نتائج البحث عن (فَابْعَثُوا)

1-العربية المعاصرة (حكم)

حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل يَحكُم، حُكْمًا، فهو حاكم، والمفعول مَحْكوم (للمتعدِّي).

* حكَم اللهُ: شرَّع {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [قرآن].

* حكَم ابنَه: منعه وردّه عن السّوء، أخذ على يديه (حكم أخاه عن مجاراة رفاق السُّوء).

* حكَم البلادَ: تولّى إدارة شئونها (شهد التَّاريخُ الإسلاميّ حُكّامًا عادلين حكموا البلادَ بالشُّورى- تسلّم مقاليد الحكم- يحكم بيدٍ من حديد).

* حكَم الفرسَ: جعل للجامه حَكَمةً، وهي حديدةٌ تُجعل في فمه تمنَعُ جماحَه.

* حكَم بالأمر: قضى به وفصل (حكم بينهم بالعدل- {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [قرآن]) (*) حكَمَ ببراءته: برّأه.

* حكَم على فلان: قضى ضدّه، أو في غير صالحه (حكَم على المتهم بالإعدام/بالسجن) - حَكَمَ اعتباطًا: بلا تبصُّر.

* حكَم لفلان: قضى في صالحه (حكم للزوّجة بحضانة رضيعها).

حكُمَ يحكُم، حُكْمًا وحِكْمةً، فهو حكيم.

* حكُم الشَّخصُ: صار حكيمًا، وهو أن تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سديد (وأبغضْ بغيضَك بُغْضًا رويدًا.. إذا أنت حاولت أن تَحْكُما: إذا حاولت أن تكون حكيمًا).

أحكمَ يُحكم، إحكامًا، فهو مُحكِم، والمفعول مُحكَم.

* أحكمَ الشَّيءَ أو الأمرَ:

1 - أتقنه وضبطه (أحكَم إقفالَ البابِ- أحكم لغةً أجنبيّة- {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} [قرآن]).

2 - أقرَّه، أثبته.

* أحكم الفرسَ: جعل في فمه حديدة لمنعه من مخالفة راكبه.

* أحكمته التَّجاربُ ونحوُها: جعلته حكيمًا تصدر أعماله وأقواله عن رويّة ورأي سليم.

احتكمَ/احتكمَ إلى/احتكمَ في يحتكم، احتكامًا، فهو مُحتكِم، والمفعول مُحتكَم إليه.

* احتكم الشَّيءُ أو الأمرُ: توثّق وصار مُحْكمًا وراسخًا.

* احتكم النَّاسُ إلى فلان: رفعوا خصومتَهم إليه ليقضي بينهم.

* احتكم في الشَّيء أو الأمر: تصرّف فيه كما يشاء، حكم فيه وفصل برأي نفسه (احتكم في نصيب مشترك بينه وبين آخر).

استحكمَ/استحكمَ على يستحكم، استحكامًا، فهو مُستحكِم، والمفعول مُستحكَم عليه.

* استحكم الأمرُ أو الشَّيءُ: تمكّن، احتكم، توثَّق وصار محكمًا (استحكم العملُ/إغلاقُ الباب) (*) استحكم المرضُ: صار مزمنًا- غباء مُسْتَحكَم.

* استحكم الشَّخصُ: صار حكيمًا تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سليم وتناهى عمّا يضرُّه.

* استحكم عليه الشَّيءُ: التبس (استحكم عليه الكلامُ).

تحاكمَ إلى يتحاكم، تحاكُمًا، فهو مُتحاكِم، والمفعول مُتحاكَم إليه.

* تحاكم الطَّرفان إلى فلان: التجآ إليه، رفعا الأمرَ إليه ليقضي بينهما (تحاكم النَّاسُ إلى العقل- {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [قرآن]).

تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في يتحكَّم، تحكُّمًا، فهو متحكِّم، والمفعول متحكَّم به.

* تحكَّم بالأمر/تحكَّم في الأمر:

1 - استبدَّ وتعنَّت (الحزم في الإدارة لا يعني التَّحكّم في إصدار القرارات والتّعليمات- تحكّم في الآخرين وتسلَّط).

2 - سيطر عليه (تحكَّم في إطلاق سفينة الفضاء- تحكَّم به الحزنُ).

* تحكَّمَ في الأمر: احتكم، تصرَّف فيه كما يشاء (يتحكَّم في عاطفته/الأمور- تحكَّم في إدارة المشروع).

حاكمَ يحاكم، مُحاكمةً، فهو محاكِم، والمفعول محاكَم.

* حاكمَ القاضي المذنبَ: قاضاه، حكم عليه بعد استجوابه فيما نُسب إليه.

* حاكمه إلى فلان: خاصمه إليه ليكون قاضيًا بينهما (حاكمه إلى القاضي- حاكمه إلى الله وإلى القرآن: دعاه إلى حكمه- وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) [حديث].

حكَّمَ يحكِّم، تحكيمًا، فهو محكِّم، والمفعول محكَّم.

* حكَّم الشَّخصَ: ولاّه وأسند إليه مسئوليّةً ما (حكَّم الملِكُ أحدَ الأمراء).

* حكَّم فلانًا في الأمر: فوَّض إليه الفصلَ، القضاءَ فيه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [قرآن] (*) أعماله محكَّمة- حكَّمَ العَقْل: فوّض إليه أمر التَّقرير- هيئة التَّحكيم/لجنة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

استحكام [مفرد]: جمعه استحكامات (لغير المصدر):

1 - مصدر استحكمَ/استحكمَ على.

2 - تحصين (أقام الجيشُ استحكامات حول جبهة القتال).

* استحكام المرضِ: إذا تجاوز السَّنة فلا يزول إلاّ نادرًا.

تحكُّم [مفرد]: مصدر تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في.

* جهاز التَّحَكُّم: آليّة يتمُّ عن طريقها نقل أو تحويل التَّنظيمات الخاصّة بتحكُّمات التَّوجيه إلى الدَّفّة أو العجلة أو أي جزء آخر يُوجِّه مسار المركبة.

تَحَكُّمِيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى تحكُّم.

2 - اعتباطيّ، ما اتُّخذ وفق الإرادة والهوى (قراره تحكّميّ لا يستند إلى عقل أو منطق).

3 - استبداديّ.

تحكُّميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من تحكُّم: استبداد (المجتمعات التي مُنِيت بالتَّحكُّميّة يكثر فيها الجهل والفساد).

تحكيم [مفرد]: جمعه تحكيمات (لغير المصدر):

1 - مصدر حكَّمَ (*) تحكيم قضائيّ- هيئة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

2 - استحكام، تحصين (أقام الجيش تحكيمات حول جبهة القتال).

* التَّحكيم:

1 - شعار الحرورية من الخوارج الذين قالوا: (لا حُكم إلا لله) في الخلاف بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

2 - [في الفقه] تفويض القاضي إلى شخصَيْن عَدْلين للفصل بين الزَّوجين في حالة الشِّقاق (يفضِّل القاضي اللُّجوءَ إلى التّحكيم قبل النَّظر في الطّلاق).

3 - [في القانون] تسوية نِزاعٍ بين فريقين على يد فرد يكون حكمًا أو هيئة محكَّمة.

4 - [في القانون] ما يقوم به أطراف متنازعة من عرض مسألة النِّزاع؛ ليتمَّ الحكم فيها من فرد محايد أو مجموعة من الأفراد.

حاكم [مفرد]: جمعه حاكمون وحُكَّام:

1 - اسم فاعل من حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكم الحاكمين: الله عزوجل.

2 - قاضٍ، من نُصِّب للحكم بين النَّاس (فساد الحكّام من فساد المحكومين- شرُّ الحكام من خافه البريء- إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) [حديث].

3 - مَنْ يحكم النَّاس ويتولّى شئون إدارتهم، صاحِبُ السُّلطة (حاكم النَّاحية) (*) أُسْرة حاكمة/طبقة حاكمة/هيئة حاكمة: ينحصر رجال الحكم في أبنائها- الحزب الحاكم: الحزب الذي يحصل على الأغلبيّة وباسمه تُمارس الحكومةُ سلطتَها.

* الحاكم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المانع لأنّه يمنع الخصمين عن التَّظالم.

* حاكمٌ بأمره: من لا يُرَدُّ له أمر.

* حاكم أعلى: [في السياسة] مَن يمارس سلطة مطلقة دائمة، وعادة يكون في دولة أو مملكة: كالملك والملكة، أو شخص من النُّبلاء يقوم مقام الحاكم، أو مجلس أو لجنة حاكمة محليَّة.

* حاكم ذاتيّ: ممتلك القوَّة أو الحقَّ للحكم الذَّاتيّ المستقلّ.

* حاكم عام: مَن يحكم منطقة كبيرة جدًّا بما لديه من حُكَّام آخرين تحت حكمه.

* حاكم مطلق: من يملك سلطةً قضائيّةً مطلقةً على الحكومة وعلى الدَّولة.

حاكميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من حاكم: منصب الحاكم أو وظيفته أو لقبُه الوظيفيّ (قضيَّة الحاكميَّة).

حَكَم [مفرد]: جمعه حُكَّام:

1 - حاكِم، من يُختار للفصل بين المتنازعين، وبين الحقّ والباطل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [قرآن] - {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [قرآن].

2 - [في الرياضة والتربية البدنية] خبير في قوانين الألعاب يتولَّى إدارة المباراة وتطبيق القوانين الخاصَّة بها (عُقِدَت دورةٌ لحكَّام كرة القدم العرب).

3 - شخص ترجع إليه الأمور لأخذ القرار أو المشورة أو إيجاد حلٍّ لها أو لتقييمها.

4 - قاضٍ.

* الحَكَم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الحاكم المُحْكِم.

حُكْم [مفرد]: جمعه أحكام (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ وحكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكام انتقاليَّة: نصوص تشريعيّة ترعى الأحوال ريثما يمكن تنفيذ الأحكام الدائمة- الحُكم الدِّكتاتوريّ: الحكم المستبدّ- الحُكم الوِجاهيّ: الحكم الصَّادر بحضور أطراف الدَّعوى- بحكم شيء: بمقتضاه/استنادًا إليه/بسببه- بحكم منصبه/بحكم عمله/بحكم وظيفته: باعتبار وظيفته التي يشغلها ومهامّه التي يتولاها- تعديل حكم قضائيّ: تحويره بواسطة السُّلطة التّشريعيّة- حُكْمٌ جائر: مائل عن الحقّ ومخالف للعدل- حُكْمٌ جماعيّ: يتَّبع إرادة جماعة من النَّاس- حُكْمٌ حضوريّ: حكم يُصدره القاضي في حضور المتّهم- حُكْمٌ صائب: مطابق للعقل والإنصاف- حُكْمٌ غيابيّ: صادر في غياب المحكوم عليه- حُكْمٌ فرديّ: تابع لإرادة رجل واحد، عكسه حكم جماعيّ- حُكْمٌ محلِّيّ: خاصّ بإدارة محليّة- حُكْمٌ مطلق/حُكْمٌ استبداديٌّ: فرديّ، غير ديمقراطي، حكم استبداديّ- حُكْمٌ نيابيّ: يعتمد النِّظام البرلمانيّ- في حكم العدم: كأنّه غير موجود- في حكم المقرَّر: أوشك أن يقرّر- للضَّرورة أحكام: هناك حالات استثنائيّة تقتضي تعليق القوانين العاديّة- مَنطِقة حكم: منطقة نفوذ- نزَل على حكمه: قبله- يترك زمامَ الحكم: يتنازل عنه لغيره.

2 - قرار (أصدرت المحكمةُ حكمَها).

3 - ممارسة السُّلطة الحاكمة (تولَّى فلان مقاليدَ الحكم).

4 - شكل محدّد لسياسة الحكومة (الحكم الديمُقراطيّ/الشموليّ).

5 - [في القانون] بيان رسميّ من المحكمة أو أيّة هيئة قضائيّة حول الأحكام والدّوافع التي صدر القرار بموجبها (لديّ صورةٌ من الحكم).

6 - علمٌ وتفقهٌ وحكمة {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [قرآن] (*) أحكام العبادات: قواعدها، كما تنصُّ عليها الشَّريعة- أحكام الله: أوامرُه وحدودُه- حُكْمٌ شرعيّ: مبني على الشَّريعة الإسلاميّة.

7 - قضاء {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [قرآن].

* نقْض الحُكْم: [في القانون] إبطال الحُكْم إذا كان قد صدر مبنيًّا على خطأ في تطبيق القانون أو تأويله، أو كان هناك خطأ جوهريّ في إجراءات الفَصْل أو بطلان في الحكم. والنَّقض قد يصيب الحكم المدنيّ والحكم الجنائيّ على السَّواء متى كان أحدهما قد صدر نهائيًّا من المحاكم الابتدائيّة.

* استشكل في تنفيذ الحُكْم: [في القانون] أورد ما يستدعي وقفَ التنفيذ حتى يُنظر في وجه الاستشكال.

* صُورة الحُكْم التَّنفيذيّة: [في القانون] صورة رسميّة من النُّسخة الأصليّة للحُكْم، يكون التنفيذ بموجبها، وهي تُخْتم بخاتم المحكمة، ويوقِّع عليها الكاتب المختصّ بذلك بعد أن يذيِّلها بالصيغة التنفيذية.

* حكم جمهوريّ: [في السياسة] أن يكون الحُكْم بيد أشخاص تنتخبهم الأمّة على نظام خاصّ، ويكون للأمّة رئيس ينتخب لمدّة محدودة.

* حكم الإرهاب: فترة تتميَّز بالقمع القاسي، وبالرعب والتهديد ممَّن في يده السُّلطة.

* حكم الغوغاء: عقاب الأشخاص المشتبه بهم دون اللّجوء للإجراءات القانونيَّة.

* حُكْم الملك: المدَّة التي يحكم فيها الملك.

* حُكْم سليمان: أحد كتب العهد القديم أو أسفاره.

* حُكْم ذاتيّ: فترة انتقاليَّة يمنحها المستعمرُ لمستعمراته؛ كي تباشر سيادتَها الداخليَّة قبل تمكينها من الاستقلال التامّ، أو حقُّ الشعب في حكم نفسِه بقوانينه.

* حكم عرفيّ/أحكام عرفيَّة: حكم مقيِّد للحرِّيّات يُعلَن عادة في حالات الطَّوارئ كالانقلابات أو الاضطرابات عندما تنهار السُّلطة، حكم لسلطات عسكريَّة مفروض على السُّكَّان المدنيِّين ويكون غالبًا وقتَ الحرب أو عند تعرُّض البلاد لخطر خارجيّ.

* فنّ الحكم: [في السياسة] فنّ إدارة شئون الدّولة.

حَكَمة [مفرد]: جمعه حَكَمات وحَكَم.

* حَكَمةُ اللِّجامِ: حديدته التي تكون في فم الفرس لإحكام جماحه.

حِكْمَة [مفرد]: جمعه حِكْمات (لغير المصدر) وحِكَم (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، أو معرفة الحقّ لذاته، ومعرفة الخير لأصل العمل به (رأس الحكمة مخافةُ الله- الصَّمت يورث الحكمةَ، والكلام يورث الندامةَ [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى قول الشاعر: ما إن ندمت على سكوتي مرّة.. ولقد ندمت على الكلام مرارًا- الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ) [حديث].

3 - علمٌ، تفقّهٌ، إدراك (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ [حديث] - إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً [حديث] - {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [قرآن]) (*) بَيْتُ الحكمة: معهد أسسه المأمون (198 - 202ه/813 - 817م) واشتهر بمكتبته ودوره في حركة الترجمة- علم الحِكْمة: الكيمياء والطبّ- كتب الحكمة: كتب الفلسفة والطبّ.

4 - صواب الأمر وسداده ووضع الشَّيء في موضعه (حكمة الحياة هي أثمن ما نفوز به من دنيانا- عصب الحكمة أن لا تسارع إلى التَّصديق).

5 - علّة (ما الحكمة في ذلك؟) (*) الحكمة الإلهيّة: علّة يلتمسها الناظرون في أحوال الموجودات الخارجيّة أو يبينها الله تعالى في القرآن الكريم، نحو {وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون} [قرآن].

6 - كلامٌ يقِلُّ لفظهُ ويجِلّ معناه كالأمثال وجوامع الكلم (*) الحِكْمِيّون: الفلاسفة أو الشُّعراء الذين يؤثرون التَّكلُّم بالحِكم- شعر حِكْمِيّ: ذو حِكَم.

* الحكمة:

1 - السُّنة النبويّة {أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [قرآن].

2 - الإنجيل {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [قرآن].

* الحِكْمة المنزليَّة: [في الفلسفة والتصوُّف] علم يُبحث فيه عن مصالح جماعة مشتركة في المنزل كالولد والوالد والمالك والمملوك ونحو ذلك.

حكومة [مفرد]: جمعه حكومات:

1 - حُكْم وقضاء يصدر في قضيّة (قبلنا حكومتك بيننا).

2 - هيئة مؤلَّفة من أفراد يقومون بتدبير شئون الدَّولة كرئيس الدَّولة، ورئيس الوزراء، والوزراء، ومرءوسيهم (الحكومات ثلاث: حكومة جمهوريّة، وحكومة ملكيّة، وحكومة استبداديّة) (*) الحكومة الانتقاليّة: هي التي تتولَّى زمام الأمور خلال فترة إلى أن يتمَّ اعتمادُ نظامٍ ثابت- تشكّلت الحكومةُ: تألفت- توظّف في الحكومة- حكومة اتّحاديَّة: حكومة مركزيَّة لاتّحاد مجموعة ولايات أو أقطار- حكومة الظِّلّ: حكومة لا وجود لها في الواقع كالحكومة التي تؤلِّفها المعارضةُ لتتولَّى الحكمَ في حالة انتقاله إليها- حكومة مؤقَّتة- حكومة نيابيَّة: حكومة ديمقراطيّة- دوائر الحكومة- مُوظَّف الحكومة.

3 - [في السياسة] سلطات تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة.

* حكومة ائتلافيَّة: [في السياسة] حكومة أو مجلس وزراء مؤلَّف من ممثِّلي أكثر من حزب واحد، وذلك بقصد تأمين عدد كاف من الموالين والمؤيِّدين لها في مجلس النُّواب.

حكيم [مفرد]: جمعه حُكَماءُ، والمؤنث حكيمة، والجمع المؤنث حكيمات وحُكَماءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حكُمَ.

2 - مَنْ تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة سديدة ورأي سليم، صاحب حكمة، متقن للأمور (رجلٌ حكيم- الراعي الحكيم يجزّ خرافه لا يسلخها: كناية عن حسن التصرُّف- يرى الحكيمُ عيوبَ الغير فيصلح عيوبَ نفسه) (*) الذِّكْر الحكيم: القرآن الكريم.

3 - فيلسوف (اشتهرت اليونانُ بحكمائها).

4 - طبيب.

5 - مُحْكَم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [قرآن].

* الحكيم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي أحكم خلقَ الأشياء وأتقن التَّدبير فيها، العليم الذي يعرف أفضلَ المعلومات بأفضل العلوم، المُقدَّس عن فعل مالا ينبغي، الذي لا يقول ولا يفعل إلاّ الصّواب.

مُحَاكمة [مفرد]: مصدر حاكمَ.

* إعادة المُحَاكمة: [في القانون] سماع الدَّعوى ثانية أو من جديد أمام المحكمة ذاتها.

مُحكَم [مفرد]:

1 - اسم مفعول من أحكمَ.

2 - مُتقَن، دقيق، وثيق (عملٌ مُحكَمٌ).

* المُحكَم من القرآن: الظّاهر الذي لا شبهة فيه ولا يحتاج إلى تأويل {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [قرآن].

مَحْكَمة [مفرد]: جمعه مَحْكمات ومحاكِمُ:

1 - هيئة تتولَّى الفصلَ في النِّزاعات بين الأفراد والجماعات وهي على أنواع حسب صلاحيَّتها، وهي تابعة للسُّلطة القضائيّة (محكمة القضاء الإداريّ- المحكمة الجنائية الدَّولية الدَّائمة- محاكم الأحوال الشّخصيّة: التي تتناولها وتنظر فيها) (*) أمر محكمة: أمر تصدره المحكمة يُكلِّف شخصًا بعمل ما أو بمنعه من آخر- المحاكم المختلطة- المحكمة الابتدائيّة: هي الصالحة للنظر بدرجة أولى في قضايا مدنيّة أو جنحيّة غير داخلة في اختصاص محاكم أخرى- المحكمة العُرفيّة: المحكمة العسكرية تتألف في ظروف استثنائية كحالة الحرب- المحكمة العسكريّة: هي التي تتألّف في ظروف استثنائيّة كحالة الحرب- كاتب المحكمة- محاكم أهليّة- محاكم جزئيّة- محاكم شرعيّة- مَحْكَمة الأحداث: مَحْكَمة مختَصَّة بقضايا صغار السِّنّ- مَحْكَمة القضاء العالي.

2 - مكان انعقاد هيئة القضاء.

* المحكمة العليا: [في القانون] المحكمة الفيدراليّة العليا في أمريكا والمكوّنة من تسعة قضاة، لها سلطة قضائيَّة على المحاكم الأخرى في البلد.

* صديق المحكمة: [في القانون] من ليس طرفًا في نزاع، إنّما يتطوّع لتقديم نصح للمحكمة في قضيّة تنظر فيها.

* محكمة الاستئناف: [في القانون] محكمة عليا تنظر في أحكام محكمة دُونها في جهاز قضائيّ، وهي التي تعيد النَّظر في أحكام المحكمة الابتدائيّة.

* محكمة العدْل الدَّوليَّة: [في القانون] محكمة تنظر في الخلافات بين الدُّول التي تحتكم إليها، مقرُّها في (لاهاي) بهولندا.

* محكمة النَّقض: [في القانون] هي المحكمة العليا في البلاد وتعدّ المبادئ المستمدة من أحكامها ملزمة للمحاكم الأخرى.

مُستحكَم [مفرد]: جمعه مُسْتَحكَمات:

1 - اسم مفعول من استحكمَ/استحكمَ على.

2 - موقعٌ دفاعيّ محصَّن.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (شق)

شقَّ/شقَّ على شقَقْتُ، يَشُقّ، اشْقُقْ/شُقّ، شقًّا ومَشقَّةً، فهو شاقّ، والمفعول مشقوق عليه.

* شقّ الأمرُ: صعُب وثقُل (عمل شاقّ).

* شقّ عليه الصَّومُ: صعُبَ عليه تحمُّله، أرهقه وكان عسيرًا عليه (لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ [حديث] - {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [قرآن]).

شَقَّ شقَقْتُ، يَشُقّ، اشْقُقْ/شُقّ، شقًّا وشُقوقًا، فهو شاقّ، والمفعول مشقوق (للمتعدِّي).

* شقّ النّابُ: طلع أوّلُ ما يبدو منه (شقّ النباتُ: بدا وظهر، وذلك أوَّل ما تنفطر عنه الأرضُ).

* شقّ البرقُ: رُئي مستطيلا بين السّحاب ويستدلّ به على المطر.

* شقّ الشَّيءَ: صدعه وأحدث به شرْخًا أو فلقًا، أو خرقًا، أو ثقبًا نافذًا (شقَّ إطارَ سيّارة: خرقه، ثقبه- شقّ ثوبًا: مزّقه، قطعه- منظر يشقّ نياطَ القلوب- شقّ الخشبَ: فلقه) (*) شق حزبًا سياسيًّا: عمل على تفرقته- شقّ السّكونَ: بدّد الهدوء- شقّ طريقَه بين الجماهير: اخترقها بصعوبة- شقّ طريقَه بين زملائه: حقّق أهدافَه مثلهم- شقَّ عَصَا الجماعة: فرّق كلمتها، خالفهم- شقَّ عَصَا الطَّاعة: خالف وعصى وتمرَّد- لا يُشقّ له غبار: لا يمكن التفوّق عليه، لا يُلحق، لا يُدرَك، لا يُبارى.

* شقّ الطَّريقَ: مهّده وهيّأه للمرور (يشقّ طريقَه إلى النجاح) - شقَّ طريقَه في مُعْتَركِ الحياة: نجح في تحقيق ما طمح إليه من مركز اجتماعيّ ونحو ذلك.

* شقّ الأرضَ: حرَثها {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [قرآن].

* شقّ نهرًا: حفَره.

اشتقَّ يشتقّ، اشْتَقِقْ/اشْتَقَّ، اشتقاقًا، فهو مُشتقّ، والمفعول مُشتقّ.

* اشتقَّ الرَّجلُ طريقَه في الصَّحراء: سلكه في صعوبة.

* اشتقَّ الكلمةَ من غيرها: صاغَها منها.

* اشتقَّ الرَّغيفَ: أخذ شِقَّه أي نِصفَه.

انشقَّ ينشقّ، انْشَقِقْ/انْشَقَّ، انشقاقًا، فهو مُنشقّ.

* انشقَّ الشَّيءُ: انفلق، انصدع أو انقسم (انشقّ الحائطُ- {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [قرآن] - {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ} [قرآن]).

* انشقَّ الفجرُ: طلع وظهر.

* انشقَّ الرَّأيُ: تبدّد اختلافًا (انشقّ حزبٌ: حدث فيه انقسام واختلاف) (*) انشقّت عصا الجماعة: تفرّقوا، وقع الخلافُ بينهم- دَوْلَة منشقَّة.

* انشقَّ فلانٌ: خرج عن قانون دولة أو جماعة وانضمّ إلى جماعةٍ مناهضة.

تشاقَّ يتشاقّ، تَشاقَقْ/تَشاقَّ، تشاقًّا، فهو مُتشاقّ.

* تشاقَّ الرَّجُلان: تعاديا وتخالفا، تلاحّا وأخذا في الخصومة يمينًا وشمالًا.

تشقَّقَ يتشقّق، تشقُّقًا، فهو مُتشقِّق.

* تشقَّق المنزلُ: تصدّع وظهرت به فجوات وشقوق ({يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [قرآن]: أصله (تتشقَّق) - {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [قرآن]: أصله (يتشقّق) وأُدْغمت التاء في الشين).

شاقَّ يشاقّ، شاقِقْ/شاقَّ، شِقاقًا ومُشاقّةً، فهو مُشاقّ، والمفعول مُشاقّ.

* شاقَّ الرَّجُلَ: خالفه وعاداه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} [قرآن].

شقَّقَ يشقِّق، تشقيقًا، فهو مُشقِّق، والمفعول مُشقَّق.

* شقَّق الشَّيءَ: بالغ في شقّه، فلّقه, صدّعه (*) شقّق البردُ اليدين: أحدث شقوقًا صغيرة وتمزّقًا في الجلد- شقّق الجفافُ الأرضَ- شقّق حائِطًا.

* شقَّق الكَلامَ: وسَّعه وبيَّنه وولّد بعضَه من بعض، أخرجه أحسن مخرج.

اشتقاق [مفرد]: مصدر اشتقَّ.

* الاشتقاق:

1 - [في العلوم اللغوية] علم يبحث في توالد الكلمات صعودًا من وضعها الحاضر إلى أبعد وضع لها معروف وهو ثلاثة أنواع: صغير، وكبير، وأكبر.

2 - [في العلوم اللغوية] علم في قواعد اللُّغة مؤسّس على علميّ الأصوات والمعاني.

انشقاق [مفرد]: مصدر انشقَّ.

* الانشقاق: اسم سورة من سُور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 84 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها خمسٌ وعشرون آية.

شاقّ [مفرد]: جمعه شاقّون وشواقُّ، والمؤنث شاقّة، والجمع المؤنث شاقّات وشواقُّ:

1 - اسم فاعل من شقَّ/شقَّ على وشَقَّ.

2 - مُرْهِق، متعب، يتطلّب جهدًا وعناءً (عملٌ شاقّ) (*) أشغال شاقّة: حكم بالسَّجن مع فرض بعض الأعمال المُرهقة خلال فترة السَّجن.

3 - وَعِر، صعب، عسير (طريق شاقّ).

شُقاق [مفرد]: تشقُّق الجلد من داء أو برد (شُقاق في جانبي الفم/الشفايف).

شِقاق [مفرد]:

1 - مصدر شاقَّ.

2 - اختلاف وانقسام، خصومة وعدم اتِّفاق، عداوة (شِقاق في حزب سياسيّ- القضيَّة موضوع شِقاق: سبب خلاف ونزاع- {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا} [قرآن]) (*) ألقى بينهما بذور الشِّقاق: سعى بينهما بالنَّميمة- بينهما شِقاق- في شِقاق: مناوأة ومعاندة ومخالفة لله.

شَقّ [مفرد]: جمعه شُقوق (لغير المصدر):

1 - مصدر شقَّ/شقَّ على وشَقَّ.

2 - صَدْع أو خَرْق أو تمزّق (شقّ في إطار سيَّارة/ثوب/مرآة/عضلة) (*) شَقُّ شَعْرةٍ: بالتساوي.

3 - جُرح سطحيّ وتمزّق في الجلد (في رجليه شقوق كثيرة).

4 - فتحة ضيِّقة ومستطيلة (شقّ في جَبَل).

5 - [في البيئة والجيولوجيا] فرجة ضيّقة في التكوين الصخريّ بسبب ما يحدث له من توتُّر أو ضغط.

6 - [في البيئة والجيولوجيا] شقّ يحدث في رواسب الطين، أو الغِرْين بسبب الجفاف.

* شَقّ خيشوميّ: [في الأحياء] إحدى الفتحات على جانبي الرأس وتفتح في الجيب الخيشوميّ.

* الشَّق القيصريّ: [في الطب] عمليّة تُجرى لاستخراج الجنين بشقّ بطن أُمِّه في حالة تعسُّر الولادة الطَّبيعيّة.

شِقّ [مفرد]: جمعه شُقوق:

1 - جُزء، نصف (خذْ شِقّ هذا الطعام- اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) [حديث].

2 - جانب، شطر (نمْ على شِقّك الأيمن) (*) وقَع بين شِقّي رحى: أحاطت به المشكلات من كلِّ جانب، وقع بين أمرين كلاهما شرّ.

3 - جهد، تعب، مشقّة {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} [قرآن].

شَقّاق [مفرد]:

1 - صيغة مبالغة من شَقَّ.

2 - عامل يشُقّ جسمًا صُلْبًا (شقّاق خشب/حجارة في منجم) (*) رَجُلٌ شقَّاق: متكبِّر، مدَّعٍ ما ليس له.

شَقّاقة [مفرد]: اسم آلة من شَقَّ2: آلة لشقِّ الحجارة في المناجم.

شَقَّة [مفرد]: جمعه شقَّات وشُقَق:

1 - نصف الشّيء إذا شُقّ (شقَّةُ رغيف).

2 - ما قُطع مستطيلا من الثّوب والعصا وغيرهما.

3 - جزء مستقل من البيت تنفرد جماعة بسكناه، مسكن يتألّف من عدّة غرف ضمن بنايةٍ فيها عدد من المساكن (شقّة للإيجار/للتمليك).

4 - [في الطب] ما شُرِط وبُضِع (شقّة صليبيّة الشّكل).

شُقّة [مفرد]: جمعه شُقَّات وشِقاق وشُقَق:

1 - شَقَّة؛ نصف الشّيء إذا شُقّ.

2 - ما شُقّ مستطيلا من الثّوب والعصا ونحوهما.

3 - سفر بعيد، أو مسافة يصعب قطعُها {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [قرآن] (*) ضيَّق الشُّقَّة: قلّل الخلافَ.

* شُقَّة ساعيَّة: [في الفلك] منطقة من 24 منطقة متساوية تحدّها خطوط طول تمرّ بالقطبين وتقسم مساحة الأرض اصطلاحًا إلى 24 شُقّة أو ساعة تتبع كلّ منها توقيتًا واحدًا.

شِقَّة [مفرد]:

1 - بُعد، ناحِيَة (*) صارت منه شِقّة في الأرض وشِقّة في السّماء: تعبير عن شدَّة الغضب.

2 - سفر بعيد.

شُقوق [مفرد]: مصدر شَقَّ.

شَقِيق [مفرد]: جمعه أشِقّاءُ، والمؤنث شقيقة، والجمع المؤنث شقيقات وشقائِقُ:

1 - أخو الشّخص من أبيه وأمِّه، ويستعمل مجازًا بين البلدان (له ثلاثة أشقّاء- بلد/شعبٌ شقيق).

2 - نظير ومثيل (النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَال) [حديث].

شقيقة [مفرد]: جمعه شقيقات وشقائِقُ:

1 - أخت الرجل من أبيه وأمِّه.

2 - [في الطب] ألم يأخذ في نصف الرَّأس والوجه.

* الدُّول الشَّقيقة: الدُّول التي تجمعها روابط كاللُّغة والجوار الجغرافيّ والمصالح.

* شقائقُ النُّعمان: [في النبات] الشُقارى؛ نبات عشبيّ أحمر الزهر مُبقع بنقط سود، ينمو في المناطق الشماليّة وسمِّي بذلك لأنّ النعمان من أسماء الدم فهو أخوه في لونه.

مُشاقّة [مفرد]:

1 - مصدر شاقَّ.

2 - شِقاق، عداوة، اختلاف وانقسام خصومة وعدم اتّفاق (مشاقّة في حزب سياسيّ- لكثرة نزاعهم حدثت مشاقّة في الآراء).

مُشتقّ [مفرد]: جمعه مشتقات:

1 - اسم فاعل من اشتقَّ.

2 - اسم مفعول من اشتقَّ.

3 - [في الكيمياء والصيدلة] مادّة مستخرجة من مادّة أخرى، أو تشبهها في التركيب البنائيّ، فتبدو كأنّها مستخرجة منها (مشتقَّات الحامض- مشتقَّات بتروليّة).

4 - [في العلوم اللغوية] ما أُخِذ من أصل الفعل، مثل ناظر، مُحْكم، سخيّ، عكسه جامد، مثل: أسد، والمشتقات في اللغة اسم الفاعل واسم المفعول، والصفة المشبّهة، وأفعل التفضيل، وصيغ المبالغة، واسم المكان، واسم الزمان، واسم الآلة (*) كلمة مشتقَّة: أصل صيغتها من كلمة أخرى.

مَشَقَّة [مفرد]: جمعه مشقّات (لغير المصدر) ومَشاقّ (لغير المصدر):

1 - مصدر شقَّ/شقَّ على.

2 - عناء وتعب وجهد ومحنة (يجب أن تتحمّل مشقّات السّفر- لا تُدْرك الراحةُ إلاّ بالمشقّة).

3 - بؤس وفقر.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (ورق)

ورَقَ يرِق، رِقْ، وَرْقًا، فهو وارق.

* ورَق الشَّجَرُ: ظهر ورقُه.

أورقَ يُورق، إيراقًا، فهو مُورِق ووارِق (على غير قياس).

* أورق الشَّجَرُ: خرج أو ظهر وَرَقُه (أصيب الشَّجرُ بمرضٍ فلم يُورق).

* أورق الشَّخْصُ: كثُر مالُه.

* أورق الصَّائدُ: أخفق في الصيد، لم يَصِدْ (أورق طالبُ الحاجة: أخفق) (*) أخفق وأورق: إذا لم يُصب شيئًا، إذا طلب حاجة فلم يظفر بها.

ورَّقَ يورِّق، توريقًا، فهو مُورِّق، والمفعول مُورَّق (للمتعدِّي).

* ورَّق الشَّجَرُ: أورق؛ أخرج وَرَقَه (جاء الرَّبيعُ فأخذت الأشجارُ تُورِّق).

* ورَّق فلانٌ: اشتغل بنسخ الكتب أو تجارتها.

* ورَّق الشَّجرةَ: أخذ وَرَقَها.

* ورَّق الكتابَ ونحوَه: قلَّب صفحاته الواحدة تِلْوَ الأخرى.

أورقُ [مفرد]: جمعه وُرْق، والمؤنث وَرْقاءُ، والجمع المؤنث ورقاوات ووَراق ووَرَاقَى ووُرْق: ما كان بلون الرَّماد (جَمَلٌ أورق).

* الأَوْرَقُ من النَّاس: الأسمر.

* الأَوْرَقُ من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد.

* زمانٌ أَوْرَقُ: جَدْب.

وارق [مفرد]: اسم فاعل من أورقَ وورَقَ: على غير قياس.

وارِق [مفرد]: اسم فاعل من أورقَ وورَقَ: على غير قياس.

ورَّاق [مفرد]:

1 - صانع الوَرَق وبائعه.

2 - مَنْ يحترف نسخ الكتب أو تجارتها.

ورَّاقة [مفرد]:

1 - وَرَقة صفيقة ونحوُها مبسوطة لها إطارٌ تكون على المكتب، يضع الكاتبُ عليها الصَّحيفة في أثناء الكتابة.

2 - صندوق من الخشب ونحوه، ذو أشكال مختلفة تُوضع فيه أوراق الكتابة.

وَرْق [مفرد]: مصدر ورَقَ.

وَرَق [جمع]: وجمع الجمع أوراق، ومفرده وَرَقَة:

1 - رقائق يُكتب عليها وتُستعمل في حاجات أخرى كثيرة، وتُصْنَع من الأنسجة أو الأخشاب أو موادّ أخرى بعد أن تُحوَّل إلى عجينة ليّنة (وَرَق ترشيح/شفّاف/رسم/مقوَّى- كُرّاس ذو 24 وَرَقَة- كشف أوراقه: أعلن عن نواياه، ووضّح غرضه) (*) أعاد ترتيب أوراقه: أعاد النظر في خططه- الورقة الأخيرة: آخر ما عنده- حِبْر على وَرَق: أمرٌ غير قابل للتنفيذ، كلام لا يعقبه عمل- ورق الدَّمغة: الطوابع الأميريَّة أو البريديّة.

2 - مال، نقود (وَرَق بنكنوت- أوراق ماليّة) (*) الورق النَّقديّ: العُملة من الورق.

3 - وثائق (أوراق التَّعيين/اعتماد السَّفر).

4 - مذكِّرات للدَّرس والنِّقاش (قدَّم وَرَقة عمل للمشروع الجديد- وَرَقة تفاهم بين الجانبين).

