فَحَمَلَ مَا هُوَ مِنْ هَذَا عَلَى الْغَلَطِ.

الْجَوْهَرِيُّ: الْجَمْعُ مَناوِر، بِالْوَاوِ، لأَنه مِنَ النُّورِ، وَمَنْ قَالَ مَنَائِرُ وَهَمَزَ فَقَدْ شَبَّهَ الأَصلي بِالزَّائِدِ كَمَا قَالُوا مَصَائِبُ وأَصله مَصَاوِبُ.

والمَنار: العَلَم وَمَا يُوضَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنَ الْحُدُودِ.

وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّر مَنارَ الأَرض»؛ أي أَعلامها.

والمَنارُ: عَلَم الطَّرِيقِ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: الْمَنَارُ العَلَمُ وَالْحَدُّ بَيْنَ الأَرضين.

والمَنار: جَمْعُ مَنَارَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ تُجْعَلُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ، ومَنار الْحَرَمِ: أَعلامه الَّتِي ضَرَبَهَا إِبراهيم الْخَلِيلُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى أَقطار الْحَرَمِ وَنَوَاحِيهِ وَبِهَا تُعْرَفُ حُدُودُ الحَرَم مِنْ حُدُودِ الحِلِّ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ.

قَالَ: وَيُحْتَمَلُ مَعْنَى قَوْلِهِ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غيَّر مَنَارَ الأَرض، أَراد بِهِ مَنَارَ الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ لَعَنَ مِنْ غَيْرِ تُخُومِ الأَرضين، وَهُوَ أَن يَقْتَطِعَ طَائِفَةً مِنْ أَرض جَارِهِ أَو يُحَوِّلَ الْحَدَّ مِنْ مَكَانِهِ.

وَرَوَى شَمِرٌ عَنِ الأَصمعي: المَنار العَلَم يُجْعَلُ لِلطَّرِيقِ أَو الْحَدِّ للأَرضين مِنْ طِينٍ أَو تُرَابٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِن للإِسلام صُوًى ومَنارًا "أَي عَلَامَاتٍ وَشَرَائِعَ يُعْرَفُ بِهَا.

والمَنارَةُ: الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا، وَهِيَ المِئْذَنَةُ؛ وأَنشد:

لِعَكٍّ فِي مَناسِمها مَنارٌ، ***إِلى عَدْنان، واضحةُ السَّبيل

والمَنارُ: مَحَجَّة الطَّرِيقُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ}؛ قِيلَ: النُّورُ هَاهُنَا هُوَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَي جَاءَكُمْ نَبِيٌّ وَكِتَابٌ.

وَقِيلَ" إِن مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ: سيأْتيكم النُّورُ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}؛ أَي اتَّبِعُوا الْحَقَّ الَّذِي بَيَانُهُ فِي الْقُلُوبِ كَبَيَانِ النُّورِ فِي الْعُيُونِ.

قَالَ: وَالنُّورُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ الأَشياء ويُرِي الأَبصار حَقِيقَتَهَا، قَالَ: فَمَثلُ مَا أَتى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُلُوبِ فِي بَيَانِهِ وَكَشْفِهِ الظُّلُمَاتِ كَمَثَلِ النُّورِ، ثُمَّ قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ"، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ ابْنُ شَقِيقٍ: «لَوْ رأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنتُ أَسأَله: هَلْ رأَيتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: قَدْ سأَلتُه فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاه أَي هُوَ نُورٌ كَيْفَ أَراه.

قَالَ ابْنُ الأَثير: سُئِلَ أَحمد بْنُ حَنْبَلٍ عَنِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَا رأَيتُ مُنْكِرًا لَهُ وَمَا أَدري مَا وَجْهُهُ.

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ، فإِن ابْنَ شَقِيقٍ لَمْ يَكُنْ يُثْبِتُ أَبا ذَرٍّ، وَقَالَ بَعْضُ أَهل الْعِلْمِ: النُّورُ جِسْمٌ وعَرَضٌ، وَالْبَارِي تَقَدَّسَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ، وإِنما الْمُرَادُ أَن حِجَابَهُ النُّورُ، قَالَ: وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى كَيْفَ أَراه وَحِجَابُهُ النُّورُ أَي أَن النُّورَ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَبَاقِي أَعضائه»؛ أَراد ضِيَاءَ الْحَقِّ وَبَيَانَهُ، كأَنه قَالَ: اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْ هَذِهِ الأَعضاء مِنِّي فِي الْحَقِّ وَاجْعَلْ تَصَرُّفِي وَتَقَلُّبِي فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ وَالْخَيْرِ.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: سأَلت ابْنَ الأَعرابي عَنْ قَوْلِهِ: لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: النَّارُ هَاهُنَا الرَّأْيُ، أَي لَا تُشاورُوهم، فَجَعَلَ الرأْي مَثَلًا للضَّوءِ عِنْدَ الحَيْرَة، قَالَ: وأَما حَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، فَقِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا تَراءَى ناراهُما.

قَالَ: إِنه كَرِهَ النُّزُولَ فِي جِوَارِ الْمُشْرِكِينَ لأَنه لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمان، ثُمَّ وَكَّدَهُ فَقَالَ: لَا تَراءَى نَارَاهُمَا أَي لَا يَنْزِلُ الْمُسْلِمُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تُقَابِلُ نارُه إِذا أَوقدها نارَ مُشْرِكٍ لِقُرْبِ مَنْزِلِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: لَا تراءَى نَارَاهُمَا أَي لَا يَجْتَمِعَانِ بِحَيْثُ تَكُونُ نَارُ أَحدهما تُقَابِلُ نَارَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ سِمَةِ الإِبل بِالنَّارِ.

وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْوَرُ المُتَجَرَّدِ أَي نَيِّر الْجِسْمِ.

يُقَالُ للحسَنِ المشرِق اللَّوْنِ: أَنْوَرُ، وَهُوَ أَفعلُ مِنَ النُّور.

يُقَالُ: نَارٌ فَهُوَ نَيِّر، وأَنار فَهُوَ مُنِيرٌ.

وَالنَّارُ: مَعْرُوفَةُ أُنثى، وَهِيَ مِنَ الْوَاوِ لأَن تَصْغِيرَهَا نُوَيْرَةٌ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: جاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَن مَنْ فِي النَّارِ هُنَا نُور اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ حَوْلَهَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ وَقِيلَ نُورُ اللَّهِ أَيضًا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ تُذَكَّرُ النَّارُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ؛ وأَنشد فِي ذَلِكَ:

فَمَنْ يأْتِنا يُلْمِمْ بِنَا فِي دِيارِنا، ***يَجِدْ أَثَرًا دَعْسًا وَنَارًا تأَجَّجا

وَرِوَايَةُ سِيبَوَيْهِ: يَجِدُ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تأَججا؛ وَالْجَمْعَ أَنْوُرٌ ونِيرانٌ، انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، ونِيْرَةٌ ونُورٌ ونِيارٌ؛ الأَخيرة عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.

وَفِي حَدِيثِ شَجَرِ جَهَنَّمَ: «فَتَعْلُوهم نارُ الأَنْيارِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: لَمْ أَجده مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا رُوِيَ فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَيَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ مَعْنَاهُ نارُ النِّيرانِ بِجْمَعِ النَّارِ عَلَى أَنْيارٍ، وأَصلها أَنْوارٌ لأَنها مِنَ الْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْياحٌ وأَعْيادٌ، وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ.

وتَنَوَّرَ النارَ: نَظَرَ إِليها أَو أَتاها.

وتَنَوَّرَ الرجلَ: نَظَرَ إِليه عِنْدَ النَّارِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ.

وتَنَوَّرْتُ النارَ مِنْ بَعِيدٍ أَي تَبَصَّرْتُها.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الناسُ شُركاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الماءُ والكلأُ والنارُ»؛ أَراد لَيْسَ لِصَاحِبِ النَّارِ أَن يَمْنَعَ مَنْ أَراد أَن يستضيءَ مِنْهَا أَو يَقْتَبِسَ، وَقِيلَ: أَراد بِالنَّارِ الحجارةَ الَّتِي تُورِي النَّارَ، أَي لَا يُمْنَعُ أَحد أَن يأْخذ مِنْهَا.

وَفِي حَدِيثِ الإِزار: «وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ»؛ مَعْنَاهُ أَن مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ قَدَمِ صَاحِبِ الإِزارِ المُسْبَلِ فِي النَّارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَن صَنِيعَهُ ذَلِكَ وفِعْلَه فِي النَّارِ؛ أي أَنه مَعْدُودٌ مَحْسُوبٌ مِنْ أَفعال أَهل النَّارُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه قَالَ لعَشَرَةِ أَنْفُسٍ فِيهِمْ سَمُرَةُ: آخِرُكُمْ يَمُوتُ فِي النَّارِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: فَكَانَ لَا يكادُ يَدْفَأُ فأَمر بِقِدْرٍ عَظِيمَةٍ فَمُلِئَتْ مَاءً وأَوقد تَحْتَهَا وَاتَّخَذَ فَوْقَهَا مَجْلِسًا، وَكَانَ يَصْعَدُ بُخَارُهَا فَيُدْفِئُه، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ خُسِفَتْ بِهِ فَحَصَلَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعلم.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «العَجْماءُ جُبارٌ وَالنَّارُ جُبارٌ»؛ قِيلَ: هِيَ النَّارُ الَّتِي يُوقِدُها الرجلُ فِي مِلْكِهِ فَتُطِيرها الرِّيحُ إِلى مَالِ غَيْرِهِ فَيَحْتَرِقُ وَلَا يَمْلِكُ رَدَّها فَيَكُونُ هَدَرًا.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ الْحَدِيثُ غَلِطَ فِيهِ عبدُ الرَّزَّاقِ وَقَدْ تَابَعَهُ عبدُ الْمَلِكِ الصَّنْعانِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْحِيفُ الْبِئْرُ، فإِن أَهل الْيَمَنِ يُمِيلُونَ النَّارَ فَتَنْكَسِرُ النُّونُ، فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الإِمالة فكتبه بالياء، فَقَرؤُوهمُصَحَّفًا بِالْيَاءِ، وَالْبِئْرُ هِيَ الَّتِي يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ أَو فِي مَوَاتٍ فَيَقَعُ فِيهَا إِنسان فَيَهْلِكُ فَهُوَ هَدَرٌ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ أَزل أَسمع أَصحاب الْحَدِيثِ يَقُولُونَ غَلِطَ فِيهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَتَّى وَجَدْتُهُ لأَبي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخرى.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فإِن تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذَا تَفْخِيمٌ لأَمر الْبَحْرِ وَتَعْظِيمٌ لشأْنه وإِن الْآفَةَ تُسْرِع إِلى رَاكِبِهِ فِي غَالِبِ الأَمر كَمَا يُسْرِعُ الْهَلَاكُ مِنَ النَّارِ لِمَنْ لَابَسَهَا وَدَنَا مِنْهَا.

والنارُ: السِّمَةُ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ، وَهِيَ النُّورَةُ.

ونُرْتُ الْبَعِيرَ: جَعَلْتُ عَلَيْهِ نَارًا.

وَمَا بِهِ نُورَةٌ أَي وَسْمٌ.

الأَصمعي: وكلُّ وسْمٍ بِمِكْوًى، فَهُوَ نَارٌ، وَمَا كَانَ بِغَيْرِ مِكْوًى، فَهُوَ حَرْقٌ وقَرْعٌ وقَرمٌ وحَزٌّ وزَنْمٌ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا نارُ هَذِهِ النَّاقَةِ أَي مَا سِمَتُها، سُمِّيَتْ نَارًا لأَنها بِالنَّارِ تُوسَمُ؛ وَقَالَ الرَّاجِزُ:

حَتَّى سَقَوْا آبالَهُمْ بالنارِ، ***والنارُ قَدْ تَشْفي مِنَ الأُوارِ

أَي سَقَوْا إِبلهم بالسِّمَة، أَي إِذا نَظَرُوا فِي سِمَةِ صَاحِبِهِ عُرِفَ صَاحِبُهُ فَسُقِيَ وقُدِّم عَلَى غَيْرِهِ لِشَرَفِ أَرباب تِلْكَ السِّمَةِ وخلَّوا لَهَا الماءَ.

وَمِنْ أَمثالهم: نِجارُها نارُها أَي سِمَتُهَا تَدُلُّ عَلَى نِجارِها يَعْنِي الإِبل؛ قَالَ الرَّاجِزُ يَصِفُ إِبلًا سِمَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ:

نِجارُ كلِّ إِبلٍ نِجارُها، ***ونارُ إِبْلِ الْعَالَمِينَ نارُها

يَقُولُ: اخْتَلَفَتْ سِمَاتُهَا لأَن أَربابها مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى فأُغِيرَ عَلَى سَرْح كُلِّ قَبِيلَةٍ وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَ مَنْ أَغار عَلَيْهَا سِماتُ تِلْكَ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا.

وَفِي حَدِيثِ صعصة ابن نَاجِيَةَ جَدِّ الْفَرَزْدَقِ: «وَمَا ناراهما»أَي ما سِمَتُهما الَّتِي وُسِمَتا بِهَا يَعْنِي نَاقَتَيْهِ الضَّالَّتَيْنِ، والسِّمَةُ: الْعَلَامَةُ.

ونارُ المُهَوِّل: نارٌ كَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوقِدُونَهَا عِنْدَ التَّحَالُفِ وَيَطْرَحُونَ فِيهَا مِلْحًا يَفْقَعُ، يُهَوِّلُون بِذَلِكَ تأْكيدًا لِلْحِلْفِ.

وَالْعَرَبُ تَدْعُو عَلَى الْعَدُوِّ فَتَقُولُ: أَبعد اللَّهُ دَارَهُ وأَوقد نَارًا إِثره قَالَ ابْنُ الأَعرابي: قَالَتِ العُقَيْلية: كَانَ الرَّجُلُ إِذا خِفْنَا شَرَّهُ فَتَحَوَّلَ عَنَّا أَوقدنا خَلْفَهُ نَارًا، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: ليتحَوّلَ ضَبْعُهُمْ مَعَهُمْ أَي شرُّهم؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

وجَمَّة أَقْوام حَمَلْتُ، وَلَمْ أَكن ***كَمُوقِد نارٍ إِثْرَهُمْ للتَّنَدُّم

الْجَمَّةُ: قَوْمٌ تَحَمَّلوا حَمالَةً فَطَافُوا بِالْقَبَائِلِ يسأَلون فِيهَا؛ فأَخبر أَنه حَمَلَ مِنَ الْجَمَّةِ مَا تَحَمَّلُوا مِنَ الدِّيَاتِ، قَالَ: وَلَمْ أَندم حِينَ ارْتَحَلُوا عَنِّي فأُوقد عَلَى أَثرهم.

وَنَارُ الحُباحِبِ: قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا فِي مَوْضِعِهِ.

والنَّوْرُ والنَّوْرَةُ، جَمِيعًا: الزَّهْر، وَقِيلَ: النَّوْرُ الأَبيض وَالزَّهْرُ الأَصفر وَذَلِكَ أَنه يبيضُّ ثُمَّ يَصْفَرُّ، وَجَمْعُ النَّوْر أَنوارٌ.

والنُّوّارُ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: كالنَّوْرِ، وَاحِدَتُهُ نُوَّارَةٌ، وَقَدْ نَوَّرَ الشجرُ وَالنَّبَاتُ.

اللَّيْثُ: النَّوْرُ نَوْرُ الشَّجَرِ، وَالْفِعْلُ التَّنْوِيرُ، وتَنْوِير الشَّجَرَةِ إِزهارها.

وَفِي حَدِيثِ خُزَيْمَةَ: «لَمَّا نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَنْوَرَتْ»أَي حَسُنَتْ خُضْرَتُهَا، مِنَ الإِنارة، وَقِيلَ: إِنها أَطْلَعَتْ نَوْرَها، وَهُوَ زَهْرُهَا.

يُقَالُ: نَوَّرَتِ الشجرةُ وأَنارَتْ، فأَما أَنورت فَعَلَى الأَصل؛ وَقَدْ سَمَّى خِنْدِفُ بنُ زيادٍ الزبيريُّ إِدراك الزَّرْعِ تَنْوِيرًا فَقَالَ: " سَامَى طعامَ الحَيِّ حَتَّى نَوَّرَا وجَمَعَه عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ:

وَذِي تَناوِيرَ مَمْعُونٍ، لَهُ صَبَحٌ ***يَغْذُو أَوَابِدَ قَدْ أَفْلَيْنَ أَمْهارَا

والنُّورُ: حُسْنُ النَّبَاتِ وَطُولِهِ، وَجَمْعُهُ نِوَرَةٌ.

ونَوَّرَتِ الشَّجَرَةُ وأَنارت أَيضًا أَي أَخرجت نَوْرَها.

وأَنار النبتُ وأَنْوَرَ: ظَهَرَ وحَسُنَ.

والأَنْوَرُ: الظَّاهِرُ الحُسْنِ؛ ومنه صِفَتِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ أَنْوَرَ المُتَجَرَّدِ.

والنُّورَةُ: الهِناءُ.

التَّهْذِيبُ: والنُّورَةُ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي يُحْرَقُ ويُسَوَّى مِنْهُ الكِلْسُ وَيُحْلَقُ بِهِ شَعْرُ الْعَانَةِ.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: يُقَالُ انْتَوَرَ الرجلُ وانْتارَ مِنَ النُّورَةِ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ تَنَوَّرَ إِلا عِنْدَ إِبصار النَّارُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ انْتارَ الرَّجُلُ وتَنَوَّرَ تَطَلَّى بالنُّورَة، قَالَ: حَكَى الأَوّل ثَعْلَبٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَجِدَّكُما لَمْ تَعْلَما أَنَّ جارَنا ***أَبا الحِسْلِ، بالصَّحْراءِ، لَا يَتَنَوَّرُ

التَّهْذِيبُ: وتأْمُرُ مِنَ النُّورةِ فَتَقُولُ: انْتَوِرْ يَا زيدُ وانْتَرْ كَمَا تَقُولُ اقْتَوِلْ واقْتَلْ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي تَنَوّر النَّارَ:

فَتَنَوَّرْتُ نارَها مِنْ بَعِيد ***بِخَزازَى؛ هَيْهاتَ مِنك الصَّلاءُ

قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: كَرَبَتْ حياةُ النارِ للمُتَنَوِّرِ والنَّوُورُ: النَّيلَجُ، وَهُوَ دُخَانُ الشَّحْمِ يعالَجُ بِهِ الوَشْمُ وَيُحْشَى بِهِ حَتَّى يَخْضَرَّ، وَلَكَ أَن تَقْلِبَ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ هَمْزَةً.

وَقَدْ نَوَّرَ ذِرَاعُهُ إِذا غَرَزَها بإِبرة ثُمَّ ذَرَّ عَلَيْهَا النَّؤُورَ.

والنَّؤُورُ: حَصَاةٌ مِثْلُ الإِثْمِدِ تُدَقُّ فَتُسَفُّها اللِّثَةُ أَي تُقْمَحُها، مِنْ قَوْلِكَ: سَفِفْتُ الدَّوَاءَ.

وَكَانَ نساءُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّشِمْنَ بالنَّؤُور؛ ومنه وقول بِشْرٍ: " كَمَا وُشِمَ الرَّواهِشُ بالنَّؤُورِ "وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّؤُور دُخان الْفَتِيلَةِ يُتَّخَذُ كُحْلًا أَو وَشْمًا؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَمَّا الْكُحْلُ فَمَا سَمِعْتُ أَن نِسَاءَ الْعَرَبِ اكْتَحَلْنَ بالنَّؤُورِ، وأَما الْوَشْمُ بِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي أَشعارهم؛ قَالَ لَبِيدٍ:

أَو رَجْع واشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُها ***كِفَفًا، تَعَرَّضَ فَوْقَهُنَّ وِشامُها

التَّهْذِيبُ: والنَّؤُورُ دُخَانُ الشَّحْمِ الَّذِي يَلْتَزِقُ بالطَّسْتِ وَهُوَ الغُنْجُ أَيضًا.

والنَّؤُورُ والنَّوَارُ: المرأَة النَّفُور مِنَ الرِّيبَةِ، وَالْجَمْعُ نُورٌ.

غَيْرُهُ: النُّورُ جَمْعُ نَوارٍ، وَهِيَ النُّفَّرُ مِنَ الظِّبَاءِ وَالْوَحْشِ وَغَيْرِهَا؛ قَالَ مُضَرِّسٌ الأَسديُّ وَذَكَرَ الظِّبَاءَ وأَنها كَنَسَتْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ:

تَدَلَّتْ عَلَيْهَا الشمسُ حَتَّى كأَنها، ***مِنَ الحرِّ، تَرْمي بالسَّكِينَةِ نُورَها

وَقَدْ نارتْ تَنُورُ نَوْرًا ونَوارًا ونِوارًا؛ ونسوةٌ نُورٌ أَي نُفَّرٌ مِنَ الرِّيبَةِ، وَهُوَ فُعُلٌ، مِثْلُ قَذالٍ وقُذُلٍ إِلا أَنهم كَرِهُوا الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ لأَن الْوَاحِدَةَ نَوارٌ وَهِيَ الفَرُورُ، ومنه سميت المرأَة؛ وقال الْعَجَّاجُ: " يَخْلِطْنَ بالتَّأَنُّسِ النَّوارا "الْجَوْهَرِيُّ: نُرْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَنُورُ نَوْرًا ونِوارًا، بِكَسْرِ النُّونِ؛ قَالَ مَالِكِ بْنِ زُغْبَةَ الْبَاهِلِيِّ يُخَاطِبُ امرأَة:

أَنَوْرًا سَرْعَ مَاذَا يَا فَرُوقُ، ***وحَبْلُ الوَصْلِ مُنْتَكِثٌ حَذِيقُ

أَراد أَنِفارًا يَا فَرُوقُ، وَقَوْلُهُ سَرْعَ مَاذَا: أَراد سَرُعَ فَخَفَّفَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي قَوْلِهِ: " أَنورًا سَرْعَ مَاذَا يَا فروق "قَالَ: الشِّعْرُ لأَبي شَقِيقٍ الْبَاهِلِيِّ وَاسْمُهُ جَزْءُ بْنُ رَباح، قَالَ: وَقِيلَ هُوَ لِزُغْبَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: وَقَوْلُهُ أَنورًا بِمَعْنَى أَنِفارًا سَرُعَ ذَا يَا فُرُوقُ أَي مَا أَسرعه، وَذَا فَاعِلُ سَرُعَ وأَسكنه لِلْوَزْنِ، وَمَا زَائِدَةٌ.

وَالْبَيْنُ هَاهُنَا: الْوَصْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}؛ أَي وصْلُكم، قَالَ: وَيُرْوَى وَحَبْلُ الْبَيْنِ مُنْتَكِثُ؛ وَمُنْتَكِثٌ: مُنْتَقِضٌ.

وَحَذِيقٌ: مَقْطُوعٌ؛ وَبَعْدَهُ:

أَلا زَعَمَتْ علاقَةُ أَنَّ سَيْفي ***يُفَلِّلُ غَرْبَه الرأْسُ الحَليقُ؟

وَعَلَاقَةُ: اسْمُ مَحْبُوبَتِهِ؛ يَقُولُ: أَزعمت أَن سَيْفِي لَيْسَ بِقَاطِعٍ وأَن الرأْس الْحَلِيقَ يُفَلِّلُ غَرْبَهُ؟ وامرأَة نَوارٌ: نَافِرَةٌ عن الشَّرِّ وَالْقَبِيحِ.

والنَوارُ: الْمَصْدَرُ، والنِّوارُ: الِاسْمُ، وَقِيلَ: النِّوارُ النِّفارُ مِنْ أَي شَيْءٍ كَانَ؛ وَقَدْ نَارَهَا ونَوَّرها وَاسْتَنَارَهَا؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ يَصِفُ ظَبْيَةً:

بِوادٍ حَرامٍ لَمْ تَرُعْها حِبالُه، ***وَلَا قانِصٌ ذُو أَسْهُمٍ يَسْتَنِيرُها

وَبَقَرَةٌ نَوَارٌ: تَنْفِرُ مِنَ الْفَحْلِ.

وَفِي صِفَةِ نَاقَةِ صَالِحٍ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هِيَ أَنور مِنْ أَن تُحْلَبَ أَي أَنْفَرُ.

والنَّوَار: النِّفارُ.

ونُرْتُه وأَنرْتُه: نَفَّرْتُه.

وَفَرَسٌ وَدِيق نَوارٌ إِذا استَوْدَقَت، وَهِيَ تُرِيدُ الْفَحْلَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْهَا ضَعْفٌ تَرْهَب صَوْلَةَ النَّاكِحِ.

وَيُقَالُ: بَيْنَهُمْ نائِرَةٌ أَي عَدَاوَةٌ وشَحْناء.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتْ بَيْنَهُمْ نَائِرَةٌ»أَي فِتْنَةٌ حَادِثَةٌ وَعَدَاوَةٌ.

ونارُ الْحَرْبِ ونائِرَتُها: شَرُّها وهَيْجها.

ونُرْتُ الرجلَ: أَفْزَعْتُه ونَفَّرْتُه؛ قَالَ:

إِذا هُمُ نارُوا، وإِن هُمْ أَقْبَلُوا، ***أَقْبَلَ مِمْساحٌ أَرِيبٌ مِفْضَلُ

وَنَارَ القومُ وتَنَوَّرُوا انْهَزَمُوا.

واسْتَنارَ عَلَيْهِ: ظَفِرَ بِهِ وَغَلَبَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعشى:

فأَدْرَكُوا بعضَ مَا أَضاعُوا، ***وقابَلَ القومُ فاسْتَنارُوا

ونُورَةُ: اسْمُ امرأَة سَحَّارَة؛ وَمِنْهُ قِيلَ: هُوَ يُنَوِّرُ عَلَيْهِ أَي يُخَيِّلُ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ صَحِيحٍ.

الأَزهري: يُقَالُ فُلَانٌ يُنَوِّرُ عَلَى فُلَانٍ إِذا شَبَّهَ عَلَيْهِ أَمرًا، قَالَ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةً، وأَصلها أَن امرأَة كَانَتْ تُسَمَّى نُورَةَ وَكَانَتْ سَاحِرَةً فَقِيلَ لِمَنْ فَعَلَ فِعْلَهَا: قَدْ نَوَّرَ فَهُوَ مُنَوِّرٌ.

قَالَ زَيْدُ بْنُ كُثْوَةَ: عَلِقَ رجلٌ امرأَة فَكَانَ يَتَنَوَّرُها بِاللَّيْلِ، والتَّنَوُّرُ مِثْلُ التَّضَوُّء، فَقِيلَ لَهَا: إِن فُلَانًا يَتَنَوَّرُكِ، لِتَحْذَرَهُ فَلَا يَرَى مِنْهَا إِلا حَسَنًا، فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ رَفَعَتْ مُقَدَّمَ ثَوْبِهَا ثُمَّ قَابَلَتْهُ وَقَالَتْ: يَا مُتَنَوِّرًا هَاهْ فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهَا وأَبصر مَا فَعَلَتْ قَالَ: فَبِئْسَمَا أَرى هَاهْ وَانْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهَا، فَصُيِّرَتْ مَثَلًا لِكُلِّ مَنْ لَا يَتَّقِي قَبِيحًا وَلَا يَرْعَوي لحَسَنٍ.

ابْنُ سِيدَهْ: وأَما قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الإِمالة ابْنُ نُور فَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ اسْمًا سُمِّيَ بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ الضَّوْءُ أَو بالنُّورِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ نَوارٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ اسْمًا صَاغَهُ لتَسُوغَ فِيهِ الإِمالة فإِنه قَدْ يَصوغ أَشياء فَتَسوغ فِيهَا الإِمالة ويَصُوغ أَشياءَ أُخَرَ لِتَمْتَنِعَ فِيهَا الإِمالة.

وَحَكَى ابْنُ جِنِّيٍّ فِيهِ: ابْنُ بُور، بِالْبَاءِ، كأَنه مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

ومَنْوَرٌ: اسْمُ مَوْضِعٍ صَحَّتْ فِيهِ الواوُ صِحَّتَها فِي مَكْوَرَةَ لِلْعَلْمِيَّةِ؛ قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ:

أَلَيْلى عَلَى شَحْطِ المَزارِ تَذَكَّرُ؟ ***وَمِنْ دونِ لَيْلى ذُو بِحارٍ ومَنْوَرُ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُ بِشْرٍ: وَمِنْ دُونِ لَيْلَى ذُو بِحَارٍ ومَنْوَرُ قَالَ: هُمَا جَبَلَانِ فِي ظَهْر حَرَّةِ بَنِي سَلِيمٍ.

وَذُو المَنار: مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ واسمه أَبْرَهَةُ بن الحرث الرَّايِشُ، وإِنما قِيلَ لَهُ ذُو الْمَنَارِ لأَنه أَوّل مَنْ ضُرِبَ المنارَ عَلَى طَرِيقِهِ فِي مَغَازِيهِ لِيَهْتَدِيَ بها إِذا رجع.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


93-لسان العرب (كنص)

كنص: التَّهْذِيبُ: فِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنه قَالَ: كَنَّصَت الشياطينُ لسُلَيْمانَ "؛ قَالَ كَعْبٌ: أَولُ مَنْ لَبِسَ القَباء سُليمانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِذا أَدخَل رأْسَه لِلُبْسِ الثِّيَابِ كَنَّصَت الشياطينُ اسْتِهْزَاءً فأُخبِر بِذَلِكَ فلبِس الْقَبَاءَ.

ابْنُ الأَعرابي: كَنَّصَ إِذا حرَّك أَنفه اسْتِهْزَاءً.

يُقَالُ: كَنَّص فِي وَجْهِ فُلَانٍ إِذا استهزأَ بِهِ، وَيُرْوَى بِالسِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


94-لسان العرب (نقض)

نقض: النَّقْضُ: إِفْسادُ مَا أَبْرَمْتَ مِنْ عَقْدٍ أَو بِناء، وَفِي الصِّحَاحِ: النَّقْضُ نَقْضُ البِناء والحَبْلِ والعَهْدِ.

غَيْرُهُ: النقْضُ ضِدُّ الإِبْرام، نقَضَه يَنْقُضُه نَقْضًا وانْتَقَضَ وتَناقَضَ.

والنِّقْضُ: اسمُ البِناء المَنْقُوضِ إِذا هُدم.

وَفِي حَدِيثِ صَوْمِ التَّطَوُّع: «فناقَضَني وناقَضْتُه»، هِيَ مُفاعَلةٌ مِنْ نَقْض الْبِنَاءِ وَهُوَ هَدْمُه؛ أي يَنْقُضُ قَوْلِي وأَنْقُضُ قَوْلَهُ، وأَراد بِهِ المُراجَعةَ والمُرادَّةَ.

وناقضَه فِي الشَّيْءِ مُناقَضةً ونِقاضًا: خالَفَه؛ قَالَ:

وَكَانَ أَبُو العَيُوفِ أَخًا وَجَارًا ***وَذَا رَحِمٍ، فقُلْتُ لَهُ نِقاضا

أَي ناقَضْتُه فِي قَوْلِهِ وهَجْوِه إِيّاي.

والمُناقَضةُ فِي الْقَوْلِ: أَن يُتَكَلَّم بِمَا يتناقَضُ مَعْنَاهُ.

والنَّقِيضةُ فِي الشِّعْرِ: مَا يُنْقَضُ بِهِ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ: " إِنِّي أَرَى الدَّهْرَ ذَا نَقْضٍ وإِمرارِ أَي مَا أَمَرَّ عادَ عَلَيْهِ فنقَضَه، وَكَذَلِكَ المُناقَضةُ فِي الشِّعْر يَنْقُضُ الشاعرُ الآخرُ مَا قَالَهُ الأَوّل، والنَّقِيضةُ الِاسْمُ يُجْمَعُ عَلَى النَّقائض، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "نَقائضُ جَرِيرٍ وَالْفَرَزْدَقِ.

ونَقِيضُك: الَّذِي يُخالِفُك، والأُنثى بِالْهَاءِ.

والنِّقْضُ: مَا نَقَضْتَ، وَالْجَمْعُ أَنْقاض.

وَيُقَالُ: انْتَقَضَ الجُرْحُ بَعْدَ البُرْء، وانتَقض الأَمْرُ بَعْدَ التِئامه، وانتقَض أَمرُ الثغْرِ بَعْدَ سَدِّه.

والنِّقْضُ والنِّقْضةُ: هَمَّا الجملُ والناقةُ اللَّذَانِ قَدْ هَزَلْتَهما وأَدْبَرْتَهما، وَالْجَمْعُ الأَنْقاضُ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " إِذا مَطَوْنا نِقْضةً أَو، نِقْضا "والنِّقْضُ، بِالْكَسْرِ: الْبَعِيرُ الَّذِي أَنْضاه السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ.

والنِّقْضُ: المَهْزُول مِنَ الإِبل وَالْخَيْلِ، قَالَ السِّيرَافِيُّ: كأَنَّ السفَرَ نقَض بِنْيتَه، وَالْجَمْعُ أَنْقاضٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَا يُكَسَّر عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، والأُنثى نِقْضةٌ وَالْجَمْعُ أَنْقاضٌ كَالْمُذَكَّرِ عَلَى توَهُّمِ حذْفِ الزَّائِدِ.

والانْتِقاضُ: الانْتِكاثُ.

والنِّقْضُ: مَا نُكث مِنَ الأَخبية والأَكْسِيةِ فغُزل ثَانِيَةً، والنُّقاضةُ: مَا نُقض مِنْ ذَلِكَ.

والنِّقْضُ: المَنْقُوضُ مِثْلُ النِّكْث.

والنِّقْضُ: مُنْتَقِضُ الأَرض مِنَ الكَمْأَةِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنتَقِضُ عَنِ الكمأَة إِذَا أَرادت أَن تَخْرُجَ نقَضت وَجْهَ الأَرض نَقْضًا فانْتَقَضت الأَرض؛ وأَنشد:

كأَنَّ الفُلانِيَّاتِ أَنْقاضُ كَمْأَةٍ ***لأَوَّلِ جانٍ، بالعَصا يَسْتَثِيرُها

والنَّقّاضُ: الَّذِي يَنْقُضُ الدِّمَقْسَ، وحِرْفَتُه النِّقاضةُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهُوَ النَّكّاثُ، وَجَمْعُهُ أَنْقاض وأَنْكاث.

ابْنُ سِيدَهْ: والنِّقْضُ قِشْرُ الأَرض المُنْتَقِضُ عَنِ الكَمْأَة، وَالْجَمْعُ أَنْقاض ونُقوضٌ، وَقَدْ أَنْقَضْتُها وأَنقَضْت عَنْهَا، وتَنقَّضَت الأَرض عَنِ الكمأَة أَي تقطَّرَت.

وأَنْقَضَ الكَمْءُ ونقَّض: تَقَلْفَعَتْ عَنْهُ أَنقاضه؛ قَالَ: " ونَقَّضَ الكَمْءُ فأَبْدَى بَصَرَهْ "والنِّقْضُ: العسَلُ يُسَوِّسُ فَيُؤْخَذُ فيُدَقّ فيُلْطَخ بِهِ مَوْضِعُ النَّحْلِ مَعَ الْآسِ فتأْتيه النَّحْلُ فتُعَسِّلُ فِيهِ؛ عَنِ الهَجَرِيّ.

والنَّقِيضُ مِنَ الأَصْواتِ: يَكُونُ لِمفاصل الإِنسانِ والفَرارِيجِ والعَقْرَبِ والضِّفْدَعِ والعُقابِ والنَّعامِ والسُّمانى والبازِي والوبْرِ والوزَغ، وَقَدْ أَنْقَض؛ قَالَ:

فلمَّا تَجاذَبْنا تَفَرْقَعَ ظَهْرُه، ***كَمَا يُنْقِضُ الوُزْغانُ، زُرْقًا عُيونُها

وأَنْقَضت العُقابُ أَي صوَّتَت؛ وأَنشد الأَصمعي: " تُنْقِضُ أَيْدِيها نَقِيضَ العِقْبانْ "وَكَذَلِكَ الدجاجةُ؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " تُنْقِضُ إِنْقاضَ الدَّجاجِ المُخَّضِ "والإِنْقاضُ والكَتِيتُ: أَصوات صِغَارِ الإِبل، والقَرْقَرةُ والهَديرُ: أَصوات مَسانِّ الإِبل؛ قَالَ شِظاظٌ وَهُوَ لِصٌّ مِنْ بَنِي ضَبّة:

رُبَّ عَجُوزٍ مِنْ نُمَيْرٍ شَهْبَرَهْ، ***عَلَّمْتُها الإِنْقاضَ بَعْدَ القَرْقَرهْ

أَي أَسْمَعْتُها، وَذَلِكَ أَنه اجْتازَ عَلَى امرأَة مِنْ بَنِي نُمير تَعْقِلُ بَعِيرًا لَهَا وتَتَعَوَّذُ مِنْ شِظاظٍ، وَكَانَ شِظاظ عَلَى بَكْرٍ، فَنَزَلَ وسرَق بِعِيرَهَا وَتَرَكَ هُنَاكَ بَكْرَه.

وتنَقَّضت عِظامُه إِذا صوَّتت.

أَبو زَيْدٍ: أَنْقَضْتُ بِالْعَنْزِ إِنْقاضًا دَعَوْتُ بِهَا.

وأَنْقَضَ الحِمْلُ ظهرَه: أَثقله وَجَعَلَهُ يُنْقِضُ مِنْ ثِقَله أَي يُصَوِّتُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}؛ أَي جعلَه يُسْمَعُ لَهُ نَقِيضٌ مِنْ ثِقَلِه.

وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: أَثْقل ظَهْرَكَ، قَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وقتادةُ، والأَصل فِيهِ أَن الظَّهْرَ إِذا أَثقله الحِمل سُمع لَهُ نَقِيض أَي صَوْتٌ خَفِيٌّ كَمَا يُنْقِض الرَّجل لِحِمَارِهِ إِذا ساقَه، قَالَ: فأَخبر اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنه غَفَرَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوزارَه الَّتِي كَانَتْ تَرَاكَمَتْ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى أَثقلته، وأَنها لَوْ كَانَتْ أَثقالًا حُمِلَتْ عَلَى ظَهْرِهِ لَسُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ أَي صَوْتٌ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تسَمُّح فِي اللَّفْظِ وَإِغْلَاظٌ فِي النُّطْقِ، وَمِنْ أَين لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوزار تَتَرَاكَمُ عَلَى ظَهْرِهِ الشَّرِيفِ حَتَّى تُثْقِلَهُ أَو يُسْمَعَ لَهَا نَقِيضٌ وَهُوَ السَّيِّدُ الْمَعْصُومُ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَلَوْ كَانَ، وَحَاشَ لِلَّهِ، يأْتي بِذُنُوبٍ لَمْ يَكُنْ يَجِدُ لَهَا ثِقَلًا فإِن اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تقدَّم مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأَخر، وإِذا كَانَ غَفَرَ لَهُ مَا تأَخر قَبْلَ وُقُوعِهِ فأَين ثِقَلُهُ كالشرِّ إِذا كَفَاهُ اللَّهُ قَبْلَ وُقوعه فَلَا صُورة لَهُ وَلَا إِحْساسَ بِهِ، وَمِنْ أَين للمفسِّر لَفْظُ الْمَغْفِرَةِ هُنَا؟ وإِنما نَصُّ التِّلَاوَةِ ووَضَعْنا، وَتَفْسِيرُ الوِزْر هُنَا بالحِمل الثَّقِيلِ، وَهُوَ الأَصل فِي اللُّغَةِ، أَولى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِمَا يُخْبَر عَنْهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَلَا ذِكْرَ لَهَا فِي السُّورَةِ، وَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنه عَزَّ وَجَلَّ وَضْعَ عَنْهُ وِزْرَهُ الَّذِي أَنقض ظَهْرَهُ مِنْ حَمْلِه هَمَّ قُرَيْشٍ إِذ لَمْ يُسْلِمُوا، أَو هَمَّ الْمُنَافِقِينَ إِذ لَمْ يُخْلِصوا، أَو هَمَّ الإِيمانِ إِذ لَمْ يُعمّ عَشِيرَتَهُ الأَقربين، أَو هَمَّ العالَمِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ، أَو هَمَّ الْفَتْحِ إِذ لَمْ يعجَّل لِلْمُسْلِمِينَ، أَو هُمُومَ أُمته الْمُذْنِبِينَ، فَهَذِهِ أَوزاره الَّتِي أَثقلت ظَهْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغْبَةً فِي انْتِشَارِ دَعْوَتِهِ وخَشْيةً عَلَى أُمته وَمُحَافَظَةً عَلَى ظُهُورِ مِلَّتِهِ وحِرْصًا عَلَى صَفَاءِ شِرْعته، وَلَعَلَّ بَيْنَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ}، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا، مُنَاسَبَةً مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وإِلا فَمِنْ أَين لِمَنْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأَخَّر ذُنُوبٌ؟ وَهَلْ مَا تقدَّم وَمَا تأَخَّر مِنْ ذَنْبِهِ الْمَغْفُورِ إِلا حَسَنَاتُ سِوَاهُ مِنَ الأَبْرار يَرَاهَا حَسَنَةً وَهُوَ سَيِّدُ الْمُقَرَّبِينَ يَرَاهَا سَيِّئَةً، فالبَرُّ بِهَا يتقرَّب والمُقَرَّبُ مِنْهَا يَتُوبُ؛ وَمَا أَوْلى هَذَا الْمَكَانَ أَن يُنْشَد فِيهِ: " ومِنْ أَيْنَ للوجْهِ الجَمِيل ذُنوب "وَكُلُّ صَوْتٍ لمَفْصِل وإِصْبَع، فَهُوَ نَقِيضٌ.

وَقَدْ أَنْقَضَ ظهرُ فُلَانٍ إِذا سُمع لَهُ نَقِيض؛ قَالَ:

وحُزْن تُنْقِضُ الأَضْلاعُ مِنْهُ، ***مُقِيم فِي الجَوانِحِ لنْ يَزُولا

ونَقِيضُ المِحْجَمةِ: صَوْتُهَا إِذا شدَّها الحَجّامُ بمَصِّه، يُقَالُ: أَنْقَضَتِ المِحْجَمةُ؛ قَالَ الأَعشى: " زَوَى بينَ عَيْنَيْه نَقِيضُ المَحاجِم "وأَنْقَضَ الرَّحْلُ إِذا أَطَّ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ وشبَّه أَطِيطَ الرِّحالِ بأَصوات الْفَرَارِيجِ:

كأَنَّ أَصْواتَ، مِنْ إِيغالِهِنَّ بِنا، ***أَواخِرِ المَيْسِ، إِنْقاضُ الفَرارِيجِ

قَالَ الأَزهري: هَكَذَا أَقرأَنِيه المُنْذِري رِوَايَةً عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ أُريد التأْخير، أَراد كأَنَّ أَصواتَ أَواخِرِ المَيْسِ إِنْقاضُ الْفَرَارِيجِ إِذا أَوْغَلَت الرِّكابُ بِنَا أَي أَسْرَعَت، ونَقِيضُ الرِّحَالِ والمَحامِل والأَدِيمِ والوَتَرِ: صوتُها مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

شَيَّبَ أَصْداغي، فَهُنَّ بِيضُ، ***مَحامِلٌ لقِدِّها نَقِيضُ

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه سَمِعَ نَقيضًا مِنْ فَوْقِهِ»؛ النَّقِيضُ الصَّوْتُ.

ونَقِيضُ السقْفِ: تَحْرِيكُ خَشَبِهِ.

وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: «وَلَقَدْ تنقَّضَتِ الغُرفةُ»؛ أي تشقَّقت وَجَاءَ صَوْتُهَا.

وَفِي حَدِيثِ هوازِنَ: «فأَنْقَضَ بِهِ دُرَيْد»أَي نَقَرَ بِلِسَانِهِ فِي فِيهِ كَمَا يُزْجَرُ الحِمار، فَعَله اسْتجهالًا؛ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْقَضَ بِهِ؛ أي صَفَّق بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخرى حَتَّى سُمع لَهَا نَقِيضٌ؛ أي صوتٌ، وَقِيلَ: الإِنْقاضُ فِي الحَيوان والنَّقْضُ فِي المَوَتان، وَقَدْ نقَض يَنْقُضُ ويَنْقِضُ نَقْضًا.

والإِنْقاضُ: صُوَيْت مِثْلُ النَّقْرِ.

وإِنْقاضُ العِلْك: تَصويته، وَهُوَ مَكْرُوهٌ.

وأَنْقَضَ أَصابعه: صوَّت بِهَا.

وأَنْقض بِالدَّابَّةِ: أَلصقَ لِسَانَهُ بِالْغَارِ الأَعلى ثُمَّ صوَّت فِي حَافَّتَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَن يَرْفَعَ طَرفه عَنْ مَوْضِعِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشبهه مِنْ أَصوات الْفَرَارِيجِ والرِّحال.

وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْقَضْتُ بالعنزِ إِنْقاضًا إِذا دَعَوْتَهَا.

أَبو عُبَيْدٍ: أَنْقَضَ الفرْخُ إِنْقاضًا إِذا صأَى صَئِيًّا.

وَقَالَ الأَصمعي: يُقَالُ أَنْقَضْتُ بالعَيْر وَالْفَرَسِ، قال: وكلُّ ما نفَرْت بِهِ، فَقَدْ أَنْقَضْتَ بِهِ.

وأَنْقَضَت الأَرضُ: بدَا نباتُها.

ونَقْضا الأُذنين: مُسْتدارُهما.

والنُّقَّاضُ: نَبات.

والإِنْقِيضُ: رَائِحَةُ الطِّيب، خُزاعية.

وَفِي النَّوَادِرِ: نقَّضَ الفرسُ ورَفَّضَ إِذا أَدْلَى وَلَمْ يَسْتَحْكِم إِنْعاظُه، وَمِثْلُهُ سيَا وأَسابَ وشَوَّلَ وسبَّح وسمَّل وانْساحَ وماسَ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


95-لسان العرب (غبط)

غبط: الغِبْطةُ: حُسْنُ الحالِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ غَبْطًا لَا هَبْطًا، يَعْنِي نسأَلُك الغِبْطةَ ونَعوذُ بِكَ أَن نَهْبِطَ عَنْ حالِنا».

التَّهْذِيبُ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ غَبْطًا لَا هَبْطًا أَنَّا نسأَلُك نِعْمة نُغْبَطُ بها، وأَن لا تُهْبِطَنا مِنَ الحالةِ الحسنَةِ إِلى السيئةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ ارْتِفاعًا لَا اتِّضاعًا، وَزِيَادَةً مِنْ فَضْلِكَ لَا حَوْرًا ونقْصًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنزلنا مَنْزِلة نُغْبَطُ عَلَيْهَا وجَنِّبْنا مَنازِلَ الهُبوطِ والضَّعةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نسأَلك الغِبْطةَ، وَهِيَ النِّعْمةُ والسُّرُورُ، ونعوذُ بِكَ مِنَ الذُّلِّ والخُضوعِ.

وَفُلَانٌ مُغْتَبِطٌ أَي فِي غِبْطةٍ، وَجَائِزٌ أَن تَقُولَ مُغْتَبَطٌ، بِفَتْحِ الْبَاءِ.

وَقَدِ اغْتَبَطَ، فَهُوَ مُغْتَبِطٌ، واغْتُبِطَ فَهُوَ مُغْتَبَطٌ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.

والاغْتِباطُ: شُكرُ اللهِ عَلَى مَا أَنعم وأَفضل وأَعْطى، وَرَجُلٌ مَغْبوطٌ.

والغِبْطةُ: المَسَرَّةُ، وَقَدْ أَغْبَطَ.

وغَبَطَ الرجلَ يَغْبِطُه غَبْطًا وغِبْطةً: حسَدَه، وَقِيلَ: الحسَدُ أَن تَتَمنَّى نِعْمته عَلَى أَن تَتَحَوَّلَ عَنْهُ، والغِبْطةُ أَن تَتَمنَّى مِثْلَ حَالِ المَغْبوطِ مِنْ غَيْرِ أَن تُريد زَوَالَهَا وَلَا أَن تَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَلَيْسَ بِحَسَدٍ، وَذَكَرَ الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ حَسَدَ قَالَ: الغَبْطُ ضرْب مِنَ الحسَد وَهُوَ أَخفّ مِنْهُ، أَلا تَرَى أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ يَضُرُّ الغَبْطُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يضرُّ الخَبْطُ "، فأَخبر أَنه ضارٌّ وَلَيْسَ كضَرَرِ الحسَدِ الَّذِي يَتَمَنَّى صاحبُه زَيَّ النعمةِ عَنْ أَخيه؛ والخَبْطُ: ضرْبُ وَرَقِ الشَّجَرِ حَتَّى يَتَحاتَّ عَنْهُ ثُمَّ يَسْتَخْلِفَ مِنْ غَيْرِ أَن يَضُرَّ ذَلِكَ بأَصل الشَّجَرَةِ وأَغْصانها، وَهَذَا ذَكَرَهُ الأَزهري عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ فِي تَرْجَمَةِ غَبَطَ، فَقَالَ: سُئل" النبيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: هَلْ يضرُّ الغَبْطُ؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا كَمَا يَضُرُّ العِضاهَ الخَبْطُ، وَفَسَّرَ الغبطَ الحسَدَ الْخَاصَّ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ قَالَ: غَبَطْتُ الرَّجُلَ أَغْبِطُه غَبْطًا إِذا اشتهيْتَ أَن يَكُونَ لَكَ مثلُ مَا لَه وأَن لَا يَزول عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَالَّذِي أَراد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الغَبْط لَا يضرُّ ضرَر الحسَدِ وأَنَّ مَا يَلْحَقُ الغابِطَ مِنَ الضَّررِ الراجعِ إِلى نُقصان الثَّوَابِ دُونَ الإِحْباط، بِقَدْرِ مَا يَلْحَقُ العِضاه مِنْ خَبْطِ وَرَقِهَا الَّذِي هُوَ دُونَ قَطْعِهَا وَاسْتِئْصَالِهَا، ولأَنه يَعُودُ بَعْدَ الْخَبْطِ ورقُها، فَهُوَ وإِن كَانَ فِيهِ طرَف مِنَ الْحَسَدِ فَهُوَ دُونَهُ فِي الإِثْم، وأَصلُ الحسدِ القَشْر، وأَصل الغَبْطِ الجَسُّ، وَالشَّجَرُ إِذا قُشِر عَنْهَا لِحاؤها يَبِسَت وإِذا خُبِط ورقُها استخلَف دُونَ يُبْس الأَصل.

وَقَالَ أَبو عَدْنان: سأَلت أَبا زَيْدٍ الْحَنْظَلِيَّ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيضر الغبطُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَضُرُّ العِضاهَ الخبطُ، فَقَالَ: الغبْط أَن يُغْبَطَ الإِنسانُ وضَرَرُه إِيّاه أَن تُصِيبَه نَفْسٌ، فَقَالَ الأَبانيُّ: مَا أَحسنَ مَا استَخْرجها تُصِيبه العينُ فتُغيَّر حالُه كَمَا تُغَيَّرُ العِضاهُ إِذا تَحَاتَّ ورقُها.

قَالَ: والاغْتِباطُ الفَرَحُ بالنِّعمة.

قَالَ الأَزهري: الغَبْطُ رُبَّمَا جلَبَ إِصابةَ عَيْنٍ بالمَغْبُوطِ فَقَامَ مَقام النَّجْأَةِ المَحْذُورةِ، وَهِيَ الإِصابةُ بِالْعَيْنِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تُكنّي عَنِ الْحَسَدِ بالغَبْط.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي فِي قَوْلِهِ: أَيضر الْغَبْطُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَضُرُّ الْخَبْطُ "، قَالَ: الغبْط الحسَدُ.

قَالَ الأَزهري: وفرَق اللهُ بَيْنَ الغَبط والحَسد بِمَا أَنزله فِي كِتَابِهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ واعْتَبره، فَقَالَ عزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ، لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنه لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَن يَتَمَنَّى إِذا رأَى عَلَى أَخيه الْمُسْلِمِ نِعمة أَنعم اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ أَن تُزْوَى عَنْهُ ويُؤْتاها، وَجَائِزٌ لَهُ أَن يَتَمَنَّى مِثْلَهَا بِلَا تَمَنّ لزَيِّها عَنْهُ، فالغَبْط أَن يَرى المَغْبُوطَ فِي حَالٍ حسَنة فَيَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مثلَ تِلْكَ الحالِ الْحَسَنَةِ مِنْ غَيْرِ أَن يَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ، وإِذا سأَل اللهَ مِثْلَهَا فَقَدِ انْتَهَى إِلى مَا أَمَرَه بِهِ ورَضِيَه لَهُ، وأَما الحسَدُ فَهُوَ أَن يشتهِيَ أَن يَكُونَ لَهُ مالُ الْمَحْسُودِ وأَن يَزُولَ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ، فَهُوَ يَبْغِيه الغَوائلَ عَلَى مَا أُوتِيَ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ وَيَجْتَهِدُ فِي إِزَالَتِهَا عَنْهُ بَغْيًا وظُلمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْحَسَدِ مُشْبَعًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «عَلَى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهم أَهلُ الجمْع»؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَيضًا: " يأْتي عَلَى الناسِ زَمَانٌ يُغْبَطُ الرجلُ بالوَحْدةِ كَمَا يُغْبَطُ الْيَوْمَ أَبو العَشرة، يَعْنِي كَانَ الأَئمة فِي صدْر الإِسلام يَرْزُقون عِيال الْمُسْلِمِينَ وذَرارِيَّهم مِنْ بيتِ الْمَالِ، فَكَانَ أَبو العَشرة مَغْبُوطًا بِكَثْرَةِ مَا يصل إِليهم مِنْ أَرزاقهم، ثُمَّ يَجيء بعدَهم أَئمة يَقْطَعون ذَلِكَ عَنْهُمْ فَيُغْبَطُ الرجلُ بالوحْدةِ لِخِفّة المَؤُونةِ، ويُرْثَى لصاحبِ العِيال.

