نتائج البحث عن (فَالْعِبْرَةُ)

1-معجم النحو (العدد)

العدد:

1 ـ أصل أسمائه:

أصل أسمائه اثنتا عشرة كلمة، وهي:

«واحد إلى عشرة» و «مائة» و «ألف» وما عداها فروع إمّا بتثنية ك «مائتين» و «ألفين» أو بإلحاق علامة جمع ك «عشرين» إلى «تسعين» أو بعطف ك «أحد ومائة» و «مائة وألف» و «أحد وعشرين» إلى «تسعة وتسعين» و «أحد عشر» إلى «تسعة عشر» لأنّ أصلها العطف، أو بإضافة ك «ثلاثمائة وعشرة آلاف»، وهاك تفصيلها:

2 ـ الواحد والاثنان:

للواحد والاثنان حكمان يخالفان الثلاثة والعشرة وما بينهما.

(أحدهما): أنهما يذكّران مع المذكّر، فتقول: «واحد» و «اثنان» ويؤنّثان مع المؤنّث فتقول «واحدة واثنتان» على لغة الحجازيين و «ثنتان» على لغة بني تميم.

(الثاني) أنه لا يجمع بينهما وبين المعدود، فلا تقول «واحد رجل» ولا «اثنا رجلين» لأنّ قولك «رجل» يفيد الجنسيّة والوحدة، وقولك «رجلان» يفيد الجنسيّة، وشفع الواحد، فلا حاجة إلى الجمع بينهما.

3 ـ من الثلاثة إلى العشرة وما بينهما إفرادا وتركيبا:

لها ثلاثة أحوال:

(الأوّل) أن يقصد بها العدد المطلق، وحينئذ تقترن ب «التاء» في جميع أحوالها نحو «ثلاثة، نصف، ستّة» ولا تنصرف لأنها أعلام مؤنّثة.

(الثاني) أن يقصد بها معدود ولا يذكر، فالصّحيح أن تقترن بالتاء للمذكّر وبحذفها للمؤنّث كما لو ذكر المعدود ـ على أصل القاعدة

كما سيأتي ـ فتقول: «صمت خمسة» تريد أيّاما و «سهرت خمسا» تريد ليالي، ويجوز أن تحذف التاء في المذكّر كالحديث «ثمّ أتبعه بست من شوّال».

(الثالث) أن يقصد بها معدود ويذكر، وهذا هو الأصل، فلا تستفاد العدّة والجنس إلّا من العدد والمعدود جميعا، وذلك لأنّ قولك «ثلاثة» يفيد العدّة دون الجنس، وقولك «رجال» يفيد الجنس دون العدّة، فإذا قصدت الإفادتين جمعت بين الكلمتين.

وحكمها: وجوب اقترانها بالتاء في المذكر، وعدمه في المؤنّث تقول «ثلاثة رجال» بالتاء و «تسع نسوة» بتركها. قال تعالى {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ} هذا في الإفراد ـ أمّا في حال التركيب ـ فيما فوق العشرة ودون العشرين ف «بالثلاثة والتسعة وما بينهما» يبقى لها حكم التّذكير والتّأنيث كما كان لها قبل التركيب أي مخالفة القياس، وما دون ذلك ـ وهو الأحد والاثنان ـ على القياس، إلّا أنّك تأتي ب «أحد» و «إحدى» مكان: واحد وواحدة أمّا «العشرة» ففي التركيب توافق في التّذكير والتّأنيث على مقتضى القياس وتسكّن شينها إذا كانت بالتاء وأمّا «ثماني» فلك في التركيب فتح الياء وإسكانها، ويقلّ حذفها مع بقاء كسر النّون ومع فتحها، وتبنى الكلمتان ـ في حالة التركيب ـ على الفتح إلّا «اثنين واثنتين» فتعربهما فإذا جاوزت «التسعة عشر» في التذكير، و «تسع عشرة» في التأنيث، استوى لفظ المذكّر والمؤنّث فتقول: «عشرون عبدا، وثلاثون أمة».

4 ـ ألفاظ العدد ـ أربعة أنواع:

(1) مفرد، وهو عشرة ألفاظ: «واحد واثنان وعشرون وتسعون وما بينهما» من العقود.

(2) مركّب وهو تسعة ألفاظ: «أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما».

(3) معطوف وهو: «أحد وعشرون وتسعة وتسعون وما بينهما».

(4) مضاف وهو أيضا عشرة ألفاظ:

«مائة، وألف، وثلاثة، وعشرة وما بينهما».

5 ـ تمييز العقود، والمركّب، والمعطوف من العدد:

تمييز «العشرين والتسعين وما بينهما» من العقود، و «الأحد عشر والتسعة عشر وما بينهما» من المركّب، و «الأحد والعشرين والتسعة والتسعين وما بينهما». من المعطوف، تمييزها جميعا مفرد منصوب نحو {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا} {إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}.

6 ـ تمييز المضاف من العدد:

أمّا تمييز «المائة والألف» فمفرد مجرور بالإضافة نحو «مائة رجل» و «ألف امرأة».

وأمّا مميز «الثلاثة والعشرة وما بينهما» فإن كان اسم جنس «كشجر وتمر» أو اسم جمع ك «قوم» و «رهط»: خفض ب «من» تقول: «ثلاثة من الشّجر غرستها» و «عشرة من القوم لقيتهم» قال تعالى {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} وقد يخفض مميّزها بإضافة العدد إليه، نحو {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وقول الحطيئة:

«ثلاثة أنفس وثلاث ذود ***لقد جار الزّمان على عيالي »

وإن كان جمعا خفض بإضافة العدد إليه نحو «ثلاثة رجال» و «ثلاث نسوة».

7 ـ اعتبار التّذكير والتّأنيث مع اسمي الجمع والجنس ـ ومع الجمع: يعتبر التّذكير والتّأنيث مع اسمي الجمع والجنس، بحسب حالهما، فيعطى العدد عكس ما يستحقّه ضميرهما، فتقول: «ثلاثة من الغنم عندي» بالتاء لأنك تقول: غنم كثير بالتّذكير و «ثلاث من البط» بترك التاء لأنك تقول: بطّ كثيرة بالتّأنيث و «ثلاثة من البقر» أو «ثلاث» لأنّ في البقر لغتين التذكير والتّأنيث، قال تعالى {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} وقرئ: تشابهت.

أمّا مع الجمع فيعتبر التّذكير والتّأنيث بحال مفردة، فينظر إلى ما يستحقه بالنّسبة إلى ضميره، فيعكس حكمه في العدد، ولذلك تقول «ثلاثة حمّامات» و «ثلاثة طلحات» و «ثلاثة أشخص» لأنك تقول: «الحمّام دخلته» و «طلحة حضر» وتقول «اشتريت ثلاث إماء» بترك التاء لأنك تقول: «هذه أمة نشيطة».

وإذا كان المعدود صفة فالمعتبر حال الموصوف المنوي لا حالها قال تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} أي عشر حسنات أمثالها. ولو لا ذلك لقيل عشرة، لأنّ المثل مذكّر وتقول «عندي ثلاث ربعات» بالتّاء إن قدرت رجالا. وبتركها إن قدّرت نساء، ولهذا يقولون «ثلاثة دوابّ» بالتاء إذا قصدوا ذكورا لأنّ الدّابّة صفة في الأصل، فكأنهم قالوا: ثلاثة أحمرة دوّاب، وسمع ثلاث دوابّ ذكور بترك التاء لأنهم أجروا الدّابّة مجرى الجامد، فلا يجرونها على موصوف.

8 ـ حكم العدد المميّز بشيئين:

في حالة التركيب يعتبر حال المذكّر تقدّم أو تأخّر إن كان لعاقل، نحو «عندي خمسة عشر رجلا وامرأة» أو «امرأة ورجلا».

وإن كان لغير عاقل فللسابق بشرط الاتصال نحو «عندي خمسة عشر جملا وناقة» و «خمس عشرة ناقة وجملا» ومع الانفصال فالعبرة للمؤنّث نحو «عندي ستّ عشرة ما بين ناقة وجمل» أو «ما بين جمل وناقة».

وفي حال الإضافة فالعبرة لسابقهما مطلقا، نحو «عندي ثمانية رجال ونساء» و «ثمان نساء ورجال».

9 ـ الأعداد التي تضاف للمعدود: تقدّم أنّ الأعداد التي تضاف للمعدود عشرة: وهي نوعان:

«أ» الثلاثة والعشرة وما بينهما.

«ب» المائة والألف.

10 ـ حق الإضافة في الثلاثة والعشرة وما بينهما:

حقّ ما تضاف إليه أن يكون جمعا مكسّرا من أبنية القلّة نحو «ثلاثة أظرف» و «أربعة أعبد» و «سبعة أبحر».

وقد يتخلّف كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة فتضاف للمفرد، وذلك إذا كان مئة نحو «ثلاثمائة» و «تسعمائة» وشذ في الضرورة قول الفرزدق:

«ثلاث مئين للملوك وفى بها***ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم »

ويضاف لجمع التصحيح في مسألتين:

(1) أن يهمل تكسير الكلمة نحو «سبع سموات» و «خمس صلوات» و {سَبْعِ بَقَراتٍ}

(2) أن يجاور ما أهل تكسيره نحو {سَبْعِ سُنْبُلاتٍ} فإنه في التنزيل مجاور ل {سَبْعِ بَقَراتٍ} المهمل تكسيره.

وتضاف لبناء الكثرة في مسألتين:

(أحداهما) أن يهمل بناء القلّة، نحو «ثلاث جوار» و «أربعة رجال» و «خمسة دراهم».

(الثانية) أن يكون له بناء قلّة، ولكنه شاذّ قياسا أو سماعا، فينزل لذلك منزلة المعدوم،

فالأوّل: نحو {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإنّ جمع «قرء» بالفتح على «أقراء» شاذّ.

والثاني: نحو «ثلاثة شسوع» فإنّ «أشساعا» قليل الاستعمال.

11 ـ حقّ الإضافة في «المائة والألف»: «المائة والألف» حقّهما أن يضافا إلى «مفرد» نحو {مِائَةَ جَلْدَةٍ} و {أَلْفَ سَنَةٍ} وقد تضاف المائة إلى جمع كقراءة حمزة والكسائي (ثلاثمائة سنين).

وقد تميز بمفرد منصوب كقول الربيع بن ضبيع الفزاري:

«إذا عاش الفتى مائتين عاما***فقد ذهب المسرّة والفتاء»

12 ـ إضافة العدد المركّب:

يجوز في العدد المركّب ـ غير عشر واثنتي عشرة ـ أن يضاف إلى مستحقّ المعدود فيستغني عن التّمييز نحو «هذه أحد عشر خالد» ويجب عند الجمهور بقاء البناء في الجزأين كما كان مع التمييز.

13 ـ وزن «فاعل» من أعداد «اثنين وعشرة وما بينهما»: يجوز أن تصوغ من اثنين وعشرة وما بينهما اسم فاعل، فتقول «ثان وثالث ورابع... إلى عاشر» أمّا «الواحد» فقد وضع أصلا على وزن فاعل، فقيل «واحد وواحدة» ولنا في اسم الفاعل المذكور أن نستعمله في حدود سبعة أوجه:

(1) أن نستعمله مفردا ليفيد الاتصاف بمعناه مجردا فتقول: ثالث ورابع قال النّابغة الذبياني:

«توهّمت آيات لها فعرفتها***لستّة أعوام وذا العام سابع »

(2) أن تستعمله مع أصله الذي صيغ منه ليفيد أنّ الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير فتقول «خامس خمسة» أي بعض جماعة منحصرة في خمسة وحينئذ تجب إضافته إلى أصله كما يجب إضافة البعض إلى كله، قال الله تعالى {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ}.

(3) أن تستعمله مع ما دون أصله ليفيد معنى التّصيير، فتقول «هذا رابع ثلاثة» أي جاعل الثلاثة أربعة، قال الله تعالى {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ} ويجوز حينئذ إضافته، وإعماله بالشّروط الواردة في إعمال اسم الفاعل، كما يجوز الوجهان في «جاعل ومصيّر» ونحوهما.

ولا يستعمل بهذا الاستعمال «ثان» فلا يقال «ثاني واحد» ولا «ثان واحدا» وإنما عمل عمل فاعل لأنّ له فعلا كما أنّ جاعل كذلك، يقال «كان القوم تسعة وعشرين فثلثنتهم أي صيرتهم ثلاثين، وهكذا إلى تسعة وثمانين فتسعنتهم أي صيّرتهم تسعين.

(4) أن تستعمله مع العشرة ليفيد الاتصاف بمعناه مقيّدا بمصاحبة العشرة فتقول: «حادي عشر» بتذكيرهما، و «حادية عشرة» بتأنيثهما وكذا نصنع في البواقي: تذكّر اللفظين مع المذكّر، وتؤنثهما مع المؤنث وحين تستعمل «الواحد» أو «الواحدة» مع العشرة، أو ما فوقها كالعشرين فإنّك تقلب فاءهما إلى موطن لامهما، وتصير الواو ياء، فتقول: «حاد وحادية»

(5) أن تستعمله مع العشرة، ليفيد معنى «ثاني اثنين» وهو انحصار العدّة فيما ذكر، ولك في هذه الحالة ثلاثة أوجه:

(أحدها) وهو الأصل أن تأتي بأربعة ألفاظ، أولها: الوصف مركّبا مع العشرة، وهذان لفظان، واللفظ الثالث: ما اشتق منه الوصف مركّبا مع العشرة أيضا، وتضيف جملة التركيب الأوّل إلى جملة التركيب الثاني، فنقول «هذا ثالث عشر ثلاثة عشر» و «هذه ثالثة عشرة ثلاث عشرة» وهذه الألفاظ الأربعة مبنيّة على الفتح.

(الثاني) أن تحذف عشر من التركيب الأول استغناء به في الثاني، وتعرب الأوّل لزوال التركيب، وتضيفه إلى التركيب الثاني، فتقول «هذا ثالث ثلاثة عشر» و «هذه ثالثة ثلاث عشرة» وهذا الوجه أكثر استعمالا.

(الثالث) أن تحذف العشرة من التركيب الأول، والنّيّف من الثاني، وحينئذ تعربهما لزوال مقتضى البناء فيهما، فتجري الأوّل على حسب العوامل، وتجر الثاني بالإضافة، فتقول: «جاءني ثالث عشر» و «رأيت ثالث عشر» و «نظرت إلى ثالث عشر».

(6) أن تستعمله مع العشرة لإفادة معنى «رابع ثلاثة» فتأتي أيضا بأربعة ألفاظ ولكن يكون الثالث منها دون ما اشتقّ منه الوصف، فتقول: «رابع عشر ثلاثة عشر» في المذكّر و «رابعة عشرة ثلاث عشرة» في المؤنث ويجب أن يكون التركيب الثاني في موضع جر.

ولك أن تحذف العشرة من الأوّل، دون أن تحذف النّيف من الثاني للإلباس.

(7) أن تستعمله مع العشرين وأخواتها، فتقدمه وتعطف عليه العقد بالواو خاصة فتقول: «حاد وعشرون» و «حادية وعشرون».

14 ـ تعريف العدد والمركّب والمعطوف

إذا أريد تعريف العدد ب «أل» فإن كان مركّبا عرّف صدره ك «الخمسة عشر» وإن كان مضافا عرّف عجزه ك «خمسة الرّجال» و «ستة آلاف الدرهم» هذا هو الفصيح، وبعضهم يعرف الجزأين، فيقول: «الخمسة الرجال» و «الثلاثة الأشهر».

وإن كان معطوفا عرّف جزآه معا ك «الأربعة والأربعين» ونظم ذلك الأجهوري فقال:

«وعددا تريد أن تعرّفا***فأل بجزأيه صلن إن عطفا»

«وإن يكن مركّبا فالأوّل ***وفي مضاف عكس هذا يفعل »

«وخالف الكوفيّ في هذين ***ففيهما قد عرّف الجزأين »

15 ـ العدد في التّاريخ:

إذا أرادوا التاريخ قالوا للعشر وما دونها خلون وبقين، فقالوا: «لتسع ليال بقين» و «ثمان ليال خلون» لأنهم بينوه بجمع وقالوا لما فوق العشرة «خلت» و «بقيت» لأنهم بينوه بمفرد، فقالوا ل «إحدى عشرة ليلة خلت» و «ثلاث عشرة ليلة بقيت». ويقال في التاريخ أول الشهر «كتب لأوّل ليلة منه» أو «لغرّته» أو «مهلّه» أو «مستهلّه». ويؤرخ آخرا فيقال «لآخر ليلة بقيت منه» أو «سراره» أو «سرره» أو «سلخه» أو «انسلاخه».

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


2-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (التعبيرية-من المدارس الأدبية)

التعبيريـة

التعريف:

التعبيرية مذهب أدبي فلسفي تجريبي لا انطباعي، إذ يعطي الأديب فيه للتجربة بعدًا ذاتيًّا ونفسيًّا وذلك على عكس الانطباعية التي تركز على التعبير عن الانطباع الخارجي عن الذات.

وقد اهتمت التعبيرية بالمسرح كما اهتمت بضروب الأدب الأخرى.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

لقد تفرعت المدرسة التعبيرية إلى اتجاهات متعددة وهي:

- الاتجاه التطبيقي: ويقول أصحاب هذا الاتجاه: إن مهمة الأدب هي تنشيط عقل الإنسان ووجدانه، ومنعهما من الركود والبلادة، وليس مجرد تقديم صورة لما يراه الإنسان بالفعل في حياته اليومية.

ومن شخصيات هذا الاتجاه توللر وهاسين كليفر وبيتشر وكابر والأمريكي جون هاورد لوسون.

- الاتجاه اللاعقلاني: ويقول أصحاب هذا الاتجاه إن المعقول هو ما اتفق عليه الناس، وعلى المسرح أن يعالج ما لم يتفق عليه الناس بعد.

ومن شخصيات هذا الاتجاه:

- صمويل بيكيت المولود سنة 1906م وهو روائي ومسرحي أيرلندي الأصل. كان يكتب مسرحياته بالفرنسية.

- أونسكو المولود سنة 1912م وهو مسرحي روماني الأصل، ويعد من أركان مسرح اللامعقول.

- ومن رموز التعبيرية أيضًا كافكا وأونيل الذي بلغت التعبيرية قيمتها في إحدى مسرحياته المتأخرة أيام بلا نهاية.

الأفكار والمعتقدات:

يتركز هدف الفن التعبيري في التجسيد الموضعي الخارجي للتجربة النفسية المجردة، عن طريق توسيع أبعادها، وإلقاء أضواء جديدة عليها، لكي تكشف عن الأشياء التي يخفيها الإنسان أو التي لا يستطيعون رؤيتها لقصر نظرهم.

وتجسد التعبيرية جوهر الأشياء، دون إظهار خارجها، ولذلك فهي لا تعترف بأن هناك تشابها بين الظاهر والباطن.

تهتم التعبيرية بالإنسان كله، ولذا فإن الشخصيات في المسرح التعبيري تتحول إلي مجرد أنماط أكثر منها أناس من لحم ودم. وأحيانًا تتحول إلي مجرد أرقام أو مسميات عامة.

- تقوم المسرحية التعبيرية على شخصية محورية تمر بأزمة نفسية أو عاطفية، لذلك يستعين المؤلف بعلم النفس في أحيان كثيرة حتى يبلور مأساة الشخصية الداخلية.

ركز أصحاب المذهب التعبيري علي مهمة الأدب التقليدي الذي غالبًا ما يتميز بالمحدودية والغباء وضيق الأفق.

الاتجاه اللاعقلاني في التعبيرية يعد الابن الشرعي للمذهب السريالي الأم. ولذلك يعد ثورة على منطق الحياة وعلى العقل، لذلك لا يخضع لقواعد الفن. ويعتقد بأن الحياة في جوهرها وفي حقيقتها التجريدية شيء لا معقول أي غير مفهوم وغير قابل للفهم أو للتفسير.

- ويعد هذا الاتجاه أيضا من أمراض العصر الحاضر المملوء بالقلق واليأس من الحياة، والمصير المظلم الذي ينتهي بالموت.

نقد للاتجاه اللاعقلاني في التعبيرية:

- هاجم الناقد الفرنسي: مورياك.. في كتابه الأدب المعاصر أدب بيكيت اللامعقول. فقال: " إننا لا نعرف من بيكيت شيئًا محققًا أو واضحًا ولا نفهم شيئًا مما يقول على حقيقته".

- وكذلك هاجم أدب اللامعقول، الناقد أندريه مارسيل فقال: " يبدو أن الهدف الرئيسي لبيكيت هو كتابة العمل الأدبي الذي لا يكتب والذي لا يمكن تأليفه، إنها محاولة نحو المستحيل، وهي مأساة فشل لا مفر منه، ومجرد أكوام من الحطب المحترق التي تملأ الجو دخانًا في أرض مبه

الجذور الفكرية والعقائدية:

تعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من دمار في الأرض، ودمار في النفوس والأفكار المحضن الحقيقي للاتجاه اللاعقلاني في الأدب، لذلك كان اليأس والتشاؤم والقلق هو الغالب على مسرحيات هذا الاتجاه، إذ إن كثيرًا من المفكرين والأدباء الأوروبين فقدوا الأمل في الف

الانتشار وأماكن النفوذ:

نشأت التعبيرية في فرنسا وألمانيا وانتشرت بعد ذلك في أوربا والعالم الغربي كله.

يتضح مما سبق:

أن التعبيرية مذهب أدبي فلسفي، يهتم بالتجربة الإنسانية، ويعطيها بعدًا ذاتيًا ونفسيًّا، فالعبرة فيه بجوهر الشيء لا بمظهره، لأنه لا يوجد أي تشابه بين الظاهر والباطن. وفي مجال المسرح يركز هذا المذهب على فكرة الشخصية المحورية التي تجتاز أزمة نفسية أو عاطفية ويتم تحليل أبعادها الخارجية من خلال معطيات علم النفس وأدواته. ويعد هذا المذهب مظهرًا من مظاهر أمراض العصر الذي يغصّ بالقلق واليأس من الحياة والمصير المظلم الذي يسود كثيرًا من دول الغرب وينتهي بكثير من الناس إلى فقدان الإحساس بقيمة الحياة والقيم الروحية التي تثريها وتجعل للإنسان فيها هدفًا ولوجوده معنى.

تعقيب:

- الإسلام لا يمنع التعبير عن مكنونات النفس إذا كان ذلك لا يتعارض مع معطيات الشرع، كالإفضاء بأسرار الحياة الزوجية مثلًا أو الدعوة إلى الإباحية وهكذا، وفي نفس الوقت يحبب حياة الجد والعمل والاجتهاد، ويمحو مفاهيم الفوضى والعدمية واللامعقول من عقول الناس حتى ل

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


3-معجم القواعد العربية (العدد)

العدد:

1 ـ أصل أسمائه:

أصل أسماء العدد اثنتا عشرة كلمة وهي:

«واحد إلى عشرة» و «مائة» و «ألف» وما عداها فروع إمّا بتثنية ك «مائتين» و «ألفين» أو بإلحاق علامة جمع ك «عشرين» إلى «تسعين» أو بعطف ك «أحد ومائة» و «مائة وألف» و «أحد وعشرين» إلى «تسعة وتسعين». و «أحد عشر» إلى «تسعة عشر». لأنّ أصلها العطف، أو بإضافة ك «ثلاثمائة وعشرة آلاف» وهاك تفصيلها.

2 ـ الواحد والاثنان: للواحد والاثنان حكمان يخالفان الثّلاثة والعشرة وما بينهما.

(أحدهما) أنّهما يذكّران مع المذكّر، فتقول: «أحد وواحد» و «اثنان» ويؤنّثان مع المؤنّث فتقول: «إحدى واحدة واثنتان» على لغة الحجازيين و «ثنتان» على لغة بني تميم.

(الثاني) أنه لا يجمع بينهما وبين المعدود، فلا تقول: «واحد رجل». ولا «اثنا رجلين» لأنّ قولك «رجل» يفيد الجنسيّة والوحدة وقولك «رجلان» يفيد الجنسيّة وشفع الواحد، فلا حاجة إلى الجمع بينهما.

3 ـ من الثّلاثة إلى العشرة وما بينهما إفرادا وتركيبا:

لها ثلاثة أحوال:

(الأوّل) أن يقصد بها العدد المطلق، وحينئذ تقترن ب «التاء» في جميع أحوالها نحو «ثلاثة نصف ستّة» ولا تنصرف لأنها أعلام مؤنّثة.

(الثاني) أن يقصد بها معدود ولا يذكر فبعضهم يقرنها بالتاء للمذكّر وبحذفها للمؤنّث كما لو ذكر المعدود ـ على أصل القاعدة كما سيأتي ـ فتقول: «صمت خمسة» تريد أيّاما و «سهرت خمسا». تريد ليالي، ويجوز أن تحذف التاء في المذكّر

كالحديث (ثم أتبعه بست من شوّال) وبقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، وقوله تعالى: {يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}.

(الثالث) أن يقصد بها معدود ويذكر، وهذا هو الأصل، فلا تستفاد العدّة والجنس إلّا من العدد والمعدود جميعا، وذلك لأنّ قولك «ثلاثة» يفيد العدّة دون الجنس، وقولك «رجال» يفيد الجنس دون العدّة، فإذا قصدت الإفادتين جمعت بين الكلمتين.

فحكم الثّلاثة حتّى العشرة في ذكر المعدود: وجوب اقترانها بالتاء في المذكّر، وحذف التّاء في المؤنّث تقول «ثلاثة رجال» بالتاء و «تسع نسوة» بتركها، قال تعالى: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ}. هذا في الإفراد. أمّا في حال التّركيب فإن كان من ثلاث عشر إلى تسعة عشر، فحكم الجزء الأوّل وهو من ثلاث إلى تسع مركبا حكم التّذكير والتّأنيث قبل التركيب ـ أي المخالفة وهي تأنيثها للمذّكر، وتذكيرها للمؤنّث ـ.

وما دون الثلاثة ـ وهو الأحد والإثنان في التركيب ـ فعلى القياس، إلّا أنّك تأتي ب «أحد» و «إحدى» مكان: واحد وواحدة.

أمّا «العشرة» في التركيب فتوافق في التّذكير والتّأنيث على مقتصى القياس. تسكّن شينها إذا كانت بالتاء. وأمّا «ثماني» «ـ ثماني».

وتبنى الكلمتان ـ في حالة التّركيب ـ على الفتح إلّا «اثنتا واثنا عشر واثنتي عشرة واثنتا» فيعربان إعراب الملحق بالمثنّى، فإذا جاوزت «التسعة عشر» في التذكير، و «تسع عشرة» في التأنيث استوى لفظ المذكّر والمؤنّث فتقول: «عشرون عالما، وثلاثون امرأة» «وتسعون تلميذا».

4 ـ ألفاظ العدد في التمييز أربعة أنواع:

(1) مفرد، وهو عشرة ألفاظ: «واحد واثنان وعشرون إلى تسعين وما بينهما» من العقود.

(2) مركّب وهو تسعة ألفاظ: «أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما».

(3) معطوف وهو: «أحد وعشرون إلى تسعة وتسعين وما بينهما».

(4) مضاف وهو أيضا عشرة ألفاظ: «مائة، وألف، وثلاثة إلى عشرة وما بينهما».

5 ـ تمييز العقود، والمركّب، والمعطوف من العدد:

تمييز «العشرين والتّسعين وما بينهما»، من العقود، و «الأحد عشر إلى التّسعة عشر وما بينهما من المركّب، والأحد والعشرين إلى التّسعة والتسعين وما بينهما» من المعطوف، تمييزها جميعا مفرد منصوب نحو {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً}، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}، {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا}، {إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}.

6 ـ تمييز المضاف من العدد:

أمّا تمييز «المائة والألف» فمفرد مجرور بالإضافة نحو «مائة رجل» و «ثلاثمائة امرأة»، و «ألف امرأة» و «عشرة آلاف رجل».

وأمّا مميّز «الثّلاثة والعشرة وما بينهما» فإن كان اسم جنس ك: «شجر وتمر» أو اسم جمع ك: «قوم» و «رهط»: خفض ب: «من»، تقول: «ثلاثة من الشّجر غرستها» و «عشرة من القوم لقيتهم»، قال تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ}، وقد يخفض مميّزها بإضافة العدد إليه، نحو: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وقول الحطيئة:

«ثلاثة أنفس وثلاث ذود *** لقد جار الزّمان على عيالي »

وإن كان جمعا خفض بإضافة العدد إليه نحو «ثلاثة رجال» و «ثلاث نسوة».

7 ـ اعتبار التّذكير والتّأنيث مع الجمع والجنس ـ ومع الجمع:

يعتبر التّذكير والتأنيث مع اسمي الجمع والجنس، بحسب حالهما، فيعطى العدد عكس ما يستحقّه ضميرهما، فتقول: «ثلاثة من الغنم عندي» بالتاء لأنك تقول: غنم كثير بالتّذكير و «ثلاث من البط» بترك التاء لأنّك تقول: بطّ كثيرة بالتّأنيث و «ثلاثة من البقر» أو «ثلاث» لأنّ في البقر لغتين التّذكير والتّأنيث، قال تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} وقرىء: تشابهت.

أمّا مع الجمع فيعتبر التّذكير والتّأنيث بحال مفردة، فينظر إلى ما يستحقه بالنّسبة إلى ضميره، فيعكس حكمه في العدد، ولذلك تقول: «ثلاثة حمّامات» و «ثلاثة طلحات» و «ثلاثة أشخص» لأنك تقول: «الحمّام دخلته» و «طلحة حضر» وتقول «اشتريت ثلاث دور» بترك التاء لأنك تقول: «هذه الدّار واسعة».

وإذا كان المعدود صفة فالمعتبر حال الموصوف المنوي لا حالها، قال تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} أي عشر حسنات أمثالها، ولو لا ذلك لقيل عشرة، لأنّ المثل مذكّر، ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:

«فكان مجنّي دون من كنت أتقي *** ثلاث شخوص كاعبان ومعصر»

قال: ثلاث شخوص، والأصل: ثلاثة شخوص، لأنّ واحده شخص، ولما فسّر الشّخوص ب «كاعبان ومعصر» جاز ذلك كالآية الكريمة، وتقول: «عندي ثلاثة ربعات». بالتّاء إن قدّرت رجالا، وبتركها إن قدّرت نساء، ولهذا يقولون: «ثلاثة دوابّ» بالتاء إذا قصدوا ذكورا لأنّ الدّابّة صفة في الأصل، فكأنّهم قالوا: ثلاثة أحمرة دوابّ، وسمع ثلاث دوابّ ذكور بترك التاء لأنهم أجروا الدّابّة مجرى الجامد، فلا يجرونها على موصوف.

8 ـ حكم العدد المميّز بشيئين:

في حالة التّركيب يعتبر حال المذكّر تقدّم أو تأخّر إن كان لعاقل، نحو «عندي خمسة عشر رجلا وامرأة» أو «امرأة ورجلا» وإن كان لغير عاقل فللسّابق بشرط الاتّصال نحو «عندي خمسة عشر جملا وناقة» و «خمس عشرة ناقة وجملا» ومع الانفصال فالعبرة للمؤنّث نحو «عندي ستّ عشرة ما بين ناقة وجمل» أو «ما بين جمل وناقة».

وفي حال الإضافة فالعبرة لسابقهما مطلقا، نحو «عندي ثمانية رجال ونساء» و «ثمان نساء ورجال».

9 ـ الأعداد التي تضاف للمعدود:

تقدّم أنّ الأعداد التي تضاف للمعدود عشرة: وهي نوعان:

«أ» الثلاثة والعشرة وما بينهما.

«ب» المائة والألف.

فحقّ الإضافة في الثلاثة والعشرة وما بينهما: أن يكون جمعا مكسّرا من أبنية القلّة نحو «ثلاثة أظرف» و «أربعة أعبد» و «سبعة أبحر».

وقد يتخلّف كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة فتضاف للمفرد، وذلك إذا كان مئة نحو «ثلاثمائة» و «تسعمائة» وشذّ في الضّرورة قول الفرزدق:

«ثلاث مئين للملوك وفى بها *** ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم »

ويضاف لجمع التصحيح في مسألتين:

(1) أن يهمل تكسير الكلمة نحو «سبع سموات» و «خمس صلوات» و {سَبْعَ بَقَراتٍ}. (2) أن يجاور ما أهمل تكسيره نحو {سَبْعَ سُنْبُلاتٍ} فإنه في التنزيل مجاور ل {سَبْعَ بَقَراتٍ}. المهمل تكسيره.

وتضاف لبناء الكثرة في مسألتين:

(إحداهما) أن يهمل بناء القلّة، نحو «ثلاث جوار» و «أربعة رجال» و «خمسة دراهم».

(الثانية) أن يكون له بناء قلّة، ولكنه شاذّ قياسا أو سماعا، فينزّل لذلك منزلة المعدوم.

فالأوّل: نحو {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإنّ جمع «قرء» بالفتح على «أقراء» شاذّ.

والثاني: نحو «ثلاثة شسوع» فإنّ «أشساعا» قليل الاستعمال.

11 ـ حقّ الإضافة في «المائة والألف»:

«المائة والألف» حقّهما أن يضافا إلى «مفرد» نحو: {مِائَةَ جَلْدَةٍ}. و {أَلْفَ سَنَةٍ} وقد تضاف المائة إلى جمع كقراءة حمزة والكسائي {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ}.

وقد تميّز بمفرد منصوب كقول الربيع بن ضبيع الفزاري:

«إذا عاش الفتى مائتين عاما *** فقد ذهب المسرّة والفتاء»

ومنه قراءة عاصم: {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ}.

12 ـ إضافة العدد المركّب:

يجوز في العدد المركّب ـ غير عشر واثنتي عشرة ـ أن يضاف إلى مستحقّ المعدود فيستغني عن التّمييز نحو «هذه أحد عشر خالد» أي ممن سمّي بخالد، ويجب عند الجمهور بقاء البناء في الجزأين كما كان مع التمييز.

13 ـ وزن «فاعل» من أعداد «اثنين وعشرة وما بينهما»:

يجوز أن تصوغ من اثنين وعشرة وما بينهما على وزن فاعل، فتقول: «ثان وثالث ورابع...... إلى عاشر» أمّا «الواحد» فقد وضع أصلا على وزن فاعل، فقيل «واحد وواحدة» ولنا في العدد على وزن الفاعل المذكور أن نستعمله في حدود سبعة أوجه:

(1) أن تستعمله مفردا ليفيد الاتّصاف بمعناه مجرّدا فتقول: ثالث ورابع.

قال النّابغة الذبياني:

«توهّمت آيات لها فعرفتها *** لستّة أعوام وذا العام سابع »

(2) أن تستعمله مع أصله الذي صيغ منه ليفيد أنّ الموصوف به بعض تلك العدّة المعنيّة لا غير فتقول: «خامس خمسة» أي بعض جماعة منحصرة في خمسة وحينئذ تجب إضافته إلى أصله، كما يجب إضافة البعض إلى كله، قال تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ} و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ}. وإذا اجتمع في المعدود مذكّر ومؤنّث جعل الكلام على التذكير لأنه الأصل، تقول: «هذا رابع أربعة» إذا كان هو وثلاث نسوة.

(3) أن تستعمله مع ما دون أصله ليفيد معنى التّصيير، فتقول: «هذا رابع ثلاثة» أي جاعل الثلاثة أربعة، قال الله تعالى: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ} ويجوز حينئذ إضافته، وإعماله بالشّروط الواردة في إعمال اسم الفاعل، كما يجوز الوجهان في «جاعل ومصيّر» ونحوهما.

ولا يستعمل بهذا الاستعمال «ثان» فلا يقال «ثاني واحد» ولا «ثان واحدا» وإنما عمل عمل فاعل لأنّ له فعلا كما أنّ جاعل كذلك، يقال «كان القوم تسعة وعشرين فثلثنتهم» أي صيّرتهم ثلاثين، وهكذا إلى تسعة وثمانين فتسعنتهم أي صيّرتهم تسعين.

وإذا أضيف إلى أزيد منه أو إلى مساويه يكون بمعنى الحال نحو: «ثاني اثنين» أو «ثاني ثلاثة» أي أحد الإثنين، أو أحد الثلاثة.

(4) أن تستعمله مع العشرة ليفيد الاتّصاف بمعناه مقيّدا بمصاحبة العشرة، فتقول: «حادي عشر» بتذكيرهما، و «حادية عشرة» بتأنيثهما وكذا نصنع في البواقي: تذكّر اللّفظين مع المذكّر، وتؤنّثهما مع المؤنث وحين تستعمل «الواحد» أو «الواحدة» مع العشرة، أو ما فوقها كالعشرين فإنّك تقلب فاءهما إلى موطن لامهما، وتصير الواو ياء، فتقول: «حاد وحادية».

(5) أن تستعمله مع العشرة، ليفيد معنى «ثاني اثنين» وهو انحصار العدّة فيما ذكر، ولك في هذه الحالة ثلاثة أوجه:

(أحدها) وهو الأصل أن تأتي بأربعة ألفاظ، أوّلها: الوصف مركّبا مع العشرة، وهذان لفظان، وما اشتق منه الوصف مركّبا مع العشرة أيضا، وتضيف جملة التركيب الأوّل إلى جملة التركيب الثاني، فتقول: «هذا ثالث عشر ثلاثة عشر» و «هذه ثالثة عشرة ثلاث عشرة» وهذه الألفاظ الأربعة مبنيّة على الفتح.

(الثاني) العرب تستثقل إضافته على التّمام لطوله، كما تقدّم، ولذلك حذفوا «عشر» من التركيب الأوّل استغناء به في الثاني، وتعرب الأوّل لزوال التركيب، وتضيفه إلى التركيب الثاني، فنقول: «هذا ثالث ثلاثة عشر» و «هذه ثالثة ثلاث عشرة» وهذا الوجه أكثر استعمالا.

(الثالث) أن تحذف العشرة من التركيب الأول، والنّيّف من الثاني، وحينئذ تعربهما لزوال مقتضى البناء فيهما، فتجري الأوّل على حسب العوامل، وتجر الثاني بالإضافة، فتقول: «جاءني ثالث عشر» و «رأيت ثالث عشر» و «نظرت إلى ثالث عشر».

(6) أن تستعمله مع العشرة لإفادة معنى «رابع ثلاثة» فتأتي أيضا بأربعة ألفاظ ولكن يكون الثالث منها دون ما اشتقّ منه الوصف فتقول: «رابع عشر ثلاثة عشر» في المذكّر، و «رابعة عشرة ثلاث عشرة». في المؤنث، ويجب أن يكون التركيب الثاني في موضع الجرّ ولك أن تحذف العشرة من الأوّل دون أن تحذف النّيف من الثاني للإلباس. بأن تقول: «رابع ثلاثة عشر» أو «رابعة ثلاث عشرة».

(7) أن تستعمله مع العشرين وأخواتها فتقدّمه وتعطف عليه العقد بالواو خاصّة فتقول: «حاد وعشرون» و «حادية وعشرون».

14 ـ تعريف العدد والمركّب والمعطوف:

إذا أريد تعريف العدد ب «أل» فإن كان مركّبا عرّف صدره ك: «الخمسة عشر» وإن كان مضافا عرّف عجزه ك «خمسة الرّجال» و «ستة آلاف الدّرهم» هذا هو الصواب والفصيح.

قال ذو الرّمة:

«أمنزلتي ميّ سلام عليكما *** هل الأزمن اللّائي مضين رواجع »

«وهل يرجع التسليم أو يدفع البكا *** ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع »

وقال الفرزدق:

«ما زال مذ عقدت يداه إزاره *** ودنا فأدرك خمسة الأشبار »

وبعضهم يعرّف الجزأين، فيقول: «الخمسة الرجال» و «الثلاثة الأشهر». وإن كان معطوفا عرّف جزآه معا ك «الأربعة والأربعين» ونظم ذلك الأجمهوري فقال:

«وعددا تريد أن تعرّفا *** فأل بجزأيه صلن إن عطفا»

«وإن يكن مركّبا فالأوّل *** وفي مضاف عكس هذا يفعل »

«وخالف الكوفيّ في هذين *** وفيهما قد عرّف الجزأين »

15 ـ ضبط العشرة:

يجوز في «عشرة» تسكين الشين وتحريكها إذا كانت مع تاء غير مركّبة وأمّا شين «أحد عشر» إلى «تسعة عشر» فمفتوحة لا غير.

16 ـ العدد في التّأريخ:

إذا أرادوا التاريخ قالوا للعشر وما دونها خلون وبقين، فقالوا: «لتسع ليال بقين» و «ثمان ليال خلون» لأنّهم بينوه بجمع وقالوا لما فوق العشرة: «خلت» و «بقيت» لأنّهم بيّنوه بمفرد فقالوا ل «إحدى عشرة ليلة خلت» و «ثلاث عشرة ليلة بقيت». ويقال في التاريخ أول الشهر «كتب لأوّل ليلة منه» أو «لغرّته» أو «مهلّه» أو «مستهلّه». ويؤرّخ آخرا فيقال: «لآخر ليلة بقيت منه» أو «سراره» أو «سرره» أو «سلخه» أو «انسلاخه».

17 ـ ما جاء على وزن «العشير» من الأعداد:

قال أبو عبيد:

يقال: ثليث وخميس وسديس وسبيع ـ والجمع أسباع ـ وثمين وتسيع، وعشير، والمراد منها: الثلث والخمس والسّدس والسّبع والثمن والتّسع والعشر.

قال أبو زيد: لم يعرفوا الخميس ولا الربيع ولا الثليث.

وأنشد أبو عبيد:

«وألقيت سهمي وسطهم حين أوخشوا *** فما صار لي في القسم إلا ثمينها»

أي ثمنها.

18 ـ أفعال مشتقة من العدد:

تقول: كان القوم وترا فشفعتهم شفعا، وكانوا شفعا فوترتهم وترا، تقول ثلثت القوم أثلثهم ثلثا: إذا كنت لهم ثالثا، وتقول: كانوا ثلاثا فربعتهم، أي صرت رابعهم، وكانوا أربعة فخمستهم.... إلى العشرة، وفي يفعل، قلت: يثلث ويخمس... إلى العشرة، وكذلك إذا أخذت الثّلث من أموالهم، قلت: ثلثتهم ثلثا، وفي الرّبع ربعتهم، إلى العشر مثله، وفي الأموال: يثلث ويخمس إلى العشر إلّا ثلاث كلمات فإنها بالفتح في الموضعين: يربع، ويسبع، ويتسع.

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 1)

إِبْرَاء -1

التَّعْرِيفُ بِالْإِبْرَاءِ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا: جَعْلُ الْمَدِينِ- مَثَلًا- بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالتَّبْرِئَةُ: تَصْحِيحُ الْبَرَاءَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ: الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْفِرَاقِ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ. وَقَدِ اخْتِيرَ لَفْظُ (إِسْقَاطٍ) فِي التَّعْرِيفِ- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا الْإِسْقَاطُ وَالتَّمْلِيكُ- تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهِ إِسْقَاطٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَرَاءَةُ، وَالْمُبَارَأَةُ، وَالِاسْتِبْرَاءُ:

2- (الْبَرَاءَةُ): هِيَ أَثَرُ الْإِبْرَاءِ، وَهِيَ مَصْدَرُ بَرِئَ. فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لَهُ فِي الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الدَّائِنِ، تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى غَيْرِهِ، كَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الْكَفِيلِ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالِاشْتِرَاطِ، كَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّبَرُّؤِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْكَفَالَةِ.

وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ، أَوْ بِمَنْعِ صَاحِبِ التَّضْمِينِ مِنْ إِزَالَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إِنْ أَرَادَ رَدْمَهَا فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ إِبْرَاءٍ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ الْبَرَاءَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ، بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ- أَيْ الدَّائِنِ- فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إِلَى الْكَفِيلِ. وَنَحْوَهُ بَحَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَلْفِيقِ شَهَادَتَيْ الْإِبْرَاءِ وَالْبَرَاءَةِ، كَأَنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَرَجَّحُوا جَوَازَهُ وَاعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ مُسْتَكْمِلَةَ النِّصَابِ

3- أَمَّا (الْمُبَارَأَةُ) فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَتَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا. لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ. فَالْمُبَارَأَةُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِبْرَاءِ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ- إِجَابَةً لِطَلَبِ الزَّوْجَةِ غَالِبًا- مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ تَبْذُلُهُ لِلزَّوْجِ، هُوَ تَرْكُهَا مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ، أَوِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا أَيُّ حَقٍّ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَائِلَيْنِ بِسُقُوطِ جَمِيعِ حُقُوقِهَا الزَّوْجِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْخُلْعِ).

وَلِابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِسَالَةٌ فِي الطَّلَاقِ الْمُوَقَّعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ، حَقَّقَ فِيهَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا لِوُقُوعِهِ بِعِوَضٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: مَتَى ظَهَرَ كَذَا وَأَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ عِوَضًا.

4- وَأَمَّا (الِاسْتِبْرَاءُ) فَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، أَيْ طَهَارَتُهُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ. وَهُوَ حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ عِدَّةٌ. وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: هُوَ طَلَبُ نَقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِمَّا يُنَافِي التَّطَهُّرَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْحَاجَةِ).

ب- الْإِسْقَاطُ:

5- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِزَالَةُ، وَاصْطِلَاحًا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ. وَهُوَ قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمَدْيُونِيَّةِ (كَالْحَالِ فِي الْإِبْرَاءِ) كَمَا قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ الذِّمَّةُ (كَحَقِّ الشُّفْعَةِ) وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ إِبْرَاءٍ إِسْقَاطٌ، وَلَا عَكْسَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ تَقْسِيمُ الْقَرَافِيِّ الْإِسْقَاطَ إِلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ. وَالْآخَرُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَثَّلَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

وَالْإِسْقَاطُ مُتَمَحِّضٌ لِسُقُوطِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مُخْتَلِفٌ فِي أَنَّهُ إِسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَوْ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، أَوْ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

هَذَا وَإِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْقِصَاصِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَأْلُوفِ الْمَذْهَبِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِبْرَاءُ فِي مَوْطِنِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، فَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَيْبِ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ.

ج- الْهِبَةُ:

6- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، أَوِ التَّبَرُّعُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا. وَهِيَ شَرْعًا: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.

وَالَّذِي يُوَافِقُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْهِبَةِ هُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، فَهِيَ وَالْإِبْرَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِبْرَاءُ مُخْتَلِفٌ عَنْ هِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْإِبْرَاءِ بَعْدَ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ.

أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي مَوْطِنُهُ الْهِبَةُ وَالدَّيْنُ- فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ.

د- الصُّلْحُ:

7- الصُّلْحُ لُغَةً: التَّوْفِيقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ. وَهُوَ شَرْعًا: عَقْدٌ بِهِ يُرْفَعُ النِّزَاعُ وَتُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَصَالِحَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى إِسْقَاطِ جُزْءٍ مِنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْبَاقِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُشْبِهُ الصُّلْحُ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهَا أَخْذٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصُّلْحُ هُنَا عَلَى أَخْذِ بَدَلٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَتَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْجُزْءِ مِنْ حَقِّهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعِي إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، فِي حِينِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.

وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الصُّلْحَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطٌ وَإِبْرَاءٌ، وَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: صُلْحٌ عَلَى عِوَضٍ، وَقَالَ فِيهِ: هُوَ جَائِزٌ إِلاَّ إِنْ أَدَّى إِلَى حَرَامٍ.

هـ- الْإِقْرَارُ:

8- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيقَانُ وَالِاعْتِرَافُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِمَّا إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، وَإِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَكُلٌّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى إِطْلَاقِهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ وَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا عُبِّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا، فَإِذَا قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَادِّعَاءٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ.

و- الضَّمَانُ:

9- الضَّمَانُ لُغَةً: الْكَفَالَةُ وَالِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ. وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ عَكْسُ الْإِبْرَاءِ، فَهُوَ يُفِيدُ انْشِغَالَ الذِّمَّةِ

فِي حِينِ يُطْلَقُ الْإِبْرَاءُ عَلَى خُلُوِّهَا، وَلِصِلَةِ الضِّدِّيَّةِ هَذِهِ وَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْإِبْرَاءِ فِي بَابِ الضَّمَانِ.

هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ صِلَةً بِالضَّمَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِهِ، بَلْ إِنَّ لَهُ مَدْخَلًا إِلَى أَكْثَرِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَطَرَّقُ لَهُ فِي سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ- أَيْ الْأَدَاءِ- أَوِ الْمُقَاصَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ز- الْحَطُّ:

10- الْحَطُّ لُغَةً: الْوَضْعُ، أَوِ الْإِسْقَاطُ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ كُلِّهِ. فَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ مَعْنًى، وَلِذَا قَدْ يُطْلَقُ الْحَطُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْكُلِّ أَوِ الْجُزْءِ. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَطِّ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ عَنْ كُلِّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةُ وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ إِبْرَاءً، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِبْرَاءٌ جُزْئِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يُشْعِرُ بِقَنَاعَةِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ.

ح- التَّرْكُ:

11- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ. وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ صِلَتِهِ بِالْإِبْرَاءِ مَا جَاءَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ (التَّرْكِ) كَأَنْ يَقُولَ: تَرَكْتُ الدَّيْنَ، أَوْ: لَا آخُذُهُ مِنْكَ، فَهِيَ كِنَايَةُ إِبْرَاءٍ. وَلَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِبْرَاءٌ صَرِيحٌ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُقْرِي.

وَالتَّرْكُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِسْقَاطِ عُمُومًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ وَيُعْطَى أَحْكَامَهُ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ الْإِسْقَاطُ فِيهَا إِلَى قَبُولٍ- كَالْإِبْرَاءِ عِنْدَهُمْ- فِي حِينِ يَحْتَاجُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلَى الْقَبُولِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ التَّرْكُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ، كَتَرْكِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ وَمَنْحِهِ لِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا الرُّجُوعَ وَطَلَبَ الْقَسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْغَالِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ التَّرْكِ فِي الدَّعْوَى، فَالْمُدَّعِي فِي أَشْهَرِ تَعْرِيفَاتِهِ «مَنْ إِذَا تَرَكَ (أَيْ دَعْوَاهُ) تُرِكَ» وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ دَفْعٌ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِهِ الْكَيْدَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُلْزَمُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الدَّعْوَى لِلْفَصْلِ فِيهَا. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ طَلَبُ دَفْعِ التَّعَرُّضِ.

صِفَةُ الْإِبْرَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

12- الْإِبْرَاءُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ:

فَيَكُونُ وَاجِبًا إِذَا سَبَقَهُ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِالْبَرَاءَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَالْمُؤَكَّدِ بِالْحَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي بَابِ السَّلَمِ: إِذَا أَحْضَرَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالَ السَّلَمِ الْحَالَّ لِغَرَضِ الْبَرَاءَةِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. فَهَذَا وَاجِبٌ تَخْيِيرِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُفْلِسِ فَلَهُ إِجْبَارُ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَائِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ جَاءَ ضِمْنَ عَقْدٍ بَاطِلٍ، لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْبَاطِلِ حَرَامٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ.

وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا أَبْرَأَ وَارِثَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَمُسْتَنَدُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَضْيِيعِ وَرَثَتِهِ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ هَمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ.

13- عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ لَهُ النَّدْبُ، وَلِذَا يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: «الْإِبْرَاءُ مَطْلُوبٌ، فَوُسِّعَ فِيهِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ» ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ عَنِ الْمُعْسِرِ الَّذِي يُثْقِلُ الدَّيْنُ كَاهِلَهُ. وَحَتَّى إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه- حِينَ قَامَ بِوَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَخَبَرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ أَعْسَرَا، حَيْثُ ثَبَتَ حَضُّهُ - عليه الصلاة والسلام- الدَّائِنِينَ عَلَى إِسْقَاطِ كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْهُمْ.

وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْضِ، وَأَنَّ الْقَرْضَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَالْإِبْرَاءُ فِي غَيْرِ الْأَحْوَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِيَةِ فِي مُعْظَمِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُبْرِئِ عَنْ تَحْصِيلِ حَقِّهِ مِنْ مُنْكِرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ، لِفُقْدَانِ مَحَلِّهِ.

أَقْسَامُ الْإِبْرَاءِ:

14- يُقَسِّمُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ الْإِبْرَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ، وَإِبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ. وَيَعْتَبِرُونَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْجَدِيرُ بِالْبَحْثِ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّانِيَ (الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ فِي الْكَفَالَةِ الْوَاقِعِ مِنَ الطَّالِبِ (الدَّائِنِ) إِنْ جَاءَ بِلَفْظِ «بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ» بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَدِينُ كِلَاهُمَا مِنَ الْمُطَالِبِ، وَرَجَعَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ بَرَاءَةُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ. أَمَّا إِنْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ: أَبْرَأْتُكَ، بِدُونِ لَفْظِ (إِلَيَّ) فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، لَا إِقْرَارٌ بِالْقَبْضِ. عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ الْكَفَالَةُ.

وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمَا قِسْمَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ يُرَادُ بِهِ قَطْعُ النِّزَاعِ وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهُمَا. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلِذَا عَبَّرُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِثَمَرَةِ الْإِبْرَاءِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ- وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ- غَيْرُ الْإِبْرَاءِ فِي الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فِي حِينِ يَخْتَصُّ إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ بِالدُّيُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَقْتَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِإِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِقْرَار).

وَلَمْ نَقِفْ فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِلْإِبْرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ صُوَرٌ يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.

وَهُنَاكَ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، تَبَعًا لِلصِّيغَةِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (أَنْوَاع الْإِبْرَاءِ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ.

الْإِبْرَاءُ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ. وَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ رَأْيٌ غَالِبٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لِلْإِسْقَاطِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكًا لَصَحَّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْأَعْيَانِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا نَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ أَيْضًا، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَقَالُوا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إِسْقَاطٌ، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ سَقَطَ.

وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ- فِي غَيْرِ مُقَابَلَتِهِ لِلطَّلَاقِ- تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُبْرِئِ، إِسْقَاطٌ عَنِ الْمُبْرَأِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

غَلَبَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا:

16- الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ اشْتِمَالُ الْإِبْرَاءِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ: الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ تَبَعًا لِلْمَوْضُوعِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ، فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ. أَمَّا فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجْرِي الْمَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَمَثَّلَ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَمَثَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ، فَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَهَذَا إِسْقَاطٌ. وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الزَّكَاةِ، لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ كَوْنَ الْإِبْرَاءِ تَمْلِيكًا أَوْ إِسْقَاطًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.

وَمِمَّا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُهُمْ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ (الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ بِالتَّسَاوِي). وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَدِينَ مُوَرِّثِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ بَانَ مَيِّتًا، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ يَصِحُّ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ بَاعَ عَيْنًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُهُ صَحَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَهُنَا بِالْأَوْلَى.

اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ:

17- قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ، نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ التَّمْلِيكِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ.

أَرْكَانُ الْإِبْرَاءِ

تَمْهِيدٌ:

18- لِلْإِبْرَاءِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، بِحَسَبِ الْإِطْلَاقِ الْوَاسِعِ لِلرُّكْنِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ أَمْ خَارِجًا عَنْهَا، كَالْأَطْرَافِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. فَالْأَرْكَانُ عِنْدَهُمْ هُنَا: الصِّيغَةُ وَالْمُبْرِئُ (صَاحِبُ الْحَقِّ أَوِ الدَّائِنُ) وَالْمُبْرَأُ (الْمَدِينُ) وَالْمُبْرَأُ مِنْهُ (مَحَلُّ الْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ حَقٍّ)

وَرُكْنُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَهِيَ أَطْرَافُ الْعَقْدِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا، لِمَا سَبَقَ.

الصِّيغَةُ:

19- الْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَوَقُّفَ الْإِبْرَاءِ عَلَى الْقَبُولِ. أَمَّا مَنْ لَا يَرَى حَاجَةَ الْإِبْرَاءِ إِلَيْهِ فَالصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ فَقَطْ.

الْإِيجَابُ:

20- يَحْصُلُ إِيجَابُ الْإِبْرَاءِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ التَّخَلِّي عَمَّا لِلدَّائِنِ عِنْدَ الْمَدِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاضِحَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَثَرِ (سُقُوطُ الْحَقِّ وَالْمُبْرَأِ مِنْهُ)، فَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَوْ كِنَايَةً مَحْفُوفَةً بِالْقَرِينَةِ، سَوَاءٌ أُورِدَ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَبَعًا ضِمْنَ عَقْدٍ آخَرَ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَفِيَ احْتِمَالُ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ قَصْدُ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَهُوَ صُلْحٌ بِمَالٍ، عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَهُوَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، لَا لِسُقُوطِهَا.

وَالْإِبْرَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا. فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ، كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ سَنَةً، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ مُسْتَفَادُ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِأَنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ تَجَوُّزًا (إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا).

وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، أَوِ الْإِشَارَةُ الْمَعْهُودَةُ، بِشُرُوطِهِمَا الْمُفَصَّلَةِ فِي مَوْطِنِهِمَا.

21- وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِبْرَاءِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى حُصُولِ الْإِيجَابِ بِهِ- أَمْثِلَةً عَدِيدَةً لِمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى انْحِصَارِ الصِّيغَةِ فِيمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا صِيغَتُهُ: الْإِسْقَاطُ، وَالتَّمْلِيكُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْوَضْعُ، وَالْعَفْوُ، وَالْحَطُّ، وَالتَّرْكُ، وَالتَّصَدُّقُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعَطِيَّةُ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَارِثِيِّ قَوْلَهُ: لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ. كَمَا اسْتَدَلَّ مِنْ مَثَّلَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ التَّصَدُّقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَهْرِ {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله تعالى فِي شَأْنِ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام- دَاعِيًا لِإِبْرَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» وَقَدْ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ بِصِيغَةٍ يَدُلُّ تَرْكِيبُهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ حَقٌّ، أَوْ: مَا بَقِيَ لِي عِنْدَهُ حَقٌّ، أَوْ: لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ دَعْوَى، أَوْ: فَرَغْتُ مِنْ دَعْوَايَ الَّتِي هِيَ مَعَ فُلَانٍ، أَوْ: تَرَكْتُهَا.

22- وَيُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ تَعْقِيبٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُخَصِّصَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أَوِ الدُّيُونِ، وَأُخْرَى لَا يَحْصُلُ عُمُومُ الْإِبْرَاءِ إِلاَّ بِهَا- يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَاءُ أَصْلًا، أَوْ تَعْمِيمًا، أَوْ تَخْصِيصًا بِمَوْضُوعٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنْ إِطْلَاقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ «بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ» الَّتِي تَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمُوَالَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَإِذَا جَرَى الْعُرْفُ، أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا هِيَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُمَثِّلُوا بِهِ لِلْإِيجَابِ عَنِ الْإِبْرَاءِ، كَعِبَارَةِ «التَّنَازُلِ» أَوِ «التَّخَلِّي عَنِ الْحَقِّ». فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.

الْقَبُولُ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ حَاجَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطَاتُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ.

الِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: حَاجَةُ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، أَيْ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَبُولِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ- أَيْ الِافْتِقَارُ لِلْقَبُولِ- بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ، وَذَوُو الْمُرُوءَاتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَرْبِطُونَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

24- وَلَا فَرْقَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهَا بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِبْرَاءِ، أَوِ التَّعْبِيرِ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَإِثْبَاتُ الْفَرْقِ هُوَ مَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالُوا فِيهَا بِالْحَاجَةِ لِلْقَبُولِ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَهَا آكَدَ فِي الِافْتِقَارِ لِلْقَبُولِ- عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ عُمُومًا- لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي التَّمْلِيكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، لِنَظَرِهِمْ إِلَى وَحْدَةِ الْمَقْصُودِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ.

هَذَا، وَبِالرَّغْمِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ مَحْدُودًا بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ مَا دَامَ قَائِمًا فَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ فِي صُورَةِ مَنْ يُوَكِّلُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْقَبُولِ زَمَانًا، فَلَهُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

25- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْقَبُولِ: الْعُقُودَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ (أَيْ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يَفُوتُ بِهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَنَقْضُ الْعَقْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَا يَبْرَأُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَقْدٍ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَرْطٍ.

رَدُّ الْإِبْرَاءِ:

26- يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ. فَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ، لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ، كَالْهِبَةِ.

وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ (وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إِطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمُبْرِئِ، أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

1، 2- الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ (وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ، لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ.

3- إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طَلَبٌ مِنَ الْمُبْرَأِ بِأَنْ قَالَ: أَبْرِئْنِي، فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ، لَا يَرْتَدُّ.

4- إِذَا سَبَقَ لِلْمُبْرَأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (اتحاد المجلس)

اتِّحَاد الْمَجْلِسِ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاتِّحَادُ لُغَةً: صَيْرُورَةُ الذَّاتَيْنِ وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْعَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْمَجْلِسُ هُوَ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ.

وَيُرَادُ بِهِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهُ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بِمَعْنَى تَدَاخُلِ مُتَفَرِّقَاتِ الْمَجْلِسِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَوْضِعَ الْجُلُوسِ، بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَحْصُلُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ مَعَ الْوُقُوفِ، وَمَعَ تَغَايُرِ الْمَكَانِ وَالْهَيْئَةِ.

2- وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى أَسْبَابِهَا، كَقَوْلِهِمْ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، أَوْ: سَجْدَةُ السَّهْوِ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ وَتُضَافُ إِلَى غَيْرِ الْأَسْبَابِ، كَالْمَجْلِسِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِلْعُرْفِ، كَمَا فِي الْأَقَارِيرِ، أَوْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُنْفَرِدًا، وَأَحْيَانًا لَا يُؤَثِّرُ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ النَّوْعِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: حَقِيقِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ، وَحُكْمِيٌّ إِذَا تَفَرَّقَ مَجْلِسُ الْقَبُولِ عَنْ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، فَيَتَّحِدَانِ حُكْمًا.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْحَجِّ يُرَادُ بِهِ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَلَوْ تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، وَفِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ عَدَمُ تَخَلُّلِ زَمَنٍ طَوِيلٍ، أَوْ عَدَمُ الْفَصْلِ بِأَدَاءِ قُرْبَةٍ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْحَجِّ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعِبَادَاتِ:

3- تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

تَكَلَّمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: الْكَرَاهَةُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، لِلْإِسْرَافِ، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- وَوَصَفُوهُ بِالْغَرَابَةِ- إِذَا وَصَلَهُ بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّجْدِيدِ زَمَنٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ تَفْرِيقٌ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِمَثَابَةِ غَسْلَةٍ رَابِعَةٍ

الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ التَّجْدِيدِ مَرَّةً وَاحِدَةً مُطْلَقًا، تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ».

الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِرَارًا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَانْتِفَاؤُهَا إِذَا أَعَادَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ مَا وَفَّقَ بِهِ صَاحِبُ النَّهْرِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَمَا فِي السِّرَاجِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا وَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَوْ تَعَدُّدِهِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

تَكَرُّرُ الْقَيْءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ:

4- لَوْ قَاءَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ صَارَ مِلْءَ الْفَمِ فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالسَّبَبُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ فَقَطِ انْتَقَضَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ دُونَ السَّبَبِ انْتَقَضَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَاتِهِ.

وَلَمْ يُشَارِكِ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ السَّبَبِ أَوِ الْمَجْلِسِ، بَلْ رَاعَوْا قِلَّةَ الْقَيْءِ وَكَثْرَتِهِ، تَكَرَّرَ السَّبَبُ وَالْمَجْلِسُ أَوْ لَا.

سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ أَوْ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ، أَمَّا إِذَا تَكَرَّرَتْ قِرَاءَتُهَا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ سَجْدَةٍ وَلَوْ كَرَّرَهَا، لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا يَتَكَرَّرُ السُّجُودُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالْآيَةُ، حَتَّى وَلَوِ اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ، وَهُمَا التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ، بِأَنْ تَلَاهَا ثُمَّ سَمِعَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْأُولَى. وَمَنْ تَكَرَّرَ مَجْلِسُهُ مِنْ سَامِعٍ أَوْ تَالٍ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ.

اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ وَأَنْوَاعُهُ:

6- مَا لَهُ حُكْمُ الْمَكَانِ الْوَاحِدِ كَالْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ الْمَجْلِسُ بِالِانْتِقَالِ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِعَمَلٍ أَجْنَبِيٍّ كَالْأَكْلِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرَيْنِ، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ.

وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

حَقِيقِيٌّ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْمَكَانِ إِلَى آخَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا فِي الْمُحِيطِ.

وَحُكْمِيٌّ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ عَمَلٍ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ قَاطِعًا لِمَا قَبْلَهُ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالسَّبَبِ اتِّحَادًا وَتَعَدُّدًا لَا لِلْمَجْلِسِ.

سُجُودُ السَّامِعِ:

7- لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَمِعُ لَا السَّامِعُ حُكْمَ الْقَارِئِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ»

وَرَبَطَ الْمَالِكِيَّةُ سُجُودَ الْمُسْتَمِعِ الَّذِي جَلَسَ لِلثَّوَابِ وَالْأَجْرِ وَالتَّعْلِيمِ بِسُجُودِ الْقَارِئِ، فَلَا يَسْجُدُ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْقَارِئُ، فَإِنْ سَجَدَ فَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ.

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

8- لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ عَدِيدَةٌ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَجْلِسِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ آرَاءٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ اسْمُهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلَوِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ، مِنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالطُّرْطُوشِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْفَاكِهَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ بَطَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ»

الثَّانِي: وُجُوبُ الصَّلَاةِ مَرَّةً فِي كُلِّ مَجْلِسٍ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ النَّسَفِيُّ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ التِّلَاوَةِ: وَهُوَ كَمَنْ سَمِعَ اسْمَهُ مِرَارًا، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ إِلاَّ مَرَّةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ اسْمِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحِفْظِ سُنَّتِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ بِكُلِّ مَرَّةٍ لأَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ.

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ إِنْ كَانَ السَّامِعُ غَافِلًا فَيَكْفِيهِ مَرَّةٌ فِي آخَرِ الْمَجْلِسِ

الثَّالِثُ: نَدْبُ التَّكْرَارِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَحْصِيلِهِ لآِرَاءِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالنَّدْبِ مُطْلَقًا، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمِ اخْتَلَفَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي مَبْحَثِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

أَوَّلًا- مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعَاقُدُ فِي الْجُمْلَةِ:

9- وَيُرَادُ بِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَلاَّ يَشْتَغِلَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ مَا عُقِدَ لَهُ الْمَجْلِسُ، أَوْ بِمَا هُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَقْدِ. وَهُوَ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي الصِّيغَةِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.

وَهُوَ يَدْخُلُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَمَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يُشْعِرْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ.

وَيَضُرُّ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

خِيَارُ الْقَبُولِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

10- يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَبُولِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا دَامَا جَالِسَيْنِ وَلَمْ يَتِمَّ الْقَبُولُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ.

وَلَا يُخَالِفُهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ وَاحِدًا، فَخِيَارُ الْقَبُولِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.

وَلَا خِيَارَ لِلْقَبُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ مَا دَامَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ قَبْلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَهُمَا إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ثُمَّ يَدَّعِي الْقَابِلُ أَوِ الْمُوجِبُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْبَيْعَ فَيَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ.

بِمَ يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ؟

11- يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ مَعَهَا الْإِعْرَاضُ، فَالشَّافِعِيَّةُ جَعَلُوا الِاشْتِغَالَ بِأَجْنَبِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْعَقْدِ إِبْطَالًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ هُوَ الضَّابِطَ لِذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْقَطِعُ بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ بَطَلَ الْإِيجَابُ، إِذْ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ مَعَ الْقِيَامِ. وَإِنْ تَبَايَعَا وَهُمَا يَسِيرَانِ، وَلَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَصِحَّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنِ النَّوَازِلِ إِذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ.

وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْمَجْلِسُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَكْلِ وَتُغْتَفَرُ اللُّقْمَةُ الْوَاحِدَةُ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ.

وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ فَلَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ.

وَهَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ لَمْ تُغْفِلْهَا كُتُبُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، غَيْرَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا أَثْنَاءَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ لَا فِي الْكَلَامِ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.

12- وَغَيْرُ الْبَيْعِ مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ يَجِدُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ.

وَلَا تَخْتَلِفُ أَيْضًا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. أَمَّا غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَلَا يَضُرُّ التَّرَاخِي فِيهَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

ثَانِيًا- التَّقَابُضُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ:

13- إِذَا بِيعَ رِبَوِيٌّ بِمِثْلِهِ اشْتُرِطَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ جِنْسُ الْمَبِيعِ أَوِ اخْتَلَفَ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَبَيَانُ الرِّبَوِيِّ مِنْ غَيْرِهِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّبَا.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي السَّلَمِ:

14- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَلِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدُ غَرَرٍ فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرٌ آخَرُ، وَلِأَنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِلَامِ رَأْسِ الْمَالِ، أَيْ تَعْجِيلِهِ، وَأَسْمَاءُ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ الْمَعَانِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعَانِي.

وَلَا يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُخَالِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، فَمَجْلِسُ الْبَيْعِ يَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ. أَمَّا السَّلَمُ فَيَعْتَرِيهِ الْفَسْخُ إِنْ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ بَقَاءٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَيْسَ شَرْطَ انْعِقَادٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْخِيرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يَأْخُذُ حُكْمَهُ، وَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ نَقْدٌ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ ضَارَعَ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهَذَا مَا لَمْ تَبْلُغِ الزِّيَادَةُ إِلَى حُلُولِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى حُلُولِ أَجَلِ السَّلَمِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَسَادِهِ.

وَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْخِيَارِ فِي السَّلَمِ إِنْ شَرَطَ وَلَمْ يَنْقُدْ رَأْسَ الْمَالِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَدَ وَتَمَّ السَّلَمُ لَكَانَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، لِإِعْطَاءِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ سِلْعَةً مَوْصُوفَةً لِأَجَلٍ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ فَسْخِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

15- لِلْعُلَمَاءِ فِي ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ أَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

الثَّانِي: اشْتِرَاطُ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَا مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَاجِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اغْتَفَرُوا فِيهِ الْفَاصِلَ الْيَسِيرَ. وَضَبَطَ الْقَفَّالُ الْفَاصِلَ الْكَثِيرَ بِأَنْ يَكُونَ زَمَنًا لَوْ سَكَتَا فِيهِ لَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا. وَالْأَوْلَى ضَبْطُهُ بِالْعُرْفِ.

الثَّالِثُ: صِحَّةُ الْعَقْدِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ. وَعَلَيْهَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مَعَ التَّفَرُّقِ.

وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحَقِيقِيِّ، أَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحُكْمِيِّ فَلَا يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْإِيجَابِ حِينَ الْعِلْمِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَعَلَى الْفَوْرِ.

تَدَاخُلُ الْفِدْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

16- لَا يَحْصُلُ التَّدَاخُلُ فِي الْمَحْظُورَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ إِلاَّ إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ فِي الْمَحْظُورَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ حِينَئِذٍ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لَهُ أَثَرُهُ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، غَيْرَ فِدْيَةِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُتْلَفِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْظُورُ إِتْلَافًا أَمْ غَيْرَهُ.

وَالتَّدَاخُلُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَخْتَلِفُ فِي فِدْيَةِ الْجِمَاعِ عَنْهُ فِي بَقِيَّةِ مَحْظُورَاتِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ.

تَدَاخُلُ فِدْيَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ:

17- لَوْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ، أَوْ لَبِسَ أَنْوَاعًا كَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ، أَوْ نَوْعًا وَاحِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَعَلَى التَّوَالِي فَفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ- غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ مَا ذُكِرَ فِي مَكَانَيْنِ تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ لَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْنَاسِ.

وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَوَى التَّكْرَارَ.

تَدَاخُلُ فِدْيَةِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ:

18- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَتَدَاخُلِهَا بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ مِنَ الْمُحْرِمِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ. وَيُكَفِّرُ عَنِ الْأَخِيرِ إِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلسَّابِقِ.

ب- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَوِ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.

ج- تَكَرُّرُ الْفِدْيَةِ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَأَوْجَبَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْخُلْعِ:

19- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّ الْقَبُولَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَمَا لَمْ تَبْدَأِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الزَّوْجِ وَلَوْ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا مَا لَمْ يَقْبَلْ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةَ.

وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ بِمَجْلِسِ الْمُتَخَالِعَيْنِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ، وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَالْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ إِلاَّ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْبَادِئَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَظَرًا لِلْمُعَاوَضَةِ.

وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ حُصُولِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ.

وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ صِيغَةَ الْخُلْعِ كَصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَفِي كَلَامِهِمْ عَنِ الْخُلْعِ مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَةِ لَمْ يَأْتُوا بِجَدِيدٍ يُخَالِفُ حُضُورَ الزَّوْجَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوا الْوَكِيلَ بِجَدِيدٍ كَذَلِكَ.

اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْمُخَيَّرَةِ:

20- الْمُخَيَّرَةُ هِيَ الَّتِي مَلَّكَهَا زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِقَوْلِهِ لَهَا مَثَلًا: اخْتَارِي نَفْسَكِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ طَالَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ- فَلَوْ قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّخْيِيرُ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِعْرَاضِ فَكَذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ لَا بِمَجْلِسِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالْحَنَابِلَةُ يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالِاعْتِدَادُ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ خِيَارُهَا. رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْخِيَارَ لَهَا خَارِجَ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تَقِفْ أَمَامَ حَاكِمٍ أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ «بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَهَذَا يَمْنَعُ قَصْرَهُ عَلَى الْمَجْلِسِ.

وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْحَاضِرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُخَيَّرَةُ غَائِبَةً فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْغَائِبَةِ وَالْحَاضِرَةِ، فَالْخُلْعُ- عَلَى الْأَصَحِّ- طَلَاقٌ، وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ فِيهِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ. وَكَمَا يُجْرَى الْخِلَافُ فِي الْمُخَيَّرَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُجْرَى أَيْضًا فِي الْمُخَيَّرَةِ الْغَائِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّخْمِيِّ. وَطَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يَبْقَى التَّخْيِيرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَطُلْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، كَمَا فِي التَّوْضِيحِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ رِضَاهَا بِالْإِسْقَاطِ، وَمَا لَمْ تُوقَفْ أَمَامَ حَاكِمٍ، أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً.

وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُخَيَّرَةِ كَاخْتِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ.

تَكْرَارُ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

21- لَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا وَمَنْ فِي حُكْمِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَنَوَى تَكْرَارَ الْوُقُوعِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟».

وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ، لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ».

وَإِنْ أَرَادَ التَّأْكِيدَ أَوِ الْإِفْهَامَ فَإِنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةً.

وَتُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَتُقْبَلُ قَضَاءً وَإِفْتَاءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ أَطْلَقَ فَيَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْكِيدِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُحْتَمَلٌ، فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ.

وَمِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ، وَفِي إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ. أَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ فِي الثَّانِيَةِ.

الْفَصْلُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ:

22- لَا تَضُرُّ سَكْتَةُ التَّنَفُّسِ، وَالْعِيِّ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ. فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ فَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضُرُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا تَقَعُ مَعَهُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلاَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَحْصُلُ التَّأْكِيدُ بِدُونِ نَسَقٍ (أَيْ عَطْفِهِ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ أَوْ ثُمَّ).

تَكْرَارُ طَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا:

23- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْرِيرِ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- الْأَوَّلُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمْ تَعَدَّدَ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى وَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ، وَطَلَاقُ الْأَجْنَبِيَّةِ بَاطِلٌ.

الثَّانِي: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ نَسَّقَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ كَلَامِهِ فَهِيَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.

الثَّالِثُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ شَتَّى وَقَعَ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.

اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ: هِيَ ثَلَاثٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ ثَنَّى ثُمَّ ثَلَّثَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْأُولَى. وَصَحَّ هَذَا عَنْ خِلَاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَدَلِيلُ الثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَهَا مُتَّصِلَةً، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ. أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَكُنِ الْأُخْرَيَانِ شَيْئًا، وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ.

وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: قَالَ لِي مَنْصُورٌ: حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

تَكْرَارُ الطَّلَاقِ مَعَ الْعَطْفِ:

24- التَّكْرَارُ مَعَ الْعَطْفِ كَعَدَمِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ، وَفِي نِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ.

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّوْكِيدِ مَعَ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَفِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِثُمَّ كَالتَّأْكِيدِ بِالْوَاوِ، كَمَا فِي الْعُبَابِ.

وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ مَعَ الْعَطْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَلَا يَتَأَتَّى مَعَهَا التَّأْكِيدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَثُمَّ.

تَكَرُّرُ الْإِيلَاءِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

25- الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ يَمِينَ الْإِيلَاءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِيلَاءً وَاحِدًا وَيَمِينًا وَاحِدَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ قَرَبَهَا فِيهَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّأْكِيدَ أَوْ أَطْلَقَ، فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ، وَالْإِيلَاءُ ثَلَاثٌ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ.

وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْحَنَابِلَةُ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي الْإِيلَاءِ.

وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْرَارِ الْإِيلَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ يَمِينًا. وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْيَمِينِ مَا لَمْ يَنْوِ التَّكْرَارَ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الظِّهَارِ:

26- لَيْسَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَرَّرَ الظِّهَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَلَا تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَدَّدُ إِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّكْرَارَ، أَوْ أَطْلَقَ.

وَلَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يَنْوِ الِاسْتِئْنَافَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَلَوْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ لِتَحْرِيمِهَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَاسُوهُ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (إجارة 3)

إِجَارَة -3

خَامِسًا- انْفِسَاخُ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ:

72- سَبَقَ ذِكْرُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْقَضِي بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يَعْقِدَانِ لِنَفْسَيْهِمَا، كَمَا تَنْقَضِي بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَوْ أَحَدِ الْمُؤَجِّرَيْنِ فِي حِصَّتِهِ فَقَطْ.

وَقَالَ زُفَرُ: تَبْطُلُ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ ابْتِدَاءً، فَأَعْطَاهُ حُكْمَهُ.

وَرَجَّحَ الزَّيْلَعِيُّ الرَّأْيَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: لِأَنَّ الشُّرُوطَ يُرَاعَى وُجُودُهَا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الْبَقَاءِ. وَعَلَّلَ لِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً بِحَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ فَالْمَنَافِعُ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هِيَ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ عَاقِدًا وَلَا رَاضِيًا بِهَا. وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُورَثُ.

وَلَا يَظْهَرُ الِانْفِسَاخُ إِلاَّ بِالطَّلَبِ، فَلَوْ بَقِيَ الْمُسْتَأْجِرُ سَاكِنًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُؤَجِّرِ غَرَّمَهُ الْأَجْرَ لِمُضِيِّهِ فِي الْإِجَارَةِ، وَلَا يَظْهَرُ الِانْفِسَاخُ إِلاَّ إِذَا طَالَبَهُ الْوَارِثُ بِالْإِخْلَاءِ. وَإِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ، وَالدَّابَّةُ أَوْ مَا يُشْبِهُهَا فِي الطَّرِيقِ، تَبْقَى الْإِجَارَةُ حَتَّى يَصِلَ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى مَأْمَنِهِ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَالزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى حَتَّى يُدْرِكَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ- الشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ- إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْقَوْلِ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجِّرَ بَطَلَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ، فَيَبْطُلُ عَقْدُهُ. كَمَا أَنَّ وَرَثَةَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا عَقْدَ لَهُمْ مَعَ الْمُؤَجِّرِ، وَالْمَنَافِعُ الْمُتَجَدِّدَةُ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَمْ تَكُنْ ضِمْنَ تَرِكَتِهِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فِي إِجَارَةِ الْوَقْفِ.

وَسَبَقَ الْقَوْلُ: إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ لَا نَقْضِي بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا مَا دَامَ مَا تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ بَاقِيًا. وَقَدْ كَانَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ قَالَ فِيمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ الْمُؤَجِّرُ: لَيْسَ لِأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الْأَجَلِ. وَقَالَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى خَيْبَرَ لِأَهْلِهَا لِيَعْمَلُوا فِيهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا»، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الْإِجَارَةَ.

سَادِسًا: أَثَرُ بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:

73- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ اتِّهَامٌ، إِلَى أَنَّهُ لَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْبَيْعِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ تُهْمَةٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الْأَظْهَرِ، إِلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْبَيْعِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ هُوَ الْعَيْنُ، وَالْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ الْمَنَافِعُ، فَلَا تَعَارُضَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاتِّجَاهِ الثَّانِي أَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ، فَتَنَاقَضَا.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَعْتَبِرُونَ الْإِجَارَةَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ.

وَإِنْ كَانَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ نَفْسِهِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِالْأَوْلَى عِنْدَ غَيْرِهِمْ، أَنَّهُ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ.

وَلَا أَثَرَ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِنْ رَهْنِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ هِبَتِهَا اتِّفَاقًا. وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فَتْوَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.

سَابِعًا- فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ:

74- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّهُ إِذَا حَدَثَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبٌ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَكَانَ هَذَا الْعَيْبُ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، كَانْجِرَاحِ ظَهْرِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُؤَجَّرَةِ لِلرُّكُوبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ عَلَى الْعَقْدِ اتِّفَاقًا، وَيَجْعَلُهُ غَيْرَ لَازِمٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ أَضَرَّ بِهِ وُجُودُ الْعَيْبِ. فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا فَآجَرَهُ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ، يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ، وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ، فَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَكُونُ عُذْرًا يُخَوِّلُ لَهُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ سَبَقَ لَهُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَتَجَدَّدُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ أَصَابَ إِبِلَ الْمُؤَجِّرِ مَرَضٌ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِذَا كَانَتِ الْإِبِلُ مُسْتَأْجَرَةً بِعَيْنِهَا.

وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرُدَّ بِمَا يَحْدُثُ فِي يَدِهِ مِنَ الْعَيْبِ، لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِذَا جَازَ رَدُّ الْبَيْعِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ عَيْبٍ فِي يَدِ الْبَائِعِ جَازَ بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَفِي الْمُغْنِي: إِذَا اكْتَرَى عَيْنًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ فَلَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

75- أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُفَوِّتُ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ الْعَقْدِ، كَانْهِدَامِ بَعْضِ مَحَالِّ الْحُجُرَاتِ، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ بَرْدٌ وَلَا مَطَرٌ، وَكَانْقِطَاعِ ذَيْلِ الدَّابَّةِ، وَكَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ مَعَ إِمْكَانِ الزَّرْعِ بِدُونِ مَاءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا الْفَسْخَ.

وَالْعِبْرَةُ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ الْفَسْخَ أَوْ عَدَمَهُ مِنَ الْعُيُوبِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ.

وَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ وَزَالَ سَرِيعًا بِلَا ضَرَرٍ فَلَا فَسْخَ.

76- وَقَبْضُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ طَلَبِ الْفَسْخِ لِحُدُوثِ عَيْبٍ بِالْعَيْنِ، إِذْ الْإِجَارَةُ تَخْتَلِفُ عَنِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعٌ لِلْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنَافِعِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً. فَإِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ بِالْمُسْتَأْجَرِ كَانَ هَذَا عَيْبًا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ، فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ يُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمَذَاهِبِ تَرَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَالْعَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ تَسْلِيمُهَا عِنْدَ التَّعَاقُدِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ، بَلْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ. يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا حَصَلَ الْعَيْبُ أَثْنَاءَ الِانْتِفَاعِ ثَبَتَ لِلْمُكْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يَحْصُلُ قَبْضُهَا إِلاَّ شَيْئًا فَشَيْئًا. إِلَخْ.

وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الْفَسْخِ- بِأَنْ زَالَ الْعَرَجُ عَنِ الدَّابَّةِ أَوْ بَادَرَ الْمُكْرِي إِلَى إِصْلَاحِ الدَّارِ- لَا يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الرَّدِّ وَبَطَلَ حَقُّهُ فِي طَلَبِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ.

الْفَصْلُ الْخَامِسُ

الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ

77- قَدْ يَقَعُ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي بَعْضِ أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالْإِجَارَةِ، كَالْمُدَّةِ وَالْعِوَضِ وَالتَّعَدِّي، وَالرَّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلِمَنْ يَكُونُ الْقَوْلُ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ؟

وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ (عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ) صُوَرًا شَتَّى فِي هَذَا الْأَمْرِ. وَتَرْجِعُ آرَاؤُهُمْ كُلُّهَا إِلَى تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَالْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلِلظَّاهِرِ مَدْخَلٌ فِي تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنْهُمَا. فَمَنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا عَلَى الْآخَرِ فَهُوَ الْمُدَّعِي.

وَالْفُرُوعُ الَّتِي سِيقَتْ فِي هَذَا الْبَابِ (مَعَ كَثْرَتِهَا) تَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى).

الْفَصْلُ السَّادِسُ

كَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ

79- الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَلَى مَنْقُولٍ- حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ- وَقَدْ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ مَنْقُولٍ. كَمَا قَدْ تَكُونُ إِجَارَةَ أَشْخَاصٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا أَمْ مُشْتَرَكًا. وَقَدْ تَتَمَيَّزُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا بِحَسَبِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا.

وَعَالَجَ الْفُقَهَاءُ مَا كَانَ فِي الْعُهُودِ السَّابِقَةِ مِنْ إِجَارَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُرُوضِ فَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهَا. وَبِالنَّظَرِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ آرَاءَهُمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأُسُسِ الْآتِيَةِ:

أ- إِذَا كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَجَبَ الِالْتِزَامُ بِهِ.

ب- إِذَا كَانَتْ طَبِيعَةُ الْمَأْجُورِ مِمَّا يَتَأَثَّرُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ وَجَبَ أَلاَّ تُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ ضَارٍ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى وَجْهٍ أَخَفَّ.

ج- مُرَاعَاةُ الْعُرْفِ فِي الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا.

وَمَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ فُرُوعٍ تَطْبِيقِيَّةٍ يُوهِمُ ظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْأُسُسِ.

الْفَصْلُ السَّابِعُ

أَنْوَاعُ الْإِجَارَةِ بِحَسَبِ مَا يُؤَجَّرُ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ

إِجَارَةُ غَيْرِ الْحَيَوَانِ

الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِيمَا يَجُوزُ إِجَارَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَجُوزُ إِجَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ مَنَافِعَ، بِشَرْطِ أَلاَّ تُسْتَهْلَكَ الْعَيْنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَضْلاً عَنْ جَوَازِ إِجَارَةِ بَعْضِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَإِجَارَةِ الْحُرِّ وَإِجَارَةِ الْوَقْفِ وَإِجَارَةِ الْمُصْحَفِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ بَيْعَهُ.

كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى اخْتِلَافِ الْعُرْفِ. الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ

إِجَارَةُ الْأَرَاضِي

80- إِجَارَةُ الْأَرَاضِي مُطْلَقًا لِذَاتِهَا جَائِزَةٌ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ بِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنِ اسْتِئْجَارِهَا، وَذَلِكَ لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافِ أَثَرِهَا. فَإِذَا كَانَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ مَاءٍ أَوْ مَرْعَى أَوْ زَرْعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي حُكْمُهَا:

أ- إِجَارَةُ الْأَرْضِ مَعَ الْمَاءِ أَوِ الْمَرْعَى:

81- يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ اتِّفَاقًا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يُجِيزُونَ إِجَارَةَ الْآجَامِ وَالْأَنْهَارِ لِلسَّمَكِ، وَلَا الْمَرْعَى لِلْكَلأَِ، قَصْدًا، وَإِنَّمَا يُؤَجِّرُ لَهُ الْأَرْضَ فَقَطْ، ثُمَّ يُبِيحُ الْمَالِكُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الِانْتِفَاعَ بِالْكَلأَِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْكَلأَِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْكَلأَِ مَعًا، وَيَدْخُلُ الْكَلأَُ تَبَعًا.

وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلَافٌ فِي اسْتِئْجَارِ طَرِيقٍ خَاصٍّ يَمُرُّ فِيهِ، أَوْ يَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ.

ب- إِجَارَةُ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ:

82- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ يُجِيزُونَ إِجَارَةَ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ الْأَرْضِ وَبَيَانِ قَدْرِهَا، فَلَا تَجُوزُ إِجَارَةُ الْأَرَاضِي إِلاَّ عَيْنًا، لَا مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ. بَلِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَعْرِفَةِ الْأَرْضِ رُؤْيَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَعْدِنِ الْأَرْضِ وَمَوْقِعِهَا وَقُرْبِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الرُّؤْيَةَ، فَأَجَازُوا إِجَارَةَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: أَكَرِيكَ فَدَّانَيْنِ مِنْ أَرْضِي الَّتِي بِحَوْضِ كَذَا، أَوْ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ أَرْضِي الْفُلَانِيَّةِ، إِذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ الْجِهَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا ذَلِكَ الْقَدْرُ، كَأَنْ يَقُولَ: مِنَ الْجِهَةِ الْبَحْرِيَّةِ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنِ الْجِهَةَ، لَكِنْ تَسَاوَتِ الْأَرْضُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ. فَإِنْ لَمْ تُعَيَّنِ الْجِهَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَرْضُ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ بِالتَّعْيِينِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يُؤَجِّرُ لَهُ قَدْرًا شَائِعًا مِنْهَا كَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُونَ تَعْيِينِ الْجِهَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْجُزْءُ.

وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِجَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ مَأْمُونٌ دَائِمٌ لِلزِّرَاعَةِ، يُؤْمَنُ انْقِطَاعُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إِلاَّ عَلَى عَيْنٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا، فَتَصِحُّ إِجَارَةُ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ، مَا دَامَتْ تُسْقَى مِنْ نَهْرٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِانْقِطَاعِهِ وَقْتَ طَلَبِ السَّقْيِ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِرْكَةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ أَمْطَارٍ تَقُومُ بِكِفَايَتِهَا، أَوْ بِهَا نَبَاتٌ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ مَاءٍ قَرِيبٍ تَحْتَ سَطْحِ الْأَرْضِ. وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا مَقْدُورَةً حَقِيقَةً وَشَرْعًا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا كِرَاءَ أَرْضِ الْمَطَرِ لِلزِّرَاعَةِ، وَلَوْ لِسِنِينَ طَوِيلَةٍ، إِنْ لَمْ يُشْتَرَطِ النَّقْدُ، سَوَاءٌ حَصَلَ نَقْدٌ بِالْفِعْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ الْعَقْدِ أَمْ لَا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مَأْمُونَةً لِتَحَقُّقِ رَيِّهَا مِنْ مَطَرٍ مُعْتَادٍ، أَوْ مِنْ نَهْرٍ لَا يَنْقَطِعُ مَاؤُهُ، أَوْ عَيْنٍ لَا يَنْضُبُ مَاؤُهَا، فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِالنَّقْدِ وَلَوْ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ النَّقْدُ فِي الْأَرْضِ الْمَأْمُونَةِ بِالرَّيِّ بِالْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

وَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ، وَسَكَتَ عَنِ اشْتِرَاطِ النَّقْدِ وَعَدَمِهِ، أَوِ اشْتَرَطَ عَدَمَهُ حِينَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الدَّائِمَةِ إِذَا رُوِيَتْ وَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِكَشْفِ الْمَاءِ عَنْهَا، وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي تُسْقَى بِالْمَطَرِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ فَلَا يُقْضَى بِالنَّقْدِ فِيهَا.

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَأْمُونًا كَمَاءِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ إِذَا تَمَّ زَرْعُهَا وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَاءِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ إِلاَّ بِهِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ يَدْخُلُ تَبَعًا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ.

إِجَارَةُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا:

83- إِذَا كَانَتْ أُجْرَتُهَا مِمَّا تُنْبِتُهُ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَجَازُوا إِجَارَتَهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا، وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِجَارَتَهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَيَّدُوا جَوَازَ تَأْجِيرِهَا لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ تُسْقَى بِهِ، وَلَوْ مَاءُ الْمَطَرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ مَأْمُونَةَ الرَّيِّ.

الْمُدَّةُ فِي الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ:

84- يَجُوزُ إِيجَارُ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَسَنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، اتِّفَاقًا، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ إِجَارَةُ الْأَرْضِ لِمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ وَقْفًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْعَيْنِ يَصِحُّ مُدَّةً تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ إِلَيْهَا. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا تُزَادُ عَلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَغَيُّرُ الْأَشْيَاءِ بَعْدَهَا. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ أَيْضًا: لَا يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهَا. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مَوْقُوفَةً فَأَجَّرَهَا الْمُتَوَلِّي إِلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنْ كَانَ السِّعْرُ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ أَلاَّ يُؤَجِّرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ إِيجَارُهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ أَنْفَعَ لِلْوَقْفِ.

اقْتِرَانُ صِيغَةِ الْإِجَارَةِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ:

85- عَقْدُ الْإِجَارَةِ يَقْبَلُ الِاقْتِرَانَ بِالشَّرْطِ اتِّفَاقًا. لَكِنْ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُنْتِجُ تَحْقِيقَ مَصْلَحَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَاشْتِرَاطِ الْكِرَابِ وَالسَّقْيِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ لَا تَتَأَتَّى إِلاَّ بِهِ.

وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَثْنِيَهَا- أَيْ يَحْرُثَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً- وَيُكْرِيَ أَنْهَارَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا تَبْقَى فَائِدَتُهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسُدُ بِهِ الْإِجَارَةُ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا اشْتِرَاطَ أَنْ يُسَمِّدَهَا بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السَّمَادِ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ تَبْقَى فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ.

أَمَّا إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَزْرَعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، أَوْ أَنْ يَزْرَعَ قَمْحًا فَقَطْ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ قَمْحًا أَوْ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ ضَرَرًا بِالْأَرْضِ، لَا مَا هُوَ أَكْثَرُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ، فَأُلْغِيَ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهَا مَا يُنَافِي مُوجِبَهَا. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ، فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ.

86- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ جِنْسَ مَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ الْأَرْضَ، زِرَاعَةً أَوْ غِرَاسًا، دُونَ حَاجَةٍ لِبَيَانِ نَوْعِ مَا يَزْرَعُ أَوْ يَغْرِسُ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغِرَاسَ قَدْ يَكُونُ أَضَرَّ بِالْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ يَخْتَلِفُ. أَمَّا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الزَّرْعَيْنِ فَقَلِيلٌ لَا يَضُرُّ.

وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ، فَلَا يَجُوزُ، لِلْجَهَالَةِ، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ الَّذِي أَجَازَ، وَقَالَ: يُمْنَعُ الْمُكْتَرِي مِنْ فِعْلِ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ.

أَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: آجَرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا أَوْ تَغْرِسَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمَا، فَوُجِدَتْ جَهَالَةٌ.

وَإِذَا قَالَ لَهُ: آجَرْتُكَ لِتَزْرَعَهَا وَتَغْرِسَهَا، صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا كُلَّهَا مَا شَاءَ، أَوْ أَنْ يَغْرِسَهَا كُلَّهَا مَا شَاءَ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ النِّصْفَ، وَيَغْرِسَ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنِ الْمِقْدَارَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.

أَمَّا إِنْ أَطْلَقَ، وَقَالَ: آجَرْتُكَ لِتَنْتَفِعَ بِهَا مَا شِئْتَ، فَلَهُ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِلْإِطْلَاقِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَكْتَرِيهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْأَرْضَ عَادَةً تُكْتَرَى لِلزِّرَاعَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنَّهُ اكْتَرَاهَا لِلزِّرَاعَةِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ عَالِيَةً لَا يَطْمَعُ فِي سَقْيِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَرِهَا لِلزِّرَاعَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً يَطْمَعُ فِي سَقْيِهَا بِسَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهَا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اكْتَرَاهَا لِلزِّرَاعَةِ مَعَ تَعَذُّرِ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِمْكَانِ لَا يَكْفِي، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ الْمَاءِ إِلَيْهَا عَلَى الْأَرْجَحِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَا تُسْتَأْجَرُ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ زِرَاعَةٍ أَوْ غِرَاسٍ. وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ بَيَانِ نَوْعِ مَا يُزْرَعُ أَوْ يُغْرَسُ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا، مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ وَمَا لَا يَضُرُّ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا. وَلِذَا وَجَبَ الْبَيَانُ، أَوْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مَا شَاءَ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُبَيِّنَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَخْتَلِفُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ زَرَعَهَا مَعَ ذَلِكَ الْفَسَادِ وَمَضَى الْأَجَلُ، فَلِلْمُؤَجِّرِ الْمُسَمَّى، اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ.