* وَرَق اللَّعِب: رقاع مقوَّاة بقدر الكَفّ عليها علامات مختلفة الأشكال والألوان يُلعب بها قمارًا أو تسلية، وعددها 52 ورقة.

* ورق مُرَمَّل: صنفرة؛ ورق أحد وجهيه مجهَّز بحبيبات من الرَّمل أو الزجاج، يُستعمل لحكّ وتنعيم المصنوعات.

* ورق مقوَّى: ألواح الكرتون أو الورق المكوّن من طبقات متلاصقة أو كرتون تبنيّ يُستخدم في أغلفة الكتب ونحوها.

* وَرَق الكربون: ورق رقيق أسود أو أزرق أو نحوهما تكسوه مادة شمعيَّة ملوَّنة، يُستعمل في الكتابة لإنتاج أكثر من نسخة؛ فيوضع بين طبقتين من الورق لنقل ما هو مكتوب من الورقة العليا إلى الورقة السفلى.

* الأوراق التِّجاريَّة: [في التجارة] الكمبيالة والسَّند الإذني والشِّيك.

* أوراق الاعتماد:

1 - [في السياسة] أوراق رسميّة يقدّمها الممثل السياسيّ لإحدى الدول إلى رئيس الدولة التي يُعيَّن فيها إثباتًا لمهمته.

2 - [في الاقتصاد] عمليّة مصرفيّة، وهي عبارة عن مكاتبات تسلمها المصارف لزبائنها، تكون موجّهة لأحد أو بعض عملاء أو وكلاء هذه المصارف، وتدعوهم فيها لكي يضعوا تحت تصرُّف حامليها المبالغ التي يحتاجون إليها لغاية مبلغ معيَّن، وضمن مهمة معيَّنة.

* الأوراق المصرفيَّة: [في الاقتصاد] أوراق يصدرها بنك الإصدار مشتملة على التزام بدفع مبلغ معيَّن من النُّقود المعدنيّة لحاملها عند الطَّلب.

* الأوراق الماليَّة: [في الاقتصاد] مجموعة من الأدوات الاستثماريّة كالأسهم والسندات والصّناديق الاستثماريّة ونحوها.

وَرِق [جمع]: وجمع الجمع أوراق ووِراق: دراهم من فِضَّة {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [قرآن].

وَرِق [مفرد]: صيغة مبالغة من ورَقَ: كثير الوَرَق.

وَرْقاءُ [مفرد]: جمعه وَرَاقٍ ووَرَاقَى ووُرْق، والمذكر أورق: حمامة، أو التي لونُها كالرَّماد فيه سَوادٌ.

وَرَقة [مفرد]: جمعه وَرَقات وأوراق ووَرَق:

1 - إحدى الورقات التي يتألف منها الكتاب، وهي عبارة عن صفحتين متتاليتين وَجْه وظهر.

2 - [في النبات] طرَفٌ أخضر منبسط رقيق يخرج من ساق النبات محمولًا على عنق، وهي التي تصنع السكّر بواسطة البناء الضوئي وهي غالبًا خضراء {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا} [قرآن].

* الوَرَقة الرَّسميَّة: ورقة يبيّن فيها موظف عامّ أو شخص مُكلَّف بخدمة عامَّة ما تمَّ على يديه أو بحضوره في حدود اختصاصه.

* عُنُق الورقة: [في النبات] السويقة التي تصل الورقة بالساق.

وريق [جمع]:

1 - شجر ذو ورق.

2 - شجر كثير الورق حسنه (تلك الفنون المشتهاة هي التي.. غُصْنُ الحياة بها يكون وَرِيقَا).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-المعجم الوسيط (الحَكَمُ)

[الحَكَمُ]: من أسماء الله تعالى.

و- الحاكم.

وفي التنزيل العزيز: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].

و- من يُختار للفصل بين المتنازعين.

وفي التنزيل العزيز: {وَإِنْ خِفْتُم شِقَاقَ بَيْنَهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].

ويقال: رجُلٌ حَكَمٌ: مُسِنٌّ.

وهم حَكَمةٌ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


5-شمس العلوم (الحَكَم)

الكلمة: الحَكَم. الجذر: حكم. الوزن: فَعَل.

[الحَكَم]: الحاكم.

قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ}.

وحكم: حي من اليمن من مذحج، وهم ولد حكم بن سعد العشيرة بن مذحج.

وحكم: من أسماء الرجال.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


6-شمس العلوم (الوَرِق)

الكلمة: الوَرِق. الجذر: ورق. الوزن: فَعِل.

[الوَرِق]: الفضة، وإِذا ضُربت دراهمَ فهي ورِقٌ.

قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ} وقرأ أبو عمرو وحمزة بسكون الراء، على التخفيف، وعن عاصم ويعقوب روايتان؛ وفي الحديث عن النبي عليه‌ السلام: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الوَرِق بالوَرِق، ولا البُرَّ بالبُرِّ ولا الشعير بالشعير إِلا مثلًا بمثل، يدًا بيد».

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


7-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بعث)

(بعث): {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]

بعثه من نومه فانبعث: أيقظه وأهَبَّه. وبَعَثَ البعيرَ فانبعث: حلَّ عقاله فأرسله، أو كان باركًا فهاجه وأثاره. وانْبَعث في السير: أسرع.

° المعنى المحوري

هو: إثارة (الحيّ) من مكان يلزمه بقوة فيندفع ناهضًا أو

مبتعدًا: كبعث النائم والبعير. ومن ذلك: (أ) بَعْثُ الموتى من القبور: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. وهو في كل القرآن بهذا المعنى - عدا ما في الفقرات التالية:

(ب) إنهاض رسول أو نبيّ، أو ملك، أو حَكَم، أو نقيب {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ} [البقرة: 246]، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] , {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف: 103] , {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]، ومنه ما في [البقرة 129، 246، آل عمران 164، النساء 35، المائدة 12, 31، التوبة 46، يونس 74، 75: النحل 36، 84، 89، الإسراء 15، 94، الفرقان 41، 51، الشعراء 36، القصص 59، غافر 40، الجمعة 2].

(ج) والبَعْثُ: الإثارة والدفع نحو عمل شيء ما {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: 5] , {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12].

(د) بعث إنهاض بعد موت مؤقت أو نوم أو نحوه [البقرة 56، 259، الأنعام 60, الكهف 12, 19].

والبعث في آية الرأس هو إقامة ربنا - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام العظيم، يوم القيامة للشفاعة العظمى، أو شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأمته خاصة، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - أول مَدْعُوّ، أو عامٌّ في كل مقام حميد. والأول أقوى. وهناك خاص أتفق مع الرافضين له [ينظر بحر 6/ 70 - 71].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


8-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ورق)

(ورق): {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59]

وَرَقُ الكتب -محركة: معروف. ووَرَق (الشجر): كلّ ما تَبَسَّط تَبَسُّطًا وكان له عَيْرٌ (= عِرْق صُلب) في وسطه يَنْتَشِر عنه حاشيتاه. واحدهُ وَرَقة. والورَقُ كذلك أَدَمٌ رِقَاقٌ منها وَرَق المصحف أي صُحُفه. والوَرَاق -كسحاب: خُضْرة الأَرْض من الحشيش.

° المعنى المحوري

طبقات رقاق عِرَاض لطيفة (= ناعمة طرية) (تتولد وتكسو). كورق الشجر (ومنه ما نفي آية الرأس) وكالأَدَم، وكطبقة الخضرة من الحشيش. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22، طه: 121].

ومن ذلك "الوَرَق من الدم -محركة: وهو الذي يَسْقط من الجراحة عَلَقًا قِطَعًا/ ما استدار مِنْه على الأرض (لتماسكه مع عِرَضه ورقته) (وشبهه ابن فارس بورق الشجر) وكذلك وَرَقُ القوم: أَحْدَاثهم " (رقة معنوية هي غضاضة الحداثة وصغر الحجم، والتولد عن قومهم)، و "هو طيب الوَرَق أي النَسَب " (التولد) ومن التشبيه بورق الشجر من حيث هو كسوة خضراء: "ما أحسن وَرَاقه -كسحاب، وأوراقه أي لِبْسَتَه وشارته ".

ومن معنوى ذلك "الوَرَقُ -محركة: المالُ من غَنَم وإبل وغيرها "-كما سُمِّىَ ريشًا {وَرِيشًا} [الأعراف: 26]. وفي [قر 7/ 184] هو ما كان من المال واللباس).

ومن ملحظ الرقة: "أوْرَقَ الحابل: لم يقع في حِبالته صَيْدٌ، والغازي: لم يغنم،

والطالبُ: لم ينل " (الرقة هنا تجرده وعدم علوقه شيئًا، ولعلهم عبروا بذلك تلطفًا بدلًا من التعبير بالخيبة). وفي نظرة أخرى قالوا "رجل وَرَق -محركة: خَسِيس ناقصُ القَدْر والخُلُق " (فنظروا لرقة السمك على أنها دقة قَدْر. كما قالوا فلان رقيق الدين).

وأما "الوَرِق -ككتف وبالفتح والكسر وكعدة: الدراهم المضروبة (من الفضة) فلأنها تكون بالسَكّ رِقَاقًا بعد أن كانت قبله سبائك مكعبة غليظة. وفيها لطف كونها عَيْنًا أي مالًا). {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]. والوُرْقَهَ -بالضم في اللون "من ذلك لأنها لَوْنُ الفضة التي كانت تصنع منها الدراهم، إذ الوُرْقة بياض إلى سواد. وأيضًا فإن بين هذا اللون ولون ورق الشجر تناسبًا ما. وقد ذكروا في الجَمَل الأَوْرَق أنه أقل الجِمال شِدَّةً عل العمل وأطيبُها لحمًا. لكن الوُرْقة لم تختص بالإبل.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


9-المعجم الاشتقاقي المؤصل (مدن)

(مدن): {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120]

المدينة: الحصن يُبنَي في أُصْطُمَّة الأرض (أصطمة البحر: وسطه ومُجتَمعه، وأُصْطُمّة كلِّ شيء: مُعظَمه) وكل أرض يُبنى بها حصن في أُسْطُمتها فهي مدينة. المدينة: المِصْر الجامع.

° المعنى المحوري

المِصْر الجامع المحصَّن- وتعريف المدينة بالحصن = يذكّرنا باتخاذ القدماء قِلاعًا ونحوها مبالغةً في الامتناع والتحصن من الأعداء، وفيه الفرق بينها وبين القرية التي هي تجمُّع لبيوت لم يُلحظ فيه التحصن. وقد أُطلقت المدينة في القرآن الكريم على العواصم ونحوها، فأُطلقت على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا}

[التوبة: 120]، حتى لو غلب عليها بعد الإِسلام، وأطلقت على عاصمة مصر {وَقَال نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30]، وعلى كبار بلادها. {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111]، وعلى ما يشبه أن يكون كذلك {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]، {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 48].

لكن ربما كان اشتقاق المدينة من (دين) أَوْلَى؛ لأن: الحَمْل على تركيب معروف واسع التصرف مثل "دين "أولى من العمل على تركيب لا وجود له إلا افتراضًا كالفعل الممات "مَدَنَ بالمكان "ثم إن تعبير الدال والنون عن التغلغل في أثناء شيء يضطم على ما تغلغل فيه واضحةٌ في (دن ن) كالدَن يُغرَس عُسْعُسُه (قاعدته القِمْعِيّة) في الأرض. ويقولون: أدَنّ بالمكان: أقام. ودَنْدَنَ: اختلف في مكان واحد مجيئًا وذَهابًا. ويدور تركيب (دين) على تمكُّن الشيء في أثناء جَوْف أو حَوْزة. ومنه المدين: المملوك، والدِين- بالكسر: الحكم {فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، في حُكْمه ومُلْكه (وهذا حوز بقوة) وعقيدة في القلب والدَين- بالفتح: كل شيء غير حاضر (معلق بذمة شخص ما)، والدين- بالكسر. وهذه الاستعمالات تعبّر عن التمكن في جوف حيّز. وهذا يناسب معنى المدينة- لأن المدينة حيِّزُ إقامة. كل هذا يرجح أن المدينة من (دين).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


10-موسوعة الفقه الكويتية (بغاة 1)

بُغَاةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا: أَيْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، فَهُوَ بَاغٍ وَالْجَمْعُ بُغَاةٌ، وَبَغَى: سَعَى بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

وَالْفُقَهَاءُ لَا يَخْرُجُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلاَّ بِوَضْعِ بَعْضِ قُيُودٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْبُغَاةَ بِأَنَّهُمُ: الْخَارِجُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ شَوْكَةٌ.

وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ: الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْإِمَامُ، كَالزَّكَاةِ.

وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ سِوَى الْبُغَاةِ اسْمُ (أَهْلِ الْعَدْلِ) وَهُمُ الثَّابِتُونَ عَلَى مُوَالَاةِ الْإِمَامِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخَوَارِجُ:

2- يَقُولُ الْجُرْجَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ.وَهُمْ فِي الْأَصْلِ كَانُوا فِي صَفِّ الْإِمَامِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِي الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ لَمَّا قَبِلَ التَّحْكِيمَ.قَالُوا: لِمَ تُحَكِّمْ وَأَنْتَ عَلَى حَقٍّ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- عَلَى بَاطِلٍ بِقَبُولِهِ التَّحْكِيمَ، وَيُوجِبُونَ قِتَالَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي نَظَرِهِمْ كُفَّارٌ.

وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلَا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْهُمْ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا.قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا.قِيلَ فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُوا فَقَاتَلْنَاهُمْ.وَقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا.

وَيَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ تَظَاهَرَ الْخَوَارِجُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطٍ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ.

وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي مُصْطَلَحِ (فِرَق).

ب- الْمُحَارِبُونَ:

3- الْمُحَارِبُونَ: لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِرَابَةِ مَصْدَرُ حَرَبَ، وَحَرَبَهُ يَحْرُبُهُ: إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَالْحَارِبُ: الْغَاصِبُ النَّاهِبُ.

وَعَبَّرَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمَارَّةَ مِنَ الْمُرُورِ، فَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَمْ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَصَا وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَتُسَمَّى الْحِرَابَةُ بِالسَّرِقَةِ الْكُبْرَى.

أَمَّا كَوْنُهَا سَرِقَةً؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً عَنْ عَيْنِ الْإِمَامِ الَّذِي عَلَيْهِ حِفْظُ الْأَمْنِ.وَأَمَّا كَوْنُهَا كُبْرَى؛ فَلِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ، حَيْثُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِزَوَالِ الْأَمْنِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ هُوَ أَنَّ الْبَغْيَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تَأْوِيلٍ، أَمَّا الْحِرَابَةُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَغْيِ:

4- الْبَغْيُ حَرَامٌ، وَالْبُغَاةُ آثِمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْبَغْيُ خُرُوجًا عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْبُغَاةَ مُؤْمِنِينَ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ فِي قِتَالِهِمْ.وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ قِتَالِهِمْ فَهُوَ شَهِيدٌ.وَيَسْقُطُ قِتَالُهُمْ إِذَا فَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الصَّنْعَانِيُّ: إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ وَلَا قَاتَلَهُمْ يُخَلَّى وَشَأْنَهُ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ قِتَالَ الْمُخَالِفِ.

وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ قَالَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- لِابْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ أَلاَّ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ».

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ اسْمَ ذَمٍّ؛ لِأَنَّ الْبُغَاةَ خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ نَوْعُ عُذْرٍ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِمْ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْعِصْيَانِ أَوِ الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَطْعِيَّ الْبُطْلَانِ.

5- وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْبُغَاةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ فِعْلِهِمْ، أَوْ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً كَمَا يَلِي:

أ- الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ بَعْدُ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ.وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ عَصَى الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، مِنْ أَنَّهُ مَكَثَ أَشْهُرًا لَمْ يُبَايِعِ الْخَلِيفَةَ ثُمَّ بَايَعَهُ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَ الْبُغَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ.

ب- إِنْ خَالَطَ الْبُغَاةَ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَتَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، دُونَ مُقَاتَلَتِهِمْ جَازَ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرُهُمْ؛ إِذِ التَّظَاهُرُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَنَشْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ دُونَ قِتَالٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّغَائِرِ.

ج- إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، وَصَارُوا آمَنِينَ بِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ لِدَعْوَى الْحَقِّ وَالْوِلَايَةِ.فَقَالُوا: الْحَقُّ مَعَنَا، وَيَدَّعُونَ الْوِلَايَةَ، وَلَهُمْ تَأْوِيلٌ وَمَنَعَةٌ، فَهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ، فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ مُنَاصَرَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْبُغَاةِ الْخَوَارِجُ.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ فَهُمْ فُسَّاقٌ.

شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ:

6- يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ.فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا بُغَاةً.وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا طَلَبِ إِمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلَا يُخْشَى قِتَالُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ.وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِحَقٍّ- كَدَفْعِ ظُلْمٍ- فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ، وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ.

وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِمَنَعَةٍ، بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ، كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ، فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ؛ لِأَنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ.

ب- أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ، وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ، إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ، وَإِلاَّ فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.

ج- أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ.وَقِيلَ: بِالْمُقَاتَلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْصِي الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَا يَكُونُ مِنَ الْبُغَاةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْقَهْرِ لَا يَكُونُ بَاغِيًا.

د- وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَنْصُوبًا؛ إِذْ لَا شَوْكَةَ لِمَنْ لَا مُطَاعَ لَهُمْ.

وَقِيلَ: بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ،

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ.

الْإِمَامُ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بَغْيًا:

7- مَنِ اتَّفَقَ، الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَمَعُونَتُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ بِعَهْدِ إِمَامٍ قَبْلَهُ إِلَيْهِ؛ إِذِ الْإِمَامُ يَصِيرُ إِمَامًا بِالْمُبَايَعَةِ أَوْ بِالِاسْتِخْلَافِ مِمَّنْ قَبْلَهُ.وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ بَحْثُ (الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى).

أَمَارَاتُ الْبَغْيِ:

8- إِذَا تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَأَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ، وَكَانُوا مُتَحَيِّزِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِقَصْدِ الْقِتَالِ، لِخَلْعِ الْإِمَامِ وَطَلَبِ الْإِمْرَةِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يُبَرِّرُ فِي نَظَرِهِمْ مَسْلَكَهُمْ دُونَ الْمُقَاتَلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.

وَيَنْبَغِي إِذَا مَا بَلَغَ الْإِمَامَ أَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ أَنْ يَبْدَءُوهُ بِالْقِتَالِ، فَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، لِتَقَوِّي شَوْكَتِهِمْ وَتَكَثُّرِ جَمْعِهِمْ، خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ.وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْإِمَامِ لِمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَزَكَاةٍ، وَكَأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِمَّا جَبَوْهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ، مَعَ التَّحَيُّزِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ الْمُغَالَبَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.

أَمَّا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ، كَتَكْفِيرِ فَاعِلِ الْكَبِيرَةِ وَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَكِبُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الْقِتَالَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَارَةَ الْبَغْيِ، حَتَّى لَوِ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ يَتَجَمَّعُونَ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ إِلَى زَوَالِ الضَّرَرِ.

بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ إِجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ لَهُمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَخْذُ سِلَاحِهِمْ بِمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَمَنْعُ بَيْعِهِ لَهُمْ أَوْلَى.

وَالَّذِي يُكْرَهُ هُوَ بَيْعُ السِّلَاحِ نَفْسِهِ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِعْمَالِ.وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّ طَالِبَ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْأَحْكَامُ تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ.

وَأَمَّا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إِلاَّ بِصَنْعَةٍ كَالْحَدِيدِ، فَلَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِ السِّلَاحِ، بِخِلَافِ الْحَدِيدِ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْخَشَبِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَعَازِفُ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْمَحْظُورِ.

وَالْحَدِيدُ وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ سِلَاحًا؛ لِأَنَّ فَسَادَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ جَمْعِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَقَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا.

وَاجِبُ الْإِمَامِ نَحْوَ الْبُغَاةِ:

أ- قَبْلَ الْقِتَالِ:

10- يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْعُوَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ، وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ، لَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ تُرْجَى تَوْبَتُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِظُلْمٍ مِنْهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ ذَكَرُوا عِلَّةً يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ.فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ.وَإِنْ طَلَبُوا الْإِنْظَارَ- وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَصْدِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الطَّاعَةِ- أَمْهَلَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُنْظِرُهُمْ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.

وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا نَاصِحًا لِدَعْوَتِهِمْ، نَصَحَهُمْ نَدْبًا بِوَعْظٍ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنْ أَصَرُّوا آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ.

وَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ مَا لَمْ يُعَاجِلُوهُ.

وَكَوْنُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ عَارِفًا فَطِنًا وَاجِبٌ، إِنْ بُعِثَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَةِ، وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبٌّ.

وَفَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: إِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ يُجَهِّزُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا، فَإِنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ، نَدَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ...وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ أَسْنَدَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ.قَالَ إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ.قُلْتُ: كَلاَّ.فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.

وَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ.وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.وَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنِهِ.قَالُوا: ثَلَاثٌ.أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ.وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ.قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا، تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ.فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي.يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، فَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنَ النُّبُوَّةِ.فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ، فَقُوتِلُوا.

وَيُصَرِّحُ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْقِتَالِ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَدَعْوَةِ الْبُغَاةِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ.

ب- قِتَالُ الْبُغَاةِ:

11- إِذَا مَا دَعَا الْإِمَامُ الْبُغَاةَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَتَحَيَّزُوا مُجْتَمِعِينَ، وَكَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ.وَلَكِنْ هَلْ نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمْ لَا نُقَاتِلُهُمْ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرُوا الْمُغَالَبَةَ؟ هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: جَوَازُ الْبَدْءِ بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرْنَا قِتَالَهُمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ خُوَاهَرْ زَادَهْ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْبُدَاءَةِ مِنْهُمْ فِي قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وَقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى عَلَامَتِهِ، وَهِيَ هُنَا التَّحَيُّزُ وَالتَّهَيُّؤُ، فَلَوِ انْتَظَرْنَا حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ لَصَارَ ذَرِيعَةً لِتَقْوِيَتِهِمْ.فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْإِمَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ صَارُوا عُصَاةً فَجَازَ قِتَالُهُمْ، إِلَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ.وَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَوَارِجِ لَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ: حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى قِتَالِنَا.وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِأَهْوَنَ مِنْهُ.

وَإِلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إِنْ كَانَ قَادِرًا؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: نَقَلَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَاسَانِيُّ وَالْكَمَالُ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهِ الشَّرُّ مِنْهُمْ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْإِمَامُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ قِتَالُ الْمُسْلِمِ إِلاَّ دَفْعًا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ قَبِيحٌ.وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَلاَّ يَبْدَءُوا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ دُونَ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ كَالصَّائِلِ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: «الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ» أَيِ الْقِتَالَ.

الْمُعَاوَنَةُ فِي مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ:

12- مَنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ إِلَى مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ افْتُرِضَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ ظُلْمَ الْإِمَامِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ إِذْ يَجِبُ مَعُونَتُهُمْ لِإِنْصَافِهِمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا.وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ بَيْتَهُ.وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ.أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً، أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمُلْكِ.وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا، وَبَغَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ لِرَفْعِ الظُّلْمِ، وَطُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مُعَاوَنَةُ السُّلْطَانِ وَلَا مُعَاوَنَةُ الْبُغَاةِ؛ إِذْ غَيْرُ الْعَدْلِ لَا تَجِبُ مُعَاوَنَتُهُ.قَالَ مَالِكٌ: دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ- وَلَوْ جَائِرًا- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، حَتَّى تَبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ.

وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعُونَةِ الْإِمَامِ لِدَفْعِ الْبُغَاةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ أَعْطَى إِمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ...».

شُرُوطُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ:

13- إِذَا لَمْ يُجْدِ مَعَ الْبُغَاةِ النُّصْحُ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا الِاسْتِتَابَةَ- إِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ- وَرَأَوْا مُقَاتَلَتَنَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ.بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحُرُمَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: الْأَوْجَهُ وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ بِبَقَائِهِمْ- وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا ذُكِرَ- تَتَوَلَّدُ مَفَاسِدُ، قَدْ لَا تُتَدَارَكُ مَا دَامُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ.

وَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ وَجَبَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ؛ إِذْ يُشْتَرَطُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقِتَالُ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ.

كَيْفِيَّةُ قِتَالِ الْبُغَاةِ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ قِتَالَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ، مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِذَا فَإِنَّ قِتَالَهُمْ يَفْتَرِقُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ لَا قَتْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ، وَلَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ، وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمُشْرِكٍ، وَلَا يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَلَا تُنْصَبُ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتُ (الْمَجَانِيقُ وَنَحْوُهَا)، وَلَا تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ.

وَإِذَا تَحَيَّزَ الْبُغَاةُ إِلَى جِهَةٍ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ شَرِّهِمْ إِلاَّ بِالْقِتَالِ، حَلَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ؛ إِذِ الْجِهَادُ مَعَهُمْ وَاجِبٌ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ شَرُّهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ.وَقَدْ قَاتَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- لَهُ «أَنَا أُقَاتِلُ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ» وَالْقِتَالُ مَعَ التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْبُغَاةِ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- مَانِعِي الزَّكَاةِ.

وَإِذَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ فَهَزَمَهُمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأُمِنَ جَانِبُهُمْ، أَوْ تَرَكُوا الْقِتَالَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ بِالْعَجْزِ، لِجِرَاحٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُوا أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ، وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلَا يُقْسَمُ لَهُ مَالٌ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لَا يُقْتَلُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ، وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ، وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ بَلْ قَالَ لَهُمْ: مَنِ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، أَيْ مَنْ عَرَفَ مِنَ الْبُغَاةِ مَتَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، وَقَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ؛ وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْلِ.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقَاتَلُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْنِ غَائِلَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ.أَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُقَاتَلَ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا أُمِنَ جَانِبُهُمْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُتْبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ.وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُدْبِرِ وَالْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ وَقَتْلِ الْأَسِيرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ.ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَقَدْ حَصَلَ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ كَالصَّائِلِ، وَلَا يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي التَّالِي- إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ- كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا- مُطْلَقًا- فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى الْفِئَةِ، فَيَمْتَنِعُوا بِهَا، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ أَمَارَةُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ؛ وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إِلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ.وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَلَى تَأْوِيلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (تحكيم)

تَحْكِيمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الْأَمْرِ وَالشَّيْءِ، أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.

وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ.فَهُوَ حَكَمٌ، وَمُحَكَّمٌ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُحَكَّمِينَ» فَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ يَقَعُونَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ، فَيُخَيَّرُونَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ، فَيَخْتَارُونَ الْقَتْلَ ثَبَاتًا عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَفِي الْمَجَازِ: حَكَّمْتُ السَّفِيهَ تَحْكِيمًا: إِذَا أَخَذْتَ عَلَى يَدِهِ، أَوْ بَصَّرْتَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ.وَمِنْهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ- رحمه الله- (: حَكِّمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدكَ.أَيِ: امْنَعْهُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ وَلَدَكَ وَقِيلَ: أَرَادَ حُكْمَهُ فِي مَالِهِ إِذَا صَلَحَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَكَ.

وَمِنْ مَعَانِي التَّحْكِيمِ فِي اللُّغَةِ: الْحَكَمُ.

يُقَالُ: قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَقَضَى لَهُ، وَقَضَى عَلَيْهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.

وَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: التَّحْكِيمُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّخَاذِ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا بِرِضَاهُمَا لِفَصْلِ خُصُومَتِهِمَا وَدَعْوَاهُمَا.

وَيُقَالُ لِذَلِكَ: حَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَمُحَكَّمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَضَاءُ:

2- مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْإِلْزَامُ بِهِ، وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ.

وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ التَّحْكِيمِ وَالْقَضَاءِ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْدِيدِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٍ مُتَمَاثِلَةً.كَمَا سَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ.

إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهَا فَوَارِقَ جَوْهَرِيَّةً تَتَجَلَّى فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ التَّحْكِيمَ فَرْعٌ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ صَاحِبُ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَةِ الْقَضَاءِ أَحَدٌ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنِ اخْتِصَاصِهِ مَوْضُوعٌ.

أَمَّا تَوْلِيَةُ الْحَكَمِ فَتَكُونُ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَفْقَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ الَّتِي تُوضَعُ لَهُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ، كَمَا سَنَرَى.

ب- الْإِصْلَاحُ:

3- الْإِصْلَاحُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْإِفْسَادِ.يُقَالُ: أَصْلَحَ: إِذَا أَتَى بِالْخَيْرِ وَالصَّوَابِ.وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ، أَوْ أَمْرِهِ: أَتَى بِمَا هُوَ صَالِحٌ نَافِعٌ.

وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ: أَزَالَ فَسَادَهُ.

وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، أَوْ ذَاتَ بَيْنِهِمَا، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا: أَزَالَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَاوَةٍ وَنِزَاعٍ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ.

، وَفِي، الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

فَالْإِصْلَاحُ وَالتَّحْكِيمُ يُفَضُّ بِهِمَا النِّزَاعُ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوْلِيَةٍ مِنَ الْقَاضِي أَوِ الْخَصْمَيْنِ، وَالْإِصْلَاحُ يَكُونُ الِاخْتِيَارُ فِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ مُتَبَرِّعٍ بِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

التَّحْكِيمُ مَشْرُوعٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

4- أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلُ إِثْبَاتِ التَّحْكِيمِ.

5- وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَضِيَ بِتَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- فِي أَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ جَنَحُوا إِلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ».

«وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَضِيَ بِتَحْكِيمِ الْأَعْوَرِ بْنِ بَشَامَةَ فِي أَمْرِ بَنِي الْعَنْبَرِ، حِينَ انْتَهَبُوا أَمْوَالَ الزَّكَاةِ».

وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ- رضي الله عنه- لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ.قَالَ: فَمَا أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ.قَالَ: أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ.وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ».

6- أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنهما- مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ- رضي الله عنه-.

وَاخْتَلَفَ عُمَرُ مَعَ رَجُلٍ فِي أَمْرِ فَرَسٍ اشْتَرَاهَا عُمَرُ بِشَرْطِ السَّوْمِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى شُرَيْحٍ.

كَمَا تَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنهم-،، وَلَمْ يَكُنْ زَيْدٌ وَلَا شُرَيْحٌ وَلَا جُبَيْرٌ مِنَ الْقُضَاةِ.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

7- وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ.

إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْفَتْوَى بِذَلِكَ، وَحُجَّتُهُ: أَنَّ السَّلَفَ إِنَّمَا يَخْتَارُونَ لِلْحُكْمِ مَنْ كَانَ عَالِمًا صَالِحًا دَيِّنًا، فَيَحْكُمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، أَوْ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ.فَلَوْ قِيلَ بِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ الْيَوْمَ لَتَجَاسَرَ الْعَوَامُّ، وَمَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ أَمْثَالِهِمْ، فَيَحْكُمُ الْحَكَمُ بِجَهْلِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِذَلِكَ أَفْتَوْا بِمَنْعِهِ.

وَقَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجْزِهِ ابْتِدَاءً.وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي الْمَالِ فَقَطْ.

وَمَهْمَا يَكُنْ فَإِنَّ جَوَازَ التَّحْكِيمِ هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ نَفَاذُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ.

8- وَطَرَفَا التَّحْكِيمِ هُمَا الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ اتَّفَقَا عَلَى فَضِّ النِّزَاعِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى الْمُحَكِّمَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْخَصْمَانِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ يَكُونَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

9- وَالشَّرْطُ فِي طَرَفَيِ التَّحْكِيمِ الْأَهْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ لِلتَّعَاقُدِ الَّتِي قِوَامُهَا الْعَقْلُ، إِذْ بِدُونِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ.

وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلِ التَّحْكِيمِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ مِنْ عَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَا مِنَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْقَاصِرِ أَوْ بِالْغُرَمَاءِ.

شُرُوطُ الْمُحَكَّمِ:

10- أ- أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ إَلاَّ إَذَا رَضُوا بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَحْكِيمًا لِمَعْلُومٍ.

11- ب- أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْدِيدِ عَنَاصِرِ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ.

وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ هُنَا: الْأَهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْقَضَاءِ، لَا فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ عِنْدَمَا لَا يُوجَدُ الْأَهْلُ لِذَلِكَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ التَّحْكِيمِ بِعَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ، وَقِيلَ: يَتَقَيَّدُ بِالْمَالِ دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ، أَيْ إِثْبَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ.

وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُحَكَّمَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ كُلُّ صِفَاتِ الْقَاضِي.

وَثَمَّةَ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ لِهَذَا الشَّرْطِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبْحَثِ (دَعْوَى) (وَقَضَاءٌ).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ وَقْتِ التَّحْكِيمِ إِلَى وَقْتِ الْحُكْمِ.وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَكَّمِ: الْإِسْلَامُ، إِنْ كَانَ حَكَمًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، أَمَّا إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْمُحَكَّمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ كَتَوْلِيَةِ السُّلْطَانِ إِيَّاهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ وِلَايَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْحُكْمَ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ التَّحْكِيمُ.

وَلَوْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، وَحَكَّمَا غَيْرَ مُسْلِمٍ جَازَ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُ الْحَكَمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُنَفَّذُ لَهُ.

وَقِيلَ: لَا يُنَفَّذُ لَهُ أَيْضًا.

12- أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَحْكِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه- مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ، وَإِلاَّ بَطَلَ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلًا، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا.

13- وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ آثَارًا تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ التَّفْرِيعِيَّةِ...مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا صَبِيًّا فَبَلَغَ، أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ حَكَمَ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ.

وَلَوْ حَكَّمَا مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ أَيْضًا، وَكَانَ فِي رِدَّتِهِ عَزْلُهُ.فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ.

وَلَوْ عَمِيَ الْمُحَكَّمُ، ثُمَّ ذَهَبَ الْعَمَى، وَحَكَمَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ.

أَمَّا إِنْ سَافَرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ بَرِئَ وَحَكَمَ جَازَ ْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.

وَلَوْ أَنَّ حَكَمًا غَيْرَ مُسْلِمٍ، حَكَّمَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى حُكُومَتِهِ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ.

وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَكَّلَ الْحَكَمَ بِالْخُصُومَةِ فَقَبِلَ، خَرَجَ عَنِ الْحُكُومَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي قَوْلِ الْكُلِّ.

14- ج- أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الْمُحَكَّمِ وَأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَرَابَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ.وَإِذَا اشْتَرَى الْمُحَكَّمُ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِيهِ، أَوِ اشْتَرَاهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْحُكُومَةِ.

وَإِنْ حَكَّمَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ، فَحَكَمَ لِنَفْسِهِ، أَوْ عَلَيْهَا جَازَ تَحْكِيمُهُ ابْتِدَاءً، وَمَضَى حُكْمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَصْمُ الْحَكَمُ قَاضِيًا أَمْ غَيْرَهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا لِلتُّهْمَةِ.

الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَازَ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ.

مَحَلُّ التَّحْكِيمِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ.

15- فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ.

وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ اسْتِيفَاءَ عُقُوبَتِهَا مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْخُصُومِ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَمَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَضَعِيفٌ.لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا.

16- أَمَّا الْقِصَاصُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ.

وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ التَّحْكِيمَ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ.

وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ دَمَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَوْضِعًا لِلصُّلْحِ.

وَمَا رُوِيَ مِنْ جَوَازِهِ فِي الْقِصَاصِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ حَقًّا مَحْضًا لِلْإِنْسَانِ- وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّهُ- وَلَهُ شَبَهٌ بِالْحُدُودِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.

17- وَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِي مَا يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحَكَمَيْنِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُمَا الْحُكْمُ عَلَى الْقَاتِلِ وَحْدَهُ بِالدِّيَةِ، لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ دِيَةً عَلَى الْقَاتِلِ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مُحَدَّدَةٍ- كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ خَطَأً- وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (دِيَةٌ، عَاقِلَةٌ).

أَمَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُحَدَّدَةِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ.

18- وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي اللِّعَانِ كَمَا ذَكَرَ الْبُرْجَنْدِيُّ، وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ نُجَيْمٍ.وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِّ.

وَأَمَّا فِيمَا عَدَا مَا ذُكِرَ آنِفًا، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ.وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ الْحَبْسُ، إِلاَّ مَا نُقِلَ عَنْ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ جَوَازِهِ.

19- وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ إِلاَّ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا هِيَ: الرُّشْدُ، وَضِدُّهُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ)، وَأَمْرُ الْغَائِبِ، وَالنَّسَبُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْحَدُّ، وَالْقِصَاصُ، وَمَالُ الْيَتِيمِ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ، وَاللِّعَانُ.لِأَنَّ هَذِهِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا الْقَضَاءُ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِمَّا حُقُوقٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْحَدِّ وَالْقَتْلِ وَالطَّلَاقِ، أَوْ حُقُوقٌ لِغَيْرِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ، كَالنَّسَبِ، وَاللِّعَانِ.

وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ عَرَفَةَ حَدًّا لِمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ، فَقَالَ: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيمَا يَصِحُّ لِأَحَدِهِمَا تَرْكُ حَقِّهِ فِيهِ.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا.

20- وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ فِيهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبُ.

وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ.

وَقِيلَ: بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ.

وَقِيلَ: يَخْتَصُّ التَّحْكِيمُ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا.

21- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ.

فَفِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّحْكِيمَ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَاضِي مِنْ خُصُومَاتٍ، كَمَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَالُ وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ وَالنِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَغَيْرُهَا، حَتَّى مَعَ وُجُودِ قَاضٍ، لِأَنَّهُ كَالْقَاضِي وَلَا فَرْقَ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِجَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّحْكِيمُ، لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِهَا عَلَى الْقَضَاءِ لِلْحُكْمِ.