وَفِي حَدِيثِ الصَّلَاةِ: «أَنه جَاءَ وَهُمْ يُصلُّون فِي جَمَاعَةٍ فَجَعَلَ يُغَبِّطُهم»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ؛ أي يَحْمِلُهم عَلَى الغَبْطِ وَيَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُغْبَطُ عَلَيْهِ، وإِن رُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ قَدْ غَبَطَهم لتقدُّمِهم وسَبْقِهم إِلى الصَّلَاةِ؛ ابْنُ سِيدَهْ: تَقُولُ مِنْهُ غَبَطْتُه بِمَا نالَ أَغْبِطُه غَبْطًا وغِبْطةً فاغْتَبَطَ، هُوَ كَقَوْلِكَ مَنَعْتُه فامْتنَع وحبستُه فَاحْتَبَسَ؛ قَالَ حُرَيْثُ بْنُ جَبلةَ العُذْريّ، وَقِيلَ هُوَ لعُشِّ بْنِ لَبِيدٍ الْعُذْرِيِّ:

وبَيْنَما المَرءُ فِي الأَحْياءِ مُغْتَبِطٌ، ***إِذا هُو الرَّمْسُ تَعْفُوه الأَعاصِيرُ

أَي هُوَ مُغْتَبِطٌ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَكَذَا أَنْشَدَنِيه أَبو سعِيد، بِكَسْرِ الْبَاءِ، أَي مَغْبُوطٌ.

وَرَجُلٌ غَابطٌ مِنْ قومٍ غُبَّطٍ؛ قَالَ: " والنَّاس بَيْنَ شامِتٍ وغُبَّطِ "وغَبَطَ الشاةَ والناقةَ يَغْبِطُهما غَبْطًا: جَسَّهُما لِيَنْظُرَ سِمَنَهما مِنْ هُزالِهِما؛ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ يهْجُو قَوْمًا مِنْ سُلَيْم:

إِذا تَحَلَّيْتَ غَلَّاقًا لِتَعْرِفَها، ***لاحَتْ مِنَ اللُّؤْمِ فِي أَعْناقِه الكُتب

إِني وأَتْيِي ابنَ غَلَّاقٍ ليَقْرِيَني ***كغابطِ الكَلْبِ يَبْغِي الطِّرْقَ فِي الذَّنَبِ

وَنَاقَةٌ غَبُوطٌ: لَا يُعْرَف طِرْقُها حَتَّى تُغْبطَ أَي تُجَسّ بِالْيَدِ.

وغَبَطْتُ الكَبْش أَغْبطُه غَبْطًا إِذا جَسَسْتَ أَليته لتَنْظرَ أَبه طِرْقٌ أَم لَا.

وَفِي حَدِيثِ أَبي وائلٍ: «فغَبَطَ مِنْهَا شَاةً فإِذا هِيَ لَا تُنْقِي»أَي جَسّها بِيَدِهِ.

يُقَالُ: غَبَطَ الشاةَ إِذا لَمَسَ مِنْهَا المَوضع الَّذِي يُعْرَف بِهِ سِمَنُها مِنْ هُزالها.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، فإِن كَانَ مَحْفُوظًا فإِنه أَراد بِهِ الذَّبْحَ، يُقَالُ: اعْتَبَطَ الإِبلَ وَالْغَنَمَ إِذا ذَبَحَهَا لِغَيْرِ دَاءٍ.

وأَغْبَطَ النباتُ: غَطّى الأَرض وكثفَ وتَدانَى حَتَّى كأَنه مِنْ حَبَّة وَاحِدَةٍ؛ وأَرض مُغْبَطةٌ إِذا كَانَتْ كَذَلِكَ.

رَوَاهُ أَبو حَنِيفَةَ: والغَبْطُ والغِبْطُ القَبضاتُ المَصْرُومةُ مِنَ الزَّرْع، وَالْجَمْعُ غُبُطٌ.

الطائِفيّ: الغُبُوطُ القَبضاتُ الَّتِي إِذا حُصِدُ البُرّ وُضِعَ قَبْضَة قَبْضة، الْوَاحِدُ غَبْط وغِبْط.

قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الغُبوطُ القَبَضاتُ المَحْصودةُ المتَفرّقةُ مِنَ الزَّرْع، وَاحِدُهَا غَبْطٌ عَلَى الْغَالِبِ.

والغَبِيطُ: الرَّحْلُ، وَهُوَ لِلنِّسَاءِ يُشَدُّ عَلَيْهِ الهوْدَج؛ وَالْجَمْعُ غُبُطٌ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لوَعْلةَ الجَرْمِيّ:

وهَلْ تَرَكْت نِساء الحَيّ ضاحِيةً، ***فِي ساحةِ الدَّارِ يَسْتَوْقِدْنَ بالغُبُطِ؟

وأَغْبَطَ الرَّحْلَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِغْباطًا، وَفِي التَّهْذِيبِ: عَلَى ظَهْرِ الدابةِ: أَدامه وَلَمْ يحُطَّه عنه؛ قال حميد" الأَرقط وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرِّيٍّ لأَبي النجمِ:

وانْتَسَفَ الجالِبَ منْ أَنْدابهِ ***إِغْباطُنا المَيْسَ عَلَى أَصْلابِه

جَعَل كُلَّ جُزْء مِنْهُ صُلْبًا.

وأَغْبَطَتْ عَلَيْهِ الحُمّى.

دامتْ.

وَفِي حَدِيثِ مرضِه الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنه أَغْبَطَتْ عَلَيْهِ الحُمّى»أَي لَزِمَتْه، وَهُوَ مِنْ وضْع الغَبِيط عَلَى الْجَمَلِ.

قَالَ الأَصْمعيّ: إِذا لَمْ تُفَارِقِ الحُمّى المَحْمومَ أَيامًا قِيلَ: أَغْبَطَتْ عَلَيْهِ وأَرْدَمَتْ وأَغْمَطَتْ، بِالْمِيمِ أَيضًا.

قَالَ الأَزهري: والإِغْباطُ يَكُونُ لَازِمًا وَوَاقِعًا كَمَا تَرَى.

وَيُقَالُ: أَغْبَطَ فلانٌ الرُّكوب إِذا لَزِمه؛ وأَنشد ابْنُ السِّكِّيتِ:

حَتَّى تَرَى البَجْباجةَ الضَّيّاطا ***يَمْسَحُ، لَمَّا حالَفَ الإِغْباطَا،

بالحَرْفِ مِنْ ساعِدِه المُخاطا "قَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: سَيْرٌ مُغْبِطٌ ومُغْمِطٌ أَي دَائِمٌ لَا يَسْتَريحُ، وَقَدْ أَغْبَطُوا عَلَى رُكْبانِهم فِي السيْرِ، وَهُوَ أَن لَا يَضَعُوا الرّحالَ عَنْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.

أَبو خَيْرةَ: أَغْبَطَ عَلَيْنَا المطَرُ وَهُوَ ثُبُوتُهُ لَا يُقْلعُ بعضُه عَلَى أَثر بَعْضٍ.

وأَغْبَطَتْ عَلَيْنَا السَّمَاءُ: دَامَ مَطَرُها واتَّصَلَ.

وسَماء غَبَطَى: دائمةُ الْمَطَرِ.

والغَبيطُ: المَرْكَبُ الَّذِي هُوَ مِثْلُ أُكُفِ البَخاتِيّ، قَالَ الأَزهري: ويُقَبَّبُ بِشِجارٍ وَيَكُونُ للحَرائِر، وَقِيلَ: هُوَ قَتَبةٌ تُصْنَعُ عَلَى غَيْرِ صَنْعةِ هَذِهِ الأَقْتاب، وَقِيلَ: هُوَ رَحْل قَتَبُه وأَحْناؤه وَاحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ غُبُطٌ؛ وقولُ أَبي الصَّلْتِ الثَّقَفِيّ:

يَرْمُونَ عَنْ عَتَلٍ كَأَنَّها غُبُطٌ ***بِزَمْخَرٍ، يُعْجِلُ المَرْمِيَّ إِعْجالا

يَعْنِي بِهِ خشَب الرِّحالِ، وَشَبَّهَ القِسِيّ الفارِسيّةَ بِهَا.

اللَّيْثُ: فَرَسٌ مُغْبَطُ الكاثِبة إِذا كَانَ مُرْتَفِعَ المِنْسَجِ، شُبِّهَ بِصَنْعَةِ الْغَبِيطِ وَهُوَ رحْل قَتَبُه وأَحْناؤه وَاحِدَةٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " مُغْبَط الحارِكِ مَحْبُوك الكَفَلْ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ذِي يَزَنَ: «كأَنّها غُبُطٌ فِي زَمْخَرٍ»؛ الغُبُطُ: جَمْعُ غَبيطٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُوَطَّأُ للمرأَة عَلَى الْبَعِيرِ كالهَوْدَج يُعْمَلُ مِنْ خَشَبٍ وَغَيْرِهِ، وأَراد بِهِ هَاهُنَا أَحَدَ أَخشابه، شُبِّهَ بِهِ الْقَوْسُ فِي انْحِنائها.

والغَبِيطُ: أَرْض مُطْمَئنة، وَقِيلَ: الغَبِيطُ أَرض واسعةٌ مُسْتَوِيَةٌ يَرْتَفِعُ طَرفاها.

والغَبِيطُ: مَسِيلٌ مِنَ الْمَاءِ يَشُقُّ فِي القُفّ كَالْوَادِي فِي السَّعةِ، وَمَا بَيْنَ الغَبيطَيْنِ يَكُونُ الرَّوْضُ والعُشْبُ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ؛ وَقَوْلُهُ: " خَوَّى قَليلًا غَير مَا اغْتِباطِ "قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَرْكَن إِلى غَبيطٍ مِنَ الأَرض واسعٍ إِنما خوَّى عَلَى مكانٍ ذِي عُدَواء غيرِ مُطَمْئِنٍ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ثَعْلَبٌ وَلَا غَيْرُهُ.

والمُغْبَطة: الأَرض الَّتِي خَرَجَتْ أُصولُ بقْلِها مُتدانِيةً.

والغَبِيطُ: مَوْضِعٍ؛ قَالَ أَوس بْنُ حَجَرٍ:

فمالَ بِنا الغَبِيطُ بِجانِبَيْه ***علَى أَرَكٍ، ومالَ بِنا أُفاقُ

والغَبِيطُ: اسْمُ وادٍ، وَمِنْهُ صَحْرَاءُ الغَبِيطِ.

وغَبِيطُ المَدَرةِ: مَوْضِعٌ.

ويَوْمُ غَبِيطِ الْمَدَرَةِ: يومٌ كَانَتْ فِيهِ وقْعة لشَيْبانَ وتَميمٍ غُلِبَتْ فيه "شَيْبانُ؛ قَالَ:

فإِنْ تَكُ فِي يَوْمِ العُظالَى مَلامةٌ، ***فَيَوْمُ الغَبِيطِ كَانَ أَخْزَى وأَلْوَما

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


96-لسان العرب (بيع)

بيع: البيعُ: ضِدُّ الشِّرَاءِ، والبَيْع: الشِّرَاءُ أَيضًا، وَهُوَ مِنَ الأَضْداد.

وبِعْتُ الشَّيْءَ: شَرَيْتُه، أَبيعُه بَيْعًا ومَبيعًا، وَهُوَ شَاذٌّ وَقِيَاسُهُ مَباعًا.

والابْتِياعُ: الاشْتراء.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يخْطُبِ الرجلُ عَلَى خِطْبة أَخِيه وَلَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخِيه»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: كَانَ أَبو عُبَيْدَةَ وأَبو زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهل الْعِلْمِ يَقُولُونَ إِنما النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ لَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخيه إِنما هُوَ لَا يَشْتَرِ عَلَى شِرَاءِ أَخيه، فإِنما وَقَعَ النَّهْيُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ لأَن الْعَرَبَ تَقُولُ بِعْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي وَجْهٌ غَيْرَ هَذَا لأَن الْبَائِعَ لَا يَكَادُ يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ، وإِنما المعروفأَن يُعطى الرجلُ بِسِلْعَتِهِ شَيْئًا فَيَجِيءَ مُشْتَرٍ آخَرُ فَيَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخيه: هُوَ أَن يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ سِلْعَةً وَلَمَّا يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أَن يَعْرِضَ رَجُلٌ آخرُ سِلْعةً أُخرى عَلَى الْمُشْتَرِي تُشْبِهُ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى وَيَبِيعَهَا مِنْهُ، لأَنه لَعَلَّ أَن يردَّ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى أَولًا لأَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ للمُتبايعين الخيارَ مَا لَمْ يَتفرَّقا، فَيَكُونُ البائعُ الأَخير قَدْ أَفسد عَلَى الْبَائِعِ الأَول بَيْعَه، ثُمَّ لَعَلَّ الْبَائِعَ يَخْتَارُ نَقْضَ الْبَيْعِ فَيَفْسُدُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُتَبَايِعِ بَيْعُهُ، قَالَ: وَلَا أَنهى رَجُلًا قَبْلَ أَن يَتبايَع الْمُتَبَايِعَانِ وإِن كَانَا تساوَما، وَلَا بَعد أَن يتفرَّقا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، عَنْ أَن يَبِيعَ أَي الْمُتَبَايِعَيْنِ شَاءَ لأَن ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ عَلَى بَيْعِ أَخيه فيُنْهى عَنْهُ؛ قَالَ: وَهَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا "، فإِذا بَاعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ أَخيه فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ عَصَى اللهَ إِذا كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ فِيهِ، والبيعُ لَازِمٌ لَا يَفْسَدُ.

قَالَ الأَزهري: البائعُ وَالْمُشْتَرِي سَوَاءٌ فِي الإِثم إِذا بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخيه أَو اشْتَرَى عَلَى شِرَاءِ أَخيه لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ اسْمُ الْبَائِعِ، مُشْتَرِيًا كَانَ أَو بَائِعًا، وكلٌّ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمَا مُتَسَاوِيَانِ قَبْلَ عَقْدِ الشِّرَاءِ، فإِذا عَقَدَا الْبَيْعَ فَهُمَا مُتَبَايِعَانِ وَلَا يسمَّيان بَيِّعَيْنِ وَلَا مُتَبَايِعَيْنِ وَهُمَا فِي السَّوْمِ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ قَالَ الأَزهري: وَقَدْ تأَول بَعْضُ مَنْ يَحْتَجُّ لأَبي حَنِيفَةَ وذَوِيه وقولهِم لَا خِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ بأَنهما يُسَمَّيَانِ مُتَبَايِعَيْنِ وَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ قَبْلَ عَقْدِهِمَا الْبَيْعَ؛ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ فِي رَجُلٍ بَاعَ قَوْسًا:

فوافَى بِهَا بعضَ المَواسِم، فانْبَرَى ***لَها بَيِّع، يُغْلِي لَهَا السَّوْمَ، رائزُ

قَالَ: فَسَمَّاهُ بَيِّعًا وَهُوَ سَائِمٌ، قَالَ الأَزهري: وَهَذَا وهَمٌ وتَمْوِيه، وَيَرُدُّ مَا تأَوَّله هَذَا الْمُحْتَجُّ شَيْئَانِ: أَحدهما أَن الشَّمَّاخَ قَالَ هَذَا الشِّعْرَ بعد ما انْعَقَدَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وتفرَّقا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ فَسَمَّاهُ بَيِّعًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا أَتَمّا الْبَيْعَ لَمْ يُسَمِّهِ بَيِّعًا، وأَراد بِالْبَيِّعِ الَّذِي اشْتَرَى وَهَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ يَجْعَلُ الْمُتَسَاوِمَيْنِ بَيِّعَيْنِ وَلَمَّا يَنْعَقِدْ بَيْنَهُمَا الْبَيْعُ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنه يَرُدُّ تأْويله مَا فِي سِيَاقِ خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: البَيِّعانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتفرَّقا إِلَّا أَن يُخَيِّرَ أَحدُهما صاحبَه، فإِذا قَالَ لَهُ: اخْتَرْ، فَقَدْ وجَب البيعُ وإِن لَمْ يتفرَّقا "، أَلا تَرَاهُ جَعَلَ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بأَحد شَيْئَيْنِ: أَحدهما أَن يَتَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، وَالْآخَرُ أَن يُخَيِّرَ أَحدهما صَاحِبَهُ؟ وَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ إِلا بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير فِي قَوْلِهِ لَا يَبِعْ أَحدكم عَلَى بَيْعِ أَخيه: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحدهما إِذا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَطَلَبَ طالبٌ السلعةَ بأَكثر مِنَ الثَّمَنِ ليُرغب الْبَائِعَ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لأَنه إِضرار بِالْغَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ لأَن نفْسَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهْيِ فإِنه لَا خَلَلَ فِيهِ، الثَّانِي أَن يُرَغِّبَ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ بعَرْض سِلْعَةٍ أَجودَ مِنْهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا أَو مِثْلِهَا بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فإِنه مِثْلُ الأَول فِي النَّهْيِ، وَسَوَاءٌ كَانَا قَدْ تَعَاقَدَا عَلَى الْمَبِيعِ أَو تَسَاوَمَا وَقَارَبَا الِانْعِقَادَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْدُ، فَعَلَى الأَول يَكُونُ الْبَيْعُ بِمَعْنَى الشِّرَاءِ، تَقُولُ بِعْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبي عُبَيْدٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْبَيْعُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

إِنَّ الشَّبابَ لَرابِحٌ مَن باعَه، ***والشيْبُ لَيْسَ لبائِعيه تِجارُ

يَعْنِي مَنِ اشْتَرَاهُ.

وَالشَّيْءُ مَبيع ومَبْيُوع مِثْلُ مَخيط "ومَخْيُوط عَلَى النَّقْصِ والإِتمام، قَالَ الْخَلِيلُ: الَّذِي حُذِفَ مِنْ مَبِيع وَاوُ مَفْعُولٍ لأَنها زَائِدَةٌ وَهِيَ أَولى بِالْحَذْفِ، وَقَالَ الأَخفش: الْمَحْذُوفَةُ عَيْنُ الْفِعْلِ لأَنهم لَمَّا سَكَّنوا الْيَاءَ أَلْقَوا حَرَكَتَهَا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي قَبْلَهَا فَانْضَمَّتْ، ثُمَّ أَبدلوا مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً لِلْيَاءِ الَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ وَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً كَمَا انْقَلَبَتْ وَاوُ مِيزان لِلْكَسْرَةِ؛ قَالَ الْمَازِنِيُّ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ حُسْنٌ وَقَوْلُ الأَخفش أَقيس.

قَالَ الأَزهري: قَالَ أَبو عُبَيْدٍ الْبَيْعُ مِنْ حُرُوفِ الأَضداد فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

يُقَالُ بَاعَ فُلَانٌ إِذا اشْتَرَى وَبَاعَ مِنْ غَيْرِهِ؛ وأَنشد قَوْلَ طَرَفَةَ:

ويأْتِيك بالأَنباء مَن لَمْ تَبِعْ لَهُ ***نَباتًا، وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ

أَراد مَنْ لَمْ تَشْتَرِ لَهُ زَادًا.

والبِياعةُ: السِّلْعةُ، والابْتِياعُ: الِاشْتِرَاءُ.

وَتَقُولُ: بِيعَ الشَّيْءُ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، إِن شِئْتَ كَسَرْتَ الْبَاءَ، وإِن شِئْتَ ضَمَمْتَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ وَاوًا فَيَقُولُ بُوع الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كِيلَ وقِيلَ وأَشباهها، وَقَدْ باعَه الشيءَ وباعَه مِنْهُ بَيْعًا فِيهِمَا؛ قَالَ:

إِذا الثُّرَيّا طَلَعَتْ عِشاء، ***فَبِعْ لراعِي غَنَمٍ كِساء

وابْتاعَ الشيءَ: اشْتَرَاهُ، وأَباعه.

عَرَّضه لِلْبَيْعِ؛ قَالَ الهَمْداني:

فَرَضِيتُ آلَاءَ الكُمَيْتِ، فَمَنْ يُبِعْ ***فَرَسًا، فليْسَ جَوادُنا بمُباعِ

أَي بمُعَرَّض لِلْبَيْعِ، وآلاؤُه: خِصالُه الجَمِيلة، وَيُرْوَى أَفلاء الْكُمَيْتِ.

وبايَعَه مُبايعة وبِياعًا: عارَضَه بِالْبَيْعِ؛ قَالَ جُنادةُ بْنُ عَامِرٍ:

فإِنْ أَكُ نائِيًا عَنْهُ، فإِنِّي ***سُرِرْتُ بأَنَّه غُبِنَ البِياعا

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ ذَريح:

كمغْبُونٍ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ، ***تَبَيَّنَ غَبْنُه بعدَ البِياع

واسْتَبَعْتُه الشَّيْءَ أَي سأَلْتُه أَن يبِيعَه مِنِّي.

وَيُقَالُ: إِنه لحسَنُ البِيعة مِنَ الْبَيْعِ مِثْلُ الجِلْسة والرِّكْبة.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنه كَانَ يَغْدُو فَلَا يَمُرُّ بسَقَّاطٍ وَلَا صاحِب بِيعةٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ»؛ البِيعةُ، بِالْكَسْرِ، مِنَ الْبَيْعِ: الْحَالَةُ كالرِّكبة والقِعْدة.

والبَيِّعان: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، وَجَمْعُهُ باعةٌ عِنْدَ كُرَاعٍ، وَنَظِيرُهُ عَيِّلٌ وعالةٌ وَسَيِّدٌ وسادةٌ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَن ذَلِكَ كُلَّهُ إِنما هُوَ جَمْعُ فَاعِلٍ، فأَمّا فيْعِل فَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وكلُّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بَائِعٌ وبَيِّع.

وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ: " المُتبايِعانِ بالخِيار مَا لَمْ يَتفَرَّقا.

والبَيْعُ: اسْمُ المَبِيع؛ قَالَ صَخْر الغَيّ:

فأَقْبَلَ مِنْهُ طِوالُ الذُّرى، ***كأَنَّ عليهِنَّ بَيْعًا جَزِيفا

يَصِفُ سَحَابًا، وَالْجَمْعُ بُيُوع.

والبِياعاتُ: الأَشياء الَّتِي يُتَبايَعُ بِهَا فِي التِّجَارَةِ.

وَرَجُلٌ بَيُوعٌ: جَيِّدُ الْبَيْعِ، وبَيَّاع: كثِيره، وبَيِّعٌ كبَيُوعٍ، وَالْجَمْعُ بَيِّعون وَلَا يكسَّر، والأُنثى بَيِّعة وَالْجَمْعُ بَيِّعاتٌ وَلَا يُكْسَرُ؛ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، قَالَ المفضَّل الضبيُّ: يُقَالُ بَاعَ فُلَانٌ عَلَى بَيْعِ فُلَانٍ، وَهُوَ مَثَلٌ قَدِيمٌ تَضْرِبُهُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ يُخاصم صَاحِبَهُوَهُوَ يُرِيغُ أَن يُغالبه، فإِذا ظَفِر بما حاوَلَه قِيلَ: باعَ فُلَانٌ عَلَى بَيْع فُلَانٍ، وَمِثْلُهُ: شَقَّ فُلَانٌ غُبار فُلَانٍ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ بَاعَ فُلَانٌ عَلَى بَيْعِكَ أَي قَامَ مَقامك فِي الْمَنْزِلَةِ والرِّفْعة؛ وَيُقَالُ: مَا بَاعَ عَلَى بَيْعِكَ أَحد أَي لَمْ يُساوِك أَحد؛ وَتَزَوَّجَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أُم مِسْكِين بِنْتَ عَمْرٍو عَلَى أُم هَاشِمٍ فَقَالَ لَهَا:

مَا لَكِ أُمَّ هاشِمٍ تُبَكِّينْ؟ ***مِن قَدَرٍ حَلَّ بِكُمْ تَضِجِّينْ؟

باعَتْ عَلَى بَيْعِك أُمُ مِسْكِينْ، ***مَيْمُونةً مِنْ نِسْوةٍ ميامِينْ

وَفِي الْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْن فِي بَيْعةٍ، وَهُوَ أَن يَقُولَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ نَقْدًا بِعَشَرَةٍ، ونَسِيئة بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَلَا يَجُوزُ لأَنه لَا يَدْرِي أَيُّهما الثَّمَنُ الَّذِي يَختارُه ليَقَع عَلَيْهِ العَقْد، وَمِنْ صُوَره أَن تَقُولَ: بِعْتُك هَذَا بِعِشْرِينَ عَلَى أَن تَبِيعَني ثَوْبَكَ بِعِشْرَةٍ فَلَا يَصِحَّ لِلشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ ولأَنه يَسْقُط بسُقوطه بعضُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي مَجْهُولًا، وَقَدْ نُهِي عَنْ بَيْعٍ وشرْط وَبَيْعٍ وسَلَف، وَهُمَا هذانِ الْوَجْهَانِ».

وأَما مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ المُزارعة: «نَهى عَنْ بَيْع الأَرض»، قَالَ ابْنُ الأَثير أَي كِرَائِهَا.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: لَا تَبِيعُوها أَي لا تَكْرُوها.

والبَيْعةُ: الصَّفْقةُ عَلَى إِيجاب البيْع وَعَلَى المُبايعةِ والطاعةِ.

والبَيْعةُ: المُبايعةُ والطاعةُ.

وَقَدْ تبايَعُوا عَلَى الأَمر: كَقَوْلِكَ أَصفقوا عَلَيْهِ، وبايَعه عَلَيْهِ مُبايَعة: عاهَده.

وبايَعْتُه مِنَ البيْع والبَيْعةِ جَمِيعًا، والتَّبايُع مِثْلَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنه قَالَ: أَلا تُبايِعُوني عَلَى الإِسلام؟ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ المُعاقَدةِ والمُعاهَدةِ كأَن كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا باعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وأَعطاه خَالِصَةَ نَفْسِه وطاعَتَه ودَخِيلةَ أَمره، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ.

والبِيعةُ: بِالْكَسْرِ: كَنِيسةُ النَّصَارَى، وَقِيلَ: كَنِيسَةُ الْيَهُودِ، وَالْجَمْعُ بِيَعٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: {وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ}؛ قَالَ الأَزهري: فإِن قَالَ قَائِلٌ فَلِمَ جَعَلَ اللَّهُ هَدْمَها مِنَ الفَساد وَجَعْلَهَا كَالْمَسَاجِدِ وَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِنَسْخِ شَرِيعة النَّصَارَى وَالْيَهُودِ؟ فَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَن البِيَعَ والصَّوامعَ كَانَتْ مُتعبَّدات لَهُمْ إِذ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ غَيْرِ مبدِّلين وَلَا مُغيِّرين، فأَخبر اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَن لَوْلَا دَفْعُه الناسَ عَنِ الْفَسَادِ بِبَعْضِ النَّاسِ لَهُدِّمَتْ مُتعبَّداتُ كلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَهل دِينِهِ وطاعتِه فِي كُلِّ زَمَانٍ، فبدأَ بِذِكْرِ البِيَعِ عَلَى الْمَسَاجِدِ لأَن صَلَوَاتِ مَنْ تقدَّم مِنْ أَنبياء بَنِي إِسرائيل وأُممهم كَانَتْ فِيهَا قَبْلَ نُزُولِ الفُرقان وقبْل تَبْدِيلِ مَن بدَّل، وأُحْدِثت الْمَسَاجِدُ وَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ بَعْدَهُمْ فبدأَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذِكْرِ الأَقْدَم وأَخَّر ذِكْرَ الأَحدث لِهَذَا الْمَعْنَى.

ونُبايِعُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

وكأَنَّها بالجِزْع جِزعِ نُبايعٍ، ***وأُولاتِ ذِي العَرْجاء، نَهْبٌ مُجْمَعُ

قَالَ ابْنُ جِنِّي: هُوَ فِعْلٌ مَنْقُولٌ وزْنه نُفاعِلُ كنُضارِبُ وَنَحْوِهِ إِلا أَنه سُمِّيَ بِهِ مُجَرَّدًا مِنْ ضَمِيرِهِ، فَلِذَلِكَ أُعرب وَلَمْ يُحْكَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ضَمِيرُهُ لَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لأَنه كَانَ يَلْزَمُ حكايتُه إِن كَانَ جُمْلَةً كذَرَّى حَبًّا وتأبَّطَ شَرًّا، فَكَانَ ذَلِكَ يَكْسِرُ وَزْنَ البيت لأَنه كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْهُ حذفُ سَاكِنِ الْوَتَدِ فَتَصِيرُ مُتَفَاعِلُنْ إِلى متفاعِلُ، وَهَذَا لَا يُجِيزه أَحد، فإِن قُلْتَ: فَهَلَّا نوَّنته كَمَا تُنوِّن فِي الشِّعْرِ الْفِعْلَ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ طَلَلٍ كالأَتْحمِيّ أَنْهَجَنْ وَقَوْلِهِ: دايَنْتُ أَرْوَى والدُّيُون تُقْضَيَنْ فَكَانَ ذَلِكَ يَفِي بِوَزْنِ الْبَيْتِ لِمَجِيءِ نُونِ مُتَفَاعِلُنْ؟ قِيلَ: هَذَا التَّنْوِينُ إِنما يَلْحَقُ الْفِعْلَ فِي الشِّعْرِ إِذا كَانَ الْفِعْلُ قَافِيَةً، فأَما إِذا لَمْ يَكُنْ قَافِيَةً فإِن أَحدًا لَا يُجِيزُ تَنْوِينَهُ، وَلَوْ كَانَ نُبَايِعُ مَهْمُوزًا لَكَانَتْ نُونُهُ وَهَمْزَتُهُ أَصليتين فَكَانَ كعُذافِر، وَذَلِكَ أَن النُّونَ وَقَعَتْ مَوْقِعَ أَصل يُحْكَمُ عَلَيْهَا بالأَصلية، وَالْهَمْزَةُ حَشْو فَيَجِبُ أَن تَكُونَ أَصلًا، فإِن قُلْتَ: فَلَعَلَّهَا كَهَمْزَةِ حُطائطٍ وجُرائض؟ قِيلَ: ذَلِكَ شَاذٌّ فَلَا يَحْسُنُ الحَمْل عَلَيْهِ وصَرْفُ نُبايعٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيفِ والمِثال، ضرورةٌ، وَاللَّهُ أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


97-لسان العرب (وجع)

وجع: الوَجَع: اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ مَرَضٍ مُؤْلِمٍ، وَالْجَمْعُ أَوْجاعٌ، وَقَدْ وَجِعَ فُلَانٌ يَوْجَعُ ويَيْجَعُ وياجَعُ، فَهُوَ وجِعٌ، مِنْ قَوْمٍ وَجْعَى ووَجاعَى ووَجِعِينَ ووِجاعٍ وأَوجاعٍ، ونِسْوةٌ وَجاعى ووَجِعاتٌ؛ وَبَنُو أَسَد يَقُولُونَ يِيجَعُ، بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ يِعْلَمُ اسْتِثْقالًا لِلْكَسْرَةِ عَلَى الْيَاءِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الياءَان قَوِيَتا واحْتَمَلَتْ مَا لَمْ تَحْتَمِلْهُ الْمُفْرِدَةُ، وَيُنْشَدُ لِمُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ:

قَعِيدَكِ أَن لَا تُسْمِعِيني مَلامةً، ***وَلَا تَنْكَئِي قَرْحَ الفُؤادِ فَيِيجَعا

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنا إِيجَعُ وأَنت تِيجَعُ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الأَصل فِي يِيجَعُ يَوْجَعُ، فَلَمَّا أَرادوا قَلْبَ الْوَاوِ يَاءً كَسَرُوا الْيَاءَ الَّتِي هِيَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ لِتَنْقَلِبَ الْوَاوُ يَاءً قَلْبًا صَحِيحًا، وَمَنْ قَالَ يَيْجلُ ويَيْجَعُ فإِنه قَلَبَ الْوَاوَ يَاءً قَلْبًا ساذَجًا بِخِلَافِ الْقَلْبِ الأَول لأَنَّ الْوَاوَ السَّاكِنَةَ إِنما تَقْلِبُها إِلى الْيَاءِ الكسرةُ قَبْلَهَا.

قَالَ الأَزهري: ولُغةٌ قبيحةٌ مَنْ يَقُولُ وَجِعَ يَجِعُ، "قَالَ: وَيَقُولُ أَنا أَوْجَعُ رأْسي ويَوْجَعُني رأْسي وأَوْجَعْتُه أَنا.

ووَجِعَ عُضْوُه: أَلِمَ وأَوْجَعَهُ هُوَ.

الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ وَجِعْتَ بَطْنَكَ مِثْلَ سَفِهْتَ رأْيَكَ ورَشِدْتَ أَمرَك، قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي كَالنَّكِرَةِ لأَن قَوْلَكَ بَطْنَكَ مُفَسِّرٌ، وَكَذَلِكَ غُبِنْتَ رأْيَك، والأَصل فِيهِ وَجِعَ رأْسُك وأَلم بَطْنُكَ وسَفِهَ رأْيُك ونَفْسُك، فَلَمَّا حُوِّلَ الفعلُ خَرَجَ قَوْلُكَ وَجِعْتَ بطنَك وَمَا أَشبهه مَفَسِّرًا، قَالَ: وَجَاءَ هَذَا نَادِرًا فِي أَحرف مَعْدُودَةٍ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنما نَصَبُوا وَجِعْتَ بطنَك بِنَزْعِ الْخَافِضِ مِنْهُ كأَنه قَالَ وَجِعْت مِنْ بَطْنِكَ، وَكَذَلِكَ سَفِهْتَ فِي رأْيك، وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لأَن المُفَسِّراتِ لَا تَكُونُ إِلا نَكِرَاتٍ.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: أَمَضَّني الجُرْحُ فَوَجِعْتُه.

قَالَ الأَزهري: وَقَدْ وَجِعَ فلانٌ رأْسَه وبطنَه.

وأَوْجَعْتُ فُلَانًا ضَرْبًا وجِيعًا، وضَرْبٌ وجِيعٌ أَي مُوجِعٌ، وَهُوَ أَحد مَا جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ مِنْ أَفْعَلَ، كَمَا يُقَالُ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَقِيلَ: ضربٌ وجِيعٌ وأَلِيمٌ ذُو أَلَمٍ.

وَفُلَانٌ يَوْجَعُ رأْسَه، نصبْتَ الرأْسَ، فإِن جِئْتَ بِالْهَاءِ قُلْتَ يَوْجَعُه رأْسُه وأَنا أَيْجَع رأْسي ويَوْجَعُني رأْسي، وَلَا تَقُلْ يُوجِعني رأْسي، وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ؛ قَالَ صِمّة بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ:

تَلَفَّتُّ نحوَ الحَيِّ، حَتَّى وجَدْتُني ***وجِعْتُ مِنَ الإِصْغاءِ لِيتًا وأَخْدَعا

والإِيجاعُ: الإِيلامُ.

وأَوْجَعَ فِي العَدُوّ: أَثْخَنَ.

وتَوَجَّعَ: تَشَكَّى الوجَعَ.

وتوجَّعَ لَهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ: رَثى له مِنْ مَكْرُوهٍ نَازِلٍ.

والوجْعاءُ: السافِلةُ وَهِيَ الدُّبُر، مَمْدُودَةٌ؛ قَالَ أَنسُ بْنَ مُدْرِكةَ الخَثْعَمِي:

غَضِبتُ للمَرْءِ، إِذْ نِيكَتْ حَلِيلَتُه، ***وإِذْ يُشَدُّ عَلَى وَجْعائِها الثَّفَرُ

أَغْشَى الحُروبَ، وسِرْبالي مُضاعَفةٌ ***تَغْشَى البَنانَ، وسَيْفي صارِمٌ ذَكَرُ

إِني وقَتْلي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَه، ***كالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عافَتِ البَقَرُ

يَعْنِي أَنها بُوضِعَتْ.

وجمعُ الوَجْعاءِ وَجْعاواتٌ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الشعْرِ أَنَّ سُلَيْكًا مَرَّ فِي بَعْضِ غَزَواتِه بِبَيْتٍ مِنْ خَثْعَمَ، وأَهله خُلوفٌ، فَرأَى فيهنَّ امرأَة بَضَّةً شَابَّةً فَعلاها، فأُخْبر أَنس بِذَلِكَ فأَدْركه فَقَتَلَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحِلُّ المسأَلةُ إِلا لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ»؛ هُوَ أَنْ يَتَحَمَّلَ دِيةً فَيَسْعَى بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَها إِلى أَولياءِ الْمَقْتُولِ، فإِن لَمْ يؤدِّها قُتِل المُتَحَمَّلُ عَنْهُ فَيُوجِعُه قَتْلُه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مُري بَنِيكِ يُقَلِّمُوا أَظْفارَهم أَن يُوجِعُوا الضُّرُوعَ»أَي لِئَلَّا يُوجِعُوها إِذا حَلَبُوها بأَظْفارِهم.

وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الجِعةَ فَقَالَ: والجِعةُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، عَنْ أَبي عُبَيْدٍ، قَالَ: وَلَسْتُ أَدري مَا نُقْصانُه؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الجِعةُ لَامُهَا وَاوٌ مَنْ جَعَوْت أَي جَمَعْتُ كأَنها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَجْعُو الناسَ عَلَى شُرْبِها أَي تَجْمَعُهُمْ، وَذَكَرَ الأَزهري هَذَا الْحَرْفُ فِي الْمُعْتَلِّ، وَسَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ.

وأُمُّ وجَعِ الكَبدِ: نَبْتَةٌ تَنْفَعُ من وجَعِها.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


98-لسان العرب (ودع)

ودع: الوَدْعُ والوَدَعُ والوَدَعاتُ: مناقِيفُ صِغارٌ تُخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ تُزَيَّنُ بِهَا العَثاكِيلُ، وَهِيَ خَرَزٌ بيضٌ جُوفٌ فِي بُطُونِهَا شَقٌّ كَشَقِّ النواةِ تَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَقِيلَ: هِيَ جُوفٌ فِي جَوْفها دُوَيْبّةٌ كالحَلَمةِ؛ قَالَ عَقِيلُ بْنُ عُلَّفَة:

وَلَا أُلْقِي لِذي الوَدَعاتِ سَوْطِي ***لأَخْدَعَه، وغِرَّتَه أُرِيدُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنشاده: أُلاعِبُه وزَلَّتَه أُرِيدُ "وَاحِدَتُهَا ودْعةٌ وودَعةٌ.

ووَدَّعَ الصبيَّ: وضَعَ فِي عنُقهِ الوَدَع.

وودَّعَ الكلبَ: قَلَّدَه الودَعَ؛ قَالَ:

يُوَدِّعُ بالأَمْراسِ كُلَّ عَمَلَّسٍ، ***مِنَ المُطْعِماتِ اللَّحْمَ غيرَ الشَّواحِنِ

أَي يُقَلِّدُها وَدَعَ الأَمْراسِ.

وذُو الودْعِ: الصبيُّ لأَنه يُقَلَّدُها مَا دامَ صَغِيرًا؛ قَالَ جَمِيلٌ:

أَلَمْ تَعْلَمِي، يَا أُمَّ ذِي الوَدْعِ، أَنَّني ***أُضاحِكُ ذِكْراكُمْ، وأَنْتِ صَلُودُ؟

وَيُرْوَى: أَهَشُّ لِذِكْراكُمْ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «مَنْ تَعَلَّقَ ودَعةً لَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ، وإِنما نَهَى عَنْهَا لأَنهم كَانُوا يُعَلِّقُونَها مَخافةَ الْعَيْنِ، وَقَوْلُهُ: لَا ودَعَ اللهُ لَهُ»أَي لَا جَعَلَهُ فِي دَعةٍ وسُكُونٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مَبْنِيٌّ مِنَ الْوَدَعَةِ، أَي لَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَخافُه.

وَهُوَ يَمْرُدُني الوَدْعَ ويَمْرُثُني أَي يَخْدَعُني كَمَا يُخْدَعُ الصَّبِيُّ بِالْوَدْعِ فَيُخَلَّى يَمْرُثُها.

وَيُقَالُ للأَحمق: هُوَ يَمْرُدُ الوْدَع، يُشَبَّهُ بِالصَّبِيِّ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " والحِلْمُ حِلْم صبيٍّ يَمْرُثُ الوَدَعَهْ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَنشد الأَصمعي هَذَا الْبَيْتَ فِي الأَصمعيات لِرَجُلٍ مِنْ تَمِيمٍ بِكَمَالِهِ:

السِّنُّ مِنْ جَلْفَزِيزٍ عَوْزَمٍ خلَقٍ، ***والعَقْلُ عَقْلُ صَبيٍّ يَمْرُسُ الوَدَعَهْ

قَالَ: وَتَقُولُ خَرَجَ زَيْدٌ فَوَدَّعَ أَباه وابنَه وكلبَه وفرسَه ودِرْعَه أَي ودَّع أَباه عِنْدَ سَفَرِهِ مِنَ التوْدِيعِ، ووَدَّع ابْنَهُ: جَعَلَ الوَدعَ فِي عُنُقه، وكلبَه: قَلَّدَه الْوَدْعَ، وفرسَه: رَفَّهَه، وَهُوَ فَرَسٌ مُوَدَّعُ ومَوْدُوع، عَلَى غَيْرِ قِياسٍ، ودِرْعَه، والشيءَ: صانَه فِي صِوانِه.

والدَّعةُ والتُّدْعةُ عَلَى الْبَدَلِ: الخَفْضُ فِي العَيْشِ والراحةُ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ مِنَ الْوَاوِ.

والوَديعُ: الرَّجُلُ الْهَادِئُ الساكِنُ ذُو التُّدَعةِ.

وَيُقَالُ ذُو وَداعةٍ، وَدُعَ يَوْدُعُ دَعةً ووَداعةً، زَادَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ووَدَعَه، فَهُوَ وَديعٌ ووادِعٌ أَي ساكِن؛ وأَنشد شَمِرٌ قَوْلَ عُبَيْدٍ الرَّاعِي:

ثَناءٌ تُشْرِقُ الأَحْسابُ مِنْهُ، ***بِهِ تَتَوَدَّعُ الحَسَبَ المَصُونا

أَيْ تَقِيه وتَصُونه، وَقِيلَ أَي تُقِرُّه عَلَى صَوْنِه وادِعًا.

وَيُقَالُ: وَدَعَ الرجلُ يَدَعُ إِذا صَارَ إِلى الدَّعةِ والسُّكونِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ سُوِيدِ بْنِ كُرَاعٍ:

أَرَّقَ العينَ خَيالٌ لَمْ يَدَعْ ***لِسُلَيْمى، ففُؤادِي مُنْتَزَعْ

أَي لَمْ يَبْقَ وَلَمْ يَقِرَّ.

وَيُقَالُ: نَالَ فُلَانٌ المَكارِمَ وادِعًا أَي مِنْ غَيْرِ أَن يَتَكَلَّفَ فِيهَا مَشَقّة.

وتوَدَّعَ واتَّدعَ تُدْعةً وتُدَعةً وودَّعَه: رَفَّهَه، وَالِاسْمُ المَوْدوعُ.

وَرَجُلٌ مُتَّدِعٌ أَي صاحبُ دَعَةٍ وراحةٍ؛ فأَما قَوْلُ خُفافِ بْنِ نُدْبة:

إِذا مَا اسْتَحَمَّتْ أَرضُه مِنْ سَمائِه ***جَرى، وَهُوَ موْدوعٌ وواعِدُ مَصْدَق

فكأَنه مَفْعُولٌ مِنَ الدَّعةِ أَي أَنه يَنَالُ مُتَّدَعًا مِنَ الجرْيِ مَتْرُوكًا لَا يُضْرَبُ وَلَا يْزْجَرُ مَا يسْبِقُ بِهِ، وَبَيْتُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ هَذَا أَورده الْجَوْهَرِيُّ وَفَسَّرَهُ فَقَالَ أَي مَتْرُوكٌ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُزْجَرُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: مَوْدوعٌ هَاهُنَا مِنَ الدَّعةِ الَّتِي هِيَ السُّكُونُ لَا مِنَ التَّرْكِ كَمَا ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَيْ أَنه جَرَى وَلَمْ يَجْهَدْ كَمَا أَوردناه، وَقَالَ ابْنُ بُزُرْجَ: فرَسٌ ودِيعٌ وموْدوعٌ ومُودَعٌ؛ وَقَالَ ذُو الإِصبَع العَدواني:

أُقْصِرُ مِنْ قَيْدِه وأُودِعُه، ***حَتَّى إِذا السِّرْبُ رِيعَ أَو فَزِعا

والدَّعةُ: مِنْ وَقارِ الرجُلِ الوَدِيعِ.

وَقَوْلُهُمْ: عليكَ بالمَوْدوع أَي بالسكِينة وَالْوَقَارِ، فإِن قُلْتَ: فإِنه لَفْظُ مفْعولٍ وَلَا فِعْل لَهُ إِذ لَمْ يَقُولُوا ودَعْتُه فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ قِيلَ: قَدْ تَجِيءُ الصِّفَةُ وَلَا فِعْلَ لَهَا كَمَا حُكي مِنْ قَوْلِهِمُ رجل مَفْؤودٌ للجَبانِ، ومُدَرْهَمٌ لِلْكَثِيرِ الدِّرهم، وَلَمْ يَقُولُوا فُئِدَ وَلَا دُرْهِمَ.

وَقَالُوا: أَسْعَده اللَّهُ، فَهُوَ مَسْعودٌ، وَلَا يُقَالُ سُعِدَ إِلا فِي لُغَةٍ شَاذَّةٍ.

وإِذا أَمَرْتَ الرَّجُلَ بالسكينةِ والوَقارِ قُلْتَ لَهُ: تَوَدَّعْ واتَّدِعْ؛ قَالَ الأَزهري: وَعَلَيْكَ بالموْدوعِ مِنْ غَيْرِ أَن تَجْعَلَ لَهُ فِعْلًا وَلَا فَاعِلًا مِثْل المَعْسورِ والمَيْسورِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ عَلَيْكَ بِالْمَوْدُوعِ أَي بالسكينةِ وَالْوَقَارِ، قَالَ: لَا يُقَالُ مِنْهُ ودَعه كَمَا لَا يُقَالُ مِنَ المَعْسور والمَيْسور عَسَرَه ويَسَرَه.

ووَدَعَ الشيءُ يَدَعُ واتَّدَعَ، كِلَاهُمَا: سكَن؛ وَعَلَيْهِ أَنشد بَعْضُهُمْ بَيْتَ الْفَرَزْدَقُ:

وعَضُّ زَمانٍ يَا ابنَ مَرْوانَ، لَمْ يَدَعْ ***مِنَ الْمَالِ إِلّا مُسْحَتٌ أَو مُجَلَّفُ

فَمَعْنَى لَمْ يَدَعْ لَمْ يَتَّدِعْ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ زَمَانٍ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِكَوْنِهَا صِفَةً لَهُ، وَالْعَائِدُ مِنْهَا إِليه مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِمَوْضِعِهِ، وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ لَمْ يَدَعْ فِيهِ أَو لأَجْلِه مِنَ الْمَالِ إِلا مُسحَتٌ أَو مُجَلَّف، فَيَرْتَفِعُ مُسْحت بِفِعْلِهِ ومجَلَّفُ عُطِفَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَدَعْ لَمْ يَبْقَ وَلَمْ يَقِرَّ، وَقِيلَ: لَمْ يَسْتَقِرَّ، وأَنشده سلمةُ إِلا مُسْحَتًا أَو مُجَلَّفُ أَي لَمْ يَتْرُكْ مِنَ الْمَالِ إِلَّا شَيْئًا مُسْتأْصَلًا هالِكًا أَو مُجَلَّفٌ كَذَلِكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ رَوَاهُ الْكِسَائِيُّ وَفَسَّرَهُ، قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِكَ ضَرَبْتَ زَيْدًا وعمروٌ، تُرِيدُ وعمْرٌو مَضْرُوبٌ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْفِعْلُ رُفِعَ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِسُوَيْدِ بْنِ أَبي كَاهِلٍ:

أَرَّقَ العَيْنَ خَيالٌ لَمْ يَدَعْ ***مِنْ سُلَيْمى، فَفُؤادي مُنْتَزَعْ

أَي لَمْ يَسْتَقِرّ.

وأَودَعَ الثوبَ ووَدَّعَه: صانَه.

قَالَ الأَزهري: والتوْدِيعُ أَن تُوَدِّعَ ثَوْبًا فِي صِوانٍ لَا يَصِلُ إِليه غُبارٌ وَلَا رِيحٌ.

وودَعْتُ الثوبَ بِالثَّوْبِ وأَنا أَدَعُه، مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: المِيدَعُ كُلُّ ثَوْبٍ جَعَلْتَهُ مِيدَعًا لِثَوْبٍ جَدِيدٍ تُوَدِّعُه بِهِ أَي تَصُونه بِهِ.

وَيُقَالُ: مِيداعةٌ، وَجَمْعُ المِيدَعِ مَوادِعُ، وأَصله الْوَاوُ لأَنك ودَّعْتَ بِهِ ثوبَك أَي رفَّهْتَه بِهِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

هِيَ الشمْسُ إِشْراقًا، إِذا مَا تَزَيَّنَتْ، ***وشِبْهُ النَّقا مُقْتَرَّةً فِي المَوادِعِ

وَقَالَ الأَصمعي: المِيدَعُ الثوبُ الَّذِي تَبْتَذِلُه وتُودِّعُ بِهِ ثيابَ الحُقوق لِيَوْمِ الحَفْل، وإِنما يُتَّخَذ المِيدعُ لِيودَعَ بِهِ المَصونُ.

وتودَّعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذا ابْتَذَلَهُ فِي حَاجَتِهِ.

وتودَّع ثيابَ صَونِه إِذا ابْتَذَلَهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «صَلى معه عبدُ الله ابن أُنَيْسٍ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُتَمَزِّقٌ فَلَمَّا انْصَرَفَ دَعَا لَهُ بِثَوْبٍ فَقَالَ: تَوَدَّعْه بخَلَقِكَ هَذَا»أَي تَصَوَّنْه بِهِ، يُرِيدُ الْبَسْ هَذَا الَّذِي دَفَعْتُهُ إِليك فِي أَوقات الِاحْتِفَالِ والتزَيُّن.

والتَّوديعُ: أَن يَجْعَلَ ثَوْبًا وقايةَ ثَوْبٍ آخَرَ.

والمِيدَعُ والميدعةُ والمِيداعةُ: مَا ودَّعَه بِهِ.

وثوبٌ مِيدعٌ: صِفَةٌ؛ قَالَ الضَّبِّيُّ:

أُقَدِّمُه قُدَّامَ نَفْسي، وأَتَّقِي ***بِهِ الموتَ، إِنَّ الصُّوفَ للخَزِّ مِيدَعُ

وَقَدْ يُضاف.

والمِيدع أَيضًا: الثَّوْبُ الَّذِي تَبْتَذِله المرأَة فِي بَيْتِهَا.

يُقَالُ: هَذَا مِبْذَلُ المرأَة ومِيدعُها، ومِيدَعَتُها: الَّتِي تُوَدِّعُ بِهَا ثِيَابَهَا.

وَيُقَالُ لِلثَّوْبِ الَّذِي يُبْتَذَل: مِبْذَلٌ ومِيدَعٌ ومِعْوز ومِفْضل.

والمِيدعُ والمِيدَعةُ: الثَّوْبُ الخَلَقُ؛ قَالَ شَمِرٌ أَنشد ابْنُ أَبي عدْنان:

فِي الكَفِّ مِنِّي مَجَلاتٌ أَرْبَعُ ***مُبْتَذَلاتٌ، مَا لَهُنَّ مِيدَعُ

قَالَ: مَا لهنَّ مِيدع أَي مَا لَهُنَّ مَنْ يَكْفيهنَّ العَمَل فيَدَعُهُنَّ أَي يصونهُنَّ عَنِ العَمَل.

وكلامٌ مِيدَعٌ إِذا كَانَ يُحْزِنُ، وَذَلِكَ إِذا كَانَ كَلَامًا يُحْتَشَمُ مِنْهُ وَلَا يُسْتَحْسَنُ.

والمِيداعةُ: الرَّجُلُ الَّذِي يُحب الدَّعةَ؛ عَنِ الْفَرَّاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذا لَمْ يُنْكِر الناسُ المُنْكَرَ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» أَي أُهْمِلوا وتُرِكوا وَمَا يَرْتَكِبونَ مِنَ المَعاصي حَتَّى يُكثِروا مِنْهَا، وَلَمْ يُهْدَوْا لِرُشْدِهِمْ حَتَّى يَسْتَوْجِبُوا الْعُقُوبَةَ فَيُعَاقِبَهُمُ اللَّهُ، وأَصله مِنَ التوْدِيع وَهُوَ التَّرْكُ، قَالَ: وَهُوَ مِنَ الْمَجَازِ لأَن المُعْتَنيَ بإِصْلاحِ شأْن الرَّجُلِ إِذا يَئِسَ مِنْ صلاحِه تَرَكَهُ واسْتراحَ مِنْ مُعاناةِ النَّصَب مَعَهُ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنَ قَوْلِهِمْ تَوَدَّعْتُ الشيءَ أَي صُنْتُه فِي مِيدَعٍ، يَعْنِي قَدْ صَارُوا بِحَيْثُ يُتَحَفَّظُ مِنْهُمْ ويُتَصَوَّن كَمَا يُتَوَقَّى شِرَارُ النَّاسِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «إِذا مَشَتْ هَذِهِ الأُمّةُ السُّمَّيْهاءَ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهَا».

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ارْكَبُوا هَذِهِ الدوابَّ سَالِمَةً وايْتَدِعُوها سَالِمَةً "أَي اتْرُكُوها ورَفِّهُوا عَنْهَا إِذا لَمْ تَحْتاجُوا إِلى رُكُوبها، وَهُوَ افْتَعَلَ مَنْ وَدُعَ، بِالضَّمِّ، ودَاعةً ودَعةً أَي سَكَنَ وتَرَفَّهَ.