أَحْكَامُ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ:

الْتِزَامَاتُ الْمُؤَجِّرِ:

87- يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ خَالِيَةً إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لآِخَرَ، أَوْ مَا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ، لَمْ تَجُزِ الْإِجَارَةُ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَلَعَ ذَلِكَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْأَرْضِ جَازَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَتْ مَشْغُولَةً، وَخَلَتْ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِيمَا خَلَتْ فِيهِ مِنَ الْمُدَّةِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ رُجِعَ فِي تَقْوِيمِهِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ.

الْتِزَامَاتُ الْمُسْتَأْجِرِ:

88- أَوَّلاً: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَدْفَعَ الْأُجْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْعَقْدِ حَسَبَ الِاشْتِرَاطِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى لُزُومِ الْكِرَاءِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي اكْتَرَاهَا وَإِنْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ. وَقَدِ اتَّجَهَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنِ انْقَطَعَ عَنْهَا الْمَاءُ، أَوْ غَرِقَتْ وَلَمْ يَنْكَشِفْ عَنْهَا الْمَاءُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ تَمَكُّنَهُ مِنْ زِرَاعَتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ. لَكِنْ لَهُمْ تَفْصِيلَاتٌ يَنْبَغِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا.

فَالْحَنَفِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ النَّهْرِ أَوْ مَاءِ الْمَطَرِ يُسْقِطُ الْأَجْرَ. وَكَذَا إِنْ غَرِقَتِ الْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَهَا وَمَضَتِ الْمُدَّةُ. وَكَذَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ. أَمَّا إِنْ زَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَهَلَكَ الزَّرْعُ، أَوْ غَرِقَتْ بَعْدَ الزَّرْعِ وَلَمْ يَنْبُتْ، فَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ: يَكُونُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلاً وَالْمُخْتَارُ فِي الْفَتْوَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَجْرٌ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ هَلَاكِ الزَّرْعِ.

وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ، أَوْ إِغْرَاقِهِ لَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرَعَهَا وَحَتَّى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. أَمَّا إِنْ تَمَكَّنَ ثُمَّ فَسَدَ الزَّرْعُ لِجَائِحَةٍ لَا دَخْلَ لِلْأَرْضِ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا انْعَدَمَ الْبَذْرُ عُمُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِلْكًا أَوْ تَسْلِيفًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ، وَكَذَا إِذَا سُجِنَ الْمُكْتَرِي بِقَصْدِ تَفْوِيتِ الزَّرْعِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْكِرَاءُ عَلَى سَاجِنِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنِ اكْتَرَى أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا، فَالْمُكْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ قَدْ فَاتَتْ، وَبَيْنَ إِبْقَائِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَإِنَّمَا نَقَصَتْ مَنْفَعَتُهَا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ.

وَقَالُوا: إِذَا زَرَعَ الْأَرْضَ الَّتِي اكْتَرَاهَا ثُمَّ هَلَكَ الزَّرْعُ بِزِيَادَةِ الْمَطَرِ أَوْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ أَكْلِ الْجَرَادِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ الْجَائِحَةَ حَدَثَتْ عَلَى مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَقَالُوا: إِنِ اكْتَرَى أَرْضًا غَرِقَتْ بِالْمَاءِ لِزِرَاعَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَاءِ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَاءِ مَغِيضٌ إِذَا فُتِحَ انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنِ الْأَرْضِ، وَقَدَرَ عَلَى الزِّرَاعَةِ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَاءَ يَنْحَسِرُ وَتُنَشِّفُهُ الرِّيحُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ.

وَالثَّانِي: يَصِحُّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ إِمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِهِ.

89- ثَانِيًا: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ فِي حُدُودِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَشْرُوطِ، لَا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ. وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ الزَّرْعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، أَوْ مُسَاوِيهِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ضَرَرًا.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: مَنِ اكْتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا قُطْنًا. وَإِذَا زَرَعَهَا ضَمِنَ قِيمَةَ مَا أَحْدَثَهُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ مِنْ نُقْصَانٍ، وَاعْتُبِرَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ تَعْيِينَ نَوْعِ مَا يُزْرَعُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ: يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ، وَتُفْضِي إِلَى مُنَازَعَةٍ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ: يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ. وَفِي قَوْلٍ: إِنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى وَأَجْرَ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ الْمِثْلِ لِلْجَمِيعِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوِ اشْتَرَطَ نَوْعًا مُعَيَّنًا مِنَ الزَّرْعِ كَالْقَمْحِ فَلَهُمْ رَأْيَانِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْقَمْحُ لِتُقَدَّرَ بِهِ الْمَنْفَعَةُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِهَذَا الشَّرْطِ حَسَبَ الِاتِّفَاقِ، فَيَكُونُ شَرْطًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِهِمْ.

انْقِضَاءُ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ:

90- إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ، وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ، انْقَضَتِ الْإِجَارَةُ اتِّفَاقًا. وَيَبْقَى الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا كَانَ لَمْ يَحِنْ حَصَادُهُ. وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى عَنِ الْمُدَّةِ، زَائِدًا أَجْرَ الْمِثْلِ عَنِ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ.

وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ بَعْضُ تَفْصِيلَاتٍ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغِرَاسِ لَا لِلزَّرْعِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَغْرِسَ بِهَا شَجَرًا وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ، لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الشَّجَرَ وَيُسَلِّمَ الْأَرْضَ فَارِغَةً. وَقِيلَ: يَتْرُكُهَا بِأَجْرِ الْمِثْلِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا إِنْ كَانَ فِي قَلْعِهَا ضَرَرٌ فَاحِشٌ بِالْأَرْضِ. وَإِلاَّ قَلَعَهَا مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ لَهُ. لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي التَّفْرِيغَ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ.

وَلَا يَبْعُدُ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَيَّدَ بَقَاءَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ لِلْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُكْتَرِي يَعْلَمُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَنَّ الزَّرْعَ يَتِمُّ حَصَادُهُ فِي الْمُدَّةِ، وَإِلاَّ جَازَ لِلْمُؤَجِّرِ أَمْرُهُ بِالْقَلْعِ.

91- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا، وَقَالُوا: إِنِ اكْتَرَى أَرْضًا لِزَرْعٍ مُعَيَّنٍ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي الْمُدَّةِ، وَاشْتَرَطَ التَّبْقِيَةَ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ. فَإِنْ بَادَرَ وَزَرَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَلْعِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى مُدَّةٍ، وَقَدِ انْقَضَتْ. وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مَعْلُومٌ. وَلَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلزَّائِدِ.

وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلِلْمُكْتَرِي أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ إِلاَّ عَلَى الْمُدَّةِ. وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ، فَقِيلَ: يُجْبَرُ أَيْضًا. وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى إِلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ.

وَفِي الْغِرَاسِ قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ التَّبْقِيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِيهِ. وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْقَلْعَ أُخِذَ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ. وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَلْعُ، إِذِ الْعَادَةُ فِي الْغِرَاسِ التَّبْقِيَةُ إِلَى أَنْ يَجِفَّ وَيُسْتَقْلَعَ. وَإِنِ اخْتَارَ الْقَلْعَ وَكَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ قَلَعَ الْغِرَاسَ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ قَلْعَ الْغِرَاسِ مِنْ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا يَدٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنِ اخْتَارَ الْمُكْتَرِي التَّبْقِيَةَ فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ دَفْعَ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَتَمَلُّكَهُ أُجْبِرَ الْمُكْتَرِي عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْلَعَهُ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْغِرَاسِ لَا تَنْقُصُ بِالْقَلْعِ، أُجْبِرَ الْمُكْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ.

وَلَا يَبْعُدُ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي جُمْلَتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا كَانَ تَأْخِيرُ الزَّرْعِ لِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ زَرْعِ الْغَاصِبِ. وَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَعْدَ الْمُدَّةِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ تَرْكِهِ بِالْأَجْرِ لِمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ. وَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ قَطْعَ زَرْعِهِ فِي الْحَالِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ بِعِوَضٍ جَازَ. وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَزِمَ الْمُؤَجِّرَ تَرْكُهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، وَلَهُ الْمُسَمَّى، وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ.

وَإِذَا اسْتُؤْجِرَتِ الْأَرْضُ مُدَّةً لِلزِّرَاعَةِ، وَمَاتَ الْمُؤَجِّرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ وَرَثَتِهِ بَقَاءُ الْأَرْضِ حَتَّى حَصَادِ الزَّرْعِ، وَذَلِكَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ دُونَ مَالِ الْمَيِّتِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ وَفَاةَ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ، مِمَّا يُنْهِي عَقْدَ الْإِجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْمَذَاهِبِ الْأُخَرِ.

الْمَبْحَثُ الثَّانِي

إِجَارَةُ الدُّورِ وَالْمَبَانِي

بِمَ تُعَيَّنُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا؟

92- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي ضَرُورَةِ تَعْيِينِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهَا الْأُولَى الَّتِي رَآهَا عَلَيْهَا بِمَا يَضُرُّ بِالسَّكَنِ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ. وَإِذَا كَانَ اسْتَأْجَرَ دَارًا قَدْ تَعَيَّنَتْ بِالْوَصْفِ، وَلَمْ يَرَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا وَقْتَهُ، ثَبَتَ لَهُ حَقُّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِهِ.

وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ أَيْضًا فِي أَنَّ إِجَارَةَ الدُّورِ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَادَةً، فَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الدَّارِ أَوِ الْحَانُوتِ مَعَ عَدَمِ بَيَانِ مَا يَسْتَأْجِرُهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الدُّورَ إِنَّمَا تَكُونُ لِلسَّكَنِ عَادَةً، وَالْحَانُوتَ لِلتِّجَارَةِ أَوِ الصِّنَاعَةِ. وَيُرْجَعُ إِلَى الْعُرْفِ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي السَّكَنِ يَسِيرٌ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى ضَبْطِهِ.

93- إِذَا شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَلاَّ يُسْكِنَ غَيْرَهُ مَعَهُ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّرْطَ لَاغٍ وَالْعَقْدَ صَحِيحٌ، فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ مَعَهُ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ مَعَهُ، إِلاَّ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى فَسَادِ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِعَدَمِ الضَّرَرِ أَوَّلاً، وَالرُّجُوعِ لِلْعُرْفِ ثَانِيًا.

وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدَّارِ وَالْحَانُوتِ كَيْفَ شَاءَ فِي حُدُودِ الْمُتَعَارَفِ، بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَزِيدُ ضَرَرُهُ عَنْهُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا مَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ كَالْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ.

وَتَدْخُلُ فِي إِجَارَةِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ تَوَابِعُهَا، وَلَوْ بِدُونِ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (إحرام 1)

إِحْرَامٌ -1

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِحْرَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِهْلَالُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمُبَاشَرَةُ أَسْبَابِهَا، وَالدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ.يُقَالُ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَحْرَمَ: دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ، وَأَحْرَمَ: دَخَلَ فِي حُرْمَةِ عَهْدٍ أَوْ مِيثَاقٍ.

وَالْحُرْمُ- بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ-: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَيْضًا، وَبِالْكَسْرِ: الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ، يُقَالُ أَنْتَ حِلٌّ، وَأَنْتَ حُرُمٌ.

وَالْإِحْرَامُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ.وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْتَعْمِلُونَ مَادَّتَهُ مَقْرُونَةً بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُونَ: «تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ» وَيُسَمُّونَهَا «التَّحْرِيمَةَ» وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).

وَيُطْلِقُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ الْإِحْرَامَ عَلَى الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: «بَابُ الْإِحْرَامِ».

تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ لِلْإِحْرَامِ:

2- الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ.

وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ فِي حُرُمَاتٍ: الْتِزَامُ الْحُرُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّلْبِيَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ: مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، أَوْ تَقْلِيدِ الْبُدْنِ.

تَعْرِيفُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِحْرَامِ:

3- أَمَّا تَعْرِيفُ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ: الْمَالِكِيَّةِ- عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ: نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي حُرُمَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

حُكْمُ الْإِحْرَامِ:

4- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ فَرَائِضِ النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمِنَ الْأَرْكَانِ هُوَ أَمْ مِنَ الشُّرُوطِ.

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ لِلنُّسُكِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْحَجِّ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ «هُوَ شَرْطٌ ابْتِدَاءً، وَلَهُ حُكْمُ الرُّكْنِ انْتِهَاءً».

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَوْنِهِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ فُرُوعٌ.مِنْهَا:

1- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِكَوْنِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ.

2- لَوْ أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا، أَوْ بِرُكْنِهَا، أَوْ أَكْثَرِ الرُّكْنِ- يَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنَ الطَّوَافِ- فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

3- تَفَرَّعَ عَلَى شِبْهِ الْإِحْرَامِ بِالرُّكْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ بَلَغَ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى فِي إِحْرَامِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.لَكِنْ لَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، جَازَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الرُّكْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْإِحْرَامِ:

5- فَرْضِيَّةُ الْإِحْرَامِ لِلنُّسُكِ لَهَا حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، وَأَسْرَارٌ وَمَقَاصِدُ تَشْرِيعِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّهَا: اسْتِشْعَارُ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلْبِيَةُ أَمْرِهِ بِأَدَاءِ النُّسُكِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ بِهِ التَّعَبُّدَ وَالِامْتِثَالَ لِلَّهِ تَعَالَى.

شُرُوطُ الْإِحْرَامِ:

6- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ: الْإِسْلَامَ وَالنِّيَّةَ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، اشْتِرَاطَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

7- وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ لِلنُّسُكِ الْفَرْضِ تَعْيِينُ أَنَّهُ فَرْضٌ فِي النِّيَّةِ، وَلَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْفَرْضِ يَقَعُ عَنْهَا اتِّفَاقًا.بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى حَجَّةَ نَفْلٍ فَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى.

وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ.وَقَالُوا: مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَكَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: «بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عَنْهَا اسْتِحْسَانًا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَيْ إِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ.»

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: «أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ تَعْيِينًا، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ».

وَقَالُوا فِي اعْتِبَارِهِ عَمَّا نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْضِ: «إِنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنِ الْفَرْضِ عِنْدَ إِطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ».

وَيَشْهَدُ لَهُمْ نَصُّ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ.قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي.قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ».أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا.وَفِي رِوَايَةٍ: «اجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ..» فَاسْتَدَلُّوا بِهَا.وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَسَانِيدَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَرَجَّحَ إِرْسَالَهُ، وَوَقْفَهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ كَذَلِكَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ «وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّرُورَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ.

وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: أَنَّ الصَّرُورَةَ إِذَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ صَارَ الْحَجُّ عَنْهُ، وَانْقَلَبَ عَنْ فَرْضِهِ، لِيَحْصُلَ مَعْنَى النَّفْيِ، فَلَا يَكُونُ صَرُورَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ..».وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ: «أَنَّ النَّفَلَ وَالنَّذْرَ أَضْعَفُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَيْهَا، كَحَجِّ غَيْرِهِ عَلَى حَجِّهِ».وَبِقِيَاسِ النَّفْلِ وَالنَّذْرِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ.

التَّلْبِيَةُ:

8- التَّلْبِيَةُ لُغَةً إِجَابَةُ الْمُنَادِي.وَالْمُرَادُ بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا: قَوْلُ الْمُحْرِمِ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ..» أَيْ إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبُّ.وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ «لَبَّيْكَ» إِلاَّ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ.وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ.وَالْمَعْنَى: أَجَبْتُكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ.

حُكْمُ التَّلْبِيَةِ:

9- التَّلْبِيَةُ شَرْطٌ فِي الْإِحْرَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْرِنَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ.فَإِذَا نَوَى النُّسُكَ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلَزِمَهُ كُلُّ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ الْآتِيَةِ، وَأَنْ يَمْضِيَ، فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ.وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ «أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّكْبِيرِ، لَا بِالتَّكْبِيرِ».

وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ بَلِ ادَّعَى فِيهِ اتِّفَاقَ السَّلَفِ.وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْإِحْرَامِ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ أَحْرَمَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْإِحْرَامِ الْآتِيَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالسُّنَّةُ قَرْنُهَا بِالْإِحْرَامِ.وَيَلْزَمُ الدَّمُ بِطُولِ فَصْلِهَا عَنِ النِّيَّةِ.وَلَوْ رَجَعَ وَلَبَّى لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّرْكُ أَوْ طُولُ الْفَصْلِ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ فِي الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا.

الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ مِنْ لَفْظِ التَّلْبِيَةِ:

10- الصِّيغَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ لِلتَّلْبِيَةِ: هِيَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ.إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكُ.لَا شَرِيكَ لَكَ».

هَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتِي لَزِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْظِيمُ.فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ «بِذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ، كَتَسْبِيحٍ، وَتَهْلِيلٍ» وَلَوْ مَشُوبًا بِالدُّعَاءِ.

النُّطْقُ بِالتَّلْبِيَةِ:

11- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ التَّلْبِيَةِ أَنْ تُلْفَظَ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ ذَكَرَهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا شَرْطٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا وَاجِبٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا سُنَّةٌ.

وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَرْعَانِ:

12- الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِالتَّلْبِيَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، أَجْزَأَهُ اتِّفَاقًا.أَمَّا لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالْأَذَانِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ.

وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعْظِيمُ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.

13- الْفَرْعُ الثَّانِي فِي الْأَخْرَسِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا يَجِبُ.وَقِيلَ: يَجِبُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ نَصُّ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ.وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَلاَّ يَلْزَمَهُ فِي الْحَجِّ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ، مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالتَّلْبِيَةُ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَقْتُ التَّلْبِيَةِ:

14- الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُلَبِّيَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ نِيَّتِهِمَا مَعًا عَقِبَ صَلَاتِهِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ نِيَّةِ النُّسُكِ.وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَوْ رَكُوبَتُهُ جَازَ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ نِهَايَةَ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَلَمْ يُلَبِّ بِنِيَّةِ النُّسُكِ صَارَ مُجَاوِزًا لِلْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ ذَاكَ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِالتَّلْبِيَةِ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَرَكَهَا أَوْ أَخَّرَهَا حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف9).وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ.

مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:

15- يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: كُلُّ ذِكْرٍ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ (ف 10)

الثَّانِي: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ وَسَوْقُهُ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهُ.وَالْهَدْيُ يَشْمَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ.لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنَ التَّقْلِيدِ الْغَنَمُ، لِعَدَمِ سُنِّيَّةِ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (ر: هَدْيٌ) وَالتَّقْلِيدُ هُوَ أَنْ يَرْبِطَ فِي عُنُقِ الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ.

شُرُوطُ إِقَامَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:

16- يُشْتَرَطُ:

1- النِّيَّةُ.

2- سَوْقُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا.

3- يُشْتَرَطُ- إِنْ بَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهَا- أَنْ يُدْرِكَهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَيَسُوقَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ بَعَثَهَا لِنُسُكِ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا إِذَا تَوَجَّهَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهَا، اسْتِحْسَانًا. الْفَصْلُ الثَّانِي

إِبْهَامُ الْإِحْرَامِ

تَعْرِيفُهُ:

17- هُوَ أَنْ يَنْوِيَ مُطْلَقَ نُسُكٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَأَنْ يَقُولَ: أَحْرَمْتُ لِلَّهِ، ثُمَّ يُلَبِّيَ، وَلَا يُعَيِّنَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ يَقُولَ: نَوَيْتُ الْإِحْرَامَ لِلَّهِ تَعَالَى، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ.، أَوْ يَنْوِيَ الدُّخُولَ فِي حُرُمَاتِ نُسُكٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا.فَهَذَا الْإِحْرَامُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ، وَعَلَيْهِ اجْتِنَابُ جَمِيعِ مَحْظُورَاتِهِ، كَالْإِحْرَامِ الْمُعَيَّنِ

وَيُسَمَّى هَذَا إِحْرَامًا مُبْهَمًا، وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا إِحْرَامًا مُطْلَقًا.

تَعْيِينُ النُّسُكِ:

18- ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمُحْرِمِ التَّعْيِينُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي أَفْعَالِ أَحَدِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ لِلْحَجِّ، أَوْ لَهُمَا مَعًا حَسْبَمَا يَشَاءُ.وَتَرْجِعُ الْأَفْضَلِيَّةُ فِيمَا يَخْتَارُهُ وَيُعَيِّنُهُ إِلَى خِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي أَيِّ أَوْجُهِ الْإِحْرَامِ أَفْضَلُ: الْقِرَانُ، أَوِ التَّمَتُّعُ، أَوِ الْإِفْرَادُ، وَإِلَى حُكْمِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنْ وَقَعَ هَذَا الْإِحْرَامُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْيِينِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَالْعِبْرَةُ لِهَذَا التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَوْ شَوْطًا، جَعَلَ إِحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ، فَيُتِمُّ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا.وَعِلَّةُ جَعْلِهِ لِلْعُمْرَةِ «أَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، فَإِيقَاعُهُ عَنِ الرُّكْنِ أَوْلَى، وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ».

أَمَّا إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ، بَلْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، فَيَنْصَرِفُ إِحْرَامُهُ لِلْحَجِّ.وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَجَّ فِي وُقُوفِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ شَرْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ.هَذَا مُعْتَمَدُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلاَّ بَعْدَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ طَافَ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ لِشَيْءٍ- سَوَاءٌ أَكَانَ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا- وَجَبَ صَرْفُهُ لِلْحَجِّ مُفْرَدًا، وَيَكُونُ هَذَا الطَّوَافُ الْوَاقِعُ قَبْلَ الصَّرْفِ وَالتَّعْيِينِ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَا يَضُرُّ وُقُوعُهُ قَبْلَ الصَّرْفِ.وَلَا يَصِحُّ صَرْفُ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِعُمْرَةٍ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ قَبْلَ تَعْيِينِهَا. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ التَّعْيِينَ قَبْلَ الشُّرُوعِ بِأَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ.فَلَوْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِعْلُهُ.

الْإِحْرَامُ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ

19- هُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْرِمُ فِي إِحْرَامِهِ مِثْلَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا مُرَافَقَتَهُ، أَوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ أَوْ أُحْرِمُ أَوْ أَنْوِي مِثْلَ مَا أَهَلَّ أَوْ نَوَى فُلَانٌ، وَيُلَبِّي.فَهَذَا الْإِحْرَامُ صَحِيحٌ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِ مَا أَحْرَمَ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ «عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ وَوَافَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ».

زَادَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ».

الِاشْتِرَاطُ فِي الْإِحْرَامِ

20- الِاشْتِرَاطُ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ: «إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».

21- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ إِبَاحَةَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَابِسِ كَالْمَرَضِ، فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ ثُمَّ إِنِ اشْتَرَطَ فِي التَّحَلُّلِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْهَدْيِ وَجَبَ الْهَدْيُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.عَلَى تَفَاصِيلَ تَجِدُهَا فِي بَحْثِ الْإِحْصَارِ.

وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ.وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِذَا عَاقَهُ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ أَوْ غَيْرُهُمَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ.الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى أَحَلَّ بِذَلِكَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَانِعُ عَدُوًّا، أَوْ مَرَضًا، أَوْ غَيْرَهُمَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ، وَعَدَمِ إِفَادَتِهِ لِلتَّحَلُّلِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَانِعِ لَهُ، بَلْ يَأْخُذُ حَالُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمَانِعِ، عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَبْحَثِ الْإِحْصَارِ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ: قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِحْصَارٌ).

إِضَافَةُ الْإِحْرَامِ إِلَى الْإِحْرَامِ

أَوَّلًا

إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ

22- وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا، أَوْ بَعْدَمَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهَا.

وَتَتَنَوَّعُ صُوَرُ إِضَافَةِ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ بِحَسَبِ حَالِ إِضَافَتِهِ، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُحْرِمِ، وَتَأْخُذُ كُلُّ صُورَةٍ حُكْمَهَا.

23- وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ فِي هَذَا، لِقَوْلِهِمْ بِكَرَاهَةِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَهُ جَازَ وَأَسَاءَ، وَعَلَيْهِ دَمُ جَبْرٍ لِإِسَاءَتِهِ هَذِهِ.كَمَا أَنَّ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى تَفْصِيلًا بِحَسَبِ آرَائِهِمْ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْإِحْرَامِ وَأَوْجُهِ الْإِحْرَامِ.وَالتَّفْصِيلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا أَوْ آفَاقِيًّا.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَالِ إِضَافَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَعَلَى وُجُوهٍ.

24- الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ:

أ- إِنْ كَانَ آفَاقِيًّا صَحَّ ذَلِكَ، بِلَا كَرَاهَةٍ، وَكَانَ قَارِنًا، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، لِحَمْلِ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ «حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ قَوْلُهَا: وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ..».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ إِرْدَافِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِمْ: «لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِهَا».

ب- وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَوْ مِيقَاتِيًّا) فَتُرْتَفَضُ عُمْرَتُهُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ «وَالنُّزُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ» وَيَرْفُضُ الْعُمْرَةَ هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا.فَكَانَتِ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنَ الْحَجَّةِ، فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ.وَيُمْضِي حَجَّتَهُ.وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ.وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَحُكْمُ الْآفَاقِيِّ وَالْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْإِحْرَامَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِ قَارِنًا، تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي تَجْوِيزِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي. (ف 30)

لَكِنْ شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً.وَهَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِرْدَافِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ فَقَطْ وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

25- الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ شَيْئًا قَلِيلًا، عَلَى أَلاَّ يَتَجَاوَزَ أَقَلَّ أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، أَيْ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ.فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ:

أ- إِذَا كَانَ آفَاقِيًّا كَانَ قَارِنًا.

ب- وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَيْ مِيقَاتِيًّا): وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْضُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، عَلَى التَّحْقِيقِ فِي عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الرَّفْضَيْنِ أَوْلَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْفُضُ الْحَجَّ.وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ.وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ فَائِتِ الْحَجِّ، وَحُكْمُ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ حَتَّى لَوْ حَجَّ فِي سَنَتِهِ سَقَطَتِ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، بَلْ كَالْمُحْصَرِ، إِذَا تَحَلَّلَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَحَوَّلَتِ السَّنَةُ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ مَعَ حَجَّتِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَيَقْضِيهَا دُونَ عُمْرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ.وَكَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوِ اخْتَارَ هَذَا الْمُحْرِمُ رَفْضَ الْعُمْرَةِ.

اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْضِ الْحَجِّ بِأَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ. وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- إِبْطَالُ الْعَمَلِ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ «وَالِامْتِنَاعُ أَوْلَى مِنَ الْإِبْطَالِ، وَاسْتَدَلَّ الصَّاحِبَانِ عَلَى أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَوْلَى: بِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا، وَأَيْسَرُ قَضَاءً، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ هَذَا الْإِرْدَافُ.وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَيُتَابِعُ عَلَى ذَلِكَ.وَتَنْدَرِجُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فَقَالُوا: يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجَّةِ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ، فَلَوْ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ «لِاتِّصَالِ إِحْرَامِهَا بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا، فَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهَا».

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَرَّرُوا أَنَّهُ «لَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ فَالْأَوْجَهُ جَوَازُ الْإِدْخَالِ، إِذْ الِاسْتِلَامُ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ لَا بَعْضُهُ».

26- الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ.فَهَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حُكْمُ مَا لَوْ أَكْمَلَ الطَّوَافَ الْآتِيَ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ التَّالِي؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي السَّابِقِ.

27- الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ إِكْمَالِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ.مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالُوا:

أ- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ طَوَافِهَا قَبْلَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَكْرُوهٌ.فَإِنْ فَعَلَهُ صَحَّ، وَلَزِمَهُ، وَصَارَ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ.

ب- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا.وَكَذَلِكَ الْإِرْدَافُ فِي السَّعْيِ، إِنْ سَعَى بَعْضَ السَّعْيِ وَأَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ.فَإِنْ فَعَلَ فَلْيَمْضِ عَلَى سَعْيِهِ، فَيَحِلُّ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَمْ غَيْرِهَا.وَحَيْثُ إِنَّ الْإِرْدَافَ لَمْ يَصِحَّ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ السَّعْيِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْإِحْرَامِ الَّذِي أَرْدَفَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. ج- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ السَّعْيِ لِلْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحَلْقِ.فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى إِرْدَافِ الْإِحْرَامِ فِي هَذَا الْحَالِ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا حَجٌّ مُسْتَأْنَفٌ.وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ، لَا خِلَالَهُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَلْزَمُهُ هَدْيٌ لِتَأْخِيرِ حَلْقِ الْعُمْرَةِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا وَلَا مُتَمَتِّعًا إِنْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، بَلْ يَكُونُ مُفْرِدًا.وَإِنْ فَعَلَ بَعْضَ رُكْنِهَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.

وَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَقَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلَا يُفِيدُهُ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْهَدْيِ، وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ فِدْيَةٌ أَيْضًا.وَهِيَ فِدْيَةُ إِزَالَةِ الْأَذَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ.وَبَعْدَ السَّعْيِ لَا يَصِحُّ، مِنْ بَابِ أَوْلَى.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَقَالُوا: يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ مِمَّنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَلَوْ بَعْدَ سَعْيِهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ كَمَا يَأْتِي؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ لقوله تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَيَصِيرُ قَارِنًا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ، وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَوْ كَانَ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِهِ قَبْلَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا

إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ

28- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا.وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ هَذَا الْعَمَلِ، لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَى تَفْصِيلٍ نَذْكُرُهُ.

ثَالِثًا

الْإِحْرَامُ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا

29- إِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا وَلَغَتِ الْأُخْرَى.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا.وَعَلَى هَذَا لَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ قَضَاؤُهَا.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِهِمَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ إِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ وَفُرُوعٌ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا هُنَا لِنُدْرَةِ وُقُوعِهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

حَالَاتُ الْإِحْرَامِ

30- يَنْقَسِمُ الْإِحْرَامُ بِحَسَبِ مَا يَقْصِدُ الْمُحْرِمُ أَدَاءَهُ بِهِ مِنَ النُّسُكِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْإِفْرَادِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ إِمَّا تَمَتُّعٌ أَوْ قِرَانٌ.

الْإِفْرَادُ: هُوَ اصْطِلَاحًا: أَنْ يُهِلَّ- أَيْ يَنْوِيَ- فِي إِحْرَامِهِ الْحَجَّ فَقَطْ، أَوِ الْعُمْرَةَ فَقَطْ.

الْقِرَانُ:

الْقِرَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْآفَاقِيُّ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا قَبْلَ أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَدِّي الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ نِيَّتَيْنِ مُرَتَّبَتَيْنِ يَبْدَأُ فِيهِمَا بِالْعُمْرَةِ، أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَيُرْدِفُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ طَوَافِهَا أَوْ بِطَوَافِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْإِحْرَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

التَّمَتُّعُ:

التَّمَتُّعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ غَيْرِ إِلْمَامٍ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا.

وَالْإِلْمَامُ الصَّحِيحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي حَالَةِ تَحَلُّلِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَقَبْلَ شُرُوعِهِ فِي حَجَّتِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: التَّمَتُّعُ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يُحِلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 5)

إِرْثٌ -5

83- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَالِ ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَمْ لَا.فَإِنْ كَانَتِ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي الْقِسْمَةِ.وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَالُ أُصُولِهِمْ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، وَيَعْتَبِرُ الْأُصُولَ إِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الْأُصُولِ.وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَجِهَةُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، لَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِمْ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، وَهِيَ الْوِلَادَةُ، فَيَتَسَاوَى الِاسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ فِي الْأُصُولِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوِ الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي، فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ فَقَطْ.

وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً، فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الْأَصْلِ الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الْأَبُ فِي الْعَمَّةِ، وَالْأُمُّ فِي الْخَالَةِ.

84- وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَالُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ (الْبَطْنُ الثَّانِي)، وَهُوَ أَوَّلُ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلَاثًا: لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَثُلُثُهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ.وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَالُ الْأُصُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ الْأُصُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ، إِذَا كَانَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الْأُصُولِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْإِنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ، بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُرُوعِهِمْ مِنَ الْأُصُولِ اخْتِلَافٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ.

85- وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ عَلَى أَعْلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً فِي أَوْلَادِهِمْ، وَيَجْعَلُ الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالْإِنَاثَ طَائِفَةً أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْإِنَاثَ يُعْطِي فُرُوعَهُنَّ، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْأُصُولُ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَالُ.

هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (فِي مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ.

الصِّنْفُ الثَّانِي:

86- وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْحُكْمُ فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، فَأَبُو الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ.

وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْبَصْرِيِّ؛ إِذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ، لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الْأُمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَهِيَ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ (أُمُّ الْأُمِّ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الْأُمِّ، وَهُوَ لَا يَرِثُ مَعَ الْأُمِّ.

وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ لَا تَفْضِيلَ لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَثُلُثُهُ لِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلَاءِ بِالْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ الْأَصْلِ- وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ- تَابِعًا لِلْفَرْعِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ.

87- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ، وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْأَبِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ، وَلِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثُ.

وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَيَجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِثْلَ ضِعْفِ نَصِيبِ الْأُنْثَى، وَيَتْبَعُ مَا اتُّبَعَ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ.

88- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ، كَمَا إِذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الْأَبِ، وَأُمَّ أَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَالَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَهَا، فَيَجْعَلُ الْمَالَ أَثْلَاثًا، كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا.ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ.وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِوَاءٌ فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يُقْسَمُ الْمَالُ أَثْلَاثًا.وَإِنِ اتَّحَدَتْ: فَإِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ.وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

الصِّنْفُ الثَّالِثُ:

89- وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ مُطْلَقًا، وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ.

وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً إِلَى الْمَيِّتِ، فَبِنْتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ الْأَخِ، لِقُرْبِهَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنِ بِنْتِ الْأُخْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ كِلَاهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لِأَبٍ، أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ.وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنَ الْأَخِ لِأُمٍّ، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ.لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الْأَصْلُ فِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.وَلَيْسَ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذْ لَا يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الْأُنْثَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، فَيَفْضُلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَفْضِيلَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى أَصْلاً، بَلْ رُبَّمَا تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُمَّ الْأُمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ بِخِلَافِ أَبِي الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ تَفْضُلِ الْأُنْثَى هُنَا فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي.

90- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ الْعَصَبَةِ، كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَبِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَثَلَاثَةِ أَوْلَادِ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ، وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَلَدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، كَثَلَاثِ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَأَبُو يُوسُفَ- رحمه الله- (يَعْتَبِرُ الْأَقْوَى فِي الْقَرَابَةِ، فَعِنْدَهُ يَجْعَلُ الْمَالَ أَوَّلاً لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْعَلاَّتِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

91- وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْأَقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ، يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ- رحمه الله- (يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الْوَرَثَةَ دُونَ فُرُوعِهِمْ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- (، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ بَيْنَ فُرُوعِهِمْ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ:

مَيِّتٌ

1- بِنْتُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ

2- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ

3- بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ

4- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ

5- بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ

6- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ

عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (يُقْسَمُ كُلُّ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا، بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ، فَيُعْطِي بِنْتَ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ الرُّبُعَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْأَعْيَانِ، يُقْسَمُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ.أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ، لِابْنِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ.فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلاَّتِ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَقَدَّمَ أَوْلَادَ بَنِي الْعَلاَّتِ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا تَصِحُّ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (يُقْسَمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا، لِاسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْفُرُوعِ فِي الْأُخْتِ، صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ، فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيِ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْأَخُ لِأُمٍّ ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مَا أَصَابَ الْأَخَ، وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ لِبِنْتِهِ، وَمَا أَصَابَ الْأُخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ إِلَى ابْنِهَا وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَا الْمَالِ يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي الْأَعْيَانِ أَنْصَافًا، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الْأُصُولِ، نِصْفُهُ لِبِنْتِ الْأَخِ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ وَلَدَيِ الْأُخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَلَا شَيْءَ لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي الْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (مِنْ تِسْعَةٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ الثَّلَاثَةِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَلَاثَةٌ لِبِنْتِ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، وَثَلَاثَةٌ لِوَلَدَيِ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

الصِّنْفُ الرَّابِعُ:

92- هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِ جَدَّيِ الْمَيِّتِ أَوْ جَدَّتَيْهِ، وَهُمُ الْعَمَّاتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ، وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ مُطْلَقًا.

وَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الْمَالَ كُلَّهُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً وَاحِدًا، أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْأَصْنَافِ.

فَإِذَا اجْتَمَعُوا، وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَالْأَعْمَامِ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ)، أَوِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ)، فَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّ الْأَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ إِجْمَاعًا، فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأَبٍ.وَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأُمٍّ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لِأَبٍ أَوْ عَمَّةٍ لِأُمٍّ أَوْ عَمٍّ لِأُمٍّ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، وَكَذَا الْخَالُ أَوِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ.

93- وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلَاهُمَا لِأُمٍّ.أَوْ خَالٍ وَخَالَةٍ كِلَاهُمَا شَقِيقٌ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُمُّ.وَمَتَى اتَّفَقَ الْأَصْلُ فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

94- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ، وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً شَقِيقًا وَعَمَّةً لِأُمٍّ، فَالثُّلُثَانِ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ- لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ- لِقَرَابَةِ الْأُمِّ.

كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلَادِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ:

95- الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لَا يَسْرِي عَلَى أَوْلَادِهِمْ، لِأَنَّ أَوْلَى الْأَوْلَادِ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَبِنْتُ الْعَمَّةِ أَوِ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ بِنْتِهَا، لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ.

وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُلِّ مِنْ جَانِبِ أَبِي الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةَ أَوْلَادِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلَادِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ، أَوْ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ.

96- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ، فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ، لِأَنَّهُ وَلَدُ رَحِمٍ.

وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوِ الْعَمَّةُ شَقِيقًا، وَالْآخَرُ لِأَبٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ، وَبِنْتَ عَمٍّ لِأَبٍ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ، الْمَالُ كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِأَبٍ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، بِخِلَافِ ابْنِ الْعَمَّةِ، فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ.

97- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ، وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَكُونُ وَلَدُ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَالِ الشَّقِيقِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ الْعَمَّةِ.وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْخَالِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ، لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِقِيَامِ قَرَابَةِ الْأَبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ مَقَامَهَا.

ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ جِهَةِ الْأُمِّ، يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا.

هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ

مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ:

98- مَعْنَى التَّنْزِيلِ:

أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ الِابْنِ، وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ.وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ الْأَشِقَّاءِ، أَوْ لِأَبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُ الْأَعْمَامِ لِأُمٍّ كَآبَائِهِمْ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ:

1- أَنَّهُمَا نَزَّلَا الْخَالَ وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَنَزَّلَا جَدَّ الْمَيِّتِ لِأُمٍّ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ.

2- نَزَّلَا الْأَعْمَامَ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ الْأَبِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقَدْ رَجَّحَ الْإِمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ، وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فَرْضًا وَرَدًّا. 99- وَمَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.

لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَهْلُ التَّنْزِيلِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ.فَإِنْ أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا.وَإِنْ أَدْلَوْا بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا، وَيُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَيَسْتَوُونَ كَأَوْلَادِ الْأُمِّ.وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، إِذَا رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ، فَتَكُونُ التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً، تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا، وَيَأْخُذُ الِابْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأُمِّ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ.

مَذْهَبُ أَهْلِ الرَّحِمِ:

100- هُمُ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي التَّوْرِيثِ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَلَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ، وَلَا بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى ضَعِيفَةٍ.

فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ، وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ هُوَ الرَّحِمُ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ، وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، فَثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي.وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ.

إِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:

101- لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ كَامِلاً، فَلَا يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَلَا تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَإِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُهُ.وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ.

102- لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ: فَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَمَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ لَوِ انْفَرَدُوا.

وَلِأَهْلِ التَّنْزِيلِ مَذْهَبَانِ: أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَلَ كَمَا يَرِثُونَ الْمَالَ إِذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارٍ.وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ).وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ الْأَصْلِ).وَلَا خِلَافَ فِي التَّوْرِيثِ إِذَا كَانَ ذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ، أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ.فَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ، عَنْ زَوْجٍ، وَبِنْتِ بِنْتٍ، وَخَالَةٍ، وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لِأَبٍ.فَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ وَحْدَهَا.وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي.فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ.وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِذَا نَزَلُوا حَصَلَ مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ، وَعَمٌّ، وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيلِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيلِ لَا فِي الْحَجْبِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلاً الرُّبُعُ، ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَبْقَى سِتَّةٌ، تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ وَاحِدٌ.

الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ:

103- قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ.فَإِذَا كَانَتِ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ بِأَقْوَاهِمَا.فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنِ ابْنٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ.فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ.

فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إِرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ، وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ.فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ.فَإِنَّ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخُ لِأُمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ.

وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَرِثُ بِالْأُخْرَى، لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَالْبَاقِي لِابْنَيِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لِأُمٍّ، لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْبِنْتِ.

مِيرَاثُ الْخُنْثَى:

104- الْخُنْثَى لُغَةً: مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ.وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ.وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا.أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً

، فَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْآلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ، فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى. وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ.فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوِ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ.

105- وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ: حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ.وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ.فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ: مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ».وَرُوِيَ أَنَّهُ- عليه السلام- «أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ».

وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ أَعَمُّ الْعَلَامَاتِ، لِوُجُودِهَا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.وَسَائِرُ الْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ مِثْلَ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ (اسْتِدَارَتُهُ)، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرِثُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُشْكِلاً.

106- فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ.فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ.

فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَتَعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَيَدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ.

107- وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلاً فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةٌ.وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ.وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالَاتِهِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ.

108- وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ، أَوْ مَنِيٍّ، أَوْ مَيْلٍ إِلَى الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا، مِثْلَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَلِدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ.

مِيرَاثُ الْحَمْلِ:

109- الْحَمْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَلَ حَيًّا.وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ، إِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسُ سِنِينَ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَنَةٌ.

وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ: «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ».وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-

وَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الِاسْتِقْرَاءُ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ.وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالْأَرْبَعِ أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ.وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلاً).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (أضحية 2)

أُضْحِيَّةٌ -2

27- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.وَهُنَاكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِلْأَنْعَامِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا تُجْزِئُ (الْبَكْمَاءُ) وَهِيَ فَاقِدَةُ الصَّوْتِ وَلَا (الْبَخْرَاءُ) وَهِيَ مُنْتِنَةُ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِهَا جَلاَّلَةً وَلَا بَيِّنَةَ الْبَشَمِ، وَهُوَ التُّخَمَةُ.وَلَا (الصَّمَّاءُ) وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْمَعُ.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ (الْهَيْمَاءَ) لَا تُجْزِئُ، وَهِيَ الْمُصَابَةُ بِالْهُيَامِ وَهُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لَا تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَرْعَى.

وَكَذَا (الْحَامِلُ) عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيَصِيرُ اللَّحْمُ رَدِيئًا.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ عَدَمِ إِجْزَاءِ (الْعَصْمَاءِ) وَهِيَ الَّتِي انْكَسَرَ غِلَافُ قَرْنِهَا (وَالْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ)، وَهُوَ مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا.

وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ كُلِّهَا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ مِنَ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي».وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ».

وَأَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلَّ مَا فِيهِ عَيْبٌ فَاحِشٌ.

28- أَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا لِأَنَّ عَيْبَهَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَهِيَ كَالْآتِي:

(1) الْجَمَّاءُ: وَتُسَمَّى الْجَلْحَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَمِثْلُهَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَظْمُ دِمَاغِهَا، لِمَا صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ: لَا بَأْسَ، أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى إِجْزَاءِ الْجَمَّاءِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تُجْزِئُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْكَسْرِ دَامِيًا، وَفَسَّرُوا الدَّامِيَ بِمَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ دَمٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ وَإِنْ أَدْمَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ، مَا لَمْ يُؤَثِّرْ أَلَمُ الِانْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ مَرَضًا مَانِعًا مِنَ الْإِجْزَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَتُسَمَّى عَضْبَاءَ الْقَرْنِ.

(2) الْحَوْلَاءُ، وَهِيَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا حَوَلٌ لَمْ يَمْنَعِ الْبَصَرَ.

(3) الصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغِيرَةِ الْأُذُنَيْنِ جِدًّا، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِدُونِهِمَا.

(4) الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَإِنْ زَادَ الشَّقُّ عَلَى الثُّلُثِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ إِلاَّ إِنْ كَانَ الشَّقُّ ثُلُثًا فَأَقَلَّ.

(5) الْخَرْقَاءُ وَهِيَ مَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَذْهَبَ بِسَبَبِ الْخَرْقِ مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.

(6) الْمُدَابَرَةُ وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَمْ يُفَصَّلْ، بَلْ تُرِكَ مُعَلَّقًا، فَإِنْ فُصِّلَ فَهِيَ مَقْطُوعَةُ بَعْضِ الْأُذُنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهَا.

(7) الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الْهُتْمُ عَنِ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا عَنْهُمَا لَمْ تُجْزِئْ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ مَكْسُورُ سِنَّيْنِ فَأَكْثَرُ أَوْ مَقْلُوعَتُهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ، أَمَّا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَتُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ نَقْصًا فِي الِاعْتِلَافِ، وَلَا ذَاهِبَةُ جَمِيعِهَا وَلَا مَكْسُورَةُ جَمِيعِهَا، وَتُجْزِئُ الْمَخْلُوقَةُ بِلَا أَسْنَانٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَ مِنَ الثَّنَايَا بَقِيَّةٌ.

(8) الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الثَّوْلُ عَنِ الِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الثَّوْلَاءُ، وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا الدَّائِمَةُ الْجُنُونُ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لَا تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلَا تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ جُنُونُهَا غَيْرَ دَائِمٍ لَمْ يَضُرَّ.

وَفَسَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا الَّتِي تَسْتَدِيرُ فِي الْمَرْعَى، وَلَا تَرَى إِلاَّ قَلِيلًا، فَتَهْزَلُ.

(9) الْجَرْبَاءُ السَّمِينَةُ، بِخِلَافِ الْمَهْزُولَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ مُطْلَقًا.

(10) الْمَكْوِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي كُوِيَتْ أُذُنُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.

(11) الْمَوْسُومَةُ وَهِيَ: الَّتِي فِي أُذُنِهَا سِمَةٌ.

(12) الْعَاجِزَةُ عَنِ الْوِلَادَةِ لِكِبَرِ سِنِّهَا.

(13) الْخَصِيُّ وَإِنَّمَا أَجْزَأَ، لِأَنَّ مَا ذَهَبَ بِخِصَائِهِ يُعَوَّضُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ «وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» أَيْ مَرْضُوضَيِ الْخُصْيَتَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِالْمَرَضِ الْخِصَاءُ، لِأَنَّ أَثَرَهُمَا وَاحِدٌ.

وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى إِجْزَائِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ.

وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُغْنِي» الْإِجْزَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَكَالْخَصِيِّ الْمَوْجُوءُ وَهُوَ الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَةُ.

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

(14) الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَا قُطِعَ ذَكَرُهُ وَسَبَقَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْبُوبَ الْخَصِيُّ- وَهُوَ: مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا- لَا يُجْزِئُ، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ (ف: 26).

(15) الْمَجْزُوزَةُ وَهِيَ الَّتِي جُزَّ صُوفُهَا.

(16) السَّاعِلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْعُلُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَيَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَصْحَبْهُ مَرَضٌ بَيِّنٌ.

29- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَجَاءَ فِي كُتُبِ غَيْرِهِمْ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِمَا يُجْزِئُ.