شُرُوطُ التَّحْكِيمِ:

يُشْتَرَطُ فِي التَّحْكِيمِ مَا يَأْتِي:

22- أ- قِيَامُ نِزَاعٍ، وَخُصُومَةٍ حَوْلَ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ.

وَهَذَا الشَّرْطُ يَسْتَدْعِي حُكْمًا قِيَامَ طَرَفَيْنِ مُتَشَاكِسَيْنِ، كُلٌّ يَدَّعِي حَقًّا لَهُ قِبَلَ الْآخَرِ.

23- ب- تَرَاضِي طَرَفَيِ الْخُصُومَةِ عَلَى قَبُولِ حُكْمِهِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِهِ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْقَاضِي.

وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقَدُّمُ رِضَى الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ، بَلْ لَوْ رَضِيَا بِحُكْمِهِ بَعْدَ صُدُورِهِ جَازَ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ التَّرَاضِي.

24- ج- اتِّفَاقُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَالْحَكَمِ عَلَى قَبُولِ مُهِمَّةِ التَّحْكِيمِ...وَمُجْمَلُ هَذَيْنِ الِاتِّفَاقَيْنِ يُشَكِّلُ رُكْنَ التَّحْكِيمِ، الَّذِي هُوَ: لَفْظُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِ الْآخَرِ.

وَهَذَا الرُّكْنُ قَدْ يَظْهَرُ صَرَاحَةً، كَمَا لَوْ قَالَ الْخَصْمَانِ: حَكَّمْنَاكَ بَيْنَنَا.أَوْ قَالَ لَهُمَا: أَحْكُمُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِلَا.

وَقَدْ يَظْهَرُ دَلَالَةً...فَلَوِ اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى رَجُلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُعْلِمَاهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمَا اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، جَازَ.

وَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْحُكْمَ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ إِلاَّ بِتَجْدِيدِ التَّحْكِيمِ.

وَلِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يُقَيِّدَا التَّحْكِيمَ بِشَرْطٍ...فَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِي يَوْمِهِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ وَجَبَ ذَلِكَ، وَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَسْتَفْتِيَ فُلَانًا، ثُمَّ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَالَ جَازَ.

وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ، فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَجُزْ، وَلَا بُدَّ مِنِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ.

وَكَذَلِكَ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ.

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ غَيْرَهُ بِالتَّحْكِيمِ.لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَرْضَيَا بِتَحْكِيمِ غَيْرِهِ.

وَلَوْ فَوَّضَ، وَحَكَمَ الثَّانِي بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، فَأَجَازَ الْأَوَّلُ حُكْمَهُ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ، فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْخَصْمَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ.وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ إِذَا أَجَازَ بَيْعَ الْوَكِيلِ الثَّانِي.

إِلاَّ أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْكِيمِ عَلَى شَرْطٍ، كَمَا لَوْ قَالَا لِعَبْدٍ: إِذَا أُعْتِقْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا، وَإِضَافَتَهُ إِلَى وَقْتٍ، كَمَا لَوْ قَالَا لِرَجُلٍ: جَعَلْنَاكَ حَكَمًا غَدًا، أَوْ قَالَا: رَأْسَ الشَّهْرِ...كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.وَالْفَتْوَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

25- وَلَيْسَ لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مُحَكَّمٍ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحْكِيمِ.

وَلَوْ حَكَمَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، فَأَجَازَا حُكْمَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ حَكَّمَاهُ فِي الِابْتِدَاءِ.

26- وَلَا يَحْتَاجُ الِاتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ لِشُهُودٍ تَشْهَدُ عَلَى الْخَصْمَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَدْ حَكَّمَا الْحَكَمَ.

إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْإِشْهَادُ خَوْفَ الْجُحُودِ.وَلِهَذَا ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ: إِذْ لَوْ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ حَكَّمَا الْحَكَمَ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ حَكَّمَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْحَكَمِ أَنَّ الْجَاحِدَ حَكَّمَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

27- وَيَجِبُ أَنْ يَسْتَمِرَّ الِاتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ حَتَّى صُدُورِ الْحُكْمِ، إِذْ إِنَّ رُجُوعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْلَ صُدُورِ الْحُكْمِ يُلْغِي التَّحْكِيمَ، كَمَا سَنَرَى.

فَلَوْ قَالَ الْحَكَمُ لِأَحَدِهِمَا: أَقْرَرْتَ عِنْدِي، أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْكَ بِكَذَا، وَقَدْ أَلْزَمْتُكَ، وَحَكَمْتُ بِهَذَا، فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ أَوِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ لِقَوْلِهِ، وَمَضَى الْقَضَاءُ.لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَكَّمِ قَائِمَةٌ.وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْقَاضِي.

أَمَّا إِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَزَلَهُ الْخَصْمُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَحُكْمَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْحُكْمِ الَّذِي يُصْدِرُهُ الْقَاضِي بَعْدَ عَزْلِهِ.

28- د- الْإِشْهَادُ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِقَبُولِ قَوْلِ الْحَكَمِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشْهَادِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.

طَرِيقُ الْحُكْمِ:

29- طَرِيقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ، حُكْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

وَعَلَيْهِ فَإِنَّ طَرِيقَ الْحُكْمِ: مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.

وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الْإِقْرَارِ، أَوِ النُّكُولِ عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ.

يَسْتَوِي فِي هَذَا حُكْمُ الْحَكَمِ، وَحُكْمُ الْقَاضِي.

فَإِنْ قَامَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ حُجَّةً مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ.وَإِلاَّ كَانَ بَاطِلًا.

وَيَبْدُو أَنَّ الْحَكَمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ.

وَأَمَّا كِتَابُ الْمُحَكَّمِ إِلَى الْقَاضِي، وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، إِلاَّ بِرِضَى الْخَصْمَيْنِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِهِ وَنَفَاذِهِ.

الرُّجُوعُ عَنِ التَّحْكِيمِ:

30- حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَرْعٌ مِنْ صِفَةِ التَّحْكِيمِ الْجَوَازِيَّةِ...وَلَكِنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ مُطْلَقًا.

31- فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ خَصْمٍ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْلَ صُدُورِ الْحُكْمِ، وَلَا حَاجَةَ لِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ.

فَإِنْ رَجَعَ كَانَ فِي ذَلِكَ عَزْلٌ لِلْمُحَكَّمِ.

أَمَّا بَعْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ، وَلَا عَزْلُ الْمُحَكَّمِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ، لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْمُحَكَّمِ، كَالْقَاضِي الَّذِي يُصْدِرُ حُكْمَهُ، ثُمَّ يَعْزِلُهُ السُّلْطَانُ.

وَعَلَى هَذَا: فَإِنِ اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا فِي عَدَدٍ مِنَ الدَّعَاوَى، فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ تَحْكِيمِ هَذَا الْحَكَمِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ نَافِذٌ، لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا بَقِيَ، فَإِنْ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ.

وَإِنْ قَالَ الْحَكَمُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ: قَامَتْ عِنْدِي الْحُجَّةُ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَى عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ، فَعَزَلَهُ هَذَا الْخَصْمُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَكَمُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ.

32- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ رِضَا الْخَصْمَيْنِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ.بَلْ لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْحُكْمِ، ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْلَ الْحُكْمِ.تَعَيَّنَ عَلَى الْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ، وَجَازَ حُكْمُهُ.

وَقَالَ أَصْبَغُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ مَا لَمْ تَبْدَأِ الْخُصُومَةُ أَمَامَ الْحَكَمِ، فَإِنْ بَدَأَتْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا الْمُضِيُّ فِيهَا حَتَّى النِّهَايَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الرُّجُوعُ وَلَوْ قَبْلَ بَدْءِ الْخُصُومَةِ.

33- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْلَ صُدُورِ الْحُكْمِ، وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ.

وَقِيلَ بِعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ.أَمَّا بَعْدَ الْحُكْمِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْخَصْمِ بِهِ كَحُكْمِ الْقَاضِي.

وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي أَصْلِ التَّحْكِيمِ، فَكَذَا فِي لُزُومِ الْحُكْمِ.وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ.

34- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ.

أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَقُبَيْلَ تَمَامِهِ، فَفِي الرُّجُوعِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتِمَّ، أَشْبَهَ قَبْلَ الشُّرُوعِ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا رَأَى مِنَ الْحَكَمِ مَا لَا يُوَافِقُهُ رَجَعَ فَبَطَلَ مَقْصُودُهُ.فَإِنْ صَدَرَ الْحُكْمُ نَفَذَ.

أَثَرُ التَّحْكِيمِ:

35- يُرَادُ بِأَثَرِ التَّحْكِيمِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ نَتَائِجَ.

وَهَذَا الْأَثَرُ يَتَمَثَّلُ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ وَنَفَاذِهِ، كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي إِمْكَانِ نَقْضِهِ مِنْ قِبَلِ الْقَضَاءِ.

أَوَّلًا: لُزُومُ الْحُكْمِ وَنَفَاذُهُ:

36- مَتَى أَصْدَرَ الْحَكَمُ حُكْمَهُ، أَصْبَحَ هَذَا الْحُكْمُ مُلْزِمًا لِلْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَتَعَيَّنَ إِنْفَاذُهُ دُونَ أَنْ يَتَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى رِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ.وَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الْقَاضِي.

وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ، فَلَوْ رَجَعَ عَنْ حُكْمِهِ، وَقَضَى لِلْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكُومَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي بَاطِلًا.

37- وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ حُكْمُ الْحَكَمِ يَنْحَصِرُ فِي الْخَصْمَيْنِ فَقَطْ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمَا، ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَدَرَ بِحَقِّهِمَا عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ نَشَأَتْ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَكَمِ لِلْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ نِزَاعٍ وَخُصُومَةٍ.وَلَا وِلَايَةَ لِأَيٍّ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَسْرِي أَثَرُ حُكْمِ الْحَكَمِ عَلَى غَيْرِهِمَا.

38- وَتَطْبِيقًا لِهَذَا الْمَبْدَأِ، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ رَجُلًا فِي عَيْبِ الْبَيْعِ فَقَضَى الْحَكَمُ بِرَدِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِرَدِّهِ عَلَى بَائِعِهِ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي بِتَحْكِيمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَادَّعَى أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ قَدْ ضَمِنَهَا لَهُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا، وَالْكَفِيلُ غَائِبٌ.فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الْمَالِ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ، فَحَكَمَ الْحَكَمُ بِالْمَالِ وَبِالْكَفَالَةِ، صَحَّ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ وَلَمْ يَصِحَّ بِالْكَفَالَةِ، وَلَا عَلَى الْكَفِيلِ.

وَإِنْ حَضَرَ الْكَفِيلُ، وَالْمَكْفُولُ غَائِبٌ، فَتَرَاضَى الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ، فَحَكَمَ الْمُحَكَّمُ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ جَائِزًا، وَنَافِذًا بِحَقِّ الْكَفِيلِ دُونَ الْمَكْفُولِ.

وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذَا الْمَبْدَأِ غَيْرُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ، هِيَ: مَا لَوْ حَكَّمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَغَرِيمُهُ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْزَمَ الشَّرِيكَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ نَفَذَ هَذَا الْحُكْمُ، وَتَعَدَّى إِلَى الشَّرِيكِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ.وَالصُّلْحُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ رَاضِيًا بِالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ..

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ التُّجَّارِ قَدْ جَعَلَ التَّحْكِيمَ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ كَأَنَّهُ تَحْكِيمٌ مِنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ.وَلِهَذَا لَزِمَ الْحُكْمُ، وَنَفَذَ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا.

ثَانِيًا: نَقْضُ الْحُكْمِ:

39- قَدْ يَرْضَى الْخَصْمَانِ بِالْحُكْمِ، فَيَعْمَلَانِ عَلَى تَنْفِيذِهِ..وَقَدْ يَرَى أَحَدُهُمَا رَفْعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ لَمْ يَنْقُضْهُ إِلاَّ بِمَا يَنْقُضُ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا رُفِعَ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ إِلَى الْقَاضِي نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا مَذْهَبَهُ أَخَذَ بِهِ وَأَمْضَاهُ، لِأَنَّهُ لَا جَدْوَى مِنْ نَقْضِهِ، ثُمَّ إِبْرَامِهِ.

وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِمْضَاءِ: أَنْ لَا يَكُونَ لِقَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ نَقْضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِمْضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ ابْتِدَاءً.

أَمَّا إِنْ وَجَدَهُ خِلَافَ مَذْهَبِهِ أَبْطَلَهُ، وَأَوْجَبَ عَدَمَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.

وَهَذَا الْإِبْطَالُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، إِنْ شَاءَ الْقَاضِي أَبْطَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَأَنْفَذَهُ.

40- وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِجَازَةُ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ.

وَعَلَيْهِ فَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا، فَأَجَازَ الْقَاضِي حُكُومَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ، ثُمَّ حَكَمَ بِخِلَافِ رَأْيِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَجَازَ الْمَعْدُومَ.

وَإِجَازَةُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ بَاطِلَةٌ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ.

وَلَكِنَّ السَّرَخْسِيَّ قَالَ: هَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا فِي اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ فَيَجِبُ أَنْ تَجُوزَ إِجَازَتُهُ.

وَتُجْعَلُ إِجَازَةُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلًا، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ، فَقَضَى بِحُكْمٍ آخَرَ، ثُمَّ رُفِعَ الْحُكْمَانِ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِهِ.

هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْقُضُ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ جَوْرًا بَيِّنًا.سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي، أَمْ مُخَالِفًا لَهُ.

وَقَالُوا بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.

انْعِزَالُ الْحَكَمِ:

41- يَنْعَزِلُ الْحَكَمُ بِكُلِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْأَتِيَّةِ:

أ- الْعَزْلُ: لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَزْلُ الْمُحَكَّمِ قَبْلَ الْحُكْمِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي، فَلَيْسَ لَهُمَا عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَخْلَفَهُ.

ب- انْتِهَاءُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِلتَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورَ الْحُكْمِ.

ج- خُرُوجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّحْكِيمِ.

د- صُدُورُ الْحُكْمِ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (خلع 1)

خَلْعٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَلْعُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً هُوَ النَّزْعُ وَالتَّجْرِيدُ، وَالْخُلْعُ (بِالضَّمِّ) اسْمٌ مِنَ الْخَلْعِ.

وَأَمَّا الْخُلْعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ: أَخْذِ مَالٍ مِنَ الْمَرْأَةِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ.

وَتَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ: فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصُّلْحُ:

2- الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ التَّوْفِيقُ وَالْمُسَالَمَةُ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ، وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَالصُّلْحُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا مَعْنَى الْخُلْعِ الَّذِي هُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، وَالْخُلْعُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا لَهُ جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا، وَالصُّلْحُ عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا بَعْضَهُ.

ب- الطَّلَاقُ:

3- الطَّلَاقُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ، كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَتَرْكِيبُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالِانْحِلَالِ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ إِذَا حَلَّ إِسَارُهُ وَخُلِّيَ عَنْهُ.

وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَعْنَاهُ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا صِلَتُهُ بِالْخُلْعِ، سِوَى مَا ذُكِرَ فَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ، أَوْ رَجْعِيٌّ، أَوْ فَسْخٌ، عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.

وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ هُوَ فِي أَحْكَامِهِ كَالْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْآخَرِ إِلاَّ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ فِي رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، كَالْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ الْمُتَجَمِّدَةِ أَثْنَاءَ الزَّوَاجِ، لَكِنْ لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إِسْقَاطُهَا بِهِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ، وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَقَطْ.

الثَّانِي: إِذَا بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْعِوَضَ إِذَا بَطَلَ فِيهِ وَقَعَ رَجْعِيًّا فِي غَيْرِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، أَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ صَرِيحٌ، وَالْبَيْنُونَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ إِذَا صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا.

الثَّالِثُ: الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ، طَلَاقٌ بَائِنٌ، يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْخُلْعُ فَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، أَوْ فَسْخًا لَا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُهَا كَمَا سَيَأْتِي.

ج- الْفِدْيَةُ:

4- الْفِدْيَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ، وَجَمْعُهَا فِدًى وَفِدْيَاتٍ، وَفَادِيَتُهُ مُفَادَاةً، وَفِدَاءً أَطْلَقْتَهُ وَأَخَذْتَ فِدْيَتَهُ.وَفَدَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا تَفْدِي، وَافْتَدَتْ أَعْطَتْهُ مَالًا حَتَّى تَخَلَّصَتْ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَالْفُقَهَاءُ لَا يَخْرُجُونَ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْفِدْيَةِ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.وَالْفِدْيَةُ وَالْخُلْعُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ.

د- الْفَسْخُ:

5- الْفَسْخُ مَصْدَرُ فَسَخَ وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الْإِزَالَةُ، وَالرَّفْعُ، وَالنَّقْضُ، وَالتَّفْرِيقُ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْفَسْخَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ، وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى دَافِعِهِ، وَصِلَةُ الْفَسْخِ بِالْخُلْعِ هِيَ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ عَلَى قَوْلٍ.وَالْفَسْخُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ

هـ- الْمُبَارَأَةُ:

6- الْمُبَارَأَةُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ.وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ يُنْبِئُ عَنِ الْفَصْلِ، وَمِنْهُ خَلْعُ النَّعْلِ وَخَلْعُ الْعَمَلِ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ بِهِمَا إِلاَّ مَا سَمَّيَاهُ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ وَافَقَ مُحَمَّدًا فِي الْخُلْعِ وَخَالَفَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْخُلْعِ، وَوَافَقَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ، أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ، وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ.

حَقِيقَةُ الْخُلْعِ:

7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُلْعَ إِذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي وُقُوعِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَتَهُ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ.

هَذَا وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ هِيَ بِمُقَابَلَتِهِ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْبَدَلِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنَ الزَّوْجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ، وَعِنْدَهُ ثِنْتَانِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخُلْعِ لَا قَبْلَهُ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا، أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ فِيهِ هَلْ يُخْرِجُهُ مِنْ نَوْعِ فُرْقَةِ الطَّلَاقِ إِلَى نَوْعِ فُرْقَةِ الْفَسْخِ، أَوْ لَا يُخْرِجُهُ.

احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثُمَّ قَالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَذَكَرَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَالْخُلْعَ، وَتَطْلِيقَةً بَعْدَهَا، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ خَلَتْ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ فَكَانَتْ فَسْخًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ ».

وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ « الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ ».

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْخُلْعَ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَمْ يَقْتَصِرْ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْأَمْرِ بِحَيْضَةٍ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ إِلاَّ الزَّوْجُ فَكَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا جَازَ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ كَالْإِقَالَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا بَذَلَتِ الْعِوَضَ لِلْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ الَّتِي يَمْلِكُ الزَّوْجُ إِيقَاعَهَا هِيَ الطَّلَاقُ دُونَ الْفَسْخِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ قَاصِدًا فِرَاقَهَا، فَكَانَ طَلَاقًا كَغَيْرِ الْخُلْعِ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم- مَوْقُوفًا عَلَيْهِمُ: الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ.

وَالْخُلْعُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ لَفْظُ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مِنْ خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ طَلَاقًا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَكْثَر مِنْ تَطْلِيقَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ يَقَعُ مَا نَوَاهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ نَوَى ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَعْنَاهُ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ لَكِنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ الْحُرْمَةِ فَتُعْتَبَرُ بَيْنُونَةً كُبْرَى.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ فَسْخًا أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ خَالَعَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ خَالَعَهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى وَإِنْ خَالَعَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَسَبُ مِنَ الطَّلْقَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلَاقَ مَعَ تَفْرِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

8- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، وَفِي كَوْنِهِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الزَّوْجِ، فَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ، وَيَقْتَصِرُ قَبُولُهَا عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِهَا صِحَّةُ رُجُوعِهَا قَبْلَ قَبُولِهِ، وَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهَا وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي قَبُولِهَا عِلْمُهَا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ لِتَوَقُّفِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى قَبُولِ الْمَالِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْخُلْعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ كَالْعِوَضِ فِي الصَّدَاقِ، وَالْبَيْعِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ وَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

9- الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْوِفَاقِ وَالشِّقَاقِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي حَالَتَيِ الشِّقَاقِ وَالْوِفَاقِ، ثُمَّ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِنْ جَرَى فِي حَالِ الشِّقَاقِ، أَوْ كَانَتْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ تَحَرَّجَتْ مِنَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ حُقُوقِهِ، أَوْ ضَرَبَهَا تَأْدِيبًا فَافْتَدَتْ، وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِهِ مَا إِذَا مَنَعَهَا نَفَقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَافْتَدَتْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: فَإِنْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ لِكَيْ تَخْتَلِعَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَ الْإِكْرَاهِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِلَا مَالٍ إِذَا ثَبَتَ الْإِكْرَاهُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ.وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتِثْنَاءُ حَالَتَيْنِ مِنَ الْكَرَاهَةِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَخَافَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ أَيْ مَا افْتَرَضَهُ فِي النِّكَاحِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَيَخْلَعَهَا، ثُمَّ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْفِعْلَةِ الْأُولَى، إِذْ لَا يَتَنَاوَلُ إِلاَّ الْفِعْلَةَ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَفْعَلِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْحِنْثِ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ سَبَقَ هَذَا النِّكَاحَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَى صِفَةٍ وُجِدَتْ بَعْدَهُ.

وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ، كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ طَلَاقًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالنَّظَرِ لِأَصْلِهِ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: « أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ ».

وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: « اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً » وَهُوَ أَوَّلُ خُلْعٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الزَّوْجِ فَجَازَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ.

10- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

الْأَوَّلُ: مُبَاحُ الْخُلْعِ وَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ الْبَقَاءَ مَعَ زَوْجِهَا لِبُغْضِهَا إِيَّاهُ، وَتَخَافُ أَلاَّ تُؤَدِّيَ حَقَّهُ، وَلَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَيُسَنُّ لِلزَّوْجِ إِجَابَتُهَا، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: « جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَتَرُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ: نَعَمْ.فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا » وَلِأَنَّ حَاجَتَهَا دَاعِيَةٌ إِلَى فُرْقَتِهِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى الْفُرْقَةِ إِلاَّ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَأُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَهُ إِلَيْهَا مَيْلٌ وَمَحَبَّةٌ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ صَبْرُهَا وَعَدَمُ افْتِدَائِهَا، قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَصْبِرَ.قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، لِنَصِّهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

الثَّانِي: مَكْرُوهٌ: كَمَا إِذَا خَالَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ » وَلِأَنَّهُ عَبَثٌ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَيَقَعُ الْخُلْعُ، لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الْخُلْعُ مِثْلُ حَدِيثِ سَهْلَةَ تَكْرَهُ الرَّجُلَ فَتُعْطِيهِ الْمَهْرَ فَهَذَا الْخُلْعُ وَوَجْهُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}.

الثَّالِثُ: مُحَرَّمٌ: كَمَا إِذَا عَضَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِأَذَاهُ لَهَا وَمَنْعِهَا حَقَّهَا ظُلْمًا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.

وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ فَحُكْمُهُ مَا ذُكِرَ، وَإِلاَّ فَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ أَدَّبَهَا لِتَرْكِهَا فَرْضًا أَوْ نُشُوزِهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِحَقٍّ، وَإِنْ زَنَتْ فَعَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ جَازَ وَصَحَّ الْخُلْعُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّهْيِ إِبَاحَةٌ.وَإِنْ ضَرَبَهَا ظُلْمًا لِغَيْرِ قَصْدِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْضُلْهَا لِيَأْخُذَ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّ الْخُلْعَ يَحْرُمُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِ يَمِينِ طَلَاقٍ، وَلَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ خِدَاعٌ لَا تُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.هَذَا وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ جَوَازِ الْخُلْعِ حَتَّى يَقَعَ الشِّقَاقُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}.

وَبِذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِبُغْضِ الزَّوْجِ لَهَا فَنُسِبَتِ الْمَخَافَةُ إِلَيْهِمَا لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْتَفْسِرْ ثَابِتًا عَنْ كَرَاهَتِهِ لَهَا عِنْدَ إِعْلَانِهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهُ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ فِي الْآيَةِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ التَّشَاجُرِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ حَالَةَ الْخَوْفِ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى.

11- وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- بِأَنَّهَا إِذَا خَالَعَتْهُ دَرْءًا لِضَرَرِهِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرُدُّ الْمَالَ الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتِ الْبَيِّنَةَ الَّتِي أَشْهَدَتْهَا بِأَنَّهَا خَالَعَتْهُ لِدَرْءِ ضَرَرِهِ.

جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الزَّوْجِ عِوَضًا مِنَ امْرَأَتِهِ فِي مُقَابِلِ فِرَاقِهِ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مُسَاوِيًا لِمَا أَعْطَاهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مَا دَامَ الطَّرَفَانِ قَدْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ نَفْسَ الصَّدَاقِ أَوْ مَالًا آخَرَ غَيْرَهُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ إِنْ عَضَلَهَا لِيَضْطَرَّهَا إِلَى الْفِدَاءِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}.وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالْفِرَاقِ فَلَا يَزِيدُ إِيحَاشَهَا بِأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا يُكْرَهُ لَهُ الْأَخْذُ، وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ (مِنْ كُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- « فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا ».وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا، وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ يَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْإِبَاحَةَ، وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ، فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي.

جَوَازُهُ بِحَاكِمٍ وَبِلَا حَاكِمٍ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِحَاكِمٍ وَبِلَا حَاكِمٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْصُولًا أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ أُتِيَ فِي خُلْعٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيُّ: قَدْ أَتَى عُمَرُ فِي خُلْعٍ فَأَجَازَهُ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ جَائِزٌ بِلَا حَاكِمٍ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.

وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}.قَالَ: فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ خَافَا.

وَقْتُ الْخُلْعِ:

14- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ شُرِعَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَالْخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ.

أَرْكَانُهُ وَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِهَا:

15- لِلْخُلْعِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الْمُوجِبُ- الْقَابِلُ- الْمُعَوَّضُ- الْعِوَضُ- الصِّيغَةُ.

فَالْمُوجِبُ: الزَّوْجُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَالْقَابِلُ: الْمُلْتَزِمُ لِلْعِوَضِ، وَالْمُعَوَّضُ: الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ، وَالْعِوَضُ: الشَّيْءُ الْمُخَالَعُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْخُلْعُ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ رُكْنَيْنِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ وَهُمَا: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِدُونِ الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ خَالَعْتُكِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَاقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطًا وَأَحْكَامًا نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْمُوجِبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاقٌ).

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ رِقٍّ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ، وَجَازَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا خُلْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَى السَّفِيهِ بَلْ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ حُقُوقَهُ وَأَمْوَالَهُ وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالَ: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِعِوَضٍ لِصِحَّةِ خُلْعِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، وَالْأَوْلَى كَمَا فِي الْمُغْنِي عَدَمُ جَوَازِ تَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَابِلُ:

17- يُشْتَرَطُ فِي قَابِلِ الْخُلْعِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ صَحِيحَ الِالْتِزَامِ.فَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَهْرِهَا فَقَبِلَتْ أَوْ قَالَتِ الصَّغِيرَةُ لِزَوْجِهَا اخْلَعْنِي عَلَى مَهْرِي فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْعِوَضِ غَيْرَ رَشِيدٍ رَدَّ الزَّوْجُ الْمَالَ الْمَبْذُولَ وَبَانَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يُعَلِّقْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمَّ لِي هَذَا الْمَالُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُكِ فَطَالِقٌ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، فَإِذَا رَدَّ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاكِمُ الْمَالَ مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَهُ لِرَشِيدَةٍ أَوْ رَشِيدٍ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلَاقِ فَلَا يَنْفَعُهُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا إِذْنَ لِلْوَلِيِّ فِي التَّبَرُّعَاتِ.

وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لِفَلَسٍ فَيَصِحُّ مِنْهَا الْخُلْعُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا ذِمَّةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهَا فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا حَالَ حَجْرِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَدَانَتْ مِنْ إِنْسَانٍ فِي ذِمَّتِهَا أَوْ بَاعَهَا شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهَا، وَيَكُونُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا انْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ وَأَيْسَرَتْ.أَمَّا لَوْ خَالَعَتْ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا فَلَا يَصِحُّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ.

الْخُلْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ:

أ- مَرَضُ الزَّوْجَةِ:

18- يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ إِرْثِهِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ وَإِلاَّ فَالْأَقَلُّ مِنْ إِرْثِهِ، وَالثُّلُثُ إِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا لَوْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ الْبَدَلُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُلْعَ إِنْ كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نَفَذَ دُونَ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ كَالْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجِ، وَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ الثُّلُثَ وَلَا تَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِخُرُوجِهِ (أَيِ الزَّوْجِ) بِالْخُلْعِ عَنِ الْإِرْثِ، وَلَوِ اخْتَلَعَتْ بِجَمَلٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ (دِرْهَمًا) فَقَدْ حَابَتْ بِنِصْفِ الْجَمَلِ، فَيُنْظَرُ إِنْ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْجَمَلُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ عِوَضًا وَوَصِيَّةً.

وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَمَلُ عِوَضًا.وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَا نَقْصَ وَلَا تَشْقِيصَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ، وَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ نِصْفَ الْجَمَلِ وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَيَرْضَى بِالتَّشْقِيصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسَمَّى وَيُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَصَايَا أُخَرُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَخَذَ نِصْفَ الْجَمَلِ وَضَارَبَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْمُسَمَّى وَتَقَدَّمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، وَلَا وَصِيَّةٌ، وَلَا شَيْءَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ الْجَمَلِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيِ الْجَمَلِ، نِصْفُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسُدُسُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَا خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْرَ مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةٍ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْخُلْعِ أَوْ مِيرَاثُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُهْمَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْخُلْعَ إِنْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِيرَاثِ تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ مِنْ قَصْدِ إِيصَالِهَا إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَتْ أَوْ أَقَرَّتْ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِيرَاثِ فَالْبَاقِي هُوَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَتَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا، وَإِنْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِهَا ذَاكَ الَّذِي خَالَعَتْهُ فِيهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا خَالَعَهَا بِهِ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَرَضِ مَوْتِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا إِنْ كَانَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِقَدْرِ إِرْثِهِ أَوْ أَقَلَّ لَوْ مَاتَتْ وَلَا يَتَوَارَثَانِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.أَمَّا إِنْ زَادَ بِأَنْ كَانَ إِرْثُهُ مِنْهَا عَشَرَةً وَخَالَعَتْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْلَى لَوْ خَالَعَتْهُ بِجَمِيعِ مَالِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لِإِعَانَتِهِ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ، وَيَنْفُذُ الطَّلَاقُ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا وَلَوْ مَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ بِجَمِيعِ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَرِثُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُخَالِفُهُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْأَشْيَاخِ، وَرَدَّ الزَّائِدَ عَلَى إِرْثِهِ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ الزَّائِدُ عَلَى إِرْثِهِ يَوْمَ مَوْتِهَا لَا يَوْمَ الْخُلْعِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوقَفُ جَمِيعُ الْمَالِ الْمُخَالَعِ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ إِرْثِهِ فَأَقَلَّ، اسْتَقَلَّ بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، رَدَّ مَا زَادَ عَلَى إِرْثِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْ مَرَضِهَا تَمَّ الْخُلْعُ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا خَالَعَتْهُ بِهِ وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَالِهَا، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 4)

طَلَاقٌ -4

59- 4- عَدَمُ اسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ وَإِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً.

وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ؟ نَصَّ الْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ.إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِدًا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلاً لَغَا طَلَاقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَهَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى؟ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ ذَلِكَ، وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ إِلاَّ وَاحِدَةً طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ ثِنْتَانِ أَيْضًا، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَذَلِكَ مَا دَامَ أَدْخَلَ الْفَاءَ عَلَى (أَنْتِ) فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَقَوْلَانِ، الْمُفْتَى بِهِ مِنْهُمَا: عَدَمُ الْوُقُوعِ.وَهَلْ يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ كَتَبَ مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً، وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَوْ كَتَبَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ اثْنَتَانِ أَيْضًا.فَإِنْ كَتَبَهُمَا مَعًا، ثُمَّ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ اثْنَتَانِ فَقَطْ، وَلَا قِيمَةَ لِإِزَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَالرُّجُوعُ هُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

60- 5- أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةٍ، فَإِنِ اسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إِلاَّ ثُلُثَيْ طَلْقَةٍ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ أَيْضًا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُسْتَثْنَى بِجُزْءِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ.

61- وَهَلْ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَلْفُوظَ دُونَ الْمَمْلُوكِ؟ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ مِنْهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمَلْفُوظِ كَالْحَنَفِيَّةِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَمْلُوكِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ ثَلَاثًا طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ الثَّانِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ ثَلَاثًا كَانَ رُجُوعًا فَلَغَا.وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إِلاَّ تِسْعًا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِثَلَاثٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.الرَّاجِحُ مِنْهُمَا اعْتِبَارُ الْمَلْفُوظِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُقَابِلُ الرَّاجِحِ اعْتِبَارُ الْمَمْلُوكِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الرَّاجِحِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ.

الْإِنَابَةُ فِي الطَّلَاقِ:

62- الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْلِكُهُ وَيَمْلِكُ الْإِنَابَةَ فِيهِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَمْلِكُهَا، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ...فَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ، فَطَلَّقَهَا عَنْهُ، جَازَ، وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ نَفْسِهَا: وَكَّلْتُكِ بِطَلَاقِ نَفْسِكِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، جَازَ أَيْضًا، وَلَا تَكُونُ فِي هَذَا أَقَلَّ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.وَبَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

63- إِذْنُ الزَّوْجِ لِغَيْرِهِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: تَفْوِيضٌ وَتَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ.وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّفْوِيضِ ثَلَاثَةَ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: تَخْيِيرٌ، وَأَمْرٌ بِيَدٍ، وَمَشِيئَةٌ.فَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَالْأَوْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا صَرِيحًا بِدُونِ نِيَّةٍ، وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ مِنْ أَلْفَاظِ.الْكِنَايَةِ، فَلَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.

كَمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ عِنْدَهُمْ بِإِنَابَةِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: إِنْ شِئْتَ، كَانَ تَوْكِيلاً لَا تَفْوِيضًا.

هَذَا، وَبَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فُرُوقٌ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَهَمُّهَا:

أ- مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي التَّفْوِيضِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مَشِيئَةٍ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ لَا رُجُوعَ فِيهَا، فَإِذَا قَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ نَاوِيًا طَلَاقَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا، أَمَّا الْوَكِيلُ فَلَهُ عَزْلُهُ مُطْلَقًا مَا دَامَ لَمْ يُطَلِّقْ.

ب- مِنْ حَيْثُ الْحَدُّ بِالْمَجْلِسِ: فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَحُدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِالْمَجْلِسِ أَوْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنَيْنِ، فَإِنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ تَحَدَّدَ بِهِ، أَمَّا التَّفْوِيضُ فَمَحْدُودٌ بِالْمَجْلِسِ فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَغَا التَّفْوِيضُ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مُدَّةً، أَوْ يُعَلِّقْهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ مُدَّةً تَحَدَّدَ بِالْمُدَّةِ الْمُبَيَّنَةِ، كَأَنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ خِلَالَ شَهْرٍ، أَوْ يَوْمٍ، أَوْ سَاعَةٍ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ تَحَدَّدَ بِمَا ذُكِرَ، لَا بِالْمَجْلِسِ.

ج- مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، وَقَعَ بِهِ بَائِنًا، هَذَا إِذَا نَوَيَا الطَّلَاقَ، وَإِلاَّ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ.

د- مِنْ حَيْثُ تَأَثُّرُهُ بِجُنُونِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فَوَّضَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ جُنَّ، فَالتَّفْوِيضُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِالطَّلَاقِ فَجُنَّ بَطَلَ التَّوْكِيلُ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ، عَلَى خِلَافِ التَّوْكِيلِ، فَهُوَ إِنَابَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ.

هـ- مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ النَّائِبِ، فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ وَصَغِيرٍ، عَلَى خِلَافِ التَّوْكِيلِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ فَوَّضَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِطَلَاقِ نَفْسِهَا فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ وَكَّلَ أَخَاهُ الصَّغِيرَ بِطَلَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ فَوَّضَهَا بِالطَّلَاقِ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ، ثُمَّ جُنَّتْ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا.

ثَانِيًا- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

64- النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: تَوْكِيلٌ وَتَخْيِيرٌ وَتَمْلِيكٌ وَرِسَالَةٌ.

فَالتَّوْكِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْلُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ لِغَيْرِهِ- زَوْجَةً أَوْ غَيْرَهَا- مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِ الْوَكِيلِ- بِعَزْلِهِ- مِنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ تَوْكِيلاً.

وَالتَّخْيِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْلُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ نَصًّا كَقَوْلِهِ لَهَا: اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ.

وَالتَّمْلِيكُ هُوَ: جَعْلُ الطَّلَاقِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ رَاجِحًا فِي الثَّلَاثِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اتِّفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ عَلَى مَا يَلِي:

أ- فَمِنْ حَيْثُ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِيهِ، فِي التَّوْكِيلِ لِلزَّوْجِ حَقُّ عَزْلِ وَكِيلِهِ بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الزَّوْجَةُ أَمْ غَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ زَائِدٌ عَنِ التَّوْكِيلِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ أَمْرُ الدَّاخِلَةِ عَلَيْكِ بِيَدِكِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لأَمْكَنَهُ عَزْلُهَا.