وايْتَدَعَ، فَهُوَ مُتَّدِعٌ أَي صَاحِبُ دَعةٍ، أَو مِنْ وَدَعَ إِذا تَرَكَ، يُقَالُ اتَّدَعَ وايْتَدَعَ عَلَى الْقَلْبِ والإِدغام والإِظهار.

وَقَوْلُهُمْ: دَعْ هَذَا أَي اتْرُكْه، ووَدَعَه يَدَعُه: تَرَكَهُ، وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ: دَعْني وذَرْني ويَدَعُ ويَذَرُ، وَلَا يَقُولُونَ ودَعْتُكَ وَلَا وَذَرْتُكَ، اسْتَغْنَوْا عَنْهُمَا بتَرَكْتُكَ وَالْمَصْدَرُ فِيهِمَا تَرْكًا، وَلَا يُقَالُ ودْعًا وَلَا وَذْرًا؛ وَحَكَاهُمَا بَعْضُهُمْ وَلَا وادِعٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَيْتٍ أَنشده الْفَارِسِيُّ فِي الْبَصْرِيَّاتِ:

فأَيُّهُما مَا أَتْبَعَنَّ، فإِنَّني ***حَزِينٌ عَلَى تَرْكِ الَّذِي أَنا وادِعُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ جَاءَ وادِعٌ فِي شِعْرِ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ:

عَلَيْهِ شَرِيبٌ لَيِّنٌ وادِعُ العَصا، ***يُساجِلُها حمَّاته وتُساجِلُه

وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}؛ أَي لَمْ يَقْطَعِ اللهُ الوحيَ عَنْكَ وَلَا أَبْغَضَكَ، وَذَلِكَ" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتأَخر الوحْيُ عَنْهُ فَقَالَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ: إِن مُحَمَّدًا قَدْ وَدَّعَهُ رَبُّهُ وقَلاه، فأَنزل اللَّهُ تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}، الْمَعْنَى وَمَا قَلاكَ، وسائر القُرّاء قرؤوه: وَدَّعَكَ، بِالتَّشْدِيدِ، وقرأَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا وَدَعَك رَبُّكَ "، بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، أَي مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ؛ قَالَ:

وَكَانَ مَا قَدَّمُوا لأَنْفُسِهم ***أَكْثَرَ نَفْعًا مِنَ الَّذِي وَدَعُوا

وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: إِنما هَذَا عَلَى الضَّرُورَةِ لأَنّ الشَّاعِرَ إِذَا اضْطُرَّ جَازَ لَهُ أَن يَنْطِقَ بِمَا يُنْتِجُه القِياسُ، وإِن لَمْ يَرِدْ بِهِ سَماعٌ؛ وأَنشد قولَ أَبي الأَسودِ الدُّؤلي:

لَيْتَ شِعْرِي، عَنْ خَلِيلي، مَا الَّذِي ***غالَه فِي الحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ؟

وَعَلَيْهِ قرأَ بَعْضُهُمْ: مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلى "، لأَن الترْكَ ضَرْبٌ مِنَ القِلى، قَالَ: فَهَذَا أَحسن مِنْ أَن يُعَلَّ بَابُ اسْتَحْوَذَ واسْتَنْوَقَ الجَمَلُ لأَنّ اسْتِعْمالَ ودَعَ مُراجعةُ أَصل، وإِعلالُ اسْتَحْوَذَ وَاسْتَنْوَقَ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمُصَحِّحِ تركُ أَصل، وَبَيْنَ مُرَاجَعَةِ الأُصول وَتَرْكِهَا مَا لَا خَفاء به؛ وهذا بيت رَوَى الأَزهري عَنِ ابْنِ أَخي الأَصمعي أَن عَمَّهُ أَنشده لأَنس بْنِ زُنَيْمٍ اللِّيثِيِّ:

لَيْتَ شِعْرِي، عَنْ أَمِيري، مَا الَّذِي ***غالَه فِي الْحُبِّ حَتَّى ودَعهْ؟

لَا يَكُنْ بَرْقُك بَرْقًا خُلَّبًا، ***إِنَّ خَيْرَ البَرْقِ مَا الغَيْثُ مَعَهْ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ رُوِيَ الْبَيْتَانِ لِلْمَذْكُورَيْنِ؛ وَقَالَ اللَّيْثُ: الْعَرَبُ لَا تَقُولُ ودَعْتُهُ فأَنا وادعٌ أَي تَرِكْتُهُ وَلَكِنْ يَقُولُونَ فِي الْغَابِرِ يَدَعُ، وَفِي الأَمر دَعْه، وَفِي النَّهْيِ لَا تَدَعْه؛ وأَنشد: " أَكْثَرَ نَفْعًا مِنَ الَّذِي ودَعُوا يَعْنِي تَرَكُوا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيَنْتَهيَنَّ أَقوامٌ عَنْ وَدْعِهم الجُمُعاتِ أَو ليُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ»أَي عَنْ تَرْكهم إِيّاها والتَّخَلُّفِ عَنْهَا مِنْ وَدَعَ الشيءَ يَدَعُه وَدْعًا إِذا تَرَكَهُ، وَزَعَمَتِ النحويةُ أَنّ الْعَرَبَ أَماتُوا مَصْدَرَ يَدَعُ ويَذَرُ واسْتَغْنَوْا عَنْهُ بتَرْكٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفصح الْعَرَبِ وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وإِنما يُحْمل قَوْلُهُمْ عَلَى قِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فَهُوَ شاذٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ حَتَّى قُرِئَ بِهِ قَوْلُهُ تعالى: {مَا وَدَعَك رَبُّكَ وَمَا قَلى}، بِالتَّخْفِيفِ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لسُوَيْدِ بن أَبي كاهِلٍ:

سَلْ أَمِيري: مَا الَّذِي غَيَّرَه ***عَنْ وِصالي، اليوَمَ، حتى وَدَعَه؟

وأَنشد لآخر:

فَسَعَى مَسْعاتَه فِي قَوْمِه، ***ثُمَّ لَمْ يُدْركْ، وَلَا عَجْزًا وَدَعْ

وَقَالُوا: لَمْ يُدَعْ وَلَمْ يُذَرْ شاذٌّ، والأَعرف لَمْ يُودَعْ وَلَمْ يُوذَرْ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.

والوَداعُ، بِالْفَتْحِ: التَّرْكُ.

وَقَدْ ودَّعَه ووَادَعَه ووَدَعَه ووادَعَه دُعاءٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ:

فهاجَ جَوًى فِي القَلْبِ ضُمِّنَه الهَوَى، ***بِبَيْنُونةٍ يَنْأَى بِهَا مَنْ يُوادِعُ

وَقِيلَ فِي قَوْلِ ابْنِ مُفَرِّغٍ: دَعيني مِنَ اللَّوْم بَعْضَ الدَّعَهْ أَيِ اتْرُكِيني بعضَ الترْك.

وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ فِي المررية الَّذِي يَتَصَنَّعُ فِي الأَمر ولا يُعْتَمَدُ منه عَلَى ثِقةٍ: دَعْني مِنْ هِنْدَ فَلَا جَدِيدَها ودَعَتْ وَلَا خَلَقَها رَقَعَتْ.

وَفِي حَدِيثِ الخَرْصِ: «إِذا خَرَصْتُم فخُذُوا ودَعُوا الثُّلُثَ، فإِن لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فدَعوا الرُّبعَ»؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهل الْعِلْمِ إِلى أَنه يُتْرَكُ لَهُمْ مِنْ عُرْضِ المالِ تَوْسِعةً عَلَيْهِمْ لأَنه إِن أُخِذَ الحقُّ مِنْهُمْ مُسْتَوْفًى أَضَرَّ بِهِمْ، فإِنه يَكُونُ مِنْهَا الساقِطةُ والهالِكةُ وَمَا يأْكله الطَّيْرُ وَالنَّاسُ، وَكَانَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يأْمر الخُرّاصَ بِذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُترك لَهُمْ شيءٌ شائِعٌ فِي جُمْلَةِ النَّخْلِ بَلْ يُفْرَدُ لَهُمْ نَخلاتٌ مَعْدودةٌ قَدْ عُلِمَ مِقْدارُ ثَمَرِهَا بالخَرْصِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنهم إِذا لَمْ يَرْضَوْا بِخَرْصِكُم فدَعوا لَهُمُ الثُّلُثَ أَو الرُّبُعَ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَضْمَنُوا حَقَّهُ وَيَتْرُكُوا الْبَاقِيَ إِلى أَن يَجِفَّ ويُؤخذ حَقُّه، لَا أَنه يُتْرَكُ لَهُمْ بِلَا عِوَضٍ وَلَا إِخْرَاجٍ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثِ: «دَعْ داعِيَ اللَّبنِ»أَي اتْرُكْ مِنْهُ فِي الضَّرْع شَيْئًا يَسْتَنْزِلُ اللَّبَنَ وَلَا تَسْتَقْصِ حَلْبَه.

والوَداعُ: تَوْدِيعُ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي المَسِيرِ.

وتَوْدِيعُ المُسافِرِ أَهلَه إِذا أَراد سَفَرًا: تخليفُه إِيّاهم خافِضِينَ وادِعِينَ، وَهُمْ يُوَدِّعُونه إِذا سَافَرَ تفاؤُلًا بالدَّعةِ الَّتِي يَصِيرُ إِليها إِذا قَفَلَ.

وَيُقَالُ ودَعْتُ، بِالتَّخْفِيفِ، فَوَدَعَ؛ وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:

وسِرْتُ المَطِيّةَ مَوْدُوعةً، ***تُضَحّي رُوَيْدًا، وتُمْسي زُرَيْقا

وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ فرَسٌ ودِيعٌ ومَوْدُوعٌ وموَدَّعٌ.

وتَوَدَّعَ القومُ وتَوادَعُوا: وَدَّعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

والتوْدِيعُ عِنْدَ الرَّحِيل، وَالِاسْمُ الوَادع، بِالْفَتْحِ.

قَالَ شَمِرٌ: والتوْدِيعُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ؛ وأَنشد بَيْتَ لَبِيدٍ:

فَوَدِّعْ بالسَّلام أَبا حُرَيْزٍ، ***وقَلَّ وداعُ أَرْبَدَ بالسلامِ

وَقَالَ الْقُطَامِيُّ:

قِفي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ضُباعا، ***وَلَا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْك الوَداعا

أَراد وَلَا يَكُ مِنْكِ مَوْقِفَ الوَداعِ وَلْيَكُنْ مَوْقِفَ غِبْطةٍ وإِقامة لأَنَّ مَوْقِفَ الْوَدَاعِ يَكُونُ لِلفِراقِ وَيَكُونُ مُنَغَّصًا بِمَا يَتْلُوهُ مِنَ التبارِيحِ والشوْقِ.

قَالَ الأَزهريّ: والتوْدِيعُ، وإِن كَانَ أَصلُه تَخْليفَ المُسافِرِ أَهْله وذَوِيه وادِعينَ، فإِنّ الْعَرَبَ تَضَعُهُ مَوْضِعَ التحيةِ وَالسَّلَامِ لأَنه إِذا خَلَّفَ دَعَا لَهُمْ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَقَاءِ ودَعوْا بمثْلِ ذَلِكَ؛ أَلا تَرَى أَن لَبِيدًا قَالَ فِي أَخِيهِ وَقَدْ مَاتَ: " فَوَدِّعْ بِالسَّلَامِ أَبا حُرَيْزٍ "أَراد الدُّعَاءَ لَهُ بِالسَّلَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ رَثَاهُ لَبِيدٌ بِهَذَا الشِّعْرِ وودَّعَه تَوْدِيعَ الْحَيِّ إِذا سَافَرَ، وَجَائِزٌ أَن يَكُونَ التوْدِيعُ تَرْكَه إِياه فِي الخفْضِ والدَّعةِ.

وَفِي نَوَادِرِ الأَعراب: تُوُدِّعَ مِنِّي أَي سُلِّمَ عَلَيَّ.

قَالَ الأَزهري: فَمَعْنَى تُوُدِّعَ مِنْهُمْ أَي سُلِّمَ عَلَيْهِمْ لِلتَّوْدِيعِ؛ وأَنشد ابْنُ السِّكِّيتِ قَوْلَ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَذَكَرَ نَاقَتَهُ:

قاظَتْ أُثالَ إِلى المَلا، وتَرَبَّعَتْ ***بالحَزْنِ عازِبةً تُسَنُّ وتُودَعُ

قَالَ: تُودَعُ أَي تُوَدَّعُ، تُسَنُّ أَي تُصْقَلُ بالرِّعْي.

يُقَالُ: سَنَّ إِبلَه إِذا أَحْسَنَ القِيامَ عَلَيْهَا وصَقَلَها، وَكَذَلِكَ صَقَلَ فَرَسَه إِذا أَراد أَن يَبْلُغَ مِنْ ضُمْرِه مَا يَبْلُغُ الصَّيْقَلُ مِنَ السَّيْفِ، وَهَذَا مَثَلٌ؛ " وَرَوَى شِمْرٌ عَنْ مُحَارِبٍ: ودَّعْتُ فُلَانًا مِنْ وادِع السَّلَامِ.

ووَدَّعْتُ فُلَانًا أَي هَجَرْتُه.

والوَداعُ: القِلى.

والمُوادَعةُ والتَّوادُعُ: شِبْهُ المُصالحةِ والتَّصالُحِ.

والوَدِيعُ: العَهْدُ.

وَفِي حَدِيثِ "طَهْفةَ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَكُمْ يَا بَنِي نهْدٍ ودائِعُ الشِّرْكِ ووضائعُ الْمَالِ»؛ ودائِعُ الشرْكِ؛ أي العُهودُ والمَواثِيقُ، يُقَالُ: أَعْطَيْتُه وَدِيعًا؛ أي عَهْدًا.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَن يُرِيدُوا بِهَا مَا كَانُوا اسْتُودِعُوه مِنْ أَمْوالِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الإِسلام، أَراد إِحْلالَها لَهُمْ لأَنها مَالُ كَافِرٍ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا شرْطٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «مَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ وَلَا مَوْعِدٌ».

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه وادَعَ بَني فُلَانٍ»أَي صالَحَهم وسالَمَهم عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ والأَذى، وَحَقِيقَةُ المُوادعةِ المُتاركةُ أَي يَدَعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «وَكَانَ كَعْبٌ القُرَظِيُّ مُوادِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

وَفِي حَدِيثِ الطَّعَامِ: «غَيْرَ مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ، لا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبّنا»أَي غَيْرَ مَتْرُوكِ الطاعةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الوَداعِ وإِليه يَرْجِعُ.

وتَوادَعَ الْقَوْمُ: أَعْطى بعضُهم بَعْضًا عَهْدًا، وَكُلُّهُ مِنَ الْمُصَالَحَةِ؛ حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ.

وَقَالَ الأَزهري: تَوادَعَ الفَريقانِ إِذا أَعْطى كُلٌّ مِنْهُمُ الآخرِينَ عَهْدًا أَن لَا يَغْزُوَهُم؛ تَقُولُ: وادَعْتُ العَدُوَّ إِذا هادَنْتَه مُوادَعةً، وَهِيَ الهُدْنةُ والمُوادعةُ.

وَنَاقَةٌ مُوَدَّعةٌ: لَا تُرْكَب وَلَا تُحْلَب.

وتَوْدِيعُ الفَحلِ: اقْتِناؤُه للفِحْلةِ.

واسْتَوْدَعه مَالًا وأَوْدَعَه إِياه: دَفَعَه إِليه لِيَكُونَ عِنْدَهُ ودِيعةً.

وأَوْدَعَه: قَبِلَ مِنْهُ الوَدِيعة؛ جَاءَ بِهِ الْكِسَائِيُّ فِي بَابِ الأَضداد؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

اسْتُودِعَ العِلْمَ قِرْطاسٌ فَضَيَّعَهُ، ***فبِئْسَ مُسْتَودَعُ العِلْمِ القَراطِيسُ

وَقَالَ أَبو حَاتِمٍ: لَا أَعرف أَوْدَعْتُه قَبِلْتُ وَدِيعَته، وأَنكره شَمِرٌ إِلا أَنه حَكَى عَنْ بَعْضِهِمُ اسْتَوْدَعَني فُلانٌ بَعِيرًا فأَبَيْتُ أَن أُودِعَه أَي أَقْبَلَه؛ قَالَ الأَزهري: قَالَهُ ابْنُ شُمَيْلٍ فِي كِتَابِ المَنْطِقِ والكسائِيُّ لَا يَحْكِي عَنِ الْعَرَبِ شَيْئًا إِلا وقد ضَبَطَه وحفِظه.

وَيُقَالُ: أَوْدَعْتُ الرَّجُلَ مَالًا واسْتَوْدَعْتُه مَالًا؛ وأَنشد:

يَا ابنَ أَبي وَيَا بُنَيَّ أُمِّيَهْ، ***أَوْدَعْتُكَ اللهَ الَّذِي هُو حَسْبِيَهْ

وأَنشد ابْنِ الأَعرابي:

حَتَّى إِذا ضَرَبَ القُسُوس عَصاهُمُ، ***ودَنا منَ المُتَنَسِّكينَ رُكُوعُ،

أَوْدَعْتَنا أَشْياءَ واسْتَوْدعْتَنا ***أَشْياءَ، ليْسَ يُضِيعُهُنَّ مُضِيعُ

وأَنشد أَيضًا:

إِنْ سَرَّكَ الرّيُّ قُبَيْلَ النَّاسِ، ***فَوَدِّعِ الغَرْبَ بِوَهْمٍ شاسِ

ودِّعِ الغَرْبَ أَي اجْعَلْهُ ودِيعةً لِهَذَا الجَمَل أَي أَلْزِمْه الغَرْبَ.

والوَدِيعةُ: وَاحِدَةُ الوَدائِعِ، وَهِيَ مَا اسْتُودِعَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}؛ المُسْتَوْدَعُ مَا فِي الأَرحام، واسْتَعاره" عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، للحِكْمة والحُجّة فَقَالَ: بِهِمْ يَحفظ اللهُ حُجَجَه حَتَّى يودِعوها نُظراءَهُم ويَزرَعُوها فِي قُلوبِ أَشباهِهِم "؛ وقرأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأَبو عَمْرٍو: " فمستقِرّ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وقرأَ الْكُوفِيُّونَ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَتْحِ وَكُلُّهُمْ قَالَ: فَمُسْتَقِرّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي صُلْبِ الأَب، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَلَكُم فِي الأَرْحامِ مُسْتَقَرٌّ وَلَكُمْ فِي الأَصْلاب مُسْتَوْدَعٌ، وَمَنْ قرأَ فمستقِرّ، بِالْكَسْرِ، فَمَعْنَاهُ فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي الأَحياء وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ فِي الثَّرى.

وَقَالَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أَي مُستَقَرَّها فِي الأَرحام ومُسْتَوْدَعَها فِي الأَرض.

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ يَقُولُ: اصْبِرْ عَلَى أَذاهم.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَدَعْ أَذاهُمْأَي أَعْرِضْ عَنْهُمْ؛ وَفِي شِعْرُ الْعَبَّاسِ يَمْدَحُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي ***مُسْتَوْدَعٍ، حيثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

المُسْتَوْدَعُ: المَكانُ الَّذِي تُجْعَلُ فِيهِ الْوَدِيعَةُ، يُقَالُ: اسْتَوْدَعْتُه ودِيعةً إِذا اسْتَحْفَظْتَه إِيّاها، وأَراد بِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ بِهِ آدمُ وَحَوَّاءُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: أَراد بِهِ الرَّحِمَ.

وطائِرٌ أَوْدَعُ: تحتَ حنَكِه بَيَاضٌ.

والوَدْعُ والوَدَعُ: اليَرْبُوعُ، والأَوْدَع أَيضًا مِنْ أَسماء الْيَرْبُوعِ.

والوَدْعُ: الغَرَضُ يُرْمَى فِيهِ.

والوَدْعُ: وثَنٌ.

وذاتُ الوَدْعِ: وثَنٌ أَيضًا.

وَذَاتُ الوَدْعِ: سَفِينَةَ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُقْسِمُ بِهَا فَتَقُولُ: بِذاتِ الودْع؛ قَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ العبّادِي:

كَلّا، يَمِينًا بذاتِ الوَدْعِ، لَوْ حَدَثَتْ ***فِيكُمْ، وقابَلَ قَبْرُ الماجِدِ الزَّارَا

يُرِيدُ سفينةَ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَحْلِفُ بِهَا وَيَعْنِي بالماجِدِ النُّعمانَ بنَ المنذِرِ، والزَّارُ أَراد الزَّارَةَ بِالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ النُّعْمَانُ مَرِضَ هُنَالِكَ.

وَقَالَ أَبو نَصْرٍ: ذاتُ الودْعِ مكةُ لأَنها كَانَ يُعَلَّقُ عَلَيْهَا فِي سُتُورِها الوَدْعُ؛ وَيُقَالُ: أَراد بِذَاتِ الوَدْعِ الأَوْثانَ.

أَبو عَمْرٍو: الوَدِيعُ المَقْبُرةُ.

والودْعُ، بِسُكُونِ الدَّالِ: جائِرٌ يُحاطُ عَلَيْهِ حائطٌ يَدْفِنُ فِيهِ القومُ مَوْتَاهُمْ؛ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي عَنْ المَسْرُوحِيّ؛ وأَنشد:

لَعَمْرِي، لَقَدْ أَوْفى ابنُ عَوْفٍ عشِيّةً ***عَلَى ظَهْرِ وَدْعٍ، أَتْقَنَ الرَّصْفَ صانِعُهْ

وَفِي الوَدْعِ، لَوْ يَدْري ابنُ عَوْفٍ عشِيّةً، ***غِنى الدهْرِ أَو حَتْفٌ لِمَنْ هُوَ طالِعُهْ

قَالَ الْمَسْرُوحِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي رُوَيْبَةَ بْنِ قُصَيْبةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ يَقُولُ: أَوْفَى رَجُلٍ مِنَّا عَلَى ظَهْرِ وَدْعٍ بالجُمْهُورةِ، وَهِيَ حُرَّةٌ لِبَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ مَا أَنْشَدْناه، قَالَ: فَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتى قُرَيْشًا فأَخبر بِهَا رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ فأَرسل مَعَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ: احْفِرُوه واقرؤوا الْقُرْآنَ عِنْدَهُ واقْلَعُوه، فأَتوه فَقَلَعُوا مِنْهُ فَمَاتَ سِتَّةٌ مِنْهُمْ أَو سَبْعَةٌ وَانْصَرَفَ الْبَاقُونَ ذَاهِبَةً عُقُولُهُمْ فَزَعًا، فأَخبروا صَاحِبَهُمْ فكَفُّوا عَنْهُ، قَالَ: وَلَمْ يَعُدْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحد؛ كُلُّ ذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي عَنْ الْمَسْرُوحِيِّ، وَجَمْعُ الوَدْعِ وُدُوعٌ؛ عَنِ الْمَسْرُوحِيِّ أَيضًا.

والوَداعُ: وادٍ بمكةَ، وثَنِيّةُ الوَداعِ مَنْسُوبَةٌ إِليه.

وَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ اسْتَقْبَلَهُ إِماءُ مكةَ يُصَفِّقْنَ ويَقُلْن:

طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ***مِنْ ثَنيّاتِ الوداعِ،

وجَبَ الشكْرُ عَلَيْنَا، ***مَا دَعا للهِ داعِ

ووَدْعانُ: اسْمُ مَوْضِعٍ؛ وأَنشد اللَّيْثُ: " ببيْض وَدْعانَ بِساطٌ سِيُ "ووادِعةُ: قَبِيلَةٌ إِما أَن تَكُونَ مِنَ هَمْدانَ، وإِمّا أَن تَكُونَ هَمْدانُ مِنْهَا، وموْدُوعٌ: اسْمُ فَرَسِ هَرِمِ بْنِ ضَمْضَمٍ المُرّي، وَكَانَ هَرِمٌ قُتِلَ فِي حَرْبِ داحِسٍ؛ وَفِيهِ تَقُولُ نائحتُه:

يَا لَهْفَ نَفْسِي لَهَفَ المَفْجُوعِ، ***أَنْ لَا أَرَى هَرِمًا عَلَى مَوْدُوعِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


99-لسان العرب (سرغ)

سرغ: ابْنُ الأَعرابي: سُرُوغُ الكَرْمِ قُضْبانُه الرَّطْبةُ، الْوَاحِدُ سَرْغٌ.

وسَرِغَ الرَّجُلُ إِذَا أَكلَ القُطُوفَ مِنَ الْعِنَبِ بأُصُولها، وَقَالَ اللَّيْثُ: هِيَ السُّروع، بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تقدَّمت.

وسَرْغٌ: مَوْضِعٌ مِنَ الشَّامِ قِيلَ إِنَّهُ وَادِي تَبُوكَ، وَقِيلَ بِقُرْبِ تَبُوكَ؛ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي حَدِيثٍ الطاعونِ: «أَنه لَمَّا خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغ لقِيَه الناسُ فأُخْبِرَ أَنَّ الوباءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ»؛ هِيَ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا قَرْية بِوادي تَبوك مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرْحَلةً مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ يَقْربُ مِنْ رِيفِ الشَّامِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


100-لسان العرب (أنف)

أنف: الأَنْفُ: المَنْخَرُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ آنُفٌ وآنافٌ وأُنُوفٌ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

بِيضُ الوُجُوهِ كَريمةٌ أَحْسابُهُمْ، ***فِي كلِّ نائِبَةٍ، عِزازُ الآنُفِ

وَقَالَ الأَعشى:

إِذَا رَوَّحَ الرَاعي اللِّقاحَ مُعَزِّبًا، ***وأَمْسَتْ عَلَى آنافِها غَبَراتُها

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

بِيضُ الوُجُوهِ، كَرِيمةٌ أَحْسابُهُم، ***شُمُّ الأَنُوفِ مِنَ الطِّرازِ الأَوَّلِ

وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الأَنْفَ أَنْفين؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:

يَسُوفُ بأَنْفَيْهِ النِّقاعَ كأَنه، ***عَنِ الرَّوْضِ مِنْ فَرْطِ النَّشاطِ، كَعِيمُ

الْجَوْهَرِيُّ: الأَنْفُ للإِنسان وَغَيْرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ سَبْقِ الحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ: «فليَأْخُذْ بأَنفِه ويَخْرُجْ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: إِنَّمَا أَمَره بِذَلِكَ ليُوهِمَ المُصَلِّين أَن بِهِ رُعافًا، قَالَ: وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الأَدب فِي سَتْرِ العَوْرَة وإخْفاء القَبيحِ، والكنايةِ بالأَحْسَن عَنِ الأَقْبح، قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّجَمُّل والحَياء وطلَبِ السَّلَامَةِ مِنَ النَّاسِ.

وأَنَفَه يَأْنُفُه ويأْنِفُه أَنْفًا: أَصابَ أَنْفَه.

وَرَجُلٌ أُنافيٌّ: عَظِيم الأَنْفِ، وعُضادِيٌّ: عَظِيمُ العَضُد، وأُذانيٌّ: عَظِيمُ الأُذن.

والأَنُوفُ: المرأَةُ الطَّيِّبَةُ رِيحِ الأَنْفِ.

ابْنُ سِيدَهْ: امرأَة أَنُوفٌ طَيِّبَةٌ رِيحِ الأَنف، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: هِيَ الَّتِي يُعْجِبُك شَمُّك لَهَا، قَالَ: وَقِيلَ لأَعرابي تَزَوَّج امرأَة: كَيْفَ رأَيتها؟ فَقَالَ: وجَدْتها رَصُوفًا رَشُوفًا أَنُوفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَبَعِيرٌ مأْنُوفٌ: يُساقُ بأَنْفِه، فَهُوَ أَنِفٌ.

وأَنِفَ الْبَعِيرُ: شَكَا أَنْفَه مِنَ البُرة.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْبَعِيرِ الأَنِفِ والآنِف» أَي أَنه لَا يَرِيمُ التَّشَكِّي، وَفِي رِوَايَةٍ: المُسْلِمون هَيِّنُون لَيِّنُون كَالْجَمَلِ الأَنِفِ أَي المأْنُوفِ، إِنْ قِيدَ انْقادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرةٍ اسْتَناخَ.

وَالْبَعِيرُ أَنِفٌ: مِثْلَ تَعِبَ، فَهُوَ تَعِبٌ، وَقِيلَ: الأَنِفُ الَّذِي عَقَره الخِطامُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِشاشٍ أَو بُرةٍ أَو خِزامةٍ فِي أَنفه فَمَعْنَاهُ أَنه لَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى قَائِدِهِ فِي شَيْءٍ لِلْوَجَعِ، فَهُوَ ذَلُولٌ مُنْقَادٌ، وَكَانَ الأَصل فِي هَذَا أَن يُقَالَ مأْنُوف لأَنه مَفْعول بِهِ كَمَا يُقَالُ مصدورٌ.

وأَنَفَه: جَعَلَهُ يَشْتَكي أَنْفَه.

وأَضاعَ مَطْلَبَ أَنْفِه أَي الرَّحِمَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا؛ عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وأَنشد:

وَإِذَا الكَرِيمُ أَضاعَ مَوْضِع أَنْفِه، ***أَو عِرْضَه لِكَرِيهَةٍ، لَمْ يَغْضَبِ

وَبَعِيرٌ مأْنُوفٌ كَمَا يُقَالُ مَبطونٌ ومَصْدورٌ ومَفْؤُودٌ لِلَّذِي يَشْتَكي بطنَه أَو صَدْرَه أَو فُؤَادَه، وَجَمِيعُ مَا فِي الْجَسَدِ عَلَى هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَرْفَ جاء شاذًّا عنهم.

وقال بَعْضُهُمْ: الجملُ الأَنِفُ الذَّلُولُ، وقال أَبو سَعِيدٍ: الْجَمَلُ الأَنِف الذَّلِيلُ الْمُؤَاتِي الَّذِي يأْنَفُ مِنَ الزَّجْر وَمِنَ الضَّرْبِ، ويُعطي مَا عِنْدَهُ مِنَ السَّيْرِ عَفْوًا سَهْلًا، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى زَجْرٍ وَلَا عِتاب وَمَا لَزِمَهُ مِنْ حَقٍّ صبرَ عَلَيْهِ وَقَامَ بِهِ.

وأَنَفْتُ الرَّجُلَ: ضَرَبْتُ أَنْفَه، وآنَفْتُه أَنا إِينَافًا إِذَا جَعَلْتَهُ يَشْتَكِي أَنْفَه.

وأَنَفَه الماءُ إِذَا بَلَغَ أَنْفَه، زَادَ الْجَوْهَرِيُّ: وَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ فِي النَّهْرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الكِلابِيِّينَ: أَنِفَتِ الإِبلُ إِذَا وقَع الذُّبابُ عَلَى أُنُوفِها وطَلَبَتْ أَماكِنَ لَمْ تَكُنْ تَطْلُبها قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ الأَنَفُ، والأَنَفُ يُؤْذِيها بِالنَّهَارِ؛ وَقَالَ مَعْقِل بْنُ رَيْحانَ:

وقَرَّبُوا كلَّ مَهْرِيٍّ ودَوْسَرَةٍ، ***كالفَحْلِ يَقْدَعُها التَّفْقِيرُ والأَنَفُ

والتَّأْنِيفُ: تَحْدِيدُ طرَفِ الشَّيْءِ.

وأَنْفا القَوْس: الحَدَّانِ اللَّذَانِ فِي بَواطِن السِّيَتَيْن.

وأَنْف النعْلِ: أَسَلَتُها.

وأَنْفُ كلِّ شَيْءٍ: طرَفُه وأَوَّله؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِلْحُطَيْئَةِ:

ويَحْرُمُ سِرُّ جارَتِهِمْ عليهمْ، ***ويأْكلُ جارُهُمْ أَنْفَ القِصاعِ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَيَكُونُ فِي الأَزْمِنَةِ؛ وَاسْتَعْمَلَهُ أَبو خِرَاشٍ فِي اللِّحْيَةِ فَقَالَ:

تُخاصِمُ قَوْمًا لَا تَلَقَّى جوابَهُمْ، ***وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَنْفِ لِحْيَتِكَ اليَدُ

سَمَّى مُقَدَّمَها أَنْفًا، يَقُولُ: فطالتْ لِحْيَتُكَ حَتَّى قبضْتَ عَلَيْهَا وَلَا عَقْلَ لَكَ، مَثَلٌ.

وأَنْفُ النَّابِ: طَرَفُه حِينَ يطْلُعُ.

وأَنْفُ النَّابِ: حَرْفُه وطَرَفُه حِينَ يَطْلُعُ.

وأَنْفُ البَرْدِ: أَشَدُّه.

وجاءَ يَعْدُو وأَنْفَ الشَّدِّ والعَدْوِ أَي أَشدَّه.

يُقَالُ: هَذَا أَنْفُ الشَّدِّ، وَهُوَ أَوّلُ العَدْوِ.

وأَنْفُ البردِ: أَوّله وأَشدُّه.

وأَنْف الْمَطَرِ: أَوّل مَا أَنبت؛ قال" امْرُؤُ الْقَيْسِ:

قَدْ غَدا يَحْمِلُني فِي أَنْفِه ***لاحِقُ الأَيْطَلِ مَحْبُوكٌ مُمَرّ

وَهَذَا أَنْفُ عَمَلِ فُلَانٍ أَي أَوّل مَا أَخذ فِيهِ.

وأَنف خُفّ الْبَعِيرِ: طرَفُ مَنْسِمِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لِكُلِّ شَيْءٍ أُنْفةٌ، وأُنْفَةُ الصلاةِ التَّكْبِيرَةُ الأُولى»؛ أُنفة الشَّيْءِ: ابْتِدَاؤُهُ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رُوِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، قال: وقال الْهَرَوِيُّ الصَّحِيحُ بِالْفَتْحِ، وأَنْفُ الجَبَل نادرٌ يَشْخَصُ ويَنْدُر مِنْهُ.

والمُؤَنَّفُ: المُحَدَّدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

والمُؤَنَّفُ: المُسَوَّى.

وسيرٌ مُؤَنَّفٌ: مَقْدودٌ عَلَى قَدْرٍ واسْتِواء؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعرابي يَصِفُ فَرَسًا: لُهِزَ لَهْزَ العَيْرِ وأُنِّفَ تأْنِيف السَّيْرِ أَي قُدّ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا يَسْتَوِي السَّيْرُ الْمَقْدُودُ.

ورَوْضةٌ أُنُفٌ، بِالضَّمِّ: لَمْ يَرْعَها أَحد، وَفِي الْمُحْكَمِ: لَمْ تُوطَأْ؛ وَاحْتَاجَ أَبو النَّجْمِ إِلَيْهِ فَسَكَّنَهُ فَقَالَ: " أُنْفٌ تَرَى ذِبّانَها تُعَلِّلُهْ "وكَلأٌ أُنُفٌ إِذَا كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَرْعَه أَحد.

وكأْسٌ أُنُفٌ: مَلأَى، وَكَذَلِكَ المَنْهَلُ.

والأُنُفُ: الخَمر الَّتِي لَمْ يُسْتَخْرَجْ مِنْ دَنِّها شَيْءٌ قَبْلَهَا؛ قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَبِيب:

ثُمَّ اصْطَبَحْنا كُمَيْتًا قَرْقَفًا أُنُفًا ***مِنْ طَيِّبِ الرَّاحِ، واللَّذَّاتُ تَعْلِيلُ

وأَرض أُنُفٌ وأَنيفةٌ: مُنْبِتَةٌ، وَفِي التَّهْذِيبِ: بَكَّرَ نباتُها.

وَهِيَ آنَفُ بِلَادِ اللَّهِ أَي أَسْرَعُها نَبَاتًا.

وأَرض أَنِيفةُ النبْتِ إِذَا أَسْرَعتِ النباتَ.

وأَنَف: وَطِئَ كَلأً أُنُفًا.

وأَنَفَتِ الإِبلُ إِذَا وطِئَت كَلَأً أُنُفًا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُرْعَ.

وآنَفْتُها أَنا، فَهِيَ مُؤْنَفَةٌ إِذَا انْتَهَيْتَ بِهَا أَنْفَ المَرْعَى.

يُقَالُ: روضةٌ أُنُف وكأْسٌ أُنُف لَمْ يُشرب بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ كأَنه اسْتُؤْنِفَ شُرْبُهَا مِثْلُ روْضةٍ أُنف.

وَيُقَالُ: أَنَّفَ فُلَانٌ مالَه تأْنيفًا وَآنَفَهَا إِينَافًا إِذَا رَعَّاهَا أُنُف الكلإِ؛ وأَنشد:

لَسْتُ بِذي ثَلَّةٍ مُؤَنَّفَةٍ، ***آقِطُ أَلبانَها وأَسْلَؤُها

وَقَالَ حُمَيْدٌ:

ضَرائرٌ لَيْسَ لَهُنَّ مَهْرُ، ***تأْنِيفُهُنَّ نَقَلٌ وأَفْرُ

أَي رَعْيُهُنَّ الكلأَ الأُنُف هَذَانِ الضرْبانِ مِنَ العَدْو وَالسَّيْرِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي مُسْلِمٍ الخَوْلانيّ.

ووضَعَها فِي أُنُفٍ مِنَ الكلإِ وصَفْوٍ مِنَ الْمَاءِ "؛ الأُنُفُ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ: الكلأَ الَّذِي لَمْ يُرْعَ وَلَمْ تَطَأْه الْمَاشِيَةُ.

واسْتَأْنَفَ الشيءَ وأْتَنَفَه: أَخذ أَوّله وابتدأَه، وَقِيلَ: اسْتَقْبَلَه، وأَنا آتَنِفُه ائْتِنافًا، وَهُوَ افْتعِالٌ مِنْ أَنْفِ الشَّيْءَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِنَّمَا الأَمْرُ أُنُفٌ»أَي يُسْتَأْنَفُ اسْتِئْنَافًا مِنْ غَيْرِ أَن يَسْبِقَ بِهِ سابِقُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيارِك وَدُخُولِكَ فِيهِ؛ استأْنفت الشَّيْءَ إِذَا ابتدأْته.

وَفَعَلْتُ الشَّيْءَ آنِفًا أَي فِي أَول وَقْتٍيقرُب مِنِّي.

واسْتَأْنَفَه بوعْد: ابتدأَه مِنْ غَيْرِ أَن يسأَله إِيَّاهُ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:

وأَنتِ المُنَى، لَوْ كُنْتِ تَسْتَأْنِفيننا ***بوَعْدٍ، ولكِنْ مُعْتَفاكِ جَدِيبُ

أَي لَوْ كُنْتِ تَعِديننا الوَصْل.

وأَنْفُ الشَّيْءِ: أَوّله ومُسْتَأْنَفُه.

والمُؤْنَفَةُ والمُؤَنَّفةُ مِنَ الإِبل: الَّتِي يُتَّبَعُ بِهَا أَنْفُ المَرْعى أَي أَوَّله، وَفِي كِتَابِ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ: أَنْفُ الرِّعْي.

وَرَجُلٌ مِئْنافٌ: يَسْتَأْنِفُ المَراعي والمَنازل ويُرَعِّي مَالَهُ أُنُفَ الكلإِ.

والمؤَنَّفَةُّ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي اسْتُؤْنِفَت بِالنِّكَاحِ أَوّلًا.

وَيُقَالُ: امرأَة مُكَثّفةٌ مؤَنَّفة، وسيأْتي ذِكْرُ المُكَثَّفةِ فِي مَوْضِعِهِ.

وَيُقَالُ للمرأَةِ إِذَا حَمَلَتْ فاشْتَدَّ وحَمُها وتَشَهَّتْ عَلَى أَهلها الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ: إِنَّهَا لتَتَأَنَّفُ الشَّهواتِ تأَنُّفًا.

وَيُقَالُ للحَدِيدِ اللَّيِّن أَنِيفٌ وأَنِيثٌ، بِالْفَاءِ وَالثَّاءِ؛ قَالَ الأَزهري: حَكَاهُ أَبو تراب.

وجاؤوا آنِفًا أَي قُبَيْلًا.

اللَّيْثُ: أَتَيْتُ فُلَانًا أُنُفًا كَمَا تَقُولُ مِنْ ذِي قُبُلٍ.

وَيُقَالُ: آتِيكَ مِنْ ذِي أُنُفٍ كَمَا تَقُولُ مِنْ ذِي قُبُلٍ أَي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَفِعْلُهُ بآنِفةٍ وَآنِفًا؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي وَلَمْ يُفَسِّرْهُ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنه مِثْلُ قَوْلِهِمْ فعَلَه آنِفًا.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مَاذَا قالَ آنِفًا}؛ أَيْ مَاذَا قَالَ الساعةَ فِي أَوّل وَقْتٍ يَقْرُبُ مِنّا، وَمَعْنَى آنِفًا مِنْ قَوْلِكَ استأْنَفَ الشيءَ إِذَا ابتدأَه.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: مَاذَا قَالَ آنِفًا أَي مُذْ سَاعَةٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نزلتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَسْتَمِعُونَ خُطبة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَرَجُوا سأَلوا أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهزاء وَإِعْلَامًا أَنهم لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا قَالَ فَقَالُوا: مَاذَا قالَ آنِفًا؟ " أَي مَاذَا قَالَ السَّاعَةَ.

وَقُلْتُ كَذَا آنِفًا وَسَالِفًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أُنزلت عليَّ سُورَةٌ آنِفًا»أَي الْآنَ.

والاسْتِئنافُ: الِابْتِدَاءُ، وَكَذَلِكَ الائْتِنافُ.

وَرَجُلٌ حَمِيُّ الأَنْف إِذَا كَانَ أَنِفًا يأْنَفُ أَن يُضامَ.

وأَنِفَ مِنَ الشَّيْءِ يأْنَفُ أَنَفًا وأَنَفةً: حَمِيَ، وَقِيلَ: اسْتَنْكَف.

يقال: مَا رأَيت أَحْمَى أَنْفًا وَلَا آنَفَ مِنْ فُلَانٍ.

وأَنِفَ الطعامَ وَغَيْرَهُ أَنَفًا: كَرِهَه.

وَقَدْ أَنِفَ البعيرُ الكَلأَ إِذَا أَجَمَه، وَكَذَلِكَ المرأَةُ والناقةُ والفرسُ تأْنَفُ فَحْلَها إِذَا تبَيَّنَ حملُها فكَرِهَتْه وَهُوَ الأَنَفُ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

حَتَّى إِذَا مَا أَنِفَ التَّنُّوما، ***وخَبَطَ العِهْنَةَ والقَيْصُوما

وقال ابْنُ الأَعرابي: أَنِفَ أَجَمَ، ونَئِفَ إِذَا كَرِه.

قَالَ: وَقَالَ أَعرابي أَنِفَتْ فرَسِي هَذِهِ هَذَا البلَد أَي اجْتَوَتْه وكَرِهَتْه فهُزِلَتْ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: أَنِفْتُ مِنْ قَوْلِكَ لِي أَشَدَّ الأَنَفِ أَي كرِهتُ مَا قُلْتَ لِي.

وَفِي حَدِيثِ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ: «فَحَمِيَ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا»؛ أَنِفَ مِنَ الشَّيْءِ يأْنَفُ أَنَفًا إِذَا كَرِهَهُ وشَرُفَتْ عَنْهُ نفسُه؛ وأَراد بِهِ هَاهُنَا أَخذته الحَمِيّةُ مِنَ الغَيْرَة والغَضَبِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ هُوَ أَنْفًا، بِسُكُونِ النُّونِ، للعُضْوِ؛ أي اشتدَّ غضبُه وغَيْظُه مِنْ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ كَمَا يُقَالُ للمُتَغَيِّظ وَرِمَ أَنْفُه.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ فِي عَهْده إِلَى عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِالْخِلَافَةِ: «فكلُّكم ورِمَ أَنْفُه»أَي اغْتاظَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحسن الْكِنَايَاتِ لأَن المُغْتاظَ يَرِمُ أَنفُه ويَحْمَرُّ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ" أَما إِنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لجَعَلْتَ أَنْفكَ فِي قَفَاكَ "، يُرِيدُ أَعْرَضْتَ عَنِ الحَقِّ وأَقْبَلْتَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: أَراد أَنك تُقْبِلُ بِوَجْهِكَ عَلَى مَن وراءكَ مِنْ أَشْياعِكَ فتُؤْثِرَهُم بِبِرِّك.

وَرَجُلٌ أَنُوفٌ: شديدُ الأَنَفَةِ، وَالْجَمْعُ أُنُفٌ.

وآنَفَه: جعلَه يأْنَفُ؛ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

رَعَتْ بارِضَ البُهْمَى جَمِيمًا وبُسْرَةً ***وصَمْعاء حَتَّى آنَفَتْها نِصالُها

أَي صَيَّرت النِّصالُ هَذِهِ الإِبلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تأْنفُ رَعْيَ مَا رَعَتْه أَي تأْجِمُه؛ وقال ابْنُ سِيدَهْ: يَجُوزُ أَن يَكُونَ آنَفَتْها جَعَلَتْهَا تَشْتَكي أُنوفَها، قَالَ: وَإِنْ شئتَ قُلْتَ إِنَّهُ فاعَلَتْها مِنَ الأَنْف، وَقَالَ عُمارةُ: آنَفَتْها جَعَلَتْهَا تأْنَفُ مِنْهَا كَمَا يأْنَفُ الإِنسانُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الأَصمعي يَقُولُ كَذَا وَإِنَّ أَبا عَمْرٍو يَقُولُ كَذَا، فَقَالَ: الأَصمعي عاضٌّ كَذَا مِنْ أُمِّه، وأَبو عَمْرٍو ماصٌّ كَذَا مِنْ أُمه أَقول وَيَقُولَانِ، فأَخبر الرَّاوِيَةُ ابنَ الأَعرابي بِهَذَا فَقَالَ: صَدَقَ وأَنتَ عَرَّضْتَهما لَهُ، وَقَالَ شَمِرٌ فِي قَوْلِهِ آنَفَتْها نِصالُها قَالَ: لَمْ يَقُلْ أَنَفَتْها لأَن الْعَرَبَ تَقُولُ أَنَفَه وظَهَرَه إِذَا ضَرَبَ أَنْفَه وظهْره، وَإِنَّمَا مَدُّهُ لأَنه أَرَادَ جَعَلَتْهَا النِّصالُ تَشْتَكي أُنُوفَها، يَعْنِي نِصال البُهْمى، وَهُوَ شَوْكُها؛ والجَمِيم: الَّذِي قَدِ ارْتفع وَلَمْ يَتِمّ ذَلِكَ التمامَ.

وبُسْرةً وَهِيَ الغَضّةُ، وصَمْعاء إِذَا امْتلأَ كِمامُها وَلَمْ تَتَفَقَّأْ.

وَيُقَالُ: هاجَ البُهْمى حَتَّى آنَفَتِ الرّاعِيةَ نِصالُها وَذَلِكَ أَن يَيْبَسَ سَفاها فَلَا ترْعاها الإِبل وَلَا غَيْرُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَرِّ، فكأَنَّها جَعَلَتْهَا تأْنَفُ رَعْيها أَي تَكْرَهُهُ.

ابْنُ الأَعرابي: الأَنْفُ السيِّد.

وَقَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَتَتَبَّعُ أَنفه إِذَا كَانَ يَتَشَمَّمُ الرَّائِحَةَ فيَتْبَعُها.

وأَنْفٌ: بلْدةٌ؛ قَالَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ رِبْع الهذَليّ:

مِنَ الأَسَى أَهْلُ أَنْفٍ، يَوْمَ جاءَهُمُ ***جَيْشُ الحِمارِ، فكانُوا عارِضًا بَرِدا

وَإِذَا نَسَبُوا إِلَى بَنِي أَنْفِ الناقةِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَناة قَالُوا: فلانٌ الأَنْفِيُّ؛ سُمُّوا أَنْفِيِّينَ لِقَوْلِ الحُطَيْئةِ فِيهِمْ:

قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، والأَذْنابُ غَيْرُهُمُ، ***ومَنْ يُسَوِّي بأَنْفِ الناقةِ الذَّنَبا؟

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


101-لسان العرب (زهق)

زهق: زهَقَ الشيءُ يَزْهَقُ زُهوقًا، فَهُوَ زاهِقٌ وزَهوقٌ: بطَل وهلَك واضْمَحَلّ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا}.

وزهَقَ الباطلُ إِذَا غَلَبَه الْحَقُّ، وَقَدْ زاهَقَ الحقُّ الباطلَ.

وزَهَق الباطِلُ أي اضْمَحَلّ، وأزْهَقَه اللَّهُ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ}، أَيْ باطِلٌ ذاهِبٌ.

وزُهوقُ النفسِ: بُطْلانُها.

وَقَالَ قَتَادَةُ: وزَهَقَ الْباطِلُ يَعْنِي الشَّيْطَانَ، وزَهَقَتْ نفسُه تَزْهَقُ زُهُوقًا وزَهِقَت، لُغَتَانِ: خَرَجَتْ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ النحرَ فِي الحَلْق واللَّبّة وأقِرُّوا الأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ أَيْ حَتَّى تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الذَّبيحة وَلَا يَبْقَى فِيهَا حَرَكَةٌ، ثُمَّ تُسْلَخُ وَتُقَطَّعُ».

وَقَالَ تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}؛ أَيْ تَخْرُج.

وَفِي الْحَدِيثِ: «دُونَ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وظُلمة وَمَا تَسْمَع نفسٌ مِنْ حِسِّ تِلْكَ الحجُب شَيْئًا إِلَّا زَهَقَتْ»أَيْ هَلَكَتْ وَمَاتَتْ.

وزَهَقَ فلانٌ بَيْنَ أَيْدِينَا يَزْهَقُ زَهْقًا وزُهوقًا وانْزَهقَ، كِلَاهُمَا: سَبَقَ وَتَقَدَّمَ أَمَامَ الْخَيْلِ، وَكَذَلِكَ زهَق الدابّةُ، وَالْمُنْهَزِمُ زَاهقٌ.

ابْنُ السكيت: زَهَقَ الفرسُ وذَهَقَتِ الرَّاحِلَةُ تَزْهَقُ زُهُوقًا إِذَا سَبَقت وتقدَّمت، وَالْجَمْعُ زُهَّق.

وزَهَقَ مُخُّه، فَهُوَ زاهِق إِذَا اكْتَنَزَ، وَهُوَ زاهِقُ المُخِّ.

وفَرَسٌ زَهَقى إِذَا تقدَّم الْخَيْلَ؛ وَأَنْشَدَ: " عَلى قَرًا مِنْ زَهَقى مِزَلِ "والزَّاهِقُ مِنَ الدوابِّ: السَّمِينُ المُمِخُّ.

وزَهَقَتِ الدابَّةُ والناقةُ تَزْهَقُ زُهوقًا: انْتَهَى مُخُّ عَظْمِها واكْتَنَزَ قَصَبُها.

وزَهِقَتْ عِظَامُهُ وأزْهَقَتْ: سَمِنت؛ قَالَ: " وأزْهَقَتْ عِظامُه وأخْلَصا "وَقِيلَ: الزاهِق والزَّهِقُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَ سِمَنهِ سِمَنٌ، وَقِيلَ: الزاهِقُ المُنْقي وَلَيْسَ بِمُتَناهي السِّمَن، وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ الهُزال الَّذِي تَجِد زُهومةَ غُثوثةِ لحمهِ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّقِيقُ المُخّ.

الأَزهري: الزاهِق الَّذِي اكْتَنَزَ لحمُه ومُخُّه.

الأَزهري: الزاهِقُ مِنَ الأَضداد، يُقَالُ الْهَالِكُ زاهقٌ، والسمِينُ مِنَ الدَّوَابِّ زَاهِقٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

القائدُ الخيلِ مَنْكُوبًا دوابِرُها، ***مِنْهَا الشَّنُونُ وَمِنْهَا الزاهِقُ الزَّهِمُ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الزاهِق السَّمينُ والزَّهِمُ أسمَنُ مِنْهُ.

والزُّهومةُ فِي اللَّحْمِ: كَرَاهِيَةُ رائحتِه مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا نَتْنٍ.

وزَهَقَ العظمُ زُهوقًا إِذَا اكْتَنَزَ مُخُّه.

وزَهَقَ المُخُّ إِذَا اكْتَنَزَ، فَهُوَ زاهِق؛ عَنْ يَعْقُوبَ؛ وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ طَارِقٍ.

ومَسَدٍ أمِرَّ مِنْ أيانِقِ، ***لَسْنَ بأنْيابٍ وَلَا حَقائِقِ،

وَلَا ضِعافٍ مُخُّهُنَّ زاهِقُ "فإنَّ الْفَرَّاءَ يَقُولُ: هُوَ مرفوعٌ وَالشِّعْرُ مُكْفَأٌ، يَقُولُ: بَلْ مُخُّهنَّ مُكتَنِزٌ، رفَعَه عَلَى الِابْتِدَاءِ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ وَلَا ضِعافٍ زاهقٍ مُخُّهنَّ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَبُوهُ قائمٍ بالخفضِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَرْفَعَ مُخَّهن بزاهِق فتُقدم الْفَاعِلَ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، مِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؛ وَقَوْلُ الزَّبَّاءِ: " مَا للجِمال مشيُها وَئِيدا؟ وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَقِلْ فِي مَقِيلٍ نَحْسُه مُتَغَيِّبِ "وَقِيلَ: الزاهِق هَاهُنَا بِمَعْنَى الذَّاهِبِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا ضِعافٍ مُخُّهنّ، ثُمَّ رَدَّ الزاهِق عَلَى الضِّعاف؛ وَالَّذِي وَقَعَ فِي شِعْرِ عُثْمَانَ: " عِيسٌ عِتاقٌ ذاتُ مُخٍّ زاهِقِ وَالَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو زَيْدٍ:

لَقَدْ تَعَلَّلت عَلَى أيانِقِ ***صُهْبٍ، قليلاتِ القُرادِ اللّازِقِ،

وذاتِ ألْياطٍ ومُخٍّ زاهِقِ "وبئرٌ زهوقٌ وزاهِقٌ: بعيدةُ القَعْرِ، وَكَذَلِكَ فَجُّ الجبَل المُشْرِفُ؛ وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ مُشْتار الْعَسَلِ:

وأشْعَثَ مالُه فَضَلاتُ ثوْلٍ ***عَلَى أَرْكَانِ مَهْلكَةٍ زَهُوقِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ وَأَشْعَثَ مخفوضٌ بِوَاوِ رُبَّ، وَالْبَيْتُ أَوَّلَ الْقَصِيدَةِ، وجوابُ ربَّ فِيمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:

تأبَّطَ خافَةً فِيهَا مسابٌ، ***فأضْحى يقْتري مَسَدًا بِشِيقِ

والثَّوْلُ: جَمَاعَةُ النَّحْلِ، وَكَذَلِكَ المَفازة النَّائِيَةُ المَهْواةِ.