(وَمِنْهَا) مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمُقْعَدَةَ- وَهِيَ الْعَاجِزَةُ عَنِ الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ عَلَيْهَا- تُجْزِئُ.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَشْوَاءَ تُجْزِئُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَكَذَا الْعَمْشَاءُ وَضَعِيفَةُ الْبَصَرِ.

وَكَذَا الَّتِي قُطِعَ مِنْهَا قِطْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ، كَاَلَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا قَلِيلًا مِنْ فَخِذِهَا، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْبَيِّنِ الَّذِي يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْفَخِذِ.

طُرُوءُ الْعَيْبِ الْمُخِلِّ بَعْدَ تَعْيِينِ الْأُضْحِيَّةِ:

30- لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَعَجَفَتْ عِنْدَهُ عَجَفًا بَيِّنًا لَمْ تُجْزِئْهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مُوسِرًا مُقِيمًا، وَكَانَ شِرَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يُوجِبُهَا، لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَاهُ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا نَقَصَ لَمْ يَصْلُحْ لِهَذِهِ الْإِقَامَةِ فَيَبْقَى مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ.

فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا، أَوْ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ النَّحْرِ، أَجْزَأَتْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ إِيجَابًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ نَذْرِ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا يَسْقُطُ بِهِ إِيجَابُهَا.

وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَقِيرَ أَوِ الْغَنِيَّ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أُضْحِيَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، فَتَعَيَّبَتْ، لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ إِيجَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقَامَةٌ لِمَا يَشْتَرِيهِ مَقَامَ الْوَاجِبِ.وَمِنْ شَرْطِ الْإِقَامَةِ السَّلَامَةُ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِئْ إِقَامَتُهَا مَقَامَ الْوَاجِبِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ.

وَكَالشَّاةِ الَّتِي عَجَفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، كُلُّ النَّعَمِ الَّتِي يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ عَيْبٌ مُخِلٌّ، أَوْ تَمُوتُ، أَوْ تُسْرَقُ، فَفِيهَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ.

31- وَلَوْ قَدَّمَ الْمُضَحِّي أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا، فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوِ انْقَلَبَتْ فَأَصَابَتْهَا الشَّفْرَةُ فِي عَيْنِهَا فَاعْوَرَّتْ أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ عَادَةً، فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنَ اضْطِرَابِهَا.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ بِالنَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ إِذَا حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ لَمْ تُجْزِئْ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ كَانَتْ مَنْذُورَةً، وَيُسَنُّ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْذُورَةً.

هَذَا إِنْ تَعَيَّبَتْ قَبْلَ الْإِضْجَاعِ لِلذَّبْحِ، أَمَّا لَوْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ الْإِضْجَاعِ لَهُ فَيُجْزِئُ ذَبْحُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا- عَيْبٌ يَمْنَعُ إِجْزَاءَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا اعْتِدَاءٌ- لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً.

وَإِذَا طَرَأَ الْعَيْبُ بِاعْتِدَائِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الذَّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِتَبْرَأَ ذِمَّتَهُ.

وَلَوِ اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُبْقِيَهَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشُ النَّقْصِ مِنَ الْبَائِعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا لِشَبَهِهَا Bبِالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِهَذَا الذَّبْحِ، وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا بِسَلِيمَةٍ، لِتَحْصُلَ لَهُ سُنَّةُ التَّضْحِيَةِ.

وَلَوْ زَالَ عَيْبُهَا قَبْلَ الذَّبْحِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً إِذِ السَّلَامَةُ لَمْ تُوجَدْ إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا.

وَمَنْ عَيَّنَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ بِنَذْرٍ وَلَا جُعْلٍ، فَطَرَأَ عَلَيْهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالْإِجْزَاءِ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي طُرُوءِ الْعَيْبِ بَيْنَ كَوْنِهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا وَهِيَ، سَلِيمَةٌ فَاضْطَرَبَتْ، وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوْ عَرَجَتْ تَحْتَ السِّكِّينِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاجِبَةَ لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا بَلْ بِبَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ إِذَا عَيَّنَ شَاةً صَحِيحَةً لِلتَّضْحِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ.

32- (الشَّرْطُ الرَّابِعُ): أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلذَّابِحِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لَهَا وَلَا نَائِبًا عَنْ مَالِكِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَبْحِهَا عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ، وَلَا يَقَعَ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

فَلَوْ غَصَبَ إِنْسَانٌ شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ مَالِكِهَا- مِنْ غَيْرِ إِجَازَتِهِ- لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً عَنْهُ، لِعَدَمِ الْإِذْنِ مِنْهُ، وَلَوْ ضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ، ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، فَكَذَلِكَ لَا تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا صَاحِبُهَا، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، أَجْزَأَتْ عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ، فَصَارَ ذَابِحًا لِشَاةٍ هِيَ مِلْكُهُ، لَكِنَّهُ آثِمٌ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَا تُجْزِئُ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ.ر: (غَصْبٌ).

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً فَأَضْجَعَهَا، وَشَدَّ قَوَائِمَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِهَا، فَجَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّتْ أُضْحِيَّةً لِمَالِكِهَا، لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ دَلَالَةً.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا عَيَّنَ الْأُضْحِيَّةَ فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِإِجْزَائِهَا وُجُودَ الْإِذْنِ صَرَاحَةً أَوِ اعْتِيَادِهِ ذَلِكَ.

وَلَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا، فَلَمَّا ذَبَحَهَا تَبَيَّنَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ- أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ إِنْسَانٍ غَيْرِ الْبَائِعِ- فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ، وَشِرَاؤُهُ إِيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

34- وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ فَأَخَذَهَا، فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَنِ الذَّابِحِ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ هُوَ الذَّبْحُ، فَلَا يُعْتَبَرُ الذَّابِحُ مَالِكًا إِلاَّ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَحِينَ الذَّبْحِ لَمْ يَذْبَحْ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ أُضْحِيَّةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْأَخْذُ السَّابِقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَالضَّمَانُ يُوجِبُ الْمِلْكِيَّةَ كَمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ الذَّابِحُ فِي حَالَتَيِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ذَابِحًا مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيُجْزِئُ عَنْهُ.

وَمَا قِيلَ فِي الْوَدِيعَةِ يُقَالُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي

يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَحِّي لِصِحَّةِ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

35- (الشَّرْطُ الْأَوَّلُ): نِيَّةُ التَّضْحِيَةِ: لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».

وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْقُرُبَاتُ، ثُمَّ إِنَّ الْقُرُبَاتِ مِنَ الذَّبَائِحِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ إِلاَّ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَتَكْفِي النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِهَا كَمَا فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَا فِيهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ- مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِقَلْبِهِ- لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَإِنَّ نَذْرَهُ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ وَلَوْ بِلَا نِيَّةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا، بِخِلَافِ الْمَجْعُولَةِ، بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَإِنَّ إِيجَابَهُ يَنْعَقِدُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ.

وَقَالُوا: لَوْ وَكَّلَ فِي الذَّبْحِ كَفَتْ نِيَّتُهُ وَلَا حَاجَةَ لِنِيَّةِ الْوَكِيلِ، بَلْ لَا حَاجَةَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ.

وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُفَوِّضَ فِي نِيَّةِ التَّضْحِيَةِ مُسْلِمًا مُمَيِّزًا يَنْوِي عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ، لَكِنْ لَوْ ذَبَحَهَا غَيْرُ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَنَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمَا، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَتُجْزِئُ عَنِ الْمَالِكِ وَلَا أَثَرَ لِنِيَّةِ الْفُضُولِيِّ.

36- (الشَّرْطُ الثَّانِي): أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلذَّبْحِ أَوْ مُقَارِنَةً لِلتَّعْيِينِ السَّابِقِ عَلَى الذَّبْحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ أَمْ بِإِفْرَازِهَا مِمَّا يَمْلِكُهُ، Bوَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّطَوُّعِ أَمْ لِنَذْرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُهُ الْجُعْلُ كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَالنِّيَّةُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَكْفِي عَنِ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَلَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ.هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَتَكْفِي عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوِ التَّعْيِينِ.

37- (الشَّرْطُ الثَّالِثُ): أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُضَحِّي فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ.

وَإِيضَاحُ هَذَا، أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا مَرَّ.

فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا سَبْعَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُرِيدًا لِلْقُرْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهَا.فَلَوِ اشْتَرَى سَبْعَةٌ أَوْ أَقَلُّ بَدَنَةً، أَوِ اشْتَرَاهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، ثُمَّ شَرِكَ فِيهَا سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ، وَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَآخَرُ هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَثَالِثٌ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَرَابِعٌ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ، وَخَامِسٌ كَفَّارَةَ الدَّمِ عَنْ تَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَسَادِسٌ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَسَابِعٌ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدِهِ أَجْزَأَتْهُمُ الْبَدَنَةُ.بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُرِيدُ سُبْعَهَا لِيَأْكُلَهُ، أَوْ لِيُطْعِمَ أَهْلَهُ، أَوْ لِيَبِيعَهُ، فَلَا تُجْزِئُ عَنِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ. هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً مِنَ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنَ الْجَمِيعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتُهَا، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا وَاجِبًا وَبَعْضُهَا تَطَوُّعًا.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُ الذَّبْحُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرَبِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ مُتَّفِقِينَ فِي جِهَةِ الْقُرْبَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ، أَوْ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ جَزَاءَ الصَّيْدِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ لَمْ يَصِحَّ الذَّبْحُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ، إِذِ الذَّبْحُ فِعْلُ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لَكِنْ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ كَقُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْقِيَاسِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.

38- وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا فَقَدْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا غَيْرَهُ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا فَكَذَلِكَ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا بَعْدَ وَقْتِ Bالْوُجُوبِ فَإِنَّ شِرَاءَهَا لَا يُوجِبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا مَعَهُ سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَعْدًا أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا كُلَّهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَفَعَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، فَأَمَرَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ» هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِكَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ مَعَ مُرِيدِ اللَّحْمِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِمُرِيدِ التَّضْحِيَةِ سُبْعُ الْبَدَنَةِ، وَلِمُرِيدِ الْهَدْيِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ الْعَقِيقَةِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ اللَّحْمِ بَاقِيهَا، فَذُبِحَتْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ جَازَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ شَرِيكِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّمَنِ أَوِ اللَّحْمِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الثَّمَنِ، بِأَنْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي اللَّحْمِ، بِأَنْ كَانَتِ الشَّاةُ أَوِ الْبَدَنَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ إِشْرَاكِهِمْ فِي الثَّوَابِ مِمَّنْ ضَحَّى بِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ كَمَا مَرَّ.

وَقْتُ التَّضْحِيَةِ مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ

مَبْدَأُ الْوَقْتِ:

39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهَذَا الْوَقْتُ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ.لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمِصْرِ كَفَى فِي صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ الْفَرَاغُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ.

وَإِذَا عُطِّلَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَذْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ.وَأَمَّا مَنْ يُضَحِّي فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ غَيْرِ الْمِصْرِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَإِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ، وَوَكَّلَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْعِبْرَةُ بِمَكَانِ الذَّبْحِ لَا بِمَكَانِ الْمُوَكِّلِ الْمُضَحِّي، لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، فَلَوْ ذَبَحَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتَيْهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ ذَبَحَ النَّاسُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ، إِلاَّ إِذَا بَدَءُوا بَعْدَ بَدْئِهِ، وَانْتَهَوْا بَعْدَ انْتِهَائِهِ أَوْ مَعَهُ.

وَإِذَا لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ أَوْ تَوَانَى فِي الذَّبْحِ بَعْدَ فَرَاغِ خُطْبَتَيْهِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ بِعُذْرٍ تَحَرَّى النَّاسُ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ، ثُمَّ ذَبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ، فَتُجْزِئُهُمْ وَإِنْ سَبَقُوهُ لَكِنْ عِنْدَ التَّوَانِي بِعُذْرٍ، كَقِتَالِ عَدُوٍّ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ يُنْدَبُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ تَضْحِيَتِهِ، إِلاَّ إِذَا قَرُبَ زَوَالُ الشَّمْسِ فَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يُضَحُّوا وَلَوْ قَبْلَ الْإِمَامِ.ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَائِبُ الْإِمَامِ الْحَاكِمِ أَوْ إِمَامُ الصَّلَاةِ فَالْمُعْتَبَرُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَذَا وَذَاكَ، وَأَخْرَجَ نَائِبُ الْإِمَامِ أُضْحِيَّتَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِلاَّ فَالْمُعْتَبَرُ إِمَامُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ إِمَامِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ تَعَدَّدَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ لِبَلَدِهِمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْخِفَّةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ التَّضْحِيَةِ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتَيْهِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ يَخْتَلِفُونَ تَطْوِيلًا وَتَقْصِيرًا، فَاعْتُبِرَ الزَّمَانُ لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَضْبَطُ لِلنَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلَاةَ عِيدِ الْأَضْحَى عَقِبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ».

وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ التَّضْحِيَةِ عَنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِالْمِقْدَارِ السَّابِقِ الذِّكْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْتَدِئُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ انْتِظَارُ الْخُطْبَتَيْنِ.

وَلَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، بَلْ يَكْفِي الْفَرَاغُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ فِي جِهَةٍ لَا يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ- كَالْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الْخِيَامِ مِمَّنْ لَا عِيدَ عَلَيْهِمْ- فَالْوَقْتُ يَبْتَدِئُ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ Bارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ.

وَإِذَا فَاتَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ بِالزَّوَالِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا ضَحَّوْا مِنْ حِينِ الْفَوَاتِ.

نِهَايَةُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

40- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَنْتَهِي وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَنَسًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهم- أَخْبَرُوا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِالرَّأْيِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ سَمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- أَيَّامُ التَّضْحِيَةِ أَرْبَعَةٌ، تَنْتَهِي بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَيْضًا، وَمَرْوِيٌّ كَذَلِكَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه-، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الْأَسَدِيِّ وَمَكْحُولٍ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: « كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ».

التَّضْحِيَةُ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ:

41- أَمَّا لَيْلَةُ عِيدِ الْأَضْحَى فَلَيْسَتْ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ أَوِ اللَّيَالِي الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ أَيَّامِ النَّحْرِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ، وَهُمَا لَيْلَتَا يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّ التَّضْحِيَةَ فِي اللَّيَالِيِ الْمُتَوَسِّطَةِ تُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الذَّابِحَ قَدْ يُخْطِئُ الْمَذْبَحَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ.وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّضْحِيَةِ لَيْلًا مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ، كَاشْتِغَالِهِ نَهَارًا بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّضْحِيَةِ، أَوْ مَصْلَحَةٍ كَتَيَسُّرِ الْفُقَرَاءِ لَيْلًا، أَوْ سُهُولَةِ حُضُورِهِمْ.

مَا يَجِبُ بِفَوَاتِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

42- وَلَمَّا كَانَتِ الْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، Bوَكَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ لَا يُعْقَلُ السِّرُّ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا، وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي خَصَّهَا الشَّارِعُ بِهِ.فَلَا تُقْضَى بِعَيْنِهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ التَّغَرُّبُ إِلَى التَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً، أَوْ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِقِيمَةِ أُضْحِيَّةٍ مُجْزِئَةٍ، فَمَنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً شَاةً أَوْ غَيْرَهَا بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ بِهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ.إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ إِلَى إِرَاقَةِ دَمِهَا مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهَا لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (أطعمة 3)

أَطْعِمَةٌ -3

68- وَهُنَاكَ اجْتِهَادَاتٌ تَرَى جَرَيَانَ هَذَا التَّحْرِيمِ أَيْضًا فِي حَيَوَانِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ مَدِينَةُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْأَرْضُ الْمُحِيطَةُ بِهَا إِلَى الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ لَهَا فِي النُّصُوصِ، وَفِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ إِلَى ثَوْرٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ حُكْمًا وَدَلِيلًا وَبَيَانُ حُدُودِ الْحَرَمَيْنِ يُرَى فِي مَحَلِّهِ مِنْ مَوْضُوعِ الْحَجِّ وَمَوْضُوعِ الصَّيْدِ.

وَهُنَاكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ، وَيُعْتَبَرُ كَالْمَيْتَةِ عَلَى صَائِدِهِ فَقَطْ عُقُوبَةً لَهُ.وَلَكِنَّهُ يَكُونُ لَحْمًا حَلَالًا فِي ذَاتِهِ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِ صَائِدِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ.وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيَرَى قَوْمٌ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْمُحْرِمِ فِي أَرْضِ الْحِلِّ عَلَى صَائِدِهِ فَقَطْ، وَيَرَى آخَرُونَ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سِوَاهُ مِنَ الْمُحْرِمِينَ دُونَ الْمُحِلِّينَ.

السَّبَبُ الْعَارِضُ الْمُوجِبُ لِلْكَرَاهَةِ:

الْحَيَوَانَاتُ الْجَلاَّلَةُ:

69- الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ الْأَصْلِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ اقْتَضَى هَذِهِ الْكَرَاهَةَ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ.وَلَمْ يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ سِوَى الْحَيَوَانَاتِ الْجَلاَّلَةِ.

فَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الْجَلاَّلَةَ هِيَ الْإِبِلُ أَوِ الْبَقَرُ أَوِ الْغَنَمُ الَّتِي أَغْلَبُ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلاَّلَةِ»، وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَيُنْتِنُ، فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ.وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْجَلاَّلَةِ أَنْ تُشْرَبَ أَلْبَانُهَا».أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَحْمَهَا إِذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ رُكُوبِهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَنْتَنَتْ فَيَمْتَنِعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا حَتَّى لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِنَتِنِهَا.

وَقِيلَ: لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَلَوْ لِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِهَا، بَلْ لِعَارِضٍ جَاوَرَهَا، فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَلَالًا فِي ذَاتِهِ، مَمْنُوعًا لِغَيْرِهِ.

70- وَتَزُولُ الْكَرَاهِيَةُ بِحَبْسِهَا عَنْ أَكْلِ النَّجَاسَةِ وَعَلَفِهَا بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ.

وَهَلْ لِحَبْسِهَا تَقْدِيرٌ زَمَنِيٌّ، أَوْ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيرٌ؟ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُوَقِّتُ فِي حَبْسِهَا، وَقَالَ: تُحْبَسُ حَتَّى تَطِيبَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّاقَةِ وَالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ الْجَلاَّلَاتِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ جَلاَّلَةً إِذَا أَنْتَنَتْ وَتَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَهِيَ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَلَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا.هَذَا إِذَا كَانَتْ لَا تَخْلِطُ وَلَا تَأْكُلُ إِلاَّ الْجِلَّةَ أَوِ الْعَذِرَةَ غَالِبًا، فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ جَلاَّلَةً فَلَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهَا لَا تُنْتِنُ.

71- وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الدَّجَاجَةِ الْمُخْلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةَ، لِأَنَّهَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا أَكْلُهَا، بَلْ تَخْلِطُهَا بِالْحَبِّ.وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهَا لَا تُنْتِنُ كَمَا تُنْتِنُ الْإِبِلُ، وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّتِنِ.وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْجَدْيِ إِذَا ارْتَضَعَ بِلَبَنِ خِنْزِيرَةٍ حَتَّى كَبِرَ: إِنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يُنْتِنُ.وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنَّتِنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ.

وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُحْبَسَ الدَّجَاجَةُ الْمُخْلَاةُ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّهِ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِهَا مِنَ النَّجَاسَةِ يَزُولُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا.

هَذِهِ خُلَاصَةُ مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ «الْبَدَائِعِ» وَيُؤْخَذُ مِنَ «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُ الرَّافِعِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْجَلاَّلَةِ تَنْزِيهِيَّةٌ لَا تَحْرِيمِيَّةٌ، وَأَنَّ صَاحِبَ «التَّجْنِيسِ» اخْتَارَ حَبْسَ الدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالشَّاةِ أَرْبَعَةً، وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ عَشْرَةً، وَأَنَّ السَّرَخْسِيَّ قَالَ: الْأَصَحُّ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَأَنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَزُولَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ.

72- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ظَهَرَ تَغَيُّرٌ فِي لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الدَّوَابِّ أَمْ مِنَ الطُّيُورِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّغَيُّرُ فِي الطَّعْمِ أَمِ اللَّوْنِ أَمِ الرِّيحِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ الْحُرْمَةُ، وَعِنْدَ النَّوَوِيِّ الْكَرَاهَةُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِتَغَيُّرِ اللَّحْمِ فَلَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَيُلْحَقُ بِالْجَلاَّلَةِ وَلَدُهَا الَّذِي يُوجَدُ فِي بَطْنِهَا بَعْدَ ذَكَاتِهَا، إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا وَظَهَرَ فِيهِ التَّغَيُّرُ، وَكَذَلِكَ الْعَنْزُ الَّتِي رُبِّيَتْ بِلَبَنِ كَلْبَةٍ أَوْ خِنْزِيرَةٍ إِذَا تَغَيَّرَ- لَحْمُهَا.فَإِنْ عُلِفَتِ الْجَلاَّلَةُ، أَوْ لَمْ تُعْلَفْ، فَطَابَ لَحْمُهَا حَلَّ بِلَا كَرَاهَةٍ، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ وَهِيَ التَّغَيُّرُ.وَلَا تَقْدِيرَ لِمُدَّةِ الْعَلَفِ.وَتَقْدِيرُهَا بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الْبَعِيرِ، وَثَلَاثِينَ فِي الْبَقَرِ، وَسَبْعَةٍ فِي الشَّاةِ، وَثَلَاثَةٍ فِي الدَّجَاجَةِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ.وَلَا يَكْفِي الْغُسْلُ أَوِ الطَّبْخُ لِلْحُكْمِ بِطِيبِ اللَّحْمِ.وَإِذَا حَرُمَ أَوْ كُرِهَ أَكْلُ الْجَلاَّلَةِ حَرُمَ أَوْ كُرِهَ سَائِرُ أَجْزَائِهَا كَبَيْضِهَا وَلَبَنِهَا، وَيُكْرَهُ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، لِأَنَّ لِعَرَقِهَا حُكْمَ لَبَنِهَا وَلَحْمِهَا.

73- وَرَوَى الْحَنَابِلَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَيْنِ:

(أَوَّلُهُمَا) أَنَّ الْجَلاَّلَةَ تَحْرُمُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

(الثَّانِي) أَنَّهَا تُكْرَهُ.

وَرَوَوْا عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا تَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ رِوَايَتَيْنِ:

(إِحْدَاهُمَا) أَنَّ الْجَلاَّلَةَ مُطْلَقًا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

(الثَّانِيَةُ) أَنَّ الطَّائِرَ يُحْبَسُ ثَلَاثَةً، وَالشَّاةَ سَبْعَةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ (مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْكِبَرِ) أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ الْجَلاَّلَةَ مُبَاحَةٌ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ مَالِكًا كَرِهَ الْجَلاَّلَةَ.

وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْجَلاَّلَةِ عِنْدَ مَنْ حَرَّمَهَا مَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا».

وَوَجْهُ حَبْسِهَا ثَلَاثًا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَكْلَهَا حَبَسَهَا ثَلَاثًا وَأَطْعَمَهَا الطَّاهِرَاتِ.

وَوَجْهُ حَبْسِ الْإِبِلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْإِبِلِ الْجَلاَّلَةِ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا، وَلَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا إِلاَّ الْأُدُمَ.وَلَا يَرْكَبُهَا النَّاسُ حَتَّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ وَمَا انْفَصَلَ مِنْهُ:

حُكْمُ الْعُضْوِ الْمُبَانِ:

74- إِنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ، أَيْ يُفْصَلُ مِنْهُ، يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي حِلِّ أَكْلِهِ وَحُرْمَتِهِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أ- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ:

يُعْتَبَرُ كَمَيْتَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ فِي حِلِّ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ، فَالْمُبَانُ مِنَ السَّمَكِ الْحَيِّ أَوِ الْجَرَادِ الْحَيِّ يُؤْكَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَيْتَتَهُمَا تُؤْكَلُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ فِي الْجَرَادِ: إِنْ كَانَتِ الْإِبَانَةُ خَالِيَةً عَنْ نِيَّةِ التَّذْكِيَةِ، أَوْ خَالِيَةً عَنِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلِ الْمُبَانُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْحُوبَةً بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ أُكِلَ الْمُبَانُ إِنْ كَانَ هُوَ الرَّأْسُ، وَلَا يُؤْكَلُ إِنْ كَانَ جَنَاحًا أَوْ يَدًا أَوْ نَحْوَهُمَا.

وَالْمُبَانُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ ذَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ لَا يُؤْكَلُ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا كَالْأَنْعَامِ، أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ مَيْتَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا تُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ مَا أُبِينَ مِنْهُ حَيًّا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ».

ب- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمَيْتَةِ:

حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ بِلَا خِلَافٍ.

ج- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَأْكُولِ فِي أَثْنَاءِ تَذْكِيَتِهِ قَبْلَ تَمَامِهَا:

حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيِّ.فَلَوْ قَطَعَ إِنْسَانٌ حُلْقُومَ الشَّاةِ وَبَعْضَ مَرِّيئِهَا لِلتَّذْكِيَةِ، فَقَطَعَ إِنْسَانٌ آخَرُ يَدَهَا أَوْ أَلْيَتَهَا، فَالْمَقْطُوعُ نَجِسٌ حَرَامُ الْأَكْلِ، كَالْمَقْطُوعِ مِنَ الْحَيِّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا.

د- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَأْكُولِ بَعْدَ تَمَامِ تَذْكِيَتِهِ وَقَبْلَ زُهُوقِ رُوحِهِ:

يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُذَكَّى، لِأَنَّ بَقَاءَ رَمَقٍ مِنَ الْحَيَاةِ هُوَ رَمَقٌ فِي طَرِيقِ الزَّوَالِ الْعَاجِلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ.

هـ- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمَصِيدِ بِآلَةِ الصَّيْدِ:

إِمَّا أَنْ يَبْقَى الْمَصِيدُ بَعْدَ إِبَانَتِهِ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَصِيرَ حَيَاتُهُ حَيَاةَ مَذْبُوحٍ: فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى: يَكُونُ عُضْوًا مُبَانًا مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ، فَيَكُونُ كَمَيْتَتِهِ.

وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: يَكُونُ عُضْوًا مُبَانًا بِالتَّذْكِيَةِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ لَهُ صِفَتَيْنِ شِبْهَ مُتَعَارِضَتَيْنِ:

(الصِّفَةُ الْأُولَى) أَنَّهُ عُضْوٌ أُبِينَ قَبْلَ تَمَامِ التَّذْكِيَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيِّ فَلَا يَحِلُّ.

(وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ التَّذْكِيَةَ سَبَبٌ فِي حِلِّ الْمُذَكَّى، وَكُلٌّ مِنَ الْمُبَانِ وَالْمُبَانِ مِنْهُ مُذَكًّى، لِأَنَّ التَّذْكِيَةَ بِالصَّيْدِ هِيَ تَذْكِيَةٌ لِلْمَصِيدِ كُلِّهِ لَا لِبَعْضِهِ، فَيَحِلُّ الْعُضْوُ كَمَا يَحِلُّ الْبَاقِي.

وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: صَيْدٌ).

حُكْمُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى:

75- لَا شَكَّ أَنَّ التَّذْكِيَةَ حِينَمَا تَقَعُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ تَقْتَضِي إِبَاحَةَ أَكْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ حُكْمٌ خَاصٌّ: فَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مَثَلًا، حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَمَا بَقِيَ بِمَكَانِ الذَّبْحِ، وَمَا تَسَرَّبَ إِلَى دَاخِلِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ.وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّهُ حَلَالُ الْأَكْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ طُبِخَ اللَّحْمُ فَظَهَرَتِ الْحُمْرَةُ فِي الْمَرَقِ لَمْ يَنْجُسْ وَلَمْ يَحْرُمْ.وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ أَشْيَاءَ تُكْرَهُ أَوْ تَحْرُمُ مِنَ الذَّبِيحَةِ.وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ مَا قَالُوهُ وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ:

76- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ سَبْعَةٌ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْقُبُلُ (أَيْ فَرْجُ الْأُنْثَى وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَيَا)، وَالْغُدَّةُ، وَالْمَثَانَةُ (وَهِيَ مَجْمَعُ الْبَوْلِ)، وَالْمَرَارَةُ (وَهِيَ وِعَاءُ الْمُرَّةِ الصَّفْرَاءِ، وَتَكُونُ مُلْصَقَةً بِالْكَبِدِ).

وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ فِي نَظَرِهِمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى خُبْثِهَا، لِمَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّاةِ: الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالْقُبُلَ، وَالْغُدَّةَ، وَالْمَرَارَةَ، وَالْمَثَانَةَ، وَالدَّمَ».

وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ قَطْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

77- وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّمُ حَرَامٌ، وَأَكْرَهُ السِّتَّةَ.فَأَطْلَقَ وَصْفَ الْحَرَامِ عَلَى الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَسَمَّى مَا سِوَاهُ مَكْرُوهًا، لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَحُرْمَةُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ قَدْ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الْآيَةَ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا عَلَى حُرْمَتِهِ.فَأَمَّا حُرْمَةُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَجْزَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، أَوْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.لِذَلِكَ فَصَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصْفِ فَسَمَّى الدَّمَ حَرَامًا، وَالْبَاقِي مَكْرُوهًا.

وَقِيلَ: إِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَجْزَاءِ السِّتَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ، لَكِنَّ الْأَوْجَهَ كَمَا فِي «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» أَنَّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ.

78- هَذَا، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا مَرَّ.

وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِثْقَالَ أَكْلِ عَشْرَةٍ- دُونَ تَحْرِيمٍ- الْأُنْثَيَانِ وَالْعَسِيبُ وَالْغُدَّةُ وَالطِّحَالُ وَالْعُرُوقُ وَالْمَرَارَةُ وَالْكُلْيَتَانِ وَالْمَثَانَةُ وَأُذُنَا الْقَلْبِ.

79- وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَكْلِ الْغُدَّةِ وَأُذُنِ الْقَلْبِ.أَمَّا الْغُدَّةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَرِهَ أَكْلَهَا، رَوَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ.

وَأَمَّا أُذُنُ الْقَلْبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ أَكْلِهَا، نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْحَنْبَلِيُّ.

حُكْمُ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ

80- مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي مَوْضُوعِ «النَّجَاسَةِ» أَنَّ الْمَائِعَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْفَضَلَاتِ، وَالْبَيْضِ، وَالْجَنِينِ، تَارَةً تَكُونُ نَجِسَةً، وَتَارَةً تَكُونُ طَاهِرَةً، فَمَا كَانَ نَجِسًا مِنْهَا فِي مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا فَتَارَةً يَكُونُ مَأْكُولًا، وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرَ مَأْكُولٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الطَّهَارَةِ حِلُّ الْأَكْلِ، فَإِنَّ الطَّاهِرَ قَدْ يَكُونُ مُضِرًّا أَوْ مُسْتَقْذَرًا فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ.

وَيَكْفِينَا هُنَا أَنْ نَضْرِبَ أَمْثِلَةً لِمَا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ:

أَوَّلًا- الْبَيْضُ:

81- إِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ شَرْعًا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّذْكِيَةِ كَالسَّمَكِ، فَبَيْضُهُ مَأْكُولٌ إِجْمَاعًا، إِلاَّ إِذَا فَسَدَ.

وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْضَ الْفَاسِدَ بِأَنَّهُ مَا فَسَدَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ بِعَفَنٍ، أَوْ صَارَ دَمًا، أَوْ صَارَ مُضْغَةً، أَوْ فَرْخًا مَيِّتًا.

وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِحَيْثُ أَصْبَحَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّخَلُّقِ، فَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُمْ صَيْرُورَتُهُ دَمًا، إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّخَلُّقِ.

82- وَإِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ مَوْتِهِ دُونَ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الذَّكَاةِ، كَالدَّجَاجِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يُؤْكَلُ سَوَاءٌ أَتَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ أَمْ لَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُؤْكَلُ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُؤْكَلُ مَا تَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ فَقَطْ.

وَحَكَى الزَّيْلَعِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا إِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُمَا إِلاَّ إِذَا كَانَ جَامِدًا.

83- وَإِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ، كَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، فَبَيْضُهُ نَجِسٌ تَبَعًا لِلَحْمِهِ، فَلَا يَكُونُ مَأْكُولًا.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ كَالزُّنْبُورِ فَبَيْضُهُ طَاهِرٌ تَبَعًا لِلَحْمِهِ، وَمَأْكُولٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَحِلُّ عِنْدَهُمْ كُلُّ الْبَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَيِّ أَوِ الْمُذَكَّى، لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَبِيضُ لَا تَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إِلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، بَلْ كُلُّهَا مُبَاحُ الْأَكْلِ، إِلاَّ مَا لَا يُؤْمَنُ سُمُّهُ كَالْوَزَغِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ.فَكَذَلِكَ بَيْضُهُ إِنْ كَانَ يَضُرُّ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلاَّ فَلَا، فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِلضَّرَرِ.

وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ بَيْضَ الْحَيِّ غَيْرِ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ:

أَمَّا كَوْنُهُ طَاهِرًا فَلِأَنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَأْكُولًا فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي الرَّوْضِ «وَفِي بَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ تَرَدُّدٌ»

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ بَيْضَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ.وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِهَذَا أَنَّ الْبَيْضَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ.

ثَانِيًا: اللَّبَنُ:

84- إِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ فَهُوَ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ فِي إِبَاحَةِ التَّنَاوُلِ وَكَرَاهَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَرَّمِ: الْآدَمِيِّ، فَلَبَنُهُ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ لَحْمُهُ مُحَرَّمًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِلتَّكْرِيمِ لَا لِلِاسْتِخْبَاثِ.

وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوِ الْمَكْرُوهِ الْخَيْلُ، بِنَاءً عَلَى مَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ، فَفِي لَبَنِهَا عَلَى هَذَا رَأْيَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ فَيَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا.

(وَثَانِيهِمَا): - وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَيْلِ أَوْ كَرَاهَتَهَا لِكَوْنِهَا آلَةَ الْجِهَادِ لَا لِاسْتِخْبَاثِ لَحْمِهَا، وَاللَّبَنُ لَيْسَ آلَةَ الْجِهَادِ.وَنُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي لَبَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.وَإِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ فَهُوَ مَأْكُولٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْ آدَمِيَّةٍ مَيِّتَةٍ فَهُوَ مَأْكُولٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.وَكَذَا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ مَعَ قَوْلِهِ بِنَجَاسَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ يَقُولُ: إِنَّ لَبَنَ الْمَرْأَةِ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ، خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ.

وَإِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ مَيِّتَةِ الْمَأْكُولِ، كَالنَّعْجَةِ مَثَلًا، فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَيَرَى صَاحِبَاهُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ حَرَامٌ لِتَنَجُّسِهِ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ، وَهُوَ ضَرْعُ الْمَيْتَةِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِطَهَارَتِهِ وَإِبَاحَتِهِ قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةٌ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا فَلَا يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَجْرَاهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا وَهَذَا يَقْتَضِي الْحِلَّ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ.

(ثَالِثًا): الْإِنْفَحَةُ

85- الْإِنْفَحَةُ هِيَ مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ، يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ، يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، يُسَمِّيهَا النَّاسُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ: (مَجْبَنَةٌ).وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى: كَرِشًا، إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.

فَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ أُخِذَتِ الْإِنْفَحَةُ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.

وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْجُبْنَ الْمَصْنُوعَ مِنْ لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إِذَا عُقِدَ بِإِنْفَحَةِ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ عُقِدَ بِإِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ.

رَابِعًا- الْجَنِينُ:

86- جَنِينُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إِنْ خَرَجَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيْتَةٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ إِنْ أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ، فَذُكِّيَ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مُذَكَّاةٍ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوِ اضْطِرَارِيَّةً فَهُنَاكَ حَالَتَانِ:

(الْحَالَةُ الْأُولَى): أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً أَوْ جَنِينًا غَيْرَ كَامِلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْتِ تَقَدُّمُ الْحَيَاةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}.فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (كُنْتُمْ أَمْوَاتًا) كُنْتُمْ مَخْلُوقِينَ بِلَا حَيَاةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنْفَخَ فِيهِمُ الرُّوحُ.

(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ جَنِينًا كَامِلَ الْخِلْقَةِ- أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ- وَلِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ:

(الصُّورَةُ الْأُولَى): أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً فَتَجِبُ تَذْكِيَتُهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ فَهُوَ مَيْتَةٌ اتِّفَاقًا.

(الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةَ مَذْبُوحٍ، فَإِنْ أَدْرَكْنَا ذَكَاتَهُ وَذَكَّيْنَاهُ حَلَّ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُذَكَّ حَلَّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ حَيَاةَ الْمَذْبُوحِ كَلَا حَيَاةٍ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ فَمَاتَ يُؤْكَلُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِمَا: إِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَارَعْنَا إِلَيْهِ بِالذَّكَاةِ فَمَاتَ قَبْلَهَا حَلَّ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ حِينَئِذٍ كَلَا حَيَاةٍ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا بِذَكَاةِ أُمِّهِ، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَنْبُتَ شَعْرُ جَسَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلْ، وَلَا يَكْفِي شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ.

(الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا، وَيُعْلَمُ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ قَبْلَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ، فَلَا يَحِلُّ اتِّفَاقًا، وَيُعْرَفُ مَوْتُهُ قَبْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ بِأُمُورٍ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا فِي بَطْنِهَا فَتُضْرَبُ فَتَسْكُنُ حَرَكَتُهُ، ثُمَّ تُذَكَّى، فَيَخْرُجُ مَيِّتًا، وَمِنْهَا: أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مَيِّتًا ثُمَّ تُذَكَّى.

(الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِمُدَّةٍ لِتَوَانِي الْمُذَكِّي فِي إِخْرَاجِهِ فَلَا يَحِلُّ اتِّفَاقًا لِلشَّكِّ فِي أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ أَوْ بِالِانْخِنَاقِ لِلتَّوَانِي فِي إِخْرَاجِهِ.

(الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا عَقِبَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ التَّذْكِيَةِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ.وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.فَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا الْإِشْعَارَ.وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَالْجَنِينُ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مَيْتَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ مُسْتَقِلَّةٌ، إِذْ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَتَكُونُ تَذْكِيَتُهُ مُسْتَقِلَّةً.

وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْجُمْهُورِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةٌ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ جَنِينَ الْأُمِّ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، وَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ، لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا.

تَنَاوُلُ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

87- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الِاضْطِرَارَ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ فِي خَمْسَةِ مَوَاطِنَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

(الْأَوَّلُ) - الْآيَةُ 173 مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

(الثَّانِي) - الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (الثَّالِثُ) - الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

(الرَّابِعُ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.

(الْخَامِسُ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

88- فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} مَعْنَاهُ: فَمَنْ دَفَعَتْهُ الضَّرُورَةُ وَأَلْجَأَتْهُ إِلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، بِأَنْ يَخَافَ عِنْدَ تَرْكِ تَنَاوُلِهَا ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ مَثَلًا.

(وَالْبَاغِي)، هُوَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى غَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، بِأَنْ يُؤْثِرَ نَفْسَهُ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ، فَيَنْفَرِدُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَهْلَكُ الْآخَرُ مِنَ الْجُوعِ.

وَقِيلَ: الْبَاغِي هُوَ الْعَاصِي بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ (ف 100).

(وَالْعَادِي): هُوَ الَّذِي يَتَجَاوَزُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، أَوْ يَتَجَاوَزُ حَدَّ الشِّبَعِ، عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي.

(وَالْمَخْمَصَةُ): الْمَجَاعَةُ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي مَخْمَصَةٍ}.إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا وُقُوعُ الِاضْطِرَارِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا مَجَاعَةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ فِي غَيْرِ الْمَجَاعَةِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ كَالْمُضْطَرِّ فِي الْمَجَاعَةِ.

(وَالْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ) هُوَ الْمُنْحَرِفُ الْمَائِلُ إِلَيْهِ، أَيِ الَّذِي يَقْصِدُ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ، وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى.

89- وَمِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا مَخْمَصَةٌ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا».

غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِالْإِبَاحَةِ، وَفِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ، وَفِي تَفْصِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُبِيحُهَا الِاضْطِرَارُ، وَتَرْتِيبُهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ، وَفِي الشِّبَعِ أَوِ التَّزَوُّدِ مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي.

الْمَقْصُودُ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

90- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَقْصُودُ جَوَازُ التَّنَاوُلِ وَعَدَمِهِ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ وُجُوبُ تَنَاوُلِهَا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَدَلِيلُهُ قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، وَمُلْقِيًا بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لِأَنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ لِلْإِنْسَانِ.

91- وَلَا يَتَنَافَى الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَعَ قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لِأَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ فِي الْأَكْلِ عَامٌّ يَشْمَلُ حَالَتَيِ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ، فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْوُجُوبِ عُمِلَ بِهَا كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنِ التَّطَوُّفِ، أَيِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، مَفْهُومٌ عَامٌّ قَدْ خُصِّصَ بِمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ فَرْضِيَّتِهِ.

حَدُّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ:

92- قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ: مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْآيَاتِ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ.وَقَدِ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَحْصُلَ فِي وَضْعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ.

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ.وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِمَا.

وَحَالَةُ الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ دُخُولَهَا فِي مَعْنَى الِاضْطِرَارِ قَوْلُ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَيُؤْخَذُ مِنَ «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» أَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْمَلُ خَوْفَ الْهَلَاكِ، وَخَوْفَ الْعَجْزِ عَنِ الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَنِ الصِّيَامِ.

وَفَسَّرَ «الشَّرْحُ الصَّغِيرُ» لِلْمَالِكِيَّةِ الضَّرُورَةَ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الضَّرَرِ.

وَفَسَّرَهَا الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي «نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ» بِخَوْفِ الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَكَذَا خَوْفُ الْعَجْزِ عَنِ الْمَشْيِ، أَوِ التَّخَلُّفِ عَنِ الرُّفْقَةِ إِنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَكَذَا إِجْهَادُ الْجُوعِ إِيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّبْرُ.

وَالْمَحْذُورُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ حُدُوثُ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتُهُ أَوِ اسْتِحْكَامُهُ، أَوْ زِيَادَةُ مُدَّتِهِ، أَوْ حُصُولُ شَيْنٍ فَاحِشٍ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ، بِخِلَافِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي عُضْوٍ بَاطِنٍ.وَالظَّاهِرُ: مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمَهْنَةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْبَاطِنُ: بِخِلَافِهِ.

وَيُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ فِي الرِّوَايَةِ.وَإِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ عَارِفًا فِي الطِّبِّ عَمِلَ بِمُقْتَضَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُعْمَلُ بِتَجْرِبَتِهِ إِنْ كَانَ مُجَرِّبًا، عَلَى مَا قَالَهُ الرَّمْلِيُّ.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُعْمَلُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَقْدِ الطَّبِيبِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الضَّرُورَةَ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ فَقَطْ لَا مَا دُونَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَشْمَلُ خَوْفَ التَّلَفِ أَوِ الضَّرَرَ، وَقِيلَ: أَنْ يَخَافَ تَلَفًا أَوْ ضَرَرًا أَوْ مَرَضًا أَوِ انْقِطَاعًا عَنِ الرُّفْقَةِ يُخْشَى مَعَهُ الْهَلَاكُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (اقتداء 1)

اقْتِدَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاقْتِدَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَدَى بِهِ، إِذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ تَأَسِّيًا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ.

وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: اتِّبَاعُ الْمُؤْتَمِّ الْإِمَامَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ.أَوْ هُوَ رَبْطُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِالْإِمَامِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ، وَبَيَّنَهَا الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِائْتِمَامُ:

2- الِائْتِمَامُ: بِمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا رَبَطَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ حَصَلَ لَهُ صِفَةُ الِاقْتِدَاءِ وَالِائْتِمَامِ، وَحَصَلَ لِإِمَامِهِ صِفَةُ الْإِمَامَةِ.

وَالِاقْتِدَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الِائْتِمَامِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

ب- الِاتِّبَاعُ:

3- مِنْ مَعَانِي الِاتِّبَاعِ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ خَلْفَ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْآيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَيَأْتِي بِمَعْنَى الِائْتِمَامِ، يُقَالُ: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ: ائْتَمَّ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ.

وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الِاقْتِدَاءِ.

ج- التَّأَسِّي:

4- التَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْأُسْوَةِ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ، يُقَالُ: تَأَسَّيْتُ بِهِ وَائْتَسَيْتُ: أَيِ اقْتَدَيْتُ.فَالتَّأَسِّي بِمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ.

وَمِنْ مَعَانِي التَّأَسِّي: التَّعَزِّي، أَيِ: التَّصَبُّرُ.وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا التَّأَسِّي فَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

د- التَّقْلِيدُ:

5- التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ: قَبُولِ قَوْلِ الْغَيْرِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ.

أَقْسَامُ الِاقْتِدَاءِ:

6- الِاقْتِدَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا: اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ بِالْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنْهَا: الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّأَسِّي، كَاقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.

الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ

7- الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ: رَبْطُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامٌ وَمُقْتَدٍ، وَلَوْ وَاحِدًا.وَأَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ- فِي غَيْرِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ- اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » وَلِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- حِينَ « صَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ ».

وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً.

وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ.

هَذَا، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِي الِاقْتِدَاءِ وَالْمُقْتَدَى بِهِ (الْإِمَامِ)، وَحَالَاتٌ تَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ أَيْ (الْمَأْمُومَ) نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

شُرُوطُ الْمُقْتَدَى بِهِ (الْإِمَامِ):

8- يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ فِي الْجُمْلَةِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ اتِّفَاقًا، وَالْبُلُوغُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ إِذَا كَانَ الْمُقْتَدُونَ ذُكُورًا، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْأَعْذَارِ- كَرُعَافٍ وَسَلَسِ الْبَوْلِ- إِذَا اقْتَدَى بِهِ أَصِحَّاءُ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ عَاهَاتِ اللِّسَانِ- كَفَأْفَأَةٍ وَتَمْتَمَةٍ- إِذَا اقْتَدَى بِهِ السَّلِيمُ مِنْهُمَا، وَكَذَا السَّلَامَةُ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ كَطَهَارَةٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ.عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ فِي بَعْضِهَا يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة).

شُرُوطُ الِاقْتِدَاءِ:

أ- النِّيَّةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْتَمِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، إِذِ الْمُتَابَعَةُ عَمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ عَمَلُ الْقَلْبِ اللاَّزِمُ لِلْإِرَادَةِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ.وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

وَيُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلتَّحْرِيمَةِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّحْرِيمَةِ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لِلَّذِي أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَأْمُومًا، بِأَنْ تَحْضُرَ جَمَاعَةٌ فَيَنْوِيَ الدُّخُولَ مَعَهُمْ بِقَلْبِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَمْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ.

وَلَا فَرْقَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْمَأْمُومِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجُمُعَةِ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الْعِيدَانِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ أَوِ الْعِيدِ مُغْنِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِنِيَّةِ الْجَمَاعَةِ.

وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ كَزَيْدٍ، أَوْ صِفَتِهِ كَالْحَاضِرِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، بَلْ تَكْفِي نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِرَبْطِ صَلَاتِهِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ.

هَذَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَوَى الْإِمَامَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ نِيَّةَ الرَّجُلِ الْإِمَامَةَ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ النِّسَاءِ بِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة) ب- عَدَمُ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ:

10- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي إِمَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ » وَالِائْتِمَامُ الِاتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ تَابِعٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ.

وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُجْزِئُهُ التَّقَدُّمُ إِذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانَ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ.لَكِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَأْمُومِ، وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ وَمُحَاذَاتُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَعَدَمِهِ لِلْقَائِمِ بِالْعَقِبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ لَا الْكَعْبِ، فَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْعَقِبِ وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ لِطُولِ قَدَمِهِ لَمْ يَضُرَّ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ طَوِيلًا وَسَجَدَ قُدَّامَ الْإِمَامِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ عَقِبُهُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِمَامِ حَالَةَ الْقِيَامِ، صَحَّتِ الصَّلَاةُ، أَمَّا لَوْ تَقَدَّمَتْ عَقِبُهُ وَتَأَخَّرَتْ أَصَابِعُهُ فَيَضُرُّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْمَنْكِبِ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّقَدُّمِ بِالْأَلْيَةِ لِلْقَاعِدِينَ، وَبِالْجَنْبِ لِلْمُضْطَجِعِينَ.

11- فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يَقِفُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا ذَكَرًا- وَلَوْ صَبِيًّا- يَقِفُ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ مُسَاوِيًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْإِمَامِ قَلِيلًا.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ تُفْسِدُ صَلَاتَهُمْ.يَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ الْحَنَفِيُّ: فَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ مُشْتَهَاةٌ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ- وَهِيَ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ- مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمَةٌ وَأَدَاءٌ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ بِلَا حَائِلٍ، وَنَوَى الْإِمَامُ إِمَامَتَهَا وَقْتَ الشُّرُوعِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا، لِحَدِيثِ: « أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ » وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا، فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكَ لِفَرْضِ الْقِيَامِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَلَكِنَّهَا تُكْرَهُ، فَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا وَلَا مَنْ خَلْفَهَا وَلَا مَنْ أَمَامَهَا، وَلَا صَلَاتُهَا، كَمَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّأْخِيرِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ مَعَ عَدَمِهِ.

هَذَا، وَفِي الصَّلَاةِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي نَفْسِ الْجِهَةِ، حَتَّى إِذَا تَقَدَّمَهُ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمَا لَمْ يَضُرَّ اتِّفَاقًا.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ).

ج- أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ:

12- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَارِئٍ بِأُمِّيٍّ، وَلَا مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ، وَلَا بَالِغٍ بِصَبِيٍّ فِي فَرْضٍ، وَلَا قَادِرٍ عَلَى رُكُوعٍ وَسُجُودٍ بِعَاجِزٍ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ سَالِمٍ بِمَعْذُورٍ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَلَا مَسْتُورِ عَوْرَةٍ بِعَارٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةً فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنَّ حَالَ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ مِثْلَ حَالِ الْمُقْتَدِي أَوْ فَوْقَهُ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَالِ الْمُقْتَدِي صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ.وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ أُمِّيًّا وَالْمُقْتَدِي قَارِئًا، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَخْرَسَ فَلَا يَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا.وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَعَ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي: (اخْتِلَافِ صِفَةِ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي).

د- اتِّحَادُ صَلَاتَيِ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:

13- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ اتِّحَادُ صَلَاتَيِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لَمَّا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ، فَكُلُّ مَا تَنْعَقِدُ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقْتَدِي، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ ظُهْرٌ خَلْفَ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ ظُهْرٍ قَضَاءً خَلْفَ ظُهْرٍ أَدَاءً، وَلَا ظُهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَظُهْرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَلْفَ ظُهْرِ الْأَحَدِ الْمَاضِيَيْنِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنَ الِاتِّحَادِ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ وَصِفَتِهَا وَزَمَنِهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- عليه السلام-: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْقُدْوَةِ تَوَافُقُ نَظْمِ صَلَاتَيْهِمَا فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الصَّلَاتَيْنِ.وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ قُدْوَةُ مَنْ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِمَنْ يَقْضِيهَا، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَمُؤَدِّي الظُّهْرِ بِالْعَصْرِ، وَبِالْمَعْكُوسِ.أَيْ الْقَاضِي بِالْمُؤَدِّي، وَالْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ، وَفِي الْعَصْرِ بِالظُّهْرِ، نَظَرًا لِاتِّفَاقِ الْفِعْلِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ النِّيَّةُ. وَكَذَا يَجُوزُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَجُوزُ الصُّبْحُ خَلْفَ الظُّهْرِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ حِينَئِذٍ الْخُرُوجُ بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ أَوِ الِانْتِظَارِ لِيُسَلِّمَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ.لَكِنَّ الْأَوْلَى فِيهَا الِانْفِرَادُ.

فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِمُخَالَفَتِهِ النَّظْمَ، وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ مَعَهَا.

أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فَجَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

هـ- عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:

14- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ فَاصِلٌ كَبِيرٌ.

وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَالتَّفَاصِيلِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

بُعْدُ الْمَسَافَةِ:

15- فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَافَةِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ يَرَى الْإِمَامَ أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، أَوْ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ وَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ.أَمَّا فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ قَدْرَ مَا يَسَعُ صَفَّيْنِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ.وَلَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ مَنْ وَرَاءَهُ.فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إِنْ لَمْ يَرَ الْمَأْمُومُ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ سَمِعَ التَّكْبِيرَ، وَمَهْمَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَقَالُوا بِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا أَمْكَنَ رُؤْيَةُ الْإِمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوْ سَمَاعُ الْإِمَامِ وَلَوْ بِمُسَمِّعٍ.

وُجُودُ الْحَائِلِ، وَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ:

16- الْأُولَى: إِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ (وَلَوْ زَوْرَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ هُوَ مَا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ، أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ النَّهْرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ طَر فَيْهِ إِلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ سِبَاحَةٍ بِالْوُثُوبِ فَوْقَهُ، أَوِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَفِي حُكْمِهِ النَّهْرُ الْمُحْوِجُ إِلَى سِبَاحَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ.

17- الثَّانِيَةُ: يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ طَرِيقٌ نَافِذٌ يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ مَأْمُومٌ وَاحِدٌ- لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاتِّصَالُ، وَبِالثَّلَاثِ يَثْبُتُ، وَفِي الْمُثَنَّى خِلَافٌ.

وَلَا يَضُرُّ الطَّرِيقُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَإِنْ فَرَّقَتِ الطُّرُقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِمَامِهِمْ.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضُرُّ، لِأَنَّهُ قَدْ تَكْثُرُ فِيهِ الزَّحْمَةُ فَيَعْسُرُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَحْوَالِ الْإِمَامِ.

هَذَا، وَأَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْفَصْلَ بِطَرِيقٍ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَالتَّفْصِيلُ فِي مَوَاضِعِهَا.

18- الثَّالِثَةُ: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَمْنَعُ، أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ ثُقْبٌ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ».

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ حَالَ مَا يَمْنَعُ الْمُرُورَ لَا الرُّؤْيَةَ كَالشُّبَّاكِ أَوْ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ لَا الْمُرُورَ كَالْبَابِ الْمَرْدُودِ فَوَجْهَانِ.

وَعَلَى هَذَا الِاقْتِدَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ خَارِجِهِ- صَحِيحٌ، إِذَا لَمْ يَشْتَبِهْ حَالُ الْإِمَامِ لِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ إِلاَّ الْجِدَارُ، كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ حَائِطٌ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مِنَ الْمُكَبِّرِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ.وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.

و- اتِّحَادُ الْمَكَانِ:

19- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامَ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، إِذْ مِنْ مَقَاصِدِ الِاقْتِدَاءِ اجْتِمَاعُ جَمْعٍ فِي مَكَانٍ، كَمَا عُهِدَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الْأَعْصُرِ الْخَالِيَةِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَاتِ عَلَى رِعَايَةِ الِاتِّبَاعِ فَيُشْتَرَطُ لِيَظْهَرَ الشِّعَارُ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلَافٌ كَالْآتِي:

أَوَّلًا- الْأَبْنِيَةُ الْمُخْتَلِفَةُ:

20- تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْنِيَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.

ثَانِيًا- الِاقْتِدَاءُ فِي السُّفُنِ الْمُخْتَلِفَةِ:

21- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي فِي سَفِينَةٍ وَالْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَلَوِ اقْتَرَنَتَا صَحَّ اتِّفَاقًا، لِلِاتِّحَادِ الْحُكْمِيِّ.وَالْمُرَادُ بِالِاقْتِرَانِ: مُمَاسَّةُ السَّفِينَتَيْنِ، وَقِيلَ رَبْطُهُمَا.

وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا رَبْطَ السَّفِينَتَيْنِ، وَلَا الْمُمَاسَّةَ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا الْمَسَافَةَ حَيْثُ قَالُوا: جَازَ اقْتِدَاءُ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَرْسَى بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِهَا يَسْمَعُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَالَ مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ، أَوْ يَرَوْنَ أَفْعَالَهُ أَوْ أَفْعَالَ مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ.وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ السُّفُنُ سَائِرَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنْ طُرُوءِ مَا يُفَرِّقُهَا مِنْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ.

لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَلِي الْقِبْلَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ صَحَّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَلَمْ تُرْبَطْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، بِشَرْطِ أَلاَّ تَزِيدَ الْمَسَافَةُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَدَمِ الْحَائِلِ.وَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْرِ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اجْتِيَازُهُ سِبَاحَةً وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الِالْتِصَاقَ وَلَا الرَّبْطَ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَالِثًا: عُلُوُّ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِي عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَكْسُهُ:

22- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْمَأْمُومِ عَالِيًا- وَلَوْ بِسَطْحٍ- عَنِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.فَصَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ، لِإِمْكَانِ الْمُتَابَعَةِ.

وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عَالِيًا عَنْ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ ارْتِفَاعِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَشَرَطُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَاذَاةَ بَعْضِ بَدَنِ الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الْإِمَامِ، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالطُّولِ الْعَادِيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ يُكْرَهُ ارْتِفَاعُ الْمَأْمُومِ عَلَى إِمَامِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ وُقُوفُهُمَا بِمُسْتَوًى وَاحِدٍ، وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، كَتَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ وَتَعْلِيمُهُمْ صِفَةَ الصَّلَاةِ، فَيُسْتَحَبُّ ارْتِفَاعُهُمَا لِذَلِكَ، تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ.

وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ.

أَمَّا الْجَبَلُ الَّذِي يُمْكِنُ صُعُودُهُ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ أَوْ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهَا وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ.

فَالِاقْتِدَاءُ فِيهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ أَعْلَى مِنَ الْإِمَامِ.

ز- عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ:

23- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ، فَإِنْ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرَّجُلِ كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا، وَلَا مَنْ خَلْفَهَا.لِأَنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ « عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي ».وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ، وَلِهَذَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا فَصَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى.وَهَكَذَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ صَفٌّ تَامٌّ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ اقْتِدَاءَ مَنْ خَلْفَهُنَّ مِنَ الرِّجَالِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ صَفٌّ مِنَ النِّسَاءِ بِلَا حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّفِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْمُرَادُ بِالصَّفِّ الثَّلَاثُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا:

(1) الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تُفْسِدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةٍ، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهَا وَآخَرَ خَلْفَهَا، وَلَا تُفْسِدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

(2) وَالْمَرْأَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِمَا، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِمَا، وَصَلَاةَ اثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا.

(3) وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا أَفْسَدْنَ صَلَاةَ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ.

وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: الثَّلَاثُ كَالصَّفِّ، تُفْسِدُ صَلَاةَ كُلِّ الصُّفُوفِ خَلْفَهُنَّ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ جَمْعٌ كَامِلٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثِّنْتَيْنِ كَالثَّلَاثِ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى جَعَلَ الثَّلَاثَ كَالِاثْنَتَيْنِ.

ح- الْعِلْمُ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ:

24- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ عِلْمُ الْمَأْمُومِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ، بِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لِلْإِمَامِ أَوْ لِبَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ عَلَى الْمُقْتَدِي حَالُ الْإِمَامِ فَلَا يَتَمَكَّنَ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، فَلَوْ جَهِلَ الْمَأْمُومُ أَفْعَالَ إِمَامِهِ الظَّاهِرَةَ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُتَابَعَةٌ، وَمَعَ الْجَهْلِ أَوِ الِاشْتِبَاهِ لَا تُمْكِنُ الْمُتَابَعَةُ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا عِلْمُهُ بِحَالِ إِمَامِهِ مِنْ إِقَامَةٍ أَوْ سَفَرٍ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِيمَا لَوْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ.

هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَا يُجَوِّزُونَ الِاقْتِدَاءَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ.بَلْ يَشْتَرِطُونَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ فِي الْغَالِبِ.

وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَالْحَنَابِلَةُ يَكْتَفُونَ بِالْعِلْمِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ.

ط- صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ:

25- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُهَا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فِسْقًا مِنْهُ، أَوْ نِسْيَانًا لِمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، أَوْ لِوُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي زَعْمِ الْإِمَامِ فَاسِدَةً فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي لِبِنَائِهِ عَلَى الْفَاسِدِ فِي زَعْمِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْفِسْقُ الَّذِي يُخِلُّ بِرَكْنٍ أَوْ شَرْطٍ فِي الصَّلَاةِ، كَأَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ سَكْرَانُ، أَوْ هُوَ مُحْدِثٌ مُتَعَمِّدًا.

أَمَّا الْفِسْقُ فِي الْعَقِيدَةِ، أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ، وَقَدْ شَدَّدَ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمُقْتَدِي، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَهُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ فِيهَا.لِحَدِيثِ: « صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ.وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ مَرْوَانَ وَوَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ تَبَيَّنَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّهُ كَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ فَاسِقٌ (عَلَى خِلَافٍ فِيهِ) أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، إِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ عَلِمَ الْمُؤْتَمُّ بِحَدَثِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا، أَوِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَوْ نَاسِيًا.

وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، كَمَنْ عَلِمَ بِكُفْرِهِ أَوْ حَدَثِهِ أَوْ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ فَكَيْفَ يَقْتَدِي بِهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ يَعْتَقِدُ الْمُقْتَدِي بُطْلَانَ صَلَاتِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِكَافِرٍ وَلَوْ بِبِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَلَوْ أَسَرَّهُ وَجَهِلَ الْمَأْمُومُ كُفْرَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ.وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ كُفْرَهُ أَوْ حَدَثَهُ، وَلَوْ بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُعِيدُ الْمَأْمُومُ، لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ.

لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَدِي بِحَدَثِ إِمَامِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَا بُطْلَانَ.كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: هُوَ كَافِرٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهَا.

وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومُ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ».فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ، فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، مِثْلَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ.وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِهَذَا الِاتِّجَاهِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ- ( (- كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ.وَأَنَّ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصِيبَ الْمُجْتَهِدُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَأَجْرُ إِصَابَتِهِ، أَوْ أَنْ يُخْطِئَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (أهل النسب)

أَهْلُ النَّسَبِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَهْلُ: أَهْلُ الْبَيْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْقَرَابَةُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْأَتْبَاعِ.

وَأَهْلُ الرَّجُلِ: أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَهْلُ الرَّجُلِ: عَشِيرَتُهُ وَذَوُو قُرْبَاهُ.

وَأَهْلُ الْمَذْهَبِ: مَنْ يَدِينُ بِهِ.

وَالنَّسَبُ: الْقَرَابَةُ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَقِيلَ هُوَ فِي الْآبَاءِ خَاصَّةً، أَيِ: الِاشْتِرَاكُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَقَطْ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْلُ النَّسَبِ لُغَةً: هُمُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ، وَقِيلَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَقَطْ.

وَالْفُقَهَاءُ يَعْتَبِرُونَ النَّسَبَ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَقَطْ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ، إِلاَّ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (أَهْلِ النَّسَبِ) لَمْ يَرِدْ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: مَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ نَسَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِمَنْ يُنْتَسَبُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى الْآبَاءِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَنْ يُنْتَسَبُ إِلَيَّ، أَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيَّ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى مَنْ يُنْتَسَبُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى آبَائِهِمْ، لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ}

وَيَذْكُرُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ كَانَ امْرَأَةً دَخَلَ أَوْلَادُ بَنَاتِهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِانْتِسَابِ فِي حَقِّهَا لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلْإِخْرَاجِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، وَيَكُونُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ مَحْمُولًا عَلَى وَقْفِ الرَّجُلِ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَبَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ.

وَلَمْ يُصَرِّحُوا فِي أَغْلَبِ كُتُبِهِمْ بِتَعْبِيرٍ مُمَاثِلٍ لِمَا وَرَدَ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الرَّهُونِيِّ: مَنْ قَالَ: حَبْسٌ عَلَى وَلَدِي وَأَنْسَابِهِمْ، فَفِي دُخُولِ وَلَدِ الْبَنَاتِ فِي تَحْبِيسِ جَدِّهِمْ لِلْأُمِّ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ إِلاَّ أَنْ يُخَصُّوا بِلَفْظِ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- جَاءَ ذِكْرُ أَهْلِ النَّسَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَشَبِيهُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي بَابَيِ الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ (ر: وَصِيَّةٌ- وَقْفٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (بيت الزوجية)

بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَيْتُ لُغَةً: الْمَسْكَنُ، وَبَيْتُ الرَّجُلِ دَارُهُ.

وَبَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ: مَحَلٌّ مُنْفَرِدٌ مُعَيَّنٌ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ، لَا يُشَارِكُهَا أَحَدٌ فِي سُكْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ الْمُمَيِّزِينَ، وَلَهُ غَلْقٌ يَخُصُّهُ وَمَرَافِقُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الدَّارِ، عَلَى أَلَا يُشَارِكَهَا فِيهَا أَحَدٌ إِلاَّ بِرِضَاهَا.وَهَذَا فِي غَيْرِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الْمَرَافِقِ.

مَا يُرَاعَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

2- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ- عَلَى الْمُفْتَى بِهِ- عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِقَدْرِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَلَيْسَ مَسْكَنُ الْأَغْنِيَاءِ كَمَسْكَنِ الْفُقَرَاءِ؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَقَوْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ يَقْتَضِي مُرَاعَاةَ حَالِ الزَّوْجَيْنِ؛

وَلِأَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ- فِي الْأَصْلِ- بَيْتُ دَوَامٍ وَاسْتِقْرَارٍ، فَجَرَى مَجْرَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَيُرَاعِي الْحَاكِمُ حَالَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ «مَحَلَّ الطَّاعَةِ» يَكُونُ حَسَبَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ بَلَدِ الزَّوْجَيْنِ بِقَدْرِ وُسْعِ الرَّجُلِ وَحَالِ الْمَرْأَةِ.فَإِنْ تَسَاوَيَا فَقْرًا أَوْ غِنًى اعْتُبِرَ حَالُهُمَا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلاَّ عَلَى أَدْنَى الْكِفَايَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِوُسْعِهِ فَقَطْ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ذَا قَدْرٍ، وَهِيَ فَقِيرَةٌ، أُجِيبَتْ لِحَالَةٍ أَعْلَى مِنْ حَالِهَا وَدُونَ حَالِهِ.وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً ذَاتَ قَدْرٍ، وَهُوَ فَقِيرٌ، إِلاَّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى حَالِهَا رَفَعَهَا بِالْقَضَاءِ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ عَادَةً؛ إِذْ هُوَ إِمْتَاعٌ، سَوَاءٌ كَانَ دَارًا أَوْ حُجْرَةً أَوْ غَيْرَهُمَا.وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ فَقَطْ؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ.وَكَذَا فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَسْكَنَ الطَّاعَةِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ كَالنَّفَقَةِ.

شُرُوطُ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

3- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يُرَاعَى فِيهِ مَا يَأْتِي: أ- أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، سِوَى طِفْلِهِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَضَرَّرُ بِمُشَارَكَةِ غَيْرِهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصِّ بِهَا، وَلَا تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا، وَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنْ مُعَاشَرَةِ زَوْجِهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا سُكْنَى أَقَارِبِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجَاتِهِ الْأُخْرَيَاتِ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا لَمْ تَرْضَ بِسُكْنَاهُمْ مَعَهَا فِيهَا، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهَا بَيْتٌ مُنْفَرِدٌ فِي الدَّارِ لَهُ غَلْقٌ وَمَرَافِقُ خَاصَّةٌ كَفَاهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الِاعْتِرَاضُ حِينَئِذٍ عَلَى سُكْنَى أَقَارِبِهِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُؤْذِيهَا.وَقَالُوا أَيْضًا: لَهُ أَنْ يُسْكِنَ ضَرَّتَهَا حِينَئِذٍ فِي الدَّارِ مَا لَمْ تَكُنِ الْمَرَافِقُ مُشْتَرَكَةً؛ لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِلتَّخَاصُمِ.

وَمِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ارْتَضَاهُ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ، فَفِي الشَّرِيفَةِ ذَاتِ الْيَسَارِ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا فِي دَارٍ، وَمُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ يَكْفِيهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ مِنْ دَارٍ.

وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، قَالَ: لِلزَّوْجَةِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ أَقَارِبِ الزَّوْجِ كَأَبَوَيْهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَالِهَا، إِلاَّ الْوَضِيعَةَ فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُمْ، وَكَذَا الشَّرِيفَةُ إِنِ اشْتَرَطُوا عَلَيْهَا سُكْنَاهَا مَعَهُمْ.وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِهَا.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ مَعَهَا وَلَدُهُ الصَّغِيرُ مِنْ غَيْرِهَا، إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاضِنٌ غَيْرُ أَبِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَسْكَنَ زَوْجَتَيْهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ، جَازَ إِذَا كَانَ بَيْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَمَسْكَنِ مِثْلِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا دَارًا مُسْتَقِلَّةً فَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ذَلِكَ.

أَمَّا خَادِمُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ: سَوَاءٌ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَيَجُوزُ سُكْنَاهُ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يَكُونُ الْخَادِمُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ نَظَرُهُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ.

ب- أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ سُكْنَى ضَرَّتِهَا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْغَيْرَةِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُثِيرُ الْخُصُومَةَ وَالْمُشَاجَرَةَ، إِلاَّ إِنْ رَضِيَتَا بِسُكْنَاهُمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَهُمَا الرُّجُوعُ بَعْدَئِذٍ.

ج- أَنْ يَكُونَ بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَهُمْ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَذَلِكَ لِتَأْمَنَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَمُفَادُهُ أَنَّ الْبَيْتَ بِلَا جِيرَانٍ لَيْسَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا، إِنْ كَانَتْ لَا تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا.

د- أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ مَا يَلْزَمُ لِمَعِيشَةِ أَمْثَالِهِمَا عَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرَافِقِ اللاَّزِمَةِ.

سُكْنَى الطِّفْلِ الرَّضِيعِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُ طِفْلِهَا، أَوْ كَانَتْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لِلْإِرْضَاعِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ فَسْخُ عَقْدِ الْإِرْضَاعِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إِذَا أَذِنَ لَهَا، وَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَهَا أَنْ تُسْكِنَ الرَّضِيعَ مَعَهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ.

مَا يُجِيزُ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

الْأَصْلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تِلْكَ الْحَالَاتِ، وَأَهَمُّهَا:

أ- زِيَارَةُ أَهْلِهَا:

5- الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا كُلَّ أُسْبُوعٍ، أَوْ زِيَارَةِ الْمَحَارِمِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ زَوْجُهَا.

وَلَهَا الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ وَالِدَيْهَا وَحُضُورِ جِنَازَتِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: تَقْيِيدُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا كُلَّ جُمُعَةٍ بِأَنْ لَا يَقْدِرَا عَلَى زِيَارَتِهَا، فَإِنْ قَدَرَا لَا تَذْهَبُ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا، وَيُقْضَى لَهَا بِزِيَارَتِهِمَا مَرَّةً كُلَّ أُسْبُوعٍ، إِنْ كَانَتْ مَأْمُونَةً وَلَوْ شَابَّةً، وَحَالُهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَانَةِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهَا.وَإِنْ حَلَفَ: أَنْ لَا تَزُورَ وَالِدَيْهَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا الْقَاضِي بِالْخُرُوجِ لِلزِّيَارَةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ بِالْفِعْلِ حَنِثَ، وَهَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ وَالِدَيْهَا بِالْبَلَدِ، لَا إِنْ بَعُدَا عَنْهَا فَلَا يُقْضَى لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَتِهِمَا إِنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ، وَأَطْلَقَ- بِحَيْثُ لَمْ يَخُصَّ مَنْعَهَا مِنَ الزِّيَارَةِ بَلْ مَنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ أَصْلًا- لَفْظًا وَنِيَّةً، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا وَلَوْ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا إِذَا طَلَبَتْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ التَّخْصِيصِ يَظْهَرُ مِنْهُ قَصْدُ ضَرَرِهَا، فَلِذَا حَنِثَ، بِخِلَافِ حَالِ التَّعْمِيمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ الضَّرَرِ؛ فَلِذَا لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا وَلَا يَحْنَثُ.وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً، لَمْ تَخْرُجْ وَلَوْ مُتَجَالَّةً، أَوْ مَعَ أَمِينَةٍ، لِتَطَرُّقِ فَسَادِهَا بِالْخُرُوجِ.

وَجَوَّزَ الشَّافِعِيَّةُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ لِزِيَارَةِ أَهْلِهَا وَلَوْ مَحَارِمَ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ- حَيْثُ لَا رِيبَةَ، وَكَذَا عِيَادَتُهُمْ، وَتَشْيِيعُ جِنَازَتِهِمْ، وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ مَنْعٍ قَبْلَ غَيْبَتِهِ، فَلَوْ مَنَعَهَا قَبْلَ غَيْبَةٍ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَالْمُرَادُ خُرُوجٌ لِغَيْرِ سَفَرٍ وَغَيْبَةٍ عَنِ الْبَلَدِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ بِلَا إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الزِّيَارَةِ، وَلَا تَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ زِيَارَتِهِمَا إِلاَّ مَعَ ظَنِّ حُصُولِ ضَرَرٍ يُعْرَفُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِسَبَبِ زِيَارَتِهِمَا لَهَا، فَلَهُ مَنْعُهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ زِيَارَتِهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ.

ب- سَفَرُ الْمَرْأَةِ وَالْمَبِيتُ خَارِجَ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَدَاءِ الْحَجَّةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَلَا يَمْلِكُ تَحْلِيلَهَا إِذَا أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ بِحَجٍّ غَيْرِ مَفْرُوضٍ؛ لِوُجُوبِ إِتْمَامِهِ بِشُرُوعِهَا فِيهِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِلْفَرْضِ وَغَيْرِهِ.

ج- الِاعْتِكَافُ:

7- يَرَى الْفُقَهَاءُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِلِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، وَالْمُكْثِ فِيهِ مُدَّتَهُ.

د- رِعَايَةُ الْمَحَارِمِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِرِعَايَةِ مَحَارِمِهَا، كَأَبَوَيْهَا وَإِخْوَتِهَا، وَذَلِكَ لِتَمْرِيضِ الْمَرِيضِ أَوْ عِيَادَتِهِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ وَاحْتَاجَهَا، وَعَلَيْهَا تَعَاهُدُهُ بِقَدْرِ احْتِيَاجِهِ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهَا تَخْرُجُ لِشُهُودِ جِنَازَتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا إِذْنُهَا بِالْخُرُوجِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَفِي مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، وَرُبَّمَا حَمَلَهَا عَدَمُ إِذْنِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا.

وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِحُكْمِ هَذِهِ الصُّوَرِ.

هـ- الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ:

9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِلَا إِذْنِ الزَّوْجِ إِنْ كَانَتْ لَهَا نَازِلَةٌ، وَلَمْ يُغْنِهَا الزَّوْجُ الثِّقَةُ أَوْ نَحْوُ مَحْرَمِهَا، وَكَذَا لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهَا الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا، كَإِتْيَانِهَا بِالْمَاءِ مِنَ الدَّارِ، أَوْ مِنْ خَارِجِهَا، وَكَذَا مَأْكَلٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَنَاءَ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِقَضَائِهِ لَهَا، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا، أَوْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ لِقَاضٍ تَطْلُبُ عِنْدَهُ حَقَّهَا.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَيْتُ مَغْصُوبًا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْمَغْصُوبِ حَرَامٌ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا.وَكَذَا لَوْ أَبَتِ الذَّهَابَ إِلَيْهِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعَمَلِ إِنْ أَجَازَ لَهَا زَوْجُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَلَهَا الْخُرُوجُ لِلْإِرْضَاعِ إِنْ كَانَتْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لَهُ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ؛ لِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ فَسْخَهَا، وَلَا مَنْعَهَا مِنَ الرَّضَاعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مُلِكَتْ بِعَقْدٍ سَابِقٍ عَلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِنْ كَانَتْ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ فَاسِقٍ أَوْ سَارِقٍ، أَوْ أَخْرَجَهَا مُعِيرُ الْمَنْزِلِ، كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ وَالسَّفَرَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا مَعَ مَحْرَمٍ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، إِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلٍ أَضْحَى كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ يُشْرِفُ عَلَى الِانْهِدَامِ، مَعَ وُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ.وَلَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِرِضَا الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى رَفْضِ الزَّوْجَةِ الْإِقَامَةَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:

10- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ، أَمِ امْتَنَعَتْ عَنْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ إِيفَائِهَا مُعَجَّلَ مَهْرِهَا، وَطَلَبَ زَوْجُهَا الْإِقَامَةَ فِيهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى حَتَّى تَعُودَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بِالِامْتِنَاعِ قَدْ فَوَّتَتْ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاحْتِبَاسِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ، فَتَكُونُ نَاشِزًا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (حرفة)

حِرْفَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْحِرْفَةُ اسْمٌ مِنَ الِاحْتِرَافِ وَهُوَ الِاكْتِسَابُ، يُقَالُ: هُوَ يَحْرِفُ لِعِيَالِهِ وَيَحْتَرِفُ.

وَالْمُحْتَرَفُ: الصَّانِعُ، وَفُلَانٌ حَرِيفِيٌّ، أَيْ مُعَامِلِيٌّ، وَجَمْعُهُ حُرَفَاءُ.

وَالْمُحَرِّفُ: الَّذِي نَمَا مَالُهُ وَصَلُحَ، وَالِاسْمُ: الْحِرْفَةُ.

وَالْحِرْفَةُ: الصِّنَاعَةُ وَجِهَةُ الْكَسْبِ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مُؤْنَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ.

أَرَادَ بِاحْتِرَافِهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَظَرَهُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَثْمِيرَ مَكَاسِبِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْحِرْفَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَهُمْ يَعْتَبِرُونَ كُلَّ مَا كَانَ طَرِيقًا لِلِاكْتِسَابِ حِرْفَةً وَمِنْ ذَلِكَ الْوَظَائِفُ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَظَائِفُ تُعْتَبَرُ مِنَ الْحَرْفِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ طَرِيقًا لِلِاكْتِسَابِ.وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْحِرْفَةُ هِيَ مَا يُتَحَرَّفُ بِهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- صَنْعَةٌ- كَسْبٌ- عَمَلٌ- مِهْنَةٌ:

هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُرَادِفُ الْحِرْفَةَ بِمَعْنَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا.

وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ وَالْعَمَلُ وَالْمِهْنَةُ أَعَمَّ مِنَ الْحِرْفَةِ إِذْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا حِرْفَةً وَقَدْ لَا يَكُونُ.وَالْحِرْفَةُ أَعَمُّ مِنَ الصَّنْعَةِ.إِذِ الصَّنْعَةُ تَكُونُ فِي الْعَمَلِ بِالْيَدِ فِي حِينِ أَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْيَدِ قَدْ تَكُونُ بِالْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أَبْحَاثِ (احْتِرَافٌ- اكْتِسَابٌ- امْتِهَانٌ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقِيَامِ بِالْحِرَفِ:

3- الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَنْقَلِبُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: احْتِرَافٌ فِقْرَةُ 10.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِرْفَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:

أَوَّلًا: الصَّلَاةُ بِثِيَابِ الْحِرْفَةِ:

4- طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.

وَمَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ تُصِيبُ النَّجَاسَةُ بِسَبَبِهَا ثَوْبَهُ، أَوْ بَدَنَهُ كَالْجَزَّارِ وَالْكَنَّاسِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا لِلصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِي إِبْعَادِ ثَوْبِهِ عَنِ النَّجَاسَةِ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ إِعْدَادُ ثَوْبٍ آخَرَ، وَتَعَذَّرَ إِبْعَادُ ثَوْبِهِ عَنِ النَّجَاسَةِ.وَغَلَبَ وُصُولُ النَّجَاسَةِ لِلثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ، وَيُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ.بِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا نَجِسًا قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُصَلِّي عُرْيَانًا وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّهَا سُتْرَةٌ نَجِسَةٌ فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ جَمِيعُ الثَّوْبِ نَجِسًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ صَلَاتُهُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجَسِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا.

ثَانِيًا: وَقْتُ الصَّلَاةِ لِلْمُحْتَرِفِ:

5- الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ.وَصَاحِبُ الْحِرْفَةِ إِذَا كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ.وَفِي أَدَاءِ السُّنَنِ خِلَافٌ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ، صَلَاةٌ).

ثَالِثًا: صِيَامُ أَصْحَابِ الْحِرَفِ:

6- صِيَامُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلَا يُعْفَى مِنْ أَدَاءِ الصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْفِطْرِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْحِرَفِ فَمُفَادُ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ لِعَمَلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ خَشِيَ تَلَفَ الْمَالِ إِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ، أَوْ سَرِقَةَ الزَّرْعِ إِنْ لَمْ يُبَادِرْ لِحَصَادِهِ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الصَّوْمِ وَلَوْ أَدَّاهُ الْعَمَلُ إِلَى الْفِطْرِ حِينَ يَخَافُ الْجَهْدَ.

وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ لِيَقْدِرَ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ، وَإِذَا أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ.

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ:

فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتَاوَى: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ الْمُحْتَرِفِ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِحِرْفَتِهِ يَلْحَقُهُ مَرَضٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِلنَّفَقَةِ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ، وَهَكَذَا حَكَاهُ عَنْ أُسْتَاذِهِ الْوَبَرِيِّ.وَسُئِلَ أَبُو حَامِدٍ عَنْ خَبَّازٍ يَضْعُفُ فِي آخِرِ النَّهَارِ هَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا الْعَمَلَ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَخْبِزُ نِصْفَ النَّهَارِ وَيَسْتَرِيحُ الْبَاقِيَ، فَإِنْ قَالَ لَا يَكْفِيهِ كُذِّبَ بِأَيَّامِ الشِّتَاءِ فَإِنَّهَا أَقْصَرُ فَمَا يَفْعَلُهُ فِيهَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ.

وَقَالَ الرَّمْلِيُّ فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى: لَوْ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ، فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ إِذَا لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِيهَا وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.وَعَلَى هَذَا الْحَصَادُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ مَعَ الصَّوْمِ وَيَهْلِكُ الزَّرْعُ بِالتَّأْخِيرِ، لَا شَكَّ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَالْقَضَاءِ، وَكَذَا الْخَبَّازُ وَفِي تَكْذِيبِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ طُولَ النَّهَارِ وَقِصَرَهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْكِفَايَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْتَرِفِ- حَيْثُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَرَّ مِنْ تَفَقُّهَاتِ الْمَشَايِخِ لَا مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ- أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ، لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ مِنَ النَّاسِ فَالْفِطْرُ أَوْلَى، وَإِلاَّ فَلَهُ الْعَمَلُ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ، كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ صِيَامَهُ مَعَ الْعَمَلِ سَيُؤَدِّيهِ إِلَى الْفِطْرِ يَحِلُّ لَهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْفِطْرِ، وَكَذَا لَوْ خَافَ هَلَاكَ زَرْعِهِ أَوْ سَرِقَتَهُ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا.وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَجَاءَ رَمَضَانُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ الْمُسْتَأْجِرُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ، كَمَا فِي الظِّئْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِرْضَاعُ بِالْعَقْدِ، وَيَحِلُّ لَهَا الْإِفْطَارُ إِذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى.

وَفِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: نَقَلَ ابْنُ مُحْرِزٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الَّذِي يُعَالِجُ مِنْ صَنْعَتِهِ فَيَعْطَشُ فَيُفْطِرُ، فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّفُوا مِنْ عِلَاجِ الصَّنْعَةِ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ.فَقَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا شَدَّدَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي كِفَايَةٍ مِنْ عَيْشِهِ أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ مِنَ التَّسَبُّبِ مَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْفِطْرِ، وَإِلاَّ كُرِهَ لَهُ.بِخِلَافِ رَبِّ الزَّرْعِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.

وَفِي نَوَازِلِ الْبُرْزُلِيُّ: الْفَتْوَى عِنْدَنَا أَنَّ الْحَصَادَ الْمُحْتَاجَ لَهُ الْحَصَّادُ، أَيْ وَلَوْ أَدَّى بِهِ إِلَى الْفِطْرِ وَإِلاَّ كُرِهَ لَهُ، بِخِلَافِ رَبِّ الزَّرْعِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا لِحِرَاسَةِ مَالِهِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.

وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: يُبَاحُ تَرْكُ الصَّوْمِ لِنَحْوِ حَصَادٍ، أَوْ بِنَاءٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرِ الْأَمْرُ فِيهِ وَقَدْ خَافَ عَلَى الْمَالِ إِنْ صَامَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ لَيْلًا، أَوْ لَمْ يَكْفِهِ فَيُؤَدِّي لِتَلَفِهِ أَوْ نَقْصِهِ نَقْصًا لَا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ.هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِإِنْقَاذِ مُحْتَرَمٍ، خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ فِي نَحْوِ الْحَصَادِ الْمَنْعَ، وَلِمَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ.

وَلَوْ تَوَقَّفَ كَسْبُهُ لِنَحْوِ قُوتِهِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ هُوَ أَوْ مُمَوِّنُهُ عَلَى فِطْرِهِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ لَكِنْ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ.

وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ: مَنْ صَنْعَتُهُ شَاقَّةٌ فَإِنْ خَافَ بِالصَّوْمِ تَلَفًا أَفْطَرَ وَقَضَى إِنْ ضَرَّهُ تَرْكُ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُهَا أَثِمَ بِالْفِطْرِ وَيَتْرُكُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتِفِ التَّضَرُّرُ بِتَرْكِهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ لِلْعُذْرِ.

رَابِعًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ:

7- أ- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي آلَاتِ الْعَمَلِ لِلْمُحْتَرِفِينَ، لِأَنَّهَا مِنَ الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ نِصَابٍ فَارِغٍ عَنْ دَيْنٍ وَعَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَشْغُولَ بِهَا كَالْمَعْدُومِ، وَالْحَاجَةَ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنِ الْإِنْسَانِ تَحْقِيقًا كَالنَّفَقَةِ، وَدُورِ السُّكْنَى، وَآلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَآلَاتِ الْحِرْفَةِ، وَكُتُبِ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا..هَذَا إِذَا كَانَتْ آلَاتُ الْحِرَفِ لَمْ تُقْتَنَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَإِلاَّ فَفِيهَا الزَّكَاةُ كَبَاقِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ).

ب- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَقِيرَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلزَّكَاةِ.

وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ مَنْ لَهُ حِرْفَةٌ يَكْسِبُ مِنْهَا مَا يَكْفِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَقِيرًا وَلَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ.

أَمَّا إِنْ كَانَ مَا يَكْسِبُهُ مِنْ حِرْفَتِهِ لَا يَكْفِيهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ تَمَّامَ كِفَايَتِهِ، وَيُصَدَّقُ إِنِ ادَّعَى كَسَادَ الْحِرْفَةِ.

وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ حِرْفَةً وَيَحْتَاجُ إِلَى الْآلَةِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ ثَمَنَ آلَةِ حِرْفَتِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَكَذَا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ تِجَارَةً فَيُعْطَى رَأْسَ مَالٍ يَكْفِيهِ رِبْحُهُ غَالِبًا بِاعْتِبَارِ عَادَةِ بَلَدِهِ.

وَيَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ مَنْ كَانَ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَالْفُقَرَاءُ هُمْ مِنَ الْمَصَارِفِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا، فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ).

خَامِسًا: الْحَجُّ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْحِرَفِ:

8- مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الِاسْتِطَاعَةُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

لَكِنْ مَنْ كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنْهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ لِلْحَجِّ مَا يَكْفِيهِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَتِ الْحِرْفَةُ لَا تُزْرِي بِهِ وَيَكْتَسِبُ مِنْهَا، أَثْنَاءَ سَفَرِهِ وَعَوْدَتِهِ مَا يَكْفِيهِ وَعَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ كَسَادِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.

لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجَّ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ بِمَشَقَّةٍ لَا يُكْرَهُ تَحَمُّلُهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ).

سَادِسًا: الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ فِي الْمَسَاجِدِ:

9- لِلْمَسَاجِدِ حُرْمَةٌ لِأَنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ أُقِيمَتْ لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، وَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ.

لَكِنْ هَلْ يُعْتَبَرُ الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِجَارَةً أَمْ صِنَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ مُنَافِيًا لِحُرْمَتِهَا؟ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ.وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ»

وَقَدْ رَأَى عُمَرُ- رضي الله عنه- رَجُلًا (يُسَمَّى الْقَصِيرَ) يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ فَإِنْ أَرَدْتَ الْبَيْعَ فَاخْرُجْ إِلَى سُوقِ الدُّنْيَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَنْعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ كُرِهَ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَثْنَاءَ الِاعْتِكَافِ بِعَدَمِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِلاَّ كُرِهَ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحْرَزٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ.

10- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقِيَامِ بِالصَّنْعَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ عَمَلِ الصِّنَاعَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ آحَادُ النَّاسِ مِمَّا يَتَكَسَّبُ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ يَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِثْلَ إِصْلَاحِ آلَاتِ الْجِهَادِ مِمَّا لَا امْتِهَانَ لِلْمَسْجِدِ فِي عَمَلِهِ فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ، إِلاَّ كِتَابَةَ الْعِلْمِ ثُمَّ قَالُوا: تُكْرَهُ الْحِرْفَةُ كَخِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالْمُعَاوَضَةِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلَا حَاجَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ صِيَانَةً لَهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّنْعَةِ كَخِيَاطَةٍ وَغَيْرِهَا قَلِيلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ بِكَنْسٍ أَوْ رَشٍّ وَنَحْوِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِلْمَعَايِشِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِذَلِكَ.

وَقُعُودُ الصُّنَّاعِ وَالْفَعَلَةِ فِيهِ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يُكْرِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْبَضَائِعِ فِيهِ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يَشْتَرِيهَا، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمَسَاجِدُ إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلَاةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى مَعَاشِهِ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.وَيَجِبُ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ عَمَلِ صَنْعَةٍ لِتَحْرِيمِهَا فِيهِ.

وَلَا يُكْرَهُ الْيَسِيرُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ التَّكَسُّبِ كَرَقْعِ ثَوْبِهِ وَخَصْفِ نَعْلِهِ وَمِثْلِ أَنْ يَنْحَلَّ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَى رَبْطٍ فَيَرْبِطَهُ، أَوْ أَنْ يَنْشَقَّ قَمِيصُهُ فَيَخِيطَهُ.

وَيَحْرُمُ فِعْلُ ذَلِكَ لِلتَّكَسُّبِ.

سَابِعًا: اعْتِبَارُ الْحِرْفَةِ فِي النِّكَاحِ:

11- الْكَفَاءَةُ فِي الْحِرْفَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ تُعَيَّرُ بِذَلِكَ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ لَا أُمِّهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الْأُمِّ.

وَقَدْ بَنَى الْفُقَهَاءُ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي الْحِرْفَةِ عَلَى الْعُرْفِ وَعَادَةِ أَهْلِ الْبِلَادِ.

هَذَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحِرْفَةِ هُوَ عُرْفُ بَلَدِ الزَّوْجَةِ لَا بَلَدِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَارِهَا وَعَدَمِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ لِعُرْفِ بَلَدِهَا، أَيِ الَّتِي هِيَ بِهَا حَالَةَ الْعَقْدِ.

وَاعْتِبَارُ الْحِرْفَةِ فِي الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَلَا يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا وَقْتَ الْعَقْدِ ثُمَّ زَالَتِ الْكَفَاءَةُ لَمْ يُفْسَخِ الْعَقْدُ.

لَكِنْ لَوْ بَقِيَ أَثَرُ الْحِرْفَةِ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا.

أَمَّا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَالَ الْعَقْدِ غَيْرَ كُفْءٍ فِي حِرْفَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ- كَفَاءَةٌ).

كَوْنُ الِانْتِفَاعِ بِالْحِرْفَةِ مَهْرًا:

12- يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاعُ بِالْحِرْفَةِ مَهْرًا، فَيَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، وَبِنَاءِ دَارٍ وَتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لقوله تعالى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ مَعَ مُوسَى ( (: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}.وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ فَجَازَتْ صَدَاقًا

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافٌ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مَا هُوَ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لَا يَجُوزُ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجُ الْحُرُّ عَلَى خِدْمَتِهِ إِيَّاهَا سَنَةً، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونَ هِيَ خَادِمَةً لَهُ لَا بِالْعَكْسِ.لِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ- كَمَا قِيلَ قَلْبٌ لِلْأَوْضَاعِ- لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنْ تَخْدُمَهُ هِيَ لَا الْعَكْسُ.وَأَمَّا إِذَا سَمَّى إِيجَارَ بَيْتٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِدْمَةً أَوْ لَا كَرَعْيِ غَنَمِهَا أَوْ زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.

وَقَالُوا: إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا هُوَ سَنَةً مَثَلًا فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ الْمُدَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ.

كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَعْلِ الصَّدَاقِ خِدْمَتَهُ لَهَا فِي زَرْعٍ أَوْ فِي بِنَاءِ دَارٍ أَوْ تَعْلِيمِهَا فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ أَصْبَغُ.قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ.وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ، وَيَمْضِي بِمَا وَقَعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

ثَامِنًا: شَهَادَةُ أَهْلِ الْحِرَفِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ صَاحِبِ الْحِرْفَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمُنَجِّمِ وَالْعَرَّافِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْحِرْفَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّيَا ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، كَالْحَائِكِ، وَالْحَجَّامِ، وَالزَّبَّالِ.فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْحِرَفَ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَمَا لَمْ يُعْلَمِ الْقَادِحُ لَا يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ، فَالْعِبْرَةُ لِلْعَدَالَةِ لَا لِلْحِرْفَةِ، فَكَمْ مِنْ دَنِيءِ الصِّنَاعَةِ أَتْقَى مِنْ ذِي مَنْصِبٍ وَوَجَاهَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

لَكِنْ يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْحِرَفِ مِمَّنْ لَا تَلِيقُ بِهِ، وَرَضِيَهَا اخْتِيَارًا بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ عَلَيْهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَعَلَى خَبَلٍ فِي عَقْلِهِ، وَتُقْبَلُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِهَذِهِ الْحِرَفِ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي الْحِرْفَةِ مُبَاشَرَةُ النَّجَاسَةِ.

كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ».

وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِي مُدَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَصَارَ كَالْمُسْتَأْجَرِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُسْتَأْجِرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الْأَجِيرُ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِ الْمَشْهُودِ لَهُ.

تَاسِعًا: بَيْعُ آلَةِ الْحِرْفَةِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الِاحْتِرَافِ:

14- مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ بَيْعُ مَالِهِ لِسَدَادِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ آلَةِ الْحِرْفَةِ لِلْمُحْتَرِفِ.

فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُبَاعُ آلَةُ حِرْفَتِهِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ.

وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا.

فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لَهَا أَوْ قَلَّتْ قِيمَتُهَا فَلَا تُبَاعُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُتْرَكُ لَهُ آلَةُ حِرْفَتِهِ وَلَا تُبَاعُ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَإِذَا فُرِّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ، وَكَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ فَهَلْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ إِيجَارِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُلْزَمُ بِتَجْرٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ إِيجَارِ نَفْسِهِ لِتَوْفِيَةِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ مِنْ دُيُونِهِمْ، لِأَنَّ الدُّيُونَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ لَا بِبَدَنِهِ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ «أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ» وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَالِ، فَلَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُجْبَرُ الصَّانِعُ- لَا التَّاجِرُ- عَلَى الْعَمَلِ إِنْ كَانَ غُرَمَاؤُهُ قَدْ عَامَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى الْكَسْبِ.