فَإِنْ فَوَّضَهُ بِالطَّلَاقِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُ الْمُفَوَّضِ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَرُدَّ التَّفْوِيضَ.

ب- وَمِنْ حَيْثُ تَحْدِيدُهُ بِمُدَّةٍ، فَإِنْ حَدَّدَ الزَّوْجُ النِّيَابَةَ بِأَنْوَاعِهَا بِالْمَجْلِسِ تَحَدَّدَ مُطْلَقًا، وَإِنْ حَدَّدَهَا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ إِنْ مَارَسَ النَّائِبُ حَقَّهُ فِي الطَّلَاقِ خِلَالَ الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مَا دَامَ الزَّمَانُ بَاقِيًا، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنِ اخْتَارَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْقَاضِي حَقَّهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُمْهِلُهُ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِالْإِمْهَالِ، وَذَلِكَ حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُحَدِّدْهُ بِالْمَجْلِسِ وَلَا بِزَمَنٍ آخَرَ، فَلِلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى: يَتَحَدَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَتَحَدَّدُ بِهِ.

ج- مِنْ حَيْثُ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا مُطْلَقًا- وَقَدْ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ- فَلِلْمُفَوَّضَةِ إِيقَاعُ مَا شَاءَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَمْلِيكًا، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ، إِنْ تَوَفَّرَتْ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَّتْ وَقَعَ مَا ذَكَرَتْ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

1- أَنْ يَنْوِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً لَمْ تَمْلِكْ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا نَوَى اثْنَيْنِ مَلَكَتْهُمَا وَلَمْ تَمْلِكِ الثَّلَاثَ.

2- أَنْ يُبَادِرَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهَا فَوْرَ إِيقَاعِهَا الثَّلَاثَ، وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ وَوَقَعَ ثَلَاثٌ.

3- أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا أَوْقَعَتْ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا.

4- عَدَمُ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا، وَإِلاَّ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَيْهِ إِنْ أَوْقَعَهَا مُطْلَقًا.

5- أَنْ لَا يُكَرِّرَ التَّفْوِيضَ، فَإِنْ كَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، لَمْ يُقْبَلِ اعْتِرَاضُهُ عَلَى طَلَاقِهَا الثَّلَاثَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَيُقْبَلُ اعْتِرَاضُهُ.

6- أَنْ لَا يَكُونَ التَّفْوِيضُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مَلَكَتِ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا.

فَإِنْ خَيَّرَهَا وَدَخَلَ بِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، لَمْ تَقَعْ وَسَقَطَ تَخْيِيرُهَا؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِذَلِكَ عَمَّا فَوَّضَهَا، وَقَدِ انْقَضَى حَقُّهَا بِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهَا، فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ خِيَارُهَا.

ثَالِثًا- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:

65- أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلزَّوْجِ إِنَابَةَ زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ، كَمَا أَجَازُوا لَهُ إِنَابَةَ غَيْرِهَا بِهِ أَيْضًا، فَإِنْ أَنَابَ الْغَيْرَ كَانَ تَوْكِيلاً، فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّوْكِيلِ مِنْ جَوَازِ التَّقْيِيدِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ.

وَلِلزَّوْجِ تَفْوِيضُ طَلَاقِهَا إِلَيْهَا، وَهُوَ تَمْلِيكٌ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُقُوعِهِ تَطْلِيقُهَا عَلَى الْفَوْرِ..وَفِي قَوْلٍ تَوْكِيلٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فَوْرٌ فِي الْأَصَحِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّمْلِيكِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهَا لَفْظًا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ، وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ لَفْظًا.

وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: (التَّمْلِيكُ وَالتَّوْكِيلُ) لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ التَّفْوِيضِ.

وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلَاثًا، فَقَالَتْ: طَلَّقَتْ وَنَوَتْهُنَّ: وَقَدْ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ، أَوْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا فَثَلَاثٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَقَدْ نَوَيَاهُ.

وَإِذَا نَوَى ثَلَاثًا وَلَمْ تَنْوِ هِيَ عَدَدًا، أَوْ لَمْ يَنْوِيَا، أَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الْأَصَحِّ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَهُوَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رضي الله عنه- ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ.وَفِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، أَفْتَى بِهِ أَحْمَدُ مِرَارًا، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَا شِئْتِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً.

وَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةٌ، لِأَنَّ: (اخْتَارِي) تَفْوِيضٌ مُعَيَّنٌ، فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي مَا شِئْتِ، أَوِ اخْتَارِي الطَّلْقَاتِ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ اخْتَارِي عَدَدًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ.بِخِلَافِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَمْرِهَا.وَلَيْسَ لِلْمَقُولِ لَهَا: اخْتَارِي أَنْ تُطَلِّقَ إِلاَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَتَمْلِكُهُ إِلَى انْقِضَاءِ ذَلِكَ.

طَلَاقُ الْفَارِّ

66- طَلَاقُ الْفَارِّ هُوَ: طَلَاقُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بَائِنًا فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ يُعَنْوِنُ الْفُقَهَاءُ لَهُ: بِطَلَاقِ الْمَرِيضِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ طَلَاقِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ، كَصِحَّتِهِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرِ الْمَرِيضِ مَا دَامَ كَامِلَ الْأَهْلِيَّةِ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى إِرْثِهَا مِنْهُ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَلَبِهَا أَمْ لَا، وَأَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ لِذَلِكَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا عِنْدَ الطَّلَاقِ غَيْرَ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَتَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ، وَيُعَدُّ فَارًّا بِهَذَا الطَّلَاقِ مِنْ إِرْثِهَا، وَاسْمُهُ طَلَاقُ الْفِرَارِ.

وَاشْتَرَطُوا لَهُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ طَلَبِهَا وَلَا رِضَاهَا بِالْبَيْنُونَةِ، وَأَنْ تَكُونَ أَهْلاً لِلْمِيرَاثِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِرِضَاهَا كَالْمُخَالَعَةِ لَمْ تَرِثْ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِسَبَبِ تَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، فَلَا يُعَدُّ بِذَلِكَ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا، فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ مُطْلَقًا، أَوْ طَلَبَتْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَطَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْ مِنْهُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَطْلُبِ الْبَيْنُونَةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا.فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ، وَلَمْ تَتَغَيَّرْ عِدَّتُهَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَلَا يُعَدُّ فَارًّا بِطَلَاقِهَا، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِطَلَبِهَا كَالْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَالِعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَبِهَا، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا مِنْ غَيْرِهِ.

مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ:

67- هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَمَيَّزَتْ بِلَقَبٍ خَاصٍّ بِهَا لَدَى الْفُقَهَاءِ، نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِمَّا يَلِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا- دُونَ الزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ- أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلَاثِ فَقَطْ.فَإِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، فَتَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلَاثِ، فَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِوَاحِدَةٍ مَلَكَ عَلَيْهَا اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِاثْنَتَيْنِ مَلَكَ عَلَيْهَا ثَالِثَةً فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ - رضي الله عنهما- .

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا، وَقَدِ انْهَدَمَ مَا أَبَانَهَا بِهِ سَابِقًا، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ الْهَدْمِ، وَقَوْلُ الشَّيْخَيْنِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي- وَهُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدَهُمْ- مَعَ الْجُمْهُورِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَمِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ قَالُوا بِتَرْجِيحِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، كَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ، بَلْ إِنَّهُ قَالَ عَنْهُ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَالْبَحْرِ والشُّرنْبُلَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ كَالْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ مَشَتِ الْمُتُونُ حُكْمُ جُزْءِ الطَّلْقَةِ:

68- إِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَعَ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.لِأَنَّ الطَّلْقَةَ تَحْرِيمٌ، وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يَحْسُنُ مَعَهُ ذِكْرُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ.فَلَوْ زَادَتِ الْأَجْزَاءُ وَقَعَ أُخْرَى، وَهَكَذَا مَا لَمْ يَقُلْ: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَثُلُثُ طَلْقَةٍ وَسُدُسُ طَلْقَةٍ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَيَتَكَامَلُ كُلُّ جُزْءٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُهَا، حَيْثُ تَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ عَيْنُ الْأَوَّلِ.فَإِنْ جَاوَزَ مَجْمُوعُ الْأَجْزَاءِ تَطْلِيقَةً- بِأَنْ قَالَ: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا- قِيلَ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ ثِنْتَانِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ.وَلَوْ بِلَا وَاوٍ بِأَنْ قَالَ: نِصْفُ طَلْقَةٍ، ثُلُثُ طَلْقَةٍ، سُدُسُ طَلْقَةٍ، فَوَاحِدَةٌ، لِدَلَالَةِ حَذْفِ الْعَاطِفِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا وَيَقَعُ بِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةٌ فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَقِيلَ ثِنْتَانِ، لِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إِذَا نُصِّفَتَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلَاثَةٌ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَتَكْمُلُ تَطْلِيقَتَيْنِ.وَيَقَعُ بِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَانِ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَا فِي نِصْفِ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلُ النِّصْفُ.وَفِي نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ يَتَكَامَلُ كُلُّ نِصْفٍ فَيَحْصُلُ طَلْقَتَانِ.

69- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ لَزِمَتْهُ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْجُزْءِ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ لِزِيَادَةِ الْأَجْزَاءِ عَلَى وَاحِدَةٍ.وَلَوْ أَضَافَ الْجُزْءَ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ.وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ.طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ وَنِصْفَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَسْرٍ أُضِيفَ لِطَلْقَةٍ أُخِذَ مُمَيَّزُهُ، فَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، أَيْ: حُكِمَ بِكَمَالِ الطَّلْقَةِ فِيهِ، فَالْجُزْءُ الْآخَرُ الْمَعْطُوفُ يُعَدُّ طَلْقَةً.

70- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَإِيقَاعُ بَعْضِهِ كَإِيقَاعِ كُلِّهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَيِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ عَمَلاً بِقَصْدِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نِصْفُهُمَا، مَا لَمْ يُرِدْ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ.وَفِي أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ لَفْظَ «طَلْقَةٌ» مَعَ الْعَاطِفِ، وَلَمْ تَزِدِ الْأَجْزَاءُ عَلَى طَلْقَةٍ، كَأَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ، كَانَ كُلُّ جُزْءٍ طَلْقَةً، وَإِنِ اسْقَطَ لَفْظَ طَلْقَةٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ رُبُعَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَسْقَطَ الْعَاطِفَ كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ طَلْقَةٍ، كَانَ الْكُلُّ طَلْقَةً، فَإِنْ زَادَتِ الْأَجْزَاءُ كَنِصْفِ وَثُلُثِ وَرُبُعِ طَلْقَةٍ كَمُلَ الزَّائِدُ مِنْ طَلْقَةٍ أُخْرَى وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ، وَلَوْ قَالَ: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَنِصْفُهَا وَنِصْفُهَا فَثَلَاثٌ، إِلاَّ إِنْ أَرَادَ بِالنِّصْفِ الثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي فَطَلْقَتَانِ.

71- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ كُلُّهُ، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ،؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَكَمُلَ النِّصْفُ، فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ.

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ، لِأَنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ جَمِيعُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يَكْمُلُ النِّصْفُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ.وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقَعُ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ عَلَى جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللاَّمُ التَّعْرِيفِ فَقَالَ: ثُلُثُ الطَّلْقَةِ وَسُدُسُ الطَّلْقَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: إِذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللاَّمِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ.وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ طَلْقَةٍ سُدُسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ غَيْرُ مُتَغَايِرَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلاً مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ مِنَ الثَّانِي، وَالْبَدَلُ هُوَ الْمُبْدَلُ أَوْ بَعْضُهُ، فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَلْقَةً طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إِلاَّ طَلْقَةً، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدُسًا لَمْ يَقَعْ إِلاَّ طَلْقَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا.وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَرُبُعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ نِصْفَ سُدُسٍ ثُمَّ يَكْمُلُ، وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا طَلُقَتْ ثَلَاثًا.

الرَّجْعَةُ فِي الطَّلَاقِ:

72- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بَائِنًا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا، مَا دَامَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوَاجِ.فَإِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُلُ بِهَا، ثُمَّ يُفَارِقُهَا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ لَهُ الْعَوْدَ إِلَيْهَا بِالْمُرَاجَعَةِ بِدُونِ عَقْدٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَجْعَة ج 22).

(التَّفْرِيقُ لِلشِّقَاقِ:

73- الشِّقَاقُ هُنَا: هُوَ النِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِسَبَبٍ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا، أَوْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا، فَإِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا الْإِصْلَاحُ، فَقَدْ شُرِعَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا لِلْعَمَلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَإِزَالَةِ أَسْبَابِ النِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ، بِالْوَعْظِ وَمَا إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَمُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ هُنَا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحِكْمَةٍ وَرَوِيَّةٍ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُهِمَّةِ الْحَكَمَيْنِ، وَفِي شُرُوطِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- مُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ:

74- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ لَا غَيْرُ، فَإِذَا نَجَحَا فِيهِ فَبِهَا، وَإِلاَّ تَرَكَا الزَّوْجَيْنِ عَلَى حَالِهِمَا لِيَتَغَلَّبَا عَلَى نِزَاعِهِمَا بِنَفْسَيْهِمَا، إِمَّا بِالْمُصَالَحَةِ، أَوْ بِالصَّبْرِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْمُخَالَعَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَإِنْ فَوَّضَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّوْفِيقِ، كَانَا وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَاجِبَ الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ أَوَّلاً، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لِتَحَكُّمِ الشِّقَاقِ كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ تَوْكِيلٍ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا بِهَذَا التَّفْرِيقِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ ذَلِكَ اجْتِهَادَهُ.

وَإِنْ طَلَّقَا، وَاخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ فِي الْمَالِ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِلَا عِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمْهُ الْمَرْأَةُ فَلَا طَلَاقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَالُ كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَا بِعَشْرَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِثَمَانِيَةٍ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ لِلزَّوْجِ خُلْعَ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَهُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا فِي الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: هُمَا حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَعَلَى

الْأَوَّلِ: يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّلُ الزَّوْجُ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ الزَّوْجَةُ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ وَقَبُولِ طَلَاقٍ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُهُمَا بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، وَعَلَى

الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا وَيُحَكَّمَانِ، بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الْأُولَى التَّوْفِيقُ، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي قَوْلٍ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُمَا ذَلِكَ.

ب- شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:

75- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَكَمَيْنِ شُرُوطًا هِيَ:

1- كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ.

2- الْإِسْلَامُ، فَلَا يَحْكُمُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي الْمُسْلِمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ.

3- الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَحْكُمُ عَبْدٌ، وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ بِجَوَازِ جَعْلِ الْعَبْدِ مُحَكَّمًا، مَا دَامَ التَّحْكِيمُ وَكَالَةً.

4- الْعَدَالَةُ، وَهِيَ: مُلَازَمَةُ التَّقْوَى.

5- الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ هَذَا التَّحْكِيمِ.

6- أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ لَا الْوُجُوبِ.

ثُمَّ إِنْ وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ بِرِضَاهُمَا كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِي حَالِ التَّوْكِيلِ فِي التَّفْرِيقِ يُشْتَرَطُ إِلَى جَانِبِ مَا تَقَدَّمَ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ كَامِلَيِ الْأَهْلِيَّةِ رَاشِدَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنِ احْتِمَالِ رَدِّ بَعْضِ الْمَهْرِ.

فَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، ثُمَّ جُنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ، لَغَا التَّوْكِيلُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ غَيْرُ التَّوْفِيقِ، فَإِنْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يَنْعَزِلِ الْحَكَمَانِ، وَيَكُونُ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَكَمَيْنِ، وَمَعَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي الذُّكُورَةَ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ هُنَا حَاكِمَانِ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ حَاكِمًا.

وَالْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِالتَّفْرِيقِ جَبْرًا عَنِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا حَاكِمَانِ هُنَا وَنَائِبَانِ عَنِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَ الزَّوْجَانِ مُتَّفِقَيْنِ دَعْوَى التَّفْرِيقِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَا سَقَطَ التَّحْكِيمُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا الْحُكْمُ بِالتَّفْرِيقِ بِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّحْكِيمِ هُنَا الدَّعْوَى، وَهَذَا إِذَا كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلَا بِهِ، مَا دَامَا لَمْ يَعْزِلَاهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنْ عَزَلَاهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ انْعَزِلَا، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا لَمْ يَنْعَزِلَا.

كَمَا أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزَا تَحْكِيمَ غَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّحْكِيمِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جَازَ تَحْكِيمُ جَارَيْهِمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَنُدِبَ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ لِلْعِلْمِ بِحَالِهِمَا غَالِبًا.

ثُمَّ إِذَا وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ مُخَالَعَةً، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا مَا لَمْ يُقَيِّدَاهُمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ قَيَّدَاهُمَا تَقَيَّدَا بِهِ لَدَى الْجَمِيعِ.

فَإِذَا لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ وَالْمُخَالَعَةِ، كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمَانِ التَّفْرِيقَ بِطَلَاقٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ رَأَيَا أَنَّ الضَّرَرَ كُلَّهُ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيَا أَنَّهُ كُلُّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا بِمُخَالَعَةٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ لَهُ كُلَّ الْمَهْرِ، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ بَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَبَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجِ، فَرَّقَا بَيْنَهُمَا مُخَالَعَةً عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَهْرِ يُنَاسِبُ مِقْدَارَ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 5)

طَلَاقٌ -5

قَضَاءُ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

76- إِنْ كَانَ الْمُحَكَّمَانِ مُوَكَّلَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، فَلَا حَاجَةَ لِحُكْمِ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِهِمَا، وَتَقَع الْفُرْقَةُ بِحُكْمِهِمَا مُبَاشَرَةً.

وَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، أُلْزِمَا بِرَفْعِ حُكْمِهِمَا إِلَيْهِ لِيُنَفِّذَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي إِنْفَاذِهِ، بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ- كَمَا تَقَدَّمَ-

فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ عَزَلَهُمَا الْقَاضِي، وَعَيَّنَ حَكَمَيْنِ آخَرَيْنِ بَدَلًا مِنْهُمَا، وَهَكَذَا حَتَّى يَتَّفِقَ حَكَمَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَيُنَفِّذُهُ.

نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ:

77- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لِلشِّقَاقِ طَلَاقٌ بَائِنٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي أَمْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، حَتَّى لَوْ أَوْقَعَ الْحَكَمَانِ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ بِحُكْمِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَفْرِيقُهُمَا طَلَاقًا أَمْ مُخَالَعَةً عَلَى بَدَلٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمَا إِنْ فَرَّقَا بِخُلْعٍ فَطَلَاقٌ بَائِنٌ، وَإِنْ فَرَّقَا بِطَلَاقٍ فَهُوَ طَلَاقٌ.

وَهَلْ لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَدَلًا مِنَ اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَابُ نَعَمْ، نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَلِيِّ الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا؟ تَرَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ لِلْآيَةِ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}.

التَّفْرِيقُ لِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ:

78- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا أَضَرَّ بِهَا زَوْجُهَا كَانَ لَهَا طَلَبُ الطَّلَاقِ مِنْهُ لِذَلِكَ، سَوَاءٌ تَكَرَّرَ مِنْهُ الضَّرَرُ أَمْ لَا، كَشَتْمِهَا وَضَرْبِهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا..وَهَلْ تَطْلُقُ بِنَفْسِهَا هُنَا بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَنْهَا؟ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ أَرَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْآخَرِينَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ بِوُضُوحٍ، وَكَأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ مَا لَمْ يَصِلِ الضَّرَرُ إِلَى حَدِّ إِثَارَةِ الشِّقَاقِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ.

التَّفْرِيقُ لِلْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ:

79- إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِرَاقُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَالنَّظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَلَهَا كَامِلُ نَفَقَتِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا طَلَبَ التَّفْرِيقِ إِلَى جَانِبِ مَالِهَا مِنْ: مَنْعِ نَفْسِهَا وَالنَّفَقَةِ مَا دَامَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَيُؤَجَّلُ الزَّوْجُ لِإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ عَجْزُهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وُجُوهٌ وَأَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ:

الْأَوَّلُ: الْفَسْخُ مُطْلَقًا.

وَالثَّانِي: الْفَسْخُ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِلاَّ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ.

وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ مُطْلَقًا، وَهِيَ غَرِيمٌ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَار ف 14).

شُرُوطُ التَّفْرِيقِ بِالْإِعْسَارِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ:

80- يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ بِالْإِعْسَارِ شُرُوطٌ، هِيَ:

أ- أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبًا حَالًّا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَصْلًا، كَأَنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ كَانَ وُجُوبُهُ مُؤَجَّلًا كَأَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَأْجِيلُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَعْضَ وَأَعْسَر بِالْبَعْضِ الْبَاقِي، فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: الْأَقْوَى مِنْهُمَا: جَوَازُ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ب- أَنْ لَا تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْجِيلِ الْمَهْرِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ بِالْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِإِعْسَارِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَسَكَتَتْ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ صَرَاحَةً، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِلْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْعُنَّةِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ بِهِ، أَوْ مُحَكَّمٍ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، هَذَا إِنْ قَدَرَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَيْهِمَا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَتْ بِنَفْسِهَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.

وَإِنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَوْرًا، وَقِيلَ: يُنْظِرُهُ مُدَّةً يَرَاهَا مُنَاسَبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ أَنْظَرَهُ، وَقِيلَ: يَسْجُنُهُ حَتَّى يَدْفَعَ الْمَهْرَ، أَوْ يَظْهَرَ مَالُهُ فَيُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَثْبُتُ إِعْسَارُهُ فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ.

نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ:

81- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ طَلَاقٌ بَائِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا فَسْخٌ، لَا طَلَاقٌ.

التَّفْرِيقُ لِلْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ:

82- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ تَمْتَنِعْ مِنَ التَّمْكِينِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِهَا لِغَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الزَّوْجَةِ كَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهَا مِنْهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَخْذُهَا جَبْرًا عَنْهُ.

فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ دَفْعِ هَذِهِ النَّفَقَةِ لِمَانِعٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، كَنُشُوزِهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا.

وَهَلْ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ مِنْهُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْهَا بِدُونِ سَبَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ؟

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَاتَّفَقُوا فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى عَلَى مَا يَلِي: -

أ- إِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ لِلزَّوْجَةِ أَخْذُ نَفَقَتِهَا مِنْهُ، بِعِلْمِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِ الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، لِوُصُولِهَا إِلَى حَقِّهَا بِغَيْرِ الْفُرْقَةِ، فَلَا تُمَكَّنُ مِنْهَا.

وَيَسْتَوِي هُنَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَأَنْ يَكُونَ مَالُ الزَّوْجِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أَيْضًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ نُقُودًا أَوْ مَنْقُولَاتٍ أَوْ عَقَارَاتٍ، لِإِمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْهَا.

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا فِي الْأَظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ مَالَهُ الظَّاهِرَ إِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلَا تَفْرِيقَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَهَا طَلَبُ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ، وَلَا فَسْخَ لَهَا، وَلَوْ غَابَ وَجُهِلَ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَا فَسْخَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْإِمْكَانِ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، فَإِنَّ لَهَا طَلَبَ التَّفْرِيقِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا فَلَا تَفْرِيقَ.

ب- فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ ظَاهِرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِإِعْسَارِهِ، أَمْ لِلْجَهْلِ بِحَالِهِ، أَمْ لِأَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ، فَرَفَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَى الْقَاضِي طَالِبَةً التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ هُنَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَالْقَاضِي يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَيَأْمُرُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا- لَوْلَا زَوْجُهَا- بِإِقْرَاضِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ حَتَّى يُقْرِضَهَا، ثُمَّ يَعُودَ بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَيْسَر إِنْ شَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْسَر بِالنَّفَقَةِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ بَقِيَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي طَالِبَةً فَسْخَ نِكَاحِهَا، وَالْقَاضِي يُجِيبُهَا إِلَى ذَلِكَ حَالًا، أَوْ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِلزَّوْجِ رَجَاءَ مَقْدِرَتِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ.

شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ:

83- يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ- بِهِ شُرُوطٌ، هِيَ: أ- أَنْ يَثْبُتَ إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَا يَرِدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ.

ب- أَنْ يَكُونَ الْإِعْسَارُ أَوْ الِامْتِنَاعُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ هُوَ امْتِنَاعٌ عَنْ أَقَلِّ النَّفَقَةِ، وَهِيَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَنِيَّةً، أَوِ الزَّوْجُ الْمُمْتَنِعُ غَنِيًّا أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يُثْبِتُ هُنَا ضَرُورَةَ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، لَا النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهَا مُطْلَقًا.

وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَنِيًّا وَامْتَنَعَ عَنِ الْإِنْفَاقِ إِلاَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ- وَهِيَ الضَّرُورِيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ وَلَوْ خَشِنًا- لَمْ يُفَرَّقْ.

هَذَا وَالْإِعْسَارُ وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْإِنْفَاقِ يَشْمَلُ هُنَا الطَّعَامَ وَالْكِسَاءَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَقُومُ بِدُونِهِمَا.

أَمَّا الْإِعْسَارُ بِالْمَسْكَنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ.

وَكَذَلِكَ الْإِعْسَارُ بِالْأُدْمِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ صَحَّحَ عَدَمَ الْفَسْخِ بِالْإِعْسَارِ بِالْأُدْمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ لِإِدَامَةِ الْحَيَاةِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ فِي التَّفْرِيقِ لِلْإِعْسَارِ بِالْمَسْكَنِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَهَا التَّفْرِيقَ بِهِ كَالطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ.

وَالثَّانِي: لَا تَفْرِيقَ لَهَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَةَ تَقُومُ بِدُونِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَرَوْنَ التَّفْرِيقَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْمَسْكَنِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ.

ج- أَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجِ مَالٌ ظَاهِرٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُهَا أَخْذُ نَفَقَتِهَا مِنْهُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِطَرِيقِ الْقَاضِي، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لَهَا التَّفْرِيقُ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا كَانَ الْمَالُ غَائِبًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ.

د- أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الزَّوْجِ عَنِ النَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْحَاضِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً لِلْإِبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ.

فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَمِّنَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَتَهَا مُدَّةَ غِيَابِهِ، فَإِذَا أَعْسَرَ بِذَلِكَ كَانَ لَهَا طَلَبُ الْفُرْقَةِ مِنْهُ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: إِنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهَا فَقَطْ دُونَ التَّفْرِيقِ، فَإِذَا سَافَرَ وَنَفَّذَ مَا عِنْدَهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ آنَئِذٍ.

فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُقِيمًا فَلَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي نَفَقَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَبِالتَّالِي فَلَا حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِمَنْعِهَا مِنْهَا.

فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ أَصْلًا، كَأَنْ لَمْ تُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ سَقَطَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ كَنُشُوزِهَا، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْحَقِّ فِي النَّفَقَةِ أَصْلًا.

هـ- أَنْ لَا تَكُونَ قَدْ رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ أَوْ تَرْكِ إِنْفَاقِهِ مُطْلَقًا، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ إِلَى أَنَّ لَهَا طَلَبَ فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ.

نَوْعُ الْفُرْقَةِ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:

84- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ فَسْخٌ مَا دَامَتْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الزَّوْجِ طَلَاقَهَا فَطَلَّقَهَا كَانَتْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا مَا لَمْ يَبْلُغِ الثَّلَاثَ، أَوْ يَكُنْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِلاَّ فَبَائِنٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، وَلِهَذَا كَانَ لِلزَّوْجِ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا هُنَا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَنْ يَجِدَ الزَّوْجُ يَسَارًا لِنَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ النَّفَقَةَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي فُرِّقَ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِذَا رَاجَعَهَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ.

وَأَمَّا طَرِيقُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ بِغَيْرِ الْقَاضِي، ذَلِكَ أَنَّهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ، إِزَالَةً لِلْخِلَافِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى الرَّفْعِ لِلْقَاضِي، فَإِنِ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَوْ مُحَكَّمٍ، أَوْ عَجَزَتْ عَنِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي نَفُذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلضَّرُورَةِ.

85- وَأَمَّا وَقْتُ الْقَضَاءِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُنَجِّزُ الْفُرْقَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ- بِالتَّصَادُقِ أَوِ الْبَيِّنَةِ- دُونَ إِنْظَارٍ، إِلاَّ أَنَّ الْأَظْهَرَ لَدَيْهِمْ إِمْهَالُ الزَّوْجِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ لِلتَّحَقُّقِ مِنْ عَجْزِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ لِعَارِضٍ ثُمَّ يَزُولُ، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا مَضَتْ دُونَ الْقُدْرَةِ، فَرَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْإِعْسَارِ دُونَ إِمْهَالٍ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِذَا رَفَعَتِ الزَّوْجَةُ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الزَّوْجَ، فَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَأَثْبَتَهُ تَلَوَّمَ لَهُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُنْفِقْ، طَلَّقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ، أَوِ ادَّعَى الْيَسَارَ، أَوْ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ حَالًّا مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ أَيْضًا.

وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا غَيْبَةً قَرِيبَةً يَقِلُّ بَعْدَهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، كَتَبَ الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالْحُضُورِ وَالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ أَوِ الْفِرَاقِ، فَإِنْ حَضَرَ وَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَبِهَا، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ، هَذَا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مَكَانَهُ.فَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ مَكَانَهُ، أَوْ كَانَ مَكَانُهُ بَعِيدًا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ فَوْرًا.

التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ وَالْفَقْدِ وَالْحَبْسِ:

86- الْغَائِبُ هُوَ: مَنْ غَادَرَ مَكَانَهُ لِسَفَرٍ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، وَحَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا جُهِلَتْ حَيَاتُهُ فَهُوَ الْمَفْقُودُ، أَمَّا الْمَحْبُوسُ فَهُوَ: مَنْ قُبِضَ عَلَيْهِ وَأُودِعَ السِّجْنَ بِسَبَبِ تُهْمَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَالْمَفْقُودِ وَالْمَحْبُوسِ إِذَا طَلَبَتِ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، هَلْ تُجَابُ إِلَى طَلَبِهَا؟ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

1- التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ:

87- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَبْنَاهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْوَطْءِ، أَهُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مِثْلُ مَا هُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلِ الْقَاضِي، إِلَى أَنَّ دَوَامَ الْوَطْءِ قَضَاءُ حَقٍّ لِلرَّجُلِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَإِذَا مَا تَرَكَ الزَّوْجُ وَطْءَ زَوْجَتِهِ مُدَّةً لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهَا أَمَامَ الْقَاضِي، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي ذَلِكَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا، طَالَتْ غَيْبَتُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ قَضَاءٌ يَنْقَضِي بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا اسْتَوْفَتْهَا لَمْ يَعُدْ لَهَا فِي الْوَطْءِ حَقٌّ فِي الْقَضَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَا مَهْمَا طَالَتْ، وَتَرَكَ لَهَا مَا تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا قَيَّدُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْوَطْءِ بِعَدَمِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ، فَإِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِهَا عُوقِبَ وَعُزِّرَ، لِاخْتِلَالِ شَرْطِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ وَاجِبٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا قَضَاءً، مَا لَمْ يَكُنْ بِالزَّوْجِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً بِغَيْرِ عُذْرٍ، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَفَرُهُ هَذَا لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ.

شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا:

88- يُشْتَرَطُ فِي الْغَيْبَةِ لِيَثْبُتَ التَّفْرِيقُ بِهَا لِلزَّوْجَةِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:

أ- أَنْ تَكُونَ غَيْبَةً طَوِيلَةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّتِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ إِذَا تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ- رضي الله عنه-، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- بَيْنَمَا كَانَ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ تَقُولُ: - بَيْنَمَا كَانَ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ تَقُولُ:

تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ

وَطَالَ عَلَيَّ أَنْ لَا حَبِيبَ أُلَاعِبُهْ

وَوَاللَّهِ لَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ

لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ

فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ فُلَانَةُ زَوْجُهَا غَائِبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ تَكُونُ مَعَهَا، وَبَعَثَ إِلَى زَوْجِهَا فَأَقْفَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها- فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمِثْلُكَ يَسْأَلُ مِثْلِي عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أُرِيدُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلْتُكِ، قَالَتْ: خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يَسِيرُونَ شَهْرًا، وَيُقِيمُونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَسِيرُونَ شَهْرًا رَاجِعِينَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهَا سَنَةٌ فَأَكْثَرُ، وَفِي قَوْلٍ لِلْغِرْيَانِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ لَيْسَتْ بِطُولٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ.

ب- أَنْ تَخْشَى الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا الضَّرَرَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّرَرُ هُنَا هُوَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَى كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَلَيْسَ اشْتِهَاءُ الْجِمَاعِ فَقَطْ، وَالْحَنَابِلَةُ وَإِنْ أَطْلَقُوا الضَّرَرَ هُنَا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ خَشْيَةَ الزِّنَى كَالْمَالِكِيَّةِ.

إِلاَّ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهَا ظَاهِرُ الْحَالِ.

ج- أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ لِعُذْرٍ كَالْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِهَذَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمْ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى سَوَاءٍ.

د- أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا أَوْ نَقْلِهَا إِلَيْهِ أَوْ تَطْلِيقِهَا وَيُمْهِلَهُ مُدَّةً مُنَاسِبَةً، إِذَا كَانَ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا، أَوْ نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَوْ طَلَّقَهَا فَبِهَا، وَإِنْ أَبْدَى عُذْرًا لِغِيَابِهِ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ دُونَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ كُلَّهُ، أَوْ لَمْ يَرُدَّ بِشَيْءٍ وَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، أَوْ كَانَ عِنْوَانُهُ لَا تَصِلُ الرَّسَائِلُ إِلَيْهِ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِطَلَبِهَا.

نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْغَيْبَةِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:

89- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلَا تُنَفَّذُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فَسْخٌ، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا طَلَاقٌ، وَهَلْ هِيَ طَلَاقٌ بَائِنٌ؟ لَمْ نَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، إِلاَّ أَنَّ إِطْلَاقَاتِهِمْ تُفِيدُ أَنَّهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ طَلَاقٌ بَائِنٌ إِلاَّ طَلَاقَ الْمُولِي وَطَلَاقَ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَلَاقٌ لِلضَّرَرِ- وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ- إِلاَّ أَنَّ الدُّسُوقِيَّ أَوْرَدَ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ عَنِ الْفُرْقَةِ لِلْإِيلَاءِ، وَهِيَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، إِلاَّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَرْجَحُ.

2- التَّفْرِيقُ لِلْفَقْدِ:

90- إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً خَفِيَتْ فِيهَا أَخْبَارُهُ، وَجُهِلَتْ فِيهَا حَيَاتُهُ، فَهَلْ لِزَوْجَتِهِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ؟

الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْغَائِبِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْقُودَ غَائِبٌ وَزِيَادَةٌ، فَيَكُونُ لِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ مَا لِزَوْجَةِ الْغَائِبِ مِنْ أَمْرِ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ.

فَإِذَا لَمْ تَطْلُبْ زَوْجَتُهُ الْمُفَارَقَةَ، فَهَلْ تَكُونُ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ عُمْرَهَا كُلَّهُ؟

فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَحْوَالٌ وَشُرُوطٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: -

أ- إِذَا كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَةِ الزَّوْجِ السَّلَامَةَ، كَمَا إِذَا غَابَ فِي تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ..وَلَمْ يَعُدْ، وَخَفِيَتْ أَخْبَارُهُ وَانْقَطَعَتْ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ فِي الْحُكْمِ، وَلَا تَنْحَلُّ زَوْجِيَّتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَتَرَبَّصُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَرْبَعَ سِنِينَ مِنْ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ، فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَتَحِلُّ بَعْدَهَا لِلْأَزْوَاجِ.

ب- وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلَاكَ، كَمَنْ فُقِدَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، أَوْ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَعُدْ، أَوْ فُقِدَ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ...فَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَغَيْرِهِمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، إِلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، مَهْمَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ، كَمَنْ غَابَ وَظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلَامَةُ عَلَى سَوَاءٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَقْسِيمٌ خَاصٌّ فِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ، هُوَ: أَنَّ الْمَفْقُودَ إِمَّا أَنْ يُفْقَدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ أَوْ حَالَةِ سِلْمٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَقْدُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الشِّرْكِ، وَقَدْ يُفْقَدُ فِي قِتَالٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ طَائِفَةٍ مُسْلِمَةٍ وَأُخْرَى كَافِرَةٍ، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِي:

أ- فَإِذَا فُقِدَ فِي حَالَةِ السِّلْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تُؤَجَّلُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، هَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ.

ب- وَإِذَا فُقِدَ فِي دَارِ الشِّرْكِ، كَالْأَسِيرِ لَا يُعْلَمُ لَهُ خَبَرٌ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى مُدَّةَ التَّعْمِيرِ أَيْ مَوْتِ أَقْرَانِهِ، حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عِنْدَهَا مَوْتُهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِبُلُوغِهِ السَّبْعِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَقِيلَ: الثَّمَانِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِلاَّ طَلُقَتْ عَلَيْهِ.

ج- فَإِنْ فُقِدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عَقِبَ انْفِصَالِ الصَّفَّيْنِ وَخَفَاءِ حَالِهِ، وَتَحِلُّ بَعْدَهَا لِلْأَزْوَاجِ.

د- وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ طَائِفَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَأُخْرَى كَافِرَةٍ، فَإِنَّهُ يُكْشَفُ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ خَفَى حَالُهُ أُجِّلَتْ زَوْجَتُهُ سَنَةً، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ، ثُمَّ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ.

نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْفَقْدِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:

91- إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْمَفْقُودُ لِلْقَاضِي مِنْ قِبَلِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَحَدِ وَرَثَتِهِ أَوِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي تَرِكَتِهِ، فَهُوَ حَيٌّ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ الْعُمْرَ كُلَّهُ بِالِاتِّفَاقِ.

فَإِذَا رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَقَضَى بِمَوْتِهِ، بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْأَحْوَالِ وَالِاخْتِلَافِ، انْقَضَتِ الزَّوْجِيَّةُ حُكْمًا مِنْ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِالْوَفَاةِ، وَبَانَتْ زَوْجَتُهُ وَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ جَبْرًا، وَهِيَ بَيْنُونَةُ وَفَاةٍ، لَا بَيْنُونَةُ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ.

هَذَا وَلَا بُدَّ لِحُلُولِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ، وَإِلاَّ فَهِيَ زَوْجَتُهُ الْعُمْرَ كُلَّهُ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مَحَلَّ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِالْوَفَاةِ هُنَا عِنْدَ الْحَاجَةِ الْوَالِي، وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ لَمْ تَتَزَوَّجْ غَيْرَهُ بَعْدَ عِدَّتِهَا فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ غَيْرَ صَحِيحٍ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْجَدِيدُ يَعْلَمُ بِحَيَاةِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا، وَلَا يَعْلَمُ الزَّوْجُ الثَّانِي بِحَيَاةِ الْأَوَّلِ، فَهِيَ لِلثَّانِي إِنْ دَخَلَ بِهَا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلاَّ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا.

3- التَّفْرِيقُ لِلْحَبْسِ:

92- إِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ مُدَّةً عَنْ زَوْجَتِهِ، فَهَلْ لِزَوْجَتِهِ طَلَبُ التَّفْرِيقِ كَالْغَائِبِ؟

الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ مُطْلَقًا، مَهْمَا طَالَتْ مُدَّةُ حَبْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُ حَبْسِهِ أَوْ مَكَانِهِ مَعْرُوفَيْنِ أَمْ لَا، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلِأَنَّهُ غَائِبٌ مَعْلُومُ الْحَيَاةِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالتَّفْرِيقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلِأَنَّ غِيَابَهُ لِعُذْرٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ وَادَّعَتْ الضَّرَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَبْسِهِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ غِيَابٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، كَمَا يَقُولُونَ بِهَا مَعَ الْعُذْرِ عَلَى سَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

التَّفْرِيقُ لِلْعَيْبِ:

93- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْعُيُوبِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا التَّفْرِيقَ هَذَا بِعُيُوبِ الزَّوْجِ دُونَ عُيُوبِ الزَّوْجَةِ، وَجَعَلُوا التَّفْرِيقَ بِهِ حَقًّا لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، لِامْتِلَاكِهِ الطَّلَاقَ دُونَهَا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِعَيْبِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ لِلْعَيْبِ حَقٌّ لَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى تَضْيِيقِ دَائِرَةِ التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَعَدَمِ التَّوَسُّعِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّفْرِيقِ عَلَى أَقْوَالٍ.

فَذَهَبَ الشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالْخِصَاءِ فَقَطْ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى ذَلِكَ: الْجُنُونَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِيقِ بِعُيُوبٍ اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَسَّمُوهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: قِسْمٌ مِنْهَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَقِسْمٌ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ.

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ:

عُيُوبُ الرِّجَالِ وَهِيَ: الْجَبُّ وَالْخِصَاءُ وَالْعُنَّةُ وَالِاعْتِرَاضُ.

وَعُيُوبُ النِّسَاءِ هِيَ: الرَّتَقُ وَالْقَرْنُ وَالْعَفَلُ وَالْإِفْضَاءُ وَالْبَخَرُ.

وَالْعُيُوبُ الْمُشْتَرَكَةُ هِيَ: الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْعِذْيَطَةُ وَالْخَنَاثَةُ الْمُشْكِلَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (فرقة)

فُرْقَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْفُرْقَةُ- بِضَمِّ الْفَاءِ- اسْمٌ مِنَ الْمُفَارَقَةِ، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْمُبَايَنَةُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْفَرْقِ بِمَعْنَى الْفَصْلِ، يُقَالُ: فَرَقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْقًا وَفُرْقَانًا: فَصَلَ بَيْنَهُمَا، وَافْتَرَقَ الْقَوْمُ فُرْقَةً: ضِدُّ اجْتَمَعُوا.وَالْفِرْقَةُ- بِالْكَسْرِ- جَمَاعَةٌ مُنْفَرِدَةٌ مِنَ النَّاسِ

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا انْحِلَالَ رَابِطَةِ الزَّوَاجِ، وَالْفَصْلَ وَالْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِطَلَاقٍ أَمْ بِغَيْرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّلَاقُ:

2- الطَّلَاقُ لُغَةً: الْحَلُّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، يُقَالُ: طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ وَأُطْلِقَتْ: سُرِّحَتْ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ هِيَ أَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ أَعَمُّ مِنَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فَسْخًا.

ب- الْخُلْعُ:

3- الْخَلْعُ- بِالْفَتْحِ- مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: النَّزْعُ وَالْإِزَالَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْخُلْعُ- بِالضَّمِّ-: فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ بِلَفْظِ طَلَاقٍ، أَوْ خُلْعٍ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَبَيْنَ الْفُرْقَةِ هِيَ أَنَّ الْخُلْعَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْخُلْعِ.

ج- الْفَسْخُ:

4- الْفَسْخُ لُغَةً: النَّقْضُ وَالْإِزَالَةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ حَلُّ رَابِطَةِ الْعَقْدِ، وَبِهِ تَنْهَدِمُ آثَارُ الْعَقْدِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْفُرْقَةِ وَالْفَسْخِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِي فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْفُرْقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْفَسْخِ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا كَمَا فِي الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْفُرْقَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَالْفَسْخِ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُرْقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:

أَوَّلًا- أَسْبَابُ الْفُرْقَةِ:

أ- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

5- الشِّقَاقُ هُوَ النِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا وَقَعَ وَتَعَذَّرَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهَا يُبْعَثُ حَكَمٌ مِنْ أَهْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْعَمَلِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا بِحِكْمَةٍ وَرَوِيَّةٍ، مُطَابِقًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}.

فَإِنْ نَجَحَا فِي الْإِصْلَاحِ، وَإِلاَّ جَازَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِمَّا بِشَرْطِ التَّوْكِيلِ وَالتَّفْوِيضِ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، أَوْ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى التَّوْكِيلِ وَالتَّفْوِيضِ بَلْ بِمُوجَبِ التَّحْكِيمِ، كَمَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَعَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاقٌ ف 73- 76).

ب- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِعُيُوبٍ فِي الزَّوْجِ، وَهِيَ: الْجَبُّ وَالْعُنَّةُ وَالْخِصَاءُ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَزَادَ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ: الْجُنُونَ.

وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي أَنْوَاعِ الْعُيُوبِ الَّتِي تَجُوزُ بِسَبَبِهَا الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ مُوَسِّعٍ وَمُضَيِّقٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاقٌ ف 93- 106).

ج- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْوَطْءِ، هَلْ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ كَالزَّوْجِ، أَوْ لَا؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ قَضَاءٌ يَنْتَهِي بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَرَكَ لَهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفُرْقَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَابِتٌ لِلزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَفَرُهُ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ- فِيمَا عَدَا الْقَاضِيَ- إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الزَّوْجِ عُذْرٌ مَانِعٌ، كَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَلَاقٌ ف 87، 88، غَيْبَة)

د- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْإِعْسَارِ:

8- الْإِعْسَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالصَّدَاقِ، أَوْ يَكُونَ بِالنَّفَقَةِ.

أَمَّا الْإِعْسَارُ بِالصَّدَاقِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ كَالتَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفُرْقَةِ بِالْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ أَوْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لِلزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَنْعُ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مُعَجَّلَ صَدَاقِهَا.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ إِعْسَارِ الزَّوْجِ عَنْ مُعَجَّلِ الصَّدَاقِ إِذَا ثَبَتَ عُسْرُهُ، وَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ،

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ حَسَبَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَارٌ ف 14، وَطَلَاقٌ ف 79).

أَمَّا الْإِعْسَارُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا ثَبَتَ بِشُرُوطِهِ وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِعْسَارٌ ف 19) - وَطَلَاقٌ (ف 82).

هـ- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْإِيلَاءِ:

9- إِذَا حَصَلَ الْإِيلَاءُ مِنَ الزَّوْجِ كَأَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ عَلَّقَ عَلَى قُرْبَانِهَا أَمْرًا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ قَرِبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الْإِيلَاءِ، وَأَصَرَّ الزَّوْجُ عَلَى عَدَمِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ، كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ إِضْرَارًا بِالزَّوْجَةِ، فَكَانَ لَهَا الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِالْعَوْدَةِ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا، وَإِلاَّ فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي فَيَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالرُّجُوعِ عَنْ مُوجَبِ يَمِينِهِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِذَا لَمْ يَقْرَبْهَا، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَى الْقَضَاءِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِيلَاءٌ ف 1، 17).

و- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَوْرًا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ حَالَةَ مَا إِذَا قَصَدَتِ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ، فَلَا تَفْسَخُ الرِّدَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ النِّكَاحَ مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَوْرًا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَوْرًا، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي رِوَايَةٍ تُنْجَزُ الْفُرْقَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَتَوَقَّفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 44)

ز- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدَّارِ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ لَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ اخْتِلَافَ دَارَيِ الزَّوْجَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَعَقَدَ الذِّمَّةَ وَتَرَكَ زَوْجَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، وَكَذَا الْعَكْسُ

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ ف 5)

ح- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا وَوَلَدَهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

وَإِذَا حَصَلَتِ الْمُلَاعَنَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ: - صلى الله عليه وسلم- «الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ»

وَلَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إِلَى حُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَدْ وُجِدَ فَتَقَعُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّهُ لَا تَتِمُّ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إِلاَّ بِحُكْمِ الْقَاضِي لِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَقَالَ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ»، لَكِنْ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ وَلَوْ قَبْلَ الْفُرْقَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فُرْقَةٌ مُؤَبَّدَةٌ، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنِ الزَّوْجَةُ أَوْ كَانَ كَاذِبًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَان).

ط- الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الظِّهَارِ:

13- إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي: وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُ الظِّهَارِ، تَحْرُمُ الْمُعَاشَرَةُ الزَّوْجِيَّةُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَشْمَلُ حُرْمَةَ الْوَطْءِ اتِّفَاقًا، وَحُرْمَةَ دَوَاعِي الْوَطْءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى إِبَاحَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ.

فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ التَّكْفِيرِ كَانَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُجْبِرَهُ عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلَاقِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (ظِهَارٌ ف 22- 24)

ثَانِيًا- آثَارُ الْفُرْقَةِ:

14- الْفُرْقَةُ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ أَوِ انْفِسَاخٌ، حَسْبَ اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ وَالْأَحْوَالِ، وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ عَنْ أَحْكَامِ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ بِأَنَّهَا طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ حَسَبَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ، وَإِجْمَالُ ذَلِكَ فِي الْآتِي:

الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ طَلَاقٌ بَائِنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ الْفُرْقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ بِالتَّوْكِيلِ.

وَالْفُرْقَةُ بِالْعَيْبِ طَلَاقٌ بَائِنٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفَسْخٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَلَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ أَصْلًا.

وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، طَلَاقٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الْخُلْعِ طَلَاقٌ بَائِنٌ اتِّفَاقًا إِذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِلاَّ فَهِيَ طَلَاقٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَسْخٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ.

وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ فَسْخٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ.

وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ طَلَاقٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفُرْقَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفَسْخٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

ثَالِثًا- مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفُرْقَةِ بِاعْتِبَارِهَا طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا:

أ- مِنْ حَيْثُ عَدَدُ الطَّلَقَاتِ:

15- مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الزَّوْجَ لَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ، لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا اعْتُبِرَتِ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا يَنْقُصُ بِذَلِكَ عَدَدُ الطَّلَقَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اعْتُبِرَتِ الْفُرْقَةُ فَسْخًا، حَيْثُ يَبْقَى الْعَدَدُ الْمُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا.

ب- مِنْ حَيْثُ الْعِدَّةُ:

16- لَا يَخْتَلِفُ الطَّلَاقُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ عَنِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوِ الْبَائِنِ بَيْنُونَةً صُغْرَى تُعْتَبَرُ صَالِحَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْفَسْخِ، فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ، كَالْفَسْخِ بِسَبَبِ رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ إِبَاءِ الزَّوْجَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ.

تَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة ف 49)

ج- مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ النَّفَقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَفِي غَيْرِ الْحَامِلِ عِنْدَهُمْ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْفَسْخِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، أَوْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ كَالرِّدَّةِ، فَلَهَا السُّكْنَى فَقَطْ دُونَ النَّفَقَةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْفَسْخِ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (عِدَّةٌ، 63، وَحَامِلٌ ف 8 وَنَفَقَة).

د- مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْإِحْدَادِ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَزَوْجُهَا غَيْرُ مُتَوَفًّى.

وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ.

الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَادٌ ف 3- 6).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 2)

نُشُوزٌ -2

ب- الْهَجْرُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ الرَّجُلُ بِهِ امْرَأَتَهُ إِذَا نَشَزَتِ الْهَجْرَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْهَجْرُ الْمَشْرُوعُ، وَفِي غَايَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَعَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَتَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ، قِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إِيَّاهَا، لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبُهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا، لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْهَجْرُ أَنْ يَتْرُكَ مَضْجَعَهَا، أَيْ يَتَجَنَّبَهَا فِي الْمَضْجَعِ فَلَا يَنَامُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، لَعَلَّهَا أَنْ تَرْجِعَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَحَسَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَغَايَةُ الْهَجْرِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَهْرٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلًا عُذْرًا لِلْمُولِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَعَظَهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا ظَاهِرًا فِي تَأْدِيبِ النِّسَاءِ، أَمَّا الْهُجْرَانُ فِي الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» إِلاَّ إِنْ قَصَدَ رَدَّهَا أَوْ إِصْلَاحَ دِينِهَا، إِذِ الْهَجْرُ- وَلَوْ دَائِمًا وَلِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ- جَائِزٌ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَفِسْقٍ وَابْتِدَاعٍ وَإِيذَاءٍ وَزَجْرٍ وَإِصْلَاحٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْهَجْرِ أَنْ يَهْجُرَ فِرَاشَهَا فَلَا يُضَاجِعَهَا فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا هُجْرًا أَيْ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا غَايَةَ لَهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، لِأَنَّهُ لِحَاجَةِ صَلَاحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ تُهْجَرْ وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلَحَتْ فَلَا هَجْرَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَظْهَرَتِ الْمَرْأَةُ النُّشُوزَ هَجَرَهَا زَوْجُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُضَاجِعُهَا فِي فِرَاشِكَ، وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» وَهَجْرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- السَّابِقِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: هَجْر.

ج- الضَّرْبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ بِهِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ نُشُوزِهَا الضَّرْبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ وَمَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ لِمُبَاشَرَتِهِ.

فَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُدْمٍ وَلَا مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِنٍ وَلَا مُخَوِّفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ.

وَقَالُوا: الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ مَا يَعْظُمُ أَلَمُهُ عُرْفًا، أَوْ مَا يُخْشَى مِنْهُ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ مَا يُورِثُ شَيْئًا فَاحِشًا، أَوِ الشَّدِيدُ، أَوِ الْمُؤَثِّرُ الشَّاقُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ مِنْ بَرِحَ الْخَفَاءُ إِذَا ظَهَرَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ».

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَةَ إِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتَدَعِ النُّشُوزَ إِلاَّ بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَوِ الْخَوْفِ لَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا تَعْزِيرُهَا لَا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَلَا بِغَيْرِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَيْئَةِ الضَّرْبِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الَّتِي تَحَقَّقَ نُشُوزَهَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» وَقَالَ الْهَيْتَمِيُّ: لَا تَضْرِبْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا، وَلَا يُوَالِيِهِ فِي مَوْضِعٍ لِئَلاَّ يَعْظُمَ ضَرَرُهُ، وَقَالُوا: لَا يَبْلُغُ ضَرْبُ حُرَّةٍ أَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا عِشْرِينَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجْتَنِبُ الْوَجْهَ تَكْرِمَةً لَهُ، وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ، وَالْمَوَاضِعَ الْمُسْتَحْسَنَةَ لِئَلاَّ يُشَوِّهَهَا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَوْجُهِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ بِضَرْبِهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُدْمٍ وَلَا شَائِنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤَدِّبُهَا بِضَرْبِهَا بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، لَا بِسَوْطٍ وَلَا بِعَصًا وَلَا بِخَشَبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ- إِنْ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا- فَالْأَوْلَى لَهُ الْعَفْوُ لِأَنَّ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَصْلَحَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الضَّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ أَفْضَلُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى تَرْكُ ضَرْبِهَا إِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ.

وَفِي ضَرْبِ الْمَرْأَةِ لِلنُّشُوزِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صَرَاحَةً إِلاَّ هُنَا- أَيِ الضَّرْبِ لِلتَّعْزِيرِ عَلَى النُّشُوزِ- وَفِي الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَضْرِبُ الْمُسْتَحِقُّ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ حَقَّهُ غَيْرَ هَذَا، وَالرَّقِيقُ يَمْتَنِعُ مِنْ حَقِّ سَيِّدِهِ.

هَلْ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ النُّشُوزِ حَتَّى يُشْرَعَ الضَّرْبُ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ لِضَرْبِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَ لِتَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ بِتَحَقُّقِ نُشُوزِهَا وَلَوْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ دُونَ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّشُوزُ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَتَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} وَالْأَوْلَى بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَرَّحَتْ بِنُشُوزِهَا فَكَانَ لِزَوْجِهَا ضَرْبُهَا كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ، وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ كَالْحُدُودِ.

وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَظْهَرْ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ ضَرْبِ النَّاشِزَةِ أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الضَّرْبَ يُفِيدُ فِي تَأْدِيبِهَا وَرَدْعِهَا عَنِ النُّشُوزِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ضَرْبُهَا وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا.

وَقَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ ضَرْبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ بِنَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ وَتَأْدِيبِهَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، وَإِلاَّ فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي لِتَأْدِيبِهَا.

الضَّمَانُ بِضَرْبِ التَّأْدِيبِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا- بِالْقُيُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ- هُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ أَوْ هَلَاكٍ وَجَبَ الْغُرْمُ وَالضَّمَانُ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَرْبُ إِتْلَافٍ لَا إِصْلَاحٍ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ مَا تَلِفَ بِالضَّرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا الْمَشْرُوعِ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى نُشُوزِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.

التَّرْتِيبُ فِي التَّأْدِيبِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِزَامِ الزَّوْجِ التَّرْتِيبَ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْوَعْظِ ثُمَّ الْهَجْرِ ثُمَّ الضَّرْبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، فَإِنْ تَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ ضَرَبَهَا، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلاَّ رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

وَقَالُوا: وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ: أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَعِظُ الزَّوْجُ مَنْ نَشَزَتْ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْوَعْظُ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْهَجْرُ جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ لِحَالَةٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُفِيدُ، وَيَفْعَلُ مَا عَدَا الضَّرْبَ وَلَوْ لَمْ يَظُنَّ إِفَادَتَهُ- بِأَنْ شَكَّ فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيدُ- لَا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْإِفَادَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ إِفَادَتَهُ لِشِدَّتِهِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ زَوْجَتَهُ إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا هَجَرَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا ضَرَبَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا، لَا إِنْ شَكَّ فِيهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ لِزَوَالِ مُبِيحِهِمَا، وَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَهَجَرَهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ وَلَمْ تَرْتَدِعْ بِالْهَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنَ الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ طُرُقِ التَّأْدِيبِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: مَرَاتِبُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ ثَلَاثٌ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا، أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلَاقَةٍ وَلُطْفٍ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلَا يَضْرِبُهَا وَلَا يَهْجُرُهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا، وَفِي جَوَازِ الضَّرْبِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ الْمَنْعَ، وَرَجَّحَ صَاحِبَا الْمُهَذَّبِ وَالشَّامِلِ الْجَوَازَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ بِلَا خِلَافٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا فِي جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَا يَجْمَعُ.وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي النُّشُوزِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ.

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَادَّعَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْلُ لَهَا فِي عَدَمِ النُّشُوزِ بِيَمِينِهَا حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ وَكَانَتْ فِي بَيْتِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نُشُوزٍ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهَا سُقُوطَ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي شَهْرٍ مَاضٍ- مَثَلًا- لِنُشُوزِهَا فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا أَيْضًا لِإِنْكَارِهَا مُوجِبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا، وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَنْكَرَ، أَوْ ثَبَتَ نُشُوزُهَا ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ- مَثَلًا- أَذِنَ لَهَا بِالْمُكْثِ هُنَاكَ هَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لَهَا أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ مَنْعَ الْوَطْءِ أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ لِعُذْرٍ وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَثْبَتَتْهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَأَمَّا مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَخُرُوجِهَا بِلَا إِذْنٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ: هِيَ تَمْنَعُنِي مِنْ وَطْئِهَا حَيْثُ قَالَتْ: لَمْ أَمْنَعْهُ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.

وَقَالُوا: إِنْ ضَرَبَهَا، فَادَّعَتِ الْعَدَاءَ وَادَّعَى الْأَدَبَ فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ، وَحِينَئِذٍ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَاءِ مَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَإِلاَّ قُبِلَ قَوْلُهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ ضَرَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهُ بِسَبَبِ نُشُوزٍ وَادَّعَتْ عَدَمَهُ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ فِي الْمَطْلَبِ قَالَ: وَالَّذِي يَقْوَى فِي ظَنِّي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ وَلِيًّا فِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا فَلَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ جَرَاءَتَهُ وَتَعَدِّيَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يُصَدَّقْ وَصُدِّقَتْ هِيَ، وَقَيَّدَ الشَّرْقَاوِيُّ تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نُشُوزِهَا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّسْلِيمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ.

نُشُوزُ الزَّوْجِ أَوْ إِعْرَاضُهُ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ خَافَتْ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا لِرَغْبَتِهِ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ بِهَا أَوْ كِبَرٍ أَوْ دَمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيَهُ بِذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتِ: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْكَوْنِ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَضَى بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَحْسَنَهُ وَوَلاَّهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ مِنَ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي، فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ أَوِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنْوَاعُ الصُّلْحِ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتَعَدَّى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لَكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسَنُّ لَهَا اسْتِعْطَافُهُ بِمَا يُحِبُّ، كَأَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا، كَمَا تَرَكَتْ سَوْدَةُ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- لَمَّا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا- صلى الله عليه وسلم-، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ إِذَا كَرِهَتْ صُحْبَتَهُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهَا بِمَا تُحِبُّ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَرَضٍ أَوْ دَمَامَةٍ، فَوَضَعَتْ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا أَوْ كُلَّ حُقُوقِهَا، تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقُّهَا وَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِي الْمَاضِي، وَإِنْ شَرَطَا مَالًا يُنَافِي نِكَاحًا لَزِمَ وَإِلاَّ فَلَا، فَلَوْ صَالَحَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ قَسْمِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَلَهَا ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَيَقُولُ لَهَا: إِنْ رَضِيتِ عَلَى هَذَا وَإِلاَّ فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَتَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ.

تَعَدِّي الزَّوْجِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى زَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْقَاضِيَ يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ الزَّوْجَ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا، فَشَكَتْ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا، سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ- وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ- فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ، فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِيَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَعَدَّى الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ بِضَرْبٍ أَوْ سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَعْظٍ فَتَهْدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْوَعْظِ ضَرَبَهُ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ فِي زَجْرِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَهَذَا إِذَا اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَعَظَهُ فَقَطْ دُونَ ضَرْبٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَقًّا لَهَا كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ لِعَجْزِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ نُشُوزِهَا فَإِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَهَا عَلَى إِفَاءِ حَقِّهِ لِقَدْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مُكَلَّفًا أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أُلْزِمَ وَلَيُّهُ تَوْفِيَتَهُ.

فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ وَآذَاهَا بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا سَبَبٍ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يُعَزِّرُهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَطَلَبَتْ تَعْزِيرَهُ مِنَ الْقَاضِي عَزَّرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ إِسَاءَةَ الْخُلُقِ تَكْثُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّعْزِيرُ عَلَيْهَا يُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَهُمَا، فَيَقْتَصِرُ أَوَّلًا عَلَى النَّهْيِ لَعَلَّ الْحَالَ يَلْتَئِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ وَأَسْكَنَهُ بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ.

وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ ظَنَّ الْحَاكِمُ تَعَدِّيَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا- لِكَوْنِهِ جَسُورًا- حَالَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ عَدْلٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّعْزِيرِ لَرُبَّمَا بَلَغَ مِنْهَا مَبْلَغًا لَا يُسْتَدْرَكُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ نُشُوزٌ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا.

تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَمْرَهُمَا يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرُهُ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَيَزْجُرُ الْمُتَعَدِّي، وَإِلاَّ نَصَّبَ حَكَمَيْنِ لِلنَّظَرِ فِي الشِّقَاقِ وَمُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ وَادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا، حِينَئِذٍ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَرُدَّا إِلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلَامَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ- عِنْدَ الْحَاكِمِ- وَعَظَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ذَلِكَ فَالْوَعْظُ فَقَطْ، وَسَكَّنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ يُوصَوْنَ عَلَى النَّظَرِ فِي حَالِهِمَا لِيُعْلَمَ مَنْ عِنْدَهُ ظُلْمٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَالَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، تَعَرَّفَ الْقَاضِي الْحَالَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمَا بِثِقَةٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُهُمَا وَيَكُونُ جَارًا لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ أَسْكَنَهُمَا فِي جَنْبِ ثِقَةٍ يَتَعَرَّفُ حَالَهُمَا ثُمَّ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَعْرِفُهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُمَا مَنَعَ الظَّالِمَ مِنْ عَوْدِهِ لِظُلْمِهِ، وَطَرِيقِهُ فِي الزَّوْجِ مَا سَلَفَ فِي «تَعَدِّي الزَّوْجِ» وَفِي الزَّوْجَةِ بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ كَغَيْرِهَا.

وَاكْتُفِيَ هُنَا بِثِقَةِ وَاحِدٍ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّوَايَةِ، لِمَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُسْرِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الثِّقَةِ أَنْ يَكُونَ عَدْلَ شَهَادَةٍ بَلْ يَكْفِي عَدْلَ الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمِ اعْتِبَارُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِخَبَرِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا الشَّهَادَةِ.

وَقَالُوا: إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَمَرَّ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ، وَفَحُشَ ذَلِكَ، بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَانِبِ مِنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافُ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

التَّحْكِيمُ عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خِلَافُ الزَّوْجَيْنِ، وَأَشْكَلَ أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا إِلَى حَدٍّ يُؤَدِّي إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.

وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّحْكِيمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ بِهَا الْفُقَهَاءُ، اتِّبَاعًا لِلْحُكْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَعَمَلًا بِهِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:

أ- الْحَالُ الَّتِي يُبْعَثُ عِنْدَهَا الْحَكَمَانِ:

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ نَشَزَتْ وَلَمْ يُجْدِ فِي تَأْدِيبِهَا وَكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ الضَّرْبُ أَوْ مَا يَسْبِقُهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ وَالرَّدْعِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إِلَيْهِمَا الْحَكَمَيْنِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَاسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ بَعْدَ إِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمُ ابْتِدَاءً، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ السُّكْنَى بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا اشْتَدَّ الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ وَفَحُشَ ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا وَخَشَى أَنْ يُخْرِجَهُمَا إِلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْقَاضِي الْحَكَمَيْنِ.

ب- الْخِطَابُ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَحُكْمُهُ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} لِلْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَمْنَعُونَ مِنَ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ.

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمَيْنِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ مَنْ عَيَّنَهُمَا الْقَاضِي لِذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْثَ الْحَكَمَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الظِّلَامَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْفُرُوضِ الْعَامَّةِ عَلَى الْقَاضِي، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ: ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ الْوُجُوبُ.

وَنَصُّ الْأُمِّ هُوَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا ارْتَفَعَ الزَّوْجَانِ الْمَخُوفُ شِقَاقُهُمَا إِلَى الْحَاكِمِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 3)

نُشُوزٌ -3

ج- كَوْنُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ:

27- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، لَكِنَّهُ الْأَوْلَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَلِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْحَاكِمِ وَلَا فِي الْوَكِيلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إِرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ- حَكَمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٌ مِنْ أَهْلِهَا- إِنْ أَمْكَنَ، لِأَنَّ الْأَقَارِبَ أَعْرَفُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَأَقْعَدُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَأَطْيَبُ لِلْإِصْلَاحِ، وَنُفُوسُ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنُ إِلَيْهِمَا، فَيُبْرِزَانِ لَهُمَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمَا مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْثُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَهْلَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَالظَّاهِرُ نَقْضُ حُكْمِهِمَا، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مَعَ الْوِجْدَانِ وَاجِبٌ شَرْطٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُمَا مَعًا مِنَ الْأَهْلِ، بَلْ وَاحِدٌ فَقَطْ مِنْ أَهْلِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُضَمُّ لِأَهْلِ أَحَدِهِمَا أَجْنَبِيٌّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَتَرْكُ الْقَرِيبِ لِأَحَدِهِمَا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِئَلاَّ يَمِيلَ الْقَرِيبُ لِقَرِيبِهِ.

وَنَدَبَ كَوْنَهُمَا جَارَيْنِ فِي بَعْثِ الْأَهْلَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ وَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسِلُ مِنْ غَيْرِهِمَا.

وَقَالَ الْجَصَّاصُ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهَا وَالْآخِرُ مِنْ أَهْلِهِ لِئَلاَّ تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إِذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِهِ وَالْآخَرُ مَنْ قِبَلِهَا زَالَتِ الظِّنَّةُ، وَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّنْ هُوَ مِنْ قِبَلِهِ.

د- شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ الْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْحَكَمَيْنِ الذُّكُورَةُ وَالرُّشْدُ وَالْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِمَا حَكَمَا فِيهِ، وَبَطَلَ حُكْمُ غَيْرِ الْعَدْلِ- وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ- بِإِبْقَاءٍ أَوْ بِطَلَاقٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ فِي خُلْعٍ، وَبَطَلَ حُكْمُ سَفِيهٍ- وَهُوَ الْمُبَذِّرُ فِي الشَّهَوَاتِ وَلَوْ مُبَاحَةً عَلَى الْمَذْهَبِ- وَحُكْمُ امْرَأَةٍ، وَحُكْمُ غَيْرِ فَقِيهٍ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ مَا لَمْ يُشَاوِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ التَّكْلِيفُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِمَا بُعِثَا لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِيهِمَا ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِتَعَلُّقِ وَكَالَتِهِمَا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي أَمِينِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الذُّكُورَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَتُنْدَبُ وَتُشْتَرَطُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَكَمَانِ لَا يَكُونَانِ إِلاَّ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ عَدْلًا كَمَا لَوْ نُصِّبَ وَكِيلًا لِصَبِيٍّ أَوْ مُفْلِسٍ، وَيَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ، قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ تُعْتَبَرِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ اعْتُبِرَتِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ.

هـ- صِفَةُ الْحَكَمَيْنِ وَصَلَاحِيَّتُهُمَا:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، لَا يُبْعَثَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ يَفْعَلَانِ مَا يَرَيَانِ أَنَّهُ الْمَصْلَحَةُ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ أَوْ لَمْ يُوكِّلَاهُمَا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ:

30- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، أَحَدُهُمَا وَكَيْلُ الْمَرْأَةِ وَالْآخَرُ وَكِيلُ الزَّوْجِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ، قَالَ الرَّجُلَ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا يَنْقَلِبُ حَتَّى يُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَنَّ قَوْلَ الْحَكَمَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ.

وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الزَّوْجَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ عَلَى خُلْعٍ وَلَا عَلَى رَدِّ مَهْرِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بَعْثِهِمَا لَا يَجُوزُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ وَلَا إِخْرَاجِ الْمَهْرِ عَنْ مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُمَا إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْحَكَمَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي التَّفْرِيقِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ، وَلَا يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إِلاَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيُخْرِجَا الْمَالَ عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَمَنَعَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِ أَحَدٍ وَدَفْعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعَهُ إِلَى زَوْجِهَا، وَلَا يَمْلِكُ إِقَاعَ طَلَاقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلَا رِضَاهُ

31- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِزٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا، وَيَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا بِأَنْ كَانَ بِلَا عِوَضٍ، وَيُنَفَّذُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِهِ بَعْدَ إِيقَاعِهِ- وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلِلزَّوْجَيْنِ الَّذَيْنِ أَقَامَا الْحَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ الرُّجُوعُ- وَيُنَفَّذُ حُكْمُ الْحَاكِمَيْنِ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَوْ خَالَفَ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَدِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مُقَامَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَهُمَا الْحُكْمُ لَا الشَّهَادَةُ وَلَا الْوَكَالَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ وَلَا شَاهِدَانِ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، وَلِلْحَكَمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَكَّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ- أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: «أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا» فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا؟.

وَلَا يَلْزَمُ طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ الْحَكَمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا إِيقَاعُ الْأَكْثَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْإِصْلَاحِ الَّذِي بُعِثَا لَهُ فَلِلزَّوْجِ رَدُّ الزَّائِدِ، قَالَ الْآبِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُفَرِّقَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهِيَ بَائِنَةٌ فَإِنْ حَكَمَا بِهِ سَقَطَ.

وَإِنْ طَلَّقَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ وَاحِدَةً وَطَلَّقَ الْآخَرُ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّفَاقِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ.

وَإِنْ طَلَّقَ الْحَكَمَانِ، وَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ بِالْمَالِ لِلزَّوْجِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ كَوْنِهِ بِلَا مَالٍ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْتُهَا بِمَالٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: طَلَّقْتُهَا بِلَا مَالٍ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَاهَا مَعًا بِمَالٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِلَا مَالٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمِ الزَّوْجَةُ الْمَالَ فَلَا طَلَاقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَالُ كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ.

وَيَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- أَنْ يَأْتِيَا لِلْحَاكِمِ الَّذِي أَرْسَلَهُمَا فَيُخْبِرَاهُ بِمَا فَعَلَاهُ لِيَحْتَاطَ عِلْمُهُ بِالْقَضِيَّةِ، فَإِذَا أَخْبَرَاهُ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: حَكَمْتُ بِمَا حَكَمْتُمَا بِهِ.

وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ، جَازَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَرْجِعَا عَنِ التَّحْكِيمِ وَيَعْزِلَا الْحَكَمَيْنِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ وَيَعْزِمَا عَلَى الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ، أَمَّا إِنِ اسْتَوْعَبَاهُ وَعَزَمَا عَلَى ذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمَا عَنِ التَّحْكِيمِ، وَيَلْزَمُهُمَا مَا حَكَمَا بِهِ، سَوَاءٌ رَجَعَ أَحَدُهُمَا أَوْ رَجَعَا مَعًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ رَضِيَا بِالْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَوَّازِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: يَنْبَغِي إِذَا رَضِيَا مَعًا بِالْبَقَاءِ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: مَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُوَجَّهَيْنِ مِنَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ- أَيْ لِلزَّوْجَيْنِ- الْإِقْلَاعُ عَنِ التَّحْكِيمِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْحَكَمَانِ الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.

32- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ، وَالْبُضْعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَالُ حَقُّ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي حَقِّهِمَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ إِلاَّ فِي الْمَوْلَى وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّلُ الزَّوْجُ إِنْ شَاءَ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ الزَّوْجَةُ إِنْ شَاءَتْ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ لِلْخُلْعِ وَقَبُولِ طَلَاقٍ بِهِ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا.

وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي طَلَاقٍ أَنْ يُخَالِعَ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ أَفَادَهُ مَالًا فَوَّتَ عَلَيْهِ الرُّجْعَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي خُلْعٍ أَنْ يُطَلِّقَ مَجَّانًا.

وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَكَمَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ عَجِزَا أَيْضًا أَدَّبَ الْقَاضِي الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَأَخَذَ حَقَّ الْآخَرِ مِنْهُ.

وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ

حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ قَالَ الْخَطِيبُ: وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمَا فِي الْآيَةِ حَكَمَيْنِ، وَالْوَكِيلُ مَأْذُونٌ لَيْسَ بِحَكَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا، وَيَحْكُمَانِ بِمَا يَرَيَاهُ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِذَا رَأَى حَكَمُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ اسْتَقَلَّ بِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَإِنْ رَأَى الْخُلْعَ وَوَافَقَهُ حَكَمُهَا تَخَالَعَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ.

33- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَكَمَيْنِ:

فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، لَا يُرْسَلَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا، وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ حَقُّهُ وَالْمَالَ حَقُّهَا، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا أَوْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَلَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قُلْنَا: هُمَا وَكِيلَانِ فَلَا يَفْعَلَانِ شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ صُلْحٍ، وَتَأْذَنُ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَلَا يَصْلُحُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوَكَّلَا فِيهِ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ خَاصَّةً مِنْ وَكِيلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ فَتَصِحُّ بَرَاءَتُهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِعِوَضٍ، فَتَوْكِيلُهَا فِيهِ إِذْنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَمِنْهَا الْإِبْرَاءُ.

وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَخُلْعٍ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ.

و- إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ:

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالِ الشِّقَاقِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ يَكُونُ عَدْلًا رَشِيدًا ذَكَرًا فَقِيهًا بِمَا بُعِثَ لَهُ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَكَمَانِ مِنَ الْإِصْلَاحِ أَوِ التَّطْلِيقِ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ إِقَامَةِ الْوَلِيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَحْجُورَيْنِ حَكَمًا وَاحِدًا عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالرُّشْدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْفِقْهِ، وَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُمَا، فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْأَظْهَرُ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ وَحَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: لَا يَكْفِي حَكَمٌ وَاحِدٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي أَمْرِهِمَا بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِ كُلٍّ بِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُ.

وَقَالَ الْخَطِيبُ: اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ- النَّوَوِيِّ- عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِحَكَمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَّهِمُهُ وَلَا يُفْشِي إِلَيْهِ سِرَّهُ.

ز- مَا يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا اسْتَطَاعَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ رَفَعَا الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ فَرَّقَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ وَعَظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا، وَأَنْكَرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، وَأَعْلَمَا الْحَاكِمَ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُمَا لِأَجْلِ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَرِيبِهِ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا كَرِهَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فِي صَاحِبِكَ رَدَدْنَاهُ لِمَا تَخْتَارُ مَعَهُ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِصْلَاحُ نَظَرَ الْحَكَمَانِ: فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ بِلَا خُلْعٍ، أَيْ بِلَا مَالٍ يَأْخُذَانِهُ مِنْهَا لَهُ لِظُلْمِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْهَا ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا وَأَقَرَّاهَا عِنْدَهُ- إِنْ رَأَيَاهُ صَلَاحًا- وَأَمَرَاهُ بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، أَوْ خَالَعَا لَهُ بِنَظَرِهِمَا فِي قَدْرِ الْمُخَالَعِ بِهِ وَلَوْ زَادَ عَلَى الصَّدَاقِ، إِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ الْفِرَاقَ أَوْ عَلِمَا أَنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِصْلَاحِ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ إِنْ لَمْ تَرْضَ الزَّوْجَةُ بِالْمَقَامِ مَعَهُ، أَوْ لَهُمَا أَنْ يُخَالِعَا بِالنَّظَرِ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا لَهُ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ- أَيْ عَلَى الْخُلْعِ بِالنَّظَرِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ شُرَّاحِ الْمُدَوَّنَةِ- وَقَالَ الشَّبْرَخِيتِيُّ: إِنَّ الْأَوَّلَ- وَهُوَ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ- هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

وَقَالَ الْآبِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْرِقَةِ عِبَارَاتٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَرَّقَ الْحَكَمَانِ عَلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ فَلَا يَسْتَوْعِبَاهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ فَتْحُونٍ: إِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصُّلْحِ فَرَّقَا بِشَيْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ لَهُ، أَوْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى الْمُتَارَكَةِ دُونَ أَخْذٍ وَإِسْقَاطٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ الْمُتَيْطِيُّ.

وَعَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ فَيُخْبِرَاهُ بِمَا حَكَمَا بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِهِ بِهِ وَحَكَمِهَا بِهَا وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَا يُخْفِي حَكَمٌ عَنْ حَكَمٍ شَيْئًا إِذَا اجْتَمَعَا، وَيُصْلِحَانِ بَيْنَهُمَا أَوْ يُفَرِّقَانِ بِطَلْقَةٍ إِنْ عَسُرَ الْإِصْلَاحُ، وَيَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْتَاطَ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِوَكِيلِهِ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا، أَوْ طَلِّقْهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَالِي مِنْهَا اشْتَرَطَ تَقْدِيمَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا- كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَصْحِيحِ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ- لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ قَالَ: طَلِّقْهَا ثُمَّ خُذْ مَالِي مِنْهَا جَازَ تَقْدِيمُ أَخْذِ الْمَالِ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَكَالتَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فِيمَا ذُكِرَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ، كَأَنْ قَالَتْ: خُذْ مَالِي مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلِعْنِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْوِيَا الْإِصْلَاحَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَأَنْ يُلَطِّفَا الْقَوْلَ، وَأَنْ يُنْصِفَا، وَيُرَغِّبَا، وَيُخَوِّفَا، وَلَا يَخُصَّا بِذَلِكَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا.

ح- غِيَابُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنُونُهُ:

36- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّحْكِيمِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ بِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ إِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنَّ وَلَوْ بَعْدَ اسْتِعْلَامِ الْحَكَمَيْنِ رَأْيَهُ لَمْ يُنَفَّذْ أَمْرُهُمَا، لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْبَعْثِ لَمْ يَجُزْ بَعْثُ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ نُفِّذَ أَمْرُهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْوُكَلَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى- بِاعْتِبَارِهِمَا وَكِيلَيْنِ، وَهِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ- وَيَنْقَطِعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَعْتَبِرُهُمَا حَاكِمَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَنْقَطِعُ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِاعْتِبَارِهِمَا حَاكِمَيْنِ.

وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَى الْمَجْنُونِ، قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَأَضَافَ قَوْلَهُ: وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ نَظَرَهُمَا يَنْقَطِعُ أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ بَقَاءُ الشِّقَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إِمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَا قَدْ وَكَّلَاهُمَا فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ لَا بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّلَ جَازَ لِوَكِيلِهِ فِعْلَ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ.

وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا بَطَلَ حُكْمُ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ وَحُضُورَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ.

ط- امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَوْكِيلِ الْحَكَمَيْنِ:

37- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَا يُرْسَلُ الْحَكَمَانِ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِبَعْثِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنْ تَوْكِيلِهِمَا لَمْ يُجْبَرَا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَزَالُ الْحَاكِمُ يَبْحَثُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَنِ الظَّالِمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَيَرْدَعُهُ وَيُسْتَوْفِي مِنْهُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ إِقَامَةً لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (نقود 1)

نُقُودٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النُّقُودُ لُغَةً جَمْعُ نَقْدٍ، وَالنَّقْدُ الْعُمْلَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُتَعَامَلُ بِهِ.

وَالنُّقُودُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَأْتِي بِمَعَانٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَعْدِنَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ هُنَا يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ «النَّقْدَانِ»- بِالتَّثْنِيَةِ- إِشَارَةً إِلَى الْمَعْدِنَيْنِ.

وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ أَكَانَا مَضْرُوبَيْنِ «أَيْ مَسْكُوكَيْنِ» أَمْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ بِأَنْ كَانَا سَبَائِكَ أَوْ تِبْرًا أَوْ حُلِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.

فَأَمَّا فِي الْمَسْكُوكَيْنِ فَكَثِيرٌ.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْكُوكَيْنِ فَمِنْهُ قَوْلُ الزُّرْقَانِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اسْتِعْمَالُ النَّقْدِ فِي جِدَارٍ وَسَقْفٍ.يَقْصِدُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ قِنْدِيلِ نَقْدٍ، وَيُزَكِّيهِ رَبُّهُ وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: شَرْطُ الرِّكَازِ الَّذِي فِيهِ الْخُمُسُ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَالنَّقْدُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَضْرُوبَيْنِ وَوَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ.

وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ 130: النُّقُودُ جَمْعُ نَقْدٍ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ كَانَا مَسْكُوكَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ، وَيُقَالُ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: النَّقْدَانِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً، أُطْلِقَ عَلَيْهَا الِاسْمُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَدُ فِي الْأَثْمَانِ عَادَةً، سَوَاءٌ دُفِعَتْ حَالًا أَوْ بَعْدَ أَمَدٍ، جَيِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ جَيِّدَةٍ، دُونَ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلتَّبَادُلِ.وَمِنْ عِبَارَاتِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ: إِنَّ الْفُلُوسَ تُرَوَّجُ فِي ثَمَنِ الْخَسِيسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ دُونَ النَّفِيسِ، بِخِلَافِ النُّقُودِ فَبَايَنَ بَيْنَ الْفُلُوسِ وَبَيْنَ النُّقُودِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقِرَاضِ: يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ.

فَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَتِ الْفُلُوسُ نُقُودًا.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ وَسِيطًا لِلتَّبَادُلِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ جُلُودٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَلْقَى قَبُولًا عَامًّا.

وَمِنْهُ مَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقُودٌ يَغْلِبُ التَّعَامُلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا انْصَرَفَ الْعَقْدُ إِلَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ فُلُوسًا.

وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ الثَّالِثُ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْفُلُوسُ:

2- الْفُلُوسُ: جَمْعُ فَلْسٍ، وَهِيَ قِطَعٌ مَعْدِنِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، مَضْرُوبَةٌ مِنْ مَعْدِنٍ سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّقُودِ وَالْفُلُوسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُتَعَامَلُ بِهِ.

ب- التِّبْرُ:

3- التِّبْرُ: هُوَ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْ تُرَابِهِ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ أَوْ يُصَاغَ، وَقِيلَ: يُسَمَّى بِذَلِكَ قَبْلَ تَخْلِيصِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَعْدِنِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التِّبْرَ أَصْلُ النَّقْدَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

ج- السِّكَّةُ:

4- السِّكَّةُ حَدِيدَةٌ مَنْقُوشَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا، تُضْرَبُ عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْمَسْكُوكَاتُ (وَيُقَالُ أَيْضًا: الْمَصْكُوكَاتُ) وَهِيَ الْعُمُلَاتُ الْمَعْدِنِيَّةُ الْمَضْرُوبَةُ مِنَ النَّقْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا.

وَتُطْلَقُ السِّكَّةُ أَيْضًا عَلَى النُّقُوشِ وَالْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَى النُّقُودِ.

وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ دَوْلَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتُطْلَقُ السِّكَّةُ أَيْضًا عَلَى النُّقُودِ الْمَعْدِنِيَّةِ الْمَضْرُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا طُبِعَتْ بِالْحَدِيدِ الَّتِي هِيَ السِّكَّةُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّقُودِ وَالسِّكَّةِ أَنَّ السِّكَّةَ أَعَمُّ مِنَ النُّقُودِ.

مَشْرُوعِيَّةُ التَّعَامُلِ بِالنُّقُودِ:

5- التَّعَامُلُ بِالنُّقُودِ جَائِزٌ شَرْعًا لقوله تعالى: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}.وَتَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ إِجَازَةُ التَّعَامُلِ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ «عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِينَارًا لِأَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً.فَاشْتَرَيْتُ لَهُ شَاتَيْنِ، فَبِعْتُ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ».

وَفِي اتِّخَاذِ النُّقُودِ لِلتَّعَامُلِ حِكَمٌ وَمَصَالِحُ تَتَحَقَّقُ بِهَا، عَلِمَهَا النَّاسُ بِالتَّجَارِبِ وَطُولِ الْعَهْدِ، وَأَقَرَّهَا الشَّارِعُ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ النَّقْدَيْنِ: خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِتَتَدَاوَلَهُمَا الْأَيْدِي، وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا عَزِيزَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَلَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَنِسْبَتُهُمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ مَلَكَهُمَا فَكَأَنَّهُ مَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْعَدْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّسَاوِي، أَوْ مُقَارَبَةُ التَّسَاوِي، وَلِذَلِكَ لَمَّا عَسُرَ إِدْرَاكُ التَّسَاوِي فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالذَّاتِ جُعِلَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ لِتَقْوِيمِهَا، أَعْنِي تَقْدِيرَهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ تَقْوِيمُ الْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مُنْضَبِطًا، لَا يَرْتَفِعُ وَلَا يَنْخَفِضُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَلِ الْكُلُّ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ؛ إِذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلَاتُ النَّاسِ وَيَقَعُ الْخُلْفُ.

وَقَالَ ابْنُ خَلْدُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْحَجَرَيْنِ الْمَعْدِنِيَّيْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيمَةً لِكُلِّ مُتَمَوَّلٍ، وَهُمَا الذَّخِيرَةُ وَالْقُنْيَةُ لِأَهْلِ الْعَالَمِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنِ اقْتُنِيَ سِوَاهُمَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَإِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ تَحْصِيلِهِمَا، لِمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ- أَيْ تَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ- الَّتِي هُمَا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ.

أَنْوَاعُ النُّقُودِ:

تَتَنَوَّعُ النُّقُودُ إِلَى الْأَنْوَاعِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلًا: النُّقُودُ الْخَلْقِيَّةُ:

النُّقُودُ الْخِلْقِيَّةُ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ نَوْعَانِ، هُمَا:

أ- الدِّينَارُ:

6- الدِّينَارُ لُغَةً: فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ نَقْدٌ ذَهَبٌ.

وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ: هُوَ اسْمٌ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْمَضْرُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمِثْقَالِ فَوَزْنُ الدِّينَارِ مِثْقَالٌ تَامٌّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَزْنِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دَنَانِير ف 7- 8).

ب- الدِّرْهَمُ:

7- الدِّرْهَمُ هُوَ لَفْظٌ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَزْنِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِم ف 6).

ثَانِيًا: النُّقُودُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ:

8- النُّقُودُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ هِيَ مَا يَلِي:

أ- الْفُلُوسُ، وَهِيَ النُّقُودُ الْمَعْدِنِيَّةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَهَا حَالَانِ:

الْأُولَى: أَنْ تَكُونَ رَائِجَةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُخْتَلَفُ فِيهَا، فَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهَا أَحْكَامُ النَّقْدَيْنِ، فَلَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا بِالتَّفَاضُلِ وَلَا بِالنَّسَاءِ، وَلَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عِنْدَ الصَّيَارِفِ، وَيَرَى آخَرُونَ أَنَّهَا تَكُونُ أَثْمَانًا، بِجَامِعِ الثَّمَنِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّقْدَيْنِ، فَتَأْخُذُ أَحْكَامَهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ رَائِجَةً: وَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ النَّقْدَيْنِ اتِّفَاقًا.

(ر: صَرْف ف 45 وَمَا بَعْدَهَا، وَفُلُوس ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- الدَّرَاهِمُ الْغَالِبَةُ الْغِشِّ، وَهِيَ مَا كَانَ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ مَغْلُوبًا، وَالْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا، فَهَذِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا أَحْكَامُ الْفُلُوسِ لَا أَحْكَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَيُنْظَرُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ، فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّقْدَيْنِ.

(ر: صَرْف ف 41- 44، وَزَكَاة ف 71).

ج- النُّقُودُ الْوَرَقِيَّةُ: وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، حَتَّى حَلَّتْ مَكَانَ النُّقُودِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، وَأَخَذَتْ وَظِيفَتَهُمَا فِي التَّعَامُلِ فِي عَامَّةِ بُلْدَانِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى إِمْكَانِ اتِّخَاذِ النُّقُودِ مِنَ الْوَرَقِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، مِنْ بَابِ افْتِرَاضِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ وَبَيَانِ حُكْمِهِ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا بَيْنَهُمُ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ لَكَرِهْتُهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَوْ جَرَتِ الْجُلُودُ بَيْنَ النَّاسِ مَجْرَى الْعَيْنِ الْمَسْكُوكِ لَكَرِهْنَا بَيْعَهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ نَظِرَةً.

وَقَدْ عُرِفَ التَّعَامُلُ بِالْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ قَدِيمًا، فَقَدْ حَكَى الْمَقْرِيزِيُّ أَنَّهُ لَمَّا رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ أَخْرَجَ لَهُ أَحَدُ التُّجَّارِ وَرَقَةً فِيهَا خُطُوطٌ بِقَلَمِ الْخَطَا- أَيْ بِالْخَطِّ الْمَغُولِيِّ- وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَرَقِ التُّوتِ، فِيهَا لِينٌ وَنُعُومَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْوَرَقَةَ إِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ فِي (خَانْ بَالِقْ) مِنْ بِلَادِ الصِّينِ لِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ دَفَعَهَا فِيهَا، وَأَنَّ مَلِكَهَا يَخْتِمُ لَهُمْ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا يَأْخُذُ بَدَلًا عَنْهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّقُودِ:

أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ بِالنُّقُودِ:

أ- نِصَابُ الزَّكَاةِ:

9- نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ هَذَا النِّصَابُ عِنْدَ مَالِكِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَغْشُوشًا فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 69- 71).

وَنِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الْفُلُوسِ وَفِي الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا الزَّكَاةَ يَقُومُ بِتَقْوِيمِهِمَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ (ر: زَكَاة 71- 75).

وَنِصَابُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ يُقَوَّمُ بِالدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيَّيْنِ كَذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاة ف 84 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- أَقَلُّ الْمَهْرِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَلِّ الْمَهْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ مُقَدَّرٌ فَإِنَّهُ لَا يَقِلُّ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُبْعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ النِّصَابُ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا.

فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا تَمَامُ الْعَشَرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَسَدَ النِّكَاحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُتِمُّهُ إِنْ دَخَلَ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ إِتْمَامِهِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا حَدَّ لِأَقَلِّ الْمَهْرِ شَرْعًا، بَلْ كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ مَبِيعًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (مَهْر ف 18).

ج- كَفَّارَةُ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي حَيْضِهَا:

11- وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاجِبَةٌ وَقَدْرُهَا دِينَارٌ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَدْرُهَا دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ.

(ر: حَيْض ف 43).

د- نِصَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ.

وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي (سَرِقَة ف 33- 36).

هـ- الدِّيَاتُ:

13- حَدَّدَ الشَّرْعُ مِقْدَارَ الدِّيَاتِ، فَدِيَةُ نَفْسِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهِيَ فِي النَّقْدِ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ.

وَتَفْصِيلُ دِيَاتِ غَيْرِهِ وَدِيَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (دِيَات ف 28 وَمَا بَعْدَهَا).

و- الْجِزْيَةُ:

14- تُفْرَضُ الْجِزْيَةُ عَلَى رِجَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهِيَ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فِي Cالسَّنَةِ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي (جِزْيَة ف 44).

ثَانِيًا: ضَرْبُ النُّقُودِ وَإِصْدَارُهَا:

15- ضَرْبُ النُّقُودِ هُوَ صِنَاعَتُهَا وَنَقْشُهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ بِضَرْبِهَا عَلَى السِّكَّةِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الْمَنْقُوشُ عَلَيْهَا الْكِتَابَةُ بِوَضْعٍ مَقْلُوبٍ.

وَيُقَالُ: سَكُّ النُّقُودِ وَصَكُّهَا.

أ- حَقُّ إِصْدَارِ النُّقُودِ:

16- حَقُّ إِصْدَارِ النُّقُودِ هُوَ لِلْإِمَامِ وَحْدَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَفْوِيضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ لِيَتَمَيَّزَ الْخَالِصُ مِنَ الْمَغْشُوشِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيُتَّقَى الْغِشُّ فِيهَا بِخَتْمِ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا بِالنَّقْشِ الْمَعْرُوفِ.وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِعِيَارٍ مُحَدَّدٍ وَأَوْزَانٍ مُحَدَّدَةٍ لِيُمْكِنَ التَّعَامُلُ بِهَا عَدَدًا، كَمَا حَصَلَ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.

وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ضَرْبُ النُّقُودِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ.

وَيَحِقُّ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرُ مَنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا ضَرَبَهُ مُخَالِفًا لِضَرْبِ السُّلْطَانِ، أَوْ مُوَافِقًا لَهُ فِي الْوَزْنِ وَنِسْبَةِ الْغِشِّ، وَفِي الْجَوْدَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَا يَصْلُحُ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ إِلاَّ فِي دَارِ الضَّرْبِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا الْعَظَائِمَ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: فَقَدْ مُنِعَ مِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ.

وَانْظُرْ (دَرَاهِم ف 7، وَسِكَّة ف 4).

17- وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الْفُلُوسِ لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي الْحَاجَاتِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الدِّرْهَمِ، وَالْعَادَةُ أَنْ تُضْرَبَ مِنَ النُّحَاسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَضْرِبَ لِلرَّعَايَا فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا لِمُعَامَلَاتِهِمْ.

وَمَقْصُودُهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنَ النُّحَاسِ لِتَكُونَ قِيمَتُهَا ذَاتِيَّةً.

وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى النَّاسِ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَفْسَدَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ».

وَالْبَأْسُ- كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ- نَحْوُ أَنْ يُشْتَبَهَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ فَيَكْسِرَهُ.

ب- أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى سَكِّ النُّقُودِ:

18- يَجُوزُ لِلْإِمَامِ دَفْعُ الْأُجْرَةِ عَلَى سَكِّ النُّقُودِ، وَقَدْ نَقَلَ الْبُهُوتِيُّ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ أُجْرَةَ ضَرْبِ الْفُلُوسِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

وَلَوْ ضَرَبَ النُّقُودَ الذَّهَبِيَّةَ أَوِ الْفِضِّيَّةَ، وَالذَّهَبُ أَوِ الْفِضَّةُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَعْطَى الصُّنَّاعَ أَجْرَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَقَدْ جَاءَ وَقْتٌ كَانَ بِإِمْكَانِ مَالِكِ النُّقْرَةِ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إِلَى دَارِ الضَّرْبِ، لِتُضْرَبَ لَهُ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَيُعْطِي مَالِكُهَا أُجْرَةَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ شَرْعًا إِنْ رُدَّتْ لَهُ دَرَاهِمُهُ أَوْ دَنَانِيرُهُ مِنْ نُقْرَتِهِ بِعَيْنِهَا، أَمَّا إِنْ جَرَى تَبَادُلٌ، بِأَنْ أَخَذَ غَيْرَ مَا أَعْطَى، فَقَدْ نَبَّهَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ، وَرُبَّمَا دَخَلَهُ رِبَا النَّسَاءِ، قَالَ: وَذَلِكَ حَرَامٌ.

وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْحِلْيَةِ الذَّهَبِيَّةِ أَوِ الْفِضِّيَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِنْ جِنْسِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَزْنًا فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ جَوَازَ بَيْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ بِسَبَائِكَ مِنْ جِنْسِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَزْنًا، مِنْ أَجْلِ صِنَاعَةِ الضَّرْبِ.

وَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بِأَنَّ السِّكَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ فِيهَا الصِّنَاعَةُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَضْرِبُهَا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ يَضْرِبُهَا بِأُجْرَةٍ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّاسِ لَا يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَالسِّكَّةُ فِيهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِالزِّيَادَةِ فَسَدَتِ الْمُعَامَلَةُ، وَانْتُقِضَتِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِأَجْلِهَا، وَاحْتَاجَتِ الدَّرَاهِمُ إِلَى التَّقْوِيمِ بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَامَ الدِّرْهَمُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ رَدَّ نَظِيرَهَا، وَلَيْسَتِ الْمَصُوغُ كَذَلِكَ.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ حَالَةً أَجَازُوهَا لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ مَا قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ غَيْرَ مَسْكُوكَةٍ، وَلَا تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى السَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا مَسْكُوكًا- أَيْ جَاهِزًا- وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ السِّكَّةِ، وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لِلزِّيَادَةِ، Cقَالَ: وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُسَافِرِ مِنَ السَّفَرِ لَوْ تَأَخَّرَ لِإِتْمَامِ ضَرْبِهَا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ: الْمَسْكُوكُ الَّذِي لَا يَرُوجُ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ كَالنُّقْرَةِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَدْفَعَ مَسْكُوكَهُ إِلَى السَّكَّاكِ لِيُعْطِيَهُ الْمَسْكُوكَ الَّذِي يَرُوُجُ مَعَ زِيَادَةِ أُجْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسَافِرِ، وَلَا لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ وَإِلاَّ جَازَ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ.

ج- نَقْشُ شَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عَلَى النُّقُودِ:

19- قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ: ضَرَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- الدَّرَاهِمَ عَلَى نَقْشِ الْكِسْرَوِيَّةِ وَشَكَّلَهَا بِأَعْيَانِهَا غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِي بَعْضِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفِي بَعْضِهَا: رَسُولُ اللَّهِ، وَعَلَى آخَرَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى آخَرَ: عُمَرُ، فَلَمَّا بُويِعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- ضَرَبَ دَرَاهِمَ، وَنَقَشَهَا «اللَّهُ أَكْبَرُ».

فَلَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنه- بِمَكَّةَ ضَرَبَ دَرَاهِمَ مُدَوَّرَةً، وَنَقَشَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَبِالْآخَرِ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَالْعَدْلِ.

فَلَمَّا اسْتَوْثَقَ الْأَمْرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْعَبٍ ابْنَيِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ- رضي الله عنهم-، فَحَصَ عَنِ النُّقُودِ وَالْأَوْزَانِ وَالْمَكَايِيلِ، وَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ فِي صَدْرِ كُتُبِهِ إِلَى الرُّومِ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وَذَكَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ التَّارِيخِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ: إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ كَذَا وَكَذَا فَاتْرُكُوهُ، وَإِلاَّ أَتَاكُمْ فِي دَنَانِيرِنَا مِنْ ذِكْرِ نَبِيِّكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَلَّمَ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ دَنَانِيرَ الرُّومِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَيَضْرِبَ لِلنَّاسِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ فَضَرَبَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ.

وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ أَنِ اضْرِبْهَا قِبَلَكَ، وَنَهَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدٌ غَيْرُهُ.

وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالسِّكَّةِ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ، فَسَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ إِلَى الْآفَاقِ لِتُضْرَبَ الدَّرَاهِمُ بِهَا، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْأَمْصَارِ كُلِّهَا أَنْ يُكْتَبَ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلَّ شَهْرٍ بِمَا يَجْتَمِعُ قِبَلَهُمْ مِنَ الْمَالِ كَيْ يُحْصِيَهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّرَاهِمُ بِالْآفَاقِ عَلَى السِّكَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتُحْمَلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ، وَقَدَّرَ فِي كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا عَنِ الْحَطَبِ وَأُجْرَةِ الضَّرَّابِ، وَنَقَشَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الدِّرْهَمِ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ Cأَحَدٌ» وَعَلَى الْآخَرِ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَطَوَّقَ الدِّرْهَمَ مِنْ وَجْهَيْهِ بِطَوْقٍ، وَكَتَبَ فِي الطَّوْقِ الْوَاحِدِ «ضُرِبَ هَذَا الدِّرْهَمُ بِمَدِينَةِ كَذَا»، وَفِي الطَّوْقِ الْآخَرِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

د- مَسُّ الْمُحْدِثِ النُّقُودَ الْمَضْرُوبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ:

20- إِذَا كُتِبَ عَلَى النُّقُودِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْمُحْدِثِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ.

(ر: دَرَاهِم ف 10- 11).

هـ- ضَرْبُ النُّقُودِ الْحَامِلَةِ لِلصُّوَرِ وَاسْتِعْمَالُهَا:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ وَاسْتِعْمَالِ النُّقُودِ الَّتِي تَحْمِلُ صُوَرًا فَأَبَاحَهَا بَعْضُهُمْ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (دَرَاهِم ف 12، تَصْوِير ف 30، 57).

و- ضَرْبُ النُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ وَالتَّعَامُلُ بِهَا:

22- النُّقُودُ الْمَغْشُوشَةُ هِيَ الَّتِي خَالَطَ الْمَعْدِنَ النَّفِيسَ فِيهَا مَعْدِنٌ آخَرُ.

وَغِشُّ النُّقُودِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مِنَ الْإِمَامِ لِمَصْلَحَةِ صَلَابَةِ النَّقْدِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا الْإِمَامُ وَيَتَصَرَّفُ بِمُقْتَضَاهَا لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَفِي التَّعَامُلِ بِهَذِهِ النُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَزْوِير ف 16، زُيُوف ف 6، 7، سَتُّوقَة ف 4، غِشّ ف9، صَرْف ف 41- 45، نَبَهْرَجَة ف 4).

كَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ بِالنُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّصَرُّفِ فِي النُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى سَبْكَهَا وَتَصْفِيَتَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى كَسْرَهَا.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زُيُوف ف 7).

التَّعَامُلُ بِالنُّقُودِ الرَّدِيئَةِ:

24- النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ هِيَ ضِدُّ الْجَيِّدَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّعَامُلِ بِالنُّقُودِ الرَّدِيئَةِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَدَاءَة ف 2- 5).

ثَالِثًا: كَسْرُ النُّقُودِ:

25- الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَكْسُورَةُ، أَوِ الْمَقْطُوعَةُ- وَضِدُّهَا الصَّحِيحَةُ وَالصِّحَاحُ- هِيَ مَا قُطِعَتْ بِالْمِقْرَاضِ، أَمَّا أَرْبَاعُ الْقُرُوشِ فَهِيَ نُقُودٌ صَحِيحَةٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِم ف 8).

رَابِعًا: التَّزَيُّنُ بِالنُّقُودِ:

26- اسْتِعْمَالُ زِينَةِ الذَّهَبِ حَلَالٌ لِلنِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَزِينَةُ الْفِضَّةِ حَلَالٌ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ مِنْهَا الْيَسِيرُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ (ذَهَب ف 4، 9، وَفِضَّة ف 6- 8).

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّحَلِّي بِالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ حَسَبَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ إِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى قَطْعِهَا، فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قَطْعِهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الرَّمْلِيُّ: لَوِ اسْتَعْمَلَتِ الْمَرْأَةُ الدَّنَانِيرَ لِلتَّحَلِّي، فَإِنْ جَعَلَتْ لَهَا عُرًى وَجَعَلَتْهَا فِي قِلَادَتِهَا جَازَ، أَمَّا إِنْ تَقَلَّدَتْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مَثْقُوبَةً فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ تَحْرِيمُهَا.

وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ أَنْ تُقْطَعَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ أَجْلِ التَّحَلِّي.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهَا لِهَذَا الْغَرَضِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ.

(ر: دَرَاهِم ف 8).

خَامِسًا: النُّقُودُ فِي الْعُقُودِ:

27- تُسْتَخْدَمُ النُّقُودُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْعُرُوضُ أَيْضًا، فَيَكُونُ الْعَرْضُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَوْ أُجْرَةً، أَوْ مَهْرًا أَوْ مَوْهُوبًا، أَوْ جُعْلًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَفِي الْبَيْعِ يُسَمَّى بَيْعُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ مُقَايَضَةً، وَبَيْعُ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ مُنَاقَلَةً.

غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِهَا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ نَقْدًا، وَهِيَ الْوَظِيفَةُ الْكُبْرَى لِلنُّقُودِ، وَيُسَمَّى الْعِوَضُ النَّقْدِيُّ ثَمَنًا، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ النُّقُودِ فِي الْمُبَايَعَاتِ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن ف 8).

وَإِذَا بِيعَ النَّقْدُ بِالنَّقْدِ سُمِّيَ ذَلِكَ صَرْفًا، وَهُوَ تَبَادُلُ الْعُمُلَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.

وَإِذَا بِيعَ النَّقْدُ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ وَجَبَ التَّمَاثُلُ فِي الْوَزْنِ وَالتَّقَابُضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ كَانَ رِبَا فَضْلٍ أَوْ رِبَا نَسِيئَةٍ، وَإِذَا بِيعَ بِنَقْدٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَجَبَ التَّقَابُضُ وَلَمْ يَجِبِ التَّمَاثُلُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَرْف ف 20، 28).

مَا يَجِبُ فِيهِ النُّقُودُ وَلَا يَجُوزُ الْعَرْضُ:

رَأْسُ مَالِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ:

28- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَعْلِ الْعُرُوضِ رَأْسَ مَالٍ فِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَعَامَّةُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَثْمَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا وَلَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ كَانَ عَرْضًا تَعَذَّرَ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ إِلَى حَقِّهِ بِيَقِينٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ الْمِثْلِيُّ رَأْسَ مَالِ شَرِكَةٍ، وَيُرْجَعُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِمِثْلِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ إِلاَّ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ طَعَامًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ، (ر: شَرِكَة الْعَقْدِ ف 44).

وَعِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ.

29- وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُعْتَبَرُ فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَفِي الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا مَضْرُوبًا وَلَا يَجُوزُ فِي النُّقْرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ قِيمَتُهَا وَتَنْقُصُ.

قَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهَا أُصُولُ الْأَثْمَانِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَا يَدْخُلُ أَسْوَاقَهَا تَغْيِيرٌ، فَأَمَّا مَا يَدْخُلُهُ تَغْيِيرُ الْأَسْوَاقِ مِنَ الْعُرُوضِ فَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِهِ، وَمُرَادُهُ بِتَغْيِيرِ الْأَسْوَاقِ ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ وَانْخِفَاضُهُ.

وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَلَّ الْغِشُّ أَوْ كَثُرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ إِنْ كَانَ رَائِجًا.

أَمَّا الْفُلُوسُ فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهَا تَنْفُقُ مَرَّةً وَتَكْسُدُ أُخْرَى فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.

وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا إِنْ كَانَتْ نَافِقَةً وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِيهَا فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَافِقَةً كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا.

(ر: فُلُوس ف 5).

30- وَجَمَعَ السُّيُوطِيُّ مِنْ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ أَحْكَامًا يَخْتَصُّ بِهَا النَّقْدُ الذَّهَبِيُّ وَالْفِضِّيُّ:

مِنْهَا: أَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَقْوِيمَ بِغَيْرِهِمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي وَالْوَكِيلُ وَالْوَلِيُّ مَالَ الْغَيْرِ إِلاَّ بِهِمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُفْرَضُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِلاَّ مِنْهُمَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (نيابة 1)

نِيَابَة -1

التَّعْرِيف:

1- النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ.

وَيُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ نِيَابَةً: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنَّائِبُ: مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قِيَامُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْوِلَايَةُ:

2- الْوِلَايَةُ فِي اللُّغَةِ، بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، يُقَالُ: هُمْ عَلَى وِلَايَةٍ أَيْ مُجْتَمِعُونَ فِي النُّصْرَةِ.

وَالْوَلِيُّ هُوَ: الْمُحِبُّ، وَالصَّدِيقُ، وَالنَّصِيرُ أَوِ النَّاصِرُ.

وَقِيلَ: الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَالْخَلَائِقِ الْقَائِمُ بِهَا.

وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.

وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دُونَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْوِلَايَةُ: تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَمْ لَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِلَايَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.

ب- الْإِيصَاءُ:

3- الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ- مَصْدَرُ أَوْصَى- يُقَالُ: أَوْصَى فُلَانٌ بِكَذَا يُوصِي إِيصَاءً، وَالِاسْمُ الْوِصَايَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) وَهُوَ: أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الطَّالِبِ أَمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَالْإِيصَاءُ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ يُسَمَّى الْوَصِيَّ.

أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي الِاصْطِلَاحِ إِيصَاءٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ وِكَالَةٌ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْإِيصَاءِ، أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِيصَاءِ.

ج- الْقِوَامَةُ:

4- الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْقِيَامُ عَلَى الْأَمْرِ أَوِ الْمَالِ أَوْ وِلَايَةُ الْأَمْرِ.وَالْقَيِّمُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شُئُونِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَيَلِيهِ، وَيَرْعَاهُ، وَيُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْقِوَامَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ.

د- الْوِكَالَةُ:

5- الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ، فِي اللُّغَة أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا.

وَالتَّوْكِيلُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى غَيْرِهِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا لِأَنَّ مُوكِلَهُ قَدْ وَكَلَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الْأَمْرُ.

وَالْوَكَالَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِكَالَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوِكَالَةِ.

أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ:

تَتَنَوَّعُ النِّيَابَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (اتِّفَاقِيَّةٌ)، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (شَرْعِيَّةٌ).

أَوَّلًا: النِّيَابَةُ الِاتِّفَاقِيَّةُ (وَهِيَ الْوَكَالَةُ):

6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.وَمِنْهَا: حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مُنْذُ عَصْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَة).

ثَانِيًا: النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ:

7- النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ- وَهِيَ الْوِلَايَةُ- ثَابِتَةٌ شَرَعًا عَلَى الْعَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ وَرَدَتْ مِنْهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (5) {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ}.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمَالِ وَالنَّفْسِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَرَدَتْ فِي شَرْعِيَّةِ الْوِلَايَةِ، مِنْهَا: قَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ».

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَإِنَّ ثُبُوتَ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ النَّظَرِ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ، وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَمِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.

وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ، إِذْ شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فَضْلًا عَنِ الْجَوَازِ.

أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ:

8- النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْوِلَايَةُ، وَالْوِلَايَةُ تَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا: وِلَايَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَوِلَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ.

فَالْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ هِيَ سُلْطَةُ الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْقِدَ الْعُقُودَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَمْوَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ وَعُقُودُهُ نَافِذَةً دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ.

وَالْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ هِيَ السُّلْطَةُ عَلَى شُئُونِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا تَزْوِيجُهُ.

وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَعَلَى النَّفْسِ فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).

النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:

تَتَنَوَّعُ الْعِبَادَاتُ فِي الشَّرْعِ إِلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ:

مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ

9- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، أَوْ لَا.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُولِ:

فَمِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَوَّزَ الْعَمَلَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ، وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ.

وَمِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:

مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ».

وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ- وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَكَّلَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ» وَحَدِيثُ: «أَعْطَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنه- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».

وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ».

وَمِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.

وَأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ فَجَازَ أَنْ يُوَكَّلَ فِي أَدَائِهِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ:

10- الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُولِ:

أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ».

أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ أَوِ الْأَحْيَاءِ جَازَ.وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ثَوَاب ف 10).

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ وَإِتْعَابُ النَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّوْكِيلِ.

وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاء ف 15).

النَّوْعُ الثَّالِثِ: الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ:

11- الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ هِيَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ لِلْعُذْرِ الْمَيْئُوسِ مِنْ زَوَالِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ، إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ لَا عَنِ الْحَيِّ وَلَا عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 114 وَمَا بَعْدَهَا، وَأَدَاءٍ ف 16، وَعِبَادَةٍ ف 7).أَمَّا الْعُمْرَةُ فَتَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عُمْرَةٍ ف 38).

أَوَّلًا: النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:

مَنْ يَقَعُ عَنْهُ حَجُّ النَّائِبِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ.لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» فَقَدْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عَنْ أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ».وَذَلِكَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَذَا هَذَا.لِأَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا الْإِحْرَامُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْهُ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّتِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنِ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَدَنَ لِلْحَاجِّ، وَالْمَالَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْبَدَنِ لِصَاحِبِ الْبَدَنِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمَالِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَكَفَّارَتُهُ فِي مَالِهِ لَا فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لَهُ.

إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ.

شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:

13- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَسْتَنِيبُ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ مَالٌ.فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ، فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لَا بِمَالِهِ، بَلِ الْمَالُ يَكُونُ شَرْطًا، وَإِذَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لَا تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ.

وَكَذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لأَنَّ الْمَالَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَصْلًا، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ.

14- الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْجَاجِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى مَرَضِهِ فَإِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ أَنْ حُجَّ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ بَعْدَ حَجِّ النَّائِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ.

15- الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ مَا حُجَّ عَنْهُ:

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.وَلِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.وَالْمُعْتَبَرُ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ الْيَأْسُ ظَاهِرًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حَجٌّ ثَانٍ وَلَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إِيَاسٍ فَإِذَا بَرَأَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَيْئُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْأَصْلُ، كَالْآيِسَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لَا تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.

كَمَا أَنَّ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.

16- الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ:

الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْمُكَفِّرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَنْبَغِي أَلاَّ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ فَلَزِمَهُ كَالصَّغِيرَةِ وَمَنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا إِذَا حَاضَتَا قَبْلَ إِتْمَامِ عَدَّتِهِمَا بِالشُّهُورِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ.

17- الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ:

لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ.

النِّيَابَةُ عَنِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ:

18- وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسَ وَنَحْوَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَلَا تُجْزِئُهُ إِنْ فَعَلَ كَالْفَقِيرِ.

كَمَا أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ.

فَعَلَى هَذَا: إِذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَوَازَ مَوْقُوفٌ إِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.

19- الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْأَمْرِ.

وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117).

20- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَحُجُّ عَنْهُ لَا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ، كَمَا إِذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ النَّائِبُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لَفْظًا.وَإِنْ نَسِيَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ نَوَى مَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ لِيَحُجَّ عَنْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَكْفِي نِيَّةُ الْمُسْتَنِيبِ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَجِّ فِعْلُ النَّائِبِ فَوَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْهُ.

21- الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ:

إِنْ تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِمَالِ نَفْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117).

22- الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا:

وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَعَ إِحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ تَصِحُّ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لَا، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَيُسَمَّى حَجَّ الصَّرُورَةِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَثْلُ ذَلِكَ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَالزَّكَاةِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَاهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ، كَذَا الطَّوَافُ حَامِلًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 116).

نِيَابَةُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَجِّ:

23- تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَهَذَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.

أَمَّا الْجَوَازُ، فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ، فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَجِّهَا ضَرْبُ نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ، فَإِنَّهَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَلَا تَحْلِقُ.

النِّيَابَةُ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ وَحَجَّةِ النَّذْرِ مَعًا:

24- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَحَجَّةُ النَّذْرِ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحُجَّانِ عَنْهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ النَّذْرَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحُجُّ بِنَفْسِهِ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

النِّيَابَةُ فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ:

25- الْحَجُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا.

فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَكَذَا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ كَرَاهَتَهُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ حَجَّ تَطَوُّعٍ، وَكَانَ الْمُسْتَنِيبُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ كَرَاهَةَ الِاسْتِنَابَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 118).

الْعَجْزُ عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ:

26- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَاجِزًا عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، كَالْمَرِيضِ مَرَضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْمَحْبُوسِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَلْزَمُهُ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَجِّ الْفَرْضِ، أَنَّ الْفَرْضَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ فَلَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ هَذَا الْعَامِ، وَالتَّطَوُّعُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَفُوتُ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِتَأْخِيرِهِ، وَلِأَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ فُعِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَجُّ التَّطَوُّعِ لَا يُفْعَلُ فَيَفُوتَ.

مَا يَصِيرُ بِهِ النَّائِبُ مُخَالِفًا وَحُكْمُهُ إِذَا خَالَفَ:

أ- أَمَرَهُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ:

27- إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا يَضْمَنُ، وَوَقَعَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَزَادَ خَيْرًا، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الزِّيَادَةِ دَلَالَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَصَحَّ وَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ تُسَاوِي إِحْدَاهُمَا دِينَارًا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْحَجِّ لَا غَيْرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَضَمِنَ.

ب- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِحَجٍّ فَتَمَتَّعَ، أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ حَجَّ: فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ وَيَرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ فِيمَا بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ صَحِيحًا مِنْ مِيقَاتِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَمَا أَخَلَّ إِلاَّ بِمَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَأَحْرَمَ دُونَهُ.وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَلَوِ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كُلِّ السَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عَنِ الْآمِرِ وَعُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

ج- أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ:

29- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ إِنْ عَدَّدَ الْأَفْعَالَ لِلنُّسُكَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّدْ فَيَحُطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ لِاخْتِصَارِهِ فِي الْأَفْعَالِ فِي وَجْهٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ، وَقَعَ عَنِ الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَتَحْصِيلُ فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَفَوَّتَهُ عَلَيْهِ.

د- أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ:

30- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ يُنْظَرُ:

إِنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ وَعَادَ لِلْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ فِي الْعُمْرَةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ فَيَرُدُّ حِصَّتَهَا مِنَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ وَعَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ خِلَافٌ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ وَقَعَ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَيَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا.

هـ- أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ:

31- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ فَعَدَلَ يُنْظَرُ: إِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِفْرَادِ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ حِصَّةَ الْعُمْرَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ» لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ عَنِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرِنْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ.

وَهَلْ يَحُطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ أَمْ تَنْجَبِرُ الْإِسَاءَةُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:

أَصَحُّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْجَبِرُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فَتَجِبُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ: يَحُطُّ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحَطِّ.

وَإِنْ عَدَلَ إِلَى التَّمَتُّعِ، فَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ لَمْ يَقَعِ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا لِتَقَارُبِ الْجِهَتَيْنِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوِ امْتَثَلَ، وَفِي كَوْنِ الدَّمِ عَلَى الْأَجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَجْهَانِ، وَأَصَحُّهَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى الْأَجِيرِ لِإِسَاءَتِهِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَتَضَمَّنُهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ، صَحَّ وَوَقَعَ النُّسُكَانِ عَنِ الْآمِرِ، وَيرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِذَا أَمَرَهُ بِالنُّسُكَيْنِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ رَدَّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وَوَقَعَ الْمَفْعُولُ عَنِ الْآمِرِ، وَلِلنَّائِبِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهِ.

و- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ:

32- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ بِعُمْرَةٍ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ.

ز- أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ فَخَالَفَ:

33- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ جَازَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ.

وَإِنْ أَمَرَ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا تَضُرُّ.

ح- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَخَالَفَ:

34- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ بِالِاعْتِمَارِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَدَّمَ الْأَجِيرُ الْحَجَّ عَلَى السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ جَازَ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (وكالة 1)

وَكَالَة -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الْحِفْظُ، وَمِنْهُ الْوَكِيلُ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَافِظِ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ، يُقَالُ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، أَيْ فَوَّضْنَا أُمُورَنَا.

وَالتَّوْكِيلُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْغَيْرِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الْأَمْرُ.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ، «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ- تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا- فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ- غَيْرِ ذِي إِمْرَةٍ وَلَا عِبَادَةٍ- لِغَيْرِهِ فِيهِ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ بِمَوْتِهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ- النِّيَابَةُ:

2- النِّيَابَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَابَ الشَّيْءُ نَوْبًا: قَرُبَ، وَنَابَ عَنْهُ نِيَابَةً قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قِيَامُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَكَالَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ.

ب- الْوِلَايَةُ:

3- الْوِلَايَةُ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ.

وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.

وَوَلِيُ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِهِ دُونَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْوِلَايَةُ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْوِلَايَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْوِلَايَةُ فَنِيَابَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ إِجْبَارِيَّةٌ.

ج- الْإِيصَاءُ:

الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ، مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَالُ: أَوْصَى فُلَانًا، وَأَوْصَى إِلَيْهِ: جَعَلَهُ وَصِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ وَمَالِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِيصَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ أَثْنَاءَ الْحَيَاةِ، أَمَّا الْإِيصَاءُ فَبَعْدَ الْوَفَاةِ.

د- الْقِوَامَةُ:

5- الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ عَلَى الْأَمْرِ أَوِ الْمَالِ، أَوْ وِلَايَةُ الْأَمْرِ.

وَاسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْقِوَامَةِ فِي مَعَانٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، مِنْهَا:

وِلَايَةٌ يُفَوِّضُهَا الْقَاضِي إِلَى شَخْصٍ رَاشِدٍ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِ الْمَالِيَّةِ.

وَمِنْهَا: وِلَايَةٌ يَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْقَوَامَةِ، أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْقِوَامَةُ فَقَدْ تَكُونُ قَضَائِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً.

مَشْرُوعِيَّةُ الْوَكَالَةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ: فَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.وَذَاكَ كَانَ تَوْكِيلًا، وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلَا نَكِيرٍ.

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}..فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْحَكَمَ وَكِيلٌ عَنِ الزَّوْجَيْنِ.

أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا مَا وَرَدَ «عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

«وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَأُرْبِحَ فِيهَا دِينَارًا فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالْأُضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَقْسِيمِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ.

«وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوكِلَ وَيُقِيمَ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فِي قَبْضِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَإِلَى مَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ بِأَمَارَةٍ.

«وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي النِّكَاحِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ.

أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا مُنْذُ عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا.

قَالَ قَاضِي زَادَهْ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ، بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلًا ذَا وَجَاهَةٍ لَا يَتَوَلَّى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُوكِلَ غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّوْكِيلُ لَزِمَ الْحَرَجُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

أَرْكَانُ الْوَكَالَةِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْوَكَالَةِ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ (الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ) الْمُوَكَّلُ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْوَكَالَةِ هُوَ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، لِأَنَّ وُجُودَ هَذَا الرُّكْنِ يَسْتَلْزِمُ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهَذَا طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْعَقْدِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ:

8- الصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَيُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ التَّرَاضِي الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْأُخْرَى.

وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فَافْتَقَرَ إِلَى رِضَاهُمَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي تَعْرِيفِ الصِّيغَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَحْكَامِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صِيغَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَقْد ف 6- 27).

أَوَّلًا: الْإِيجَابُ:

تَعْرِيفُهُ:

9- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِيجَابُ هُنَا كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُوَكِّلِ وَيَدُلُّ عَلَى إِذْنِهِ بِالتَّوْكِيلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رَغْبَتِهِ فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ.

بِمَ يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ:

يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ سَوَاءٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ أَوْ بِغَيْرِهَا.

أ- الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ:

10- يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ كَوَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.

كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ بِالتَّوْكِيلِ، كَأَنْ يَأْمُرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ أَيْ يَقُولَ لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فِعْلَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِيهِ.

وَذَلِكَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، » وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}.وَلِأَنَّ أَيَّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْمُوَكِّلِ: وَكَّلْتُكَ.

وَلِأَنَّ الشَّخْصَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَالرِّضَا يَكُونُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

وَالْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً: 11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِلَفْظِ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ: أَذِنْتُ لَكَ فِيهِ، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.

كَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْإِيجَابَ يَتَحَقَّقُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، مِثْلَ: بِعْهُ، أَوْ: أَعْتِقْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، حَيْثُ قَالُوا: الْوَكَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَوَكَّلْتُكَ وَأَشْبَاهِهِ، رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله-: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَبِيعَ دَارِي هَذِهِ، أَوْ: هَوَيْتُ، أَوْ: رَضِيتُ، أَوْ: شِئْتُ، أَوْ: أَرَدْتُ، فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَأُوَكِّلُكَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أُوَكِّلُكَ، لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ.

كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوِّلًا عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، أَوِ اسْتَكْفَيْتُ، أَوْ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّوْكِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً:

12- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ بِالرِّسَالَةِ.

وَصُورَةُ التَّوْكِيلِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ لِفُلَانٍ وَلْيَبِعْهُ، أَوْ يَقُولَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ وَأَخْبِرْهُ أَنْ يَبِيعَ مَالِي الْفُلَانِيَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَبَاعَ الْآخَرُ الْمَالَ بَعْدَ بُلُوغِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَيْهِ، كَانَتِ الْوَكَالَةُ وَالْبَيْعُ صَحِيحَيْنِ.

كَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ أَحَدٌ شَخْصًا غَائِبًا بِأَمْرٍ مَا فَبَلَّغَهُ أَحَدٌ خَبَرَ الْوَكَالَةِ وَقَبِلَ الْآخَرُ، انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَادِلًا أَمْ مَسْتُورَ الْحَالِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ أَأَعْطَى الْخَبَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ أُخْبِرَ بِهِ رِسَالَةً مِنْ طَرَفِ الْآمِرِ، وَسَوَاءٌ أَصَدَّقَ الْغَائِبُ هَذَا الْخَبَرَ أَمْ كَذَّبَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَكِيلًا فِي الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ.

ب- الْإِيجَابُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:

مِنْ صُوَرِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:

الصُّورَةُ الْأُولَى: الْكِتَابَةُ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتَحَقَّقُ بِالْخَطِّ أَوِ الْكِتَابَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى.

وَمَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ أَحَدٌ لآِخَرَ غَائِبٍ كِتَابًا مُعَنْوَنًا وَمَرْسُومًا بِتَوْكِيلِهِ إِيَّاهُ بِأَمْرٍ مَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَكَالَةَ، انْعَقَدَتْ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد ف 13).

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِشَارَةُ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي تَحَقُّقِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الِاعْتِدَادِ بِالْإِشَارَةِ. (ر: إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِعْلُ:

15- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتِمُّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ.

حَيْثُ دَلَّ كَلَامُ الْقَاضِي عَلَى انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِفِعْلٍ دَالٍّ كَبَيْعٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ، كَالْقَبُولِ.

وَبِهَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ قَالَ الْخِرَشِيُّ: الْوَكَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَدُلُّ فِي الْعَادَةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ إِيجَابًا:

16- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْوَكَالَةِ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِمُوجِبِ الْعَادَةِ كَتَصَرُّفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي مَالِهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ سَاكِتَةٌ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَكَالَةِ.

وَكَمَا إِذَا كَانَ رَيْعٌ بَيْنَ أَخٍ وَأُخْتٍ وَكَانَ الْأَخُ يَتَوَلَّى كِرَاءَهُ وَقَبْضَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ دَفَعَ لأُِخْتِهِ مَا يَخُصُّهَا فِي الْكِرَاءِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْعَادَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ السُّكُوتُ إِيجَابًا فِي الْوَكَالَةِ، فَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا عَنْهُ بِسُكُوتِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.

ثَانِيًا: الْقَبُولُ:

الْقَبُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّفْظِ.

أ- الْقَبُولُ بِاللَّفْظِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِاللَّفْظِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لآِخَرَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: قَبِلْتُ، أَوْ قَالَ كَلَامًا آخَرَ غَيْرَ لَفْظِ قَبِلْتُ، مُشْعِرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الْقَبُولَ يَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَبُولَ الْوَكِيلِ لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ، فَلَوْ رَدَّ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ بَعْدَ الْإِيجَابِ بِأَنْ قَالَ: لَا أَقْبَلُ أَوْ لَا أَفْعَلُ، فَلَا يَبْقَى حُكْمِ الْإِيجَابِ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجَدِّدِ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ.

ب- الْقَبُولُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْقَبُولِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الصُّورَةُ الْأَوْلَى: الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ:

18- لِلْفُقَهَاءِ فِي قَبُولِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ ثَلَاثَةَ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي أَصَحِّ الْأَوْجُهِ- وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ مَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فَجَازَ الْقَبُولُ فِيهِ بِالْفِعْلِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ.

وَجَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يَكُونُ الْإِيجَابُ صَرَاحَةً وَالْقَبُولُ دَلَالَةً، فَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْوَكِيلُ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إِيجَابِ الْمُوَكِّلِ، وَحَاوَلَ إِجْرَاءَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُوكَّلِ بِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَبِلَ الْوَكَالَةَ دَلَالَةً وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ وَلَا بُدَّ لِتَحَقُّقِهِ مِنَ اللَّفْظِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ: بِعْ وَاشْتَرِ، يَتِمُّ الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّفْظُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِيجَابُ بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَوَكَّلْتُكَ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فَلَا بُدَّ فِي الْقَبُولِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ إِلْحَاقًا لِصِيَغِ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ وَالْأَمْرِ بِالْإِبَاحَةِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَبُولُ بِالْكِتَابَةِ:

19- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ الْمُعَنْوَنَةِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَبُولُ بِالْإِشَارَةِ:

20- يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ الْمَعْلُومَةِ الْمَفْهُومَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ الْقَبُولُ بِالسُّكُوتِ:

21- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ سُكُوتَ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.

تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ قَبُولُ الْوَكِيلِ فَوْرَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ قَبُولَ وُكَلَائِهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ بِفِعْلِهِمْ وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمْ، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، وَالْإِذْنُ قَائِمٌ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَشْبَهَ الْإِبَاحَةَ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ كَوْنَ الْقَبُولِ عَلَى التَّرَاخِي بِمَا إِذَا لَمَّ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَلِ الَّذِي وَكَّلَ فِيهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ، كَانَ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ.

وَكَذَا لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَصِحُّ إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ بِالزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَكَانَ الْقَبُولُ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْعَوَائِدِ، هَلِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ فَوْرًا فَإِنْ تَأَخَّرَ سَقَطَ حُكْمُ الْخِطَابِ؟ أَوِ الْمُرَادُ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا؟.

أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ:

أَوَّلًا: أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ تَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا:

تَنْقَسِمُ الصِّيغَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى الصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ، وَالصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَالصِّيغَةِ الْمُوَقَّتَةِ.

أ- الصِّيغَةُ الْمُنَجِّزَةُ لِلْوَكَالَةِ:

23- التَّنْجِيزُ هُوَ خِلَافُ التَّعْلِيقِ.وَالتَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.

وَالْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ لِلْوَكَالَةِ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، وَلَا مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ، كَقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ، فَصِيغَةُ الْوَكَالَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُنَجِّزَةٌ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تُعَلَّقْ بِشَرْطٍ، كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُضَفْ إِلَى وَقْتٍ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُنَجِّزَةً.

ب: الصِّيغَةُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَبِعْ هَذَا الطَّعَامَ، وَإِذَا طَلَبَ مِنْكَ أَهْلِي شَيْئًا فَادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»..

وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ حُكْمُهُ وَهُوَ إِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتُهُ، فَكَانَ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّأْمِيرَ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِشَرْطٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشُّرُوطِ وَالْآجَالِ فَاسِدَةٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَشَرَطَ لِلتَّصَرُّفِ شَرْطًا جَازَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ دَارِي وَبِعْهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: وَكَّلْتُكَ الْآنَ، وَلَكِنْ لَا تُبَاشِرِ التَّصَرُّفَ إِلاَّ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِ فُلَانٍ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا، إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرٌ فَيَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الِامْتِثَالُ.

صِيغَةُ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ:

25- الْوَكَالَةُ الدَّوْرِيَّةُ مِنْ قَبِيلِ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرْطِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ هَذَا الْمَالِ وَكُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَإِنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَكُونُ وَكِيلًا، وَكُلَّمَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ تَجَدَّدَتِ الْوَكَالَةُ.

وَسُمِّيَتْ وَكَالَةً دَوْرِيَّةً، لِأَنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْعَزْلِ، فَكُلَّمَا عَزَلَهُ عَادَ وَكِيلًا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ فَلَهُ إِبْطَالُهَا، وَلِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ لَازِمًا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَالْوَكَالَةُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَحْصُلُ التَّوْكِيلُ فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: عَزَلْتُكَ، وَكُلَّمَا وَكَّلْتُكَ فَقَدْ عَزَلْتُكَ، فَقَطْ.

وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ الدَّوْرِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْمُعَلِّقِ إِيقَاعَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّوْكِيلِ وَحَلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَالْعُقُودُ لَا تُفْسَخُ قَبْلَ انْعِقَادِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ، وَمَتَى عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ.وَالثَّانِي لَا تَصِحُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَهُوَ الْتِزَامُ الْعَقْدِ الْجَائِزِ.

فَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ «مَتَى عَزَلْتُكَ» مَفْصُولًا عَنِ الْوَكَالَةِ، فَعَزَلَهُ، نُظِرَ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ، وَاعْتَبَرْنَا عِلْمَهُ فِي نُفُوذِ الْعَزْلِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ.

وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ، أَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَفِي عَوْدِهِ وَكِيلًا بَعْدَ الْعَزْلِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ ثَانِيًا عَلَى الْعَزْلِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ.

فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، نُظِرَ فِي اللَّفْظِ الْمَوْصُولِ بِالْعَزْلِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: إِذَا عَزَلْتُكَ، أَوْ، مَهْمَا، أَوْ: مَتَى، لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ عَوْدَ الْوَكَالَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَإِنْ قَالَ: «كُلَّمَا عَزَلْتُكَ» اقْتَضَى الْعَوْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَبَدًا، لِأَنَّ «كُلَّمَا» لِلتَّكْرَارِ.

ج- الصِّيغَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْوَكَالَةِ:

26- مِنْ صُوَرِ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَكُونُ الصِّيغَةُ فِيهَا مُضَافَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ دَوَابِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ يَقُولُ الْمُوَكِّلُ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ غَدًا، وَيَقْبَلُ الْوَكِيلُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْإِضَافَةِ، زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ.

وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكَالَةَ نُجِّزَتْ فِي الْحَالِ وَعُلِّقَ التَّصَرُّفُ عَلَى تَحَقُّقِ شَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُمْ بِالِاتِّفَاقِ.لِأَنَّهُ عَجَّلَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَوْعِدَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَحَلًّا لِوَقْتِ الْبَيْعِ.

27- أَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى وَقْتٍ كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي، كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالْآجَالِ فَاسِدَةٌ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ تَكُونُ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ وَإِضَافَتِهَا، فَالْإِيجَابُ الْمُضَافُ يَكُونُ سَبَبًا فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ فِي الْإِضَافَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَالًا فَيَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

أَمَّا الْإِيجَابُ الْمُعَلَّقُ فَالتَّعْلِيقُ فِيهِ مَانِعٌ لِصَيْرُورَتِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَعَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ فِي التَّعْلِيقِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ انْعِقَادُ الْوَكَالَةِ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ.

د- الصِّيغَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِلْوَكَالَةِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُؤَقَّتَةً، كَقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: أَنْتَ وَكِيلِي شَهْرًا.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي أَقَّتَهُ الْمُوَكِّلُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْ دَارِي الْيَوْمَ، أَوِ اشْتَرِ لِي الدَّارَ الْيَوْمَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ غَدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِتَوْقِيتِ الْوَكَالَةِ بِالْيَوْمِ، إِلاَّ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ.

وَفِي «مِنْحَةِ الْخَالِقِ» نَقْلًا عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا تَنْتَهِي وَكَالَتُهُ بِمُضِيِّ الْعَشْرَةِ فِي الْأَصَحِّ.

اقْتِرَانُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ:

29- إِذَا اقْتَرَنَتِ الْوَكَالَةُ بِشَرْطٍ، فَإِمَّا أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، أَيَّ شَرْطٍ كَانَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ:

مَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: امْنَعِ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَفْسُدُ بِهِ، لِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِثْبَاتَ يَدِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَصَحَّ الْبَيْعُ بِالْإِذْنِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَفَاسِدُهَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُولُ بِفَسَادِهَا فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَاسِدَةِ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ عَلَى شَرْطٍ وَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الشَّرْطِ، الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ بَطَلَ خُصُوصُ الْوَكَالَةِ فَيَبْقَى عُمُومُ الْإِذْنِ.وَفَائِدَةُ فَسَادِ الْوَكَالَةِ سُقُوطُ الْمُسَمَّى إِنْ سَمَّى لَهُ أُجْرَةً، وَالرُّجُوعُ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ.

وَحَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَذْوَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ فَسَادَ الْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الْوَكِيلِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْوَكَالَةِ لَا بُطْلَانَهَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ.

وَقَالَ أَيْضًا: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، إِنَّ فَسَادَهَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُولُ بِفَسَادِهَا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَسَادِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ كَالْوَدِيعَةِ لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ، وَالْإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ مَنُوطًا بِهِ.

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الِاتِّجَاهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْإِذْنُ لَيْسَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْوَكَالَةِ، فَمَعْنَى فَسَادِ الْوَكَالَةِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ.

أَمَّا الشَّرْطُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ آرَاءً (تُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 79 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-الشوارد ما تفرد به بعض أئمة اللغة (الورق)

(الوَرَق) الوَرَق: الفِضَّة، لغة في الوَرِق، والوَرْق والوِرْق، وقرأَ أبو عُبَيْدَة: (فابْعَثُوا أَحَدَكمُ يوَرَقِكُمْ) (العُضُد) العُضُدُ: لغة خامِسَة في العَضُدِ، وَقَرَأَ الحَسَن، والأَعرجُ، وابنُ عامرٍ، وأَبو عَمْرو (وما كُنْت مُتَّخِذَ المُضلِّينَ أعُضُدًا).

الشوارد ما تفرد به بعض أئمة اللغة-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن القرشي الصغاني-توفي: 650هـ/1252م


22-الغريبين في القرآن والحديث (ورق)

(ورق)

قوله: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} الورق، والورق، والرقة: الدراهم خاصة، ورجل: وارق كبير الورق.

في الحديث: (في الرقة ربع العشر) فأما الورق فهو المال كله.

وفي الحديث: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فأتوا صدقة الرقة).

قال أبو بكر: الرقة معناها في كلامهم الورق وجمعها رقات ورقون وتقول وجدان الرقيق يعطي أفن الأفين تقول: الغنى وقاية للحمق.

وفي الحديث أنه قال أراه لعمار (أنت طيب طيب الورق) أراد بالورق نسله وأولاده، شبهوا بالورق، وورق القوم أحداثهم قاله ابن السكيت.

وفي الحديث (سن الكافر مثل ورقان) يعني في النار وورقان جبل معروف.

وفي حديث الملاعنة (إن جاءت به أورق جعدا) الأورق: الأسمر، وهو الورقة، ومنه قيل للرماد: أورق. وللحمامة ورقاء.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


23-المعجم الغني (حَكَمٌ)

حَكَمٌ- [حكم]:

1- "اِخْتَارُوهُ حَكَمًا بَيْنَهُمَا": الفَاصِلُ بَيْنَهُمَا فِي نِزَاعٍ.

{وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]:

أنْتَ الخَصْمُ وَالحَكَمُ

(المتنبي):

2- "سَيَّرَ الحَكَمُ الْمُبَارَاةَ تَسْييرًا حَسنًا": مَنْ يُسَيِّرُ الْمُبَارَيَاتِ الرِّيَاضِيَّةَ وَيَضْبِطُ سَيْرَها.

3- "رَجُلٌ حَكَمٌ": الْمُسِنُّ.

4- "هُوَ اللَّهُ الحَكَمُ": مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى، أيِ الحَكِيمُ، الحَاكِمُ.

5- "عَبْدُ الحَكَمِ": اِسْمُ عَلَمٍ مُرَكَّبٌ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


24-طِلبة الطلبة (ورق)

(ورق):

وَالْوَرِقُ الْفِضَّةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْوَرْقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ أَيْضًا وَالْوِرْقُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ أَيْضًا عَلَى التَّخْفِيفِ وَنَقْلِ كَسْرَةِ الرَّاءِ إلَى الْوَاوِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْفَخِذِ وَهُوَ اسْمٌ لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ وَالرِّقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَأَصْلُهُ وِرْقَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتَسْكِينِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ كَالْعِدَةِ وَالزِّنَةِ وَالصِّفَةِ وَتُجْمَعُ عَلَى الرِّقِينَ تَقُولُ الْعَرَبُ إنَّ الرِّقِينَ تُغَطِّي أَفَنَ الْأَفِينِ الْأَفَنُ نَقْصُ الْعَقْلِ وَالْأَفِينُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ الدَّرَاهِمُ تَسْتُرُ عَيْبَ الْمَعِيبِ وَجَهْلَ الْجَاهِلِ

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


25-تاج العروس (ورق)

[ورق]: الوَرْقُ مُثَلَّثة، وكَكَتِف، وجَبَل خَمْس لُغاتٍ، حَكَى الفَرَّاءُ منها وَرْقًا بالفتحِ، وَوَرِقًا ككَتِف، ووِرْقًا بالكسر، مثل: كَبِد وكِبْد؛ لأَنَّ فيهم من يَنْقُل كَسْرةَ الرَّاءِ إِلى الواو بعد التَّخْفِيف، ومنهم مَنْ يَتْرُكها على حالِها، كما في الصّحاح. وقرأَ أَبو عَمُرو، وأَبو بَكْر، وحَمزةُ، وخَلَف: «بوَرْقكم» بالفَتْح. وعن أَبي عَمْروٍ أَيضًا، وابن مُحَيْصِن «بِوِرْقِكم» بكَسْر الوَاوِ. وقرأَ أَبو عبيدَةَ بالتَّحرِيك، وقرأَ أَبو بكر «بوُرْقِكم» بالضَّم: الدَّراهِم المَضْرُوبَةُ كما في الصِّحاح. وقال أَبو عبيَدَة: الوَرَق: الفِضَّةُ كانت مَضْروبة كدَراهِم أَوْلا، وبه فُسِّر حَدِيثُ عَرفَجَةَ: أَنَّه لَمَّا قُطِع أَنْفُه اتَّخَذ أَنْفًا من وَرِق، فأَنْتَن عليه، فاتَّخَذ أَنْفًا من ذَهَب.

وحَكَى عن الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ إِنما اتَّخذ أَنْفًا من وَرَق «بفَتْح الرّاءِ»، أَرادَ الرَّقَّ الذي يُكْتَبُ فيه، لأَنَّ الفِضَّةَ لا تُنْتِنُ.

قالَ ابنُ سيدَه: وكُنتُ أَحسِب أَنَّ قولَ الأَصمعيّ إِنَّ الفِضَّة لا تُنْتِن صَحِيحًا، حتى أَخبَرِني بعضُ أَهلِ الخِبْرة أَنَّ الذَّهَبَ لا يُبلِيه الثَّرَى، ولا يُصْدِئه النَّدَى، ولا تَنقُصُه الأَرضُ، ولا تأْكُله النّارُ. فأَمّا الفِضَّةُ فإِنَّها تَبْلَى، وتَصْدَأُ، ويَعلُوها السّوادُ، وتُنْتِنُ ج: أَوراقٌ يُحْتَمل أَن يكونَ جمع وَرِق ككَتِف، وجمع وِرْق، بالكَسْرِ وبالضَّم وبالتَّحريك.

ووِراق بالكَسْرِ نقله الصّاغانيُّ كالرِّقَةِ* كعِدَة، والهاءُ عِوَضٌ عن الواو. ومنه الحَدِيث: «في الرِّقَة رُبعُ العُشْرِ». وفي حَدِيثٍ آخر: «عَفوْتُ لكم عن صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيق، فهاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ» يُرِيد الفِضَّةَ والدَّراهِم المَضْروبةَ منها.

وأَنشَدَ ابنُ بَرِّيّ قولَ خالدِ بنِ الوَلِيدِ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ في يومِ مُسَيْلِمةَ:

إِنَّ السِّهامَ بالرَّدَى مُفَوَّقَهْ *** والحَرْبَ وَرْهاءُ العِقال مُطْلَقَه

وخالِدٌ من دِينِه على ثِقَهْ *** لا ذَهَبٌ يُنْجِيكُمُ ولا رِقَهْ

قال ابنُ سِيدَه: وربّما سُمِّيت الفِضَّة وَرَقًا، يقال: أَعطاه أَلفَ دِرْهم رِقَةً لا يُخالِطُها شَيْ‌ءٌ من المالِ غَيرها.

وقال أَبو الهَيْثم: الوَرِق والرِّقَة: الدّراهم خاصّة.

وقال شَمِر: الرِّقَةُ: العَيْن. ويُقال: هي من الفِضَّة خاصّةً. ويقال: الرِّقَةُ: الفِضَّةُ والمَالُ، عن ابنِ الأَعْرابِيِّ، وأَنشدَ:

فلا تَلْحَيا الدُّنْيا إِليَّ فإِنَّنِي *** أَرَى وَرِقَ الدُّنْيا تَسُلُّ السّخائمَا

ويا رُبَّ مُلْتاثٍ يَجُرُّ كِساءَه *** نَفَى عنه وِجدانُ الرِّقينَ العَزائِما

يَقُول: يَنفِي عنه كَثرةُ المال عَزائمَ النّاس فيه أَنَّه أَحمَقُ مَجْنون. قال الأَزهَرِيّ: لا تَلْحَيا: لا تَذُمّا. والمُلْتاث: الأَحمَق. قال ابنُ بَرِّيّ: والشِّعْر لُثمامَة السَّدُوسِيّ.

والوَرَّاقُ: الكِثيرُ الدَّراهم كما في الصَّحاح.

وقال غَيرُه: رَجُل وَرّاقٌ: صاحِبُ وَرَق. وقَرَأَ عليٌّ رضي ‌الله‌ عنه: «فابْعَثُوا بوَرّاقِكُم» أَي بصَاحِب وَرَقِكم. قالَ الرّاجِزُ:

يا رُبّ بَيْضاءَ من العِراقِ *** كأَنَّها في القُمُص الرِّقاقِ

مُخَّةُ ساقٍ بينَ كَفَّيْ ناقِ *** أَعْجَلَها النّاقِي عن احْتِراقِ

تأْكُلُ من كِيسِ امْرِئٍ وَرَّاقِ

وقال ابنُ الأَعرابيّ: أَي كَثِيرُ الوَرَقِ والمَالِ.

والوَرَّاقُ أَيضًا: مُوَرِّقُ الكُتُب كما في العُبابِ. وفي الصِّحاح: رجل وَرَّاق، وهو الَّذِي يُوَرِّقُ ويَكْتُب، وحِرْفَتُه الوِراقَةُ بالكَسْر.

والوَرَاق كَسحَاب: خُضْرَةٌ الأَرْضِ من الحَشِيشِ. قالَ ابنُ الأَعرابيِّ: ولَيْس من الوَرَق أَي: من وَرَقِ الأَرض في شَيْ‌ءٍ. وقال أَبو حَنِيفةَ: هو أَن تَطَّرِدَ الخُضْرةُ لعَيْنِكَ، قال أَوسُ بنُ حَجَرٍ يَصِف جَيْشًا بالكَثْرةِ كما في الصّحاح، ونَسَبَه الأَزْهَرِيُّ لأَوْسِ بنِ زُهَيْر:

كأَنّ جِيادَهُنَّ برَعْنِ زُمٍّ *** جَرادٌ قد أَطاع له الوَراقُ

ويُرْوَى: برَعْن قُفٍّ. قالَ ابنُ سِيدَه: وعِنْدِي أَن الوَرَاق من الوَرَق.

وأَنشدَ الأَزْهَرِيُّ:

قُلْ لِنُصَيْبٍ يَحْتَلِبْ نارَ جَعْفَرٍ *** إِذا شَكِرَتْ عند الوَراقِ جِلامُها

ومُحَمَّد بنُ عَبْدِ الله بنِ حَمْدَوَيْهِ بن الحَكَم بن وَرْق، كوَعْد السّماحيُّ: مُحَدِّث، روى عن أَبِي حَكِيم الرّازِيّ، وطَبَقَتِه، مات سنَة تِسْع عَشْرة وثَلثمِائة.

والوَرَق ـ مُحَرَّكة ـ من الكِتاب والشَّجَر: معروف معروف، واحِدَتُه بِهاءٍ. أَما وَرَق الكِتاب فأُدُمٌ رِقاقٌ. ومنه كأَنَّ وَجهَه وَرَقةُ مُصْحَفٍ، وهو مَجازٌ. وأَما وَرَق الشَّجَرِ فقالَ أَبو حَنِيفَةَ: هو كُلُّ ما تَبَسَّطَ تَبَسُّطًا وكان له عَيْر في وَسَطه تَنْتَشِرُ عنه حاشِيَتاه.