والزَّهْقُ والزَّهَقُ: الوَهْدةُ وَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِيهَا الدَّوَابُّ فَهَلَكَتْ.

يُقَالُ: أزْهَقَت أَيْدِيهَا فِي الحُفَر؛ وقال رُؤْبَةُ: " تَكادُ أَيْدِيهَا تَهاوى فِي الزَّهَقْ وَأَنْشَدَ أَيْضًا:

كأنَّ أيديهنَّ تَهْوي فِي الزَّهَقْ، ***أيْدي جَوارٍ يتَعاطَيْنَ الوَرَقْ

وَقِيلَ: مَعْنَى الزَّهَق التقدمُ فِي هَذَا الْبَيْتِ.

وانْزَهَقَتِ الدابةُ: تردَّتْ.

وَرَجُلٌ مَزْهوقٌ: مضيَّق عَلَيْهِ.

والقومُ زُهاقُ مِائَةٍ وزِهاق مِائَةٍ أَيْ هُمْ قريبٌ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّقْدِيرِ، كَقَوْلِهِمْ زُهاءُ مِائَةٍ وزِهاءُ مِائَةٍ.

وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: المُزْهِقُ القاتِل، والمُزْهَقُ الْمَقْتُولُ.

وزَهَقَ السهمُ أَيْ جَاوَزَ الهَدَف؛ وأزْهَقَه صاحبُه.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ يَوْمَ الشُّورى فَقَالَ: «إن جابِيًا خيرٌ مِنْ زاهِقٍ»؛ فالزاهِقُ مِنَ السِّهَامِ: الَّذِي وقَع وراءَ الهَدَف دُونَ الإِصابة وَلَا يُصيب، وَالْحَابِي: الَّذِي وقَع دُونَ الهَدَف ثُمَّ زحَفَ إِلَى الهَدَف فَأَصَابَهُ، فَأَخْبَرَ أنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي يُصيب الْحَقَّ خيرٌ مِنَ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يُصيبه، وضَرَبَ الزَّاهِقَ وَالْحَابِيَ مِنَ السِّهام لهما مثلًا.

وأزْهَقْتُ الإِناء: قَلبتُه.

ورأيتُ فُلَانًا مُزْهِقًا أَيْ مُغِذًّا فِي سَيرِهِ.

وفرسٌ ذاتُ أزاهيقَ أَيْ ذاتُ جَرْيٍ سريعٍ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي المصنَّف: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ زَهِقَ، بِالْكَسْرِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ زَهِقَت نَفْسُهُ، بِالْكَسْرِ، تَزْهَقُ زُهوقًا لُغَةٌ فِي زَهَقَت.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ الْهَرَوِيُّ زَهِقَت نفسُه، بِالْكَسْرِ، وَقَالَ ابْنُ القُوطِيّة: زهِقت نفسُه، بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحِ لُغَةٌ.

وَفُلَانٌ زَهِقٌ أَيْ نَزِقٌ.

والزَّهَقُ: المُطْمئن مِنَ الأَرض.

وأزهقَت الدابةُ السَّرْجَ إِذَا قدَّمته وألقتْه عَلَى عُنُقها، وَيُقَالُ بِالرَّاءِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " أَخَافُ أَنْ تُزْهِقَه أَوْ يَنْزرِقْ "قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أنشدَنيه أَبُو الْغَوْثِ بِالزَّايِ.

وانزهقَتِ الدابةُ أَيْ طَفَرت مِنَ الضرْب أَوِ النِّفارِ.

والزُّهْلُوقُ، بِزِيَادَةِ اللَّامِ: السَّمينُ.

قَالَ الأَصمعي فِي إِنَاثِ حُمُرِ الوَحْشِ إِذَا اسْتَوَتْ مُتونُها مِنَ الشَّحْمِ قِيلَ حُمُر زهالِقُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ الزَّهالِقُ وَاحِدُهَا زِهْلِق وَهُوَ الأَمْلَس؛ قَالَ عُمارة: " مِثْل مُتون الحُمُر الزَّهالِق أَبُو عُبَيْدٍ: جَاءَتِ الْخَيْلُ أزاهِقَ وأزاهيقَ، وَهِيَ جماعات في تَفْرِقة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


102-لسان العرب (رغل)

رغل: الرُّغْلَة: القُلْفة كالغُرْلة.

والأَرْغَل: الأَقلف، وَكَذَلِكَ الأَغْرَل.

وغُلام أَرْغَل بَيِّن الرَّغَل أَي أَغْرَل، وَهُوَ الأَقْلَف؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِشَاعِرٍ:

فإِنِّي امْرُؤٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، ***وإِنكِ دارِيَّةٌ ثَيْتَلُ

تَبُول العُنْوقُ عَلَى أَنفه، ***كَمَا بَالَ ذُو الوَدْعة الأَرْغَل

الثَّيْتَل: الوَعِل، والثَّيْتَل فِي هَذَا الْبَيْتِ: الَّذِي يَقْعُدُ مَعَ النِّسَاءِ، والدَّارِيَّة: الَّذِي يَلْزَمُ دَارَهُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنه كَانَ يَكْرَهُ ذَبيحة الأَرْغَل»أَي الأَقلف؛ هُوَ مَقْلُوبُ الأَغْرَل كجَبَذَ وجَذَب.

وَعَيْشٌ أَرْغَلُ وأَغْرَل أَي وَاسْعٌ نَاعِمٌ، وَكَذَلِكَ عَامٌ أَرْغَل.

والرَّغْلة: رَضاعة فِي غَفْلَةٍ.

يُقَالُ: رَغَل الْمَوْلُودُ أُمَّه يَرْغَلها رَغْلًا رَضعها، وخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الجَدْي.

قَالَ الرِّيَاشِيُّ: رَغَل الجَدْيُ أُمَّه وأَرْغَلها رَضعها؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

يَسْبِق فِيهَا الحَمَل العَجِيَّا ***رَغْلًا، إِذا مَا آنَسَ العَشِيَّا

يَقُولُ: إِنه يُبَادِرُ بالعَشِيِّ إِلى الشَّاةِ يَرْغَلُها دُونَ وَلَدِهَا، يَصِفه باللُّؤم.

قَالَ أَبو زَيْدٍ: وَيُقَالُ فُلَانٌ رَمٌّ رَغُولٌ إِذا اغْتَنَم كُلَّ شَيْءٍ وأَكله؛ قَالَ أَبو وَجْزة السَّعْدِيُّ:

رَمٌّ رَغُولٌ، إِذا اغْبَرَّتْ موارِدُه، ***وَلَا ينامُ لَهُ جارٌ، إِذا اخْتَرفا

يَقُولُ: إِذا أَجْدَب لَمْ يَحْتَقِرْ شَيْئًا وشَرِه إِليه، وإِن أَخْصب لَمْ يَنَم جَارُهُ خَوْفًا مِنْ غَائِلَتِهِ.

وفَصِيل رَاغِل أَي لاهِجٌ، ورَغَل البَهْمةُ أُمَّه يَرْغَلُها كَذَلِكَ.

والرَّغْل: البَهْمة لِذَلِكَ، وكأَنه سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

والرَّغُول: الْبَهْمَةُ يَرْغَل أُمَّه أَي يَرْضَعُهَا.

وأَرْغَلَت القَطاةُ فَرْخَها إِذا زَقَّتْه، بِالرَّاءِ وَالزَّايِ؛ وَيُنْشِدُ بَيْتَ ابْنِ أَحمر:

فأَرْغَلَتْ فِي حَلْقه رُغْلةً، ***لَمْ تُخْطئ الْجِيدَ وَلَمْ تَشْفَتِر

بِالرِّوَايَتَيْنِ.

وَفِي حَدِيثِ مِسْعَر: «أَنه قرأَ عَلَى عَاصِمٍ فَلَحن فَقَالَ: أَرْغَلْتَ»؛ أي صِرْت صبيًّا ترضع بعد ما مَهَرْت القراءَة، مِنْ قَوْلِهِمْ رَغَلَ الصَّبيُّ يَرْغَلُ إِذا أَخذ ثَدْيَ أُمه فرضِعَه بِسُرْعَةٍ، وَيُرْوَى بِالزَّايِ لُغَةٌ فِيهِ.

وأَرْغَلَت المرأَةُ، وَهِيَ مُرْغِل: أَرضعت وَلَدَهَا، بِالرَّاءِ وَالزَّايِ جَمِيعًا.

وأَرْغَلَت ولدَها: أَرضعته.

وأَرْغَل إِليه: مَالَ كأَرْغَنَ.

وأَرْغَل أَيضًا: أَخطأَ وَوَضَعَ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

وأَرْغَلَت الإِبلُ عَنْ مَرَاتِعِهَا أَي ضَلَّت.

والرَّغْل: أَن يُجَاوِزَ السُّنْبُل الإِلْحام، وَقَدْ أَرْغَلَ الزرعُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.

والرُّغْل، بِالضَّمِّ: ضَرْبٌ مِنَ الحَمْض، وَالْجَمْعُ أَرْغَال؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الرُّغْل حَمْضة تَنْفَرِشُ وَعِيدَانُهَا صِلاب، وَوَرَقُهَا نَحْوٌ مَنْ وَرَقِ الجَماجم إِلا أَنها بَيْضَاءُ وَمَنَابِتُهَا السُّهُولُ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ:

تَظَلُّ حِفْراه مِنَ التَّهَدُّل ***فِي رَوْضِ ذَفْراء، ورُغْلٍ مُخْجِل

قَالَ اللَّيْثُ: الرُّغْل نَبَاتٌ تُسَمِّيهِ الفُرْس السَّرْمَق وأَنشد: بَاتَ مِنَ الخَلْصاء فِي رُغْل أَغَن "قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: غلِطَ اللَّيْثُ فِي تَفْسِيرِ الرُّغْل أَنه السَّرْمَق، والرُّغْل مِنْ شَجَرِ الحَمْض وَوَرَقُهُ مَفْتُولٌ، والإِبل تُحْمِض بِهِ؛ قَالَ: وأَنشدني أَعرابي وَنَحْنُ بالصَّمَّان:

تَرْعى مِنَ الصَّمَّان رَوْضًا آرِجا، ***ورُغُلًا بَاتَتْ بِهِ لواهِجا

وأَرْغَلَتِ الأَرْضُ: أَنبَتَت الرُّغْل.

ورَغَالِ: الأَمة؛ قَالَتْ دَخْتَنُوس:

فَخْرَ البَغِيِّ بِحِدْج ***رَبَّتِها، إِذا النَّاسُ اسْتَقَلُّوا

لَا رِجْلَها حَمَلَتْ، وَلَا ***لرَغَالِ فِيهِ مُسْتَظَلُ

قَالَ: رَغَالِ هِيَ الأَمة لأَنها تَطْعَم وتَسْتَطْعِم.

ورُغْلان: اسْمٌ.

وأَبو رِغَال: كُنْيَةٌ، وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا عَشَّارًا فِي الزَّمَنِ الأَول جَائِرًا فقَبْره يُرجم إِلى الْيَوْمِ، وَقَبْرُهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَكَانَ عَبْدًا لشُعَيب، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

إِذا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فارجُموه، ***كَمَا تَرْمُون قَبْرَ أَبي رِغال

وَقِيلَ: كَانَ أَبو رِغَال دَلِيلًا لِلْحَبَشَةِ حِينَ تَوَجَّهُوا إِلى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ.

رأَيت حَاشِيَةً هُنَا صُورَتُهَا: أَبو رِغَال اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ مُخْلِفِ عَبْدٌ كَانَ لِصَالِحٍ النَّبِيِّ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، وإِنه أَتى قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ لِبْنٌ إِلا شَاةً وَاحِدَةً، وَلَهُمْ صَبِيٌّ قَدْ مَاتَتْ أُمُّه فَهُمْ يُعاجُونه بِلَبَنِ تِلْكَ الشَّاةِ، يَعْنِي يُغَذُّونه، والعَجِيُّ الَّذِي يُغَذَّى بِغَيْرِ لَبَنِ أُمه، فأَبى أَن يأْخذ غَيْرَهَا، فَقَالُوا: دَعْها نُحابي بِهَا هَذَا الصبيَّ، فأَبى، فَيُقَالُ إِنه نَزَلَتْ بِهِ قَارِعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُقَالُ: بَلْ قَتَله رَبُّ الشَّاةِ، فَلَمَّا فَقَدَهُ صَالِحٍ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَامَ فِي الْمَوْسِمِ يَنْشُدُ النَّاسَ فأُخْبِر بِصَنِيعِهِ فَلَعَنه، فَقَبْرُهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ يَرْجُمه الناس.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


103-لسان العرب (عذل)

عذل: العَذْلُ: اللَّومُ، والعَذُل مثلُه.

عَذَلَهُ يَعْذِلُه عَذْلًا وعَذَّلَه فاعْتَذَل وتَعَذَّلَ: لامَهُ فَقَبِلَ مِنْهُ وأَعْتَبَ، وَالِاسْمُ العَذَلُ، وَهُمُ العَذَلةُ والعُذَّالُ والعُذَّلُ، والعواذِل مِنَ النِّسَاءِ: جَمْعُ العاذِلة وَيَجُوزُ العاذِلات؛ ابن الأَعرابي: العَذْلُ الإِحْراق فكأَنَّ اللَّائِمَ يُحْرِق بعَذْله قلبَ المَعْذول؛ وأَنشد الأَصمعي: " لوَّامةٌ لامَتْ بلَوْمٍ شِهَبِ "وَقَالَ: الشِّهَب أَراد الشِّهاب كأَنَّ لَوْمها يُحْرِقُه.

ورجُلٌ عَذَّالٌ وامرأَة عَذَّالةٌ: كَثِيرَةُ العَذْل؛ قَالَ:

غَدَتْ عَذَّالتايَ فَقُلْتُ: مَهْلًا ***أَفي وَجْدٍ بسَلْمى تَعْذِلاني؟

ورجُلٌ عُذَلةٌ: يَعْذِلُ النَّاسَ كَثِيرًا مِثْلُ ضُحَكة وهُزَأَة.

وَفِي الْمَثَلِ: أَنا عُذَله، وأَخي خُذَله، وَكِلَانَا لَيْسَ بابْنِ أَمَه؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ: إِنما ذَكَرْتُ هَذَا للمَثَل وإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ لأَن فُعَلة مُطَّرد فِي كُلِّ فِعْلٍ ثُلاثي، يَقُولُ: أَنا أَعْذِل أَخي وَهُوَ يَخْذُلني.

وأَيامٌ مُعْتَذِلاتٌ شَدِيدَةُ الحَرِّ كأَنَّ بعضَهايَعْذِلُ بَعْضًا فَيَقُولُ اليومُ مِنْهَا لِصَاحِبِهِ.

أَنا أَشَدُّ حَرًّا مِنْكَ ولِمَ لَا يَكُونُ حَرُّك كَحرِّي؟ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ومُعْتذِلاتُ سُهَيْلٍ أَيامٌ شديداتُ الحَرِّ تَجِيءُ قَبْلَ طُلُوعِهِ أَو بَعْدَهُ؛ وَيُقَالُ: مُعْتَدِلاتٌ، بِدَالٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ، أَي أَنَّهُنَّ قَدِ اسْتَوَيْن فِي شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ أَي أَنهن يَتَعاذَلْن ويأْمر بعضُهن بَعْضًا إِمَّا بشِدَّة الحَرِّ، وإِما بالكَفِّ عَنْهُ.

والعاذِلُ: اسْمُ العِرْق الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ.

وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «تِلْكَ عاذِلٌ تَغْذُو، يَعْنِي تَسيلُ، ورُبما سُمِّي ذَلِكَ العِرْق عاذِرًا، بِالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وأُنِّث عَلَى مَعْنَى العِرْقَةِ، وَجَمْعُ العاذِلِ العرقِ عُذُلٌ مِثْلُ شارِف وشُرُف».

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنه سُئل عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَقَالَ: ذَلِكَ العاذِلُ يَغْذو»، لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوبٍ ولْتُصَلِّ.

وَقَدْ حَمَل سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمُ: اسْتأْصَلَ اللهُ عِرْقاتِهم، عَلَى تَوَهُّم عِرْقة فِي الْوَاحِدِ.

وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: سَبَق السَّيْفُ العَذَلَ، يُضْرَبُ لِمَا قَدْ فَاتَ، وأَصل ذلك أَن الحرث بْنَ ظَالِمٍ ضَرَب رجُلًا فَقَتَله، فأُخْبر بعُذْره فَقَالَ: سَبَق السَّيْفُ العَذَل.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: سَمِعْتُ الْكِلَابِيَّ يَقُولُ رَمى فُلَانٌ فأَخْطأَ ثُمَّ اعْتَذَلَ أَي رَمَى ثَانِيَةً.

ورجُلٌ مُعَذَّلٌ أَي يُعَذَّل لإِفراطه فِي الجُود، شُدِّد لِلْكَثْرَةِ.

وعاذِلٌ: شَعْبان، وَقِيلَ: عاذِلٌ شَوَّالٌ، وَجَمْعُهُ عَواذِل.

قَالَ المُفَضَّل الضَّبِّي: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِشَعْبَانَ عاذِلٌ، وَلِرَمَضَانَ ناتِق، ولشَوَّال وَعْلٌ، وَلِذِي القَعْدة وَرْنَة، وَلِذِي الحِجَّة بُرَك، ولمُحَرَّم مُؤْتَمِر، ولصَفَر ناجِرٌ، ولربيعٍ الأَوّلِ خَوّان، ولرَبيعٍ الآخِر وَبْصانُ، ولجُمادَى الأُولى رُنَّى، ولجُمادَى الْآخِرَةِ حَنِين، ولرَجَب الأَصَمُّ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


104-لسان العرب (غسل)

غسل: غَسَلَ الشَّيْءَ يَغْسِلُه غَسْلًا وغُسْلًا، وَقِيلَ: الغَسْلُ الْمَصْدَرُ مِنْ غَسَلْت، والغُسْل، بِالضَّمِّ، الِاسْمُ مِنَ الِاغْتِسَالِ، يُقَالُ: غُسْل وغُسُل؛ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ:

تَحْتَ الأَلاءة فِي نَوْعَيْنِ مِنْ غُسُلٍ، ***بَاتَا عَلَيْهِ بِتَسْحالٍ وتَقْطارِ

يَقُولُ: يَسِيلُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الشَّجَرَةِ مِنَ الْمَاءِ وَمَرَّةً مِنَ الْمَطَرِ.

والغُسْل: تَمَامُ غَسل الْجَسَدِ كُلِّهِ، وَشَيْءٌ مَغْسول وغَسِيل، وَالْجَمْعُ غَسْلى وغُسَلاء، كَمَا قَالُوا قَتْلى وقُتَلاء، والأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ، وَالْجَمْعُ غَسالى.

الْجَوْهَرِيُّ: مِلْحَفة غَسِيل، وَرُبَّمَا قَالُوا غَسِيلة، يَذْهَبُ بِهَا إِلى مَذْهَبِ النُّعُوتِ نَحْوَ النَّطِيحة؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ أَن يَقُولَ يَذْهَبُ بِهَا مَذْهَبَ الأَسماء مِثْلَ النَّطِيحة والذَّبِيحة والعَصِيدة.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: مَيِّتٌ غَسِيل فِي أَموات غَسْلى وغُسَلاء وَمَيِّتَةٌ غَسيل وغَسِيلة.

الْجَوْهَرِيُّ: والمَغْسِل والمَغْسَل، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، مغسِل الْمَوْتَى.

الْمُحْكَمُ: مَغْسِلُ الْمَوْتَى ومَغْسَلُهم مَوْضِعُ غَسْلهم، وَالْجَمْعُ المَغاسل، وَقَدِ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ.

والغَسُول: الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسل بِهِ، وَكَذَلِكَ المُغتَسَل.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ}؛ والمُغْتَسل: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسل فِيهِ، وَتَصْغِيرُهُ مُغَيْسِل، وَالْجَمْعُ المَغاسِلُ والمَغاسيل.

وَفِي الْحَدِيثِ: وَضَعَتْ لَهُ غُسْلَه مِنَ الْجَنَابَةِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: الغُسْلُ، بِالضَّمِّ، الْمَاءُ الْقَلِيلُ الَّذِي يُغْتَسل بِهِ كالأُكْل لِمَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ الِاسْمُ أَيضًا مِنْ غَسَلْته.

والغَسْل، بِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ: مَا يُغْسل بِهِ مِنْ خِطْميّ وَغَيْرِهِ.

والغِسل والغِسْلَة: مَا يُغْسَل بِهِ الرأْس مِنْ خِطْمِيٍّ وَطِينٍ وأُشْنان وَنَحْوِهِ، وَيُقَالُ غَسُّول؛ وأَنشد شَمِرٌ:

فالرَّحْبَتانِ، فأَكنافُ الجَنابِ إِلى ***أَرضٍ يَكُونُ بِهَا الغَسُّول والرَّتَمُ

وَقَالَ:

تَرْعى الرَّوائِمُ أَحْرارَ الْبُقُولِ، وَلَا ***تَرْعى، كَرَعْيكُم، طَلْحًا وغَسُّولا

أَراد بالغَسُّول الأُشنان وَمَا أَشبهه مِنَ الْحَمْضِ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ: لَا مِثْلَ رعيكُم مِلْحًا وغَسُّولا وأَنشد ابْنُ الأَعرابي لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ دَارَةَ فِي الغِسْل:

فَيَا لَيْلَ، إِن الغِسْلَ مَا دُمْتِ أَيِّمًا ***عَلَيَّ حَرامٌ، لَا يَمَسُّنيَ الغِسْلُ

أَي لَا أُجامع غَيْرَهَا فأَحتاج إِلى الغِسل طَمَعًا فِي تَزَوُّجِهَا.

والغِسْلة أَيضًا: مَا تَجْعَلُهُ المرأَة فِي شَعْرِهَا عِنْدَ الِامْتِشَاطِ.

والغِسْلة: الطِّيبُ؛ يُقَالُ: غِسْلةٌ مُطَرّاة، وَلَا تَقُلْ غَسْلة، وَقِيلَ: هُوَ آسٌ يُطَرَّى بأَفاوِيهَ مِنَ الطِّيبِ يُمْتَشط بِهِ.

واغْتَسَلَ بالطِّيب: كَقَوْلِكَ تضَمَّخ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والغَسُول: كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْت بِهِ رأْسًا أَو ثَوْبًا أَو نَحْوَهُ.

والمَغْسِل: مَا غُسِل فِيهِ الشَّيْءُ.

وغُسالة الثَّوْبِ: مَا خَرَجَ مِنْهُ بالغَسْل.

وغُسالةُ كُلِّ شَيْءٍ: ماؤُه الَّذِي يُغْسَل بِهِ.

والغُسالة: مَا غَسَلْت بِهِ الشَّيْءَ.

والغِسْلِينُ: مَا يُغْسَلُ مِنَ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ كالغُسَالَة.

والغِسْلِينُ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ: مَا يَسِيل مِنْ جُلُودِ أَهل النَّارِ كَالْقَيْحِ وَغَيْرِهِ كأَنه يُغْسل عَنْهُمْ؛ التَّمْثِيلُ لِسِيبَوَيْهِ وَالتَّفْسِيرُ لِلسِّيرَافِيِّ، وَقِيلَ: الغِسْلِينُ مَا انْغَسل مِنْ لُحُومِ أَهل النَّارِ وَدِمَائِهِمْ، زِيدَ فِيهِ الْيَاءُ وَالنُّونُ كَمَا زِيدَ فِي عِفِرِّين؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: عِنْدَ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَن عِفِرِّين مِثْلُ قِنَّسْرِين، والأَصمعي يَرَى أَن عِفِرِّين مُعْرَبٌ بِالْحَرَكَاتِ فَيَقُولُ عفرينٌ بِمَنْزِلَةِ سِنينٍ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ}؛ قَالَ اللَّيْثُ: غِسْلِينٌ شَدِيدُ الْحَرِّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: طَعَامٌ مِنْ طَعَامِ أَهل النَّارِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا أَنْضَجَت النَّارُ مِنْ لُحُومِهِمْ وسَقَط أَكَلوه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الغِسْلِينُ والضَّرِيعُ شَجَرٌ فِي النَّارِ، وَكُلُّ جُرْح غَسَلْتَه فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينٌ، فِعْلِينٌ مِنَ الغَسْل مِنَ الْجَرْحِ والدبَر؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنه مَا يَسِيل مِنْ صَدِيدِ أَهل النَّارِ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِمَّا يَنْغَسِل مِنْ أَبدانهم.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «شَرابُه الحميمُ والغِسْلِينُ»، قَالَ: هُوَ مَا يُغْسَل مِنْ لُحُومِ أَهل النَّارِ وصَدِيدهم.

وغَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ: حَنْظَلَةُ بْنُ أَبي عَامِرٍ الأَنصاري، وَيُقَالُ لَهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُد وغَسَّلَتْه الْمَلَائِكَةُ؛ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأَيت الْمَلَائِكَةَ يُغَسِّلونه وَآخَرِينَ يَسْتُرونه، فسُمِّي غَسِيل الْمَلَائِكَةِ، وأَولاده يُنْسَبون إِليه: الغَسيلِيِّين، وَذَلِكَ أَنه كَانَ أَلمَّ بأَهله فأَعجلَه النَّدْبُ عَنِ الاغتِسال، فَلَمَّا استُشْهِد رأَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملائكةَ يُغَسِّلونه، فأَخبر بِهِ أَهله فذَكَرَتْ أَنه كَانَ أَلمَّ بِهَا.

وغَسَلَ اللهُ حَوْبَتَك أَي إِثْمَك يَعْنِي طهَّرك مِنْهُ، وَهُوَ عَلَى الْمَثَلِ.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «واغْسِلْني بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»أَي طَهِّرْني مِنَ الذُّنُوبِ، وذِكْرُ هَذِهِ الأَشياء مُبَالَغَةٌ فِي التَّطْهِيرِ.

وغَسَلَ الرجلُ المرأَة يَغْسِلُها غَسْلًا: أَكثر نِكَاحَهَا، وَقِيلَ: هُوَ نكاحُه إِيّاها أَكْثَرَ أَو أَقَلَّ، وَالْعَيْنُ الْمُهْمَلَةُ فِيهِ لُغَةٌ.

وَرَجُلٌ غُسَلٌ: كَثِيرُ الضِّراب لامرأَته؛ قَالَ الْهُذَلِيُّ: " وَقْع الوَبِيل نَحاه الأَهْوَجُ الغُسَلُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ واغْتَسَلَ وبَكَّرَ وابتكر فيها ونِعْمَت "؛ قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أَكثر النَّاسِ يَذْهَبُونَ إِلى أَن مَعْنَى غَسَّلَ أَي جَامَعَ أَهله قَبْلَ خُرُوجِهِ لِلصَّلَاةِ لأَن ذَلِكَ يَجْمَعُ غضَّ الطَّرْف فِي الطَّرِيقِ، لأَنه لَا يُؤْمَن عَلَيْهِ أَن يَرَى فِي طَرِيقِهِ مَا يَشْغل قلْبَه؛ قَالَ: وَيَذْهَبُ آخَرُونَ إِلى أَن مَعْنَى قَوْلِهِ غَسَّلَ توضأَ لِلصَّلَاةِ فغَسَلَ جَوَارِحَ الْوُضُوءِ، وثُقِّل لأَنه أَراد غَسْلًا بَعْدَ غَسْل، لأَنه إِذا أَسبغ الْوُضُوءَ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ؛ قَالَ الأَزهري: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُخَفَّفًا مِنْ غَسَلَ، بِالتَّخْفِيفِ، وكأَنه الصَّوَابُ مِنْ قَوْلِكَ غَسَلَ الرجلُ امرأَتَه وغَسَّلَها إِذا جَامَعَهَا؛ وَمِثْلُهُ: فَحْلٌ غُسَلَةٌ إِذا أَكثر طَرْقَها وَهِيَ لَا تَحْمِل؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: يُقَالُ غَسَلَ الرجلُ امرأَتَه، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، إِذا جَامَعَهَا، وَقِيلَ: أَراد غَسَّلَ غيرَه واغْتَسَلَ هُوَ لأَنه إِذا جَامَعَ زَوْجَتَهُ أَحْوَجَها إِلى الغُسْل.

وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ غَسَلَ الميِّتَ فلْيَغْتَسِلْ "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا أَعلم أَحدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ مِنْ غُسْل الْمَيِّتِ وَلَا الْوُضُوءَ مِنْ حَمْلِه، وَيُشْبِهُ أَن يَكُونَ الأَمر فِيهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: الغُسْل مِنْ غسْل الْمَيِّتِ مَسْنُونٌ، وَبِهِ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ؛ قَالَ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وأُحِبُّ الغُسْل من غسْلِ الميِّت، وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنه قَالَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ: وأُنْزِلُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُه الْمَاءُ تقرؤُه نَائِمًا ويَقْظانَ "؛ أَراد أَنه لَا يُمْحَى أَبدًا بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتوا الْعِلْمَ، لَا يأْتيه الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَكَانَتِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ لَا تُجْمَع حِفْظًا وإِنما يُعْتَمَدُ فِي حِفْظِهَا عَلَى الصُّحُفِ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فإِن حُفَّاظَه أَضعاف مُضَاعَفَةٌ لصُحُفِه، وَقَوْلُهُ تقرؤُه نَائِمًا وَيَقْظَانَ أَي تَجْمَعُهُ حِفْظًا فِي حَالَتَيِ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، وَقِيلَ: أَراد تقرؤُه فِي يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ.

وغَسَلَ الفحلُ الناقةَ يَغْسِلُها غَسْلًا: أَكثر ضِرابها.

وَفَحْلٌ غِسْلٌ وغُسَلٌ وغَسِيل وغُسَلة، مِثَالُ هُمَزة، ومِغْسَلٌ: يُكْثِرُ الضِّرَابَ وَلَا يُلَقِّحُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ.

وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ إِذا عَرِق: قَدْ غُسِلَ وَقَدِ اغْتَسَلَ؛ وأَنشد: " وَلَمْ يُنْضَحْ بماءٍ فيُغْسَل وَقَالَ آخَرُ:

وكلُّ طَمُوحٍ فِي العِنانِ كأَنها، ***إِذا اغْتَسَلَتْ بِالْمَاءِ، فَتْخاءُ كاسِرُ

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

لَا تَذْكُروا حُلَلَ المُلوك فإِنكم، ***بَعْدَ الزُّبَيْر، كحائضٍ لَمْ تُغْسَل

أَي تغتَسِل.

وَفِي حَدِيثِ الْعَيْنِ: «العَيْنُ حَقٌّ فإِذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلوا»أَي إِذا طَلَبَ مَن أَصابته العينُ مِنْ أَحد جَاءَ إِلى الْعَائِنِ بقدَح فِيهِ مَاءٌ، فيُدْخل كَفَّهُ فِيهِ فَيَتَمَضْمَضُ، ثُمَّ يمجُّه فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يدَه الْيُسْرَى فَيَصُبُّ عَلَى مِرْفَقِهِ الأَيمن، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى مِرْفَقِهِ الأَيسر، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَغْسِلُ دَاخِلَةَ الإِزارِ، وَلَا يوضَع القدحُ عَلَى الأَرض، ثُمَّ يُصَبُّ ذَلِكَ الْمَاءُ المستعمَل عَلَى رأْس الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ مِنْ خلفِه صبَّة وَاحِدَةً فيبرأُ بإِذن اللَّهِ تَعَالَى.

وغَسَلَه بالسَّوط غَسْلًا: ضرَبه فأَوجعه.

والمَغَاسِلُ: مَوَاضِعُ مَعْرُوفَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ أَوْدِية قِبَل الْيَمَامَةِ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

فَقَدْ نَرْتَعِي سَبْتًا وأَهلُك حِيرةً، ***مَحَلَّ الملوكِ نُقْدة فالمَغَاسِلا

وذاتُ غِسْل: مَوْضِعٌ دُونَ أَرض بَنِي نُمَير؛ قَالَ الرَّاعِي:

أَنَخْنَ جِمالَهنَّ بِذَاتِ غِسْلٍ ***سَراةُ الْيَوْمِ يَمْهَدْن الكُدونا

ابْنُ بَرِّيٍّ: والغَاسُول جَبَلٌ بِالشَّامِ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

تَظَلُّ إِلى الغَاسُول تَرعى، حَزينَةً، ***ثَنايا بِراقٍ ناقتِي بالحَمالِق

وغَاسِلٌ وغَسْوِيل: ضَرْبٌ مِنَ الشَّجَرِ؛ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ:

تَرْعَى الرَّوائمُ أَحْرارَ البُقول بِهَا، ***لَا مِثْلَ رَعْيِكُمُ مِلْحًا وغَسْوِيلا

والغَسْوِيل وغَسْوِيل: نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي السِّبَاخِ، وَعَلَى وَزْنِهِ سَمْوِيل، وَهُوَ طَائِرٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


105-لسان العرب (أثم)

أثم: الإِثْمُ: الذَّنْبُ، وَقِيلَ: هُوَ أَن يعمَل مَا لَا يَحِلُّ لَهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ}.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}؛ أَي مَا أُثِم فِيهِ.

قَالَ الْفَارِسِيُّ: سَمَّاهُ بِالْمَصْدَرِ كَمَا جَعَلَ سِيبَوَيْهِ المَظْلِمة اسْمَ مَا أُخِذ مِنْكَ، وَقَدْ أَثِم يأْثَم؛ قَالَ: " لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِها لَمْ تِيثَمِ أَراد مَا فِي قَوْمِهَا أَحد يفْضُلها.

وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ: «وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ إِيثَم»؛ هِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ فِي آثَم، وَذَلِكَ أَنهم يَكْسِرُونَ حَرْف المُضارَعة فِي نَحْوِ نِعْلَم وتِعْلَم، فَلَمَّا كَسَرُوا الْهَمْزَةَ فِي إِأْثَم انْقَلَبَتِ الْهَمْزَةُ الأَصلية يَاءً.

وتأَثَّم الرَّجُلُ: تابَ مِنَ الإِثْم وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، وَهُوَ عَلَى السَّلْب كأَنه سَلَب ذَاتَهُ الإِثْم بالتوْبة وَالِاسْتِغْفَارِ أَو رامَ ذَلِكَ بِهِمَا.

وَفِي حَدِيثِ مُعاذ: «فأَخْبر بِهَا عِنْدَ موتِه تَأَثُّمًا»أَي تَجَنُّبًا للإِثْم؛ يُقَالُ: تأَثَّم فلانٌ إِذا فَعَل فِعْلًا خرَج بِهِ مِنَ الإِثْم، كَمَا يُقَالُ تَحَرَّج إِذا فَعَلَ مَا يخرُج بِهِ عَنِ الحَرج؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" الْحَسَنِ: مَا عَلِمْنا أَحدًا مِنْهُمْ تَرك الصَّلَاةَ عَلَى أَحدٍ مِنْ أَهْل القِبْلة تأَثُّمًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: كَانُوا إِذا قامَرُوا فَقَمَروا أَطْعَمُوا مِنْهُ وتصدَّقوا، فالإِطعام والصّدَقة مَنْفَعَة، والإِثْم القِمارُ، وَهُوَ أَن يُهْلِك الرجلُ ويذهِب مالَه، وَجَمْعُ الإِثْم آثامٌ، لَا يكسَّر عَلَى غَيْرِ ذلك.

وأَثِم فُلَانٌ، بِالْكَسْرِ، يأْثَم إثْمًا ومَأْثَمًا أَي وَقَعَ فِي الإِثْم، فَهُوَ آثِم وأَثِيمٌ وأَثُومٌ أَيضًا.

وأَثَمَه اللَّهُ فِي كَذَا يَأْثُمُه ويأْثِمُه أَي عدَّه عَلَيْهِ إِثْمًا، فَهُوَ مَأْثُومٌ.

ابْنُ سِيدَهْ: أَثَمَه اللَّهُ يَأْثُمُه عاقَبَه بالإِثْم؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَثَمَه اللَّهُ يَأْثِمُه إِثْمًا وأَثامًا إِذا جَازَاهُ جَزَاءَ الإِثْم، فَالْعَبْدُ مأْثومٌ أَي مَجْزِيٌّ جَزَاءَ إثْمه، وأَنشد الْفَرَّاءُ لنُصيب الأَسود؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَلَيْسَ بنُصيب الأَسود المَرواني وَلَا بنُصيب الأَبيض الْهَاشِمِيِّ:

وهَلْ يَأْثِمَنِّي اللهُ فِي أَن ذَكَرْتُها، ***وعَلَّلْتُ أَصحابي بِهَا لَيْلة النفْرِ؟

ورأَيت هُنَا حَاشِيَةً صورتُها: لَمْ يقُل ابْنُ السِّيرافي إِن الشِّعْر لنُصيب الْمَرْوَانِيِّ، وإِنما الشِّعْرُ لنُصيب بن رياح الأَسود الحُبَكي، مَوْلَى بَنِي الحُبَيك بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ ابن كِنانة، يَعْنِي هَلْ يَجْزِيَنّي اللَّهُ جَزَاءَ إِثْمِي بأَن ذَكَرْتُ هَذِهِ المرأَة فِي غِنائي، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الثَّاءِ وَضَمِّهَا، وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ أَبو مُحَمَّدٍ السِّيرَافِيُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يغلَط فِي هَذَا الْبَيْتِ، يَرْوِيهِ النَّفَرْ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: هَذَا الْبَيْتُ مِنَ الْقَصِيدِ الَّتِي فِيهَا:

أَما وَالَّذِي نادَى مِنَ الطُّور عَبْدَه، ***وعَلَّم آياتِ الذَّبائح والنَّحْر

لَقَدْ زَادَنِي للجَفْر حُبًّا وأَهِله، ***ليالٍ أَقامَتْهُنَّ لَيْلى عَلَى الجَفْر

وَهَلْ يَأْثِمَنِّي اللهُ فِي أَن ذَكَرْتُها، ***وعَلَّلْتُ أَصحابي بِهَا لَيْلَةَ النَّفْر؟

وطيَّرْت مَا بِي مِنْ نُعاسٍ وَمِنْ كَرىً، ***وَمَا بالمَطايا مِنْ كَلال وَمِنْ فَتْرِ

والأَثامُ: جَزاء الإِثْم.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {يَلْقَ أَثامًا}، أَراد مُجازاة الأَثام يَعْنِي الْعُقُوبَةَ.

والأَثامُ والإِثامُ: عُقوبة الإِثمِ؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ.

وسأَل مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ يُونُسَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَلْقَ أَثامًا}، قَالَ: عُقوبةً؛ وأَنشد قَوْلَ بِشْرٍ:

وَكَانَ مقامُنا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، ***بأَبْطَح ذِي المَجازِ لَهُ أَثامُ

قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: تأْويلُ الأَثامِ المُجازاةُ.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَقِي فُلَانٌ أَثامَ ذَلِكَ أَي جَزاء ذَلِكَ، فإِنَّ الْخَلِيلَ وَسِيبَوَيْهِ يَذْهَبَانِ إِلى أَن مَعْنَاهُ يَلْقَ جَزاء الأَثامِ؛ وَقَوْلُ شَافِعٍ اللَّيْثِيِّ فِي ذَلِكَ:

جَزى اللهُ ابنَ عُرْوةَ حَيْثُ أَمْسَى ***عَقُوقًا، والعُقوقُ لَهُ أَثامُ

أَي عُقوبة مُجازاة العُقُوق، وَهِيَ قَطِيعَةُ الرَّحِم.

وَقَالَ اللَّيْثُ: الأَثامُ فِي جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عُقوبة الإِثمِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، يَلْقَ أَثامًا "، قِيلَ: هُوَ وادٍ فِي جَهَنَّمَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَن مَعْنَاهُ يَلْقَ عِقابَ الأَثام.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَن عَضَّ عَلَى شِبذِعِه سَلِمَ مِنَ الأَثام»؛ الأَثامُ، بِالْفَتْحِ: الإِثمُ.

يُقَالُ: أَثِمَ يَأْثَم أَثامًا، وَقِيلَ: هُوَ جَزاء الإِثمِ، وشِبْذِعُه لِسَانُهُ.

وآثَمه، بِالْمَدِّ: أَوقعه فِي الإِثمِ؛ عَنِ الزجَّاج؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ: " بَلْ قُلْت بَعْض القَوْمِ غَيْرُ مُؤْثِمِ "وأَثَّمه، بِالتَّشْدِيدِ: قَالَ لَهُ أَثِمْت.

وتأَثَّم: تحَرَّجَ مِنَ الإِثمِ وكَفَّ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى السَّلْب، كَمَا أَن تَحَرَّجَ عَلَى السّلْب أَيضًا؛ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ:

تَجَنَّبْت هِجْرانَ الحَبيب تأَثُّمًا، ***إِلا إِنَّ هِجْرانَ الحَبيب هُوَ الإِثمُ

وَرَجُلٌ أَثَّامٌ مِنْ قَوْمٍ آثِمِينَ، وأَثِيمٌ مِنْ قَوْمٍ أُثَماء.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: الأَثِيمُ الْفَاجِرُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عُنِيَ بِهِ هُنَا أَبو جَهْلِ بْنُ هِشام، وأَثُومٌ مِنْ قوْم أُثُمٍ؛ التَّهْذِيبُ: الأَثِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الآثِم.

يُقَالُ: آثَمَهُ اللهُ يُؤْثمه، عَلَى أَفْعَله، أَي جَعَلَهُ آثِمًا وأَلفاه آثِمًا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه كَانَ يُلَقِّنُ رَجُلًا إِنَّ شَجرةَ الزَّقُّومِ طَعام الأَثِيم»، وَهُوَ فَعِيل مِنَ الإِثم.

والمَأْثَم: الأَثامُ، وَجَمْعُهُ المَآثِم.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِني أَعوذ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ "؛ المَأْثَمُ: الأَمرُ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ الإِنسان أَو هُوَ الإِثْمُ نفسهُ، وَضْعًا لِلْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الِاسْمِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ}، يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَصْدَرَ أَثِمَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَمْ أَسمع بِهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ اسْمًا كَمَا ذَهَبَ إِليه سِيبَوَيْهِ فِي التَّنْبيت والتَّمْتين؛ وَقَالَ أُمية بْنُ أَبي الصَّلْتِ:

فَلَا لَغْوٌ وَلَا تأْثيمَ فِيهَا، ***وَمَا فاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ

والإِثمُ عِنْدَ بَعْضِهِمُ: الْخَمْرُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلي، ***كذاكَ الإِثمُ تَذْهَبُ بالعُقولِ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنه إِنما سمَّاها إِثْمًا لأَن شُرْبها إِثْم، قَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ أَبي الْعَبَّاسِ:

نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهارا، ***وتَرى المِسْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعارا

أَي نَتَعاوَره بأَيدينا نشتمُّه، قَالَ: والصُّواعُ الطِّرْجِهالةُ، وَيُقَالُ: هُوَ المَكُّوكُ الفارسيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرفاه، وَيُقَالُ: هُوَ إِناء كَانَ يشرَب فِيهِ الملِك.

قَالَ أَبو بَكْرٍ: وَلَيْسَ الإِثمُ مِنْ أَسماء الْخَمْرِ بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ ثَبَتٌ صَحِيحٌ.

وأَثِمَتِ النَّاقَةُ الْمَشْيَ تأْثَمُه إِثْمًا: أَبطأَت؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الأَعشى:

جُمالِيَّة تَغْتَلي بالرِّداف، ***إِذا كَذَبَ الآثِماتُ الهَجِيرَا

يُقَالُ: نَاقَةٌ آثِمَةٌ وَنُوقٌ آثِماتٌ أَي مُبْطِئات.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ كَذِبَ هَاهُنَا خَفِيفَةُ الذَّالِ، قَالَ: وَحَقُّهَا أَن تَكُونَ مُشَدَّدَةً، قَالَ: وَلَمْ تَجِئْ مُخَفَّفَةً إِلا فِي هَذَا الْبَيْتِ، قَالَ: والآثِمات اللَّاتِي يُظنُّ أَنهنَّ يَقْوَيْن عَلَى الهَواجِر، فإِذا أَخْلَفْنه فكأَنهنَّ أَثِمْنَ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


106-لسان العرب (علم)

علم: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ العَلِيم والعالِمُ والعَلَّامُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، وَقَالَ: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ}، وَقَالَ: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، فَهُوَ اللهُ العالمُ بِمَا كَانَ وَمَا يكونُ قَبْلَ كَوْنِه، وبِمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ بعْدُ قَبْل أَنْ يَكُونَ، لَمْ يَزَل عالِمًا وَلَا يَزالُ عَالِمًا بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خافيةٌ فِي الأَرض وَلَا فِي السَّمَاءِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أحاطَ عِلْمُه بِجَمِيعِ الأَشياء باطِنِها وظاهرِها دقيقِها وجليلِها عَلَى أَتَمِّ الإِمْكان.

وعَليمٌ، فَعِيلٌ: مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ للإِنسان الَّذِي عَلَّمه اللهُ عِلْمًا مِنَ العُلوم عَلِيم، كَمَا قَالَ يُوسُفُ للمَلِك: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.

وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ: فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مِنْ عبادِه مَنْ يَخْشَاهُ}، وَأَنَّهُمْ هُمُ العُلمَاء، وَكَذَلِكَ صِفَةُ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ عَلِيمًا بأَمْرِ رَبِّهِ وأَنه وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِلَى مَا عَلَّمه اللَّهُ مِنْ تأْويل الأَحاديث الَّذِي كَانَ يَقْضِي بِهِ عَلَى الْغَيْبِ، فَكَانَ عَلِيمًا بِمَا عَلَّمه اللهُ.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُقْري فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ}، قَالَ: لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْناه، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّن سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنِ ابْنِ عُيَيْنةَ، قلتُ: حَسْبي.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ العِلْم بالخَشْية "؛ قَالَ الأَزهري: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ قولُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}.

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: العالمُ الَّذِي يَعْملُ بِمَا يَعْلَم، قَالَ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

والعِلْمُ: نقيضُ الْجَهْلِ، عَلِم عِلْمًا وعَلُمَ هُوَ نَفْسُه، وَرَجُلٌ عالمٌ وعَلِيمٌ مِنْ قومٍ عُلماءَ فِيهِمَا جَمِيعًا.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَقُولُ عُلَماء مَنْ لَا يَقُولُ إِلَّا عالِمًا.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: لمَّا كَانَ العِلْم قَدْ يَكُونُ الْوَصْفُ بِهِ بعدَ المُزاوَلة لَهُ وطُولِ المُلابسةِ صَارَ كَأَنَّهُ غريزةٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَوَّلِ دُخُولِهِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُتعلِّمًا لَا عالِمًا، فَلَمَّا خَرَجَ بِالْغَرِيزَةِ إِلَى بَابِ فَعُل صَارَ عالمٌ فِي الْمَعْنَى كعَليمٍ، فكُسِّرَ تَكْسيرَه، ثُمَّ حملُوا عَلَيْهِ ضدَّه فَقَالُوا جُهَلاء كعُلَماء، وَصَارَ عُلَماء كَحُلَماء لأَن العِلمَ محْلَمةٌ لِصَاحِبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ عَنْهُمْ فاحشٌ وفُحشاء لَمَّا كَانَ الفُحْشُ مِنْ ضُرُوبِ الْجَهْلِ وَنَقِيضًا للحِلْم، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وجمعُ عالمٍ عُلماءُ، وَيُقَالُ عُلّام أَيْضًا؛ قَالَ يَزِيدُ بْنُ الحَكَم:

ومُسْتَرِقُ القَصائدِ والمُضاهِي، ***سَواءٌ عِنْدَ عُلّام الرِّجالِ

وعَلّامٌ وعَلّامةٌ إِذَا بَالَغْتَ فِي وَصْفِهِ بالعِلْم أَيْ عَالِمٌ جِدًا، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ دَاهِيَةً مِنْ قَوْمٍ عَلّامِين، وعُلّام مِنْ قَوْمٍ عُلّامين؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وعَلِمْتُ الشيءَ أَعْلَمُه عِلْمًا: عَرَفْتُه.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَتَقُولُ عَلِمَ وفَقِهَ أَي تَعَلَّم وتَفَقَّه، وعَلُم وفَقُه أَيْ سادَ العلماءَ والفُقَهاءَ.

والعَلّامُ والعَلّامةُ: النَّسَّابةُ وَهُوَ مِنَ العِلْم.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: رَجُلٌ عَلّامةٌ وَامْرَأَةٌ عَلّامة، لَمْ تَلْحَقِ الْهَاءُ لتأْنيث الموصوفِ بِمَا هِيَ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَحِقَتْ لإِعْلام السَّامِعِ أَنَّ هَذَا الموصوفَ بِمَا هِيَ فِيهِ قَدْ بلَغ الغايةَ والنهايةَ، فَجَعَلَ تأْنيث الصِّفَةِ أَمارةً لِمَا أُريدَ مِنْ تأْنيث الْغَايَةِ والمُبالغَةِ، وسواءٌ كَانَ الموصوفُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ لَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ امْرَأَةٍ عَلّامة وفَرُوقة وَنَحْوِهِ إِنَّمَا لَحِقت لأَن الْمَرْأَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُحْذَفَ فِي المُذكَّر فَيُقَالُ رَجُلٌ فَروقٌ، كَمَا أَنَّ الْهَاءَ فِي قَائِمَةٍ وظَريفة لَمَّا لَحِقَتْ لتأْنيث الْمَوْصُوفِ حُذِفت مَعَ تَذْكِيرِهِ فِي نَحْوِ رَجُلٍ قَائِمٍ وَظَرِيفٍ وَكَرِيمٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الَّذِي لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

وعَلَّمه العِلْم وأَعْلَمه إِيَّاهُ فتعلَّمه، وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَلِمْتُ كأَذِنْت، وأَعْلَمْت كآذَنْت، وعَلَّمْته الشيءَ فتَعلَّم، وَلَيْسَ التشديدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: « إِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّم أَيْ مُلْهَمٌ للصوابِ والخيرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أَيْ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُه} ».

ويقالُ: تَعلَّمْ فِي مَوْضِعِ اعْلَمْ.

وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: « تَعَلَّمُوا أَنَّ رَبَّكم لَيْسَ بأَعور بِمَعْنَى اعْلَمُوا، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَيْسَ يَرَى أحدٌ مِنْكُمْ رَبَّه حَتَّى يَمُوتَ »، كُلُّ هَذَا بِمَعْنَى اعْلَمُوا؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:

تَعَلَّمْ أنَّ خيْرَ الناسِ طُرًّا ***قَتِيلٌ بَيْنَ أحْجارِ الكُلاب

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْبَيْتُ لمعديكرِب بن الحرث بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجْر آكِلِ المُرار الكِنْدي الْمَعْرُوفُ بغَلْفاء يَرْثي أَخَاهُ شُرَحْبِيل، وَلَيْسَ هُوَ لِعَمْرِو بْنِ معديكرب الزُّبَيدي؛ وَبَعْدَهُ:

تَداعَتْ حَوْلَهُ جُشَمُ بنُ بَكْرٍ، ***وأسْلَمَهُ جَعاسِيسُ الرِّباب

قَالَ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ إِلَّا فِي الأَمر؛ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ: " تَعَلَّمْ أنَّ خَيْرَ الناسِ مَيْتًا وقول الحرث بْنِ وَعْلة: فَتَعَلَّمِي أنْ قَدْ كَلِفْتُ بِكُمْ "قَالَ: واسْتُغْني عَنْ تَعَلَّمْتُ بِعَلِمْتُ.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَعَلَّمْتُ أَنَّ فُلَانًا خَارِجٌ بِمَنْزِلَةِ عَلِمْتُ.

وتعالَمَهُ الجميعُ أَيْ عَلِمُوه.

وعالَمَهُ فَعَلَمَه يَعْلُمُه، بِالضَّمِّ: غَلَبَهُ بالعِلْم أَيْ كَانَ أعْلَم مِنْهُ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: مَا كُنْتُ أُراني أَن أَعْلُمَه؛ قَالَ الأَزهري: وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بِالْكَسْرِ فِي يَفْعلُ فَإِنَّهُ فِي بَابِ الْمُغَالَبَةِ يَرْجِعُ إِلَى الرَّفْعِ مِثْلَ ضارَبْتُه فَضَرَبْتُهُ أضْرُبُه.

وعَلِمَ بِالشَّيْءِ: شَعَرَ.

يُقَالُ: مَا عَلِمْتُ بِخَبَرِ قُدُومِهِ أَيْ مَا شَعَرْت.

وَيُقَالُ: اسْتَعْلِمْ لِي خَبَر فُلَانٍ وأَعْلِمْنِيه حَتَّى أَعْلَمَه، واسْتَعْلَمَني الخبرَ فأعْلَمْتُه إِيَّاهُ.

وعَلِمَ الأَمرَ وتَعَلَّمَه: أَتقنه.

وَقَالَ يَعْقُوبُ: إِذَا قِيلَ لَكَ اعْلَمْ كَذَا قُلْتَ قَدْ عَلِمْتُ، وَإِذَا قِيلَ لَكَ تَعَلَّمْ لَمْ تَقُلْ قَدْ تَعَلَّمْتُ؛ وَأَنْشَدَ:

تَعَلَّمْ أنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا ***عَلى مُتَطَيِّرٍ، وَهِيَ الثُّبُور

وعَلِمْتُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلِذَلِكَ أَجازوا عَلِمْتُني كَمَا قَالُوا ظَنَنْتُني ورأَيْتُني وحسِبْتُني.