عَاشِرًا: تَضْمِينُ أَصْحَابِ الْحِرَفِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحِرْفَةِ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، أَوْ مَا هَلَكَ بِعَمَلِهِ إِذَا كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبِ إِهْمَالٍ مِنْهُ أَوْ تَعَدٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ أَجِيرًا خَاصًّا أَمْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، أَمَّا مَا هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِجَارَةٌ ف 107- 133 وَضَمَانٌ)

حَادِيَ عَشَرَ: التَّسْعِيرُ عَلَى أَهْلِ الْحِرَفِ:

16- لَا يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عَلَى أَهْلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ إِلاَّ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى حِرْفَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلَاحَةِ، وَالنِّسَاجَةِ، وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهَا.فَإِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ يُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهَذَا مِنَ التَّسْعِيرِ الْوَاجِبِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 14).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 2)

خَطَأٌ -2

20- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ يَضُرُّ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلًا إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمَا:

1- الْخَطَأُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْخَرَشِيُّ: إِنْ خَالَفَتْ نِيَّتُهُ لَفْظَهُ، فَالْعِبْرَةُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، كَنَاوِي ظُهْرٍ تَلَفَّظَ بِعَصْرٍ مَثَلًا، وَهَذَا إِذَا تَخَالَفَا سَهْوًا، وَأَمَّا إِنْ فَعَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ مُتَلَاعِبٌ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِرْشَادِ أَنَّ الْأَحْوَطَ الْإِعَادَةُ أَيْ فِيمَا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِهِ: لِلْخِلَافِ فِي الشُّبْهَةِ إِذْ يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ.

2- وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اقْتَدَى شَخْصٌ بِمَنْ يُصَلِّي إِمَامًا بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فِيمَا يَظْهَرُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ إِنْ كَانَ زَيْدًا لَا إِنْ كَانَ عَمْرًا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ.

3- الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِأَنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى زَيْدٍ فَبَانَ غَيْرُهُ، أَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الذَّكَرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْثَى، أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ.

وَوَافَقَهُمَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَقَالُوا: إِنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ مَوْتَى يُرِيدُ بِهِ زَيْدًا فَبَانَ غَيْرُهُ جَزَمَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَقَالُوا بِالصِّحَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ عَكْسَهُ، بِأَنْ نَوَى هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَبَانَتْ رَجُلًا، قَالُوا فَالْقِيَاسُ الْإِجْزَاءُ لِقُوَّةِ التَّعْيِينِ عَلَى الصِّفَةِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.

4- لَوْ نَوَى قَضَاءَ ظُهْرِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا يَضُرُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْوِي الْأَيَّامَ اتِّفَاقًا، وَقَالُوا.إِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ وُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَكَذَا ذِكْرُ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الظُّهْرَانِ فَائِتَتَيْنِ فَنَوَى ظُهْرًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تُجْزِهِ الظُّهْرُ الَّتِي صَلاَّهَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، حَتَّى يُعَيِّنَ السَّابِقَةَ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ.قَالُوا: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأَجْزَأَهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسٍ وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظُّهْرِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ التَّعْيِينِ:

21- وَمَثَّلَ لَهَا السُّيُوطِيُّ بِجُمْلَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: 1- لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ الثُّلَاثَاءَ صَحَّ.

2- وَلَوْ غَلِطَ فِي الْأَذَانِ فَظَنَّ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَكَانَتِ الْعَصْرُ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ نَقْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ وَقَدْ حَصَلَ.

وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ أَوْ بَعْضُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ نَوَى قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ غَيْرُهُ جَازَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ الزُّرْقَانِيُّ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ أَيِ: الْإِمَامَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ.وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ:

22- مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ كُلَّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضَهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لِأَوْقَاتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}

وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ، وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا.فَلَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعْرِفَةَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَقِينًا بِأَنْ شَاهَدَ الشَّمْسَ غَارِبَةً، أَوْ ظَنًّا بِأَنِ اجْتَهَدَ لِغَيْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَمَنْ صَلَّى بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.فَإِنْ صَلَّى مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ اتِّفَاقًا.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ:

23- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ: فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي لِاشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَعَدَمِ الْمُخْبِرِ بِهَا، وَلَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ إِنْ أَخْطَأَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلَا وُسْعَ فِي إِصَابَةِ الْجِهَةِ حَقِيقَةً، فَصَارَتْ جِهَةُ التَّحَرِّي هُنَا كَجِهَةِ الْكَعْبَةِ لِلْغَائِبِ عَنْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَوْ عَلِمَ خَطَأَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا بِالتَّحَرِّي اسْتَدَارَ فِي الْأَوَّلِ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَفِي الثَّانِي إِلَى جِهَةِ تَحَوُّلِ رَأْيِهِ إِلَيْهَا.

24- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَوْ صَلَّى إِلَى جِهَةِ اجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنْ كَانَ تَحَرِّيهِ مَعَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ إِنِ اسْتَدْبَرَ، وَكَذَا لَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهَا فَلَا إِعَادَةَ.

25- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا مَضَى، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ ثُمَّ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جِهَةٌ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا بِالِاجْتِهَادِ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ.وَإِنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا لَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لَا يُعْلَمُ قَطْعًا فَلَا يُنْتَقَضُ بِالِاجْتِهَادِ.

26- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ.وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ فَأَخْطَأَ، أَوْ صَلَّى الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ بِأَنْ لَمْ يَسْتَخْبِرْ مَنْ يُخْبِرُهُ وَلَمْ يَلْمِسَ الْمِحْرَابَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ الْقِبْلَةَ أَعَادَا وَلَوْ أَصَابَا، أَوِ اجْتَهَدَ الْبَصِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ اجْتِهَادٍ لِقُدْرَةِ مَنْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ وَنَحْوِهَا، وَلِوُجُودِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمَا لِتَفْرِيطِهِمَا بِعَدَمِ الِاسْتِخْبَارِ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ.

رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْقِرَاءَةِ:

27- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: خَطَأُ الْقَارِئِ إِمَّا فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْكَلِمَاتِ، أَوِ الْآيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ إِمَّا بِوَضْعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ أَوْ تَقْدِيمِهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ، أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ.

أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ خَطَأٌ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيُعْذَرُ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، مِثْلُ الْبَارِئِ الْمُصَوَّرِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- وَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ} بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ- فَسَدَتْ فِي قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: لَا تَفْسُدُ.وَمَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ النَّاسِ الْكُفَّارِ غَلَطًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ سَاهِيًا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَكَيْفَ وَهُوَ كُفْرٌ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْسَعُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ.

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا تَخْفِيفُ الْمُشَدَّدِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ، فَلِذَا قَالَ كَثِيرٌ بِالْفَسَادِ فِي تَخْفِيفِ- {رَبِّ الْعَالَمِينَ} - و- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} - وَالْأَصَحُّ لَا تَفْسُدُ.

وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ فَإِذَا وَضَعَ حَرْفًا مَكَانَ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً أَوْ عَجْزًا، فَالْأَوَّلُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى وَكَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- إِنَّ الْمُسْلِمُونَ- لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ وَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- قَيَّامِينَ بِالْقِسْطِ- وَالتَّيَّابِينَ- وَالْحَيُّ الْقَيَّامُ- لَمْ تَفْسُدْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ.وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فَسَدَتْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ.فَلَوْ قَرَأَ أَصْحَابَ الشَّعِيرِ- بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا- فَالْعِبْرَةُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمَا بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعِبْرَةُ بِوُجُودِ الْمِثْلِ فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ غَيَّرَ، نَحْوَ قَوْسَرَةٍ فِي قَسْوَرَةٍ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَمِنْهَا فَكُّ الْمُدْغَمِ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ (وَانْهَا عَنِ الْمُنْكَرِ) بِالْأَلِفِ (وَرَادِدُوهُ إِلَيْكَ) لَا تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.وَإِنْ غَيَّرَ نَحْوُ (زَرَابِيبَ) مَكَانَ (زَرَابِيُّ) (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (وَإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَفْسُدُ.

وَكَذَا النُّقْصَانُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ نَحْوُ (جَاءَهُمْ) مَكَانَ (جَاءَتْهُمْ) وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ (النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) بِلَا وَاوٍ.

أَمَّا الْكَلِمَةُ مَكَانَ الْكَلِمَةِ فَإِنْ تَقَارَبَا مَعْنًى، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْحَكِيمِ مَكَانَ الْعَلِيمِ، لَمْ تَفْسُدِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمِثْلُ كَالْفَاجِرِ مَكَانَ الْأَثِيمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَارَبَا وَلَا مِثْلَ لَهُ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ كَغَافِلِينَ فِي {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا.

وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَمْ تَفْسُدْ نَحْوُ {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا}، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَتْ نَحْوُ الْيُسْرِ مَكَانَ الْعُسْرِ وَعَكْسُهُ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِرًّا) لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ غَيَّرَتْ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ كَفَرَ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهِ أَفْسَدَ.

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

28- بَحَثَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِاللاَّحِنِ.

فَقَالَ الْخَرَشِيُّ: قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِلَاحِنٍ مُطْلَقًا، أَيْ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَكَسْرِ كَافِ {إِيَّاكَ} وَضَمِّ تَاءِ {أَنْعَمْتُ} أَمْ لَا، وُجِدَ غَيْرُهُ أَمْ لَا، إِنْ لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا أَوْ إِنْ كَانَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا؟ قَوْلَانِ.ثُمَّ قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِ التَّعْلِيمِ، أَوِ ائْتَمَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ.وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ اللَّحْنَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ بَاطِلَةٌ بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِكَلِمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي صَلَاتِهِ، وَمَنْ فَعَلَهُ سَاهِيًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا صَلَاةَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَهَا عَنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَجْزًا بِأَنْ لَا يَقْبَلَ التَّعْلِيمَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ أَيْضًا قَطْعًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْكِنَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ أَوْ لَا.

وَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِهِ التَّعْلِيمَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ وَصَلَاةَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلَ الْإِمَامِ فِي اللَّحْنِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ بِأَنْ كَانَ يَنْطِقُ بِالصَّوَابِ فِي كُلِّ قِرَاءَتِهِ، أَوْ صَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابِ إِمَامِهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ خِلَافٍ.

وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِغَيْرِ مُمَيِّزٍ بَيْنَ ضَادٍ وَظَاءٍ مَا لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا؟ قَالَ بِالْبُطْلَانِ: ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَابِسِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ الْحَقِّ.

وَأَمَّا صَلَاتُهُ هُوَ فَصَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَوَّاقِ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ وَالنَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الرَّاجِحَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا، وَحَكَى الْمَوَّاقُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّادِ وَالسِّينِ كَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَكَذَا بَيْنَ الزَّايِ وَالسِّينِ.

29- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِلَاحِنٍ بِمَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَضَمِّ الْهَاءِ فِي {لِلَّهِ} فَإِنْ غَيَّرَ مَعْنًى فِي الْفَاتِحَةِ كَأَنْعَمْتُ بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ وَلَمْ يُحْسِنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ فَكَأُمِّيٍّ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ أَوْ لَا وَلَا صَلَاتُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ وَإِلاَّ صَحَّتْ كَاقْتِدَائِهِ بِمِثْلِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ وَتَعَمَّدَ اللَّحْنَ أَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الصَّوَابِ فِي الثَّانِيَةِلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَجَرِّ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِهِ حَالَ كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ التَّعَلُّمِ، أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ.

30- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْأُمِّيِّ وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ يُدْغِمُ مِنْهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ، أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى كَفَتْحِ هَمْزَةِ اهْدِنَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْهَدِيَّةِ لَا الْهِدَايَةِ، وَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتُ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ كَافِ إِيَّاكَ، فَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْمَعْنَى كَفَتْحِ دَالِ نَعْبُدُ وَنُونِ نَسْتَعِينُ فَلَيْسَ أُمِّيًّا وَإِنْ أَتَى بِاللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِصْلَاحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهُوَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلَاحِ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى قَرَأَهُ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » وَمَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ.

خَامِسًا: الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ خَطَأٌ:

31- إِنْ أَرَادَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةً أَوْ ذِكْرًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ النَّاسِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ « وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ » فَدَلَّ أَنَّ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قَطُّ وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: « إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ».هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ يَسِيرِ الْكَلَامِ وَكَثِيرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ خَطَأٌ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ.وَتَفْصِيلُهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).

سَادِسًا: شَكُّ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:

32- إِنْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَسَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خَطَؤُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا « أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ».فَقَالَا نَعَمْ.مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِمَا.لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْإِمَامُ مِنْ صَوَابِهِ وَخَطَأِ الْمَأْمُومِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْمُخْبِرِينَ إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ كَثْرَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ.

سَابِعًا: الْخَطَأُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:

33- رَأَى الْمُسْلِمُونَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ سَوَادًا فَظَنُّوهُ خَطَأً عَدُوًّا وَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِمُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: تَلْزَمُهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ، سَوَاءٌ اسْتَنَدَ الظَّنُّ لِخَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُمْ تَيَقَّنُوا الْغَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ.

الثَّانِي: لَا يُعِيدُونَ وَتُجْزِئُهُمْ صَلَاتُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِوُجُودِ الْخَوْفِ حَالَ الصَّلَاةِ.

ج- الزَّكَاةُ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي الْخَرْصِ:

34- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ فَوُجِدَتْ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَصَ يَأْخُذُ زَكَاةَ الزَّائِدِ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ حَمَلَهُ عَلَى الْحَاكِمِ يَحْكُمُ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ صُرَاحٌ، وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِحْبَابِ حَمَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِقِلَّةِ إِصَابَةِ الْخِرَاصِ.

أَمَّا إِذَا ثَبَتَ نَقْصُ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْصُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَمِلَ بِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَنْقُصِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّهَا فِي نَقْصِهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ النَّقْصِ مِنْهُ.وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّقْصَ مِنْ خَطَأِ الْخَارِصِ نَقَصَتِ الزَّكَاةُ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ- الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ أَوِ الْإِصَابَةُ. 35- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّ الْخَارِصَ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَ الْقَدْرَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ بَيَّنَهُ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ فِي مِثْلِهِ كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَحُطَّ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ حَلَّفَهُ، وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مُسْتَحَبَّةٌ.هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى بَعْدَ الْكَيْلِ غَلَطًا يَسِيرًا فِي الْخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ كَصَاعٍ مِنْ مِائَةٍ فَهَلْ يُحَطُّ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا.لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْصُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كِيلَ ثَانِيًا لَوَفَّى.وَالثَّانِي: يُقْبَلُ وَيُحَطُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ تَعَيَّنَ وَالْخَرْصُ تَخْمِينٌ فَالْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى.

أَمَّا إِذَا ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لَا يُجَوِّزُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وُقُوعَ مِثْلِهِ غَلَطًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَطِّ الْمُمْكِنِ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ.

36- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِنْ قَالَ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِيَّ غَيْرُ هَذَا قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لَا نَعْلَمُهَا.

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:

37- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ خَطَؤُهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: يُجْزِئُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَالِكٍ إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوْ مُقَدَّمُ الْقَاضِي وَتَعَذَّرَ رَدُّهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ « مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدَ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ » فَجَوَّزَ - صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتِ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا عُمُومًا.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَسْتَرِدُّهُ.وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْإِمَامُ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ مِنَ الْقَابِضِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عَنِ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ بَيَّنَ رَجَعَ فِي عَيْنِهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فَفِي بَدَلِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ فَفِي الضَّمَانِ وَإِخْرَاجِ بَدَلِهَا قَوْلَانِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا وَقَالُوا: يَسْتَرِدُّهَا رَبُّهَا بِزِيَادَتِهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ الْوُقُوفُ عَلَى مَدَى اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ، فَإِذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالنَّجِسَةِ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ.وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَهُوَ لَا يَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا فَلَمْ يُعْذَرْ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ دَفْعِهَا خَطَأً إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكُفْرٍ أَوْ شَرَفٍ، وَبَيْنَ دَفْعِهَا لِمَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَقَالُوا: لَا تُجْزِئُ إِذَا دَفَعَهَا لِلْكَافِرِ أَوْ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكَوْنِهِ هَاشِمِيًّا، وَلَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَ.لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْرَاءُ الذِّمَّةِ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِدَفْعِهَا لِلْكَافِرِ، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ دَفْعِهَا لِلْغَنِيِّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَلَمْ يَفُتْ.

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ أَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لَا يَنْقُضُ الْأَدَاءَ. د- الصَّوْمُ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي صِفَةِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ:

38- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ الصَّائِمُ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَصَفَهُ وَأَخْطَأَ الْوَصْفَ صَحَّ صَوْمُهُ.

قَالَ فِي الدُّرَرِ: وَصَحَّ الصَّوْمُ بِمُطْلَقِهَا أَيِ النِّيَّةِ، وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَبِخَطَأِ الْوَصْفِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَعَيِّنِ تَعْيِينٌ، وَالْخَطَأُ فِي الْوَصْفِ لَمَّا بَطَلَ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُطْلَقِ، نَظِيرُهُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الدَّارِ إِذَا نُودِيَ بِيَا رَجُلُ أَوْ بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِهِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَعْيِينَ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ النِّيَّةُ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ حَيْثُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّعْيِينِ وَلَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَوْمٌ، نِيَّةٌ).

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي الْإِفْطَارِ:

39- مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا إِذَا تَمَضْمَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ غَالِبٌ؛ وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إِلاَّ لِتَقْصِيرٍ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ، إِذْ فِيهِ نَوْعُ إِضَافَةٍ إِلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَالذُّبَابِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ « بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا » فَنَهَاهُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُصُولُ الْمَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ يُبْطِلُ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ الْمُبَالِغَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ جُعِلَ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَهُ.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ رَمَضَانَ لِلْأَسِيرِ:

40- إِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَصُومَ، فَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ.

وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (خيار التعيين)

خِيَارُ التَّعْيِينِ

التَّعْرِيفُ:

1- سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٍ) تَعْرِيفُ الْخِيَارِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ: فَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِلْفِعْلِ الْمَزِيدِ (عَيَّنَ) يُقَالُ: عَيَّنْتُ الشَّيْءَ، وَعَيَّنْتُ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا وَاحِدٌ، فَمِنَ الْأَوَّلِ- وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ- مَا جَاءَ فِي الْمَعَاجِمِ مِنْ أَنَّ تَعْيِينَ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ، كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ.وَمِنَ الثَّانِي: عَيَّنْتُ عَلَى السَّارِقِ: خَصَصْتُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُتَّهَمِينَ، مَأْخُوذٌ مِنْ (عَيْنِ) الشَّيْءِ، أَيْ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِأَنَّهُ: شِرَاءُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَ أَيًّا شَاءَ.أَمَّا تَعْرِيفُ الْخِيَارِ فَيُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُ التَّعْرِيفِ التَّالِي لَهُ وَهُوَ: أَنَّهُ (حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا، خِلَالَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ).وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَلَكَ الْخِيَارُ فِي أَيِّهَا شِئْتَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.

تَسْمِيَتُهُ:

2- يُسَمَّى (خِيَارُ التَّعْيِينِ) بِاسْمٍ آخَرَ هُوَ (خِيَارُ التَّمْيِيزِ) وَقَدْ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ مُقَارَنَتِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَائِلًا عَنْهُ: وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ.وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالتَّعْبِيرِ الْمُسْهَبِ دُونَ تَسْمِيَتِهِ.وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ الْعَقْدَ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهِ: بَيْعَ الِاخْتِيَارِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

خِيَارُ الشَّرْطِ:

3- هُنَاكَ صُورَةٌ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ خِيَارِ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَهِيَ مَا إِذَا بَاعَهُ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى أَنَّ لَهُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا فِي الْجَمِيعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ شَرْطٍ فِي أَحَدِ أَفْرَادِ الْمَبِيعِ، يَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِالْبَيْعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَاحِدًا، وَهُنَا الْبَيْعُ مُنْصَبٌّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ خِيَارٌ لَمْ يُعَيَّنْ مَحَلُّهُ، وَهِيَ مِنَ الصُّوَرِ الْفَاسِدَةِ.

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مِنَ الِاخْتِيَارِ لَا الْخِيَارِ، مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ أَرْبَعَةٍ فَقَطْ.

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّ «الْخِيَارَ» لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ.وَهُوَ كَمَا يَبْدُو لَيْسَ خِيَارًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْمُكَلَّفِ بِالِاخْتِيَارِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ يُشْبِهُ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لَا بِالشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمُوَلِّدَةَ لِلْخِيَارِ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ.

خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ:

4- أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ خِيَارٌ يَتَّصِلُ بِتَعْيِينِ الثَّمَنِ، لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْخِيَارِ فِيهِ، وَهُوَ مَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ أَوْ حَالًّا، بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرَكَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ.فَهُنَا ذَكَرَ ثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرَكَ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّعَاقُدِ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ إِذَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بِمَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ سَبَقَ شَيْءٌ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِهِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُ فَصْلًا مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ أَشْيَاءَ لَا بِعَيْنِهِ، وَتَعْرِيفُهُ وَصُورَتُهُ أَنَّهُ: «بَيْعٌ جَعَلَ فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي التَّعْيِينَ لِمَا اشْتَرَاهُ، كَأَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى الْبَتِّ بِدِينَارٍ وَجَعَلْتُ لَكَ يَوْمًا (أَوْ يَوْمَيْنِ) تَخْتَارُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا» وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا صِلَةَ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ.

وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ لَازِمٌ وَسَمَّوْهُ (بَيْعَ الِاخْتِيَارِ) تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي يُسَمَّى أَحْيَانًا (بَيْعَ الْخِيَارِ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا تَقَابُلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ فِي الْعَقْدِ «أَحَدُهَا لَازِمٌ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ وَلَا يَرُدُّ إِلاَّ أَحَدَهُمَا».

وَأَشَارَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ (الِاخْتِيَارَ) قَدْ يُجَامِعُ الْخِيَارَ وَقَدْ يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَيَكُونُ هُنَاكَ بَيْعُ خِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ)، وَبَيْعُ اخْتِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ الْمُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ) وَبَيْعُ خِيَارٍ وَاخْتِيَارٍ وَهُوَ «بَيْعٌ جَعَلَ فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الِاخْتِيَارَ فِي التَّعْيِينِ، وَبَعْدَهُ هُوَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بِالْخِيَارِ فِي الْأَخْذِ وَالرَّدِّ».وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ انْتَبَهُوا إِلَى اسْتِبْعَادِ اخْتِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ صَعِيدِ (الْخِيَارِ) لِاشْتِرَاطِهِمْ تَوْقِيتَهُ، فِي حِينِ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ جَعَلُوا اشْتِرَاطَ التَّوْقِيتِ قَاصِرًا عَلَى حَالِ تَجَرُّدِ خِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.يُضَافُ لِذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كُتُبِهِمُ الْأُولَى- غَالِبًا- مُلَابِسًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ مُقْتَرِنًا بِهِ، لِذَا لَمْ تَحْفِلْ عِبَارَاتُهُمْ بِالِاحْتِرَازِ مِنْهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ أَنَّهُ قَالَ بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ- وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِهِمْ- وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ بَيْعِ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ فِي شِيَاهٍ إِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَةُ.

هَؤُلَاءِ مُثْبِتُوهُ، وَأَمَّا نُفَاتُهُ فَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ- إِلاَّ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَصِحُّ (فِي مِثْلِ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لَدَى أَبِي حَنِيفَةَ).قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ- وَالشَّافِعِيَّةُ حِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِنْ مَسَائِلِ جَهَالَةِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَنَصُّوا عَلَى بُطْلَانِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ، أَوْ وَقَعَ عَلَى الْكُلِّ إِلاَّ وَاحِدًا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ، مَعَ تَنْصِيصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ (صِلَتُهُ بِكِفَايَةِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ وَلَا صِلَةَ لَهُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ).وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا لِمَنْعِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالثُّنْيَا، وَقَدْ «نَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ».وَلِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ وَيُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

6- احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إِلْحَاقًا بِهِ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمَقْصُودُ مَبْدَأُ الْقِيَاسِ عُمُومًا، أَمَّا دَلِيلُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ نَفْسَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ جَهَالَةٍ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِاسْتِقْلَالِ الْمُشْتَرِي بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فِيمَا يَخْتَارُ.

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

أ- ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ:

7- لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِنَحْوِ عِبَارَةِ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ، أَوْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهَا شِئْتَ، لِيَكُونَ نَصًّا فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَإِلاَّ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ (الْخِيَارِ) بَلْ يَكْفِي مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ بِأَحَدِهَا وَتُعِيدَ الْبَاقِيَ.

ب- أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ:

8- الْقِيَمِيُّ هُنَا مَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، أَوْ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ، أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَقَدْ أُلْحِقَتْ بِالْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ الْمُتَّفِقُ الْجِنْسِ فَلَا يَصِحُّ.لِأَنَّ الْحَاجَةَ (الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا) هِيَ فِي التَّفَاوُتِ.بِخِلَافِ الْمِثْلِيَّاتِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ فِيهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمِنْ قَبِيلِ الْعَبَثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا بَيْنَهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُتَّفِقًا أَوْ مُخْتَلِفًا، فِي حِينِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ تَسَاوِيَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي الْقِيمَةِ.

ج- أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً:

9- هَذَا عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ الْجَدْوَى.وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَطْلَقَ الصَّاحِبَانِ الْمُدَّةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ.وَقَدْ فَرَّقَ الْبَابَرْتِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ بَيْنَ الْأَخْذِ بِرَأْيِ مَنِ اسْتَلْزَمَ لِخِيَارِ التَّعْيِينِ خِيَارَ الشَّرْطِ، فَلَا بَأْسَ عَلَى هَذَا مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِهِ لِإِغْنَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ أَنْ يَعْرَى عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْقِيتِ. د- عَدَمُ زِيَادَةِ الْأَفْرَادِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ:

10- فَلَا يَجُوزُ- عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ- أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِيَارُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِذَلِكَ، لِاشْتِمَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ. (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى) قَالُوا: وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ.

هـ- الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ:

11- هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَزِيدَ الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ عَلَى وَاحِدٍ أَيْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ أَمْ لَهُ اخْتِيَارُ اثْنَيْنِ (مَثَلًا) ؟ لَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ نَصًّا، لَكِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَائِمَةٌ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ إِلاَّ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا قَالَ الْحَطَّابُ.

و- اقْتِرَانُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ:

12- هَذَا الْخِيَارُ وَثِيقُ الصِّلَةِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، بَلْ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَمُعْظَمُ أَحْكَامِهِ، كَالْمُدَّةِ وَالسُّقُوطِ، وَلِذَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَثْنَاءِ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ.وَبِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا هُوَ خِيَارٌ مُسْتَقِلٌّ، وَسَبَبُ ارْتِبَاطِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ إِمَّا غَلَبَةُ اشْتِرَاطِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ الْعَقْدُ فِي أَصْلِهِ غَيْرَ لَازِمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ اقْتِرَانِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدٍ.وَهُنَاكَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ تَرْجِيحِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.

مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ (صَاحِبُ الْخِيَارِ):

13- يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ هَذَا الْخِيَارِ لِأَيٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيًّا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَهَا بِالثَّمَنِ الْمُبَيَّنِ لَهُ.فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّعْيِينِ، فَالْبَائِعُ هُنَا صَاحِبُ الْخِيَارِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالتَّعْيِينِ.

وَلَا عِبْرَةَ بِصُدُورِ الِاشْتِرَاطِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي مَثَلًا بَلِ النَّظَرُ لِصِيغَتِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَيَّهمَا شِئْتَ بِالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ لَهُ فَالْخِيَارُ هُنَا لِلْبَائِعِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مُشْتَرِطَ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي، فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ صَدَرَ الِاشْتِرَاطُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْهُمَا، لِضَرُورَةِ اتِّفَاقِ الْإِرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَالْعِبْرَةُ إِذَنْ بِالْمُشْتَرَطِ لَهُ الْخِيَارُ لَا فِي ذَاكِرِ الشَّرْطِ.

وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آنٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُحْدِثُ التَّنَازُعَ، وَقَدِ اغْتُفِرَتْ خِفَّةُ الْجَهَالَةِ بِسَبَبِ اسْتِبْدَادِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الِاخْتِيَارُ لَهُمَا فَتَخْتَلِفُ رَغْبَتُهُمَا وَيَحْدُثُ التَّنَازُعُ.

أَثَرُ خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَى الْعَقْدِ:

أَثَرُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ:

14- ذَكَرَ مُلاَّ خُسْرُو مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ نَظِيرَ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّ الشُّرُنْبُلَالِيَّ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَاشِيَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ مَا فِيهِ التَّعْيِينُ غَيْرُ مَمْنُوعِ الْحُكْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ، كَمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَصَحَّحَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ.وَهَذَا وَاضِحٌ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ مَا دَامَ عَارِيًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ حَقُّ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ.

فَخِيَارُ التَّعْيِينِ يَجْعَلُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ دُونَ تَخْصِيصٍ بِأَحَدِهَا وَلَا مُجَاوَزَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَارَ مِنْهَا كَانَ أَحَدُهَا مَبِيعًا مَضْمُونًا وَالْبَاقِي أَمَانَةً فِي يَدِهِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي شَأْنِ الْإِلْزَامِ بِالِاخْتِيَارِ وَالضَّمَانِ مَا يَلِي: إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يَخْتَرْ (وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارُ التَّعْيِينِ مُجَرَّدًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ) يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (مَثَلًا)، لِأَنَّ ثَوْبًا قَدْ لَزِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا شَرِيكًا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى ضَيَاعَهُمَا أَوْ ضَيَاعَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبَانِ آنَئِذٍ بِيَدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى اللُّزُومِ وَقَدْ قَبَضَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ، أَيْ إِلْزَامِ أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنَ الِاثْنَيْنِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ.وَلُزُومُ النِّصْفِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِكُلِّ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ مُرُورِ مُدَّةِ التَّعْيِينِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ لَا يَرَوْنَ إِجْبَارَهُ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ يُطَبِّقُونَ مُقْتَضَى شَرْطِ التَّعْيِينِ، وَإِرَادَتَهُ تَمَلُّكَ نِصْفِ مَحَلِّ الْعَقْدِ أَوْ ثُلُثِهِ.

تَبِعَةُ الْهَلَاكِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ:

15- إِذَا هَلَكَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ (حَتَّى إِذَا هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَوَّلِ أَوْ تَعَيَّبَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ) وَهَذَا لِأَنَّ الْعَيْبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لِاعْتِبَارِ التَّعَيُّبِ اخْتِيَارًا ضَرُورَةً، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.وَإِنْ هَلَكَ الْكُلُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ.

وَلَوْ هَلَكَ الشَّيْئَانِ مَعًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنَ الْآخَرِ.

وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ. تَوْقِيتُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الْأَرْجَحِ تَوْقِيتُ هَذَا الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ وُرُودِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا إِنْ تَضَمَّنَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَمُدَّةُ الْخِيَارِ صَالِحَةٌ لَهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى التَّعْيِينِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْآخَرِ إِذَا مَاطَلَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ.قَالَ ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ: (وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مُؤَقَّتًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ).

وَقَدْ سَبَقَ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُ مَا يَتَّصِلُ بِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّةِ، صِلَةُ هَذَا الْخِيَارِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.

سُقُوطُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

17- تَوَارَدَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ)

انْتِقَالُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

18- خِيَارُ التَّعْيِينِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إِلَى وَارِثِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.

وَيَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدَّى حَالَ الْحَيَاةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا بَلْ مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ مَثَلًا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِتَعْيِينِ مِلْكِهِ وَإِفْرَازِهِ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 4)

زَكَاة -4

صِفَةُ الْمَأْخُوذِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ:

64- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْوَسَطِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، لَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ، وَلَا الدَّرِنَةَ، وَلَا الْمَرِيضَةَ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ».الْحَدِيثَ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّاعِي طَلَبَ خِيَارِ الْمَالِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلسَّاعِي: «إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ».

قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لِسَاعِيهِ: لَا تَأْخُذِ الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا الْأَكُولَةَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَالرُّبَى هِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَبِّي وَلَدَهَا.وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ، وَالْأَكُولَةُ الَّتِي تَأْكُلُ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أَسْمَنَ، وَفَحْلُ الْغَنَمِ هُوَ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ.

فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةُ الرَّجُلِ كُلُّهَا خِيَارًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَقِيلَ: يَأْخُذُ السَّاعِي مِنْ أَوْسَطِ الْمَوْجُودِ، وَقِيلَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ شِرَارِ الْمَالِ، وَمِنْهُ الْمَعِيبَةُ، وَالْهَرِمَةُ، وَالْمَرِيضَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً أَوْ هَرِمَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَقِيلَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: يُخْرِجُ صَحِيحَةً مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ.

زَكَاةُ الْخَيْلِ:

65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً وَاتُّخِذَتْ لِلنَّمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَامِلَةً أَوْ غَيْرَ عَامِلَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ» وَقَوْلِهِ: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِنَاثِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ زَكَاةٌ لِأَنَّهَا تَتَنَاسَلُ بِالْفَحْلِ الْمُسْتَعَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَاتِ أَيْضًا.

وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «فِي الْخَيْلِ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِي الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا» فَحَقُّ ظُهُورِهَا الْعَارِيَّةُ، وَحَقُّ رِقَابِهَا الزَّكَاةُ، وَبِمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُمَيَّةَ اشْتَرَى مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَرَسًا أُنْثَى بِمِائَةِ قَلُوصٍ، فَنَدِمَ الْبَائِعُ، فَلَحِقَ بِعُمَرَ، فَقَالَ: غَصَبَنِي يَعْلَى وَأَخُوهُ فَرَسًا لِي، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنِ الْحَقْ بِي، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَيْلَ لَتَبْلُغُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟، مَا عَلِمْتُ أَنَّ فَرَسًا يَبْلُغُ هَذَا.فَنَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَلَا نَأْخُذُ مِنَ الْخَيْلِ شَيْئًا؟، خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا.فَقَرَّرَ عَلَى الْخَيْلِ دِينَارًا دِينَارًا.وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- كَانَ يُصَدِّقُ الْخَيْلَ، أَيْ يَأْخُذُ زَكَاةً مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ الْمُزَكِّي أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ خَيْلَهُ وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.

زَكَاةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ:

66- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَيْسَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا زَكَاةٌ.وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْخَيْلِ فَقَالَ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ...» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ «سُئِلَ عَنِ الْحَمِيرِ، فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ».

ثَانِيًا: زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُمُلَاتِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالْوَرَقِيَّةِ

67- أ- زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ».وَقَوْلِهِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقًّا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ...» الْحَدِيثَ.

فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لِلْكَنْزِ مُطْلَقًا بَيَّنَ الْحَدِيثَ أَنَّهُ لِمَنْ مَنَعَ زَكَاةَ النَّقْدَيْنِ، فَتَقَيَّدَ بِهِ.

مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

68- تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ لِلزَّكَاةِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا مِنَ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَغَيْرِهِمَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ (وَقَدْ يُسَمَّى الْعَيْنَ، وَالْمَسْكُوكَ)، وَفِي التِّبْرِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ، وَالسَّبَائِكِ، وَفِي الْمَصُوغِ مِنْهَا عَلَى شَكْلِ آنِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ شَيْئَانِ:

الْأَوَّلُ: الْحُلِيُّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي يَعُدُّهُ مَالِكُهُ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي التَّحَلِّي اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ لِإِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ زَكَاةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَنَى لِلِاسْتِعْمَالِ كَالْمَلَابِسِ الْخَاصَّةِ، وَكَالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي وُجُوبِهَا وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (حُلِيّ)

أَمَّا الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ وَالنِّصَابُ فَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الثَّانِي: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمُسْتَخْرَجَانِ مِنَ الْمَعَادِنِ (مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ)، فَيَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِخْرَاجِ إِذَا بَلَغَ الْمُسْتَخْرَجُ نِصَابًا بِدُونِ اشْتِرَاطِ حَوْلٍ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

نِصَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا:

69- نِصَابُ الذَّهَبِ: نِصَابُ الذَّهَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِهَا فِضَّةٌ أَوْ عُرُوضُ تِجَارَةٍ يَكْمُلُ بِهِمَا النِّصَابُ عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النِّصَابَ أَرْبَعُونَ مِثْقَالًا.

وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُلَيْمَانِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ، فَمَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ قِيمَتُهُ 200 دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ (20) مِثْقَالًا أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ، فَيُحْمَلُ نِصَابُهُ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ».

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا».

نِصَابُ الْفِضَّةِ:

70- يُقَالُ لِلْفِضَّةِ الْمَضْرُوبَةِ (وَرِقٌ) (وَرِقَّةٌ)، وَقِيلَ: تُسَمَّى بِذَلِكَ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ 40 (أَرْبَعُونَ) دِرْهَمًا، وَفِي كِتَابِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ «وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا».

ثُمَّ الدِّرْهَمُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الدِّرْهَمُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا زَادَ عَنْهُ أَوْ نَقَصَ فَبِالْوَزْنِ.

وَقِيلَ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ بِالْعَدَدِ.

النِّصَابُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

71- الْمَغْشُوشُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَهُوَ الْمَسْبُوكُ مَعَ غَيْرِهِ.

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهُ نِصَابًا، لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ».

فَإِذَا بَلَغَهُ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ دَرَجَةِ الْجَوْدَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْمَضْرُوبِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةً، وَلَا تُزَكَّى زَكَاةَ الْعُرُوضِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو مِنْ قَلِيلِ الْغِشِّ، لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إِلاَّ بِهِ، وَالْغَلَبَةُ أَنْ تَزِيدَ الْفِضَّةُ عَلَى النِّصْفِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ بَلْ حُكْمُ الْعُرُوضِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ، وَبَلَغَتْ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُخَلِّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَغْشُوشَةُ رَائِجَةً كَرَوَاجِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ فَإِنَّهَا تُعَامَلُ مِثْلَ الْكَامِلَةِ سَوَاءً، فَتَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِنْ بَلَغَ وَزْنُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ نِصَابًا، أَمَّا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْفِيَةِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زُكِّيَ وَإِلاَّ فَلَا.

وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ فِيمَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ بِالْفِضَّةِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا زُكِّيَ الْجَمِيعُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الْآخَرُ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ كَانَا بِضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ يَكْمُلُ مِنْهُمَا نِصَابٌ، كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نِصَابِ ذَهَبٍ وَرُبُعُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَإِلاَّ فَلَا زَكَاةَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ نِصَابَ الذَّهَبِ فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ، وَإِنْ بَلَغَتِ الْفِضَّةُ نِصَابَ الْفِضَّةِ فَفِيهَا زَكَاةُ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلذَّهَبِ فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ، لِأَنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْقَدْرُ الْوَاجِبُ:

72- تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِمَّا وَجَبَتْ فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنِسْبَةِ رُبُعِ الْعُشْرِ (5.2)

وَهَكَذَا بِالْإِجْمَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْصِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّهُ لَا وَقْصَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ (210) دَرَاهِمَ فَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي الزَّائِدِ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ فِي الْمِثَالِ رُبُعُ دِرْهَمٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ».

وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي السَّائِمَةِ لِتَجَنُّبِ التَّشْقِيصِ، وَلَا يَضُرُّ فِي النَّقْدَيْنِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى النِّصَابِ عَفْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خُمُسَ نِصَابٍ.فَإِذَا بَلَغَ الزَّائِدُ فِي الْفِضَّةِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَهَكَذَا، وَكَذَا فِي الذَّهَبِ لَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعِشْرِينَ مِثْقَالًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ.وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ».

وَحَدِيثِ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْكُسُورِ شَيْئًا».

ب- الزَّكَاةُ فِي الْفُلُوسِ:

73- الْفُلُوسُ مَا صُنِعَ مِنَ النُّقُودِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُلُوسَ إِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهَا، وَإِلاَّ فَلَا.

وَحُكْمُ الْفُلُوسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ الْعُرُوضِ.نَقَلَ الْبُنَانِيِّ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى فُلُوسٍ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُدِيرًا فَيُقَوِّمَهَا كَالْعُرُوضِ.قَالُوا: وَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا (أَيْ فُلُوسًا) عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعُرُوضِ، وَالْعُرُوضُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا بِالْقِيمَةِ دَنَانِيرَ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ لِلنَّفَقَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، كَعُرُوضِ الْقُنْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ كَاَلَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ تُزَكَّى زَكَاةَ الْقِيمَةِ، كَسَائِرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا بَلْ تُخْرَجُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْعُرُوضِ.

زَكَاةُ الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الْأُخْرَى:

74- لَا زَكَاةَ فِي الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الْمُقْتَنَاةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ كَالْجَوَاهِرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا مَا صُنِعَ مِنَ التُّحَفِ الثَّمِينَةِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ حَسُنَتْ صَنْعَتُهَا وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ عُرُوضَ تِجَارَةٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى مَا يَأْتِي.

ج- زَكَاةُ الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ (وَرَقِ النَّوْطِ):

75- إِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ وَاجِبَةٌ، نَظَرًا لِأَنَّهَا عَامَّةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرُءُوسُ أَمْوَالِ التِّجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَغَالِبُ الْمُدَّخَرَاتِ، فَلَوْ قِيلَ بِعَدَمِ الزَّكَاةِ فِيهَا لأَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّلِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَلَا سِيَّمَا أَنَّهَا أَصْبَحَتْ عُمْلَةً نَقْدِيَّةً مُتَوَاضَعًا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، وَيَنْبَغِي تَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.

ضَمُّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَضَمُّ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِلَيْهِمَا:

76- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ) إِلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِمَا، وَكَذَا إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا نِصَابٌ، وَمِنَ الْآخَرِ مَالًا يَبْلُغُ النِّصَابَ يُزَكَّيَانِ جَمِيعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ نَفْعَهُمَا مُتَّحِدٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا ثَمَنَانِ، فَمِنْهُمَا الْقِيَمُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَيُتَّخَذَانِ لِلتَّحَلِّي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَكْمُلَ وَحْدَهُ نِصَابًا، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ».

وَالْقَائِلُونَ بِالضَّمِّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الضَّمَّ يَكُونُ بِالْأَجْزَاءِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا ذَهَبًا، وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ 4/3 نِصَابٌ، وَالثَّانِيَ 4/1 نِصَابٌ، فَيَكْمُلُ مِنْهُمَا نِصَابٌ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثُلُثُ نِصَابٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَثُلُثَانِ مِنَ الْآخَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالتَّقْوِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِمَا هُوَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ يُضَمُّ الْأَكْثَرُ إِلَى الْأَقَلِّ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصْفُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَرُبُعُ نِصَابِ ذَهَبٍ تُسَاوِي قِيمَتُهُ نِصْفَ نِصَابِ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ.

أَمَّا الْعُرُوض فَتُضَمُّ قِيمَتُهَا إِلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَيَكْمُلُ بِهَا نِصَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْعُمْلَةُ النَّقْدِيَّةُ الْمُتَدَاوَلَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (ستر العورة)

سَتْرُ الْعَوْرَةِ

التَّعْرِيفُ:

1- السَّتْرُ لُغَةً: مَا يُسْتَرُ بِهِ، وَجَمْعُهُ سُتُورٌ، وَالسُّتْرَةُ- بِضَمِّ السِّينِ- مِثْلُهُ.

قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: السُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالسِّتَارَةُ مِثْلُهُ، وَسَتَرْتُ الشَّيْءَ سَتْرًا مِنْ بَابِ قَتَلَ.

وَالْعَوْرَةُ لُغَةً: الْخَلَلُ فِي الثَّغْرِ وَفِي غَيْرِهِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَوْرَةُ فِي الثُّغُورِ وَفِي الْحَرْبِ خَلَلٌ يُتَخَوَّفُ مِنْهُ الْقَتْلُ، وَالْعَوْرَةُ كُلُّ مَكْمَنٍ لِلسَّتْرِ، وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوْأَتُهُمَا.

وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: مَا يَحْرُمُ كَشْفُهُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَهُوَ عَوْرَةٌ.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: كُلُّ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ الْإِنْسَانُ أَنَفَةً وَحَيَاءً فَهُوَ عَوْرَةٌ.

وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَغْطِيَةُ الْإِنْسَانِ مَا يَقْبُحُ ظُهُورُهُ وَيُسْتَحَى مِنْهُ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَوْ خُنْثَى عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:

أَوَّلًا- سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَاجِبٌ عَمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.

وَمَا يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ فَعَوْرَتُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ (الرَّأْسَ وَالْعُنُقَ).وَضَبَطَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَا يُسْتَتَرُ غَالِبًا وَهُوَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا عَدَا الصَّدْرَ أَيْضًا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، كَمَا أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَجِبُ سَتْرُهَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.

أَمَّا عَوْرَةُ الرَّجُلِ فَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.

وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ)

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.

«وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالنِّسْبَةِ لِعَوْرَةِ الرِّجَالِ أَنَّهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ.

3- وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ أَنْ لَا يَكُونَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ بَلْ يَكُونُ كَثِيفًا لَا يُرَى مِنْهُ لَوْنُ الْبَشَرَةِ وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ مُهَلْهَلًا تُرَى مِنْهُ أَجْزَاءُ الْجِسْمِ لِأَنَّ مَقْصُودَ السِّتْرِ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سِتْرَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، إِذْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مُبَاحٌ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ».

4- وَالصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ كَبِنْتِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى تِسْعٍ فَعَوْرَتُهَا الَّتِي يَجِبُ سَتْرُهَا هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهَا- وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ- وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: «عَوْرَةٍ».

وَالْمُرَاهِقُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ عَوْرَتَهَا عَنْهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا بَأْسَ مِنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ أَمَامَهُ.لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، كَعِلَاجٍ وَشَهَادَةٍ، جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ فَلَا يَحْرُمُ بَلْ قَدْ يَجِبُ، وَإِذَا كَشَفَ لِلضَّرُورَةِ كَالطَّبِيبِ يُبْقَرُ لَهُ ثَوْبٌ عَلَى قَدْرِ مَوْضِعِ الْعِلَّةِ.

سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ:

5- سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَالْآيَةُ إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بِسَبَبٍ خَاصٍّ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ فِي الْآيَةِ: الثِّيَابُ فِي الصَّلَاةِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ».

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ ثَوْبَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِتَارِ بِهِ وَصَلَّى عُرْيَانًا.وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ أَنَّهُ يَمْنَعُ إِدْرَاكَ لَوْنِ الْبَشَرَةِ.

وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا نَجَسًا أَوْ ثَوْبًا مِنَ الْحَرِير

ِ صَلَّى بِهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّتْرِ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ النَّجَسِ وَالْحَرِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٍ).

هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ الْوَاجِبِ سَتْرُهَا فِي الصَّلَاةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (عَوْرَةٍ).

ثَانِيًا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ:

6- كَمَا يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ يَجِبُ كَذَلِكَ سَتْرُهَا وَلَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ فِي خَلْوَةٍ، أَيْ فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ.وَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ.

وَالسَّتْرُ فِي الْخَلْوَةِ مَطْلُوبٌ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ قَالُوا: إِنَّمَا وَجَبَ لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالسَّتْرِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ، قُلْتُ: وَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا؟ قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ».