ومن المجازِ: الوَرَق: ما اسْتَدارَ من الدَّمِ على الأَرْضِ. وقالَ ابنُ الأَعرابيِّ: مِقْدارِ الدِّرْهَم من الدَّم، أَو هو ما سَقَط من الجِراحَة عَلَقًا قِطَعًا. قال أَبو عُبَيَدَة: أَوَّله وَرَق، وهو مِثْل الرَّشّ، والبَصِيرة: مثل فِرْسِن البَعِير، والجَدِيَّةُ أَعظَم من ذلك، والإِسْباءَةُ في طُولِ الرُّمح، والجمع الأَسَابيّ. كذا في الصِّحاح.

وقال عَمْروٌ في ناقَته، وكان قَدِمَ المَدِينةَ:

طالَ الثَّواءُ عليه بالمَدِينةِ لا *** تَرْعَى وبِيعَ له البَيْضاءُ والوَرَقُ

أَرادَ بالبَيْضاءِ الحَلِيَّ، وبالوَرَق: الخَبَط. وبِيع: اشْتُرِي.

والوَرَق: الحَيُّ من كُلّ حَيَوان قال أَبو سَعِيد: رأَيتُه وَرَقا، أَي: حَيًّا، وكُلُّ حَيٍّ وَرَق، لأَنهم يَقُولون: يَمُوتُ كما يَمُوتُ الوَرَق، ويَيْبَس كما يَيْبَس الوَرَق، قال الطّائِيُّ:

وهَزَّت رأْسَها عَجَبًا وقالت: *** أَنا العُبْرِي أَإِيّانا تُرِيدُ؟

وما يَدْرِي الوَدُودُ لعلَّ قَلْبِي *** ولو خُبِّرتَه وَرَقًا جَلِيدُ

أَي: ولو خُبّرته حَيًّا فإِنه جَلِيد.

ومن المجاز: الوَرَق: المَالُ من إِبلٍ ودَراهِم وغَيْرِها، قال العَجَّاج:

إِيَّاكَ أَدعُو فتَقَبَّلْ مَلَقِي *** واغْفِر خَطَايَاي وثَمِّرْ وَرَقِي

أَيَ: مالِي، نَقَله الجوهَرِيُّ.

وقال ابنُ الأَعرابي: الوَرَق: المَالُ الناطِقُ كله.

وقال الزّمخْشَرِيّ: ثَمَّر الله ورَقَه، أَي: ماشِيَتَه.

والوَرَق من القوم: أَحْداثُهم عن ابنِ السِّكِّيت، وهو مَجازٌ، وأَنشَدَ لهُدْبَة بنِ الخَشْرَمِ يَصِفُ قومًا قَطَعُوا مَفازَةً.

إِذا وَرَقُ الفِتْيان صارُوا كأَنَّهُم *** دَراهِمُ منها جائِزاتٌ وزائِفُ

أَو الضِّعاف من الفِتْيانِ عن اللَّيْثِ.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الوَرَقُ: حُسْن القَوْم وجَمالُهم ونَصُّه في الجَمْهرة: وَرَقُ الفِتْيانِ: جَمالُهم وحُسْنُهم، وهو مَجازٌ.

وقال اللَّيْثُ: الوَرَقُ: جَمالُ الدُّنْيا وبَهْجَتُها. ونَصُّ العَيْن: وَرَق الدُّنيا: نَعِيمُها وبَهْجَتُها، وأَنْشَدَ:

فما وَرَقُ الدّنيا بِباقٍ لأَهْلِها

ومن المَجاز: الوَرَقة بهاءٍ: الخَسِيسُ من الرّجال.

والوَرَقة: الكَرِيمُ من الرِّجال عن ابنِ الأَعرابيِّ ضِدٌّ.

ورجُلٌ وَرَقَة، وامرأَة وَرَقَةٌ: خَسِيسان.

وفي الأَسَاس: يقال: إِنّه وإِنَّها وَرَقَة: إِذا كانا ضَعِيفَين حَدِيثَيْن.

وَوَرَقَة: د، باليَمَن من نَواحِي ذَمَار.

ووَرَقة بنُ نَوْفل بنِ* أَسَدِ بنِ عَبْد العُزَّى بنِ قُصَيّ وهو ابنُ عَمِّ أُمِّ المؤمنين، وجدَّةِ أَهل البَيْتِ خَدِيجَة بنتِ خُوَيْلِد بن أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى، رضي ‌الله‌ عنها. وقال ابنُ مَنْدَه: اختُلِف في إِسْلامِه، والأَظْهَرُ أَنّه مات قَبْل الرِّسالة، وبَعْد النُّبُوَّة.

ووَرَقَةُ بنُ حَابِس التَّمِيمِيّ: صَحابِيُّ رضي ‌الله‌ عنه، قَدِم نَيْسابُور، قاله الحَاكِم، قَدِم مع الأحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، ورَجُلانِ من الصَّحابة يُعرَفان بوَرَقَةَ، أَحدُهما: من بَنِي أَسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى، وقد رَوَى عن ابنِ عَبّاس، والثّانِي: له ذِكْرٌ في حَدِيثٍ ذَكَره أَبو مُوسى.

وشَجَرَةٌ وَارِقة ووَرِيقَة وَوَرِقَة الأَخِيرةُ على النَّسَب؛ لأَنه لا فِعْلَ له: كَثِيرَةُ الوَرَق، وقد وَرَق الشَّجَرُ يَرِقُ كوَعَد يَعِد، وأَوْرَق إِيراقًا وَورَّق تَوْرِيقًا. قالَ الأَصمعيُّ: وأَوْرَقَ بالأَلِف: أَكْثَر، أَي: خَرَج ورَقُه. وقالَ أَبو حَنِيفَة: إِذا ظَهَر وَرَقُه تَامًّا.

والوِراقُ كَكِتابٍ: وَقْتُ خُروجِه أَي: الوَقْتُ الذي يُورِقُ فيه الشجر.

والوَرَقَة*: الشَّجَرةُ الخَضْراءُ الوَرَق الحَسَنَتُه، وقيل: الكَثِيرَةُ الأَوْراق.

والرِّقةُ كعِدَة: أَولُ نَبات النَّصِيِّ والصِّلِّيان والطَّرِيفة رَطْبًا. يُقال: رَعَيْنا رِقَة الطَّرِيفة.

وقال ابنُ الأَعرابيِّ: يُقال للنَّصِيّ والصِّلِّيان إِذا نَبَتا: رِقةٌ ما داما رَطْبَيْنِ، وأَيضًا رِقَةُ الكَلإِ: إِذا خَرَج له وَرَق.

وقال ابنُ سَمْعان: الرِّقة: الأَرضُ التي يُصِيبُها المَطَر في الصَّفَرِيّة أَو في القَيْظِ، فَتَنْبُتُ، فتكون خَضْراءَ، فيُقال: هي رِقةٌ خَضْراء.

وَوَرْقان: موضع. قال جَمِيلٌ:

يا خَلِيلَيَّ إِنَّ بَثْنَةَ بانَت *** يوم وَرْقانَ بالفُؤاد سَبِيّا

ووَرِقان بكَسْر الرَّاءِ: جَبَل أَسْود من أَعظَم الجِبال بَيْن العَرْجِ والرُّوَيْثَة يدفَعُ سَيلَه في رِئْم، وهو أَول جَبَل بِيَمِينِ المُصْعِدِ من المَدِينة إِلى مَكَّةَ حَرَسهما الله تَعالَى مُنْقاد من سَيَالَةَ إِلَى المُتَعَشَّى، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد للأَحْوصِ:

وكَيفَ تُرَجِّي الوَصْلَ منها وأَصبَحَت *** ذُرَا وَرِقان دُونَها وحَفِيرُ

هكذا قَيَّدَه أَبو عُبَيد البَكْرِيُّ وجَماعةٌ. ويُقال: إِنَّ الذي ذَكَره جَمِيلٌ هو هذا الجَبَل، وإِنما خَفَّفه بسُكُون الرَّاءِ. قال السُّهَيُليُّ في الرَّوْض: ووَقَع في نُسْخةِ أَبي بَحْرٍ سُفْيانَ بنِ العَاصِي الأَسَدِيّ «بفَتْح الرّاءِ».

ومَوْرَقُ، كمَقْعَد: اسمُ مَلِك الرُّوم. قالَ الأَعْشَى:

فأَصْبَحْتُ قد وَدَّعتُ ما كانَ قد مَضَى *** وقَبْلِيَ ما ماتَ ابنُ سَاسَان مَوْرَق

أَراد كِسْرَى بنَ ساسان.

ومَوْرَق: وَالِدُ طَرِيفٍ المَدَنيّ، هكَذا في العُباب.

وفي التَّبْصِير: المَدِينِيّ المُحَدِّث عن إِسْحاق بنِ يَحْيى بنِ طَلْحة وغَيْره، رَوَى الزُّبيرُ بنُ بَكَّار عن يَحْيى بنِ مُحمد عنه.

ومَوْرَقٌ شاذٌّ في القِياس لأَنَّ ما كانَ فَاؤُه حَرفَ عِلّة فإِنَّ المَفْعَلَ منه مَكْسُور العَيْن، مثلُ مَوْعِد ومَوْرِد. ولا نَظِيرَ لها سِوَى مَوْكَل ومَوْزَن ومَوْهَب ومَوْظَب ومَوْحَد كما في العُباب.

وفي القَوْس وَرْقَةٌ، بالفَتْح هكذا ضَبَطه كُراع، أَي: عَيْب وهو مَخْرَج الغُصْنِ إِذا كان خَفِيًّا. قالَ ابنُ الأَعرابيِّ: فإِذا زَادَتْ فهي الأُبْنَة، فإِذا زَادَت فهي السَّحْتَنَة.

وقال الأَصمَعِيُّ: الأَوْرَقُ من الإِبل: ما في لَوْنه بَياضٌ إِلى سَوادٍ.

والوُرْقَةُ: سَوادٌ في غُبْرة، وقيل: سَوادٌ وبَياض كدُخَان الرِّمْثِ يكونُ ذلك في أَنْواعِ البَهائمِ، وأَكثرُ ذلِك في الإِبِلِ. قال أَبو عُبَيدٍ: وهو من أَطْيَب الإِبِلِ لَحْمًا لا سَيْرًا وعَمَلًا أَي: لَيْس بمحمودٍ عندَهم في عَمَله وسَيْره.

وقال الأَصمَعيُّ: إِذا كان البَعِيرُ أَسْودَ يُخالِط سوادَه بَياضٌ كدُخان الرِّمْثِ فتِلك الوُرْقَة، فإِذا اشْتَدَّتْ وُرْقَتُه حتى يَذْهَب البَياض الذي هو فيه فهو أَدْهَم. ويقال: جَمَلٌ أَورَقُ، وناقةٌ وَرْقاءُ. وفي حَدِيث قَيْس: «على جَمَل أَوْرَق». وفي حَدِيث ابنِ الأَكْوعِ: «خَرجتُ أَنا ورَجُلٌ من قَوْمي وهو على نَاقَة وَرْقاءَ» وقال ابنُ الأَعرابيّ: قال أَبو نَصْر النُّعامِيّ: هَجِّر بحَمْراءَ، وأَسْرِ بوَرْقاءَ، وصَبِّح القومَ على صَهْباء قِيلَ له: ولِمَ ذلِك؟ قال: لأَنَّ الحَمراءَ أَصبرُ على الهَواجِر، والوَرْقاءَ أَصبَرُ على طُول السُّرَى، والصَّهْباء: أَشهَرُ وأَحسَنُ حين يُنْظَرُ إِليها.

ومن ذلِك قِيلَ: الرَّمادُ أَوْرَقُ.

ومن المَجاز: عَامٌ أَورَقُ، أَي: لا مَطَرَ فيه. قال جَنْدَلٌ:

إِن كانَ عَمِّي لكَرِيمَ المَصْدَقِ *** عَفًّا هَضُومًا في الزَّمانِ الأَوْرَقِ

والأَوْرَقُ: اللَّبَنُ الذي ثُلُثاه مَاءٌ، وثُلُثه لَبَنٌ. قال:

يَشْربهُ مَحْضًا ويَسْقِي عِيالَه *** سَجَاجًا كأَقْرابِ الثَّعالِبِ أَوْرَقَا

الجمع: الكُلِّ وُرْقٌ بالضّم.

والوَرْقاء: الذِّئْبَة، والذَّكَر أَورَقُ. ويُقال: هو من وُرْقِ الذّئاب، وقد شَبَّهُوا لَونَ الذّئبِ بلون دُخان الرِّمْثِ؛ لأَن الذّئبَ أَوْرَقُ. قال رُؤْبةُ:

فلا تَكُونِي يابنَةَ الأَشَمِّ *** وَرْقاءَ دَمَّى ذِئْبَها المُدَمِّي

وقالَ أَبو زَيْدٍ: هو الَّذي يَضْرِبُ لونُه إِلى الخُضْرةِ، قالَ: والذِّئاب إِذا رَأَتْ ذِئْبًا قد عُقِرَ وظَهَرَ دَمُه أَكَبَّتْ عليه فقَطَّعَتْه، وأُنُثْاه مَعَها. وقِيلَ: الذِّئْبُ إِذا دُمِّيَ أَكَلَتْه أُنْثاهُ، فيَقُولُ هذَا الرَّجل لامرأَتِه: لا تَكُونِي إِذا رَأَيْتِ الناسَ قد ظَلَمُوني مَعَهم عَلَيَّ، فتَكُونِي كذِئْبَة السَّوْءِ.

والوَرْقاءُ: الحَمَامَةُ. قال عُبَيْد بنُ أَيُّوبٍ العَنْبَرِيُّ:

أَإِن غَرَّدَت وَرْقاءُ في رَوْنَقِ الضُّحَى *** على فَنَنٍ رِئْدٍ تَحِنُّ وتَطْرَبُ

قالَ الحَسَنُ بنُ عبدِ الله بنِ مُحمّدِ بنِ يَحْيى الكاتِب الأَصبِهاني في كِتاب الحَمام المَنْسُوب [إِليه] الأَوْرَق: الَّذِي لونُه لَوْنُ الرَّمادِ فيه سَوادٌ. يُقالُ: أَورَق وَوَرْقاء، والجَمْع الوُرْقُ، قال:

وما هَاجَ هذَا الشَّوقَ غَيرُ حَمامةٍ *** من الوُرْقِ حَمَّاءِ الجَناح بَكُورِ

غَدَتْ حينَ ذَرَّ الشَّرْقُ ثم تَرنَّمت *** بلا سَحَلٍ جافٍ ولا بصَفِيرِ

وقال ذُو الرُّمَّةَ:

وماء تَجافَى الغَيثُ عنه فما بِه *** سَواءَ الصَّدَى والخضّف الوُرْق حاضِرُ

وردتُ اعتِسافًا والثُّريَّا كأَنَّها *** وراءَ السِّماكَيْنِ المَهَا واليَعافِرُ

ج: وَراقَى، وَوِراق، كصَحارَى وصِحار، والنِّسْبَةُ وَرْقاوِيّ كما في الصّحاح.

ومن أَمثالِهم: جاءَنا بأُمِّ الرُّبَيْقِ على أُرَيْق: إِذا جاءَ بالدَّاهِيَةِ المُنْكَرة، تَقدّم ذِكْرُه في: «أَرق». وهذا مَوضِع ذِكْره كما فَعَله الجوهَرِيُّ والأَزْهَرِيُّ، فإِنَّ أُريْقًا مُصَغَّرُ أَوْرَق على التَّرخِيم، كما صَغَّرُوا أَسْودَ على سُوَيد، وأُرَيْق في الأَصْل وُرَيْق.

وبُدَيْلُ بنُ وَرْقاءَ بنِ عَبدِ العُزَّى بن رَبِيعةَ الخُزاعِيّ: صَحابِيُّ رضي ‌الله‌ عنه، أَسْلَم هو وابْنُه عَبدُ الله وَحكِيمُ بنُ حِزام، وكانَ ابْنُه عَبدُ الله سَيِّدَ خُزاعةَ، قُتِل مع أَخِيه بصِفِّين، رضي ‌الله‌ عنهم.

وأَوْرَقَ الرجلُ: كَثُر مَالُه يَعْنِي به الماشِيَةَ ودَراهِمُه.

ومن المَجازِ: أَورَقَ الصائِدُ أَي: لم يَصِد. وفي المُحْكَم: أَخْطَأَ وخَابَ. ويُقال: أَوْرَقَ الحَابِلُ إِيراقًا، فهو مُورِقٌ: إِذا لم يَقَع في حِبالَتِه صَيْدٌ. وكذا أَوْرَق الطَّالِبُ للحاجَةِ: إِذا لم يَنَلْ وأَخفَقَ بمَعناه.

وأَوْرَقَ الغَازِي: إِذا لم يَغْنَم فهو مُورِقٌ، ومُخْفِقٌ، وهو مجاز.

ومُورَق، بالضَّمِّ وفَتْحِ الرَّاءِ، مُخَفَّفةً: موضع بفارِس ولو قالَ: كمُكْرَمٍ كان أَخْصَر.

ومُورِّق كمُحَدِّث ابن مُهَلِّبٍ يَروِي عن أَبي بَكْر الصِّدِّيق رضي ‌الله‌ عنه، وعنه بِشْرُ بنُ غالبٍ.

وأَبو المُعْتَمِر مُورِّق بن مُشَمْرِخِ العِجْلِيّ من أَهْلِ البَصْرةِ، يَرْوِي عن أَبي ذَرٍّ، رضي ‌الله‌ عنه، وعنهُ أَهلُ العِراقِ، وكانَ من العُبّادِ الخُشْن، ماتَ في ولايةِ ابن هُبَيْرة سنة خَمْسٍ ومائة: تَابِعِيّانِ ذكرَ الأَخيرَ ابنُ حِبّان في الثّقاتِ. أَمّا الأَول فأَوْرَدَه الذّهَبِيُّ في ذَيْل الدِّيوان، وقالَ فيه: إِنَّه مَجْهُول.

ومُورِّق بن سُخَيْت: مُحدِّث ضَعِيفٌ، رَوَى عن أَبي هِلال، تَفرَّدَ بحَدِيثٍ، وفيه جَهالَة، كذا ذَكَره الذّهبِيُّ في الدّيوان.

وقال النَّضْر: ايراقَّ العِنَبُ يَوْرَاقُّ: إِذا لَوَّن فهو مُوراقّ، كذا نَصّ العُباب. وفي اللسان: اوراقَّ العِنَبُ يوْراقّ ايرِيقَاقًا: إِذا لَوَّنَ، قاله النَّضْرُ.

والوُرَيْقة كجُهَيْنة: موضع. قالَ ابنُ دُرَيدٍ: زَعَمُوا. والَّذِي في الجَمْهَرة كَسَفِينةٍ.

وتَوَرَّقَت النَّاقةُ: إِذا أَكَلت الوَرَقَ. ويُقال: إِذا رَعَت الرِّقةَ.

ويُقال: ما زِلتُ مِنك ولَك مُوارِقًا: أَي: قَرِيبًا لك مُدانِيًا منك.

ويُقال: اتَّجِرْ فإِنَّ التِّجارة مَوْرَقَةٌ للمَالِ، كمَجْلَبَة أَي: مُكَثِّرة ومَظِنّة للنّموِّ والبَرَكة.

* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه:

قالَ اللِّحْيانِيّ: وَرَقَت الشَّجَرُة وَرْقًا: أَلْقَتْ وَرَقَها.

ويُقال: رِقْ هذه الشّجرة وَرْقًا، أَي: خُذْ وَرَقَها، وقد وَرقتُها أَرِقُها وَرْقًا، فهي مَوْرُوقَة.

وفي الحَدِيث أَنّه قال لعَمّار: «أَنتَ طَيِّبُ الوَرَقِ» أَرادَ به نَسْلَه تَشْبِيهًا بوَرَقِ الشَّجر؛ لخُرُوجِها منها.

وما أَحْسَنَ وَرَاقَه وأَوراقَه؛ أَي لِبْسَته وشارَتَه، على التَّشْبِيه بالوَرَقِ.

واخْتَبَطَ منه وَرَقًا: أَصابَ منه خَيْرًا.

والوَرِيقَةُ: الشَّجرةُ الحَسَنةُ الوَرَقِ، عن أَبي عَمْروٍ.

وفَرْعٌ وَرِيقٌ: كَثِير الوَرَق. قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ رضي ‌الله‌ عنه يَصِف سَرْحَةً:

تَنَوَّطَ فيها دُخَّلُ الصَّيْفِ بالضُّحَى *** ذُرَى هَدَباتٍ فَرْعُهُنَّ وَرِيقُ

والوَرَق: الدُّنْيا.

وَرَق الشَّبابِ: نُضْرَتُه وحَدَاثَتُه، عن ابنِ الأَعرابيِّ.

وحُكِيَ في جَمْع الرِّقة: رِقاتٌ.

والمُسْتَورِقُ: الذي يَطْلب الوَرِق. قالَ أَبو النَّجْم:

أَقبلْت كالمُنْتَجِع المُسْتَورِق

وأَنشد ثَعْلب:

إِذا كَحَلْنَ عُيونًا غيرَ مُورِقَةٍ *** رَيَّشْن نَبْلًا لأَصْحاب الصِّبا صُيُدَا

قال: يَعْنِي غيرَ خائِبة.

وأَوْرَقَ الغَازِي: إِذا غَنِمَ، وهو من الأَضْداد، قال:

أَلم تَرَ أَنَّ الحَرْبَ تُعْوِجُ أَهلَها *** مِرارًا وأَحْيانًا تُفِيدُ وتُورِقُ

والأَوْرَقُ: الأَسمَرُ من النّاسِ. ومنه حَدِيثُ المُلاعَنَة: «إِن جاءَتْ به أَوْرَقَ جَعْدًا جُمالِيًّا» قالَ أَبو عُبَيْد: ومِنْ أَمثالِهم: «إِنَّه لأَشْأَمُ من وَرْقاءَ». وهي مَشْؤومة يعني النّاقَة.

ورُبَّما نَفَرَتْ فذَهَبت في الأَرْضِ. وقال أَبو حَنِيفَةَ: نَصْلٌ أَوْرَقُ: بُرِدَ أَو جُلِيَ، ثم لُوِّح بعدَ ذلك عَلَى الجَمْر حَتَّى اخضَرَّ، قال العَجَّاج:

عليه وُرْقان القِرانِ النُّصَّلِ

وَوَرَقة الوَتَرِ: جُلَيْدة تُوضَع على حَزِّه، عن ابن الأَعرابِيِّ.

والوَرْقاءُ: شُجَيْرَة تَسمُو فوقَ القامةِ، لها وَرقٌ مُدوَّر واسعٌ دقيقٌ ناعِمٌ تأْكُلُه الماشِيَةُ كلُّها، وهي غَبْراءُ السّاقِ، خَضْراءُ الوَرَقِ، لها زَمَعٌ شُعْرٍ فيه حَبٌّ أَغبَرُ مثلُ الشَّهْدانَج، تَرْعاه الطَّيرُ، وهو سُهْلِيّ يَنْبتُ في الأَودِيَةِ، وفي جَنَباتَها، وفي القِيعانِ، وهي مَرْعىً.

والوِراقُ، بالكَسْرِ: موضع. قال الزِّبْرِقان:

وعَبدٍ من ذَوِي قَيْسٍ أَتانِي *** وأَهلِي بالتَّهائِمِ فالوِراقِ

وثَنّاهُ ابنُ مُقبِل فقالَ:

رآها فُؤادِي أُمَّ خِشْف خَلالَها *** بقُورِ الوِراقَيْنِ السَّرَاءُ المُصَنِّفُ

قالَ الجَوْهَريُّ: النِّسْبةُ إِلى وَرْقاءَ ـ اسم رَجُل ـ: وَرْقاوِيّ، أَبدَلُوا من هَمْزةِ التّأْنِيثِ واوًا.

والوَرَّاق، ككَتّان: قَريَتان بالقُرب من مِصْر على شاطئِ النيلِ.

والوَرَق، مُحَرَّكة: قَرْية من أَعْمال الغربِيَّة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


26-تاج العروس (أهل)

[أهل]: أَهْلُ الرَّجُلِ عَشيرَتُه وذُوو قُرْباهُ ومنه قَوْلُه تعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها}. وفي بعضِ الأَخْبَارِ أنَّ لله تعَالَى مَلِكًا في السماءِ السابعةِ تَسْبيحُه سُبْحانَ من يَسُوقُ الأَهْلَ إلى الأَهْلِ. وفي المَثَلِ: الأَهْلُ إلى الأَهْلِ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ إلى السَّهْلِ وقالَ الشاعِرُ:

لا يمنعك خفضُ العيشِ في دعةٍ *** نزوعَ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ

تَلْقَى بكلّ بلادٍ إنْ حَلَلْتَ بها *** أهْلًا بأهلٍ وجيرانًا بجيرانِ

الجمع: أَهْلُونَ قالَ الشنفرى:

ولي دُونَكمْ أَهْلونَ سِيد عَمَلَّسٌ *** وأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وعرفاءُ جَيْأَلُ

وقال النابغَةُ الجَعْدِيُّ رضي ‌الله‌ عنه:

ثلاثة أهلينَ أفنيتُهُمْ *** وكان الالهُ هو المُسْتَآسا

وأَهالٍ زَادُوا فيه الياءَ على غيرِ قياسٍ كما جَمَعُوا ليلًا على ليالٍ وقد جاءَ في الشعرِ آهالٌ مِثْل فَرْخٍ وأَفْراخٍ وزَنْدٍ وأَزْنَادٍ وأَنْشَدَ الأَخْفَشُ:

وبَلْدَةٍ ما الإِنْسُ من آهالِها *** تَرَى بها العَوْهَقَ من رِئالِها

وأَهْلاتٌ بتَسْكِين الهاءِ على القياسِ ويُحَرَّكُ قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:

فهُمْ أَهَلاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بنِ عاصم *** إذا أَدْلَجوا باللَّيْلِ يَدْعُونَ كَوْثَرا

قال أَبُو عَمْرٍو: كَوْثر شِعَارٌ لَهُم. وسُئِلَ الخَلِيلُ: لم سَكَّنُوا الهاءَ في أَهْلُون ولم يُحَرِّكُوها كما حَرَّكُوا أَرَضِين؟ فقالَ: لأَنَّ الأَهْلَ مُذَكَّرٌ، قيلَ: فلِمَ قالُوا أَهَلات؟ قالَ: شبَّهُوها بأَرَضات، وأَنْشَدَ بَيْتَ المُخَبَّلِ، قالَ: ومن العَرَبِ مَنْ يَقُولُ أَهْلات على القياسِ. وأَهَلَ الرجلُ يَأهُلُ ويَأْهِلُ من حَدَّيِ نَصَرَ وضَرَبَ أُهولًا بالضمِ هذا عن يُونُسَ، زَادَ غيرُه: وتأَهَّلَ واتَّهَلَ على افْتَعَلَ اتَّخَذَ أَهْلًا وقال يُونُس: أَي تَزَوَّجَ. وأَهْلُ الأَمْرِ وُلاتُه وقد تقدَّم في أُولي الأَمْرِ. والأَهْلُ للبيتِ سُكَّانُه ومن ذلك أَهْلُ القُرَى: سُكَّانُها. والأَهْلُ للمَذْهَبِ مَنْ يَدِينُ به ويَعْتَقِدُه. ومن المجازِ الأَهْلُ للرجُلِ زَوْجَتُه ويَدْخلُ فيه الأَولادَ، وبه فُسِّرَ قَوْلُه تعَالَى: {وَسارَ بِأَهْلِهِ} أي زَوْجَتُه وأَوْلَادُه. كأَهْلَتِه بالتاءِ والأَهْلُ للنبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله تعالى عنه أو نِساؤه وقبل أهله الرّجال الذين هم آله ويدخلُ فيه الأَحْفادُ والذريات، ومنه قَوْلُه تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها}، وقَوْلُه تَعَالَى: {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وقَوْلُه تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}. والأَهْلُ لكلِّ نَبِيٍّ أُمَّتُه وأَهْلُ مِلَّتِه، ومنه قَوْلُه تَعَالَى: (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ). وقالَ الرَّاغِبُ وتَبِعَه المَنَاوِيّ: أَهْلُ الرجلِ مَنْ يَجْمَعُه وإِيَّاهم نَسَبٌ أو دِينٌ أَو ما يَجْرِي مَجْرَاهُما من صناعةٍ وبيتٍ وبلدٍ فأَهْلُ الرجلِ مَنْ يَجْمَعُه وإِياهم مَسْكَنٌ واحدٌ ثم تَجَوَّزَ به فقيلَ: أَهْلُ بيتِه مَنْ يَجْمَعُه وإِيَّاهُم نَسَبٌ أو ما ذُكِرَ وتُعُورف في أُسْرةِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم مُطْلقًا. ومكانٌ آهِلٌ كصاحِبٍ له أَهْلٌ كذا نصّ ابنِ السِّكِّيت هو على النَسَب، ونصّ يُونُس به أَهْلُه، قالَ ابنُ السِّكِّيت: ومكانٌ مأْهُولٌ فيه أَهْلُهُ وأَنْشَدَ:

وقِدْمًا كانَ مَأْهُولًا *** فأَمْسَى مَرْتعَ العُفْر

والجَمْعُ المآهِلُ قالَ رُؤْبَةُ:

عَرَفْتُ بالنَّصْرِيَّةِ المَنَازِلا *** قَفْرًا وكانت مِنْهُمُ مَآهلًا

وقد أُهِلَ المكانُ كعُنِيَ صارَ مأْهُولًا قال العَجَّاجُ:

قَفْرَيْنِ هذا ثم ذا لم يُؤْهَل

وكلُّ ما ألِفَ من الدَّوابِّ المَازِلَ فأَهْلِيٌّ وما لَمْ يأْلَفْ فوحْشِيٌّ وقد ذُكِرَ ومنه الحدِيثُ: نَهَى عن أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ. وكذلك أَهِلٌ ككَتِفٍ وقولُهم في الدُّعاءِ مَرْحَبًا وأَهْلًا أي أَتَيْتَ سَعَة لا ضيقًا وأَتَيْتَ أَهْلًا لا غُرَباءَ ولا أَجانِبَ فاسْتَأْنِسْ ولا تَسْتَوْحِشْ. وأَهَّلَ به تأهِيلًا قال له ذلك وكذلك رَحَّبَ به وقال الكِسَائِيّ والفرَّاءُ، أَنِسَ به ووَدِقَ به اسْتَأْنَسَ به. قالَ ابنُ بَرِّي: المُضَارِعُ منه آهَلُ به بفتحِ الهاءِ. وأَهِلَ الرجل كفرِحَ أَنِسَ وهو أَهْلٌ لكذا أَي مُسْتَوْجِبٌ له ومُسْتَحِقٌّ ومنه قَوْلُه تعَالَى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}. للواحِدِ والجميعِ. وأَهَّلَهُ لذلك تَأْهِيلًا وآهَلَهُ بالمدِّ رآه له أَهْلًا ومُسْتَحِقًّا أو جَعَلَه أَهْلًا لذلك واسْتَأْهَلَهُ اسْتَوْجَبَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ وإِنْكارُ الجوهريّ لها باطِلٌ قال شيْخُنا: قَوْلُ المصنِّفِ باطِلٌ هو البَاطِلُ وليْسَ الجَوْهَرِيُّ أَوَّل مَنْ أَنْكَرَه بل أَنْكَرَه الجماهِيرُ قَبْلَه وقالُوا: إنَّه غيرُ فصيحٍ وضعفه في الفصيحِ وأَقرَّه شرَّاحه وقالُوا: هو وَاردٌ ولكنَّه دونَ غيرِه في الفَصَاحةِ، وصرَّحَ الحريرِي بأَنَّه من الأَوْهامِ ولا سيَّما والجَوْهَرِيُّ التزَمَ أَنْ لا يَذْكُرَ إِلَّا ما صحَّ عنْدَه فكيفَ يثبت عليه ما لم يصح عنْدَه فمِثْل هذا الكَلَام من خرافاتِ المصنِّفِ وعدم قيامِهِ بالإِنْصَافِ انْتَهَى.

قلْتُ وهذا نكيرٌ بالغٌ من شيْخِنا على المصنِّفِ بما لا يَسْتَأْهِلُه فقد صرَّحَ الأَزْهرِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ وغَيرُهما من أَئِمَّة التَّحْقِيق بجودةِ هذه اللغةِ وتَبِعَهم الصاغانيّ قالَ في التَّهْذِيبِ: خطَّأَ بَعْضُهم قَوْلَ من يقُول: فلانٌ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُكْرَم أو يُهان بمعْنَى يَسْتَحق، قالَ: ولا يكونُ الاسْتِئْهال إلَّا من الإِهَالةِ قالَ: وأمَّا أَنَا فلا أُنْكرُه ولا أُخَطَّئُ من قالَه لأَني سَمِعْتَ أَعرابيًّا فَصِيحًا من بني أَسدِ يقُول لرجلٍ شكر عنْدَه يَدًا أُولِيَها: تَسْتأْهِل يا أَبَا حازمٍ ما أُولِيتُ وحَضَرَ ذلِكَ جماعَةٌ من الأَعْرابِ فما أَنْكَرُوا قَوْلَه، قال: ويُحَقِّق ذلك قَوْلُه تَعَالَى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} انْتَهَى.

قلْتُ: وسَمِعْتُ أَيْضًا هكذا من فصحاءِ أَعْرَابِ الصَّفْراء يقُولُ واحدٌ للآخَرِ: أَنتَ تَسْتأْهِلُ يا فلان الخيْرَ وكذا سَمِعْتُ أَيْضًا من فصحاءِ أَعْرَابِ اليَمَنِ قالَ ابنُ بَرِّي ذَكَرَ أَبُو القاسِمِ الزجاجي في أَمَالِيه لأَبي الهَيْثَمِ خالد الكَاتبِ يُخَاطِبُ إِبْرَاهيم بن المَهْدِي لمَّا بُويع له بالخِلافةِ:

كُنْ أَنْت للرَّحْمَة مُسْتأْهِلًا *** إِن لم أَكُنْ منك بِمُسْتَأْهِل

أَلَيْسَ من آفةِ هذا الهَوى *** بُكاءُ مقتولٍ على قاتِل؟

قالَ الزجاجي: مُسْتَأْهِل ليس من فصيحِ الكلامِ، وقَوْلُ خالدٍ ليس بحجّة لأَنَّه مولَّدٌ واسْتَأهَلَ فلانٌ أَخَذَ الإِهالَة أَو أَكَلَها قالَ عَمْرُو بنُ أَسوى من عَبْدِ القَيْسِ:

لا بَلْ كُلِي ياميّ واسْتَأْهِلي *** إِن الذي أَنْفَقْتُ من مالِيَه

ويقالُ اسْتَأْهِلي إِهالَتِي وأَحْسِني إِيالَتِي. والإِهالَةُ اسمٌ لِلشَّحْمِ والوَدَكِ أو ما أُذِيبَ منه أو من الزَّيْتِ وكلِّ ما ائْتُدِمَ به من الأَدْهانِ كزُبْدٍ وشَحْمٍ ودُهْنٍ سمْسِمِ. وفي المَثَلِ: سَرْعانَ ذا إِهالَةٍ ويُرْوى وَشْكانَ ذُكِرَ في حرفِ العَيْنِ في «س ر ع» وأشَرْنا اليه في وش ك أَيْضًا وآلُ الله ورسولِه أَولياؤهُ وأَنْصارهُ ومنه قَوْلُ عَبْدِ المطَّلِبِ جَدّ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، في قصةِ الفيلِ:

وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلك

وأَصْلُهُ أَهْلٌ قيلَ: مَقْلُوبٌ منه وتَقَدَّمَ قَرِيبًا في أَوَلَ وكانوا يسَمّون القرَّاءَ أَهْلُ الله. والإِهالة ككِتابةٍ موضع وقال ابنُ عَبَّادٍ: يقولون إِنَّهم لأَهْلُ أَهِلَةٍ كفَرِحَةٍ أي مالٍ والأَهْلُ: الحُلُول. وأُهَيْلُ كزُبَيْرٍ موضع نَقَلَهُ الصَّاغانيُّ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

يقُولُون: هو أَهْلة لكلِّ خيرٍ بالهاءِ عن ابن عبَّادٍ.

والأَهْلة أَيْضًا لغةٌ في أَهْلِ الدَّارِ والرَّجلِ قالَ أَبُو الطَّمَحانِ القِيْني:

وأَهْلةِ وُدٍّ قد تَبَرَّيتُ وُدَّهم *** وأَبْلَيْتُهم في الجهد بَذْلي ونَائِلي

أي رُبّ من هو أَهْلٌ للودِّ قد تَعَرّضْتُ له وبَذَلْتُ له في ذلك طاقتِي من نائِلٍ نَقَلَه الصَّاغَانِيُّ. وقالَ يونُسُ: هم أَهْلُ أَهْلَة وأَهِلَه أَي هم أَهْلُ الخاصَّةِ. وقالَ أَبُو زَيْدٍ: يقالُ آهَلَكَ الله في الجنّة أي أَدْخَلكَها وزَوَّجَك فيها، وقالَ غيرُه: أَي جَعَلَ لك فيها أَهْلًا يَجْمَعُك وإِيَّاهم.

وفي الأَسَاسِ: ثَرِيْدَة مَأْهُولَةٌ أي كثيرةُ الإِهَالَةِ. وفي المُفْرَدَاتِ: أَهْلُ الكِتابِ قرَّاءُ التَوْراةِ والإِنْجِيل، والأَهْل أَصْحابُ الأَمْلاكِ والأَمْوَالِ وبه فسِّر قَوْلُه تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها}. والأَهْلِيَّة عبارَةٌ عن الصَّلاحِيَّةِ لوجوبِ الحقوقِ الشرعيَّةِ له أو عليه. وأَهْلُ الأَهْواءِ هم أَهْلُ القبْلَةِ الذين مُعْتَقَدهم غير مُعْتَقدِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وأَمْسَتْ نيرانُهم آهِلَةً أي كَثِيرَةَ الأَهْلِ.

وسويد الاهِلي بكسرِ الهاءِ الأَشْعَرِيّ صَحَابيّ ذَكَرَه ابنُ السَّكَنِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com