تَقُولُ: عَلِمْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَاقِلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ عَلِمْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى عَرَفْته وخَبَرْته.

وعَلِمَ الرَّجُلَ: خَبَرَه، وأَحبّ أَنْ يَعْلَمَه أَيْ يَخْبُرَه.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.

وَأَحَبَّ أَنْ يَعْلَمه أَيْ أَنْ يَعْلَمَ مَا هُوَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}.

قَالَ الأَزهري: تَكَلَّمَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، قَالَ: وأبْيَنُ الْوُجُوهِ الَّتِي تأوَّلوا أَنَّ الملَكين كَانَا يُعَلِّمانِ الناسَ وَغَيْرَهُمْ مَا يُسْأَلانِ عَنْهُ، ويأْمران بِاجْتِنَابِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وطاعةِ اللَّهِ فِيمَا أُمِروا بِهِ ونُهُوا عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ حِكْمةٌ لأَن سَائِلًا لَوْ سَأَلَ: مَا الزِّنَا وَمَا اللِّوَاطُ؟ لَوَجَبَ أَنْ يُوقَف عَلَيْهِ وَيُعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ مجازُ إِعْلَامِ المَلَكين الناسَ السحرَ وأمْرِهِما السائلَ بِاجْتِنَابِهِ بَعْدَ الإِعلام.

وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ السَّاحِرَ يَأْتِي الْمَلَكَيْنِ فَيَقُولُ: أخْبراني عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَنْتَهِيَ، فَيَقُولَانِ: نَهَى عَنِ الزِّنَا، فَيَسْتَوْصِفُهما الزِّنَا فيَصِفانِه فيقول: وعمَّا ذا؟ فَيَقُولَانِ: وَعَنِ اللِّوَاطِ، ثُمَّ يقول: وعَمَّا ذا؟ فَيَقُولَانِ: وَعَنِ السِّحْرِ، فَيَقُولُ: وَمَا السِّحْرُ؟ فَيَقُولَانِ: هُوَ كَذَا، فَيَحْفَظُهُ وَيَنْصَرِفُ، فَيُخَالِفُ فَيَكْفُرُ، فَهَذَا مَعْنَى يُعلِّمان إِنَّمَا هُوَ يُعْلِمان، وَلَا يَكُونُ تَعْلِيمُ السِّحْرِ إِذَا كَانَ إعْلامًا كُفْرًا، وَلَا تَعَلُّمُه إِذَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ لِيَجْتَنِبَهُ كُفْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ عَرَفَ الزِّنَا لَمْ يأْثم بِأَنَّهُ عَرَفه إِنَّمَا يأْثم بِالْعَمَلِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ}؛ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ جلَّ ذكرُه يَسَّرَه لأَن يُذْكَر، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَّمَهُ الْبَيانَ" فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَّمَه الْقُرْآنَ الَّذِي فِيهِ بَيانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَّمَهُ البيانَ جَعَلَهُ مميَّزًا، يَعْنِي الإِنسان، حَتَّى انْفَصَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ.

والأَيَّامُ المَعْلُوماتُ: عَشْرُ ذِي الحِجَّة آخِرُها يومُ النَّحْر، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيلُهَا فِي ذِكْرِ الأَيام الْمَعْدُودَاتِ، وَأَوْرَدَهُ الْجَوْهَرِيُّ مُنْكِرًا فَقَالَ: والأَيام المعلوماتُ عَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا يُعْجِبني.

ولقِيَه أَدْنَى عِلْمٍ أَيْ قبلَ كُلِّ شَيْءٍ.

والعَلَمُ والعَلَمة والعُلْمة: الشَّقُّ فِي الشَّفة العُلْيا، وَقِيلَ: فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَن تنشقَّ فتَبينَ.

عَلِمَ عَلَمًا، فَهُوَ أَعْلَمُ، وعَلَمْتُه أَعْلِمُه عَلْمًا، مِثْلُ كَسَرْته أكْسِرهُ كَسْرًا: شَقَقْتُ شَفَتَه العُليا، وَهُوَ الأَعْلمُ.

وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ أَعْلَمُ لِعَلَمٍ فِي مِشْفَرِه الأَعلى، وَإِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي الشَّفَةِ السُّفْلَى فَهُوَ أَفْلَحُ، وَفِي الأَنف أَخْرَمُ، وَفِي الأُذُن أَخْرَبُ، وَفِي الجَفْن أَشْتَرُ، وَيُقَالُ فِيهِ كلِّه أَشْرَم.

وَفِي حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو: « أَنَّهُ كَانَ أَعْلمَ الشَّفَةِ »؛ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: العَلْمُ مَصْدَرُ عَلَمْتُ شَفَتَه أَعْلِمُها عَلْمًا، وَالشَّفَةُ عَلْماء.

والعَلَمُ: الشَّقُّ فِي الشَّفَةِ العُلْيا، والمرأَة عَلْماء.

وعَلَمَه يَعْلُمُه ويَعْلِمُه عَلْمًا: وَسَمَهُ.

وعَلَّمَ نَفسَه وأَعْلَمَها: وَسَمَها بِسِيما الحَرْبِ.

وَرَجُلٌ مُعْلِمٌ إِذَا عُلِم مكانهُ فِي الْحَرْبِ بعَلامةٍ أَعْلَمَها، وأَعْلَمَ حمزةُ يومَ بَدْرٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

فَتَعَرَّفوني، إنَّني أَنَا ذاكُمُ ***شاكٍ سِلاحِي، فِي الحوادِثِ، مُعلِمُ

وأَعْلَمَ الفارِسُ: جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَلامةَ الشُّجعان، فَهُوَ مُعْلِمٌ؛ قَالَ الأَخطل:

مَا زالَ فِينَا رِباطُ الخَيْلِ مُعْلِمَةً، ***وَفِي كُلَيْبٍ رِباطُ اللُّؤمِ والعارِ

مُعْلِمَةً، بِكَسْرِ اللَّامِ.

وأَعْلَم الفَرَسَ: عَلَّقَ عَلَيْهِ صُوفًا أَحْمَرَ أَوْ أَبْيَضَ فِي الْحَرْبِ.

وَيُقَالُ عَلَمْتُ عِمَّتي أَعْلِمُها عَلْمًا، وَذَلِكَ إِذَا لُثْتَها عَلَى رأْسك بعَلامةٍ تُعْرَفُ بِهَا عِمَّتُك؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

ولُثْنَ السُّبُوبَ خِمْرَةً قُرَشيَّةً ***دُبَيْرِيَّةً، يَعْلِمْنَ فِي لوْثها عَلْما

وقَدَحٌ مُعْلَمٌ: فِيهِ عَلامةٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: " رَكَدَ الهَواجِرُ بالمَشُوفِ المُعْلَمِ "والعَلامةُ: السِّمَةُ، وَالْجَمْعُ عَلامٌ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يُفَارِقُ وَاحِدَهُ إلَّا بِإِلْقَاءِ الْهَاءِ؛ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:

عَرَفْت بِجَوِّ عارِمَةَ المُقاما ***بِسَلْمَى، أَوْ عَرَفْت بِهَا عَلاما

والمَعْلَمُ مكانُها.

وَفِي التَّنْزِيلِ فِي صِفَةِ عِيسَى، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ، وقرأَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ "؛ الْمَعْنَى أَنَّ ظُهُورَ عِيسَى وَنُزُولَهُ إِلَى الأَرض عَلامةٌ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ.

وَيُقَالُ لِما يُبْنَى فِي جَوادِّ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَنَازِلِ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ: أَعْلامٌ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ.

والمَعْلَمُ: مَا جُعِلَ عَلامةً وعَلَمًا للطُّرُق وَالْحُدُودِ مِثْلَ أَعلام الحَرَم ومعالِمِه الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « تَكُونُ الأَرض يَوْمَ الْقِيَامَةِ كقُرْصَة النَّقيِّ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحد »، هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: المَعْلَمُ الأَثر.

والعَلَمُ: المَنارُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والعَلامةُ والعَلَم الفصلُ يَكُونُ بَيْنَ الأَرْضَيْنِ.

والعَلامة والعَلَمُ: شَيْءٌ يُنْصَب فِي الفَلَوات تَهْتَدِي بِهِ الضالَّةُ.

وَبَيْنَ الْقَوْمِ أُعْلُومةٌ: كعَلامةٍ؛ عَنْ أَبِي العَمَيْثَل الأَعرابي.

وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِكَالْأَعْلامِ}؛ قَالُوا: الأَعْلامُ الجِبال.

والعَلَمُ: العَلامةُ.

والعَلَمُ: الْجَبَلُ الطَّوِيلُ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: العَلَمُ الْجَبَلُ فَلَمْ يَخُصَّ الطويلَ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

إِذَا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدا عَلَم، ***حَتَّى تناهَيْنَ بِنَا إِلَى الحَكَم

خَلِيفةِ الحجَّاجِ غَيْرِ المُتَّهَم، ***فِي ضِئْضِئِ المَجْدِ وبُؤْبُؤِ الكَرَم

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَيَنْزِلَنَّ إِلَى جَنْبِ عَلَم »، وَالْجَمْعُ أَعْلامٌ وعِلامٌ؛ قَالَ:

قَدْ جُبْتُ عَرْضَ فَلاتِها بطِمِرَّةٍ، ***واللَّيْلُ فَوْقَ عِلامِه مُتَقَوِّضُ

قَالَ كُرَاعٌ: نَظِيرُهُ جَبَلٌ وأَجْبالٌ وجِبالٌ، وجَمَلٌ وأَجْمال وجِمال، وقَلَمٌ وأَقلام وقِلام.

واعْتَلَمَ البَرْقُ: لَمَعَ فِي العَلَمِ؛ قَالَ:

بَلْ بُرَيْقًا بِتُّ أَرْقُبُه، ***بَلْ لَا يُرى إلَّا إِذَا اعْتَلَمَا

خَزَمَ فِي أَوَّل النِّصْفِ الثَّانِي؛ وَحُكْمُهُ: " لَا يُرَى إِلَّا إِذَا اعْتَلَما "والعَلَمُ: رَسْمُ الثوبِ، وعَلَمهُ رَقْمُه فِي أَطْرَافِهِ.

وَقَدْ أَعْلَمَه: جَعَلَ فِيهِ عَلامةً وجعَلَ لَهُ عَلَمًا.

وأَعلَمَ القَصَّارُ الثوبَ، فَهُوَ مُعْلِمٌ، والثوبُ مُعْلَمٌ.

والعَلَمُ: الرَّايَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الجُنْدُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُعْقَد عَلَى الرُّمْحِ؛ فأَما قَوْلُ أَبي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:

يَشُجُّ بِهَا عَرْضَ الفَلاةِ تَعَسُّفًا، ***وأَمَّا إِذَا يَخْفى مِنَ ارْضٍ عَلامُها

فَإِنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ قَالَ فِيهِ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنه أَراد عَلَمُها، فأَشبع الْفَتْحَةَ فنشأَت بَعْدَهَا أَلِفٌ كَقَوْلِهِ: ومِنْ ذَمِّ الرِّجال بمُنْتزاحِ "يُرِيدُ بمُنْتزَح.

وأَعلامُ القومِ: سَادَاتُهُمْ، عَلَى الْمَثَلِ، الواحدُ كَالْوَاحِدِ.

ومَعْلَمُ الطَّرِيقِ: دَلالتُه، وَكَذَلِكَ مَعْلَم الدِّين عَلَى الْمَثَلِ.

ومَعْلَم كلِّ شَيْءٍ: مظِنَّتُه، وَفُلَانٌ مَعلَمٌ لِلْخَيْرِ كَذَلِكَ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الوَسْم والعِلْم، وأَعلَمْتُ عَلَى مَوْضِعِ كَذَا مِنَ الْكِتَابِ عَلامةً.

والمَعْلَمُ: الأَثرُ يُستَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَمْعُهُ المَعالِمُ.

والعالَمُون: أَصْنَافُ الخَلْق.

والعالَمُ: الخَلْق كلُّه، وَقِيلَ: هُوَ مَا احْتَوَاهُ بطنُ الفَلك؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " فخِنْدِفٌ هامةَ هَذَا العالَمِ جَاءَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِ: يَا دارَ سَلْمى يَا اسْلَمي ثمَّ اسْلَمي فأَسَّسَ هَذَا الْبَيْتَ وَسَائِرُ أَبْيَاتِ الْقَصِيدَةِ غَيْرُ مؤسَّس، فعابَ رؤبةُ عَلَى أَبِيهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ ذَهَبَ عَنْكَ أَبا الجَحَّاف مَا فِي هَذِهِ، إِنَّ أَباك كَانَ يَهْمِزُ العالمَ والخاتمَ، يَذْهَبُ إِلَى أَن الْهَمْزَ هَاهُنَا يُخْرِجُهُ مِنَ التأْسيس إِذْ لَا يَكُونُ التأْسيس إِلَّا بالأَلف الْهَوَائِيَّةِ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنْهُمْ: بَأْزٌ، بِالْهَمْزِ، وَهَذَا أَيضًا مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ: قَوْقَأَتِ الدجاجةُ وحلَّأْتُ السَّويقَ ورَثَأَتِ المرأَةُ زوجَها ولَبَّأَ الرجلُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ كُلُّهُ شَاذٌّ لأَنه لَا أَصْلُ لَهُ فِي الْهَمْزِ، وَلَا وَاحِدَ للعالَم مِنْ لَفْظِهِ لأَن عالَمًا جَمَعَ أَشياء مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ جُعل عالَمٌ اسْمًا لِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَ جَمْعًا لأَشياء مُتَّفِقَةٍ، وَالْجَمْعُ عالَمُون، وَلَا يُجْمَعُ شَيْءٌ عَلَى فاعَلٍ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ إِلَّا هَذَا، وَقِيلَ: جَمْعُ العالَم الخَلقِ العَوالِم.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَبِّ الْجِنِّ والإِنس، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَبُّ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ.

قَالَ الأَزهري: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا}؛ وَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْبَهَائِمِ وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ وَهُمْ كُلُّهُمْ خَلق اللَّهِ، وَإِنَّمَا بُعث مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْجِنِّ والإِنس.

وَرُوِيَ" عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألفَ عالَم، الدُّنْيَا مِنْهَا عالَمٌ وَاحِدٌ، وَمَا العُمران فِي الْخَرَابِ إِلَّا كفُسْطاطٍ فِي صَحْرَاءَ "؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى العالمِينَ كُلَّ مَا خَلق اللَّهُ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ جَمْعُ عالَمٍ، قَالَ: وَلَا وَاحِدَ لعالَمٍ مِنْ لَفْظِهِ لأَن عالَمًا جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ جُعل عالَمٌ لِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَ جَمْعًا لأَشياء مُتَّفِقَةٍ.

قَالَ الأَزهري: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ العالَم، وَهُوَ اسْمٌ بُنِيَ عَلَى مِثَالِ فاعَلٍ كَمَا قَالُوا خاتَمٌ وطابَعٌ ودانَقٌ.

والعُلامُ: الباشِق؛ قَالَ الأَزهري: وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْجَوَارِحِ، قَالَ: وَأَمَّا العُلَّامُ، بِالتَّشْدِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي أَنه الحِنَّاءُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَكَاهُمَا جَمِيعًا كُرَاعٌ بِالتَّخْفِيفِ؛ وَأَمَّا قَوْلُ زُهَيْرٍ فِيمَنْ رَوَاهُ كَذَا:

حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ العُلامِ لَهَا ***طارَتْ، وَفِي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ

فَإِنَّ ابْنَ جِنِّي رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَعْبَدِيِّ عَنِ ابْنِ أُخت أَبي الْوَزِيرِ عَنِ ابْنِ الأَعرابي قَالَ: العُلام هُنَا الصَّقْر، قَالَ: وَهَذَا مِنْ طَريف الرِّوَايَةِ وَغَرِيبِ اللُّغَةِ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: لَيْسَ أَحد يَقُولُ إِنَّ العُلَّامَ لُبُّ عَجَم النَّبِق إلَّا الطَّائِيَّ؛ قَالَ:

******يَشْغَلُها ***عَنْ حاجةِ الحَيِّ عُلَّامٌ وتَحجِيلُ

وأَورد ابْنُ بَرِّيٍّ هَذَا الْبَيْتُ مُسْتَشْهِدًا بِهِ عَلَى الْبَاشَقِ بِالتَّخْفِيفِ.

والعُلامِيُّ: الرَّجُلُ الْخَفِيفُ الذكيُّ مأْخوذ مِنَ العُلام.

والعَيْلَمُ: الْبِئْرُ الْكَثِيرَةُ الْمَاءِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " مِنَ العَيالِمِ الخُسُف وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: « قَالَ لِحَافِرِ الْبِئْرِ أَخَسَفْتَ أَم أَعْلَمْتَ »؛ يُقَالُ: أعلَمَ الحافرُ إِذَا وَجَدَ الْبِئْرَ عَيْلَمًا أَيْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ وَهُوَ دُونُ الخَسْفِ، وَقِيلَ: العَيْلَم المِلْحة مِنَ الرَّكايا، وَقِيلَ: هِيَ الْوَاسِعَةُ، وَرُبَّمَا سُبَّ الرجلُ فقيل: يا ابن العَيْلَمِ يَذْهَبُونَ إِلَى سَعَتِها.

والعَيْلَم: الْبَحْرُ.

والعَيْلَم: الْمَاءُ الَّذِي عَلَيْهِ الأَرض، وَقِيلَ: العَيْلَمُ الْمَاءُ الَّذِي عَلَتْه الأَرضُ يَعْنِي المُنْدَفِن؛ حَكَاهُ كُرَاعٌ.

والعَيْلَمُ: التَّارُّ الناعِمْ.

والعَيْلَمُ: الضِّفدَع؛ عَنِ الْفَارِسِيِّ.

والعَيْلامُ: الضِّبْعانُ وَهُوَ ذَكَرُ الضِّباع، وَالْيَاءُ والأَلف زَائِدَتَانِ.

وَفِي خَبَرِ" إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ أَباه ليَجوزَ بِهِ الصراطَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ فَإِذَا هو عَيْلامٌ أَمْدَرُ "؛ هو ذَكَرُ الضِّباع.

وعُلَيْمٌ: اسْمُ رَجُلٍ وَهُوَ أَبُو بَطْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ عُلَيم بْنُ جَناب الْكَلْبِيُّ.

وعَلَّامٌ وأَعلَمُ وَعَبْدُ الأَعلم: أَسْمَاءٌ؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَلَا أَدري إِلَى أَيِّ شَيْءٍ نُسِبَ عَبْدُ الأَعلم.

وَقَوْلُهُمْ: عَلْماءِ بَنُو فُلَانٍ، يُرِيدُونَ عَلَى الْمَاءِ فَيَحْذِفُونَ اللَّامَ تَخْفِيفًا.

وَقَالَ شَمِرٌ فِي كِتَابِ السِّلَاحِ: العَلْماءُ مِنْ أَسماء الدُّروع؛ قَالَ: وَلَمْ أَسمعه إِلَّا فِي بَيْتِ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ:

جَلَّحَ الدَّهرُ فانتَحى لِي، وقِدْمًا ***كانَ يُنْحِي القُوَى عَلَى أَمْثالي

وتَصَدَّى لِيَصْرَعَ البَطَلَ الأَرْوَعَ ***بَيْنَ العَلْماءِ والسِّرْبالِ

يُدْرِكُ التِّمْسَحَ المُوَلَّعَ في اللُّجَّةِ ***والعُصْمَ في رُؤُوسِ الجِبالِ

وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي ترجمة عله.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


107-لسان العرب (سكن)

سكن: السُّكُونُ: ضِدُّ الْحَرَكَةِ.

سَكَنَ الشيءُ يَسْكُنُ سُكونًا إِذَا ذَهَبَتْ حَرَكَتُهُ، وأَسْكَنه هو وسَكَّنه غَيْرُهُ تَسْكينًا.

وَكُلُّ مَا هَدَأَ فَقَدْ سَكَن كَالرِّيحِ والحَرّ وَالْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وسَكَنَ الرَّجُلُ: سَكَتَ، وَقِيلَ: سَكَن فِي مَعْنَى سَكَتَ، وسَكَنتِ الرِّيحُ وسَكَن الْمَطَرُ وسَكَن الْغَضَبُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}؛ قَالَ ابْنُ الأَعرابي: مَعْنَاهُ وَلَهُ مَا حَلَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لأَنهم لَمْ يُنْكِرُوا أَن مَا استقرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلَّهِ أَي هُوَ خَالِقُهُ ومُدَبِّره، فَالَّذِي هُوَ كَذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى.

وَقَالَ أَبو الْعَبَّاسِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}، قَالَ: إِنَّمَا السَّاكِنُ مِنَ النَّاسِ والبهائم خاصة، قال: وسَكَنَ هَدَأَ بَعْدَ تَحَرُّك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعلم، الخَلْق.

أَبو عُبَيْدٍ: الخَيْزُرَانَةُ السُّكّانُ، وَهُوَ الكَوْثَلُ أَيضًا.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: الجَذَفُ السُّكّان فِي بَابِ السُّفُن.

اللَّيْثُ: السُّكّانُ ذَنَب السَّفِينَةِ الَّتِي بِهِ تُعَدَّل؛ وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: " كسُكّانِ بُوصِيٍّ بدَجْلَةَ مُصْعِدِ ".

وسُكَّانُ السَّفِينَةِ عَرَبِيٌّ.

والسُّكّانُ: مَا تُسَكَّنُ بِهِ السفينة تمنع به من الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ.

والسِّكِّين: المُدْية، تُذَكَّرُ وتؤَنث؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فعَيَّثَ فِي السَّنامِ، غَداةَ قُرٍّ، ***بِسِكِّينٍ مُوَثَّقَةِ النِّصابِ

وَقَالَ أَبو ذؤَيب:

يُرَى ناصِحًا فِيمَا بَدا، وَإِذَا خَلا ***فَذَلِكَ سِكِّينٌ، عَلَى الحَلْقِ، حاذقُ

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: لَمْ أَسمع تأْنيث السِّكِّين، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: قَدْ سَمِعَهُ الْفَرَّاءُ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّذْكِيرُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ أَبو حَاتِمٍ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ: " بسِكِّينٍ مُوَثَّقَة النِّصابِ.

هَذَا الْبَيْتُ لَا تَعْرِفُهُ أَصحابنا.

وَفِي الْحَدِيثِ: « فَجَاءَ المَلَك بسِكِّين دَرَهْرَهَةٍ »أَي مُعْوَجَّة الرأْس؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ذَكَرَهُ ابْنُ الجَوَالِيقي فِي المُعَرَّب فِي بَابِ الدَّالِ، وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ.

ابْنُ سِيدَهْ: السِّكِّينَة لُغَةٌ فِي السِّكِّين؛ قَالَ:

سِكِّينةٌ مِنْ طَبْعِ سَيْفِ عَمْرِو، ***نِصابُها مِنْ قَرْنِ تَيْسٍ بَرِّي

وَفِي حَدِيثِ المَبْعَثِ: « قَالَ المَلَكُ لَمَّا شَقَّ بَطْنَه إيتِني بالسِّكِّينة »؛ هِيَ لُغَةٌ فِي السِّكِّين، وَالْمَشْهُورُ بِلَا هَاءٍ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَنَّ سَمِعْتُ بالسِّكِّين إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، مَا كُنَّا نُسَمِّيهَا إلَّا المُدْيَةَ »؛ وَقَوْلُهُ أَنشده يَعْقُوبُ:

قَدْ زَمَّلُوا سَلْمَى عَلَى تِكِّين، ***وأَوْلَعُوها بدَمِ المِسْكِينِ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَراد عَلَى سِكِّين فأَبدل التَّاءَ مَكَانَ السِّينِ، وَقَوْلُهُ: بِدَمِ الْمِسْكِينِ أَي بإِنسان يأْمرونها بِقَتْلِهِ، وصانِعُه سَكّانٌ وسَكَاكِينيٌّ؛ قَالَ: الأَخيرة عِنْدِي مولَّدة لأَنك إِذَا نَسَبْتَ إِلَى الْجَمْعِ فَالْقِيَاسُ أَن تَردّه إِلَى الْوَاحِدِ.

ابْنُ دُرَيْدٍ: السِّكِّين فِعِّيل مِنْ ذَبَحْتُ الشيءَ حَتَّى سَكَنَ اضْطِرَابُهُ؛ وَقَالَ الأَزهري: سُمِّيَتْ سِكِّينًا لأَنها تُسَكَّنُ الذَّبِيحَةَ أَي تُسَكنها بِالْمَوْتِ.

وَكُلُّ شَيْءٍ مَاتَ فَقَدْ سَكَنَ، وَمِثْلُهُ غِرِّيد لِلْمُغَنِّي لِتَغْرِيدِهِ بِالصَّوْتِ.

وَرَجُلٌ شِمِّير: لتَشْمِيره إِذَا جَدَّ فِي الأَمر وَانْكَمَشَ.

وسَكَنَ بِالْمَكَانِ يَسْكُنُ سُكْنَى وسُكُونًا: أَقام؛ قَالَ كثيِّر عَزَّةَ:

وَإِنْ كَانَ لَا سُعْدَى أَطالتْ سُكُونَهُ، ***وَلَا أَهْلُ سُعْدَى آخِرَ الدَّهْرِ نازِلُهْ

فَهُوَ سَاكِنٌ مِنْ قَوْمٍ سُكّان وسَكْنٍ؛ الأَخيرة اسْمٌ لِلْجَمْعِ، وَقِيلَ: جَمْعٌ عَلَى قول الأَخفش.

وأَسْكَنه إياه وسَكَنْتُ داري وأَسْكَنْتها غَيْرِي، وَالِاسْمُ مِنْهُ السُّكْنَى كَمَا أَن العُتْبَى اسْمٌ مِنَ الإِعْتاب، وَهُمْ سُكّان فُلَانٍ، والسُّكْنَى أَن يُسْكِنَ الرجلَ مَوْضِعًا بِلَا كِرْوَة كالعُمْرَى.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: والسَّكَن أَيضًا سُكْنَى الرَّجُلِ فِي الدَّارِ.

يُقَالُ: لَكَ فِيهَا سَكَنٌ.

أَي سُكْنَى.

والسَّكَنُ والمَسْكَنُ والمَسْكِن: الْمَنْزِلُ وَالْبَيْتُ؛ الأَخيرة نَادِرَةٌ، وأَهل الْحِجَازِ يَقُولُونَ مَسْكنٌ، بِالْفَتْحِ.

والسَّكْنُ: أَهل الدَّارِ، اسْمٌ لِجَمْعِ ساكِنٍ كَشَارِبٍ وشَرْبٍ؛ قَالَ سَلامة بْنُ جَنْدَل:

لَيْسَ بأَسْفَى وَلَا أَقْنَى وَلَا سَغِلٍ، ***يُسْقَى دواءَ قَفِيِّ السَّكْنِ مَرْبُوبِ

وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ لِذِي الرُّمَّةِ:

فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلوا ***عَنِ الدارِ، والمُسْتَخْلَفِ المُتَبَدَّلِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَي صَارَ خَلَفًا وبَدَلًا للظباءِ وَالْبَقَرِ، وَقَوْلُهُ: فَيَا كَرَمَ يَتَعَجَّب مِنْ كَرَمِهِمْ.

والسَّكْنُ: جَمْعُ سَاكِنٌ كصَحْب وَصَاحِبٍ.

وَفِي حَدِيثِ يأْجوج ومأْجوج: « حَتَّى إِنَّ الرُّمَّانة لتُشْبِعُ السَّكْنَ »؛ هو بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ لأَهل الْبَيْتِ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: السَّكْنُ أَيضًا جِمَاعُ أَهل الْقَبِيلَةِ.

يُقَالُ: تَحَمَّلَ السَّكْنُ فَذَهَبُوا.

والسَّكَنُ: كُلُّ مَا سَكَنْتَ إِلَيْهِ واطمأْنَنت بِهِ مِنْ أَهل وَغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ السَّكَنُ لِمَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}.

والسَّكَنُ: المرأَة لأَنها يُسْكَنُ إِلَيْهَا.

والسَّكَنُ: الساكِنُ؛ قال الراجز:

لِيَلْجَؤُوا مِنْ هَدَفٍ إِلَى فَنَنْ، ***إِلَى ذَرَى دِفْءٍ وظِلٍّ ذِي سَكَنْ

وَفِي الْحَدِيثِ: « اللهم أَنْزِلْ علينا في أَرضنا سَكَنَها» أَي غِيَاثَ أَهلها الَّذِي تَسْكُن أَنفسهم إِلَيْهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْكَافِ.

اللَّيْثُ: السَّكْنُ السُّكّانُ.

والسُّكْنُ: أَن تُسْكِنَ إِنْسَانًا مَنْزِلًا بِلَا كِرَاءٍ، قَالَ: والسَّكْنُ الْعِيَالُ أَهلُ الْبَيْتِ، الْوَاحِدُ ساكِنٌ.

وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: « السُّكْنُ القُوتُ».

وَفِي حَدِيثِ الْمَهْدِيِّ: « حَتَّى إنَّ العُنْقود لَيَكُونُ سُكْنَ أَهل الدَّارِ»؛ أي قُوتَهم مِنْ بَرَكَتِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّزْل، وَهُوَ طَعَامُ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَيْهِ.

والأَسْكانُ: الأَقْواتُ، وَقِيلَ للقُوتِ سُكْنٌ لأَن الْمَكَانَ بِهِ يُسْكَنُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ نُزْلُ الْعَسْكَرِ لأَرزاقهم الْمُقَدِّرَةِ لَهُمْ إِذَا أُنزِلوا مَنْزِلًا.

وَيُقَالُ: مَرْعًى مُسْكِنٌ إِذَا كَانَ كَثِيرًا لَا يُحْوج إِلَى الظَّعْن، كَذَلِكَ مَرْعًى مُرْبِعٌ ومُنْزِلٌ.

قَالَ: والسُّكْنُ المَسْكَن.

يُقَالُ: لَكَ فِيهَا سُكْنٌ وسُكْنَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وسُكْنى المرأَة: المَسْكَنُ الَّذِي يُسْكنها الزَّوْجُ إِيَّاهُ.

يُقَالُ: لَكَ دَارِي هَذِهِ سُكْنَى إِذَا أَعاره مَسْكنًا يَسْكُنه.

وسُكّانُ الدَّارِ: هُمُ الْجِنُّ الْمُقِيمُونَ بِهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا اطَّرَفَ دَارًا ذَبَحَ فِيهَا ذَبيحة يَتَّقي بِهَا أَذَى الْجِنِّ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبَائِحِ الْجِنِّ.

والسَّكَنُ، بِالتَّحْرِيكِ: النَّارُ؛ قَالَ يَصِفُ قَنَاةً ثَقَّفَها بِالنَّارِ والدُّهن: " أَقامها بسَكَنٍ وأَدْهان وَقَالَ آخَرُ:

أَلْجَأَني الليلُ وريحٌ بَلَّهْ ***إِلَى سَوادِ إِبلٍ وثَلَّهْ،

وسَكَنٍ تُوقَدُ فِي مِظَلَّهْ "ابْنُ الأَعرابي: التَّسْكِينُ تَقْوِيمُ الصَّعْدَةِ بالسَّكَنِ، وَهُوَ النَّارُ.

والتَّسْكين: أَن يَدُومَ الرَّجُلُ عَلَى رُكُوبِ السُّكَيْنِ، وَهُوَ الْحِمَارُ الْخَفِيفُ السَّرِيعُ، والأَتانُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ سُكَيْنة، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْجَارِيَةُ الْخَفِيفَةُ الرُّوح سُكَيْنة.

قَالَ: والسُّكَيْنة أَيضًا اسْمُ البَقَّة الَّتِي دَخَلَتْ فِي أَنف نُمْروذَ بْنِ كَنْعان الْخَاطِئِ فأَكلت دماغَه.

والسُّكَيْنُ: الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ؛ قَالَ أَبو دُواد:

دَعَرْتُ السُّكَيْنَ بِهِ آيِلًا، ***وعَيْنَ نِعاجٍ تُراعي السِّخالا

والسَّكينة: الوَدَاعة والوَقار.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ فِيهِ مَا تَسْكُنُون بِهِ إِذَا أَتاكم؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالُوا إِنَّهُ كَانَ فِيهِ مِيرَاثُ الأَنبياء وعصا موسى وعمامة هرون الصَّفْرَاءُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ رأْس كرأْس الهِرِّ إِذَا صَاحَ كَانَ الظَّفَرُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ: إِنَّ السَّكينة لَهَا رأْس كرأْس الهِرَّة مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ ولها جناحان.

قال الْحَسَنُ: " جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي التَّابُوتِ سَكِينة لَا يَفِرُّون عَنْهُ أَبدًا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ.

الْفَرَّاءُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ أَنزل اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكينة للسَّكينة.

وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: « أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: يَا مِسْكِينة عَلَيْكِ السَّكِينةَ »؛ أَراد عَلَيْكِ الوَقارَ والوَداعَة والأَمْنَ.

يُقَالُ: رَجُلٌ وَدِيعَ وقُور سَاكِنٌ هَادِئٌ.

وَرُوِيَ عَنِ" ابْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ: السَّكِينةَ مَغْنَم وَتَرْكُهَا مَغْرَم، وَقِيلَ: أَراد بِهَا هَاهُنَا الرَّحْمَةَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينة تَحْمِلُهَا الْمَلَائِكَةُ».

وَقَالَ شَمِرٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ السَّكِينة الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الطمأْنينة، وَقِيلَ: هِيَ النَّصْرُ، وَقِيلَ: هِيَ الوَقار وَمَا يَسْكُن بِهِ الإِنسان.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ} مَا تَسْكُنُ بِهِ قلوبُهم.

وَتَقُولُ للوَقُور: عَلَيْهِ السُّكون والسَّكِينة؛ أَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لأَبي عُرَيْف الكُلَيبي:

للهِ قَبْرٌ غالَها، ماذا يُجِنْنَ، ***لَقَدْ أَجَنَّ سَكِينةً ووَقَارا

وَفِي حَدِيثِ الدَّفْع مِنْ عَرَفَةَ: « عَلَيْكُمُ السَّكِينةَ والوَقارَ والتَّأَنِّيَ فِي الْحَرَكَةِ وَالسَّيْرِ».

وَفِي حَدِيثِ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ: « فلْيأْتِ وَعَلَيْهِ السَّكِينة».

وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: « كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغَشِيَتْه السَّكِينةُ »؛ يُرِيدُ مَا" كَانَ يَعْرِضُ لَهُ مِنَ السُّكُونِ والغَيْبة عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَن السَّكينة تَكَلَّمُ عَلَى لسانِ عُمَرَ »؛ قِيلَ: هُوَ مِنَ الْوَقَارِ وَالسُّكُونِ، وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: أَراد السَّكِينَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّهَا حَيَوَانٌ لَهُ وَجْهٌ كَوَجْهِ الإِنسان مُجتَمِع، وسائِرُها خَلْقٌ رَقِيقٌ كَالرِّيحِ والهواء، وقيل: هي صُورة كالهِرَّة كَانَتْ مَعَهُمْ فِي جُيوشهم، فإِذا ظَهَرَتِ انْهَزَمَ أَعداؤُهم، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانُوا يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعطيها مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ: والأَشْبه بِحَدِيثِ عُمَرَ أَن يَكُونَ مِنَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِنَاءِ الْكَعْبَةِ: « فأَرسل اللَّهُ إِلَيْهِ السَّكينة »؛ وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ؛ أي سَرِيعَةُ المَمَرِّ.

والسَّكِّينة: لُغَةٌ فِي السَّكينة؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ، وَلَا نَظِيرَ لَهَا وَلَا يُعْلَمُ فِي الْكَلَامِ فَعِّيلة.

والسِّكِّينةُ، بِالْكَسْرِ: لُغَةٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ مِنْ تَذْكِرَةِ أَبي عَلِيٍّ.

وتَسَكَّنَ الرَّجُلُ: مِنَ السَّكِينة والسَّكِّينة.

وَتَرَكْتُهُمْ عَلَى سَكِناتِهم ومَكِناتِهم ونَزِلاتِهم ورَباعَتهم ورَبَعاتهم أَي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ وحُسْن حَالِهِمْ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: عَلَى مَسَاكِنِهِمْ، وَفِي الْمُحْكَمِ: عَلَى مَنازلهم، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْجَيِّدُ لأَن الأَول لَا يُطَابِقُ فِيهِ الِاسْمُ الْخَبَرَ، إِذ الْمُبْتَدَأُ اسْمٌ وَالْخَبَرُ مَصْدَرٌ، فَافْهَمْ.

وَقَالُوا: تَرَكْنَا الناسَ عَلَى مُصاباتهم أَي عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ.

والسَّكِنة، بِكَسْرِ الْكَافِ: مَقَرُّ الرأْس مِنَ الْعُنُقِ؛ وَقَالَ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقيّ وَكُنْيَتُهُ أَبو الطَّحَّان:

بِضَرْبٍ يُزِيلُ الهامَ عَنْ سَكِناتِه، ***وطَعْنٍ كتَشْهاقِ العَفا هَمَّ بالنَّهْقِ

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: اسْتَقِرُّوا عَلَى سَكِناتكم فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ »أَي عَلَى مَوَاضِعِكُمْ وَفِي مسَاكنكم، وَيُقَالُ: وَاحِدَتُهَا سَكِنة مِثْلُ مَكِنة ومَكِنات، يَعْنِي أَن اللَّهَ قَدْ أَعز الإِسلام، وأَغنى عَنِ الْهِجْرَةِ والفِرار عَنِ الْوَطَنِ خَوْفَ الْمُشْرِكِينَ.

وَيُقَالُ: النَّاسُ عَلَى سَكِناتهم أَي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَالَ زامِل بْنُ مُصاد العَيْني:

بِضَرْبٍ يُزِيلُ الهامَ عَنْ سَكِناته، ***وطَعْنٍ كأَفواه المَزاد المُخَرَّق

قَالَ: وَقَالَ طُفَيل:

بضرْبٍ يُزيل الهامَ عَنْ سَكِناته، ***ويَنْقَعُ مِنْ هامِ الرِّجَالِ المُشَرَّب

قَالَ: وَقَالَ النَّابِغَةُ:

بضربٍ يُزيلُ الهامَ عَنْ سَكِناته، ***وطعن كإِيزاغِ الْمَخَاضِ الضَّوارب

والمِسْكينُ والمَسْكِين؛ الأَخيرة نَادِرَةٌ لأَنه لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعيل: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يَكْفِي عِيَالَهُ، قَالَ أَبو إسحق: الْمِسْكِينُ الَّذِي أَسْكَنه الفقرُ أَي قَلَّلَ حركتَه، وَهَذَا بِعِيدٍ لأَن مِسْكينًا فِي مَعْنَى فَاعِلٍ، وَقَوْلُهُ الَّذِي أَسْكَنه الفقرُ يُخْرجه إِلى مَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ المِسْكين وَالْفَقِيرِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ هُنَا شَيْئًا، وَهُوَ مِفْعيل مِنَ السُّكُونِ، مِثْلُ المِنْطيق مِنَ النُّطْق.

قَالَ ابْنُ الأَنباري: قَالَ يُونُسُ الْفَقِيرُ أَحسن حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ بَعْضُ مَا يُقيمه، وَالْمِسْكِينُ أَسوأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ السِّكِّيتِ؛ قَالَ يُونُسُ: وَقُلْتُ لأَعرابي أَفقير أَنت أَم مِسْكِينٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ مِسْكِينٌ، فأَعلم أَنه أَسوأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ؛ وَاحْتَجُّوا عَلَى أَن الْمِسْكِينَ أَسوأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ بِقَوْلِ الرَّاعِي:

أَما الفقيرُ الَّذِي كانَتْ حَلوبَتُه ***وَفْق العِيال، فَلَمْ يُترَك لَهُ سَبَدُ

فأَثبت أَن لِلْفَقِيرِ حَلوبة وَجَعَلَهَا وفْقًا لِعِيَالِهِ؛ قَالَ: وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا كَقَوْلِ يُونُسَ.

وَرُوِيَ عَنِ الأَصمعي أَنه قَالَ: الْمِسْكِينُ أَحسن حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وإِليه ذَهَبَ أَحمد بْنُ عُبَيْد، قَالَ: وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا لأَن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ؛ فأَخبر أَنهم مَسَاكِينُ وأَن لَهُمْ سَفينة تُساوي جُمْلة، وَقَالَ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا؛ فَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي أَخبر بِهَا عَنِ الْفُقَرَاءِ هِيَ دُونَ الْحَالِ الَّتِي أَخبر بِهَا عَنِ الْمَسَاكِينِ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وإِلى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ عليُّ بْنُ حَمْزَةَ الأَصبهاني اللُّغَوِيُّ، ويَرى أَنه الصَّوَابُ وَمَا سِوَاهُ خطأٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ؛ فأَكد عَزَّ وَجَلَّ سُوءَ حَالِهِ بِصِفَةِ الفقر لأَن المَتْربَة الْفَقْرُ، وَلَا يُؤَكَّدُ الشَّيْءُ إِلا بِمَا هُوَ أَوكد مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}؛ فأَثبت أَن لَهُمْ سَفِينَةً يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا فِي الْبَحْرِ؛ وَاسْتَدَلَّ أَيضًا بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:

هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ، ***تُغِيثُ مِسْكينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ،

عَشْرُ شِياهٍ سَمْعُه وبَصَرُهْ، ***قَدْ حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ

فأَثبت أَن لَهُ عَشْرَ شِيَاهٍ، وأَراد بِقَوْلِهِ عَسْكَرُهُ غَنَمُهُ وأَنها قَلِيلَةٌ، وَاسْتَدَلَّ أَيضًا بِبَيْتِ الرَّاعِي وَزَعَمَ أَنه أَعدل شَاهِدٍ عَلَى صِحَّةٍ ذَلِكَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: " أَما الفقيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلوبَتُه لأَنه قَالَ: أَما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلوبتُه وَلَمْ يَقُلِ الَّذِي حَلُوبَتُهُ، وَقَالَ: فَلَمْ يُترك لَهُ سَبَدٌ، فأَعلمك أَنه كَانَتْ لَهُ حَلوبة تَقُوت عِيَالَهُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَلَيْسَ بِفَقِيرٍ وَلَكِنْ مِسْكِينٍ، ثُمَّ أَعلمك أَنها أُخِذَتْ مِنْهُ فَصَارَ إِذ ذَاكَ فَقِيرًا، يَعْنِي ابنُ حمْزة بِهَذَا الْقَوْلِ أَن الشَّاعِرَ لَمْ يُثْبِتْ أَن لِلْفَقِيرِ حَلُوبَةً لأَنه قَالَ: الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ، وَلَمْ يَقُلِ الَّذِي حَلُوبَتُهُ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَ لَهُ مَالٌ وثرْوة فإِنه لَمْ يُترَكْ لَهُ سَبَدٌ، فَلَمْ يُثْبت بِهَذَا أَن لِلْفَقِيرِ مَالًا وثرْوَة، وإِنما أَثبَت سُوءَ حَالِهِ الَّذِي به صارفقيرًا، بَعْدَ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَثَرْوَةٍ، وَكَذَلِكَ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: أَما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ".

أَنه أَثبت فَقْرَهُ لِعَدَمِ حَلوبته بَعْدَ أَن كَانَ مِسْكِينًا قَبْلَ عَدَمِ حَلوبته، وَلَمْ يُرِد أَنه فَقِيرٌ مَعَ وُجُودِهَا فإِن ذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ أَن يَكُونَ لِلْفَقِيرِ مَالٌ وَثَرْوَةٌ فِي قَوْلِكَ: أَما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَ لَهُ مَالٌ وَثَرْوَةٌ، لأَنه لَا يَكُونُ فَقِيرًا مَعَ ثَرْوَتِهِ وَمَالِهِ فَحَصَلَ بِهَذَا أَن الْفَقِيرَ فِي الْبَيْتِ هُوَ الَّذِي لَمْ يُتركْ لَهُ سَبَدٌ بأَخذ حَلُوبَتِهِ، وَكَانَ قَبْلَ أَخذ حَلُوبَتِهِ مِسْكِينًا لأَن مَنْ كَانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ فَلَيْسَ فَقِيرًا، لأَنه قَدْ أَثبت أَن الْفَقِيرَ الَّذِي لَمْ يُترَكْ لَهُ سَبَدٌ، وإِذا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا فَهُوَ إِمّا غَنِيٌّ وإِما مِسْكِينٌ، وَمَنْ لَهُ حَلُوبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ، وإِذا لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا لَمْ يَبْقَ إِلّا أَن يَكُونَ فَقِيرًا أَو مِسْكِينًا، وَلَا يَصِحُّ أَن يَكُونَ فَقِيرًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمْ يبقَ أَن يَكُونَ إِلا مِسْكِينًا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَن الْمِسْكِينَ أَصلح حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ؛ قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ: وَلِذَلِكَ بدأَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْفَقِيرِ قَبْلَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمِسْكِينِ وَغَيْرِهِ، وأَنت إِذا تأَملت قَوْلَهُ تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ}، وَجَدْتَهُ سُبْحَانَهُ قَدْ "رَتَّبَهُمْ فَجَعَلَ الثَّانِي أَصلح حَالًا مِنَ الأَول، وَالثَّالِثَ أَصلح حَالًا مِنَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ وَالثَّامِنُ، قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَن الْمِسْكِينَ أَصلح حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ أَن الْعَرَبَ قَدْ تَسَمَّتْ بِهِ وَلَمْ تَتَسَمَّ بِفَقِيرٍ لِتَنَاهِي الْفَقْرِ فِي سُوءِ الْحَالِ، أَلا تَرَى أَنهم قَالُوا تَمَسْكَن الرَّجُلُ فَبَنَوْا مِنْهُ فِعْلًا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ بِالْمِسْكِينِ فِي زِيِّه، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْفَقِيرِ إِذ كَانَتْ حَالُهُ لَا يَتَزَيّا بِهَا أَحدٌ؟ قَالَ: وَلِهَذَا رَغِبَ الأَعرابيُّ الَّذِي سأَله يُونُسُ عَنِ اسْمِ الْفَقِيرِ لِتَنَاهِيهِ فِي سُوءِ الْحَالِ، فَآثَرَ التَّسْمِيَةَ بالمَسْكَنة أَو أَراد أَنه ذَلِيلٌ لِبُعْدِهِ عَنْ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، قَالَ: وَلَا أَظنه أَراد إِلا ذَلِكَ، وَوَافَقَ قولُ الأَصمعي وَابْنِ حَمْزَةَ فِي هَذَا قولَ الشَّافِعِيِّ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمانة، والمِسْكين الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ.

وَقَالَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ أَحمد: الْفَقِيرُ الْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ لَا يسأَل، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يسأَل، فَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَن الْمِسْكِينَ أَصلح حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لأَنه يسأَل فيُعْطَى، وَالْفَقِيرُ لَا يسأَل وَلَا يُشْعَرُ بِهِ فيُعْطَى لِلُزُومِهِ بَيْتِهِ أَو لِامْتِنَاعِ سُؤَالِهِ، فَهُوَ يَتَقَنَّع بأَيْسَرِ شَيْءٍ كَالَّذِي يتقوَّت فِي يَوْمِهِ بِالتَّمْرَةِ وَالتَّمْرَتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا يسأَل مُحَافَظَةً عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ وإِراقته عند السُّؤَالِ، فَحَالُهُ إِذًا أَشدّ مِنْ حَالِ الْمِسْكِينِ الَّذِي لَا يَعْدَمُ مَنْ يُعْطِيهِ، وَيَشْهَدُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ" قَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ المسكينُ الَّذِي تَرُدُّه اللُّقْمةُ واللُّقْمتانِ، وإِنما الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يسأَل وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فيُعْطَى، فأَعْلَمَ أَن الَّذِي لَا يسأَل أَسوأُ حَالًا مِنَ السَّائِلِ، وإِذا ثَبَتَ أَن الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يسأَل وأَن الْمِسْكِينَ هُوَ السَّائِلُ فَالْمِسْكِينُ إِذًا أَصلح حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ أَشدّ مِنْهُ فَاقَةً وَضُرًّا، إِلَّا أَن الْفَقِيرَ أَشرف نَفْسًا مِنَ الْمِسْكِينِ لِعَدَمِ الْخُضُوعِ الَّذِي فِي الْمِسْكِينِ، لأَن الْمِسْكِينَ قَدْ جَمَعَ فَقْرًا وَمَسْكَنَةً، فَحَالُهُ فِي هَذَا أَسوأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ فأَبانَ أَن لَفْظَةَ الْمِسْكِينِ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ أَشدّ قُبحًا مِنْ لَفْظَةِ الْفَقِيرِ، وَكَانَ الأَولى بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَن تَكُونَ لِمَنْ لَا يسأَل لِذُلِّ الْفَقْرِ الَّذِي أَصابه، فَلَفْظَةُ الْمِسْكِينِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَشد بُؤْسًا مِنْ لَفْظَةِ الْفَقِيرِ، وإِن كَانَ حَالُ الْفَقِيرِ فِي الْقِلَّةِ وَالْفَاقَةِ أَشد مِنْ حَالِ الْمِسْكِينِ، وأَصل الْمِسْكِينِ فِي اللُّغَةِ الْخَاضِعُ، وأَصل الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجُ، وَلِهَذَا قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مِسْكينًا وأَمِتْني مِسْكِينًا واحْشُرْني فِي زُمْرةِ الْمَسَاكِينِ "؛ أَراد بِهِ التَّوَاضُعَ والإِخْبات وأَن لَا يَكُونَ مِنَ الْجَبَّارِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ أَي خَاضِعًا لَكَ يَا رَبِّ ذَلِيلًا غَيْرَ مُتَكَبِّرٍ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِالْمِسْكِينِ هُنَا الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: وَقَدِ اسْتَعَاذَ سَيِّدُنَا رسول الله، صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ الْفَقْرِ؛ قَالَ: وَقَدْ يُمْكِنُ أَن يَكُونَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنِ الخِضْرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ"، فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ لِخُضُوعِهِمْ وَذُلِّهِمْ مِنْ جَوْرِ الْمَلِكِ الَّذِي يأْخذ كُلَّ سَفِينَةٍ وَجَدَهَا فِي الْبَحْرِ غَصْبًا، وَقَدْ يَكُونُ الْمِسْكِينُ مُقِلًّا ومُكْثِرًا، إِذ الأَصل فِي المسكين أَنه من المَسْكَنة، وَهُوَ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ، وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ الْمِسْكِينَ بِالْفَقْرِ لَمَّا أَراد أَن يُعْلِمَ أَن خُضُوعَهُ لِفَقْرٍ لَا لأَمر غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}؛ والمَتْرَبةُ: الْفَقْرُ، وَفِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ الْمِسْكِينَ أَسوأَ حَالًا لِقَوْلِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، وَهُوَ الَّذِي لَصِقَ بِالتُّرَابِ لشدَّة فَقْرِهِ، وَفِيهِ أَيضًا حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ الْمِسْكِينَ أَصلح حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لأَنه أَكد حَالَهُ بِالْفَقْرِ، وَلَا يؤكَّد الشَّيْءُ إِلا بِمَا هُوَ أَوكد مِنْهُ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ المِسْكين والمَساكين والمَسْكَنة والتَّمَسْكُنِ، قَالَ: وَكُلُّهَا يَدُورُ مَعْنَاهَا على الخضوعوالذِّلَّة وَقِلَّةِ الْمَالِ وَالْحَالِ السَّيِّئَةِ، واسْتَكانَ إِذا خَضَعَ.

والمَسْكَنة: فَقْرُ النَّفْسِ.

وتَمَسْكَنَ إِذا تَشَبَّه بِالْمَسَاكِينِ، وَهُمْ جَمْعُ المِسْكين، وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْضُ الشَّيْءِ، قَالَ: وَقَدْ تَقَعُ المَسْكَنة عَلَى الضَّعف؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" قَيْلة: قَالَ لَهَا صَدَقَت المِسْكِينةُ "؛ أَراد الضَّعف وَلَمْ يُرِدِ الْفَقْرَ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: المِسْكين مِنَ الأَلفاظ المُتَرَحَّمِ بِهَا، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ المِسْكين، تَنْصِبُهُ عَلَى أَعني، وَقَدْ يَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ، وَالرَّفْعُ عَلَى إِضمار هُوَ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّرَحُّمِ مَعَ ذَلِكَ، كَمَا أَن رحمةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإِن كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ مَعْنَى الدُّعَاءِ؛ قَالَ: وَكَانَ يُونُسُ يَقُولُ مَرَرْتُ بِهِ المسكينَ، عَلَى الْحَالِ، وَيَتَوَهَّمُ سُقُوطَ الأَلف وَاللَّامِ، وَهَذَا خطأٌ لأَنه لَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ حَالًا وَفِيهِ الأَلف وَاللَّامُ، وَلَوْ قُلْتُ هَذَا لَقُلْتُ مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ الظريفَ تُرِيدُ ظَرِيفًا، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى الْفِعْلِ كأَنه قَالَ لَقِيتُ الْمِسْكِينَ، لأَنه إِذا قَالَ مَرَرْتُ بِهِ فكأَنه قَالَ لَقِيِتُهُ، وَحُكِيَ أَيضًا: إِنه المسكينُ أَحْمَقُ وتقديرُه: إِنه أَحمق، وَقَوْلُهُ المسكينُ أَي هُوَ المسكينُ، وَذَلِكَ اعتراضٌ بَيْنَ اسْمِ إِن وَخَبَرِهَا، والأُنثى مِسْكينة؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: شُبِّهَتْ بِفَقِيرَةٍ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى الإِكْثار، وَقَدْ جَاءَ مِسْكين أَيضًا للأُنثى؛ قَالَ تأَبط شَرًّا:

قَدْ أَطْعَنُ الطَّعْنةَ النَّجْلاءَ عَنْ عُرُضٍ، ***كفَرْجِ خَرْقاءَ وَسْطَ الدارِ مِسْكينِ

عَنَى بِالْفَرَجِ مَا انْشَقَّ مِنْ ثِيَابِهَا، وَالْجَمْعُ مَساكين، وإِن شِئْتَ قُلْتَ مِسْكينون كَمَا تَقُولُ فَقِيرُونَ؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ: يَعْنِي أَن مِفْعيلًا يَقَعُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ نَحْوَ مِحْضِير ومِئْشير، وإِنما يَكُونُ ذَلِكَ مَا دَامَتِ الصِّيغَةُ لِلْمُبَالَغَةِ، فَلَمَّا قَالُوا مِسْكينة يَعْنُونَ الْمُؤَنَّثَ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِهِ الْمُبَالَغَةَ شَبَّهُوهَا بِفَقِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ سَاغَ جَمْعُ مُذَكَّرِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ.