وَالسَّتْرُ فِي الْخَلْوَةِ مَطْلُوبٌ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، كَاغْتِسَالٍ وَتَبَرُّدٍ وَنَحْوِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 2)

سَرِقَةٌ -2

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَسْرُوقُ مِنْهُ:

23- الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ وُجُودُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا، بِأَنْ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَتْرُوكًا، فَلَا يُعَاقَبُ مَنْ يَأْخُذُهُ.وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِكَيْ تَكْتَمِلَ السَّرِقَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الْمَالِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا:

23 م- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى دَرْءِ الْحَدِّ عَنِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولًا، بِأَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَعْوَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مَعَ الْجَهَالَةِ.غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حَبْسِ السَّارِقِ حَتَّى يَحْضُرَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَيَدَّعِيَ مِلْكِيَّةَ الْمَالِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مَتَى ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عِنْدَهُمْ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُومَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَسْرُوقِ:

24- بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ أَوْ وَكِيلَ الْمَالِكِ أَوْ مُضَارِبًا أَوْ مُودِعًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ دَائِنًا مُرْتَهِنًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ عَامِلَ قِرَاضٍ أَوْ قَابِضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَنُوبُونَ مَنَابَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِحْرَازِهِ، وَأَيْدِيهِمْ كَيَدِهِ.

فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَاصِبٍ أَوْ سَارِقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ.فَقَالُوا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ ضَمَانٍ، فَهِيَ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَعَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا يَدَ ضَمَانٍ، فَلَا تَكُونُ يَدًا صَحِيحَةً.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لِهَذَا الْمَالِ لَا تَزَالُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ رَغْمَ سَرِقَتِهِ أَوْ غَصْبِهِ، أَمَّا يَدُ السَّارِقِ الْأَوَّلِ وَيَدُ الْغَاصِبِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَيُّ أَثَرٍ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلَا عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ بِيَدِ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْ يَدٍ أُخْرَى فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مَالًا ضَائِعًا فَأَخَذَهُ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْصُومَ الْمَالِ:

25- بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ حَرْبِيًّا فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

1- سَرِقَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».وَلِهَذَا وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ مَالِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا.وَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا.

2- سَرِقَةُ مَالِ الذِّمِّيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ الَّذِي يَسْرِقُ مَالَ ذِمِّيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مَعْصُومٌ إِزَاءَهُ.وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا»

أَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا.

3- سَرِقَةُ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا زُفَرَ- وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ فِي مَالِهِ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، أَيْ مُشْرِفٍ عَلَى الزَّوَالِ بِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ مَعْصُومٌ، فَإِذَا سَرَقَ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

4- سَرِقَةُ مَالِ الْحَرْبِيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ هَدَرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ هَذَا الْمَالِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَالُ الْمَسْرُوقُ:

26- لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، وَأَنْ يَبْلُغَ نِصَابًا، وَأَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا.

1- أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا:

27- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَالِيَّةِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ آرَاءٌ تَتَّضِحُ فِيمَا يَأْتِي:

أ- الْحَنَفِيَّةُ:

28- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا، مُتَقَوَّمًا، مُتَمَوَّلًا، غَيْرَ مُبْاحِ الْأَصْلِ.

1- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا: فَلَوْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْإِنْسَانِ الْحُرِّ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا،

حَتَّى لَوْ كَانَ يَرْتَدِي ثِيَابًا غَالِيَةَ الثَّمَنِ أَوْ يَحْمِلُ حِلْيَةً تُسَاوِي نِصَابًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِلصَّبِيِّ وَلَا يَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ خَاصٍّ.

وَخَالَفَ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِسَرِقَةِ النِّصَابِ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، أَيْ لَهُ قِيمَةٌ يَضْمَنُهَا مَنْ يُتْلِفُهُ: فَلَوْ سَرَقَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ.وَخَالَفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ صَلِيبًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا إِذَا كَانَ فِي حِرْزِهِ كَمَا يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْإِنَاءِ وَحْدَهُ نِصَابًا.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَمَوَّلًا، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ تَافِهٍ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَافِهًا لَا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ لِعَدَمِ عِزَّتِهِ وَقِلَّةِ خَطَرِهِ، كَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالتِّبْنِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِهَا، فَلَا قَطْعَ فِيهِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَضَنُّونَ بِهِ عَادَةً، إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَتْهُ الصِّنَاعَةُ عَنْ تَفَاهَتِهِ، كَالْقَصَبِ يُصْنَعُ مِنْهُ النُّشَّابُ، فَفِي سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ عَزِيزًا، إِلاَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالطِّينَ وَالْجِصَّ وَالْمَعَازِفَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَوَجَبَ ضَمَانُ غَصْبِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قِيَاسًا لِمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى مَا لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً وَيُرْغَبُ فِيهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ فِي أَشْجَارِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْجَارُ مُحَاطَةً بِمَا يَحْفَظُهَا مِنْ أَيْدِي الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ مَا دَامَ فِي شَجَرِهِ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.

أَمَّا إِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَوُضِعَ فِي جَرِينٍ، ثُمَّ سُرِقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّخَرًا وَلَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ سَرَقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِادِّخَارَ حَيْثُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَلَا يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالتَّعَلُّمَ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَطْعِ سَارِقِ الْمُصْحَفِ أَوْ أَيِّ كِتَابٍ نَافِعٍ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ غَيْرَ مُبَاحِ الْأَصْلِ بِأَلاَّ يَكُونَ جِنْسُهُ مُبَاحًا: فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْمَاءِ أَوِ الْكَلأَِ أَوِ النَّارِ أَوِ الصَّيْدِ، بَرِّيًّا كَانَ أَوْ بَحْرِيًّا، وَلَوْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَأَحْرَزَهَا؛ لِأَنَّهَا: إِمَّا شَرِكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِمَّا تَافِهَةٌ أَوْ عَلَى وَشْكِ الِانْفِلَاتِ.وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ الْحَدَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ.

عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ذَا قِيمَةٍ تَدْعُو مَنْ أَحْرَزَهَا إِلَى الْحِفَاظِ عَلَيْهَا وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى سَارِقِهَا مَتَى بَلَغَتْ نِصَابًا، وَذَلِكَ مِثْلُ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهَا.

ب- الْمَالِكِيَّةُ:

29- يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا.

وَرَغْمَ اشْتِرَاطِهِمُ الْمَالِيَّةَ، فَقَدْ أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيَّزٍ، إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حِرْزٍ، بِأَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ مَثَلًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثِيَابُهُ رَثَّةً أَمْ جَدِيدَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَيْهِ حُلْمِيَّةً أَمْ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أُتِيَ بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَبِيعُهُمْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُطِعَتْ يَدُهُ».

وَلِاشْتِرَاطِهِمْ فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ، وَلَوْ كَانَا لِغَيْرِ مُسْلِمٍ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْكَلْبَ وَلَوْ مُعَلَّمًا، أَوْ كَلْبَ حِرَاسَةٍ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ثَمَنِهِ.وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلَاتِ اللَّهْوِ كَالدُّفِّ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ كَالنَّرْدِ أَوْ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ وَنَحْوِهَا.وَلَكِنَّهُ لَوْ كَسَرَهَا دَاخِلَ الْحِرْزِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكْسِرِهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، أُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِسَرِقَتِهِ نِصَابًا مُحْرَزًا. وَلَوْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْآنِيَةِ بِدُونِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَرَقَ كُتُبًا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ شَرْعًا، كَكُتُبِ السِّحْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ تَبْلُغُ نِصَابًا.

وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ ثَمِينًا، يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لَا، مُبَاحَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ.كَمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ النَّافِعَةَ، مَا دَامَتْ قِيمَتُهَا تَبْلُغُ النِّصَابَ.

وَلَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي شَجَرِهِ، أَوْ مِنَ الزَّرْعِ قَبْلَ حَصْدِهِ، فَإِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَرِينِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: الْقَطْعُ سَوَاءٌ ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ أَمْ لَا.

الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ مُطْلَقًا.

الثَّالِثُ: إِذَا سُرِقَ قَبْلَ ضَمِّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ لَا يُقْطَعُ فَإِذَا ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ قُطِعَ.

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ وَإِلاَّ فَلَا خِلَافَ فِي قَطْعِ سَارِقِهِ وَكَذَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَرِينِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ قُطِعَ».وَإِذَا كَانَتِ الثِّمَارُ مُعَلَّقَةً فِي أَشْجَارِهَا، وَالزَّرْعُ لَمْ يُحْصَدْ، وَلَكِنَّهُ فِي بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَلَهُ غَلْقٌ، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا- فِي رَأْيٍ- وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ دَاخِلَ الدَّارِ، فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي قَطْعِ مَنْ يَسْرِقُ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، لِتَمَامِ الْحِرْزِ.

ج- الشَّافِعِيَّةُ:

30- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا.وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحُرَّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.فَأَمَّا إِنْ سَرَقَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ أَعْمَى، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ أَوْ مَعَهُ مَالٌ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ- فِي الْأَصَحِّ- لِأَنَّ لِلْحُرِّ يَدًا عَلَى مَا مَعَهُ فَصَارَ كَمَنْ سَرَقَ جَمَلًا وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ، وَالرَّأْيُ الْآخَرُ فِي الْمَذْهَبِ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ بَلَغَ مَا مَعَهُ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ.فَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حِلْيَةٍ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ.وَأَخَذَ السَّارِقُ مِنْهُ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِلَا خِلَافٍ.

وَلِاشْتِرَاطِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ أَوِ الْكَلْبَ أَوْ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ.فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ آلَاتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ أَوْ آنِيَةِ.الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوِ الصَّنَمَ أَوِ الصَّلِيبَ أَوِ الْكُتُبَ غَيْرَ الْمُحْتَرَمَةِ شَرْعًا، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ أَوْ إِفْسَادِهِ.

وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ الْمُبَاحَةَ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَيُقَامُ الْحَدُّ أَيْضًا إِذَا سَرَقَ مَالًا قَطَعَ فِيهِ، وَكَانَ مُتَّصِلًا بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ آلَةِ لَهْوٍ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ مَا فِيهِ الْقَطْعُ تَبْلُغُ النِّصَابَ.

وَلَا حَدَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي شَجَرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِجِيرَانٍ يُلَاحِظُونَهُ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا.

وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نِصَابًا مُحْرَزًا مِنْ مَالٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَالِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ التَّافِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ مُبَاحِ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرِ مُبَاحِهِ.

د- الْحَنَابِلَةُ:

31- يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا، وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْحُرِّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ أَوْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى: إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْمَالَ، وَالْأُخْرَى: عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُ تَابِعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مُحَرَّمًا، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلَاتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَإِنْ بَلَغَتْ بَعْدَ إِتْلَافِهَا نِصَابًا؛ لِأَنَّهَا تُعِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَكَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا وَكَسْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَتِهَا رِوَايَتَانِ.وَإِذَا سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُقَامُ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ.وَمَنْ يَسْرِقُ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهَا.وَإِذَا اتَّصَلَ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ وَفِيهِ خَمْرٌ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ، الْأُولَى: لَا قَطْعَ لِتَبَعِيَّتِهِ، وَالْأُخْرَى: وُجُوبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ.وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَالْمُصْحَفُ الْمُحَلَّى بِحِلْيَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ؛ لِاتِّصَالِ الْحِلْيَةِ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ الْحِلْيَةَ وَحْدَهَا.وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ أَوِ الْكَثَرِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي بُسْتَانٍ مُحَاطٍ بِسُوَرٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ».فَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّخْلُ أَوِ الشَّجَرُ دَاخِلَ دَارٍ مُحْرَزَةٍ، فَفِيمَا يُسْرَقُ الْقَطْعُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا.

وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَالِ مِنْ كَوْنِهِ تَافِهًا أَوْ لَا، مُبَاحَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ، مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ أَوْ لَيْسَ مُعَرَّضًا.وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَالْكَلأَ وَالثَّلْجَ وَالسِّرْجِينَ، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهَا؛ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي بَعْضِهَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلِعَدَمِ تَمَوُّلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ عَادَةً.

2- أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا.

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ،

وَفِي وَقْتِ هَذَا التَّحْدِيدِ، وَفِي أَثَرِ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ لِمَا يُسْرَقُ، وَفِي وُجُوبِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ.

أ- الْحَنَفِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ عَشْرَةُ دَارَهُمْ مَضْرُوبَةً، أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ.وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ».وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا: {لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِأَرْبَعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَشْرَةٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ احْتِمَالًا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ:

الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ.فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ.أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ نَقَصَتْ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ بِأَنْ هَلَكَ بَعْضُهُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا النَّقْصِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْكُلِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِأَلاَّ يَمْنَعَ مِنْ إِقَامَتِهِ، وَلِذَلِكَ تُطَبَّقُ قَاعِدَةُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ.أَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ يَرْجِعُ إِلَى تَغَيُّرِ سِعْرِهِ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَجَّحَهَا الطَّحَاوِيُّ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ السَّابِقَةُ.وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، وَقْتَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ وَوَقْتَ الْحُكْمِ مَعًا، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْأَسْعَارُ، بِأَنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلسَّارِقِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ النَّقْصَ عِنْدَ الْحُكْمِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ فِي مَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، كَانَتِ الْعِبْرَةُ- فِي رَأْيٍ- بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي مَحَلِّ السَّرِقَةِ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي مَحَلِّ ضَبْطِهِ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، فَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدَّرَهَا الْبَعْضُ الْآخَرُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ تَكُونُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- هَمَّ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ- رضي الله عنه-: إِنَّ مَا سَرَقَهُ لَا يُسَاوِي نِصَابًا، فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:

ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ يَعْتَقِدُ أَنَّ قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، فَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ الْآخَرُ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي جَيْبِ الثَّوْبِ نِصَابًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ سَرِقَةَ الثَّوْبِ وَحْدَهُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ.بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ جِرَابًا أَوْ صُنْدُوقًا، وَكَانَ بِهِ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ، فَلَا خِلَافَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْمَظْرُوفَ لَا الظَّرْفَ. ب- الْمَالِكِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

34- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ شَرْعِيَّةً خَالِصَةً مِنَ الْغِشِّ أَوْ نَاقِصَةً تَرُوجُ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ.فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ دِينَارٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ وَلَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَلَا حَدَّ.

وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ».وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».فَأَخَذُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنَ الذَّهَبِ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَوَقْتُ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ حِينَ السَّرِقَةِ ثُمَّ بَلَغَتِ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ.وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ أَمْ كَانَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ.

وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ بِمَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَالْعِبْرَةُ بِمَحَلِّ السَّرِقَةِ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْمُثْبَتِ عَلَى النَّافِي، فَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَنَّ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، أُخِذَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ، وَلَوْ عَارَضَتْهَا شَهَادَاتٌ أُخْرَى.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، لَا بِظَنِّ السَّارِقِ، إِلاَّ إِذَا صَدَّقَ الْعُرْفُ ظَنَّهُ.فَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي نِصَابًا، وَلَكِنْ كَانَ فِي جَيْبِهِ مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِمَا فِي الْجَيْبِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَرَى عَلَى وَضْعِ النُّقُودِ فِي جُيُوبِ الثِّيَابِ.أَمَّا إِذَا سَرَقَ قِطْعَةَ خَشَبٍ، لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا، فَوَجَدَهَا مُجَوَّفَةً وَبِهَا مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ عَلَى حِفْظِ النُّقُودِ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ.

ج- الشَّافِعِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

35- ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ بِرُبُعِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ: الذَّهَبُ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، إِذَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ مِنْ غَالِبِ الدَّنَانِيرِ الْجَيِّدَةِ.

وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَقِلُّ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ حِينَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ.أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ رُبُعَ دِينَارٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ بِفِعْلِ السَّارِقِ، كَأَنْ أَكَلَ بَعْضَهُ، أَمْ كَانَ السَّبَبُ تَغَيُّرَ الْأَسْعَارِ.وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، لَا فِي مَكَانٍ آخَرَ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُقَوِّمِينَ إِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الْقَطْعِ أُخِذَ بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الظَّنِّ أُخِذَ بِالتَّحْدِيدِ الْأَقَلِّ، وَذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: لَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ قِيمَةَ مَا سَرَقَ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَقْصِدَ السَّرِقَةَ.وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ ثَوْبٍ لَا يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِي جَيْبِهِ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَكِنَّهُ لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ صُنْدُوقٍ بِهِ دَنَانِيرُ، فَوَجَدَهُ فَارِغًا، وَالصُّنْدُوقُ لَا يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

د- الْحَنَابِلَةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

36- اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ.فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْدِيدِهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ عَرْضٍ قِيمَتُهُ كَأَحَدِهِمَا.

وَتُحَدِّدُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى النِّصَابَ بِرُبُعِ دِينَارٍ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا، وَبِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِنْ كَانَ: الْمَسْرُوقُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَبِمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِهِمَا.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ وَفِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَغَيُّرِ هَذِهِ الْقِيمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: إِذَا قَدَّرَ بَعْضُ الْمُقَوِّمِينَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ بِنِصَابٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْقِيمَةِ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِأَنَّ مَا سَرَقَهُ يُسَاوِي نِصَابًا.وَعَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْدِيلًا، لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، وَقَدْ شُدَّ عَلَيْهِ دِينَارٌ، مَا دَامَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.فَأَمَّا إِنْ عَلِمَ بِوُجُودِ الدِّينَارِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ.حَدُّ السَّرِقَةِ.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُحْرَزًا:

37- الْحِرْزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الْمَالُ عَادَةً، بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا لَهُ بِوَضْعِهِ فِيهِ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ السَّارِقُ النِّصَابَ مِنْ حِرْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ الْمُحْرِزِ ضَائِعٌ بِتَقْصِيرٍ مِنْ صَاحِبِهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا، فَقَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنِ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ» وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 5)

سَرِقَةٌ -5

3- الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

74- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، قَبْلَ الْقَطْعِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ يُورِثُ شُبْهَةً.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رُجُوعَ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لآِدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ بِحَقٍّ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ.

4- الِاشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ:

75- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنِ الْجَمِيعِ، قِيَاسًا عَلَى اشْتَرَاكِ الْعَامِدِ مَعَ الْمُخْطِئِ فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَخْذَ وَالْإِخْرَاجَ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ أَصْلٌ وَالْإِعَانَةَ كَالتَّابِعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الْأَصْلِ وَجَبَ سُقُوطُهُ عَنِ التَّابِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْآخِذُ وَالْمُخْرِجُ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَامَ بِالْأَصْلِ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ عَنِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ- إِلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَطْعِهِ خَاصٌّ بِهِ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ.

5- طُرُوءُ الْمِلْكِ قَبْلَ الْحُكْمِ:

76- إِذَا تَمَلَّكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِأَنِ اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ عَنْهُ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِذَا تَمَلَّكَهُ السَّارِقُ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ الْمُطَالَبَةَ، فَالْعِبْرَةُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَوْ سُقُوطِهِ بِحَالِ السَّرِقَةِ، دُونَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ بَعْدَهَا.

فَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ-: (لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ)، وَلِأَنَّ (الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ)؛ وَلِأَنَّ (التَّمَلُّكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَقًّا وَقْتَ السَّرِقَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَوْجَدَ شُبْهَةً عِنْدَ التَّنْفِيذِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ).

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِتَمَلُّكِ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ، (لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ، وَقَدْ تَمَّتِ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَطُرُوءُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ، فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا)، وَلِأَنَّ مَا حَدَثَ- بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ – لَمْ

يُوجَدْ شُبْهَةٌ فِي الْوُجُوبِ، (فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِّ)، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ- بَعْدَ الْقَضَاءِ- يُسْقِطُ الْحَدَّ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، بَعْدَ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ لَهُ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

6- تَقَادُمُ الْحَدِّ:

77- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصْدُرْ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُرُوبُ الْجَانِي أَوْ تَرَاخِي التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَإِلاَّ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ حُدُودِ اللَّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا زُفَرَ- إِلَى أَنَّ تَقَادُمَ التَّنْفِيذِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، يُسْقِطُ الْقَطْعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا، فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلِأَنَّ التَّقَادُمَ فِي التَّنْفِيذِ كَالتَّقَادُمِ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ بِشُهُودٍ فِي السَّرِقَةِ، ثُمَّ انْفَلَتَ، فَأُخِذَ بَعْدَ زَمَانٍ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْعَارِضِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

التَّعْزِيرُ:

78- تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ أَرْكَانُهَا، أَوْ لَمْ تَسْتَوْفِ شُرُوطُهَا؛ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهَا.وَعَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ دَرْءُ الْحَدِّ فِيهَا لِوُجُودِ شُبْهَةٍ.وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى السَّرِقَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَطْعُ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ.

الضَّمَانُ:

79- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يُقَمْ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- رَدَّ عَلَى صَفْوَانَ رِدَاءَهُ، وَقَطَعَ سَارِقَهُ»، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ إِذَا تَلِفَ، وَلَمْ يُقَمِ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، لِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، كَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ قَامَتْ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى السَّارِقِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَسْرُوقِ- إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا- وَقِيمَتَهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.

80- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، إِذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ وَقَدْ قُطِعَ فِيهِ سَارِقُهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَغَيْرُهُمْ.

لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} فَقَدْ سَمَّى «الْقَطْعَ» جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ كَافِيًا، فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً، وَقَدْ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- ذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، فَالْحَدِيثُ يَنُصُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا قَطَعَ السَّارِقُ.وَمِنْ هُنَا قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ حَدٌّ وَضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّمَانِ يَجْعَلُ الْمَسْرُوقَ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ، مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَلَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- إِنْ تَلِفَ- بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مُوسِرًا، مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَّصِلَ كَالْمَالِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ، فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ عُقُوبَتَانِ.فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَهَا، فَلَا ضَمَانَ؛ لِئَلاَّ تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ: قَطْعُ يَدِهِ وَإِتْبَاعُ ذِمَّتِهِ.

وَالثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقُ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوِ اسْتِهْلَاكٍ، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَوْ لَمْ يُقَمْ، فَالْقَطْعُ وَالضَّمَانُ يَجْتَمِعَانِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانَ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

أَمَّا وَقْتُ تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ- إِذَا حَكَمَ بِضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة المسافر 2)

صَلَاةُ الْمُسَافِرِ -2

الرَّابِعَةُ: اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ:

21- يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَمِثْلُ نِيَّةِ الْقَصْرِ مَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَثَلًا رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمِثْلُ النِّيَّةِ- أَيْضًا- مَا لَوْ قَالَ: أُؤَدِّي صَلَاةَ السَّفَرِ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ مَا ذُكِرَ، بِأَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ أَطْلَقَ أَتَمَّ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ تَجْعَلُ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا يَكْفِي.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَكْفِي نِيَّةُ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِ صَلَاةٍ يَقْصُرُهَا فِي السَّفَرِ، وَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُهَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَوْ حُكْمًا.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التَّحَرُّزَ عَمَّا يُنَافِي نِيَّةَ الْقَصْرِ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ نِيَّةِ الْإِتْمَامِ، فَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ بَعْدَ نِيَّةِ الْقَصْرِ أَتَمَّ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ؟ أَتَمَّ.أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا؟ أَتَمَّ.وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَوَاهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ التَّرَدُّدِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلَا مُوجِبٍ لِإِتْمَامٍ، كَنِيَّتِهِ أَوْ نِيَّةِ إِقَامَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَنَحْوُهُمُ الْحَنَابِلَةُ: فَعِنْدَهُمْ: إِنْ عَزَمَ الْمُسَافِرُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْإِتْمَامُ مِنَ الْإِقَامَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ، أَوْ تَابَ مِنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَلَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ، وَكَمَنْ نَوَى خَلْفَ مُقِيمٍ عَالِمًا بِأَنَّ إِمَامَهُ مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- أَيْضًا-: الْعِلْمَ بِجَوَازِ الْقَصْرِ، فَلَوْ قَصَرَ جَاهِلًا بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِتَلَاعُبِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، بَلِ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي: يَقَعُ تَطَوُّعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا أَتَمَّ سَاهِيًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا وَجَلَسَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَأَسَاءَ لِتَأْخِيرِهِ السَّلَامَ عَنْ مَكَانِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ الْقَاطِعَةَ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً شَفَعَ بِأُخْرَى نَدْبًا إِنْ عَقَدَ رَكْعَةً وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، وَلَا تُجْزِئُ حَضَرِيَّةٌ إِنْ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَلَا تُجْزِئُ سَفَرِيَّةٌ؛ لِتَغَيُّرِ نِيَّتِهِ فِي أَثْنَائِهَا.

الْمَكَانُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْقَصْرُ:

22- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ، فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.وَأَصْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إِلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.

وَالْمُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ.وَيَدْخُلُ فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ الْمَبَانِي الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْصُرْ فِي سَفَرِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَدَانِيَتَانِ الْمُتَّصِلُ بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، أَوِ الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْلُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُمَا كَالْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِلاَّ فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَهَا وَالْأَبْنِيَةَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا.

وَسَاكِنُ الْخِيَامِ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَمَرَافِقَهَا، كَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَلَوْ حُكْمًا لَا يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا فَارَقَهَا إِنْ سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا، وَكَانَ مُحَاذِيًا لَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَيَقْصُرُ سُكَّانُ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَأَهْلُ الْعِزَبِ إِذَا فَارَقُوا مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.

وَالْبَلْدَةُ الَّتِي لَهَا سُوَرٌ، لَا يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالُوا أَيْضًا: يُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ عَرْضِ الْوَادِي إِنْ سَافَرَ فِي عَرْضِهِ، وَالْهُبُوطُ إِنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ، وَالصُّعُودُ إِنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ.وَهَذَا إِنْ سَافَرَ فِي الْبَرِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِلِ سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ، فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ تَحَرُّكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ بَعِيدًا عَنِ الْمَدِينَةِ فَالْعِبْرَةُ بِمُجَاوَزَةِ سُوَرِ الْمَدِينَةِ.

الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ، وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ:

23- الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ هِيَ: الصَّلَاةُ الرُّبَاعِيَّةُ، وَهِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْعِشَاءُ إِجْمَاعًا، وَلَا قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «فَرَضَ صَلَاةَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.فَلَمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ وَتُرِكَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ» وَلِأَنَّ الْقَصْرَ هُوَ: سُقُوطُ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُقْصَرُ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.

وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ: أَنْ تَصِيرَ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ.

وَلَا قَصْرَ فِي السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلَا قَصْرَ فِي الْمَنْذُورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَعَكْسُهُ:

24- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ.

وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ وَصَارَتِ الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلتَّشَهُّدِ فَرْضًا فِي حَقِّهِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا.

وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ.

وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ، فَلَوْ سَلَّمَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَيَقُولُ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ ذَلِكَ لِلْمُقِيمِينَ اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ- عليه السلام-.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ؛ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الْإِعَادَةِ، لِمُخَالَفَةِ سُنَّةِ الْقَصْرِ.

وَيَجُوزُ- أَيْضًا- اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيُسَلِّمُ الْمُسَافِرُ، وَيُتِمُّ الْمُقِيمُ.

وَيَجُوزُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ.كَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَفَرَضَا الْإِتْمَامَ.

وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَتَمِيمٌ بْنُ حَذْلَمٍ: إِلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ أَجْزَأَتَا عَنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةَ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ قَصَرَ.

قَضَاءُ فَائِتَةِ السَّفَرِ فِي الْحَضَرِ وَعَكْسِهِ:

25- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ السَّفَرِ يَقْضِيَ صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ فَزَالَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ.وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْوَقْتُ.وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ، وَالْعُذْرُ بَاقٍ، فَكَانَ التَّخْفِيفُ بَاقِيًا.وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ صَلَاةٌ، فَأَرَادَ قَضَاءَهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ تَامَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا نَسِيَ صَلَاةَ حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، أَوْ نَسِيَ صَلَاةَ سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلَاةَ حَضَرٍ.نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ فَيَبْطُلُ بِزَوَالِهِ.

زَوَالُ حَالَةِ السَّفَرِ:

26- الْمُسَافِرُ إِذَا صَحَّ سَفَرُهُ يَظَلُّ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ، أَوْ يَدْخُلَ وَطَنَهُ، وَحِينَئِذٍ تَزُولُ حَالَةُ السَّفَرِ، وَيُصْبِحُ مُقِيمًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ.وَلِلْإِقَامَةِ شَرَائِطُ هِيَ:

الْأُولَى: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَمُدَّتُهَا الْمُعْتَبَرَةُ:

27- نِيَّةُ الْإِقَامَةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَر لِانْتِظَارِ قَافِلَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ: أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَعَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ.

وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ».

أَمَّا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ- - رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مَعَ وُجُوبِ عِشْرِينَ صَلَاةً فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الدُّخُولِ إِنْ دَخَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنْ خَرَجَ فِي أَثْنَائِهِ.

وَلَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ: الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ وَالْعِشْرِينَ صَلَاةً.

وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ: الْعِشْرِينَ صَلَاةً فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْإِقَامَةِ مَسَافَةَ قَصْرٍ، قَصَرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ بِالْفِعْلِ، وَإِلاَّ أَتَمَّ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ بِالْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْعَسْكَرِ بِمَحَلِّ خَوْفٍ، فَإِنَّهَا لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.

وَإِذَا أَقَامَ بِمَحَلٍّ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ دُونَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ بِهِ، فَإِنَّ إِقَامَتَهُ بِهِ لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ وَلَوْ أَقَامَ مُدَّةً طَوِيلَةً إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي مَكَانٍ عَادَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِقَامَةِ كَالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْمُسْتَقِلُّ، وَلَوْ مُحَارِبًا إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَامَّةً بِلَيَالِيِهَا، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ وَأَطْلَقَ بِمَوْضِعِ عَيْنِهِ، انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصِدَهُ أَمْ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ نَوَى بِمَوْضِعٍ وَصَلَ إِلَيْهِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ مُكْثِهِ.

وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلَا نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُقِيمُ وَالْعَازِمُ عَلَى الْإِقَامَةِ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ.وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ لَا يَقْطَعُ السَّفَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا» وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ، فَالتَّرَخُّصُ فِي الثَّلَاثِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَلْحَقَ بِإِقَامَةِ الْأَرْبَعَةِ: نِيَّةَ إِقَامَتِهَا.

وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ إِذَا دَخَلَ نَهَارًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يُحْسَبَانِ بِالتَّلْفِيقِ، فَلَوْ دَخَلَ زَوَالَ السَّبْتِ لِيَخْرُجَ زَوَالَ الْأَرْبِعَاءِ أَتَمَّ، وَقَبْلَهُ قَصَرَ، فَإِنْ دَخَلَ لَيْلًا لَمْ تُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلَةِ وَيُحْسَبُ الْغَدُ.

وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ بَلْ بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ، فَيَتَرَخَّصُ بِإِقَامَةِ مُدَّةٍ يُصَلِّي فِيهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَزَلَ بِالْأَبْطُحِ.

وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إِذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ، أَوْ حَبَسَهُ الرِّيحُ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَحْرِ قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَهَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَقِيلَ: يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْصُرُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ لَقَصَرَ فِي الزَّائِدِ.

وَلَوْ عَلِمَ الْمُسَافِرُ بَقَاءَ حَاجَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَا قَصْرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ بَعِيدٌ عَنْ هَيْئَةِ الْمُسَافِرِينَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلَاةً أَتَمَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِنًى، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى إِقَامَتِهَا».وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةً مُطْلَقَةً بِأَنْ لَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ فِي بَلْدَةٍ أَتَمَّ؛ لِزَوَالِ السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهِ، هَلْ نَوَى إِقَامَةَ مَا يَمْنَعُ الْقَصْرَ أَوْ لَا؟ أَتَمَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.

وَإِنْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا أَوْ جِهَادِ عَدُوٍّ بِلَا نِيَّةِ إِقَامَةٍ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، وَلَا يَعْلَمُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَلَوْ ظَنًّا، أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ حَبَسَهُ مَطَرٌ قَصَرَ أَبَدًا؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ».

فَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، كَمَا لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.وَإِنْ نَوَى إِقَامَةً بِشَرْطٍ، كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ لَقِيتُ فُلَانًا فِي هَذَا الْبَلَدِ أَقَمْتُ فِيهِ وَإِلاَّ فَلَا، فَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ حُكْمُ السَّفَرِ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَقِيَهُ بِهِ صَارَ مُقِيمًا؛ لِاسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَخَ نِيَّتَهُ الْأُولَى لِلْإِقَامَةِ قَبْلَ لِقَائِهِ أَوْ حَالَ لِقَائِهِ، وَإِنْ فَسَخَ النِّيَّةَ بَعْدَ لِقَائِهِ فَهُوَ كَمُسَافِرٍ نَوَى الْإِقَامَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، فَأَشْبَهَ وَطَنَهُ.

الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ- اتِّحَادُ مَكَانِ الْمُدَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْإِقَامَةِ:

28- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقِيمُهَا الْمُسَافِرُ وَيَصِيرُ بِهَا مُقِيمًا، يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تُقْضَى فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْمَكَانَ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالَ يُضَادُّهُ.

فَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى، أَوِ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، أَوْ إِنْ كَانَا قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرًا وَالْآخَرُ قَرْيَةً فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلَا تَزُولُ حَالَةُ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمَقَامَ فِيهِ بِاللَّيْلِ يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إِقَامَةِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ.

الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ- صَلَاحِيَةُ الْمَكَانِ لِلْإِقَامَةِ:

29- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الْمُسَافِرُ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ، وَالْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ: هُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ، نَحْوَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إِذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ، وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، وَعَلَى هَذَا: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِذَلِكَ مُقِيمِينَ.وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ: لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ وَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا.

وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إِذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ.وَقَالَ زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إِنْ كَانَتِ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَامْتَنَعَ الْقَصْرُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكَانِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ.

حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فِي الْإِقَامَةِ وَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ الْمَتْبُوعِ فِيهَا:

30- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْأَصْلِ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْجَيْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ، وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إِذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْأَصْلِ.فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا، حَتَّى إِذَا صَلَّى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا.وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَتَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.

وَالْإِقَامَةُ كَالسَّفَرِ فِي التَّبَعِيَّةِ.

دُخُولُ الْوَطَنِ:

31- إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ زَالَ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا، وَسَوَاءٌ دَخَلَ وَطَنَهُ لِلْإِقَامَةِ، أَوْ لِلِاجْتِيَازِ، أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ أَلْجَأَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دُخُولِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.

وَدُخُولُ الْوَطَنِ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ السَّفَرِ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ الْقَصْرَ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ بَلَدِهِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.

وَرُوِيَ- أَيْضًا- أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ لِمُسَافِرٍ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ.وَإِذَا دَخَلَ وَطَنَهُ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ الْإِتْمَامُ.

الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ:

32- إِذَا عَزَمَ الْمُسَافِرُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُقِيمًا مِنْ حِينِ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدَةِ وَيُصَلِّي تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَنْوِيَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مَاكِثٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَهُوَ سَائِرٌ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ وَطَنَهُ.

وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي عَزَمَ فِيهِ عَلَى الْعَوْدَةِ وَبَيْنَ الْوَطَنِ مُدَّةُ سَفَرِ قَصْرٍ، فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ، وَقَصْدُ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُكْمِلِ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَطَنَهُ.

جَمْعُ الصَّلَاةِ:

33- الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، جَمْعُ تَقْدِيمٍ أَوْ جَمْعُ تَأْخِيرٍ.وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ هِيَ: الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الْجَمْعِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَمُسَوِّغُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَجُّ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْجَمْعُ لِأَيِّ عُذْرٍ آخَرَ، كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمْعِ سِتَّةُ أَسْبَابٍ: السَّفَرُ، وَالْمَطَرُ، وَالْوَحْلُ مَعَ الظُّلْمَةِ، وَالْمَرَضُ، وَبِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ: عَدَمَ إِدْرَاكِ الْعَدُوِّ.

وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ: الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَائِطَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْمُسَوِّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنِ اشْتَرَطَ فِي السَّفَرِ ضَرْبًا مُعَيَّنًا، كَقَوْلِ مَالِكٍ: لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إِلاَّ أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنَ اشْتَرَطَ سَفَرَ الْقُرْبَةِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بِسَبَبِ الْمَطَرِ نَهَارًا وَأَجَازَهُ لَيْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ لَيْلًا وَنَهَارًا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 1)

عَقْد -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: عَقَدَ الْحَبْلَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ: شَدَّهُ.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْحَبْلَ: إِذَا جَمَعَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَرَبَطَ بَيْنَهُمَا.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: قِيلَ: عَقَدْتُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَّدْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَوْكِيدٌ، وَعَاقَدْتُهُ عَلَى كَذَا، وَعَقَدْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى: عَاهَدْتُهُ، وَمَعْقِدُ الشَّيْءِ مِثْلُ مَجْلِسٍ: مَوْضِعُ عَقْدِهِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إِحْكَامُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَالْجَمْعُ عُقُودٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أَيْ: أَحْكَامَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أ- الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَعْقِدُهُ (يَعْزِمُهُ) الشَّخْصُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ، كَمَا يَقُولُ الْجَصَّاصُ وَعَلَى ذَلِكَ فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَقْدًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ؛ لِأَنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا شَرَطَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ عَقْدٌ، وَكَذَلِكَ النُّذُورُ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.

وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ قَوْلُ الْأَلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حَيْثُ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَمَا يَعْقِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.

ب- الْمَعْنَى الْخَاصُّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَتَيْنِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَحَلِّ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ الِالْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا.

وَمَوْضُوعُ الْبَحْثِ هُنَا الْعَقْدُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِزَامُ:

2- أَصْلُ الِالْتِزَامِ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا؛ أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، يُقَالُ: لَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَ، وَالِالْتِزَامُ الِاعْتِنَاقُ.

وَالِالْتِزَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: إِنَّهُ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ...وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ.

وَالِالْتِزَامُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

ب- التَّصَرُّفُ.

3- التَّصَرُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَلُّبُ فِي الْأُمُورِ، وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَيَشْمَلُ التَّصَرُّفَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالتَّصَرُّفُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ.

ج- الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ:

4- الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَالُ: عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الْأَمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ.

فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَقْدِ بِالْإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِالْإِطْلَاقِ الْخَاصِّ.

وَأَمَّا الْوَعْدُ فَيَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.

وَالْوَعْدُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

أَرْكَانُ الْعَقْدِ:

5- أَرْكَانُ الشَّيْءِ: أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَجَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الرُّكْنُ هُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجَدُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عَاقِدٌ وَصِيغَةٌ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) وَمَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ (الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ).

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ، لَا مِنَ الْأَرْكَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ.

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَلِّ شُرُوطٌ لَا بُدَّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَوَافُرِهَا، نَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً- صِيغَةُ الْعَقْدِ:

6- صِيغَةُ الْعَقْدِ: كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ وَيَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِـ (الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ).

وَتَخْتَلِفُ الصِّيغَةُ فِي الْعَقْدِ حَسْبَ اخْتِلَافِ الْعُقُودِ.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَصْلُحُ لِلصِّيغَةِ كُلُّ لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ، مِثْلِ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، أَوْ: أَعْطَيْتُكَ، أَوْ: مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، وَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوْ: قَبِلْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ يَكْفِي كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، مِثْلُ قَوْلِ الْمُحِيلِ: أَحَلْتُكَ وَأَتْبَعْتُكَ، وَقَوْلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ: رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، وَنَحْوَهَا.

وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَعْطَيْتُهَا لَكَ رَهْنًا، وَقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ.

فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ لَفْظٌ خَاصٌّ، وَلَا صِيغَةٌ خَاصَّةٌ.

7- وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظٍ اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ الْإِنْكَاحِ، دُونَ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ.

وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا يَصِحُّ إِيجَابٌ إِلاَّ بِلَفْظِ أَنْكَحْتُ أَوْ زَوَّجْتُ..وَلَا يَصِحُّ قَبُولٌ لِمَنْ يُحْسِنُهَا إِلاَّ بِقَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ أَوْ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ رَضِيتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَبِلْتُ، فَقَطْ، أَوْ: تَزَوَّجْتُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَوَهَبْتُ وَنَحْوِهَا، إِذَا قُرِنَ بِالْمَهْرِ وَدَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الزَّوَاجِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (نِكَاح وَصِيغَة).

الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

8- الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ، وَالْقَبُولُ: مَا صَدَرَ ثَانِيًا عَنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَالًّا عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَوَّلِيَّةُ الصُّدُورِ فِي الْإِيجَابِ وَثَانَوِيَّتُهُ فِي الْقَبُولِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ.

وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِيجَابَ: مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ كَالْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالْقَبُولُ: هُوَ مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَصِيرُ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ صَدَرَ أَوَّلاً، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ الْمُمَلِّكَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُتَمَلِّكُ هُوَ الْقَابِلُ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَا صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا Bوَسَائِلُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ كَمَا يَحْصُلَانِ بِالْأَلْفَاظِ، كَذَلِكَ يَحْصُلَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعَاطَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ بَعْضِ هَذِهِ الْوَسَائِلِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْعَقْدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّيْنِ.

10- الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْأَلْفَاظِ هُوَ الْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إِذَا كَانَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ كَمَا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمَا، كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ.

وَلَا يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ كَصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلاً، كَقَوْلِهِ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْبَيْعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ.

أَمَّا صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الْحَالَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَإِلاَّ فَلَا، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ أَبْذُلُهُ أَوْ أُعْطِيكَهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ مِنْكَ أَوْ آخُذُهُ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْآخَرُ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَعَ نِيَّةِ الْإِيجَابِ لِلْحَالِ- فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَنْعَقِدْ.

وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صِيغَة ف 7).

اعْتِبَارُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.

11- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ- كَمَا يَقُولُ فِي الدُّرَرِ- أَنَّهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا يُنْظَرُ لِلْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ، بَلْ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلَا الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَمَا الْأَلْفَاظُ إِلاَّ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُقُودِ، فَطَبَّقُوهَا فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يُطَبِّقُوهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَسْبَ اخْتِلَافِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ.

وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَبَّقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ، وَلَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ..وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ عَلَيْهِ كَانَ إِبْرَاءً لِلْمَعْنَى، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى الصَّحِيحِ..وَلَوْ رَاجَعَهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِلْمَعْنَى، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا بِكَذَا، فَقَالَ: أَخَذْتُ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ ذِكْرِ الْبَدَلِ، وَبِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَالِاشْتِرَاءِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنَافِعِ، وَبِلَفْظِ الْعَارِيَّةِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْحَالِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَعَكْسِهِ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَا رِبِ كُلَّ الرِّبْحِ كَانَ الْمَالُ قَرْضًا، وَلَوْ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا.

ثُمَّ قَالَ: وَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: لَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْبَيْعِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا الْعَارِيَّةُ بِالْإِجَارَةِ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَا الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ تُرَاعَى Bفِيهِمَا الْأَلْفَاظُ لَا الْمَعْنَى فَقَطْ.

وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي طَبَّقَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْقَاعِدَةَ فِيهَا عَقْدُ بَيْعِ الْوَفَاءِ.فَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بَيْعَ الْوَفَاءِ بِكَذَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ، لَا يُفِيدُ تَمْلِيكَ عَيْنِ الدَّارِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، بَلِ الْمَقْصُودَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، وَإِبْقَاءُ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ دُونَ الْبَيْعِ اعْتِبَارًا لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعِيدَ الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ.كَمَا لَا يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 7).

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، وَقَدْ تَوَسَّعُوا بِالْأَخْذِ بِالْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْعُقُودِ حَتَّى أَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْمُعَاطَاةِ وَقَالُوا: كُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَشَدَّدُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاشْتَرَطُوا فِيهِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ لَفْظَ النِّكَاحِ أَوِ الزَّوَاجِ، وَقَالُوا: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالنِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ النِّكَاحَ صَحَّ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِتَرْجِيحِ الْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ كَأَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلْ ذَكَرُوا فِي الْأَخْذِ بِهِ خِلَافًا، قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ، فَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ، فَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ.

وَالثَّانِي- وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ- أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَلَمًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى.

وَمِنْهَا: إِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَلْ يَكُونُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى أَوْ هِبَةً بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ؟ الْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ.

وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوِ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.

وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعًا عَلَى الْأَظْهَرِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى.

وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالثَّانِي: لَا، اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ.

وَمِنْهَا: الْخِلَافُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ضَابِطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ:

وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ تَهَافَتَ اللَّفْظُ حُكِمَ بِالْفَسَادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَبِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوِ الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِاشْتِهَارِ الصِّيغَةِ فِي بَيْعِ الذِّمَمِ، وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بَيْعًا..وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، بَلْ كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ، كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا، فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَوَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَجَّحُوا الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ مَعَ بَعْضِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ وَالْخِلَافِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الْأَلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا بَلْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْغَضَبِ أَوِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) فَكَيْفَ Bيَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلَافُهَا؟.

وَيَقُولُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلَافَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ.

وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لِأَجْلِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا.

وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ دُونَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ ذَكَرُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ أَوِ الْأَلْفَاظِ فِيهَا.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا وَصَلَ بِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، أَوْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ هَلْ هُوَ اللَّفْظُ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقَرْضِ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا.

وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، أَوْ لِي، فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي، وَنَقَلَ ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، فَرَاعَى الْحُكْمَ دُونَ اللَّفْظِ.

وَمِنْهَا: لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ حَالًّا فَهَلْ يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا؟ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلَافِهِ.

وَهَكَذَا نَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مَعَ أَخْذِهِمْ بِهَا كَأَصْلٍ.

الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ.

12- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى Bالْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشُّبْرَامِلْسِيُّ يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.

وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالْأَيْمَانَ وَالنُّذُورَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ.

وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.

وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِي بَيَانِ اسْتِعْمَالِ صِيَغِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّلُ الْإِشْهَادَ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا الِانْعِقَادُ كَالْخُلْعِ لِحُصُولِ التَّرَاضِي مَعَ جَرَيَانِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رضي الله عنه- وَفِيهِ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : بِعْنِي جَمَلَكَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ».

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عَدِمَتْ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَافَرَتِ الْقَرَائِنُ Bوَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي دُخُولِ الْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ: يَخْتَلِفُ الْأَصْحَابُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ، فَقَالَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ: لَا كِنَايَةٌ إِلاَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ لَا كِنَايَاتٌ فِيهَا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلاً إِلاَّ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قَالَ: الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُسْتَقْبَلُ كِنَايَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَتَلْزَمُ، أَوْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْقُرْطُبِيِّ: الْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ، وَفِي الْحَطَّابِ أَيْضًا: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْبَيْعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.

وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: لَوْ قَالَ: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- قَالَ: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ».

فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا- وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ هُوَ الصَّحِيحَ - ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.

ب- الْعَقْدُ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ.

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِهِمَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْعُقُودِ وَفَصَّلُوا فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ.قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ.وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الْبَيْعِ: يَصِحُّ بِقَوْلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ كِتَابَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَوْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَكِتَابَةٍ مِنَ الْآخَرِ.

أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ أَمْ غَائِبَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا تَكْفِي فِي النِّكَاحِ الْإِشَارَةُ وَلَا الْكِتَابَةُ إِلاَّ لِضَرُورَةِ خَرَسٍ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفُسِخَ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْوَلِيِّ أَوِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ، بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ، فَلَوْ قَالَ لِغَائِبٍ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَالَ: قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ فَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةِ حَاضِرٍ، فَلَوْ كَتَبَ: تَزَوَّجْتُكِ، فَكَتَبَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَتْ: قَبِلْتُ، أَمَّا كِتَابَةُ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطٍ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ نَقَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَوْ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطِبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ Bنَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُلْ بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَبِإِسْمَاعِهِمُ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا يَكُونُونَ قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا انْتَفَيَا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَامِلِ: هَذَا الْخِلَافَ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي، لَا يُشْتَرَطُ إِعْلَامُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.

14- وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ- عُمُومًا- أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً؛ أَيْ تَبْقَى صُورَتُهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْوَرَقِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَتُقْرَأُ وَتُفْهَمُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَرْسُومَةٍ بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ عَقْدٍ.

وَوَجْهُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِتَابَةِ هُوَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بَلْ رُبَّمَا تَكُونُ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ حَثَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.