وَقَوْمٌ مَساكينُ ومِسْكِينون أَيضًا، وإِنما قَالُوا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ للإِناث مِسْكينات لأَجل دُخُولِ الْهَاءِ، وَالِاسْمُ المَسْكَنة.

اللَّيْثُ: المَسْكَنة مَصْدَرُ فِعْل المِسْكين، وإِذا اشْتَقُّوا مِنْهُ فِعْلًا قَالُوا تَمَسْكَنَ الرجلُ أَي صَارَ مِسكينًا.

وَيُقَالُ: أَسْكَنه اللَّهُ وأَسْكَنَ جَوْفَه أَي جَعَلَهُ مِسْكينًا.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّلَّة وَالضَّعْفِ.

يقال: تَسَكَّن الرجل وتَمَسْكَن، كَمَا قَالُوا تَمَدْرَعَ وتَمَنْدَلَ مِنَ المِدْرَعَة والمِنْديل، عَلَى تَمَفْعَل، قَالَ: وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيَاسُهُ تَسَكَّنَ وتَدرَّعَ مِثْلَ تشَجَّع وتحَلَّم.

وسَكَن الرجلُ وأَسْكَن وتمَسْكَنَ إِذا صَارَ مِسكينًا، أَثبتوا الزَّائِدَ، كَمَا قَالُوا تَمَدْرَع فِي المِدرعة.

قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: تَسَكَّن كتَمَسْكَن، وأَصبح القومُ مُسْكِنين أَي ذَوِي مَسْكنة.

وَحُكِيَ: مَا كَانَ مِسْكِينًا وَمَا كُنْتُ مِسْكِينًا وَلَقَدْ أَسكَنْتُ.

وتمسكَنَ لِرَبِّهِ: تضَرَّع؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ.

وَتَمَسْكَنَ إِذا خَضَعَ لِلَّهِ.

والمَسْكَنة: الذِّلَّة.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ لِلْمُصَلِّي: تَبْأَسُ وتمسْكَنُ وتُقْنِع يَدَيْكَ "؛ وَقَوْلُهُ تمسْكَنُ أَي تذَلَّل وتَخْضَع، وَهُوَ تَمَفْعَل مِنَ السُّكُونِ؛ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أَصل الْحَرْفِ السُّكون، والمَسْكَنة مَفْعلة مِنْهُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ تسَكَّن، وَهُوَ الأَكثر الأَفصح إِلا أَنه جاءَ فِي هَذَا الْحَرْفِ تَمَفْعَل، وَمِثْلُهُ تمَدْرَع وأَصله تَدرَّع؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كُلُّ مِيمٍ كَانَتْ فِي أَول حَرْفٍ فَهِيَ مَزِيدَةٌ إِلا مِيمَ مِعْزى وَمِيمَ مَعَدٍّ، تَقُولُ: تمَعْدَد، وَمِيمَ مَنْجَنِيق وَمِيمَ مَأْجَج وَمِيمَ مَهْدَد؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا فِيمَا جَاءَ عَلَى بِنَاءِ مَفْعَل أَو مِفْعَل أَو مِفْعيل، فأَما مَا جَاءَ عَلَى بِنَاءِ فَعْلٍ" أَو فِعالٍ فَالْمِيمُ تَكُونُ أَصلية مِثْلُ المَهْدِ والمِهاد والمَرد وَمَا أَشبهه.

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسد: المَسْكين، بِفَتْحِ الْمِيمِ، المِسْكين.

والمِسْكينة: اسْمُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: لَا أَدري لمَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إِلا أَن يَكُونَ لِفَقْدِهَا النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

واستَكان الرَّجُلُ: خَضَع وذلَّ، وَهُوَ افتَعَل مِنَ المَسْكَنة، أُشبعت حَرَكَةُ عَيْنِهِ فَجَاءَتْ أَلفًا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ}؛ وَهَذَا نَادِرٌ، وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ؛ أَي فَمَا خَضَعُوا، كَانَ فِي الأَصل فَمَا استَكَنُوا فَمُدَّتْ فَتْحَةُ الْكَافِ بأَلف كَقَوْلِهِ: لَهَا مَتْنتان خَظاتا، أَراد خَظَتا فَمَدَّ فَتْحَةَ الظَّاءِ بأَلف.

يُقَالُ: سَكَنَ وأَسكَنَ واسْتَكَنَ وتَمَسْكَنَ واسْتَكان أَي خَضَعَ وَذَلَّ.

وَفِي حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبٍ: « أَما صَاحِبَايَ فاستَكانا وقَعَدا فِي بُيُوتِهِمَا »أَي خَضَعَا وذلَّا.

والاسْتِكانة: اسْتِفْعال مِنَ السُّكون؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَكثر مَا جاءَ إِشباع حَرَكَةِ الْعَيْنِ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ يَنْباعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوب أَي يَنْبَع، مُدَّتْ فَتْحَةُ الْبَاءِ بأَلف، وَكَقَوْلِهِ: أَدْنو فأَنْظُورُ، وَجَعَلَهُ أَبو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مِنَ الكَيْنِ الَّذِي هُوَ لَحْمُ بَاطِنِ الْفَرْجِ لأَن الْخَاضِعَ الذَّلِيلَ خَفِيٌّ، فَشَبَّهَهُ بِذَلِكَ لأَنه أَخفى مَا يَكُونُ مِنَ الإِنسان، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ وَدُونِهِ؛ قَالَ كثيِّر عَزَّةَ:

فَمَا وَجدوا فِيكَ ابنَ مَرْوان سَقْطةً، ***وَلَا جَهْلةً فِي مازِقٍ تَسْتَكِينُها

الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}؛ أَي يَسْكُنون بِهَا.

والسَّكُون، بِالْفَتْحِ: حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ.

والسَّكون: مَوْضِعٌ، وَكَذَلِكَ مَسْكِنٌ، بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ مِنْ أَرض الْكُوفَةِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ الرَّزِيَّة، يَوْمَ مَسْكِنَ، ***والمُصِيبةَ والفَجيعه

جَعَلَهُ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ فَلَمْ يَصْرِفْهُ.

وأَما المُسْكان، بِمَعْنَى العَرَبون، فَهُوَ فُعْلال، وَالْمِيمُ أَصلية، وَجَمْعُهُ المَساكين؛ قَالَهُ ابْنُ الأَعرابي.

ابْنُ شُمَيْلٍ: تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ عِنْدَ النَّوْمِ سُكْنة كأَنه يأْمن الْوَحْشَةَ، وَفُلَانُ بنُ السَّكَن.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكَانَ الأَصمعي يَقُولُهُ بِجَزْمِ الْكَافِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُقَالُ سَكَنٌ وسَكْنٌ؛ قَالَ جَرِيرٌ فِي الإِسكان:

ونُبِّئْتُ جَوَّابًا وسَكْنًا يَسُبُّني، ***وعَمْرو بنُ عَفْرا، لَا سلامَ عَلَى عَمْرِو

وسَكْنٌ وسُكَنٌ وسُكَينٌ: أَسماء.

وسُكَينٌ: اسْمُ مَوْضِعٍ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

وَعَلَى الرُّمَيْثة مِنْ سُكَينٍ حاضرٌ، ***وَعَلَى الدُّثَيْنةِ مِنْ بَنِي سَيَّارِ

وسُكَينٌ، مُصَغَّرٌ: حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ فِي شِعْرِ النَّابِغَةِ الذُّبياني.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَعْنِي هَذَا الْبَيْتَ: وَعَلَى الرُّميثة مِنْ سُكين.

وسُكَيْنة: بِنْتُ الحُسَين بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، والطُّرَّة السُّكَيْنِيَّة مَنْسُوبَةٌ إِليها.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


108-لسان العرب (حسا)

حسا: حَسَا الطائرُ الماءَ يَحْسُو حَسْوًا: وَهُوَ كالشُّرْب للإِنسان، والحَسْوُ الفِعْل، وَلَا يُقَالُ لِلطَّائِرِ شَرِبَ، وحَسا الشيءَ حَسْوًا وتحَسَّاهُ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّحَسِّي عَمَلٌ فِي مُهْلةٍ.

واحْتَسَاه: كتَحَسَّاه.

وَقَدْ يَكُونُ الاحْتِسَاءُ فِي النَّوْمِ وتَقَصِّي سَيْرِ الإِبلِ، يُقَالُ: احْتَسَى سيرَ الْفَرَسِ وَالْجَمَلِ والناقةِ؛ قَالَ:

إِذا احْتَسى يَوْمَ هَجِيرٍ هائِف ***غُرُورَ عِيدِيّاتها الخَوانِف

وهُنَّ يَطْوِينَ عَلَى التَّكالِف ***بالسَّيْفِ أَحْيانًا وبالتَّقاذُف

جَمَعَ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ أَصحاب الْقَوَافِي السِّنَادَ فِي قَوْلِ الأَخفش، وَاسْمُ مَا يُتَحَسَّى الحَسِيَّةُ والحَسَاءُ، مَمْدُودٌ، والحَسْوُ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُرَى ابْنُ الأَعرابي حَكَى فِي الِاسْمِ أَيضًا الحَسْوَ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ، والحَسَا، مَقْصُورٌ، عَلَى مِثَالِ القَفا، قَالَ: وَلَسْتُ مِنْهُمَا عَلَى ثِقَةٍ، والحُسْوَةُ، كُلُّهُ: الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنْهُ.

والحُسْوةُ: مِلْءُ الفَمِ.

وَيُقَالُ: اتَّخِذُوا لَنَا حَسِيَّةً؛ فأَما قَوْلُهُ أَنشده ابْنُ جِنِّي لِبَعْضِ الرُّجَّاز:

وحُسَّد أَوْشَلْتُ مِن حِظاظِها ***عَلَى أَحَاسِي الغَيْظِ واكْتِظاظِها

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عِنْدِي أَنه جَمَعَ حَسَاءٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ يَكُونُ جَمَعَ أُحْسِيَّةٍ وأُحْسُوَّةٍ كأُهْجِيَّةٍ وأُهْجُوَّة، قَالَ: غَيْرَ أَني لَمْ أَسمعه وَلَا رأَيته إِلا فِي هَذَا الشِّعْرِ.

والحَسْوة: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَقِيلَ: الحَسْوة والحُسْوَة لُغَتَانِ، وَهَذَانَ الْمِثَالَانِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرًا كالنَّغْبة والنُّغْبة والجَرْعة والجُرْعة، وَفَرَّقَ يُونُسُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ فَقَالَ: الفَعْلة للفِعْل والفُعْلة لِلِاسْمِ، وَجَمْعُ الحُسْوَة حُسىً، وحَسَوْت المَرَق حَسْوًا.

وَرَجُلٌ حَسُوٌّ: كثير التَّحَسِّي.

ويوم ك حَسْوِ الطَّيْرِ أَي قَصِيرٌ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نِمتُ نَوْمةً كحَسْوِ الطَّيْرِ إِذا نَامَ نَوْمًا قَلِيلًا.

والحَسُوُّ عَلَى فَعُول: طَعَامٌ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ الحَساءُ، بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، تَقُولُ: شَرِبْتَ حَسَاءً وحَسُوًّا.

ابْنُ السِّكِّيتِ: حَسَوْتُ شَرِبْتُ حَسُوًّا وحَسَاءً، وَشَرِبْتُ "مَشُوًّا ومَشَاءً، وأَحْسَيْتُه المَرَق فحَسَاه واحْتَسَاه بِمَعْنًى، وتحَسَّاه فِي مُهْلة.

وَفِي الْحَدِيثِ ذكْرُ الحَسَاءِ، بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، هُوَ طبيخٌ يُتَّخذ مِنْ دقيقٍ وماءٍ ودُهْنٍ، وَقَدْ يُحَلَّى وَيَكُونُ رَقِيقًا يُحْسَى.

وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ جَعَلْتُ لَهُ حَسْوًا وحَساءً وحَسِيَّةً إِذا طَبَخَ لَهُ الشيءَ الرقيقَ يتَحَسَّاه إِذا اشْتَكَى صَدْرَه، وَيُجْمَعُ الحَسَا حِساءً وأَحْساءً.

قَالَ أَبو ذُبْيان بْنُ الرَّعْبل: إِنَّ أَبْغَضَ الشُّيوخ إِليَّ الحَسُوُّ الفَسُوُّ الأَقْلَحُ الأَمْلَحُ؛ الحَسُوُّ: الشَّروبُ.

وَقَدْ حَسَوْتُ حَسْوَةً وَاحِدَةً.

وَفِي الإِناء حُسْوَةٌ، بِالضَّمِّ، أَي قَدْرُ مَا يُحْسَى مَرَّةً.

ابْنُ السِّكِّيتِ: حَسَوْتُ حَسْوةً وَاحِدَةً، والحُسْوَةُ مِلْءُ الْفَمِ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: حَسْوَة وحُسْوَة وغَرْفة وغُرْفة بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَكَانَ يُقَالُ لأَبي جُدْعانَ حَاسِي الذَّهَب لأَنه كَانَ لَهُ إِناءٌ مِنْ ذَهَبٍ يَحْسُو مِنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « مَا أَسْكَرَ مِنْهُ الفَرَقُ فالحُسْوَةُ حَرَامٌ »؛ الحُسْوةُ، بِالضَّمِّ: الجُرْعة بِقَدْرِ مَا يُحْسى مرَّة وَاحِدَةً، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ.

ابْنُ سِيدَهْ: الحِسْيُ سَهْلٌ مِنَ الأَرض يَسْتنقع فِيهِ الْمَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ غَلْظٌ فَوْقَهُ رَمْلٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ السَّمَاءِ، فَكُلَّمَا نزَحْتَ دَلْوًا جَمَّتْ أُخرى.

وَحَكَى الْفَارِسِيُّ عَنْ أَحمد بْنِ يَحْيَى حِسْيٌ وحِسًى، وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا إِلَّا مِعْي ومِعىً، وإِنْيٌ مِنَ اللَّيْلِ وإِنًى.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي فِي حِسْيٍ حَسًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى مِثَالِ قَفًا، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَحْساءٌ وحِساءٌ.

واحْتَسَى حِسْيًا: احْتَفره، وَقِيلَ: الاحْتِسَاءُ نَبْثُ الترابِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ.

قَالَ الأَزهري: وَسَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَقُولُ احْتَسَيْنَا حِسْيًا أَي أَنْبَطْنا ماءَ حِسْيٍ.

والحِسْيُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ.

واحْتَسَى مَا فِي نَفْسِهِ: اخْتَبرَه؛ قَالَ:

يقُولُ نِساءٌ يَحْتَسِينَ مَوَدَّتي ***لِيَعْلَمْنَ مَا أُخْفي، ويَعلَمْن مَا أُبْدي

الأَزهري: وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ هَلِ احْتَسَيْتَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا؟ عَلَى مَعْنَى هَلْ وجَدْتَ.

والحَسَى وَذُو الحُسَى، مَقْصُورَانِ: مَوْضِعَانِ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ: " عَفَا ذُو حُسًى مِنْ فَرْتَنَا فالفَوارِع "وحِسْيٌ: مَوْضِعٌ.

قَالَ ثَعْلَبٌ: إِذا ذَكَر كثيرٌ غَيْقةَ فَمَعَهَا حِسَاءٌ، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: فَمَعَهَا حَسْنَى.

والحِسْي: الرَّمْلُ الْمُتَرَاكِمُ أَسفله جَبَلٌ صَلْدٌ، فإِذا مُطِرَ الرَّمْلُ نَشِفَ ماءُ الْمَطَرِ، فإِذا انْتَهى إِلى الْجَبَلِ الَّذِي أَسْفلَه أَمْسَكَ الماءَ وَمَنَعَ الرملُ حَرَّ الشمسِ أَن يُنَشِّفَ الْمَاءَ، فإِذا اشْتَدَّ الحرُّ نُبِثَ وجْهُ الرملِ عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فنَبَع بَارِدًا عَذْبًا؛ قَالَ الأَزهري: وَقَدْ رأَيت بِالْبَادِيَةِ أَحْساءً كَثِيرَةً عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، مِنْهَا أَحْسَاءُ بَنِي سَعْدٍ بِحِذَاءِ هَجَرَ وقُرَاها، قَالَ: وَهِيَ اليومَ دارُ القَرامطة وَبِهَا مَنَازِلُهُمْ، وَمِنْهَا أَحْسَاءُ خِرْشافٍ، وأَحْسَاءُ القَطِيف، وبحذَاء الْحَاجِرِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ أَحْسَاءٌ فِي وادٍ مُتَطامِن ذِي رَمْلٍ، إِذا رَوِيَتْ فِي الشِّتَاءِ مِنَ السُّيول الْكَثِيرَةِ الأَمطار لَمْ يَنْقَطِعْ ماءُ أَحْسَائها فِي القَيْظ.

الْجَوْهَرِيُّ: الحِسْيُ، بِالْكَسْرِ، مَا تُنَشِّفه الأَرض مِنَ الرَّمْلِ، فإِذا صَارَ إِلى صَلابةٍ أَمْسكَتْه فتَحْفِرُ عَنْهُ الرملَ فتَسْتَخْرجه، وَهُوَ الاحْتِسَاءُ، وَجَمْعُ الحِسْيِ الأَحْسَاء، وَهِيَ الكِرَارُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي التَّيِّهان: « ذَهَبَ يَسْتَعْذِب لَنَا الماءَ مِنْ حِسْيِ بَنِي حارثةَ »؛ الحِسْيُ بِالْكَسْرِ وَسُكُونِ السِّينِ وَجَمْعُهُ أَحْسَاء: حَفِيرة قَرِيبَةُ القَعْر، قِيلَ إِنه لَا يَكُونُ إِلا فِي أَرض أَسفلها حِجَارَةٌ وَفَوْقَهَا رَمْلٌ، فإِذا أُمْطِرَتْ نَشَّفه الرَّمْلُ، فإِذاانْتَهَى إِلى الْحِجَارَةِ أَمْسكَتْه؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « أَنهم شَرِبوا مِنْ مَاءِ الحِسْيِ».

وحَسِيتُ الخَبَر، بِالْكَسْرِ: مِثْلُ حَسِسْتُ؛ قَالَ أَبو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ:

سِوَى أَنَّ العِتَاقَ مِنَ المَطايا ***حَسِينَ بِهِ، فهُنّ إِليه شُوسُ

وأَحْسَيْتُ الخَبر مِثْلُهُ؛ قَالَ أَبو نُخَيْلةَ:

لَمَّا احْتَسَى مُنْحَدِرٌ مِنْ مُصْعِدِ ***أَنَّ الحَيا مُغْلَوْلِبٌ، لَمْ يَجْحَدِ

احْتَسَى أَي اسْتَخْبَر فأُخْبِر أَن الخِصْبَ فاشٍ، والمُنْحدِر: الَّذِي يأْتي القُرَى، والمُصْعِدُ: الَّذِي يأْتي إِلى مَكَّةَ.

وَفِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: « فهَجَمْتُ عَلَى رَجُلَيْنِ فقلتُ هَلْ حَسْتُما مِنْ شَيْءٍ »؟ قَالَ ابْنُ الأَثير: قَالَ الخطابي كَذَا وَرَدَ وإِنما هُوَ هَلْ حَسِيتُما؟ يُقَالُ: حَسِيتُ الخَبر، بِالْكَسْرِ؛ أي عَلِمْتُهُ، وأَحَسْتُ الْخَبَرَ، وحَسِسْتُ بِالْخَبَرِ، وأَحْسَسْتُ بِهِ، كأَنَّ الأَصلَ فِيهِ حَسِسْتُ فأَبْدلوا مِنْ إِحدى السِّينَيْنِ يَاءً، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ ظَلْتُ ومَسْتُ فِي ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ فِي حَذْفِ أَحد الْمِثْلَيْنِ، وَرُوِيَ بَيْتُ أَبي زُبَيْدٍ أَحَسْنَ بِهِ.

والحِسَاء: مَوْضِعٌ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ الأَنصاريُّ يُخاطب ناقَته حِينَ تَوَجَّهَ إِلى مُوتَةَ مِنْ أَرض الشأْم:

إِذا بَلَّغْتِني وحَمَلْتِ رَحْلِي ***مَسِيرةَ أَرْبَعٍ، بعدَ الحِسَاء

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


109-لسان العرب (رعي)

رعي: الرَّعْيُ: مَصْدَرُ رَعَى الكَلأَ ونحوَه يَرْعَى رَعْيًا.

والرَّاعِي يَرْعى الماشيةَ أَي يَحوطُها ويحفظُها.

والماشيةُ تَرْعَى أَي تَرْتَفِعُ وتأْكل.

ورَاعِي الماشيةِ: حافظُها، صفةٌ غَالِبَةٌ غلَبةَ الِاسْمِ، وَالْجَمْعُ رُعَاةٌ مِثْلُ قاضٍ وقُضاةٍ، ورِعَاءٌ مِثْلُ جائعٍ وجِياعٍ، ورُعْيانٌ مِثْلُ شَابٍّ وشُبَّانٍ، كسَّروه تَكْسِيرَ الأَسماء كَحاجِرٍ وحُجْرانٍ لأَنها صِفَةٌ غَالِبَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ عَلَى فَاعِلٍ يَعْتَوِرُ عَلَيْهِ فُعَلَة وفِعالٌ إِلَّا هَذَا، وَقَوْلُهُمْ آسٍ وأُساةٌ وإساءٌ.

وَفِي حَدِيثِ الإِيمان: « حَتَّى تَرى رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطاوَلُون فِي البُنْيان».

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: « كأَنه رَاعِي غَنَمٍ»؛ أي فِي الجَفَاء والبَذاذةِ.

وَفِي حَدِيثِ دُرَيْدٍ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: « إِنَّمَا هُوَ رَاعِي ضأْنٍ مَا لَه وللحربِ »، كأَنه يَسْتَجْهله ويُقَصِّر بِهِ عَنْ رُتْبةِ مَنْ يَقُودُ الجُيوشَ ويَسُوسُها؛ وأَما قَوْلُ ثَعْلَبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ العَدَوِيِّ فِي صِفَةِ نَخْلٍ:

تَبِيتُ رُعَاها لَا تَخافُ نِزاعَها، ***وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ بالقُيودِ وبالأُبض

فَإِنَّ أَبا حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رُعىً جمعُ رُعاةٍ، لأَن رُعاةً وَإِنْ كان جمعًا فإن لَفْظُهُ لَفْظُ الْوَاحِدِ، فَصَارَ كَمُهاةٍ ومُهىً، إِلَّا أَن مُهاةً وَاحِدٌ وَهُوَ ماءُ الْفَحْلِ فِي رَحِم النَّاقَةِ، ورُعَاة جَمْعٌ؛ وأَما قَوْلُ أُحَيْحَة:

وتُصْبِحُ حيثُ يَبِيتُ الرِّعَاء، ***وإنْ ضَيَّعوها وإنْ أَهْمَلُوا

إِنَّمَا عَنَى بالرِّعَاء هُنَا حَفَظَة النَّخْل لأَنه إِنَّمَا هُوَ فِي صِفَةِ النَّخِيل؛ يَقُولُ: تُصْبح النخلُ فِي أَماكنها لَا تَنْتَشِر كَمَا تَنْتَشِرُ الإِبل المُهْمَلة.

والرَّعِيَّة: الماشيةُ الراعيةُ أَو المَرْعِيَّة؛ قال:

ثُمَّ مُطِرْنَا مَطْرَةً رَوِيَّهْ، ***فنَبَتَ البَقْلُ وَلَا رَعِيَّهْ

وَفِي التَّنْزِيلِ: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ}؛ جَمْعُ الرَّاعِي.

قَالَ الأَزهري: وأَكثر مَا يُقَالُ رُعَاةٌ للوُلاةِ، والرُّعْيَانُ لراعِي الغَنَمِ.

وَيُقَالُ للنَّعَم: هِيَ تَرْعَى وتَرْتَعِي.

وقرأَ بَعْضُ القُرَّاء: " أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا نَرْتَعِي ".

ونَلْعَبْ؛ وَهُوَ نَفْتَعِلُ مِنَ الرَّعْيِ، وَقِيلَ: مَعْنَى نَرْتَعِي أَي يَرْعَى بعضُنا بَعْضًا.

وَفُلَانٌ يَرْعَى عَلَى أَبِيه أَي يَرْعَى غَنَمَه.

الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إنَّه لَتِرْعِيَّةُ مالٍ.

إِذَا كَانَ يَصْلُح المالُ عَلَى يَدِهِ ويُجِيدُ رِعْيةَ الإِبِل.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: رجلٌ تَرْعِيَّةٌ [تِرْعِيَّةٌ] وتِرْعِيٌّ، بِغَيْرِ هَاءٍ، نادرٌ؛ قَالَ تأَبط شَرًّا:

ولَسْت بِتِرْعِيّ طَوِيلٍ عَشَاؤُه، ***يُؤَنِّفُها مُسْتَأَنَفَ النَّبْتِ مُبْهِل

وَكَذَلِكَ تَرْعِيَّة وتُرْعِيَّة، مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ، وتِرْعَايَة وتُرْعَايَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى صِناعتُه وصِنَاعة آبائِهِ الرِّعَايَة، وَهُوَ مِثَالٌ لَمْ يَذْكُرْهُ سِيبَوَيْهِ.

والتِّرْعِيَّة: الحَسَن الالْتِماسِ والارْتِيادِ لِلْكَلإِ لِلْمَاشِيَةِ؛ وأَنشد الأَزهري لِلْفِرَاءِ:

ودَار حِفاظٍ قَدْ نَزَلْنَا، وغَيرُها ***أَحبُّ إِلَى التِّرْعِيَّةِ الشَّنَآنِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِنْهُ قَوْلُ حَكِيمِ بْنِ مُعَيَّة:

يَتْبَعُها تِرْعِيَّةٌ فِيهِ خَضَعْ، ***في كَفِّه زَيْعٌ، وَفِي الرُّسْغِ فَدَعْ

والرِّعَايَةُ: حِرْفةُ الرَّاعِي، والمَسُوسُ مَرْعِيٌّ؛ قَالَ أَبو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَت:

لَيس قَطًا مثلَ قُطَيّ، وَلَا المَرْعِيُّ، ***فِي الأَقْوامِ، كالرَّاعِي

وَرَعتِ الماشِيةُ تَرْعَى رَعْيًا ورِعَايَةً وارْتَعَتْ وتَرَعَّتْ؛ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

وَمَا أُمُّ خِشْفٍ تَرَعَّى بِهِ ***أَراكًا عَمِيمًا ودَوْحًا ظَلِيلا

ورَعَاها وأَرْعَاها، يُقَالُ: أَرْعَى اللهُ المَواشِيَ إِذَا أَنْبَتَ لَهَا مَا تَرْعاه.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ}؛ وَقَالَ الشاعر:

كأَنَّها ظَبْيةٌ تَعْطُو إِلَى فَنَنٍ، ***تأْكُلُ مِنْ طَيِّبٍ، واللهُ يُرْعِيها

أَي يُنْبِتُ لَهَا مَا تَرْعَى، والاسمُ الرِّعْيَة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيُّ.

وأَرْعَاهُ المكانَ: جعلَهَ لَهُ مَرْعىً؛ قَالَ القُطامي:

فَمَنْ يَكُ أَرْعاهُ الحِمَى أَخَواتُه، ***فَما ليَ مِنْ أُخْتٍ عَوانٍ وَلَا بِكْرِ

وإبِلٌ رَاعِيةٌ، وَالْجَمْعُ الرَّوَاعِي.

ورَعَى البعِيرُ الكلأَ بنَفْسِه رَعْيًا، وارْتَعَى مثلُه؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ شَاهِدًا عَلَيْهِ:

كالظَّبْيةِ البِكْرِ الفَرِيدةِ تَرْتَعِي، ***فِي أَرْضِها، وفَراتِها وعِهادَها

خَضَبَتْ لَهَا عُقَدُ البِراقِ جَبِينَها، ***مِنْ عَرْكِها عَلَجانَها وعَرادَها

والرِّعْي، بِكَسْرِ الرَّاءِ: الكَلأُ نَفْسُه، وَالْجَمْعُ أَرْعَاءٌ.

والمَرْعَى: كالرَّعْيِ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى}.

وَفِي الْمَثَلِ: مَرْعىً وَلَا كالسَّعْدانِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَوْلُ أَبي العِيالِ:

أَفُطَيْم، هَلْ تَدْرِينَ كَمْ مِنْ مَتْلَفٍ ***جاوَزْتُ، لَا مَرْعىً وَلَا مَسْكُونِ؟

عِنْدِي أَن المَرْعَى هَاهُنَا فِي مَوْضِعِ المَرْعِيِّ لِمُقَابَلَتِهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ وَلَا مَسْكون.

قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ المَرْعَى الرِّعْيَ أَي ذُو رِعْيٍ.

قَالَ الأَزهري: أَفادني المُنْذِرِيُّ يُقَالُ لَا تَقْتَنِ فَتاةً وَلَا مَرْعاة فإنَّ لكُلٍّ بُغاةً؛ يَقُولُ: المَرْعَى حَيْثُ كَانَ يُطْلَبُ، والفَتاةُ حَيْثُمَا كَانَتْ تُخْطَبُ، لكلِّ فتاةٍ خاطِب، ولكلِّ مَرْعىً طَالِبٌ؛ قَالَ: وأَنشدني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:

ولَنْ تُعايِنَ مَرْعىً ناضِرًا أُنُفًا، ***إلَّا وجَدْتَ بِهِ آثارَ مأْكُولِ

وأَرْعَتِ الأَرضُ: كثُر رِعْيُها.

والرَّعايا والرَّعاوِيَّةُ: الْمَاشِيَةُ المَرْعِيَّة تَكُونُ لِلسُّوقَةِ وَالسُّلْطَانِ، والأَرْعاوِيَّةُ لِلسُّلْطَانِ خَاصَّةً، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا وُسومُه ورُسومُه.

والرَّعاوَى والرُّعاوَى، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا: الإِبل الَّتِي تَرْعَى حَوالَى القومِ وديارِهم لأَنها الإِبل الَّتِي يُعْتَمَلُ عَلَيْهَا؛ قَالَتِ امرأَة مِنَ الْعَرَبِ تُعاتب زوجَها:

تَمَشَّشْتَني، حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتَنِي ***كنِضْوِ الرَّعاوَى، قلتَ: إنِّي ذَاهِبُ

قَالَ شَمِرٌ: لَمْ أَسمع الرَّعاوَى بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا هَاهُنَا.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: الأُرْعُوَّة بِلُغَةِ أَزْدِ شَنُوأَة نِيرُ الفَدَّان يُحْتَرَثُ بِهَا.

والراعِي: الواليِ.

والرَّعِيَّة: العامَّة.

ورَعَى الأَمِيرُ رَعِيَّته رِعايةً، ورَعَيْتُ الإِبلَ أَرْعاها رَعْيًا ورَعاه يَرْعاه رَعْيًا ورِعايَةً: حَفِظَه.

وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمرَ قومٍ فَهُوَ راعِيهم وهُم رَعِيَّته، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.

وَقَدِ اسْتَرْعَاهُ إيَّاهم: اسْتَحْفَظه، واسْتَرْعَيْته الشيءَ فرَعَاه.

وَفِي الْمَثَلِ: مَن اسْتَرْعَى الذئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ أَي مَنِ ائتَمَنَ خَائِنًا فَقَدْ وَضَعَ الأَمانة فِي غيرِ موْضِعِها.

ورَعَى النُّجُوم رَعْيًا ورَاعَاها: راقَبَها وانْتَظَر مَغِيبَها؛ قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:

أَرْعَى النُّجوم وَمَا كُلِّفْت رِعْيَتَها، ***وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمارِي

ورَاعَى أَمرهَ: حَفِظَه وتَرَقَّبَه.

والمُراعاة: المُناظَرة والمُراقَبَة.

يُقَالُ: راعَيْتُ فُلَانًا مُرَاعَاةً ورِعَاءً إِذَا راقَبْتَه وتأَمَّلْت فِعْلَه.

ورَاعَيْتُ الأَمرَ: نَظَرْت إلامَ يَصِيرُ.

ورَاعَيْته: لاحَظته.

ورَاعَيْته: مِنْ مُراعاةِ الحُقوق.

وَيُقَالُ: رَعَيْتُ عَلَيْهِ حُرْمَتَه رِعَايَةً.

وفلانُ [يُرَاعِي] أَمرَ فُلانٍ أَي يَنْظُرُ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمره.

وأَرْعَى عَلَيْهِ: أَبْقى؛ قَالَ أَبو دَهْبَل: أَنشده أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:

إِنْ كَانَ هَذَا السِّحْرُ منكِ، فَلَا ***تُرْعِي عَليَّ وجَدِّدِي سِحْرا

والإِرْعَاءُ: الإِبْقاء عَلَى أَخيكَ؛ قَالَ ذُو الإِصْبَع:

بَغى بعضُهُمُ بَعْضًا، ***فَلَمْ يُرْعُوا عَلَى بَعْضِ

والرُّعْوَى: اسْمٌ مِنَ الإِرْعَاء وَهُوَ الإِبْقاءُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قَيْسٍ:

إِنْ تَكُنْ للإِله فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ***رُعْوَى، يعُدْ إِلَيْكَ النَّعيمُ

وأَرْعِنِي سَمْعَكَ ورَاعِنِي سمعكَ أَي اسْتَمِعْ إِلَيَّ.

وأَرْعَى إِلَيْهِ: اسْتَمَع.

وأَرْعَيْت فُلانًا سَمْعي إِذَا اسْتَمَعْت إِلَى مَا يقولُ وأَصْغَيْت إِلَيْهِ.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُرْعِي إِلَى قَوْلِ أَحدٍ أَي لَا يلتفِتُ إِلَى أَحد.

وَقَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنَ الإِرْعاءِ والمُرَاعَاةِ، " وَقَالَ الأَخفش: هُوَ فاعِلْنا مِنَ المُراعاة عَلَى مَعْنَى أَرْعِنا سَمْعَك وَلَكِنَّ الْيَاءَ ذَهَبَتْ للأَمْر، وَقُرِئَ رَاعِنًا، بِالتَّنْوِينِ عَلَى إعْمال القولِ فِيهِ كأَنه قَالَ لَا تَقُولُوا حُمْقًا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا، وَهُوَ مِنَ الرُّعونَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَقَالَ أَبو إِسْحَاقَ: قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقوال، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَرْعِنا سَمْعَك، وَقِيلَ: أَرْعِنَا سَمْعَك حَتَّى نُفْهِمَك وتَفْهَمَ عَنَّا، قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهل الْمَدِينَةِ، ويُصَدِّقُها قِرَاءَةُ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: لَا تَقُولُوا رَاعَوْنَا "، وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَرْعِنا سَمْعك ورَاعِنَا سَمْعَك، وَقَدْ مَرَّ مَعْنَى مَا أَراد القومُ يقول رَاعِنا فِي تَرْجَمة رَعَنَ، وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعِنا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَسابُّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بَيْنَهَا، وكانوا يسُبُّون النبي، عليه السلام، فِي نُفوسِهِم فَلَمَّا سَمِعوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ اغْتَنَمُوا أَن يُظْهِرُوا سَبَّهُ بِلَفْظٍ يُسمع وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِي ظَاهِرِهِ شَيْءٌ؛ فأَظهر اللَّهُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ ونَهَى عَنِ الْكَلِمَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: رَاعِنَا مِنَ المُرَاعَاة والمُكافأَةِ، وأُمِرُوا أَن يخاطِبوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتعزير والتَّوْقير، أَي لَا تَقُولُوا رَاعِنا أَي كافِئْنا فِي المَقال كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.

وَفِي" مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَاعُونا.

ورَعى عَهْدَه وحَقَّه: حَفِظَه، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الرَّعْيا والرَّعْوَى.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُرى ثَعْلَبًا حَكَى الرُّعوى، بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْوَاوِ، وَهُوَ مِمَّا قُلِبَتْ يَاؤُهُ وَاوًا لِلتَّصْرِيفِ وَتَعْوِيضِ الْوَاوِ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِ الْيَاءِ عَلَيْهَا وَلِلْفَرْقِ أَيضًا بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ كالَبقْوى والفَتْوى والتَّقْوى والشَّرْوى والثَّنْوى، والبَقْوى والبَقْيا اسْمَانِ يُوضَعَانِ مَوْضِعَ الإِبْقاء.

والرَّعْوى والرَّعْيا: مِنْ رِعايةِ الحِفاظِ.

وَيُقَالُ: ارْعَوَى فُلَانٌ عَنِ الْجَهْلِ يَرْعَوِي ارْعِوَاءً حَسَنًا ورَعْوى حَسَنةً، وَهُوَ نُزُوعُه وحُسْنُ رُجوعهِ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرَّعْوَى والرَّعْيا النُّزُوعُ عَنِ الْجَهْلِ وحسنُ الرجوعِ عَنْهُ.

وارْعَوَى يَرْعَوِي أَي كفَّ عَنِ الأُمور.

وَفِي الْحَدِيثِ: « شَرُّ الناسِ رجلٌ يقرأُ كتابَ اللهِ لَا يَرْعَوِي إِلَى شَيءٍ مِنْهُ» أَي لَا ينكفُّ وَلَا يَنْزَجِرُ، مِنْ رَعَا يَرْعُو إِذَا كفَّ عَنِ الأُمور.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الرَّعْوَة والرِّعْوة والرُّعْوَة والرُّعْوَى والارْعِوَاء، وَقَدِ ارْعَوى عَنِ الْقَبِيحِ، وَتَقْدِيرُهُ افْعَوَلَ وَوَزْنُهُ افْعَلَل، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْغَمْ لِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالِاسْمُ الرُّعْيا، بِالضَّمِّ، والرَّعْوى بِالْفَتْحِ مِثْلُ البُقْيا والبَقْوى.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: « إِذَا كَانَتْ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فسُئِلْت عَنْهَا فأَخْبِرْ بِهَا وَلَا تقُلْ حَتَّى آتِيَ الأَمير لَعَلَّهُ يَرْجِعُ أَو يَرْعَوِي».

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الارْعِوَاءُ النَّدَم عَلَى الشَّيْءِ وَالِانْصِرَافُ عَنْهُ والتركُ لَهُ؛ وأَنشد:

إِذَا قُلْتُ عَنْ طُول التَّنائي: قَدِ ارْعَوَى، ***أَبى حُبُّها إِلَّا بَقاءً عَلَى هَجْرِ

قَالَ الأَزهري: ارْعَوَى جَاءَ نَادِرًا، قَالَ: وَلَا أَعلم فِي الْمُعْتَلَّاتِ مِثْلَهُ كأَنهم بَنَوْهُ عَلَى الرَّعْوى وَهُوَ الإِبْقاءُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « إلَّا إرْعَاءً عَلَيْهِ »أَي إبْقاءً ورِفْقًا.

يُقَالُ: أَرْعَيْتُ عَلَيْهِ، مِنَ المُرَاعَاةِ والمُلاحظةِ.

قَالَ الأَزهري: وللرَّعْوَى ثلاثةُ مَعانٍ: أَحدها الرَّعْوى اسمٌ مِنَ الإِبْقاء، والرَّعْوَى رِعاية الحِفاظِ لِلْعَهْدِ، والرَّعْوى حسنُ المُراجَعةِ والنُّزوع عَنِ الجَهْلِ.

وَقَالَ شَمِرٌ: تَكُونُ المُرَاعَاة مِنَ الرَّعْيِ مَعَ آخَرَ، يُقَالُ: هَذِهِ إبِلٌ تُرَاعِي الوَحْشَ أَي تَرْعى مَعَهَا.

وَيُقَالُ: الحِمارُ يُراعِي الحُمُر أَي يَرْعى مَعَهَا؛ قَالَ أَبو ذُؤَيب:

مِنْ وَحشِ حَوضَى يُرَاعِي الصَّيْدَ مُنْتَبِذًا، ***كأَنَّه كوْكَبٌ فِي الجَوِّ مُنْجَرِدُ

والمُرَاعَاةُ: المحافَظة والإِبْقاءُ عَلَى الشيءِ.

والإِرْعَاء: الإِبْقاء.

قَالَ أَبو سَعِيدٍ: يُقَالُ أَمْرُ كَذَا أَرْفَقُ بِي وأَرْعَى عليَّ.

وَيُقَالُ: أَرْعَيْت عَلَيْهِ إِذَا أَبْقَيْت عَلَيْهِ ورحِمْتَه.

وَفِي الْحَدِيثِ: « نِساءُ قُرَيْشٍ خيرُ نِساءٍ أَحْناهُ عَلَى طِفْلٍ فِي صِغَرِه وأَرْعَاهُ عَلَى زوجٍ فِي ذاتِ يدهِ »؛ هُوَ مِنَ المُراعاةِ الحِفْظِ والرِّفْقِ وتَخْفِيفِ الكُلَفِ والأَثْقالِ عَنْهُ، وذاتُ يدهِ كِنايةٌ عَمَّا يَمْلِكُ مِنْ مالٍ وغيرهِ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « لَا يُعْطى مِنَ الغَنائِمِ شيءٌ حَتَّى تُقْسَم إِلَّا لِرَاعٍ أَو دليلٍ »؛ الرَّاعِي هُنَا: عَيْنُ الْقَوْمِ عَلَى العدوِّ، مِنَ الرِّعايَةِ الحِفْظِ.

وَفِي حَدِيثِ لُقْمَانَ بْنِ عادٍ: « إِذَا رَعَى القومُ غَفَلَ »؛ يُرِيدُ إِذَا تَحافَظَ القومُ لشيءٍ يخافُونَه غَفَلَ وَلَمْ يَرْعَهُم.

وَفِي الْحَدِيثِ: « كُلُّكُمْ راعٍ وكلُّكُم مسؤول عَنْ رعيَّتهِ» أَي حافِظٌ مؤْتَمَنٌ.

والرَّعِيَّةُ: كُلُّ مَنْ شَمِلَه حِفْظُ الرَّاعِي ونَظَرهُ.

وَقَوْلُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ورِّعِ اللِّصَّ وَلَا تُرَاعِهْ، فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: مَعْنَاهُ كُفَّه أَنْ يأْخُذَ مَتاعَك وَلَا تُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنه قَالَ: مَا كَانُوا يُمْسِكون عن اللِّصِّ إذا دَخَلَ دارَ أَحدِهم تأَثُّمًا.

والرَّاعِيَةُ: مُقَدِّمَةُ الشَّيْبِ.

يُقَالُ: رأَى فلانٌ رَاعِيَةَ الشَّيْبِ، ورَوَاعِي الشَّيْبِ أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ.

والرِّعْيُ: أَرْضٌ فِيهَا حِجَارَةٌ ناتِئَةٌ تَمْنَعُ اللُّؤْمَة أَن تَجْري.

ورَاعِيَة الأَرضِ: ضَرْبٌ مِنَ الجَنادِب.

والرَّاعِي: لَقَبُ عُبْيدِ اللَّهِ بْنِ الحُصَيْن النُّمَيْري الشَّاعِرِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


110-لسان العرب (زبي)

زبي: الزُّبْيَةُ: الرابِيةُ الَّتِي لَا يَعْلُوهَا الْمَاءُ، وَفِي الْمَثَلِ: قَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى.

وكتبَ عثمانُ إِلى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حُوصِر: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بلغَ السَّيْلُ الزُّبَى وجاوَزَ الحِزامُ الطُّبْيَيْنِ، فإِذا أَتاك كِتابي هَذَا فأَقْبِلْ إِليَّ، عليَّ كنتَ أَمْ لِي "؛ يَضْرِبُ مَثَلًا للأَمر يتَفاقَمُ أَو يتَجاوَزُ الحدَّ حَتَّى لَا يُتَلافَى.

والزُّبَى: جُمَعُ زُبْيَة وَهِيَ الرَّابِيَةُ لَا يَعْلُوهَا الْمَاءُ، قَالَ: وَهِيَ مِنَ الأَضداد، وَقِيلَ: إِنما أَراد الْحُفْرَةَ الَّتِي تُحْفَرُ للأَسد وَلَا تحفرُ إِلا فِي مَكَانٍ عالٍ مِنَ الأَرض لِئَلَّا يَبْلُغَهَا السَّيْلُ فتَنْطَمَّ.

والزُّبْيةُ: حُفرة يتَزَبَى فِيهَا الرَّجُلُ لِلصَّيْدِ وتُحْتَفَرُ لِلذِّئْبِ فيُصْطاد فِيهَا.

ابْنُ سِيدَهْ: الزُّبْيَة حُفْرة يَستتر فِيهَا الصَّائِدُ.

والزُّبْية: حَفِيرة يُشْتَوىَ فِيهَا ويُخْتَبَزُ، وزَبَّى اللحمَ وَغَيْرَهُ: طَرَحه فِيهَا؛ قَالَ:

طارَ جَرادي بَعْدَ ما زَبَّيْتُه، ***لَوْ كانَ رأْسي حَجرًا رَمَيْتُه

والزُّبْيَة: بِئْرٌ أَو حُفْرة تُحْفَر للأَسد، وَقَدْ زَباها وتَزَبَّاها؛ قَالَ:

فكانَ، والأَمرَ الَّذِي قَد كِيدا، ***كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً فاصْطِيدا

وتَزَبَّى فِيهَا: كتَزَبَّاها؛ وَقَالَ عَلْقَمَةُ:

تَزَبَّى بِذِي الأَرْطى لَهَا، ووراءَها ***رِجالٌ فَبدَّتْ نَبْلَهم وكَلِيبُ

وَيُرْوَى: وأَرادها رِجَالٌ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَتْ زُبْيَةُ الأَسدِ زُبْية لِارْتِفَاعِهَا عَنِ المَسِيل، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يحْفِرونها فِي مَوْضِعٍ عالٍ.

وَيُقَالُ قَدْ تَزَبَّيْت زُبْيةً؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

يَا طَيِءَ السَّهْلِ والأَجْبالِ مَوْعِدُكم ***كمُبْتَغى الصَّيدِ أَعْلى زُبْيَةِ الأَسَدِ

والزُّبْيَةُ أَيضًا: حُفْرة النَّمْلِ، والنملُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِلا فِي مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه نَهَى عن مَزَابِي القُبُور »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هِيَ مَا يُنْدَبُ بِهِ الميتُ ويُناحُ عَلَيْهِ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا زَبَاهُم إِلى هَذَا أَي مَا دَعاهم، وَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ مِزْبَاةٍ مِنَ الزُّبْيةِ وَهِيَ الحُفْرة، قَالَ: كأَنه، وَاللَّهُ أَعلم، كَرِهَ أَن يُشَقَّ القَبرُ ضَرِيحًا كالزُّبْية وَلَا يُلْحَد، قَالَ: ويُعَضِّدُه قَوْلُهُ اللَّحْدُ لَنَا والشَّقُّ لِغَيْرِنَا، قَالَ: وَقَدْ صَحَّفَه بعضُهم فَقَالَ نَهى عَنْ مَراثي القُبور.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وجهَه: « أَنه سُئِلَ عَنْ زُبْيةٍ أَصْبَحَ الناسُ يتدافَعُون فِيهَا فَهَوَى فِيهَا رَجُلٌ فتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ والثالثُ برابع فوَقَعُوا أَربعَتُهم فِيهَا فخدَشَهم الأَسد فَمَاتُوا، فَقَالَ: عَلَى حافِرِها الدّيةُ: للأَول رُبْعُهَا، وَلِلثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرباعها، وَلِلثَّالِثِ نِصْفُهَا، وَلِلرَّابِعِ جَمِيعُ الدِّيَةِ، فأُخْبِرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَجاز قَضَاءَهُ »؛ الزُّبْيةُ: حُفَيْرَةٌ تُحْفَر للأَسَدِ والصَّيْدِ ويُغَطَّى رأْسُها بِمَا يَسْتُرُهَا لِيَقَع فِيهَا، قَالَ: وَقَدْ رُوِي الحُكم فِيهَا بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.

والزَّابِيانِ: نَهَرانِ بِنَاحِيَةِ الفُرات، وَقِيلَ: فِي سافِلة الفُرات، وَيُسَمَّى مَا حَولَهما.

مِنَ الأَنهار الزَّوَابِي: وَرُبَّمَا حَذَفُوا الْيَاءَ فَقَالُوا الزّابانِ والزَّابُ كَمَا قَالُوا فِي الْبَازِي بازٌ.

والأُزْبِيُّ: السُّرْعةُ والنَّشاطُ فِي السَّيْرِ، عَلَى أُفْعول.

وَاسْتُثْقِلَ التَّشْدِيدُ عَلَى الْوَاوِ، وَقِيلَ: الأُزْبِيُالعَجَبُ مِنَ السَّيْرِ والنَّشاط؛ قَالَ مَنْظُورُ بْنُ حَبَّةَ:

بِشَمَجَى المَشْيِ عَجُولِ الوَثْبِ، ***أَرْأَمْتُها الأَنْساعَ قَبْلَ السَّقْبِ،

حَتَّى أَتَى أُزْبِيُّها بالأَدْبِ "والأُزبِيُّ: ضَرْبٌ مِنْ سَيْرِ الإِبل.

والأَزَابِيُّ: ضُروب مُخْتَلِفَةٌ مِنَ السَّير، وَاحِدُهَا أُزْبِيٌّ.

وَحَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ عَنِ ابْنِ جِنِّي قَالَ: مَرَّ بِنَا فُلَانٌ وَلَهُ أَزَابِيُّ منكرة أَي عَدْوٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنَ الزُّبْية.

والأُزْبِيُّ: الصَّوْت؛ قَالَ صَخْرُ الْغَيِّ:

كأَنَّ أُزْبِيَّها، إِذا رُدِمَتْ، ***هَزْمُ بُغاةٍ فِي إِثْرِ مَا فَقَدُوا

وزَبَى الشّيءَ يَزْبِيهِ: ساقَه؛ قال:

تِلْكَ اسْتَفِدْها، وأَعْطِ الحُكْمَ والِيَهَا، ***فَإِنَّها بَعْضُ مَا تَزْبِي لَكَ الرَّقِمُ

وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: « جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجل مُحاوَرةٌ قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْتُ لَهُ كَلِمةً أُزْبِيهِ بِهَا» أَي أُزْعِجُه وأُقْلِقُه، مِنْ قَوْلِهِمْ أَزْبَيْتُ الشَّيءَ أُزْبِيه إِذا حَمَلْتَه، وَيُقَالُ فِيهِ زَبَيْتُه لأَن الشَّيءَ إِذا حُمِل أُزْعِجَ وأُزِيلَ عَنْ مَكَانِهِ.

وزَبَى الشَّيءَ: حَمَلَهُ: قَالَ الْكُمَيْتُ:

أَهَمْدانُ مَهْلًا لَا تُصَبِّحْ بُيُوتَكُمْ، ***بِجَهْلِكُمُ، أُمُّ الدُّهَيْمِ وَمَا تَزْبي

يُضرب الدُّهَيْمُ وَمَا تَزْبِي للدّاهِية إِذا عَظُمَت وتَفَاقَمَتْ.

وزَبَيْتُ الشَّيءَ أَزْبِيه زَبْيًا: حَمَلْتُه.

وازْدَبَاهُ: كزَباه.

وتَزَابَى عَنْهُ: تَكَبَّر؛ هَذِهِ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ قَالَ: وأَنشدني الْمُفَضَّلُ:

يَا إِبِلي مَا ذامُه فَتِيبَيْهْ ***.

ماءٌ رواءٌ ونَصِيٌّ حَوْلَيْهْ،

هَذا بأَفْواهِك حتَّى تَأْبَيْهْ، ***حَتَّى تُرُوحِي أُصُلًا تَزَابَيْهْ

تَزَابيَ العانةِ فَوْقَ الزَّازَيْهْ "قَالَ: تَزابَيْه تَرَفَّعي عَنْهُ تَكَبُّرًا أَي تكَبَّرِين عَنْهُ فَلَا تُريدينَه وَلَا تَعْرِضِينَ لَهُ لأَنكِ قَدْ سَمِنْتِ، وَقَوْلُهُ: فَوْقُ الزَّازَيْهْ المكانُ الْمُرْتَفِعُ، أَراد عَلَى الزَّيْزاءَةِ فغيَّره.

والتَّزَابِي أَيضًا: مِشْيَةٌ فِيهَا تَمَدُّد وبُطْءٌ؛ قَالَ رؤْبة: " إِذَا تَزَابَى مِشيةً أَزائِبَا "أَراد بالأَزائِبِ الأَزَابِيَّ، وَهُوَ النَّشاطُ.

وَيُقَالُ: أَزَبَتْه أَزْبَةٌ وأَزَمَتْه أَزْمة أَي سَنَة.

وَيُقَالُ: لَقِيتُ مِنْهُ الأَزَابِيَّ؛ واحدُها أُزْبِيٌّ، وَهُوَ الشرُّ والأَمرُ الْعَظِيمُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


111-لسان العرب (إذ إذا إذن)

تَفْسِيرُ إِذْ وإِذا وإِذَنْ مُنَوَّنةً: قَالَ اللَّيْثُ: تَقُولُ الْعَرَبُ إِذْ لِمَا مضَى وإذا إِذا لِمَا يُسْتَقْبَل الْوَقْتَيْنِ مِنَ الزمان، قال: وإذا إِذا جَوَابُ تأْكيد لِلشَّرْطِ يُنوَّن فِي الِاتِّصَالِ وَيُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَرَبُ تَضَعُ إِذ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا إِذا لِلْمَاضِي، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا}؛ مَعْنَاهُ وَلَوْ تَرى إِذْ يَفْزَعُونَ يومَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنما جَازَ ذَلِكَ لأَنه كَالْوَاجِبِ إِذْ كَانَ لَا يُشَكُّ فِي مَجِيئِهِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ إِذا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}؛ ويأْتي إِذَا" إِذا بِمَعْنَى إِن الشَّرْط كقولك أُكْرِمُك إذا إِذا أَكْرَمْتَني، مَعْنَاهُ إِن أَكرمتني، وأَما إِذ الموصُولةُ بالأَوقات فإِن الْعَرَبَ تَصِلُهَا فِي الْكِتَابَةِ بِهَا فِي أَوْقات مَعْدُودة فِي حِينَئذ ويَومَئِذ ولَيْلَتَئِذ وغَداتَئِذ وعَشِيَّتَئِذ وساعَتَئِذ وعامَئِذٍ، وَلَمْ يَقُولُوا الآنَئِذٍ لأَن الْآنَ أَقرب ما يكون في "الْحَالِ، فَلَمَّا لَمْ يتحوَّل هَذَا الاسمُ عَنْ وقتِ الحالِ وَلَمْ يتباعدْ عَنْ ساعَتِك الَّتِي أَنت فِيهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ وَلِذَلِكَ نُصِبت فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمَّا أَرادوا أَن يُباعِدوها ويُحوِّلوها مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ وَلَمْ تَنْقَدْ كَقَوْلِكَ أَن تَقُولُوا الآنَئِذ، عَكَسُوا ليُعْرَفَ بِهَا وقتُ مَا تَباعَدَ مِنَ الْحَالِ فَقَالُوا حِينَئِذٍ، وَقَالُوا الْآنَ لساعَتِك فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي الْبُعْدِ حِينَئِذٍ، ونُزِّل بِمَنْزِلَتِهَا الساعةُ وساعَتَئذ وَصَارَ فِي حَدِّهِمَا الْيَوْمُ وَيَوْمَئِذٍ، والحروفُ الَّتِي وَصَفْنَا عَلَى مِيزَانِ ذَلِكَ مخصوصةٌ بِتَوْقِيتٍ لَمْ يُخَصّ بِهِ سَائِرُ أَزْمَانِ الأَزمنة نَحْوُ لَقِيته سَنةَ خَرَجَ زَيْدٌ، ورأَيتُه شَهْرَ تَقَدَّم الحَجَّاجُ؛ وَكَقَوْلِهِ: " فِي شَهْرَ يَصْطادُ الغُلامُ الدُّخَّلا

فَمَنْ نَصَبَ شَهْرًا فإِنه يَجْعَلُ الإِضافة إِلى هَذَا الْكَلَامِ أَجمع كَمَا قَالُوا زَمَنَ الحَجَّاجُ أَميرٌ.

قَالَ اللَّيْثُ: فإِنَّ...إِذ بِكَلَامٍ يَكُونُ صِلَةً أَخرجتها مِنْ حَدِّ الإِضافة وَصَارَتِ الإِضافة إِلى قَوْلِكَ إِذ تَقُولُ، وَلَا تَكُونُ خَبَرًا كَقَوْلِهِ:

عَشِيَّةَ إِذْ تَقُولُ يُنَوِّلُوني "كَمَا كَانَتْ فِي الأَصل حَيْثُ جَعَلْتَ تَقُولُ صِلةً أَخرجتها مِنْ حَدِّ الإِضافة وَصَارَتِ الإِضافة إِذ تَقُولُ جُمْلَةً.

قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ إِذْ صَبِيٌّ أَي هُو إِذْ ذَاكَ صَبِيٌّ؛ وَقَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

نَهَيْتُك عَنْ طِلابِكَ أُمَّ عَمْرٍو ***بِعافِيَةٍ، وأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ

قَالَ: وَقَدْ جَاءَ أَوانَئِذٍ فِي كَلَامِ هُذَيْلٍ؛ وأَنشد:

دَلَفْتُ لَهَا أَوانَئِذٍ بسَهْمٍ ***نَحِيضٍ لَمْ تُخَوِّنْه الشُّرُوجُ

قَالَ ابْنُ الأَنباري فِي إِذْ وإذا "إِذا: إِنما جَازَ لِلْمَاضِي أَن يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ إِذا وَقَعَ الْمَاضِي صِلَةً لِمُبْهَم غَيْرِ مُؤَقت، فجَرى مَجْرى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ مَعْنَاهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ ويَصُدُّون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}؛ مَعْنَاهُ إِلا الَّذِينَ يَتُوبُونَ، قَالَ: وَيُقَالُ لَا تَضْرِب إِلا الَّذِي ضَرَبَك إِذا سَلَّمْتَ عَلَيْهِ، فتَجِيء بإِذا لأَنَّ الَّذِي غَيْرُ مُوَقت، فَلَوْ وَقَّته فَقَالَ اضْرِبْ هَذَا الَّذِي ضَرَبَك إِذ سلَّمْتَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ إِذا فِي هَذَا اللَّفْظِ لأَن تَوْقِيتَ الَّذِي أَبطل أَن يَكُونَ الْمَاضِي فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَا هَلَكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَه، فإِذا جاؤوا بإِذا قَالُوا مَا هَلَكَ إِذا عَرَفَ قَدْرَه، لأَن الفِعل حَدَثٌ عَنْ مَنْكُورٍ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، كأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُرِيدُ مَا يَهْلِكُ كُلَّ امْرِئٍ إِذا عَرَف قَدْرَه وَمَتَى عَرَف قَدْرَهُ، وَلَوْ قَالَ إِذْ عَرَفَ قَدْرَهُ لَوَجَبَ تَوْقِيتُ الْخَبَرِ عَنْهُ وأَن يُقَالَ مَا هَلَك امْرُؤٌ إِذْ عرَف قَدْرَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ قَدْ كنتُ صَابِرًا إِذا ضَرَبْتَ وَقَدْ كنتُ صَابِرًا إِذ ضَربتَ، تَذهب بإِذا إِلى ترْدِيد الْفِعْلِ، تُريد قَدْ كنتُ صَابِرًا كلَّما ضَرَبْتَ، وَالَّذِي يَقُولُ إِذْ ضَرَبْتَ يَذْهَبُ إِلى وَقْتٍ وَاحِدٍ وإِلى ضَرْبٍ مَعْلُومٍ مَعْرُوفٍ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذْ إِذَا وَلِيَ فِعْلًا أَو اسْمًا لَيْسَ فِيهِ أَلف وَلَامٌ إِن كَانَ الْفِعْلُ مَاضِيًا أَو حَرْفًا مُتَحَرِّكًا فَالذَّالُ مِنْهَا سَاكِنَةٌ، فإِذا وَلِيَتِ اسْمًا بالأَلف وَاللَّامِ جُرَّت الذَّالُ كَقَوْلِكَ: إِذِ الْقَوْمُ كَانُوا نازِلينَ بكاظِمةَ، وإِذِ النَّاسُ مَن عَزَّ بَزَّ، وأَما إذا" إِذا فإِنها إِذا اتَّصَلَتْ بِاسْمٍ مُعرَّف بالأَلف وَاللَّامِ فإِن ذَالَهَا تُفتح إِذا كَانَ مُسْتَقْبَلًا كَقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}، لأَنَّ مَعْنَاهَا إِذا.

قَالَ ابْنُ الأَنباري: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ}، بِفَتْحِ الذَّالِ، وَمَا أَشبهها أَي تَنْشَقُّ، وَكَذَلِكَ مَا أَشبهها، وإِذا انْكَسَرَتِ الذَّالُ فَمَعْنَاهَا إِذِ الَّتِي لِلْمَاضِي غَيْرَ أَنَّ إِذْ تُوقَع مَوْقع إِذا وإِذا مَوْقِعَ إِذْ.

قَالَ اللَّيْثُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ}؛ مَعْنَاهُ إِذَاإِذا الظَّالِمُونَ لأَن هَذَا الأَمر مُنْتَظَر لَمْ يَقَع؛ قَالَ أَوس فِي إِذَا" إِذا بِمَعْنَى إِذْ:

الحافِظُو الناسِ فِي تَحُوطَ إِذا ***لَمْ يُرْسِلُوا، تَحْتَ عائِذٍ، رُبَعا

أَي إِذْ لَمْ يُرْسِلُوا؛ وَقَالَ عَلَى أَثره:

وهَبَّتِ الشامِلُ البَلِيلُ، وإِذْ ***باتَ كَمِيعُ الفَتاةِ مُلْتَفِعا

وَقَالَ آخَرُ:

ثُمَّ جَزاه اللهُ عَنَّا، إِذْ جَزى، ***جَنَّاتِ عَدْنٍ والعلالِيَّ العُلا

أَراد: إِذا جَزَى.

وَرَوَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنه قَالَ: إذا إِذًا مُنَوَّنَةٌ إِذا خَلت بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي أَوَّله أَحد حُرُوفِ الِاسْتِقْبَالِ نَصَبْتَهُ، تَقُولُ مِنْ ذَلِكَ: إِذًا إِذًا أُكْرِمَك، فَإِذَا حُلْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِحَرْفٍ رَفَعْتَ ونصبت فقلت: إذا فإِذًا لَا أُكْرِمُك وَلَا أُكْرِمَك، فَمَنْ رَفَعَ فَبِالْحَائِلِ، وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَن يَكُونَ مُقدَّمًا، كأَنك قُلْتَ فَلَا إِذًا أُكْرِمَك، وَقَدْ خَلَتْ بِالْفِعْلِ بِلَا مَانِعٍ.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ أَحمد بْنُ يَحْيَى: وَهَكَذَا يَجُوزُ أَن يُقرأَ: فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا، بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، قَالَ: وإِذا حُلت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِاسْمٍ فارْفَعه، تَقُولُ إِذًا إِذًا أَخُوك يُكْرِمُك، فإِن جَعَلَتْ مَكَانَ الِاسْمِ قسَمًا نَصَبْتَ فقلت إذا إِذًا وَاللَّهِ تَنامَ، فإِن أَدخلت اللَّامَ عَلَى الْفِعْلِ مَعَ القَسَم رَفَعْتَ فَقُلْتَ إذا إِذًا واللهِ لَتَنْدَمُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَكَى بَعْضُ أَصحاب الْخَلِيلِ عَنْهُ أَنْ هِيَ العامِلةُ فِي بَابِ إِذًا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالَّذِي نَذْهَبُ إِليه وَنَحْكِيهِ عَنْهُ أَن إذا إِذًا نَفسها الناصِبةُ، وَذَلِكَ لأَن إذا إِذًا لِمَا يُسْتَقبل لَا غَيْرُ فِي حَالِ النَّصْبِ، فَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ فِي الْعَمَلِ كَمَا جُعلت لَكِنَّ نَظِيرَةً إِنَّ فِي الْعَمَلِ فِي الأَسماء، قَالَ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَسَنٌ جَمِيل.

وَقَالَ الزَّجاج: الْعَامِلُ عِنْدِي النَّصْبُ فِي سَائِرِ الأَفعال أَنْ، إِما أَن تَقَعَ ظَاهِرَةً أَو مُضْمَرَةً.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: يُكْتَبُ كَذَى وكَذَى بِالْيَاءِ مِثْلُ زَكَى وخَسَى، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كَذَا وَكَذَا يُكْتَبُ بالأَلف لأَنه إِذا أُضيف قِيلَ كَذَاكَ، فأُخبر ثَعْلَبٌ بِقَوْلِهِ فَقَالَ: فَتًى يُكْتَبُ بِالْيَاءِ وَيُضَافُ فَيُقَالُ فَتَاكَ، وَالْقُرَّاءُ أَجمعوا عَلَى تَفْخِيمِ ذَا وَهَذِهِ وَذَاكَ وَذَلِكَ وَكَذَا وَكَذَلِكَ، لَمْ يُمِيلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، والله أَعلم.

ذيت وذيت: التَّهْذِيبُ: أَبو حَاتِمٍ عَنِ اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ كَانَ مِنَ الأَمر كَيْتَ وكَيْتَ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وذَيْتَ وذَيْتَ، كَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ، قَالَ: وَقَدْ نَقَلَ قَوْمٌ ذَيَّتَ وذَيَّتَ، فإِذا وَقَفُوا قَالُوا ذَيَّهْ بِالْهَاءِ.

وَرَوَى ابْنُ نَجْدةَ عَنْ أَبي زَيْدٍ قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ قَالَ فُلَانٌ ذَيْتَ وذَيْتَ وعَمِلَ كَيْتَ وكَيْتَ، لَا يُقَالُ غَيْرُهُ.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ كَانَ مِنَ الأَمر ذَيْتَ وذَيْتَ وذَيْتِ وذَيْتِ وذَيَّةَ وذَيَّةَ.

وَرَوَى ابْنُ شُمَيْلٍ عَنِ يُونُسَ: كَانَ مِنَ الأَمر ذَيَّةُ وذَيَّةُ، مُشَدَّدَةً مَرْفُوعَةً، وَاللَّهُ أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


112-تهذيب اللغة (علم)

علم: حدّثنا محمد بن إسحاق السعديّ حدثنا سعد بن مَزْيد حدثنا أبو عبد الرحمن المُقْرِى في قول الله جلّ وعزّ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ} [يُوسُف: 68].

فقلت: يا أبا عبد الرحمن ممن سمعت هذا؟ قال: من ابن عُيَينة، قلت: حَسْبي.

وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس العلم بكثرة الحديث ولكن العِلم الخَشْية.

قلت: ويؤيّد ما قاله قولُ الله جل وعز: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فَاطِر: 28].

وقال بعضهم: العالِم هو الذي يعمل بما يعلم.

قلت: وهذا يقرب من قول ابن عيينة.

وقول الله جلّ وعزّ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعالَمِينَ} [الفَاتِحَة: 2] رَوى عطاء بن السائب عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: {رَبِ الْعالَمِينَ} قال: رب الجِنّ والإنس.

وقال قتادة: ربّ الخلق كلِّهم.

قلت: والدليل على صحَّة قول ابن عباس قول الله جلّ وعزّ: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا} [الفُرقان: 1] وليس النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم نذيرًا للبهائم ولا للملائكة، وهم كلّهم خَلْق الله، وإنما بُعث محمد صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم نذيرًا للجنّ والإنس.

وروي عن وهب بن منبّه أنه قال: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد؛ وما العُمران في الخراب إلا كفُسْطاط في صحراء.

وقال الزجاج: معنى {الْعالَمِينَ}: كلّ ما خلق الله كما قال: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعَام: 164] وهو جمع عالَم.

قال: ولا واحد لعالَم من لفظه؛ لأن عالَمًا جَمْع أشياء مختلفة فإن جعل عالم لواحد منها صار جمعًا لأشياء متَّفقة.

قلت: فهذه جملة ما قيل في تفسير العالم.

وهو اسم بني على مثال فاعَل؛ كما قالوا: خاتم وطابَع ودانَقَ.

وأمَّا قول الله جلّ وعزّ: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البَقَرَة: 102] تكلم أهل التفسير في هذه الآية قديمًا وحديثًا.

وأبين الوجوه التي تأولوا: أن المَلكين كانا يعلّمان الناس وغيرهم ما يُسألان عنه ويأمران باجتناب ما حَرُم عليهم، وطاعة الله فيما أُمروا به ونهوا عنه.

وفي ذلك حكمة، لأن سائلًا لو سأل: ما الزنى؟ وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه ويُعلَم أنه حرام.

فكذلك مَجَاز إعلام المَلَكين الناس السِحْر وأمْرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام.

وذكر أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ.

قال: ومنه قوله تعالى: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ} [البَقَرَة: 102] قال ومعناه أن الساحر يأتي الملكين فيقول: أخبراني عما نهى الله عنه حتى أنتهي.

فيقولان: نهى عن الزنى، فيستوصفهما الزنى فيصفانه.

فيقول: وعمَّا ذا؟ فيقولان: عن اللواط.

ثم يقول: وعماذا؟ فيقولان: عن السحر، فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا فيحفظه وينصرف، فيخالف فيكفر.

فهذا يعلمان، إنما هو: يُعْلِمان.

ولا يكون تعليم السحر إذا كان إعلامًا كفرًا، ولا تعلُّمه إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه كفرًا؛ كما أن من عرف الربا لم يأثم بأنه عرفه، إنما يأثم بالعمل.

قلت: وليس كتابنا هذا مقصورًا على علم القرآن فنودع موضع المشكل كل ما قيل فيه وإنما نثبت فيه ما نستَصْوبه وما لا يستغني أهلُ اللغة عن معرفته.

ومِنْ صفات الله العليم والعالِم والعلَّام.

قال الله جل وعز: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]

وقال: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} [الأنعام: 73].

وقال في موضع آخر: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سَبَإ: 48] فهو الله العالِم بما كان وما يكون كَوْنه، وبما يكون ولمّا يكن بعد قبل أن يكون.

ولم يزل عالمًا، ولا يزال عالِمًا بما كان وما يكون، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

ويجوز أن يقال للإنسان الذي علَّمه الله عِلمًا من العلوم: عليم؛ كما قال يوسُف للمِلك: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].

وقال الله جلّ وعزّ: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فَاطِر: 28] فأخبر ـ جلَّ وعزَّ ـ أن من عباده مَن يخشاه وأنهم هم العلماء.

وكذلك صفة يوسف كان عليمًا بأمر ربّه وأنه واحد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)؛ إلى ما عَلَّمه الله (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الذي كان يقضي به على الغيب، فكان عليمًا بما علَّمه الله.

ويقال: رجل علَّامة إذا بالغت في وصفه بالعلم.

والعِلْم نقيض الجهل.

وإنه لعالم، وقد علِم يعلَم عِلمًا.

ويقال: ما علمت بخبر قدومك أي ما شَعَرت.

ويقال: استعلِمْ لي خبرَ فلان وأعْلِمنيه حتى أَعلمه.

وقول الله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1، 2] قيل في تفسيره: إنه جلّ ذكره يسَّره لأن يُذكَر.

وأما قوله: {عَلَّمَهُ الْبَيانَ} [الرحمن: 4] فمعناه: أنه علَّمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء.

ويكون معنى قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيانَ): مميّزًا ـ يعني الإنسان ـ حتى انفصل من جميع الحيوان.

وقال جلّ وعزَّ {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} [الرحمن: 24].

قالوا الأعلام: الجبال، واحدها عَلَم.

وقال جرير:

إذا قطعنا علمًا بدا علم

وقال في صفة عيسى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] وهي قراءة أكثر القرَّاء.

وقرأ بعضهم: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة) المعنى أن ظهور عيسى ونزوله إلى الأرض عَلَامة تدلّ على اقتراب الساعة.

ويقال لما يُبنى في جَوَادِّ الطريق من المنار التي يستدلّ بها على الطريق: أعلام، واحدها عَلَم.

والعَلَم: الراية التي إليها يجتمع الجند.

والعَلَم: عَلَم الثوب ورَقْمه في أطرافه.

والمَعْلَم: ما جعل علامة وعَلَمًا للطرق والحدود؛ مثل أعلَام الحرَم ومعالمه المضروبة عليه.

وفي الحديث: «تكون الأرض يوم القيامة كقُرْصة النَقيّ ليس فيها مَعْلَم لأحد».

وذكر سَلَمة عن الفرّاء: العُلام: الصَقْر.

قال: العُلَاميّ: الرجل الخفيف الذكيّ، مأخوذ من العُلَام.

وقال الليث: العُلَام: الباشِق، وهو ضرب من الجوارح.

وأما العُلّام ـ بتشديد اللام ـ فإن أبا العباس رَوَى عن ابن الأعرابيّ أنه الحِنّاء.

قلت: وهو صحيح.

وقال أبو عُبيد: المَعْلَم: الأثر، وجمعه المعالِم.

ويقال: أعلمت الثوب إذا جعلت فيه علامة أو جعلت له عَلَمًا.

وأعلمت على موضع كذا من الكتاب علامة.

أبو عبيد عن الأحمر: عالمَني فلان فعلَمتُه أَعْلُمُه ـ بالضمّ ـ وكذلك كل ما كان من هذا الباب بالكسر في يفعِل فإنه في باب المغالبة يرجع إلى الرفع؛ مثل ضاربته فضربته أضربه.

وعلمت يتعدى إلى مفعولين.

ولذلك أجازوا علمتُنِي كما قالوا: ظننتُني ورأيتُني وحسِبتُني.

تقول: علمت عبدَ الله عاقلًا.

ويجوز أن تقول: علمت الشيء بمعنى عَرَفته وخَبَرته.

وقال اللحياني: عَلَمت الرجل أعْلُمُه عَلْمًا إذا شققت شفته العليا، وهو الأعلم، وقد

عَلِمَ يَعْلَم عَلَمًا فهو أعلم.

والبعير يقال له: أعلم لعَلَم في مِشْفره الأعلى.

وإذا كان الشَقّ في شفته السُفلى فهو أفلح.

وقال ابن السكيت: العَلْم: مصدر عَلَمت شفته أعلُمها عَلْمًا.

والعَلَم: الشقّ في الشَفَة العليا.

وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل المشقوق الشفة السفلى: أفلح، وفي العليا: أعلم، وفي الأنف: أخرم، وفي الأُذُن: أخرب، وفي الجَفْن: أشتر.

ويقال فيه كله أشرم.

ويقال: عَلَمت عِمَّتي أَعْلِمها عَلْمًا.

وذلك إذا لُثْتها على رأسك بعلامة تُعرف بها عِمّتك.

وقال الشاعر:

ولُثن السُبُوب خِمْرة قرشيَّة *** دُبَيريّة يَعْلِمن في لَوْثها عَلْما

أبو عبيد عن الفرّاء العَيْلام: الضبعان، وهو ذكر الضِبَاع.

وقال الأمويّ والفرّاء: العَيْلم: البئر الكثيرة الماء.

ورجل مُعْلِم إذا عرف مكانه في الحرب بعلامة أعلمها.

وأَعْلَم حمزةُ يوم بدر.

ومنه قوله:

فتعرّفوني إنني أنا ذاكُمُ *** شاكٍ سلاحي في الحوادث مُعْلِم

وقِدْح مُعْلَم: فيه علامة.

ومنه قول عنترة:

ولقد شربت من المدامة بعدما *** ركد الهوا جربا لمَشُوف المعلَم

وقال شمر فيما قرأت بخطه في كتاب «السلاح» له: العَلْماء من أسماء الدروع.

قال: ولم أسمعه إلا في بيت زهير بن جَناب:

جَلَّح الدهر فانتحى لي وقِدْمًا *** كان يُنْحي القُوَى على أمثالى

يدرك التِمْسَح المولَّع في اللُجَّ *** ة والعُصْمَ في رؤوس الجبال

وتصدَّى ليصرع البطل الأرْ *** وَع بين العَلْماء والسربال

وروى غير شمر هذا البيت لعمرو بن قَمِيئة.

وقال: بين العلهاء والسربال، بالهاء.

والصواب ما رواه شمر بالميم.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


113-تهذيب اللغة (بيع بوع)

بيع ـ بوع: قال أبو عبد الرحمن: قال المفضّل الضبيّ: يقال باع فلان على بيعِ فلان.

وهو مَثَل قديم تضربه العرب للرجل يخاصم صاحبه وهو يُريغ أن يغالبه: فإذا ظفر بما حاوله قيل: باع فلان على بيع فلان، ومثله شَقّ فلان غبار فلان.

وقال غيره: يقال باع فلان على بيعك أي قام مقامك في المنزلة والرفعة.

ويقال ما باع على بَيْعك أحد أي لم يساوِك أحد.

وتزوّج يزيد بن معاوية أمّ مسكين بنت عمرو على أمّ هاشم فقال لها:

مالكِ أمّ هاشم تبكِّين *** من قَدَر حلّ بكم تضِجْين

باعت على بيعكِ أمُّ مسكين *** ميمونة من نسوة ميامين

وروي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» البَيّعان هما البائع والمشتري وكل واحد منهما بَيّع وبائع.

ورواه بعضهم: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا.

وقال أبو عبيد: البَيْع من حروف الأضداد

في كلام العرب.

يقال: باع فلان إذا اشترى، وباع من غيره وأنشد قول طرفة:

ويأتيك بالأنباء من لم تبِع له *** بتاتًا ولم تضرب له وَقت موعد

أراد من لم تشتر له زادًا.

وأمّا قول النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «لا يَخْطِب الرجل على خِطْبة أخيه ولا يِبعْ على بيع أخيه»، فإن أبا عبيد قال: كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم يقولون: إنما النهي في قوله: «لا يبيع على بيع أخيه» إنما هو: لا يشتري على شراء أخيه، فإنما وقع النهي على المشتري لا على البائع، لأن العرب تقول: بعت الشيء بمعنى اشتريته.

قال أبو عبيد: وليس للحديث عندي وجه غير هذا لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، وإنما المعروف أن يُعطَى الرجل بسلعته شيئًا فيجيء مشتر آخر فيزيد عليه.

قلت: وأخبرني عبد الملك عن الربيع عن الشافعيّ أنه قال في قوله: «ولا يبيع الرجل على بيع أخيه» هو أن يشتري الرجل من الرجل سِلْعة ولَمّا يتفرقا عن مَقامهما، فنَهى النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أن يَعرض رجل آخر سلعة أخرى على المشتري تُشْبِه السلعة التي اشترى، ويبيعها منه؛ لأنه لعله أن يردّ السلعة التي اشترى أوّلًا؛ لأن رسول الله صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم جعل للمتبايعين الخيار ما لم يتفرقا فيكون البائع الآخر قد أفسد على البائع الأوّل بيعه، ثم لعل البائع الآخر يختار نقض البيع فيفسد على البائع والمبتاع بيعه.

قال: ولا أنهى رجلًا قبل أن يتبايع المتبايعان، وإن كان تساوما، ولا بعد أن يتفرقا ـ عن مقامهما الذي تبايعا فيه ـ عن أن يبيع أيُ المتبايعين شاء؛ لأن ذلك ليس ببيع على بيع غيره فينهى عنه.

قال وهذا يوافق حديث «المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا».

فإذا باع رجل رجلًا على بيع أخيه في هذه الحال فقد عصى الله إذا كان عالمًا بالحديث فيه، والبيع لازم لا يفسد.

قلت: البائع والمشتري سواء في الإثم إذا باع على بيع أخيه، أو اشترى على شراء أخيه؛ لأن كل واحد منهما يلزمه اسم البائع، مشتريًا كان أو بائعًا، وكلُّ منهيّ عن ذلك والله أعلم.

وقال الشافعي: هما متساومان قبل عَقْد الشِّرَى، فإذا عقد البيع فهما متبايعان، ولا يسميان بيِّعين ولا متبايعين وهما في السَوْم قبل العقد.

قلت: وقد تأوّل بعض مَن يحتجّ لأبي حنيفة وذويه؛ وقولهم: لا خيار للمتبايعين بعد العقد بأنهما يسميَّان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع.

واحتجّ في ذلك بقول الشماخ في رجل باع قوسًا:

فوافى بها بعض المواسم فانبرى *** لها بَيّع يُغْلي لها السومَ رائز

قال فسمّاه بَيّعًا، وهو سائم.

قلت: وهذا وهَم وتمويه.

ويردّ ما تأوّله هذا المحتجُّ شيآن.

أحدهما أن الشماخ قال هذا الشعر بعد ما انعقد البيع بينهما، وتفرقا عن مَقَامهما الذي تبايعا فيه، فسمَّاه بَيِّعًا بعد ذلك، ولو لم يكونا أتَمّا البيع لم يسمّه بَيّعًا.

وأراد بالبيّع: الذي اشترى.

وهذا لا يكون

حجَّة لمن يجعل المتساومين بَيِّعين ولمَّا ينعقد بينهما البيع.

والمعنى الثاني الذي يردّ تأويله ما في سياق خبر ابن عمر، وهو ما حدثنا به الحسين بن إدريس عن محمد بن رُمْح عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم قال: «البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يخيِّر أحدهما صاحبه، فإذا قال له: اختر فقد وجب البيع، وإن لم يتفرقا» ألا تراه جعل البيع ينعقد بأحد شيئين أحدهما أن يتفرّقا عن مكانهما الذي تبايعا فيه، والآخر أن يخيِّر أحدهما صاحبه، ولا معنى للتخيير إلا بعد انعقاد البيع.

وقد شرحت هذا في تفسير حروف «المختصر» بأوضح من هذا، فإن أردت استقصاء ما فيه فخذه من ذلك الكتاب.

وقال الليث: البَوْع والباع لغتان، ولكنهم يسمون البُوع في الخِلْقة، فأمَّا بَسط الباع في الكرم ونحوه فلا يقولون إلَّا كريم الباع، قال والبَوْع أيضًا: مصدر باع يبوع وهو بسط الباع في المشي، والإبلُ تبوع في سيرها، والرجل يبوع بماله إذا بسط به باعه وأنشد:

لقد خفت أن ألقى المنايا ولم أنل *** من المال ما أسمو به وأبوع

والبِياعات: الأشياء التي يُتبايع بها في التجارة.

وقال: البَيْعة الصفقة لإيجاب البيع على المتابعة والطاعة.

يقال: تبايعوا على ذلك الأمر؛ كقولك أَصْفَقوا عليه.

قال: والبَيْع: اسم يقع على المبيع، والجميع البيوع.

قال والبِيعة: كنيسة النصارى.

وجمعها بِيَع، وهو قول الله تعالى: (وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ).

[الحج: 40] قلت: فإن قال قائل: فلم جعل الله هدمها من الفساد وجعلها كالمساجد، وقد جاء الكتاب بنسخ شريعة النصارى واليهود؟ فالجواب في ذلك أن البِيَع والصوامع كانت متعبّدات لهم إذْ كانوا مستقيمين على ما أُمروا به غير مبدِّلين ولا مغيرين، فأخبر الله جلّ ثناؤه أنه لولا دفعه الناس عن الفساد ببعض الناس لهدّمت متعبّدات كل فريق من أهل دينه وطاعته في كل زمان.

فبدأ بذكر البِيَع على المساجد لأن صلوات من تقدم من أنبياء بني إسرائيل وأُممهم كانت فيها قبل نزول الفرقان، وقبل تبديل من بدّل وَأَحدثت المساجد وسمّيت بهذا الاسم بعدهم، فبدأ جل ثناؤه بذكر الأقدم، وأخَّر ذكر الأحدث لهذا المعنى، والله أعلم.

وقال بعض أهل العربية: يقال: إن رباع بني فلان قد بُعْن من البيع.

وقد بِعن من البَوْع فضم الباء في البيع، وكسروها في البوع للفرق بين الفاعل والمفعول، ألا ترى أنك تقول: رأيت إماء بِعْن متاعا إذا كنّ بائعات، ثم تقول: رأيت إماء بُعن إذا كنّ مبيعات، فإنما يتبين الفاعل من الفاعل باختلاف الحركات وكذلك من البوع.

قلت: ومن العرب من يجري ذوات الياء على الكسر وذوات الواو على الضم.

سمعت العرب تقول صِفنا بمكان كذا وكذا أي أقمنا به في الصيف وصِفْنا أيضًا إذا أصابنا مطر الصيف، فلم يفرقوا بين فعل الفاعلين والمفعولين.

وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت ذا الرمّة يقول: ما رأيت أفصح من أَمَة آل فلان، قلت لها كيف كان المطر عندكم فقالت: غِثْنا ما شئنا.

رواه هكذا بالكسر.

وروى ابن هانىء عن أبي زيد قال يقال: الإماء قد بعن أشمُّوا الباء شيأ من الرفع.

وكذلك الخيل قد قدن، والنساء قد عدن من مرضهن أَشمُّوا هذا كله شيأ من رفع، وقد قِيل ذلك، وبعضهم يقول: قول.

وقال اللحياني: يقال: والله لا تبلغون تَبَوُّعه أي لا تلحقون شأوه.

وأصله طول خطاه.

يقول باع وانباع وتبوَّع.

وانباع العَرَق إذا سال.

قال وانباعت الحيَّة إذا بسطت بعد تَحَوِّيها لتساور وقال الشاعر:

* ثُمّتَ ينباع انبياع الشجاع*

ومن أمثال العرب، مُطْرِق لينباع، يضرب مثلًا للرجل إذا أضَبَّ على داهية.

الحراني عن ابن السكيت قال: أبَعت الشيء إذا عرضته للبيع وقد بعته أنا من غيري.

وقال الهمذاني:

فرضيت آلاء الكميت ومن يُبع *** فَرَسًا فليس جوادنا بمباع

أي: بمعرَّض للبيع.

وقال في قول صَخْر الهذلي:

لفاتح البيع يوم رؤيتها *** وكان قبلُ انبياعُه لَكِد

قال انبياعه: مسامحته بالبيع.

يقال: قد انباع لي إذا سامح في البيع وأجاب إليه.

وإن لم يسامح قلت: الاينباع.

أبو العباس عن ابن الأعرابي: يقال بُعْ بُعْ إذا أمرته بمدّ باعيه في طاعة الله تعالى.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


114-تهذيب اللغة (حسد)

حسد: قال الليث: الحَسَدُ معروف، والفعل حَسدَ يَحْسُدُ حَسَدًا.

أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: الحَسْدَلُ: القُرَادُ، قال: ومنه أُخِذ الحسد لأنه يَقْشِرُ القَلْبَ كما يَقْشِر القُرادُ الجلد فيمتصّ دَمَهُ.

وروي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال: «لا حسَدَ إلا في اثْنتَين، رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله قرآنًا فهو يتلُوه».

أخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه سُئل عن معنى هذا الحديث، فقال: معناه لا حَسَد لا يضر إلا في اثنتين، قال: والحَسَدُ أن يَرَى الإنسان لأخيه نِعْمةً فيتمنَّى أن تُزْوَى عنه وتكون له، قال: والغَبْطُ: أن يتمنى أن يكون له مثلها من غبر أن تُزْوَى عنه، قلت: فالغَبْطُ ضرب من الحسد، وهو أخَفّ منه، ألا ترى أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم لمَّا سُئل: هل يضر الغَبْط؟ فقال: نعم، كما

يضُرّ الخبْطُ، فأخبر أنه ضَارٌ وليس كضرر الحسد الذي يتمنى صاحبه زَيَّ النعمة عن أخيه، والخَبْطُ: ضَرْبُ ورق الشجر حتى يَتَحَاتَّ عنه، ثم يَسْتَخلف من غير أن يَضُرّ ذلك بأصل الشجرة وأغصانها.

وقوله عليه‌السلام: «لا حق إلا في اثنتين» هو أن يتمنى أن يرزقه الله مالًا ينفق منه في سُبُل الخير، أو يَتمنَّى أن يكون حافظًا لكتاب الله تعالى فيتلُوه آناء الليل والنهار، ولا يتمنى أن يُرْزَأ صاحِبُ المال في ماله أو تَالِي القرآن في حفظه.

وأَصْلُ الحَسَدِ القَشر كما قال ابن الأعرابي.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


115-تهذيب اللغة (حسا)

حسا: قال الليث: الحَسْوُ الفعل، يقال حَسا يَحْسو حَسْوًا، والشيءُ الذي يُحْسَى اسمُه الحَسَاء ممدود.

والحُسوَةُ مِلْءُ الفَم.

ويقال اتخذوا له حَسِيَّةً.

والحُسْوَةُ الشيء القليل منه.

الحرَّاني عن ابن السكيت: حَسَوْتُ حَسْوَةً واحدةً والحُسْوَةُ مِلءُ الفم.

وقال اللحياني: حَسوة وحُسوة وغَرفة وغُرفة بمعنى واحد.

وقال يونس: حَسوت حَسوة وفي الإناء حُسوةٌ.

وقال ابن السكيت: شربت حَسُوًّا وحَسَاءً، وشربت مَشُوًّا ومَشَاءً.

قال وقال أبو عبيدة: قال أبو ذبيان بن الرعبل: أبغض الشيوخ إليَ الحَسُوُّ الفَسُوُّ.

قال: الحَسُوُّ الشروبُ.

قلت: جمع الحُسْوَةِ حُسًى، وَالعرب تقول: نمت نَوْمة كحَسْوِ الطير إذا نام نومًا قليلًا.

وَيقول الرجلُ للرجلِ هل احتسيت من فلان شيئًا؟ على معنى هَل وَجَدْتَ، وقول أبي نخيلة:

لما احْتَسَى مُنْحَدِرُ من مُصْعِد *** أن الحَيَا مُغْلوْلِبٌ لم يَجْحَدِ

احتسى أي استَخْبَرَ فأُخْبِرَ أن الخِصْب فاشٍ.

وسمعت غيرَ واحدٍ من بني تميم يقول: احتَسَيْنا حِسْيًا أي أنْبطْنا ماءَ حَسْيٍ، والحَسْيُ الرَّمْل المتراكم أسفله جبل أصلدُ، فإذا مُطِرَ الرمل نَشِفَ ماء المطر، فإذا انتهى إلى الجبل الذي أسفَلُه أمسكَ الماء ومنع الرملُ حرَّ الشمس أن ينشف الماء فإذا اشتد الحر نُبِثَ وجْهُ الرمل عن الماء فنبَعَ باردًا عذبًا يتَبَرَّضُ تبرُّضًا ـ وقد رأيت في البادية أحْسَاءُ كثيرة على هذه الصِّفَة منها أحْساءَ بَنِي سَعْدٍ بحذاء هَجَرَ وقُرَاها وهي اليومَ دارُ القَرَامِطَةِ، وبها مَنَازِلُهم ومنها أَحْسَاءُ خِرْشَافِ وأَحْسَاءُ القَطِيف.

وبحذاء حاجِرٍ في طريق مكة أَحْساءٌ في وادٍ مُتَطَامِن ذي رَمْلِ إذا رَوِيَتْ في الشتاء من السيول الكثيرة لم ينقطع ماءُ أحْسائها في القَيْظ.

ثعلب عن ابن الأعرابي: الحِسَى الماء القليل.

وقال شَمِر: يقال جعلت له حَسوًا وحَساء وحَسِيّة إذا طُبَخَ له الشيء الرقيق يتحسَّاه إذا اشتكى صدرَه، ويجمع الحِسْيُ حِسَاءً وأحْساءً.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


116-تهذيب اللغة (زهق)

زهق: قال الليث: زَهَقَتْ نَفْسهُ وهي تَزْهَقُ؛ أي: تذهب.

وكل شيءٍ هَلَك وبَطَل فقد زَهَق.

أبو عبيد عن الكسائي قال: زَهَقَتْ نَفْسُه وزهِقَتْ: لغتان.

وقال أبو عبيدٍ قال أبو زيد: زَهَقَ فلانٌ بين أَيْدِينَا يَزْهَقُ زُهُوقًا: إذا سبَقَهم، وكذلك زَهَقَ الدابّةُ: إذا سَمِن، مثله.

وزَهَقت نَفْسُه و {زَهَقَ الْباطِلُ}: ليس في شيءٍ منه زَهِقَ.

وقال ابن السّكِّيت: زَهَقَ الفرسُ وزهَقَت الراحلة زُهوقًا: إذا سَبَقَتْ وتقدَّمَتْ.

وزَهَق مُخُّه فهو زاهِقٌ: إذا اكتنز، وهو زاهِقُ المخّ.

قال: وزَهَق الباطلُ: إذا غَلَبَهُ الحقُّ؛ وقد أَزْهَقَ الحقُّ الباطِلَ.

وقال أهل التفسير في قوله: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ} [الإسرَاء: 81] أي: بَطُلَ واضْمَحلّ.

وقال شمر: فرسٌ زَهَقَى: إذا تقدّم الخيل؛ وأنشد:

على قَرا مِنْ زَهَقَى مِزَل

وفي حديث عبد الرحمن بن عوف: أنه تكلّم يوم الشُّورَى فقال: «إن حابِيًا خيرٌ من زَاهِق»؛ فالزّاهِقُ من السهام: الذي وَقع وَرَاء الهدف دون الإصَابةِ.

والحابي: الذي زَحَف إلى الهَدَف.

فأَخْبَرَ أَن الضعيفَ الذي يُصِيبُ الحقَّ خيرٌ من

القريِّ الذي لا يُصيبه، وضرب الزاهِقَ والحَابيَ من السهام لهما مثلًا.

وقال الليث: الزَّاهِقُ من الدوابّ: السّمينُ.

قال: وقال بعضهم: الزاهِقُ: الشديد الهُزال الذي تجد زُهومةَ غُثُوثَةِ لحمه.

قلت: هذا غلط، إنما الزاهقُ: الذي اكتنز لحمه ومُخُّه، كما قال ابن السّكِّيت.

وقال غيره: وقال الليث: الزَّهَقُ: الوَهْدَةُ، ربما وَقَعَتْ فيها الدوابُّ فهلكت، يقال: انْزَهَقَتْ أيديها في الحُفَر؛ وقال رؤبة:

كأنّ أيديهنَّ تَهوي في الزَّهَقْ

وقال غيره: معنى الزهَقِ: التقدُّم، في بيت رؤبة.

وقال الليث: الزَّهْزَقَةُ: ترقيصُ الأُمِّ الصبيَّ.

والزّهْزَاقُ: اسم ذلك الفعل.

والزَّهْزَقَةُ، كالقَهْقَهَةِ أيضًا.

أبو عُبَيْدَةَ: جاءت الخيلُ أَزَاهِقَ وأَزَاهيقَ، وهي جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ، ولا وَاحدَ لها من جنسها.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


117-تهذيب اللغة (غسل)

غسل: قال الليث: الغُسْلُ: تمامُ غَسْلِ الجلد كله والمصدر: الغَسْلُ والغِسْل: الخِطميُّ، والغَسُولُ: كلُّ شيءٍ غسَلْتَ به رأسًا أو ثوبًا أو غيره، والغِسْلةُ آسٌ يُطَرَّى بأفاويه الطِّيبِ يمتشط به.

ورأى النبيُّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم حنظلةَ بن أبي عامر الأنصاري يوم أُحد وقد اسْتُشهد والملائكةُ تُغَسِّلُهُ فسمِّيَ غسِيلَ الملائكة، وأولاده ينسبون إليه، فيقالُ: فلانٌ الغَسِيليُ وذلك أنه كان قد ألمَّ بأَهْلِه فأَعْجَلَه النَّدْبُ عن الاغتِسال وَحضرَ الوَقعةَ فاستُشْهدَ ورأى النبيُّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم الملائكة يغسِّلُونَه فأخبر بهِ أهله فذكَرَتْ أنَّه كانَ أجنبَ منها.

وقول الله جلَّ وعزَّ: {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ} [الحاقة: 36، 37].

قال ابن المظفر: غِسْلِينٌ: شديدُ الحر.

وقال الفرّاء: يقال: إنَّهُ ما يَسيل منْ صَديدِ أهْلِ النَّار.

وقال الزجاجُ: اشْتِقاقه ممّا يَنْغَسل من أَبدان أهل النار.

قلت: وهو على تقدير فِعْلينٍ فجعِل اسمًا واحدًا لما يَسِيل منهم.

وقال الليث: المُغتَسَل: موضع الاغتِسال، وتصغيره مُغَيْسلٌ، والجميع: الْمغاسِلُ، قلت: وهذا قول النّحْويينَ أجمعينَ.

اللحيانيُّ: فحلٌ غُسْلَةٌ ومِغْسلٌ وغِسِّيلٌ إذا كان كثير الضِّراب.

وقال شمر: قال الكسائيُّ: فحلٌ غُسَلَةٌ ومِغْسلٌ وهو الذي يضربُ ولا يُلقِحُ.

وروي عن النبيِّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنَّه قال: «مَنْ غَسَّلَ يومَ الجمعة واغتَسَلَ وبكَّرَ وابتَكَرَ فبهَا ونعِمت».

قال القتيبيُّ: أكْثرُ النّاس يذهبُ إلى أنَّ مَعْنَى غسَّلَ أي جامَعَ أهله قبل خروجه إلى الصَّلاةِ لأنَّه لا يُؤمَنُ عليه أن يرَى في طريقهِ ما يشغلُ قلبه.

قال: ويذهب آخرون إلى أنه أراد بقوله: غَسَّل توضأ للصلاةِ فَغَسَلَ جوارحَ الوضوءِ وثقَّل الفعل لأنه أراد غسْلًا بعد غسْل لأنه إذا أسبغ الطهورَ غسَل كلَّ عضوٍ ثلاث مراتٍ ثمّ اغتَسَل بعد ذلك غسلَ الجمعة.

قلت: ورواه بعضهم مخففًا من غسَلَ بالتخفيف فإن صَحّتِ الرواية فهو من قولك: غسَلَ الرجل امرأتَه، وعَسَلَها إذا جامَعَها، ومنه قِيلَ فحلٌ غُسَلةٌ، والغَسُول ما يُغسل به الرأس من خطمي وغيره، ويقال: غسُّولٌ بالتشديد.

وأنشدَ شمر:

ترعى الرَّوائم أحرارَ البقولِ ولا *** ترعَى كرَعْيكم طلحًا وغَسُّولا

قال: أرادَ بالغسُّولِ الأشنانَ وما أشبهه من الحمضِ.

قال: والغِسل والغَسول والغِسلة ما يغسلُ بِهِ الرأسُ من خطميِّ وطينٍ وأشنانٍ.

وقال ابن شميلِ: الغُسْلُ الاسمُ من الاغتسالِ والغَسلُ: المصدرُ من غسلْتُ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


118-تهذيب اللغة (نقض)

نقض: قال الليث: النَّقْضُ: إفسادُ ما أَبرمْتَ من عقدٍ أو بِناءٍ، والنِّقْضُ: اسمُ البناءِ المنقوضِ إذا هُدِمَ، والنِّقْضُ والنِّقْضَةُ هما الجملُ والناقةُ اللذان قد هزلتهما الأسفارُ وأَدْبَرَتْهُما، والجميعُ الأنقاض.

وأنشد لرؤبة:

إِذا مَطَوْنا نِقْضَةً أَوْ نِقْضا

وقال الآخر:

إِني أَرى الدهرَ ذا نَقْضٍ وإِمْرَا

أي: ما أمَرَّ عاد عليه فنقضه، وكذلك المناقضة في الشعر ينقضُ الشاعرُ الآخر ما قاله الأول، والاسم النَّقيضة وتجمع على النقائض، ولهذا قالوا نقائض جريرٍ والفرزدق، قال: والنِّقْضُ مُنْتَقَضُ الكمأة من الأرض إذا أرادت أن تخرج نقضتْ وجه الأرض نقضًا فانتقضتِ الأرض.

وقال الشاعر:

كأن الفُلانِيّاتِ أنقاضُ كمأةٍ *** لأول جانٍ بالعصا يستثيرُها

ويقال: انتقضَ الجُرح بعد البُرْء، وانتقضَ الأمر بعد التِئامِه وانتقضَ أمرُ الثَّغر وغيره.

وقال الله عزوجل: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2، 3].

قال الفراء في التفسير عن الكلبي: أثقلَ ظهرك.

قال أبو منصور: وقال نحو ذلك مجاهد وقتادة، والأصل فيه أن الظهر إذا أثقله حِمله سُمع له نقيضٌ أي صوت خفيٌّ وذلك عند غاية الإثقال، فأخبر الله عزوجل أنه غفر لنبيِّه أوزاره التي كانت تراكمت على ظهره حتى أوْقرته، وأنها لو كانت أثقالًا حُملت على ظهره لسُمع لها نيضٌ أي صوتٌ، وكل صوت لمِفصلٍ أو إصبعٍ أو ضلعٍ فهو نقيضٌ وقد أنقضَ ظهر

فلان إذا سُمع له نقيضٌ، ومنه قوله:

وحُزن تُنْقِضُ الأضلاع منه *** مُقيم في الجوانح لن يزولا

وقال الليث: نقيضُ المِحْجَمةِ صوتُها إذا شدَّها الحجّام بمصِّه، يقال: أنقضتِ المحجمةُ وأنشد:

زَوَى بين عَيْنَيْهِ نقيضُ المحاجِمِ

وقال أبو زيد: أنقضتُ إنقاضًا بالمَعْزِ إذا دعوته.

وقال أبو عبيد: أنقضَ الفرخ إنقاضًا إذا صأَى صَئِيًّا، وأنقضَ الرَّحل إنقاضًا إذا أطَّ أطِيطًا.

وقال ذو الرُّمة:

كأَنَّ أصواتَ مِن إيغالهنّ بنا *** أوخرِ الْمَيسِ إنقاضُ الفَرارِيج

هكذا أفادَنِيهِ المنذري عن أبي الهيثم، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ أراد كأَن أصوات أواخر الميسِ إنقاضُ الفراريج من إيغال الرّواحل بنا، أي: من إسراعها السير بنا.

وقال الليث: أنقضتُ بالحمار إذا ألصقت طرف لسانك بالغارِ الأعلى ثم صوَّتَّ بحافتيه من غير أن ترفع طرفه عن موضعه، وكذلك ما أشبهه من أصوات الفراريج والرِّحال.

قال: والنَّقّاض الذي ينقضُ الدِّمقس وحرفته النِّقاضة.

قال أبو منصور: وكذلك النَّكاثُ، وحرفته النَّكاثة وما نُقض من ثوب صوف أو إبريسيم فهو نِقضُ ونِكثٌ، وجمعها أنقاضٌ وأنكاثٌ سماع من العرب.

وقال الليث: النُّقَّاضُ: نباتٌ، وتَنَقَّضَتْ عظامه: إذا صَوَّتَتْ.

وفي «نوادر الأعراب»: نَقَّضَ الفرسُ ورَفَّضَ إذا أدلى ولم يستحكم إنعاظهُ ومثله سَيَأَ وشَوَّلَ وأسابَ وسَبَّح وانساحَ وقاش وسمَّل ورَوَّل.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


119-تهذيب اللغة (كنص)

كنص: رُوِي عن كعب أَنه قال: كَنَّصَتِ الشياطينُ لسليمانَ.

قال كعب: أولُ من لبسَ القَبَاء سُليمانُ عليه‌السلام، وذلك أَنَّه كانَ إذا أدخلَ رأسَهُ لِلبُسِ الثَّوْبِ كَنَّصَتِ الشَّياطينُ اسْتهزَاءً، فَأُخْبِر بذلكَ فَلبسَ القَبَاء.

قال أبو العباس قال ابن الأعرابي: كَنَّصَ إذا حرَّكَ أَنفَهُ استهزاءً.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


120-تهذيب اللغة (سكن)

سكن: قال الليث: السَّكْنُ: السُّكَّان، والسُّكْنُ: أن تُسْكِنَ إِنسانًا منزلًا بلا كِرا.

قال والسَّكْن: العيالُ، وأهلُ البيت، الواحد: ساكنٌ.

(الحرَّانيُّ، عن ابن السكت): السَّكْنُ: أهلُ الدَّار.

وقال سلامةُ بن جَندل: يُسْقَى دَوَاءَ قَفِيِ السَّكْنِ مَرْبوبِ قال والسَّكَنُ: ما سَكَنْتَ إِليه.

والسَّكَن: النار.

وأنشد:

أقامَها بِسَكَنٍ وأَدْهان

يعني قناةً ثقفها بالنار والدُّهْن.

وأنشد:

ألجأني الليل وريح بلّه *** إلى سواد إبل وثلَّه

وسَكَنٍ توقَد في مِظَلّهْ

(ثعلب عن ابن الأعرابي) قال: الأَسْكان: الأقْوات، واحِدها: سُكْنٌ.

وقال غيره: قيل للقوتِ: سُكْنٌ لأنَّ المكان به يُسْكَن.

وهذا كما يقال: نُزُلُ العَسكر لإِرزاقهم المُقدَّرة لهم إِذا أُنزِلوا منزلًا.

ويقال: مَرْعًى مُسْكِنٌ إِذا كان كثيرًا لا

يُخرج إلى الظّعْن عنه، وكذلك مَرْعًى مُرْبعٌ ومُنْزِلٌ.

وسُكْنَى المرأة: المَسكَن الذي يُسْكِنها الزَّوجُ إيَّاه.

تقول: لكَ داري هذه سُكْنَى إِذا أَعارَه مَسكنًا يَسكنه.

وتقول: سَكنَ الشيءُ يَسكُنُ سكونًا إِذا ذهبَت حركتُه، وسكنَ في معنى سكتَ، وسكنتِ الرِّيح، وسكنَ المطر، وسكن الغضب.

وقال الله جل وعزّ: {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} [الأنعام: 13].

وقال ابن الأعرابي: معناه وله ما حَلَّ في الليل والنهار.

وقال الزَّجَّاجُ: هذه الآيات اْحتِجَاجٌ على المُشْرِكِين، لأنهم لم ينكروا أنَّ ما استقرَّ في الليل والنهار للهِ أي هو خالقُه ومُدَبِّرُه، فالذي هو كذلك قادرٌ عَلَى إِحياء الموتى.

قال أحمد بن يَحيى في قوله: {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} [الأنعام: 13]: إنما الساكن من الناس والبهائم خاصَّةً.

قال: وسَكَنَ: هَدَأَ بعد تحرُّكٍ، وإنما معناه ـ والله أعلم ـ الخَلْق.

وقوله: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248].

قال الزَّجَّاج معناه: فيه ما تسكنون به إِذا أتاكم.

وقيل في التفسير: إِنَ السكينة لها رأسٌ كرأسِ الهِرِّ مِن زَبَرْجَدٍ وياقوتٍ، ولها جَناحان.

وقال الليث: قال الحَسَن: جعَل الله لهم في التابوت سكِينةً لا يَفرُّون عنه أبدًا وتطمئنُّ قلوبهم إِليه.

وقال مقاتلٌ: كان فيه رأسٌ كرأس الهرّةِ إِذا صاح كان الظّفَرُ لبني إسرائيل.

والمِسِكين قد مرّ تفسيره في باب الفقير وهو مِفْعِيلٌ من السكون مِثل المنطيق من المنطق.

وقال الليث: المَسكَنَة: مصدر فعل المِسكين، وإِذا اشْتَقُّوا منه فعلًا قالوا: تَمَسْكنَ الرجل أيْ صار مِسكينًا.

ويقال: أَسْكَنَهُ اللهُ، وأَسْكَنَ جَوْفَهُ أي جَعلهُ مِسكينًا.

(ثعلب عن ابن الأعرابي): أَسْكنَ الرَّجلُ وسَكَنَ إِذا كانَ مِسكينًا، ولقد أَسْكنَ.

وقال غيره: تَمَسْكَنَ إِذا خَضَعَ لله، وهي المَسْكنةُ لِلذّلَّةِ.

قال: وهو قول ابن السكيت، والمِسْكينُ أَسْوَأُ حالًا من الفَقير.

قال ابن الأنباري قال يونس: الفَقيرُ: الذي له بعض ما يُقيمُه.

قال: وروي عن الأصمعي أنه قال: المِسْكينُ أَحسنُ حَالًا من الفقير، قال وإليه ذهبَ أحمد بن عبيد، قال: وهو القول الصحيحُ عندنا، لأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ} [الكهف: 79] فأَخبرَ أنهم مَساكينُ وأن لهم سَفينةً تساوي جُمْلةً.

وقال: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآيةَ إلى قولهِ {إِلْحافًا} [البقرة: 273].

فهذه الحال التي أَخبَرَ بها عن الفقراء هي دونَ الحالِ التي أَخبَرَ بها عن المسَاكينِ.

وفي الحديث عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال لِلْمصَلِّي: «تَبْأَس وتَمَسْكنُ وتقنع يديك» قوله تَمَسْكنُ أي تَذِلُّ وتخضعُ.

قال القُتيبيُّ: أَصْلُ الحَرْفِ: السُّكونُ، والمَسْكَنةُ: مَفعلةٌ منه، وكان القياس تُسَكَّنَ كما يقال: تَشَجَّعَ وتحلَّمَ، إِلا أَنه جَاءَ في هذا الحَرْفِ تَمَفْعَلَ، ومثله: تَمدْرَعَ من المِدْرَعَةِ، وأَصلُهُ: تَدَرَّعَ.

وقال سِيبَوَيْهِ: كلُّ مِيمٍ كانتْ في أَوَّلِ حَرْفٍ فهي مَزيدةٌ إِلَّا مِيمَ مِعْزَى، وَمِيمَ مَعَدٍّ، تقول: تَمَعْدَدَ، وميمَ مَنْجَنِيق وَمِيمَ مَأْجَجٍ، ومِيمَ مَهْدَدَ.

(قلت): وهذا فيما جاءَ عَلَى مَفْعَلٍ أَو مِفْعَلِ أَو مِفْعِيل، فأَمَّا ما جاءَ عَلَى بنَاءِ فَعْلٍ أَو فِعَالٍ فالميمُ تكونُ أَصْلِيَّةً مثل المَهْدِ والمِهَادِ والمَرْدِ وَما أَشْبَهَهُ.

سلمة عن الفراء من العرب من يقول: أنزل الله عليهم السِّكِّينة للسَّكِينةِ.

قال: وحكى الكسائي عن بعض بني أسد المَسْكِينُ بفتح الميم للمِسكِين.

وقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ} [المؤمنون: 76] أي فما خضعوا، كان في الأصل «فما اسْتَكَنُوا» فمدت فتحة الكاف بألف كقوله: لها مَتْنَتَانِ خَظَاتَا، أراد: خَظَتَا.

فمد فتحة الظاء بألف.

يقال: سَكَنَ، وأَسْكن، واسْتَكن وتمسكن، واستكان أي خضع وذل.

وقال: يَنْبَاعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ أي يَنْبَع فمُدَّت فتحة الباء بألف.

وقال الزجاج: في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أي يَسْكُنونَ بها.

وقال أبو عبيد: الخَيْزُرَانة: السُّكّانُ، وهو الكَوْثَلُ أيضًا.

وقال أبو عمرو: الخَدْفُ: السُّكّانُ، وهو الكوثَلُ أيضًا.

وقال الليث: السُّكّانُ: ذَنَبُ السَّفينَةِ الذي به تُعدَلُ، وقال طَرَفة:

كَسُكَّانِ بُوصِيٍّ بدجْلَةَ مُصْعِدِ قال: وسُكّان السفينة: عربي، سمى سكانًا لأنها تسكن به عن الحركة والاضطراب.

قال: والسِّكِّينُ تُؤَنَّثُ وتُذكَّرُ، ومُتّخِذُ السكّين يقالُ له: سَكّانٌ وسَكاكِينيّ.

قال ابن دريد: السكين: فِعِّيل من ذبحت الشيء حتى سكَن اضطرابه.

قال الأزهري: سمي سكينًا لأنها تُسكِّن الذبيحة أي تسكنها بالموت، وكل شيء مات فقد سَكَن، ومثله غِرِّيد للمغني لتغريده بالصوت، ورجل شِمِّير لتشميره إذا جد في الأمر وانكمش.

(ثعلب عن ابن الأعرابي) التَّسْكينُ: تَقويمُ الصَّعْدَةِ بالسِّكَنِ وهو النَّارُ، والتَّسكِينُ: أنْ يَدُومَ الرَّجلُ عَلَى رُكُوبِ السُّكَينِ وهو الحمارُ الخفيفُ السَّريعُ، والأتانُ إذا كانت كذلك: سُكَيْنَة، وبه سُمّيَتِ الجاريةُ الخفيفةُ الرُّوحِ سُكيْنَةَ.

قال: والسُّكَيْنَةُ أَيضًا: البَقَّةُ التي دخلت في أَنْفِ نُمْرودَ الخاطِئ فأَكلَتْ دِماغَهُ.

(أبو عبيد عن الفراء): الناسُ على سَكِنَاتِهم ونزلاتهم ورَباعتهمْ ورَبعاتهم، يعني عَلى اسْتِقَامتهمْ.

وقال ابن بُزُرْجَ: الناسُ عَلَى سَكِناتهمْ، وقالوا: تركْنا الناس على مَصَاباتهم.

على طبقاتهم ومَنازلهم.

وقال غيره: سُكّانُ الدَّارِ هُمُ الجنُّ المقيُمونَ بها، وكان الرجلُ إِذا اطَّرَفَ دَارًا ذَبحَ فيها ذبيحَةً يَتَّقِي بها أَذى الجِنِّ فنهَى النبيُّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم عن ذَبائح الجنّ.

وفي حديث قَيْلةَ أنّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم قال لها: «يا مِسكِينَة عليكِ السكِينَةَ» أرَادَ عليكِ الوَقارَ والوَداعة والأَمْنَ، يقال: رجلٌ وَدِيعٌ أَي سَاكِنٌ هادِئٌ ويقال لِلْموضِعِ الذي تسكُنُهُ: مَسكَنٌ.

ومَسْكِنٌ: مَوضعٌ بعيْنهِ.

والسَّكُونُ: قبيلةٌ باليمن.

وأَمَّا المُسْكانُ بمعنى العَرَبُون فهو فُعلانٌ، والميمُ أَصليّة، وجَمعُه: المساكِينُ، قاله ابن الأعرابي.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


121-تهذيب اللغة (ظفر)

ظفر: قال الليث: الظُّفْر ظُفْر الإصبع وظُفْر الطائِر والجميع الأظْفار وجمع الأظفار أظافير لأن أظفار بوزن إِعصار، تقول: أظافيرُ وأعاصيرُ قال: وإن جاءَ ذلك في الشعر جاز كقوله:

* حَتَّى تَغَامَزَ رَبَّاتُ الأَخادِيرِ*

أراد جماعة الأخدار، والأخدار جماعة الخِدْر، ولا يُتكلّم به بالقياس في كلِّ ذلك سواء، غير أن السمع آنس فإذا ورد على الإنسان شيءٌ لم يَسمعه مُستعملا في الكلام استوْحَشَ منه فنفَرَ، وهو في الأشعار جَيِّد جائِزٌ، ويقال للرجل: إنه لمَقْلُوم الظُّفْر عن أذى الناس، إذا كان قَليلَ الأَذِيَّة لهم، ويقال للمَهِينِ الضّعيفِ: إنه لَكَلِيلُ الظُّفرُ لا يَنْكِي عَدُوّا، وقال طَرَفة:

* لسْتُ بالفَانِي ولا كَلِ الظُّفُر*

ويقال: ظَفَرَ فلانٌ في وجه فلان إذا غَرَزَ ظُفْره في لَحْمه فَعَقَره، وكذلك التَّطْفِيرُ في القِثَّاء والبِطِّيخ والأشياءِ كلها، والأَظفارُ شيء من العِطْر أسودُ شبيه بظُفْرٍ مُقتَلَفٍ من أصله يُجْعل في الدُّخْنَة ولا يُفْرَدُ منه الواحدُ، وربما قال بعضهم: أَظْفَارةٌ واحدةٌ، وليس بجائزٍ في القياس ويجمعونها على أَظَافِير، وهذا في الطِّيبِ وإذا أُفْرِدَ شيءٌ من نحوها ينبغي أن يكُون ظُفْرا وفُوها وهم يقولون: أَظفارٌ وأظافيرٌ وأفواهٌ وأَفاويهُ لهذين العِطرين، والظَّفَرةُ جُلَيْدة تُغشِّي العينَ تنبُتُ من تِلقاء المأْقِ،

وربما قُطِعَتْ، وإنْ تُركتْ غَشِيَتْ بصرَ العين حتى يَكِلَّ ويقال: ظُفِرَ فلانٌ فهو مَظْفور، وعين ظَفِرةٌ وقد ظفِرتْ عينُه.

أبو عبيد عن الكسائي: ظَفِرت العينُ إذا كان بها ظَفَرَة، وهي التي يقال لها: ظَفَرَةٌ وظُفْرٌ.

ابن بُزُرْجَ: ظَفِرَتْ عينُه وظَفَرتْ سواء وهي الظَّفَارَةُ، وأنشد أبو الهيثم:

ما القولُ في عُجَيِّزٍ كالحُمرَة *** بِعَيْنِها من البُكاء ظَفَرَة

* حَلَّ أبْنُها في السِّجْنِ وَسْط الكَفَرَة*

شمر عن الفراء: الظَّفَرَةُ لَحْمَةٌ تَنْبُتُ في الحَدَقة.

وقال غيره: الظّفرة لحم ينبت في بياض العين، وربما جلّل الحدقة.

وقال الليث: الظَّفَرُ الفوْزُ بما طلبتَ والفَلَجُ على من خاصمتَ، وتقول: ظَفَّرَ اللهُ فُلانا على فلانٍ، وكذلك أَظْفَرَه اللهُ وظَفِرْتُ به فأنا ظافِرٌ به وهو مَظْفور به.

وتقول: أظْفَرني الله به، وفلان مُظَفَّر لا يَؤُوب إلا بالظَّفَر فَثُقِّلَ نَعْتُه لَلكثرة والمبالِغة وإن قيل: ظَفَّرَ اللهُ فلانا أي جَعَله مُظَفَّرا جاز وحسن أيضا، وتقول: ظَفَّرَهُ عليه أي غَلَّبَه عليه وذلك إذا سُئِل أيُّهما أَظْفَرُ فأَخْبَرَ عن واحدٍ غَلَبَ الآخرَ فقد ظَفَّرهُ.

أبو زيد: يقال: ما ظَفَرَتْك عَيْنِي منذُ حين أي ما رأَتْكَ منذ حين، وكذلك ما أَخَذَتْك عيني مُنْذُ حين.

أبو عبيد عن الكسائيّ: إذا طلع النَّبتُ قِيل: قد ظَفَّر تَظْفيرا، قلت: وهو مأخوذ من الأظفار.

ابن السكيت يقال: جَزْعٌ ظَفَارِيٌ منسوب إلى ظَفَار، اسم مدينة باليمن، ومنه قولهم: من دَخَل ظَفَارِ حَمَّرَ أي تَعَلَّم الحِمْيَرِيَّة.

أبو عبيد عن الأصمعيّ: في السِّيَةِ الظُّفْرُ وهو ما وَرَاءَ مَعْقِدِ الوَتَر إلى طَرَف القَوْس.

وقال غيره يقال للظُّفْرِ: أُظْفُورٌ وجمعه أَظافيرُ وأنشد فقال:

مَا بَيْن لُقْمتها الأُولى إذا ازْدَرَدَتْ *** وبَيْنَ أخْرَى تَليها قِيسَ أُظْفُورِ

وقال ابن بُزُرْجَ: تظافر القومُ عليه، وتظافروا وتظاهروا بمعنى واحد، وقول الله جلّ وعزّ: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] دخل في ذي الظُّفْر ذواتُ المناسِم من الإبل والنَّعَم لأنها كلها كالأظفار لها.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


122-تهذيب اللغة (ذو ذوى)

باب: ذو وذوى مضافين إلى الأفعال

قال: ويَخْلطون في الاثنين والجمع، وربما قالوا: هذا ذو يَعْرِفُ، وفي التثنية: هاتان ذوَا يَعْرِف، وهَذان ذوا تَعْرف؛ وأَنشد الفرّاء: "

وإنّ الماءَ ماءُ أَبِي وجَدِّي *** وبِئْرِي ذُو حَفَرْت وذو طوَيْتُ

قال الفَرّاء: ومنهم من يُثنِّي ويَجمع ويؤنّث، فيقول: هذان ذَوا قالا ذلك، وهؤلاء ذوُو قالوا ذلك، وهذه ذات قالت؛ وأَنشد الفَرّاء:

جَمَعْتُها من أَيْنُق سَوابِقِ *** ذواتُ يَنْهَضْنَ بغَيْرِ سائِقِ

وأَخبرني المُنْذريّ، عن الحَرَّانيّ، عن ابن السِّكِّيت: العرب تقولُ: لا بِذِي تَسْلَمُ ما كان كذا وكذا، وللاثنين: لا بذي تَسْلمان، وللجماعة: لا بذي تَسْلمون، وللمؤنث لا بذي تَسْلَمين، وللجماعة: لا بذي تَسْلَمْنَ.

والتأويل: لا والله يُسَلِّمك ما كان كذا وكذا، لا وَسَلامتك ما كان كذا وكذا.

وقال أبو العبَّاس المُبَرِّد: ممَّا يُضاف إلى الفعل «ذو» في قولك: افْعَل كذا بذي تَسْلَم؛ وافْعَلَاه بذي تَسْلمان.

معناه: بالذي يُسلِّمك.

ورَوَى أبو حاتم، عن الأصمعي: تقول العَرب: والله ما أَحْسَنْت بذي تَسْلَم.

قال: معناه: والله الذي يُسلِّمك من المَرْهوب.

قال: ولا يَقُول أحد: بالذي تَسلم.

قال: وأمَّا قَوْل الشاعر:

* فإنّ بَيْت تَمِيم ذو سَمِعْتَ به*

فإنَّ «ذو» ها هنا بمعنى: الذي، ولا تكون في الرَّفع والنَّصب والجرّ إلا على لَفْظٍ واحد.

وليست بالصِّفة التي تُعرب، نحو قولك: مررت برَجُل ذي مال، وهو ذو مال، ورأيت رجلًا ذا مال.

قال: وتقول: رأيت ذو جاءك، وذو جاآك، وذو جاءُوك، وذو جاءتْك، وذو جِئْنك، بلفظ واحد للمذكَّر والمؤنّث.

قال: وَمَثَلٌ للعرب: أتَى عليه ذو أَتَى على النَّاس، أي الذي أَتَى.

قلتُ: وهي لُغة طيِّىء، و «ذو» بمعنى: الذي.

وقال اللَّيْثُ: تقول: ماذا صَنَعْتَ؟ فيقول: خيرٌ، وخيرًا، الرفع على معنى: الذي صَنَعْتَ خَيْرٌ، وكذلك رَفع قول الله عزوجل: {وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 217]، أي الّذي تُنْفِقُون هو العَفو من أَمْوالكم، فإيّاه فأَنْفِقوا؛ والنَّصْب للفِعْل.

وقال أَبو إسْحاق: مَعنى قوله: (ما ذا يُنْفِقُونَ) على ضَرْبين: أحدهما أن يكون «ذا» في معنى «الذي»، ويكون «يُنْفِقُونَ» من صفته.

المعنى: يسألون أي شيء يُنْفِقون؟ كأنه بَيَّن وَجْه الذي يُنْفِقون، لأنَّهم يَعلمون ما المُنْفَق، ولكنَّهم أرادوا عِلْم وَجْهه.

ومثل جَعْلهم «ذا» في معنى «الذي» قولُ الشاعر:

عَدَسْ ما لِعَبَّاد عَلَيْكِ إمارةٌ *** نَجَوْت وهذا تَحْمِلين طَليقُ

المعنى: والذي تحملين طَلِيق، فيكون «ما» رَفْعًا بالابتداء، ويكون «ذا» خبرها.

قال: وجائز أن يكون «ما» مع «ذا» بمنزلة اسمٍ واحد، ويكون الموضع نصبًا ب «يُنْفِقُونَ».

المعنى: يسألونك أي شيء

يُنفقون؟.

قال: وهذا إجماع النَّحويين، وكذلك الأوَّل إجماعٌ أيضًا.

ومثل: جَعْلهم «ما» و «ذا» بمنزلة اسم واحد، قولُ الشاعر:

دَعِي ماذا عَلِمْتُ سأتّقيه *** ولكنْ بالمُغَيَّبَ نَبِّئِينِي

كأنّه بمعنى: دَعِي الذي عَلِمت.

أبو زَيد: جاء القوم من ذي أَنْفُسهم، ومن ذات أَنفُسهم؛ وجاءت المرأةُ من ذي نَفْسها، ومن ذات نفسها، إذا جاءَا طائعَيْن.

وقال غيرُه: جاء فلانٌ من أيّة نفسه، بهذا المعنى.

والعربُ تقول: لاها الله ذا، بغير ألف في القسم.

والعامة تقول: لا الله إذا.

وإنما المعنى: لا والله هذا ما أُقسم به، فأَدخل اسم الله بين «ها» و «ذا».

وتقول العرب: وضعتِ المرأةُ ذات بَطنها، إذا ولدت؛ والذّئْب مَغْبوط بذي بَطْنه: أي بِجَعْوِه؛ وأَلْقى الرّجُلُ ذا بَطْنه، إذا أَحْدَث.

ويقال: أتينا ذا يَمن، أي أَتينا اليَمَن.

وسَمِعْتُ غيرَ واحدٍ من العرب يقول: كُنّا بموضع كذا وكذا مع ذي عَمْرٍو، وكان ذو عَمْرٍو بالصَّمَّان، أي كنّا مع عمرو، ومعنا عمرو.

و «ذو» كالصّلة عندهم، وكذلك «ذوى».

قال: وهو كَثير في كلام قَيْس ومَن جاوَرَهم.

و «ذا» يُوصل به الكلام؛ وقال:

تَمَنى شَبِيبٌ مِيتَةً سَفَلَتْ به *** وذا قَطَرِيِّ لَفَّه منه وائلُ

يُريد: قطريًّا.

و «ذا» صلة.

وقال الكُميت:

إليكم ذَوِي آل النبيّ تَطَلَّعت *** نوازعُ من قلْبي ظِمَاءٌ وأَلْبُبُ

أراد: بنات القلب وهُمومه.

وقال آخر:

إذا ما كُنتُ مِثْلَ ذوي عُوَيْفٍ *** ودِينارٍ فقام عَلَيّ ناعِي

وقال أبو زيد: يُقال: ما كلّمت فلانًا ذاتَ شَفة، ولا ذات فَمٍ، أي لم أُكلّمه كلمةً.

ويقال: لا ذا جَرَمَ، ولا عن ذا جَرمَ، أي لا أعلم ذاك ها هنا، كقولهم: لاها الله ذا، أي لا أَفعل ذلك.

وتقول: لا والّذي لا إله إلا هو، فإنها تملأ الفَمَ وتَقطع الدم لأفعلنّ ذلك.

وتقول: لا وَعَهد الله وعَقْده لا أَفعل ذلك.

تفسير إذ وإذا وإذن

قال اللَّيْثُ: تقول العربُ: «إذ» لما

مَضى، و «إذا» لما يستقبل الوَقْتين من الزمان.

قال: و «إذا» جواب تَأكيد للشرط، ينوّن في الاتصال، ويُسكن في الوقف.

وقال غيره: العرب تَضع «إذ» للمُستقبل، و «إذا» للماضي.

قال الله عَزّ وجَلّ: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ: 51]، معناه: ولو تَرَى إذ يَفْزعون يومَ القيامة.

وقال الفَرّاء: إنما جاز ذلك لأنّه كالواجب، إذ كان لا يُشك في مَجيئه، والوجه فيه «إذا»، كما قال عَزّ وجل: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].

وتأتي «إذا» بمعنى: «إن» الشرطية، كقولك: أُكْرمك إذا أَكْرَمتني، معناه: إن أَكْرمتني.

وأما «إذا» المَوْصولة بالأَوقات، فإن العرب تصلها في الكتابة بها في أوقات مَعْدودة، في: حينئذ، ويَومئذ، ولَيلَتئذ، وغَدَاتئذ، وعَشِيَّتَئذ، وساعَتئذ، وعامَئذ.

ولم يقُولوا: الآنئذِ، لأنّ «الآن» أقْرب ما يكون في الحال، فلما لم يتحوّل هذا الاسم عن وَقت الحال، ولم يتباعد عن ساعَتِك التي أنت فيها لم يتمكّن، ولذلك نُصبَ في كُلّ وجه.

ولمّا أرادوا أن يُباعدوها ويُحولّوها من حال إلى حال ولم تَنْقدْ، كقولك: أن تقولُوا الآنئذ، عَكسوا ليُعْرَف بها وقتُ ما تَبَاعد من الحال، فقالُوا: حينئذ، وقالوا: الآنَ، لساعتك في التقريب؛ وفي البعد: حينئذ، ونُزِّل بمنزلتها الساعةُ، وساعتئذ، وصار في حدّهما: اليوم، ويومئذ.

والحُروف التي وَصفناها على ميزان ذلك مَخْصوصةٌ بتوقيت لم يُخَصّ به سائر أزمان الأزمنة، نحو: لَقيته سنةَ خَرج زَيْدٌ، ورأيته شَهْرَ تَقَدَّم الحَجّاجُ، وكقوله:

* في شَهْر يَصْطَادُ الغُلامُ الدُّخَّلَا*

فمن نَصب «شهرًا» فإنه يجعل الإضافة إلى هذا الكلام أجمع، كما قالوا: زمَنَ الحجاج أَمِيرٌ.

قال اللَّيْثُ: فإن وَصَلت «إذا» بكلام يكون صلة أَخْرجتها مِن حَدّ الإضافة، وصارت الإضافة إلى قولك: إذ تقول، ولا تكون خبرًا كقوله:

* عَشِيّة إذ تَقُول يُنَوِّلُونِي*

كما كانت في الأصل، حيث جَعَلْتَ «تقول» صلةً أَخْرجتها مِن حَدّ الإضافة وصارت الإضافة «إذ تقول» جُملة.

قال الفَرّاء: ومن العَرب من يقول: كان كذا وكذا وهو إذ صَبِيٌّ، أي هو إذ ذاك صَبِيّ.

وقال أبو ذُؤَيْب:

نَهَيْتُك عَن طِلَابك أُمَّ عَمْرٍو *** بعافِيةٍ وأنت إذٍ صَحِيحُ

قال: وقد جاء: أَوَانئذ، في كلام هُذَيل؛ وأَنشد:

دلَفْتُ لها أَوَانئِذٍ بسَهْم *** نَحِيضٍ لم تُخَوِّنْه الشُّرُوجُ

قال ابن الأَنْبَاريّ في «إذ» و «إذا»: إنما جاز للماضي أن يكون بمعنى المُستقبل إذا وقَع الماضي صِلَةً لمُبْهم غير مُؤَقت، فجرَى مَجْرَى قَوْله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الحج: 25] معناه: إنّ الذين يكْفُرون ويَصُدّون عن سَبِيل الله؛ وكذلك قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] معناه: إلّا الذين يَتُوبون.

قال: ويُقال: لا تَضْرب إلا الذي ضَرَبك إذا سَلّمت عليه، فتَجيء «إذا»، لأن «الذي» غير مُؤقَّت، فلو وَقّتَه فقال: اضْرب هذا الذي ضَرَبك إذا سَلّمت عليه، لم يجز في هذا اللفظ؛ لأنّ توقيت «الذي» أَبطل أن يكون الماضي في مَعْنى المُستقبل.

وتقول العربُ: ما هَلك امْرؤٌ عَرَف قَدْرَه، فإذا جاءُوا ب «إذا» قالوا: ما هلك امرؤٌ إذا عَرَف قَدْرَه؛ لأنّ الفِعل حَدَثٌ عن مَنكور يُراد به الجِنْس؛ كأنّ المتكلمِ يُريد: لا يَهلك كُلُّ امْرىء إذا عَرف قَدْرَه، ومتى عَرَف قدره؛ ولو قال: إذا عَرَف قدره، لَوَجب تَوْقيت الخبر عنه، وأن يُقال: ما هَلك امْرؤٌ إذا عَرف قدره؛ ولذلك يُقال: قد كنتُ صابرًا إذا ضربْت، وقد كنت صابرًا إذ ضربت، تذهب ب «إذا» إلى ترديد الفعل، تُريد: قد كنت صابرًا كُلّما ضَرَبت.

والذي يقول: إذ ضربت، يذهب إلى وقت واحد وإلى ضَرْب مَعْلوم مَعْروف.

وقال غيره: «إذ» إذا ولي فِعْلًا أو اسْمًا ليس فيه ألف ولام، إن كان الفِعل ماضيًا أو حرفًا مُتحرِّكًا فالذال منها ساكنة، فإذا وليت اسمًا بالألف واللام جُرّت الذال، كقولك: إذ القومُ كانوا نازِلين بكاظِمَة، وإذ النَّاس مَن عَزَّ بَزَّ.

وأما «إذا» فإنها إذا اتَّصلت باسم مُعَرَّف بالألف واللام، فإن ذالها تُفْتح إذا كان مُسْتَقْبلًا، كقول الله عَزَّ وجَلّ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 1، 2] لأن مَعْناها: إذا.

قال ابن الأَنْباري: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] بفتح الذال وما أَشْبَهها، أي تنشق، وكذلك ما أَشْبَهها، وإذا انكسرت الذال فَمَعْناها: «إذ» التي للماضي؛ غير أن «إذ» تُوقع مَوْقع «إذا» و «إذا» موقع «إذ».

قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] معناه: إذا الظالمون، لأن هذا الأمر مُنْتظر لم يَقَع؛ وقال أَوْسٌ في «إذا» بمعنى «إذ»:

الحافظُون الناسِ في تَحُوطَ إذا *** لم يُرسِلُوا تَحْتَ عائذٍ رُبَعا

أي: إذ لم يُرْسِلوا؛ وقال على إثره:

وَهبَّت الشاملُ البَلِيلُ وإذْ *** باتَ كَميعُ الفَتاة مُلْتَفِعَا

وقال آخر:

ثم جَزاه الله عنّا إذ جَزَى *** جَنَّاتِ عَدْنٍ والعَلالِيّ العُلَا

أَراد: إذا جزَى.

ورَوى الفَرّاء عن الكِسائيّ أنّه إذا قال: «إذًا» مُنوَّنة، إذا خلت بالفعل الذي في أوله أَحد حروف الاستقبال نَصَبَتْه، تقول مِن ذلك: إذًا أُكْرِمَك، فإذا حُلْتَ بينها وبينه بحرف رَفَعْت ونَصَبت، فقُلْت: فإذًا لا أُكْرِمُك، ولا أكْرِمَك؛ فمن رفع فيها لحائل، ومن نَصب فعلَى تَقْدير أن يكون مُقدَّمًا، كأنك قلت: فلا إذًا أكْرِمَك، وقد خَلت بالفعل بلا مانع.

قال أبو العبّاس أَحمد بن يحيى: وهكذا يَجُوز أن يُقرأ: {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 52] بالرَّفع والنَّصْب.

قال: وإذا حُلْت بينها وبين الفعل باسمٍ فارْفَعه: تقول: إذًا أخوك يُكْرِمُك، فإن جَعلت مكان الاسم قَسَمًا نَصَبْتَ، فقلت: إذًا والله تنامَ، فإن أَدخلت اللام على الفِعل مع القَسم رَفَعْت، فقلت: إذًا والله لتَنْدَمُ.

وقال سِيبويه: والّذي نَذهب إليه ونَحكيه عنه أنَّ «إذًا» نَفْسها الناصبة، وذلك لأن «إذًا» لما يُسْتقبل لا غَير في حال النَّصْب، فجعلها بمنزلة «أنْ» في العمل كما جُعلت «لكن» نظيرة «أنّ» في العَمل في الأَسْماء.

قال: وكِلَا القَوْلَيْن حسَنٌ جَميل.

وقال الزّجّاج: العامل عِندي النَّصْب في سائر الأفعال «أنْ»، إمّا أن تقع ظاهرةً أو مُضْمَرة.

قال أبو العبّاس: يُكتب، كَذَى وكذَى، بالياء، مثل.

زَكَى وخَسى.

وقال المُبَرّد: كذا وكذا، يكتب بالألف؛ لأنه إذا أُضيف قيل: كذاك.

فأُخْبر ثعلبٌ بقوله، فقال: فتًى، يكتب بالياء، ويضاف فيُقال: فَتَاك.

وأَجمع القُرّاء على تَفْخِيم: ذا، وهذه، وذاك، وذلك، وكذا، وكذلك؛ لم يُمِيلُوا شَيْئًا من ذلك.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


123-تهذيب اللغة (أرن)

أرن: ثَعلب، عن ابن الأعرابيّ: الأرْنة: الجُبن الرّطْب، وجمعها: أُرَن.

قال: والأُرَانَى: الجُبْن الرَّطْب، وجمعها: أَرَانيّ.

والإرَان: النّشاط، وجمعه: أُرُن.

والإرَان: الجنازة، وجمعها: أُرُن.

والأَرون: السُّمُّ، وجَمعه: أُرُن.

وقال الليث: الأَرُون: دماغ الفِيل؛ وأَنْشد:

وأَنْت الغَيْثُ يَنْفع ما يَليه *** وأَنت السَّمُّ خالَطه الأَرُونُ

أبو عُبيد: الإرَان: خَشَبٌ يُشَدّ بَعْضُه إلى بَعض يُحمل فيه المَوْتَى؛ وقال الأَعْشى:

أَثرَتْ في جَناجِنٍ كإرَان الْ *** مَيْت عُولِين فَوْق عُوجٍ رِسَالِ

وقيل: الإرَان: تابُوت المَوْتى.

قال: وقال الفَرّاء: الأَرَن: النَّشَاط.

وقد أَرِن يَأرَن أَرَنًا.

وأَخبرني المُنذريّ، عن ثَعلب، عن ابن الأعرابيّ قال: قال أبو الجَرّاح: الأُرْنةُ: الجُبْن الرَّطْب.

ويُقال: حَبٌّ يُلْقى في اللَّبن فيَنْتَفخ، ويُسمَّى ذلك البَياض: أُرْنة، وأَنْشد:

* هِدَانٌ كَشَحْم الأُرْنة المُتَرَجْرِجِ*

قال: والأُرَانى: حَبُّ بَقْل يُطْرح في اللَّبن فَيُجَبِّنه.

وقوله: هِدَانٌ: نَوَّامٌ لا يُصَلِّي ولا يُبَكِّر لحاجته؛ وقد تَهَدَّن، ويُقال: هو مَهْدُونٌ؛ قال:

* ولم يُعَوَّد نَوْمَة المَهْدُون *

ابن السِّكِّيت: الأُرَانَى: جَناة ثَمر الضَّعة، نبت، في باب فُعَالَى.

أبُو عُبَيد، عن الكسائيّ وأبي زَيْد: يَوْمٌ أَرْوَنَانٌ، وليلة أَرْونانَةٌ: شَدِيدة الحَرّ والغَمّ.

وأَخبرني الإيادي، عن شَمِر، قال: يومٌ أَرْوَنانٌ، إذا كان ناعمًا؛ وأَنشد فيه بيتًا للنابغة الجَعْدِيّ:

هذا ويَوْمٌ لنا قَصِيرٌ *** جَمُّ المَلَاهي أَرْوَنَانُ

قال: وهذا من الأضداد، فهذا البيت في الفَرح.

وقال الآخر:

فَظَلَّ لِنِسْوة النُّعْمَان منّا *** عَلى سَفَوانَ يومٌ أَرْوَنَانُ

قال: أراد: يوم أَرْونانيّ، بتشديد ياء النِّسبة، فخفَّف ياء النسبة، كما قال الآخر:

لم يَبْق من سُنّة الفارُوق تَعْرفه *** إلّا الدُّنَيْنِي وإلا الدِّرّة الخَلَقُ

وكان أبو الهَيْثم يُنكر أن يكون الأرْونان في غير مَعْنى: الغَمّ والشِّدة، وأَنكر البَيْتَ الذي احتج به شَمر.

وقال ابن الإعرابيّ: يومٌ أَرْونان، مأخوذ من الرُّون وهو الشِّدة.

وجمعه: رُوُون.

وفي حديث عائشة أنّ النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم طُبّ ـ أي سُحِر ـ ودُفن سِحْرُه في بئر ذي أَرْوَان.

والمِئْران: كِنَاسُ الثَّور الوَحْشِيّ، وجمعه: المَيارِين، والمآرِين.

عمرو، عن أبيه: الرُّونة: الشِّدّة.

وقال ابن الأعرابي: النَّرْوةُ: حَجر أَبْيض رَقيقٌ، وربما ذُكِّي به.

قال: وكانت العَرب في الجاهلية تقول لذي القَعْدة: وَرْنة؛ وجمعها: وَرْنات؛ وشهر جُمَادىّ: رُنَّى؛ وجمعها: رُنَّيات.

وقرأت بخط شَمر في حديث استسقاء عُمر: حتى رأيتُ الأرْنَبة تأكلُها صِغار الإبل.

قال شَمِر: روى الأصمعيّ هذا الحديث عن عَبد الله العمري عن أبي وَجْزة.

قال شمر: قال بعضهم: سألت الأصمعيّ عن الأرنبة فقال: نَبْت.

قال شمر: وهو عندي الأرينة، سمعت ذلك في الفَصيح من أعراب سَعد بن بكر، ببطن مُرّ.

قال: ورأيتُه نباتًا يُشبه الخَطْميّ عَرِيض الوَرق.

قال شمر: وسمعتُ غيره من أعراب كنانة يقولون: هو الأرِين.

وقالت أعرابيّة مِن بَطن مُرّ: هي الأرينة، وهي خَطْميّنا وغَسُول الرَّأس.

قلت وهذا الذي حَكاه شمر صَحِيح، والذي رُوي عن الأصمعي أنه: الأرنبة، من الأرانب، غير صَحيح، وشَمِرٌ مُتْقِن.

وقد عُني بهذا الحرف فسأل عنه غَيْرَ واحدٍ من الأعراب حتى أَحْكمه.

والرُّواة ربّما صَحَّفُوا وغَيَّروا.

ولم أَسمع الأرنبة في باب النَّبات من أَحد ولا رأيتُه في نُبُوت البادية، وهو خطأ عِندي، وأَحسب القُتَيبي ذكر عن الأصمعيّ أيضًا الأرنبة وهو غَير صَحِيح.

نير ـ نور: ابن المُظَفَّر: النُّور: الضِّياء.

والفعل: نار، وأنَار.

وفي الحديث: فَرض عمر بن الخطَّاب للجّدّ ثم أَنَارها.

زَيدُ بن ثابت: أي نَوَّرها وأَوْضحها.

قال: والمَنَارة: الشَّمعة ذاتُ السِّراج.

والمنارة أيضًا: التي يوضع عليها السِّرَاج.

وأَنْشد:

* فيها سِنَانٌ كالمَنَارَة أَصْلَعُ*

وفي حديث النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «لَعَن الله مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأرْض».

المَنارُ: العَلَم والحَدّ بين الأرَضين.

ومنَار الحَرم: أعْلامُه التي ضَربها إبراهيمُ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم على أَقْطار الحرم ونَواحيه، وبها تُعْرف حُدود الحَرم من حُدود الحِلّ.

ويَحتمل معنى قوله: «لعن الله من غيّر منار الأرض» أراد به: مَنار الحَرم.

ويجوز أن يكون: لعن الله من غيّر تخُوم الأرض، وهو أن يَقْتطع طائفةً من أرض جاره، أو يُحوِّل الحدَّ من مكانه.

وروى شَمر، عن الأصمعيّ: المَنار: العَلَم يُجعل للطَّريق.

أو الحدّ للأَرضين من طين وتُراب.

ويُقال للمنارة التي يُؤذّن عليها: المِئْذَنة؛ وأَنْشد:

لِعَكٍّ في مناسمها منار *** إلى عَدْنان واضحةُ السَّبيل

وقال الأصمعيّ: كُلّ رَسْمٍ بِمكْوًى، فهو نارٌ.

وما كان بغير مِكْوًى، فهو حَرْقٌ، وقَرْعٌ، وقَرْمٌ، وحَزٌّ، وزَنْمٌ.

ثعلب، عن ابن الأعرابي: النار: السِّمة؛ وجمعها: نِيار.

وقال: وجَمع النّار المُحرقة: نِيران.

وجمع النّور: أَنْوار، والنُّور: حُسْن النَّبات وطُوله، وجمعه: نِوَرَة.

والنِّير: العَلَم، وجمعه: أَنْيَار.

قلت: والعربُ تقول: ما نارُ هذه الناقة؟

أي: ما سِمَتُها؟ سُمِّيت نارًا لأنَّها بالنَّار تُوَسم؛ قال الراجز:

حتى سَقَوْا آبَالَهم بالنَّارِ *** والنارُ تَشْفِي من الأُوار

أي: سَقَوا إبلهم بالسِّمَة، أي إذا نَظروا في سِمة صاحبها عُرف فسُقِيت وقُدِّمت على غيرها لِكَرم صاحبها عليهم.

ومن أمثالهم: نِجَارُها نارُها، أي سِمتُها تَدُلّ على نِجَارها.

يَعْني الإبل؛ قال الرَّاجزُ يَصِف إبلًا، سِماتُها مُخْتَلفة:

نِجَارُ كُلِّ إِبِلٍ نِجَارُها *** ونارُ إبْل العالَمين نارُها

يقول: اختلفت سِماتُها لأنّ أربابَها من قبائل شتَّى، فأُغِير على سَرْحِ كُلّ قَبيلة واجتمعت عند من أَغار عليها سِماتُ تلك القبائل كلِّها.

وأما قوله:

* حتّى سَقَوْا آبَالهم بالنَّار*

يقول: لما عَرف أصحابُ الماء سِمتها سَقَوْها لِشَرف أَرْباب تلك النّار.

ونارُ المُهَوِّل: نارٌ كانَت للعَرَب في الجاهِليّة يُوقدونها عند التحالُف ويَطْرحون فيها مِلْحًا يَفْقَعُ، يهوِّلون بذلك تأكيدًا للحِلْف.

والعرب تَدعُو على العَدُوّ فتقول: أَبعد الله داره، وأَوْقد نارًا إثْرَه.

وأخبرني المُنذريّ، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: قالت العُقَيْليّة: كان الرَّجُل إذا خِفْنا شَرَّه فتحوّل عنا أَوْقَدنا خلفه نارًا.

قال: فقلتُ لها: ولِمَ ذلك؟

قالت: ليتحوّل ضبعهم معهم، أي شَرّهم.

وأَنشدني بعضُهم:

وجَمّة أقوام حَمَلْت ولم أَكن *** كموقِد نارٍ إثرهم للتندّم

الجمّة: قومٌ تحمَّلوا حَمالَة فطافُوا بالقبائل يسألون فيها، فأخْبر أنه حَمَل من الجمّة ما تحمّلوا من الدِّيات، قال: ولم أنْدم حين ارتحلوا عنّي فأُوقد على إثرهم.

ونار الحُبَاحب: قد مَرّ تَفسيره في كتاب الحاء.

وقال أبو العبّاس: سألت ابن الأعرابيّ عن قوله: لا تَسْتَضِيئوا بنار المُشْركين.

فقال: النار ها هنا: الرأي، أي لا تُشاوروهم.

وأمّا حديثهم الآخر: أنا بريء من كُلّ مُسلم مع مُشْرك.

ثم قال: لا تَراءَى نارَاهُما.

فإنّه كره النُّزول في جوار المُشركين، لأنه لا عَهد لهم ولا أمان، ثم وَكَّده فقال: لا تراءَى ناراهما، أي لا يَنزل المُسلم بالموضع الذي تقابل نارُه إذا أوقدها نارَ مُشرك، لقُرب منزل بعضهم من بعض، ولكنه ينزل مع المسلمين فإنهم يَدٌ على مَن سِوَاهم.

ورُوي عن ابن عمر أنه قال: لو لا أنّ عُمر نَهى عن النِّير لم نَر بالعَلَم بَأْسًا، ولكنه نَهى عن النِّير.

قال شَمِر: قال أبو زيد: نِرْتُ الثوب أَنِيرُه نَيْرًا.

والاسم: النِّيرة، وهي الخُيوطة والقَصبة إذا اجْتَمعتا، فإذا افْترقتا سُمِّيت الخُيوطة: خُيُوطةً؛ والقَصَبةُ: قَصَبةً، وإن كانت عَصَا فعَصًا.

قال: وعَلم الثَّوب: نِيرٌ، والجمع: أَنْيَار.

ونَيَّرت الثوبَ تَنْيِيرًا.

والاسم: النِّير.

تقول: نِرْتُ الثَّوْبَ، وأَنَرْتُه، ونيَّرتُه، إذا جعلتَ له عَلَمًا؛ وأَنْشد:

* على أَثَرَيْنا نِير مِرْطٍ مُرَجَّل*

قال: والنِّيرة أيضًا: مِن أَدَوات النَّسَّاج يَنْسج بها، وهي الخَشبة المُعْترضة.

ويقال للرجل: ما أَنت بِسَداةٍ ولا لُحْمة ولا نِيرة؛ يُضْرب لمن لا يَضُر ولا يَنْفع؛ قال الكُمَيت:

فما تَأْتُوا يَكُنْ حَسَنًا جَمِيلًا *** وما تَسْدُوا لَمكْرُمة تُنِيرُوا

يقول: إذا فَعلتم فعلًا أَبْرَمْتموه.

قال: والطُّرّة مِن الطَّريق تُسمَّى: النِّير، تَشْبِيهًا بنِير الثَّوب، وهو العَلَم في الحاشية؛ وأَنشد بعضُهم في صِفة طريق:

على ظَهر ذي نِيرَيْن أمّا جَنابُه *** فوَعْثٌ وأمّا ظَهْرُه فَمُوَعَّسُ

وجَنابُه: ما قَرب منه، فهو وَعْث يَشْتَدّ فيه المَشي؛ وأمّا ظَهْر الطَّريق المَوْطوء فهو مُمَتَّن لا يَشْتد على الماشي فيه.

وقال غيره: يقال للخَشبة المُعترضة على عُنق الثَّوْرين المَقْرونين للحراثة: نِيرٌ.

ويُقال لِلُحْمة الثَّوب: نِير؛ وأَنْشد ابن الأعرابيّ:

ألا هَل تُبْلِغَنِّيها *** على اللِّيّان والضِّفَّهْ

فلاةً ذات نِيرَيْن *** بِمَرْوٍ سَمْحُها رَنَّهْ

تخال بها إذا غَضِبت *** حماةً فاضَحَت كِنّهْ

يُقال: ناقة ذات نِيْريْن، إذا حَملت شَحْمًا على شَحْم كان قبل ذلك.

وأصل هذا من قولهم: ثوبٌ ذو نِيرَين، إذا نُسج على خَيْطين، وهو الذي يُقال له: ديَابُوذ، وهو بالفارسيّة: ذويَاف.

ويُقال له في النَّسج: المُتَاءمة، وهو أن يُنار خَيْطان معًا ويُوضع على الحَفَّة خَيْطان.

وأمّا ما نِير خَيْطًا واحدًا فهو السَّحْل.

فإِذا كان خيطٌ أبيض وخَيط أسود، فهو المُقاناة.

ويُقال للحرب الشَّديدة: ذات نِيرَين؛ وقال الطِّرِمّاح:

عدا عن سُلَيْمى أنَّني كُلَّ شارِق *** أَهُزّ لحَرْبٍ ذاتِ نِيرَين ألَّتِي

وأنشد ابن بُزُرْجَ:

ألم تَسأل الأَحْلاف كيف تَبَدَّلُوا *** بأَمرٍ أنارُوه جميعًا وأَلْحَمُوا

قال: ويُقال: نائرٌ ونارُوه؛ ومُنِير وأَنارُوه.

ويقال: لَسْت في هذا الأمر بمُنير ولا مُلْحِم.

أبو العبّاس، عن ابن الأعرابيّ: يُقال للرَّجُل: نِرْنِرْ، إذا أَمَرْته بعَمل عَلَم للمِنْديل.

والنُّورة مِن الحجر: الذي يُحْرق ويُسوَّى منه الكِلْس ويُحْلق به شَعر العانَة.

قال أبو العبّاس: يُقال: انْتَوَرَ الرَّجُلُ، وانْتار، من النُّورة.

ولا يُقال: تَنَوَّر، إلّا عند إبْصار النار.

وتأمُر من النُّورة فتقول: انْتَوِرْ يا زيد، وانْتَرْ، كما تقول: اقْتَول واقْتَل.

وأنشد غيرُه في تَنَوّر النار:

فتَنوَّرْت نارَها مِن بَعيدٍ *** بخَزَازَى هَيْهاتَ مِنْك الصَّلَاءُ

ومنه قولُ ابن مُقْبل:

* كَرَبَتْ حَياةُ النَّار للمُتَنوِّرِ*

الحَرّاني، عن ابن السِّكيت: النُّور: ضِدّ الظُّلْمة.

والنُّور: جَمع نَوَار، وهي النُّفّرُ من الظِّباء والوَحْش.

وامرأة نَوَار، ونِساء نُوُرٌ، إذا كانت تَنْفِر من الرِّيبة.

وقد نارت تَنُور نَوْرًا، ونِوَارًا؛ وأنشد قول العجَّاج:

* يَخْلِطْن بالتأَنُّس النَّوَارَا*

وقال مالك بن زُغْبة الباهليّ يُخاطب امرأةً:

أنَوْرًا سَرْعَ ماذا يا فَرُوقُ

وحَبْلُ الوَصْل مُنْتَكِثٌ حَذِيقُ

وقوله: «سَرْع ماذا» أراد: سَرُع، فخفَّف.

قلت: والنُّور، من صفات الله عزوجل؛ قال الله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35].

قيل في تفسيره: الله هادي أَهل السَّموات وأَهل الأَرض.

وقيل: أنارها بحكمة بالغة.

وقال ابن عَرفة: أي مُنوِّر السموات والأرض، كما يقولون: فلان غِياثُنا، أي مُغِيثنا، وفلان زادي، أي مُزوِّدي؛ قال جرير:

وأنت لنا نُورٌ وغَيْثٌ وعِصْمَةٌ *** ونَبْتٌ لمن يَرْجو نَدَاكَ وَرِيقُ

وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} [النور: 35] أي مثل نُور هُداه في قلب المُؤْمن كمشكاة فيها مِصْباح.

وقوله تعالى: {نُورٌ عَلى نُورٍ} [النور: 35] أي نُور الزّجاجة ونُور المِصْباح.

وقال أبو إسحاق في قوله تعالى: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قال: النُّور، هاهنا: محمّد صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم.

والنُّور: هو الذي يُبيِّن الأشياء ويُري الأبصار حَقِيقتها.

قال: فمثل ما أُتي به النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم في القلوب في بيانه وكَشْفه الظُّلمات، كمثل النُّور.

ثم قال: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16].

وفي حديث عليّ: نائرات الأَحكام، ومُنِيرات الإسْلام.

يريد: الواضحات البَيِّنات.

يقال: نار الشيءُ، وأنار، واستنار، إذا وَضح.

ثعلب، عن ابن الأعرابي: النائِرُ: المُلْقِي بين الناس الشُّرور.

والنَّائرة: الحِقْدُ والعَدَاوة.

والنَّؤُور: دُخان الشَّحْم.

وكُنّ نِسَاء الجاهلية يَتَّشِحْن بالنَّؤُور؛ ومنه قول بِشْر:

* كما وُشم الرَّاواهِشُ بالنَّؤُور*

وقال اللّيث: النَّؤُور: دُخان الفَتِيلة يُتَّخذ كحلًا أو وَشْمًا.

قلت: أمّا الكحل فما سَمِعت أنّ نساء العرب اكْتَحَلن بالنَّؤُور؛ أمّا الوَشْم به فقد جاء في أَشْعارهم؛ قال لَبِيد:

أو رَجْع واشمة أُسِفّ نَؤُورُها *** كِفَفًا تَعرّض فَوْقهنّ وِشامُها

وقال اللَّيث: النائرة: الكائنةُ تَقع بين القوم.

وقال غيره: بينهم نائرةٌ، أي عداوة.

وقال اللّيث: النَّور: نَوْر الشَّجر.

والفِعل: التّنْوِير.

ويُقال للنّوْر: نُوَّارٌ أيضًا.

وقد نَوَّرت الأشجارُ تَنْوِيرًا، إذا أَخْرَجت أَزَاهيرها.

وجمع: النَّور: أَنْوار.

وواحدة النُّوّار: نُوَّارَة.

وقال: يقال: فلان يُنوِّر على فلان، إذا شَبَّه عليه أَمرًا.

قال: وليست هذه الكلمة عربيّة، وأصله أن امرأة كانت تُسمى: نُورَة، وكانت ساحرةً، فقيل لمن فعل فِعْلها: قد نَوّر، فهو مُنَوِّر.

وفي صِفة النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: أَنْور المُتَجَرَّد.

والعرب تقول للحسن المُشْرق اللَّون: أَنور.

معناه: إذا تَجَرَّدَ من ثيابه كان أَنْور مِلْءَ العَيْن.

وأراد بالأنْور: النّيِّر، فوضع أفعل موضع فعيل، كما قال تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي: وهو هَيِّن عليه.

والتَّنْوير: وقتُ إسْفار الصُّبْح.

يقال: قد نَوَّر الصُّبْح تَنْويرًا.

ويقال: نار الشيء، وأنار، ونَوَّر، واسْتنار، بمعنًى واحد.

كما يقال: بان الشيء، وأبان، وبَيَّن، وتَبيَّن، واسْتبان، بمعنًى واحد.

ثعلب، عن ابن الأعرابيّ: النَّؤُور: دُخان الشحم الذي يَلْتزق بالطَّسْت.

وهو العِنَاج أيضًا.

ابن هانىء، عن زيد بن كُثْوة، قال: عَلِق رجلٌ امْرأةً فكان يَتَنَوّرها باللَّيل.

والتَّنَوُّر، مثل التَّضَوُّؤ.

فقيل لها: إن فلانًا يَتنوّرك، لِتَحْذره فلا يَرى منها إلّا حَسَنًا، فلمّا سَمعت ذلك رَفَعت مُقَدَّم ثَوْبها ثم قابلته وقالت: يا مُتنوِّرًا هاه؛ فلما سَمِع مقالتها وأَبصر ما فعلت قال: فبئسما أرى هاه، وانْصرفت نَفسُه عنها.

فضُربت مثلًا لكُل مَن لا يَتّقي قَبِيحًا ولا يَرْعَوي لِحَسَن.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


124-معجم العين (ظفر)

ظفر: جماعة الأظفار أظافير، لأنَّ الأَظفار بوَزْن الأَعصار، وتقول: أظافير وأعاصير، وإنْ جاءَ بعض ذلك في الأشعار جازَ كقوله:

حتى تَغامَزَ رَبّاتُ الأخادير

أراد جماعة الأخدار، والأخدار جماعة الخِدْرِ.

ويقال للرجل القليل الأَذَى: إنّه لمَقْلوم الظُّفر.

ويقال للرجل المَهين الضَّعيف: إِنّه لَكَليلُ الظُّفْر أي لا يُنْكي عَدُوًّا، قال:

لستُ بالفاني ولا كَلِّ الظفر

وظَفَر فلان في وَجْهِ فلان إذا غَرَزَ ظُفْره في لحمه فعقره، وكذلك التَظْفيرُ في القِثّاءِ والبَطيِّخِ والأشياء كُلِّها، وإنْ قلت: ظَفَره فجائز.

والأّظفار: شيء من العِطْر شَبيهٌ بالظُّفْر مِقْتَلَعٌ من أصله يُجْعَلُ في الدُّخْنةِ لا يفرَدُ منه الواحد، ورُبَّما قالوا: أَظفارةٌ واحدةٌ، وليس بجائزٍ في القياس.

ويجمعونَها على أظافير، وهذا في الطِّيب، وإذا أُفرِدَ شيءٌ من نحوها ينبغي أن يكون ظُفرًا وفُوهًا وهم يقولون: أظفار وأظافير وأفواه وأفاويه لهذين العِطْرَين.

والظَّفْرةُ: جُلَيْدَة تَعْشَى العَيْن تَنْبُتُ من تِلْقاءِ المَآقي، ورُبَّما قُطِعَتْ، وإنْ تُرِكَتْ غَشِيَت بَصَرَ العَيْن حتى يَكِلَّ.

ويقال: ظُفِرَ فلانٌ فهو مَظفُورٌ، وعَيْنٌ ظَفِرةٌ، وقد ظَفِرَتْ عَينُه.

والظَّفَرُ: الفَوْزُ بما طالَبْتَ، والفَلَجُ على مَن خاصَمْت، وظَفِرْتُ بفُلانٍ ظَفَرًا فأنا ظافِرٌ، وظَفَّر اللَّهُ فلانًا على فُلانٍ، وأظْفَرَه إظفارًا مثلهُ.

وفلانٌ مُظَفَّرٌ أي لا يؤوبُ اِلاّ بالظَّفَر فثُقِّل نَعْتُه للكَثْرةِ والمُبالَغة، وإن قيل: ظَفَّرَ اللَّهُ فلانًا أي جَعَلَه مُظَفَّرًا جاز، وظفرت فلانا تظفيرا، أي دَعَوْتُ له بالظَّفَر، وظَفَّرتُه على فُلان: غَلَّبْتُه عليه، وذلك إذا سُئِل: أيُّهما ظَفِرَ فأَخْبَرَ عن واحدٍ غَلَبَ الآخَر فقد ظَفَّره.

وظَفَره بالأظفارِ: خَدَشَه بها.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com