ج- الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ.

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْإِشَارَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَقَالَ النَّفْرَاوِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلَامِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا

وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ بِالْعَقْدِ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ.وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ، فَقَالَ Bجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ الْإِشَارَةِ فِي الْعُقُودِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.

وَهَلْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرْطٌ لِلْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِشَارَة).

د- الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي (الْمُعَاطَاةِ).

16- التَّعَاطِي مَصْدَرُ تَعَاطَى، مِنَ الْعَطْوِ بِمَعْنَى التَّنَاوُلِ، وَصُورَتُهُ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ الْآخَرُ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَكَمَا يَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَعَقْدُ الزَّوَاجِ لَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي.

أَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَنْعَقِدَ بِالْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ لَهَا دَلَالَةٌ بِأَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّعَاطِي يَنْطَوِي عَلَى دَلَالَةٍ تُشْبِهُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ حَسْبَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ إِذَا وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّضَا، وَهَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ جَوَازِ الْعُقُودِ بِالتَّعَاطِي، وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الْعَقْدَ بِالتَّعَاطِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الِانْعِقَادَ بِهَا فِي كُلِّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (قضاء 2)

قَضَاء -2

حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ:

22- الْإِسْلَامُ هُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَقْلِيدَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ، لِجَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلَايَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي الْأَحْكَامِ.

وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: أَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إِنَّمَا هِيَ زَعَامَةٌ وَرِيَاسَةٌ، لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ وَلَا يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ.

وِلَايَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ:

23- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ وِلَايَةَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَا يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى شَخْصٍ تَوْلِيَةَ الْقُضَاةِ، وَلَيْسَ لِمَنْ فَوَّضَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ نَفْسِهِ وَلَا وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِذَا كَانَا صَالِحَيْنِ لِلْوِلَايَةِ لِأَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ الْإِذْنِ مَعَ أَهْلِيَّتِهَا.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ، أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا فَيُوَلِّي قَاضِيًا، أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الْإِمَامِ أَوِ الِاتِّصَالُ بِهِ، يَتِمُّ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ، وَيَكُونُ عَقْدُهُمْ نِيَابَةً عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَلَا الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ، فَقَلَّدَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلاً إِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إِمَامٌ، وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي- لَا مُلْزَمًا- وَإِنْ خَلَا الْعَصْرُ مِنْ إِمَامٍ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَتَجَدَّدَ إِمَامٌ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ الْقَاضِي بَاطِلاً، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إِمَامٍ قَرِيبٍ وَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلاً، وَيَكُونَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي جَائِزًا إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّقْلِيدِ جَمِيعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَأَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ إِنْ ظَهَرَ الرِّضَا مِنْهُمْ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارُ بَطَلَ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَبَطَلَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّ تَمَيُّزَ الْجَانِبَيْنِ كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ، فَإِذَا صَحَّتْ وِلَايَتُهُ نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا وَجَبْرًا لِانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَلَا الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَلَّدُوا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَفْقُودًا صَحَّ وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَدِمْ هَذَا الْقَاضِي النَّظَرَ إِلاَّ بَعْدَ إِذْنِهِ، وَلَا يُنْقَضْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ.

وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ تَوْلِيَةَ قَاضٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيَعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَلاَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ سَأَلَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ، وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ، فَإِذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُ وَلاَّهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا بِمَا وَلاَّهُ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ وَمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَتَأَمُّلِ الشَّهَادَاتِ، وَتَعَاهُدِ الْيَتَامَى، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْوُقُوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي تَوْلِيَتِهِ الْقَضَاءَ.

اشْتِرَاطُ عَدَالَةِ الْمُوَلِّي:

24- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُوَلِّي (بِكَسْرِ اللاَّمِ) لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى تَصِحُّ مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ فَتَصِحُّ وِلَايَتُهُ كَالْعَدْلِ؛ وَلِأَنَّهَا لَوِ اعْتُبِرَتْ فِي الْمُوَلَّى أَفْضَى إِلَى تَعَذُّرِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي يَمْنَعُهُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ فَيَحْرُمُ.

وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا وَلاَّهُ أَمِيرٌ غَيْرُ عَدْلٍ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إِقْلِيمٍ عَظِيمٍ فَوَلَّوُا الْقَضَاءَ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ إِنْفَاذُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ.

ب- صِفَةُ عَقْدِ الْقَضَاءِ:

25- إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى حَاضِرَيْنِ فَالْعِبْرَةُ بِاللَّفْظِ وَفِي حَالَةِ الْغَيْبَةِ تَقُومُ الْكِتَابَةُ مَقَامَ اللَّفْظِ.

وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ: وَلَّيْتُكَ، وَقَلَّدْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، زَادَ الْحَنَابِلَةُ: رَدَدْتُ إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ.

وَالْكِنَايَةُ نَحْوُ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَوَكَّلْتُ إِلَيْكَ وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَهِدْتُ إِلَيْكَ، وَتَحْتَاجُ الْكِنَايَةُ إِلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ مِثْلُ: احْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِيهِ، وَشِبْهَ ذَلِكَ.

وَتَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَبُولِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّرَاخِي، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْقَبُولِ بِالشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالنُّطْقِ، وَلَمْ يُجِزْهُ آخَرُونَ حَتَّى يَنْطِقَ بِالْقَبُولِ، لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ، فَلَمْ يَنْعَقِدِ الْقَبُولُ بِالشُّرُوعِ.

ج- سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ:

26- لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَاضِيَ عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلَادِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ، فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ فَيَقُولُ مَثَلاً: جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً فِي جَمِيعِ وِلَايَتِي، أَوْ يَجْعَلَ حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنَ الْمَالِ نَحْوِ أَنْ يَقُولَ: احْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ كَأَنْ يُوَلِّيَهُ قَضَاءَ الْأَنْكِحَةِ فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَطْرٍ مِنْهَا.

الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ:

27- إِنْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْقَاضِي عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:

أَحَدُهَا: فَصْلُ الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إِمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ أَوْ إِجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ.

الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، وَإِيصَالُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا.

الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا.

الرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الْأَوْقَافِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَقَبْضِهِ غَلَّتَهَا، وَصَرْفِهَا فِي سُبُلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ رَعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلاَّهُ.

الْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شَرْطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ نَفَّذَهَا بِالْإِقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا إِلَى اجْتِهَادِ النَّظَرِ.

السَّادِسُ: تَزْوِيجُ الْأَيَامَى بِالْأَكْفَاءِ إِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ.

السَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالِبٍ، إِذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَقَفَتْ عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّيهَا.

الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ.

التَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِبَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ.

الْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ وَلَا يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي الْحُكْمِ.

الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ:

28- إِذَا كَانَتْ وِلَايَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً فَهِيَ مَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ جُعِلَ لَهُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ قَضَايَا النِّكَاحِ، أَوْ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَصَحَّتْ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ وَيَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَوْ أَمَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى عِنْدَ الْإِنْكَارِ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ تُسْمَعْ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَعَلَ وِلَايَةَ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ اسْتَمَرَّتْ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا زَالَتْ وِلَايَتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ عَمَلَ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْأُسْبُوعِ، كَأَنْ يُقَلَّدَ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَاصَّةً فَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخُصُومِ، فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُلْ وِلَايَتُهُ لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ.

د- تَقْيِيدُ الْقَاضِي بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ:

29- إِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ قَاضِيًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَحْكُمَ إِلاَّ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ التَّوْلِيَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلاَّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلاً، أَوْ يَكُونَ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ نَهْيًا كَقَوْلِهِ: لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِهِ لَا مَذْهَبِ غَيْرِهِ، إِذْ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي- أَيْ لِمَذْهَبِهِ- مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا، فَلَوْ قَضَى بِخِلَافِهِ لَا يَنْفُذُ، لَكِنِ الْكَاسَانِيُّ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَيُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَذْهَبِ الْغَيْرِ، لَكِنْ إِذَا قَيَّدَهُ السُّلْطَانُ بِصَحِيحِ مَذْهَبِهِ تَقَيَّدَ بِلَا خِلَافٍ، لِكَوْنِهِ مَعْزُولاً عَنْ غَيْرِ مَا قَيَّدَهُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ ذَلِكَ الشَّرْطَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَارَنَ الشَّرْطُ عَقْدَ الْوِلَايَةِ أَوْ تَقَدَّمَهُ ثُمَّ وَقَعَ الْعَقْدُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَلَّيْتُكَ عَلَى أَنْ تَقْتَصَّ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَثَلاً، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِقَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَصَرَ وِلَايَتَهُ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ نَظَرِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ، فَيَصِحَّ الْعَقْدُ، وَيَخْرُجَ الْمُسْتَثْنَى عَنْ وِلَايَتِهِ فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ، قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ: تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ عُمُومًا وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، كُلُّ هَذَا إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي الْوِلَايَةِ، فَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ فَالْوِلَايَةُ صَحِيحَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَأَضَافَ ابْنُ فَرْحُونَ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي قُضَاةِ الزَّمَانِ السَّابِقِ، أَمْثَالِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَعِيَاضٍ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا النَّمَطُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِذَلِكَ نُقِلَ عَنْ وُلَاةِ قُرْطُبَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَلَّوْا رَجُلاً الْقَضَاءَ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ، وَإِنَّ سَحْنُونًا كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى مَنْ يُوَلِّيهِ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَقْضِيَ إِلاَّ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عَامًّا، بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَا تَحْكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلاَّ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلاً، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَهَلْ يَبْطُلُ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ كَقَوْلِهِ: لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: أَقِدْ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَلَ التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا، نُظِرَ، إِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ، فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالتَّقْلِيدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ وَنَهَاهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ، وَأَرْضَى لِلْخَصْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لَا تُوجِبُهُ، لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءُ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَالْحَقُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ.فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْوِلَايَةُ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهًا آخَرَ فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ.

هـ- تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:

30- يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَيَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الْأَنْكِحَةِ، وَالْآخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَلَّى قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلاً وَاحِدًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَاضِيَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلَا تَنْفَصِلُ الْحُكُومَةُ، وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْقَاضِيَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ يَسْتَمِعَ تِلْكَ الدَّعْوَى وَحْدَهُ وَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ نَصْبُ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمِ الْآخَرِ، أَوْ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلَا يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّشْرِيكُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، بَلْ وَلَوْ كَانَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ نِصْفَ حَاكِمٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ فَرْحُونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ شُرِطَ فِي عَقْدِ وِلَايَتِهِمَا.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا- وَهُوَ الْأَصَحُّ- جَوَازُ وِلَايَةِ الْقَاضِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُخَصِّصِ الْإِمَامُ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَكَانٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ زَمَانٍ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخِلَافِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَا تَنْفَصِلُ الْخُصُومَاتُ وَقَالُوا: لَوْ وَلَّى الْإِمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لِإِمَامٍ وَاحِدٍ- عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمُقَلِّدِ- فَيَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ؛ لِأَنَّ إِمَامَهُمَا وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِإِمَامِهِمَا قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَحْكُمُ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لَا يَرَى الْآخَرُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازُ التَّوْلِيَةِ إِذَا كَانَ الْقَاضِيَانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْإِمَامُ أَوْلَى لأَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ لِأَنَّ تَوْلِيَتَهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا خَالَفَ اجْتِهَادَهُ.

وَإِذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الرَّفْعِ لِأَحَدِ الْقُضَاةِ- فِي حَالِ تَعَدُّدِهِمْ- فَهَلِ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي أَوْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى ف 15- 16).

و- تَعْيِينُ قَاضِي الْقُضَاةِ.

31- نَشَأَتْ وَظِيفَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَيَّامَ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، إِذْ عُيِّنَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ- صَاحِبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- قَاضِيًا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ، فَكَانَ يُرَشِّحُ الْقُضَاةَ لِلتَّعْيِينِ فِي الْبِلَادِ، وَيَقُومُ بِمُرَاقَبَةِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزُوا حُدُودَ عَمَلِهِمْ، وَلَا يُخِلُّوا بِبَعْضِهِ، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ- مِنْ قَبْلُ- هُوَ الَّذِي يُرَاعِي أَعْمَالَ الْقُضَاةِ، وَيَتَتَبَّعُ أَحْكَامَهُمْ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى السَّدَادِ، مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ يَشُقُّ عَلَى الْإِمَامِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْدُبَ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ، لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِقَاضِي الْقُضَاةِ أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ، وَنُوَّابَهُ، فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ، وَيُرَاعِيَ أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ.

ز- آدَابُ الْقَاضِي:

32- آدَابُ الْقَاضِي: الْتِزَامُهُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَعْوَانَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَضْبِطُ أُمُورَ الْقَضَاءِ، وَتَحْفَظُ الْقَاضِيَ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ، وَتَهْدِيهِ إِلَى بَسْطِ الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَتَنْأَى بِهِ عَنْ مَوَاطِنِ التُّهَمِ وَالشُّبُهَاتِ، فَيُسَنُّ كَوْنُ الْقَاضِي قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونُ حَلِيمًا مُتَأَنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ لِغَرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، عَفِيفًا وَرِعًا نَزِهًا، بَعِيدًا عَنِ الطَّمَعِ، صَدُوقَ الْجِهَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لَا يَكُونُ جَبَّارًا وَلَا عَسُوفًا، فَيَقْطَعُ ذَا الْحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ، قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- : لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ وَإِنْ أَخْطَأَتْهُ اثْنَتَانِ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَتَانِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا كَانَ قَبْلَهُ مُسْتَشِيرًا لِذِي الرَّأْيِ ذَا نَزَاهَةٍ عَنِ الطَّمَعِ حَلِيمًا عَنِ الْخَصْمِ مُحْتَمِلاً لِلاَّئِمَةِ.

وَآدَابُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا وَلاَّهُ الْقَضَاءَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَنَصُّهُ: إِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَقَضَائِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً، وَمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ أَعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُ ذَلِكَ، اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَاءِ، وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبٌ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينٌ فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنَ الْعِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ إِلاَّ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْرِفِ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ فِيمَا تَرَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّيَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، (أَوِ الْخُصُومِ) فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَانَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- : «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ».

وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ مِنَ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ أَوْ لِشُعُورِهِ بِشِدَّةِ النُّعَاسِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ السُّرُورِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ، أَمَّا إِنِ اسْتَبَانَ لَهُ الْحَقُّ وَاتَّضَحَ الْحُكْمُ ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ قَبْلَ الْغَضَبِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَإِذَا عَرَضَتْ لِلْقَاضِي حَالَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحَالَاتِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَازَ لَهُ وَقْفُ النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالِانْصِرَافُ.

ح- هَيْئَتُهُ وَزِيُّهُ:

33- يَجْتَهِدُ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيلَ الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ الْأُبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ، حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ، مُحْتَرِزًا فِي كَلَامِهِ عَنِ الْفُضُولِ وَمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِهِ، وَيَكُونَ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا وَيَلْبَسَ مَا يَحْسُنُ مِنَ الزِّيِّ وَيَلِيقُ بِهِ، وَيَكُونَ ذَا سَمْتٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلَا إِعْجَابٍ بِنَفْسِهِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ، بِأَخْذِ شَعْرِهِ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ، وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنْ بَدَنِهِ وَيَسْتَعْمِلَ مِنَ الطِّيبِ مَا يَخْفَى لَوْنُهُ، وَتَظْهَرَ رَائِحَتُهُ.

ط- مُشَارَكَتُهُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ الْعَامَّةِ:

34- يُسَنُّ لَهُ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ عَامَّةٍ كَوَلِيمَةِ عُرْسٍ وَخِتَانٍ؛ لِأَنَّ إِجَابَتَهَا سُنَّةٌ وَلَا تُهْمَةَ فِيهَا، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَحْضُرُهَا إِلاَّ إِذَا شَغَلَتْهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ.

وَلَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ لِأَجْلِهِ، وَالْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي لَا يَتَّخِذُهَا صَاحِبُهَا لَوْلَا حُضُورُ الْقَاضِي، وَقِيلَ: كُلُّ دَعْوَةٍ اتُّخِذَتْ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ فَهِيَ خَاصَّةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْقَرِيبِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُجِيبُ لِأَنَّ إِجَابَةَ دَعْوَةِ الْقَرِيبِ صِلَةٌ لِلرَّحِمِ، وَإِنَّمَا لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهَدِيَّةِ.

وَلِلْقَاضِي زِيَارَةُ الْأَهْلِ وَالصَّالِحِينَ وَالْإِخْوَانِ وَتَوْدِيعُ الْغَازِي وَالْحَاجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَقَدْ وَعَدَ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا عَظِيمًا فَيَدْخُلُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَمُبَاشَرَةِ الْحُكْمِ أَوْلَى.

ي- الْهَدِيَّةُ لِلْقَاضِي:

35- يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

أَمَّا مَنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ قَرَابَتِهِ أَوْ صُحْبَتِهِ أَوْ جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبُولُ، وَالْأَوْلَى إِنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ- مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ- أَنْ يُعَوِّضَ الْمُهْدِيَ عَنْهَا، وَيَحْسُنُ بِهِ سَدُّ بَابِ قَبُولِ الْهَدَايَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ تُورِثُ إِدْلَالَ الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، إِلاَّ الْهَدِيَّةُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ- مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ- فَالْأَوْلَى قَبُولُهَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ؛ وَلِأَنَّ فِي رَدِّهَا قَطِيعَةً لِلرَّحِمِ وَهِيَ حَرَامٌ.

36- وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» وَإِذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ، وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَإِنِ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ: فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوِ ارْتَشَى بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَرَدَّ مَا قَبَضَهُ الْمُرْتَشِي.

ك- مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:

37- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي لَهُ مَجْلِسًا فَسِيحًا بَارِزًا مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ لَائِقًا بِالْوَقْتِ وَالْقَضَاءِ، وَيَكُونُ مَصُونًا أَيْضًا مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي مِنَ الرَّوَائِحِ وَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ، كَأَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ دَارًا وَاسِعَةً وَسَطَ الْبَلَدِ إِنْ أَمْكَنَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْسَعَ عَلَى الْخُصُومِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْعَدْلِ.

الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ:

38- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِلنَّاسِ، وَأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْمَوَاضِعِ وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ.

وَاحْتَجُّوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ.

وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَاتُ طَرِيقَتَيْنِ:

الْأُولَى لِمَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ: اسْتِحْبَابُ الْجُلُوسِ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ الْكَافِرُ وَالْحَائِضُ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِحْبَابُ جُلُوسِهِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ «وَالْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحَقِّ وَالْأَمْرِ الْقَدِيمِ» لقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الْوَاضِحَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهِيَةَ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي لَا يَخْلُو عَنِ اللَّغَطِ وَارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ الْمَجَانِينِ وَالصِّغَارِ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ عَمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ أُولَئِكَ مِنْ أُمُورٍ فِيهَا مَهَانَةٌ بِهِ، أَمَّا إِذَا صَادَفَ وَقْتُ حُضُورِ الْقَاضِي إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا رَفْعَ الْخُصُومَةَ إِلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِفَصْلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ خُلَفَائِهِ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ.

ل- وَقْتُ عَمَلِهِ وَوَقْتُ رَاحَتِهِ:

39- لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ الَّتِي تُصْلِحُهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ قَضَائِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطَّلِعَ إِلَى قَرَابَتِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَيَتَّخِذَ لِجُلُوسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّامًا لِلْقَضَاءِ يَحْضُرُ فِيهَا النَّاسُ وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، فَيُقْصَدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَرْفُ زَمَانِهِ أَجْمَعَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الطَّرِيقِ إِلاَّ فِي أَمْرٍ اسْتُغِيثَ بِهِ فِيهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَيَسْجُنَ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْفَاصِلُ فَلَا، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ فِي الْعِيدَيْنِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ لِلنَّاسِ أَيَّامَ سُرُورٍ أَوْ حُزْنٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَثُرَ الْوَحْلُ وَالْمَطَرُ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَا لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَوَاتَ، وَمَا لَا يَسَعُهُ إِلاَّ تَعْجِيلُ النَّظَرِ فِيهِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ، لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (مزارعة 4)

مُزَارَعَةٌ -4

الضَّمَانُ فِي الْمُزَارَعَةِ

37- الْمُزَارِعُ أَمِينٌ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَحْصُولٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ أَمِينًا، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَحْصُولٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إِذَا هَلَكَ بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، كَمَا فِي سَائِرِ عُقُودِ الْأَمَانَاتِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ قَصَّرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ.

وَإِذَا قَصَّرَ فِي سَقْيِ الْأَرْضِ حَتَّى هَلَكَ الزَّرْعُ بِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ إِذَا كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً لِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِيهَا، وَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُ بِالتَّقْصِيرِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ لِعَدَمِ إِيجَابِهِ عَلَيْهِ فِيهَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَكَّارٌ تَرَكَ السَّقْيَ عَمْدًا حَتَّى يَبِسَ ضَمِنَ وَقْتَ مَا تَرَكَ السَّقْيَ قِيمَتَهُ نَابِتًا فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّرْعِ قِيمَةٌ قُوِّمَتِ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.

وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ الْحَصَادَ فَتَغَافَلَ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَ، إِلاَّ أَنْ يُؤَخِّرَ تَأْخِيرًا مُعْتَادًا.

وَإِنْ تَرَكَ تَأْخِيرَ الزَّرْعِ حَتَّى أَكَلَهُ الدَّوَابُّ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، هَذَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لِأَنَّ الْحِفْظَ بَعْدَهُ لَيْسَ عَلَى الْمُزَارِعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

مَا يُفْسَخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ

38- يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بِالْعُذْرِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَبِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَدَلَالَتِهِ، وَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَبِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَبِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْضِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الْعُذْرُ الِاضْطِرَارِيُّ الَّذِي يَحُولُ دُونَ مُضِيِّ الْعَقْدِ:

الْعُذْرُ الِاضْطِرَارِيُّ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُزَارِعِ.

أ- الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ:

39- أَمَّا الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ الدَّيْنُ الْفَادِحُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَضَاءَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَهَذَا، بِيعَتِ الْأَرْضُ لِسَدَادِ هَذَا الدَّيْنِ وَفُسِخَ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إِذَا أَمْكَنَ فَسْخُهُ، بِأَنْ كَانَ قَبْلَ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، أَوْ بَعْدَهَا وَلَكِنَّ الزَّرْعَ بَلَغَ الْحَصَادَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِرَبِّ الْأَرْضِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُهُ، فَيَبِيعُ الْقَاضِي الْأَرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَفْسَخُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ، وَلَا تَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْعُذْرِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ بِأَنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِلاَّ بَعْدَ بُلُوغِ الزَّرْعِ الْحَصَادَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْطَالَ حَقِّ الْمُزَارِعِ، وَفِي الِانْتِظَارِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ تَأْخِيرَ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِلْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى.

فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مَحْبُوسًا بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ حَبْسِهِ إِلَى غَايَةِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُ وَهُوَ غَيْرُ مُمَاطِلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ بَيْعِ الْأَرْضِ شَرْعًا، وَالْمَمْنُوعُ مَعْذُورٌ، فَإِذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى الْحَبْسِ مَرَّةً أُخْرَى لِيَبِيعَ أَرْضَهُ وَيُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلاَّ فَيَبِيعُ الْقَاضِي.

ب- الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُزَارِعِ:

40- وَأَمَّا الْعُذْرُ الِاضْطِرَارِيُّ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُزَارِعِ فَنَحْوُ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنِ الْعَمَلِ، وَنَحْوُ السَّفَرِ الْبَعِيدِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَنَحْوُ تَرْكِهِ حِرْفَتَهُ إِلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ مِنَ الْحِرَفِ مَا لَا يُغْنِي مِنْ جَوْعٍ فَيَكُونُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

ثَانِيًا: فَسْخُ الْمُزَارَعَةِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً

41- تَنْفَسِخُ الْمُزَارَعَةُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الْفَسْخِ أَوِ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ.

أَمَّا الدَّلَالَةُ: فَكَأَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ بِسَبِيلِ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْمُضِيِّ فِيهِ بِدُونِ عُذْرٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْهُ دَلَالَةً، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

ثَالِثًا: انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ:

42- إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمُحَدَّدَةُ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فُسِخَ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا إِذَا انْقَضَتْ فَقَدِ انْتَهَى الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْنَى الِانْفِسَاخِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

رَابِعًا: مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ:

43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تُفْسَخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ صَاحِبُ الْأَرْضِ، أَوِ الْمُزَارِعُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ أَمْ كَانَتْ بَعْدَهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا أَمْ بَلَغَ الْحَصَادَ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ أَفَادَ الْحُكْمَ لِلْعَاقِدِ خَاصَّةً دُونَ وَارِثِهِ، لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَإِنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقَالُوا: إِنَّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُزَارِعِ مُتَابَعَةَ الْعَمَلِ إِذَا كَانَ الْمُزَارِعُ هُوَ الْمُتَوَفَّى، وَكَانَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُزَارِعُ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ ذَلِكَ.

خَامِسًا: اسْتِحْقَاقُ أَرْضِ الْمُزَارَعَةِ

44- إِذَا اسْتُحِقَّتْ أَرْضُ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ زِرَاعَتِهَا أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ وَفُسِخَ الْعَقْدُ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ عَلَى الَّذِي دَفَعَهَا إِلَيْهِ لِيَزْرَعَهَا، حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَمِلَ فِيهَا بَعْضَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَسْبِقُ الزَّرْعَ كَالْحَرْثِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّسْمِيدِ بِالسَّمَادِ.

وَلَوِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الزَّرْعِ وَقَبْلَ الْحَصَادِ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْلَعَا الزَّرْعَ، وَخُيِّرَ الْمُزَارِعُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ الزَّرْعِ عَلَى حَالِهِ، وَيَكُونَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً، وَبَيْنَ تَضْمِينِ الَّذِي دَفَعَ الْأَرْضَ نِصْفَ قِيمَةِ الزَّرْعِ نَابِتًا وَتَرَكَ لَهُ الزَّرْعَ كُلَّهُ.

وَيَضْمَنُ الْمُسْتَحِقُّ نُقْصَانَ الْأَرْضِ لِلزَّارِعِ خَاصَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي دَفَعَ الْأَرْضَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ- وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الزَّارِعَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الزَّارِعَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْفَسْخِ

الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ زَرْعِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.

أ- الْفَسْخُ قَبْلَ الزَّرْعِ:

45- إِذَا كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الزَّرْعِ فَإِنَّ الْعَامِلَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، أَيًّا كَانَ سَبَبُ الْفَسْخِ أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ أَمْ كَانَ بِدَلَالَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ أَثَرَ الْفَسْخِ يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ لَا فِي الْمَاضِي، فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ هُوَ الْحِصَّةُ الْمُسَمَّاةُ، وَهِيَ بَعْضُ نَمَاءِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ، فَلَا يَجِبُ لِلْعَامِلِ أَيُّ شَيْءٍ.

وَقِيلَ: إِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ هُوَ حُكْمُ الْقَضَاءِ.

فَأَمَّا دِيَانَةً فَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ.

إِرْضَاءُ الْعَامِلِ فِيمَا لَوِ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْرِيرَ وَهُوَ حَرَامٌ.

ب- الْفَسْخُ بَعْدَ الزَّرْعِ

أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ مَا زُرِعَتِ الْأَرْضُ، فَإِنَّ هَذَا الْفَسْخَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْفَسْخُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ:

46- إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَبُلُوغِهِ مَبْلَغَ الْحَصَادِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ يُقْسَمُ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَسْخُ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ:

47- أَمَّا إِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ بِأَنْ كَانَ لَا زَالَ بَقْلًا، فَإِنَّ الزَّرْعَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا كَالْحَالَةِ الْأُولَى.وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَسْخُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا.

وَوَجْهُ قِسْمَةِ الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، فَبَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ، وَوَجْهُ كَوْنِ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا مَعًا فِيمَا بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ أَنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا مَعًا.

أَمَّا وَجْهُ وُجُوبِ أَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ: فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، وَفِي التَّرْكِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّرْكُ بِنِصْفِ أَجْرِ الْمِثْلِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

وَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ إِذْنِ الْآخَرِ وَبِغَيْرِ أَمْرٍ مِنَ الْقَاضِي كَانَ مُتَطَوِّعًا وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْمُزَارِعِ.

أَمَّا لَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَخْذَهُ بَقْلًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ:

الْأَوَّلُ: قَلْعُ الزَّرْعِ وَقِسْمَتُهُ بَيْنَهُمَا.

الثَّانِي: إِعْطَاءُ الْمُزَارِعِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الزَّرْعِ وَتَرْكُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَبْلُغَ الْحَصَادَ.

الثَّالِثُ: الْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُزَارِعِ بِحِصَّتِهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

نَصَّ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.

أَثَرُ مَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ

إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الَّذِي مَاتَ هُوَ صَاحِبَ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُزَارِعَ.

أ- مَوْتُ صَاحِبِ الْأَرْضِ:

48- إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ مَا زَالَ بَقْلًا، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ حَتَّى وَقْتِ الْحَصَادِ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ فِي التَّرْكِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ نَظَرًا وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَفِي الْقَلْعِ إِضْرَارًا بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُزَارِعُ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِبَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْرِيرًا حَتَّى الْحَصَادِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.

ب- مَوْتُ الْمُزَارِعِ

49- أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي مَاتَ هُوَ الْمُزَارِعَ، وَكَانَ الزَّرْعُ لَا يَزَالُ بَقْلًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْحَقُّ فِي الْحُلُولِ مَحَلَّ مُوَرِّثِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِ الشَّرْطِ الَّذِي تَمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ رَضِيَ ذَلِكَ الْأَخِيرُ أَمْ أَبَى، لِأَنَّ فِي قَلْعِ الزَّرْعِ إِضْرَارًا بِهِمْ وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ فَائِدَةٌ لَهُ.

وَإِذَا تُرِكَ الزَّرْعُ تَحْتَ أَيْدِي الْوَرَثَةِ لَا أَجْرَ لَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى حُكْمِ عَقْدِ مُوَرِّثِهِمْ تَقْدِيرًا، فَكَأَنَّهُ يَعْمَلُ هُوَ، وَإِذَا عَمِلَ هُوَ كَانَ عَمَلُهُ بِدُونِ أَجْرٍ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَمَلُهُمْ.

وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ تَقْدِيرًا بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ حَتَّى لَا يُضَارُوا مِنَ الْفَسْخِ.

فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَكَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ نَفْسُ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ.وَهِيَ:

- قِسْمَةُ الزَّرْعِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.

- إِعْطَاءُ الْوَرَثَةِ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ مِنَ الزَّرْعِ بَقْلًا.

- الْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِمْ، لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

الِاخْتِلَافُ حَوْلِ شَرْطِ الْأَنْصِبَاءِ أَوْ صَاحِبِ الْبَذْرِ:

50- إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَوِ الْمُزَارِعُ أَوْ مَاتَا جَمِيعًا، فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا مَعَ وَرَثَةِ الْآخَرِ فِي شَرْطِ الْأَنْصِبَاءِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ قَوْلَ صَاحِبِ الْبَذْرِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّ الْأَجْرَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْمَشْرُوطِ- وَأَنْكَرَهَا هُوَ- كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآجِرِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةُ بِبَيِّنَةٍ.

وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْبَذْرِ مَنْ هُوَ؟ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَقَوْلَ وَرَثَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَارِجَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ أَوْ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ خَارِجٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.

وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا، فَأَقَامَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ، وَأَقَامَ الْمُزَارِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.

وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ.

التَّوْلِيَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةُ فِيهَا:

51- إِذَا دَفَعَ شَخْصٌ أَرْضَهُ إِلَى آخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُزَارِعُ بِدَوْرِهِ إِلَى آخَرَ مُزَارَعَةً أَوْ يُشَارِكَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لِلْمَزَارِعِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَإِمَّا أَلاَّ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ مُزَارَعَةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ.

وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ لِيَزْرَعَهَا، فَإِذَا خَالَفَ وَأَعْطَاهَا لآِخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُنَاصَفَةً- وَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ- كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ وَالْمُزَارِعِ الثَّانِي نِصْفَيْنِ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ بَذْرَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُضَمِّنُ الثَّانِيَ خَاصَّةً، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ غَرَّهُ.

ب- إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَأَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا آخَرَ بِبَذْرٍ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْبَذْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَعَمِلَا عَلَى هَذَا، فَجَمِيعُ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ لَهُ الْمُزَارِعُ وَحْدَهُ ثَمَنَ بَذْرِهِ، وَضَمَانُ النُّقْصَانِ فِي الْأَرْضِ عَلَى الِاثْنَيْنِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَيُشَارِكَ مَنْ أَحَبَّ- وَكَانَتِ الْمِلَّةُ بِحَالِهَا- فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، نِصْفُهُ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الرُّبُعُ.

ج- إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَدَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً لآِخَرَ بِالنِّصْفِ جَازَتْ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ. الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ

الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْوَكَالَةُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ:

52- إِذَا وَكَّلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ رَجُلًا بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً، جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا لَهُ وَيَشْتَرِطَ أَيَّةَ حِصَّةٍ مِنَ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حِينَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ قَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْحِصَّةِ مَعَ الْمُزَارِعِ، فَبِأَيَّةِ حِصَّةٍ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ.

وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَابَى فِيهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ.

فَإِنْ دَفَعَهَا مَعَ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْوَكِيلِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، أَيْ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ بَاطِلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَارَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ بِمُخَالَفَتِهِ الْمُوَكِّلَ، وَغَاصِبُهَا إِذَا دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ.

وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُزَارِعِ نُقْصَانَ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُزَارِعَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا ضَمِنَ، لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ.وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ: يَضْمَنُ الْمُزَارِعُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَغَاصِبٌ وَالْعَقَارُ عِنْدَهُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُزَارِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِلْغُرُورِ.

فَإِنْ كَانَ حَابَى فِيهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ نَصِيبَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ الْأَرْضَ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ نَصِيبُ رَبِّ الْأَرْضِ بِعَقْدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنَ الْوَكِيلِ.

وَإِذَا وَكَّلَهُ وَلَمْ يُحَدِّدْ لَهُ مُدَّةً لِلْمُزَارَعَةِ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً سَنَتَهُ الْأُولَى، فَإِنْ دَفَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ هَذِهِ السَّنَةَ الْأُولَى، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ قِيَاسًا.

وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ عَنِ الْوَقْتِ فَفِي أَيِّ سَنَةٍ وَفِي أَيِّ مُدَّةٍ دَفَعَهَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ فَجَازَ.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ دَفْعَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنَ السَّنَةِ عَادَةً وَالتَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ فِي الْوَكَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا دَخَلَهُ التَّقْيِيدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَهُوَ وَقْتُ الزِّرَاعَةِ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوْكِيلُ مِنَ الْمُزَارِعِ:

53- إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ آخَرَ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُوَكِّلِ كَانَتِ الْوَكَالَةُ جَائِزَةً وَتَسْرِي أَحْكَامُ الْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى هُنَا أَيْضًا، أَيْ أَنَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ، كَمَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالشِّرْعِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ.

هَذَا إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ مُطْلَقًا عَنِ الْقُيُودِ، أَمَّا إِذَا قَيَّدَ الْمُوَكِّلُ- سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَمِ الْمُزَارِعُ- وَكِيلَهُ بِقَيْدٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الِالْتِزَامُ بِهِ فَإِذَا خَالَفَهُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِذَةً فِي حَقِّهِ، لِأَنَّهَا تُعْتَبَرُ مُوَافَقَةً ضِمْنِيَّةً، فَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

فَلَوْ وَكَّلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ رَجُلًا لِيَدْفَعَ لَهُ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ مَثَلًا، فَدَفَعَهَا الْوَكِيلُ لَهُ بِالنِّصْفِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ هُنَا يَكُونُ قَدْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، وَلَكِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِخَيْرِ الْمُوَكِّلِ وَمَصْلَحَتِهِ، فَقَدْ عَقَدَ لَهُ بِالنِّصْفِ بَدَلًا مِنَ الثُّلُثِ.

لِذَلِكَ لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ إِذَا أَجَازَ الْمُوَكِّلُ تَصَرُّفَ وَكِيلِهِ الْمَخَالِفِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَهَذَا كُلُّهُ طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْوَكَالَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَةٌ).

الْكَفَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ

54- إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ لآِخَرَ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَضَمِنَ رَجُلٌ آخَرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ الزِّرَاعَةَ مِنَ الزَّارِعِ كَانَ الضَّمَانُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ عَامِلٌ وَالْمُزَارَعَةُ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ لِلْمَضْمُونِ لَهُ.

فَإِذَا كَانَ الضَّمَانُ شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ كَانَتْ فَاسِدَةً، لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ لِلْأَرْضِ، فَتَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَلَ الضَّمَانُ.

وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ جَازَ الضَّمَانُ وَالْمُزَارَعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَقَدْ صَارَتْ إِقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي تَسْلِيمِهِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ مَقْصُودًا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ. وَإِنْ تَعَنَّتَ الزَّارِعُ أَخَذَ الْكَفِيلَ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِإِيفَاءِ مَا كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ.

فَإِذَا عَمِلَ الْكَفِيلُ وَبَلَغَ الزَّرْعُ الْحَصَادَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُزَارِعُ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِي إِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَيَسْتَحِقُّ الْكَفِيلُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ كَفَلَهُ بِأَمْرِهِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَلَ بِأَمْرِهِ وَقَدْ أَوْفَاهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَمِثْلُهُ هُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ.

وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُ الْمُزَارِعِ إِذَا كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ الْعَامِلُ هُنَا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهُوَ عَمَلُ الْمُزَارِعِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْكَفِيلِ إِبْقَاءُ ذَلِكَ، فَيَبْطُلُ الضَّمَانُ وَتَبْطُلُ مَعَهُ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا لَوْ كَانَ شَرَطَا فِيهَا.

وَإِذَا ضَمِنَ الْكَفِيلُ لِرَبِّ الْأَرْضِ حِصَّتَهُ مِنَ الْخَارِجِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ أَمْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ، لِأَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنَ الْخَارِجِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ.

وَالْكِفَالَةُ بِالْأَمَانَةِ لَا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

مُزَارَعَةُ الْأَرْضِ الْعَشْرِيَّةِ

55- لَوْ زَارَعَ بِالْأَرْضِ الْعَشْرِيَّةِ فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالْإِجَارَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

الْمُزَارَعَةُ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ

56- إِذَا رَهَنَ إِنْسَانٌ عِنْدَ آخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُرْتَهِنُ زَارَعَهُ الرَّاهِنُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ وَالْبَذْرُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَيَقْتَسِمَانِ الْخَارِجَ عَلَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وَهُوَ الدَّائِنُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ، وَالْمُرْتَهِنُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنَ الرَّاهِنِ بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَلْزَمُ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَدْ طَرَأَ الِاثْنَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ الثَّانِي رَافِعًا لِلْأَوَّلِ، فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا رَهْنًا.

وَإِنْ مَاتَ الْمَدِينُ الرَّاهِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنِ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ لِبُطْلَانِ عَقْدِ الرَّهْنِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَدِينِ الرَّاهِنِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ جَائِزَةً أَيْضًا وَلَكِنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ، وَيَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَ الْأَرْضَ فِي الرَّهْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الزَّرْعِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَا يَرِدُ عَلَى عَمَلِ الْمُزَارِعِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

أَخْذُ الْمَأْذُونِ لَهُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً

57- يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً، لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ خَارِجٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ.

وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ آجِرٌ نَفْسَهُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِالدَّرَاهِمِ جَازَ فَكَذَا هَذَا.

اشْتِرَاطُ عَدَمِ بَيْعِ النَّصِيبِ أَوْ هِبَتِهِ:

58- إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ أَوْ يَهَبَهُ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (مقادير 3)

مَقَادِيرُ -3

مَا يُنَاطُ بِالْمَرْحَلَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:

85- أَنَاطَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَرَاحِلِ السَّفَرَ الْمُثْبِتَ لِلرُّخَصِ كَالْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ وَجَمْعِ الصَّلَوَاتِ

وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ الْمُثْبِتَ لِلرُّخَصِ مَا كَانَ قَدْرَ مَرْحَلَتَيْنِ وَقَدَّرُوهُ بِسِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، أَوْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَهِيَ- أَيْ مَسَافَةُ السَّفَرِ- بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ مَرْحَلَتَانِ أَيْ سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ.وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَالْعِبْرَةُ بِالْأَرْبَعَةِ الْبُرُدِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَطَوِيلُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةً، قَالَ وَهُوَ مَرْحَلَتَانِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ.

وَقَالَ الْمَقْدِسِيُّ: يَبْلُغُ سَفَرُهُ ذِهَابًا سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا تَقْرِيبًا.وَهِيَ يَوْمَانِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الْمُثْبِتِ لِلرُّخَصِ هِيَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ قَرِيبٌ مِنَ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا عِبْرَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمَسَافَةِ، بَلِ الْعِبْرَةُ لِلزَّمَنِ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَلَا اعْتِبَارَ بِالْفَرَاسِخِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

فَالْمَرْحَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَسَافَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تُسَاوِي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا هَاشِمِيًّا، أَوْ بَرِيدَيْنِ، أَوْ ثَمَانِيَةَ فَرَاسِخَ، وَكُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَرْحَلَةُ سِتَّةُ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ سَبْعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، فَالْمَرْحَلَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَسِيرَةُ يَوْمٍ كَامِلٍ مُعْتَدِلٍ، أَوْ لَيْلَةٍ كَامِلَةٍ مُعْتَدِلَةٍ بِسَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُثَقَّلَةِ بِالْأَحْمَالِ، وَالْيَوْمُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غِيَابِهَا، وَيُغْتَفَرُ وَقْتُ النُّزُولِ الْمُعْتَادِ لِلرَّاحَةِ أَوْ إِصْلَاحِ الْمَتَاعِ أَوِ الصَّلَاةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمَرْحَلَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ مِنْ أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ سَفَرُ كُلِّ الْيَوْمِ إِلَى اللَّيْلِ، بَلْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى الزَّوَالِ فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّرُوا ذَلِكَ فِي مِصْرَ بِسَبْعِ سَاعَاتٍ إِلاَّ رُبُعًا، وَفِي الشَّامِ بِسِتِّ سَاعَاتٍ وَثُلُثَيِ السَّاعَةِ.

الْمِيلُ:

86- الْمِيلُ فِي اللُّغَةِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مِقْدَارُ مَدَى الْبَصَرِ مِنَ الْأَرْضِ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَعِنْدَ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْهَيْئَةِ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَعِنْدَ الْمُحْدَثِينَ أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ أَلْفَ إِصْبَعٍ، وَالْإِصْبَعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ بَطْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَلَكِنَّ الْقُدَمَاءَ يَقُولُونَ: الذِّرَاعُ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ أُصْبُعًا وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخِلَافُ فِي الذِّرَاعِ وَلَيْسَ فِي الْمِيلِ.

وَالْمِيلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ، ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الْمِيلُ أَلْفُ بَاعٍ، وَالْبَاعُ ذِرَاعَانِ فَيَكُونُ الْمِيلُ أَلْفَيْ ذِرَاعٍ وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمِيلَ أَلْفَا ذِرَاعٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَخَمْسُمِائَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِيلُ الْهَاشِمِيُّ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْيَدِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ.

مَا يُنَاطُ بِالْمِيلِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:

87- يُنِيطُ الْفُقَهَاءُ بِالْمِيلِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَهَمُّهَا مَسَافَةُ السَّفَرِ الْمُثْبِتِ لِلرُّخَصِ عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْفَرْسَخِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي فَرْسَخٌ.

كَمَا يُعَلِّقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمِيلِ مَسَافَةَ بُعْدِ الْمَاءِ لِإِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبُعْدَ عَنِ الْمَاءِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ هُوَ مِيلٌ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: مَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الْكَافِي لِطَهَارَتِهِ لِصَلَاةِ تَفُوتُ إِلَى خَلْفٍ لِبُعْدِهِ وَلَوْ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ مِيلًا أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ.تَيَمُّمٌ.

وَقَدَّرَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الْمَسَافَةَ بِمِيلَيْنِ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ أَوْ تَيَقَّنَ عَدَمَ وُجُودِ الْمَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ طَلَبُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ.

وَقَدَّرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْمَسَافَةَ بِنِصْفِ فَرْسَخٍ، وَهُوَ مِيلٌ وَنِصْفٌ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَعَلَّهُ يَقْرُبُ مِنْ نِصْفِ فَرْسَخٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (نية 1)

نِيَّةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَوَى، وَالِاسْمُ النِّيَّةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ اللُّغَوِيِّينَ، وَالتَّخْفِيفُ فِيهَا لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ.

وَتَأْتِي النِّيَّةُ لِمَعَانٍ، مِنْهَا: الْقَصْدُ، فَيُقَالُ: نَوَى الشَّيْءَ يَنْوِيهِ نِيَّةً: قَصَدَهُ، كَانْتَوَاهُ وَتَنَوَّاهُ، وَمِنْهَا: الْحِفْظُ، فَيُقَالُ: نَوَى اللَّهُ فُلَانًا: حَفِظَهُ.

وَالنِّيَّةُ: الْوَجْهُ الَّذِي يُذْهَبُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي تَنْوِيهِ، وَتَوْجِيهُ النَّفْسِ نَحْوَ الْعَمَلِ.

وَالنِّيَّةُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ.وَدَخَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْهِيَّاتُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ كَفُّ النَّفْسِ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ الْعُزُومِ وَالْإِرَادَاتِ لَا مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ.

وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ، أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ، أَوْ نَحْوِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَزْمُ:

2- الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَزَمَ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَالُ: عَزَمَ عَلَى الشَّيْءِ وَعَزَمَهُ عَزْمًا: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.

وَالْعَزْمُ فِي الِاصْطِلَاحِ: جَزْمُ الْإِرَادَةِ بَعْدَ تَرَدُّدٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَزْمِ: أَنَّهُمَا مَرْحَلَتَانِ مِنْ مَرَاحِلِ الْإِرَادَةِ، وَالْعَزْمُ اسْمٌ لِلْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالنِّيَّةُ اسْمٌ لِلْمُقْتَرِنِ بِالْفِعْلِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْمَنْوِيِّ.

ب- الْإِرَادَةُ:

3- الْإِرَادَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَرَادَ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ وَالِاخْتِيَارُ وَالْمَشِيئَةُ.وَيُقَالُ: أَرَادَ الشَّيْءَ: شَاءَهُ وَأَحَبَّهُ.

وَالْإِرَادَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْحَيِّ حَالًا يَقَعُ مِنْهُ الْفِعْلُ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِلِ الْإِرَادَةِ.

الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّيَّةِ:

يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، مِنْهَا أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى تَفْصِيلِيَّةٌ:

أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلنِّيَّةِ:

مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ:

4- أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا مَطْلُوبَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ:

وَلَمَّا كَانَ الْمُبَاحُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.

وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِمَّا مَطْلُوبَةُ التَّرْكِ أَوْ مَطْلُوبَةُ الْفِعْلِ.فَالْمَطْلُوبَةُ التَّرْكِ- وَهِيَ النَّوَاهِي- فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا، فَضْلًا عَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، إِلاَّ إِذَا شَعَرَ الْمُكَلَّفُ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَنَوَى تَرْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لِأَجْلِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ.

وَالْمَطْلُوبَةُ الْفِعْلِ- وَهِيَ الْأَوَامِرُ- فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْ حَيْثُ افْتِقَارُهَا إِلَى النِّيَّةِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ، كَأَدَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الْمُحَصِّلَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِلِ لَهَا، فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، كَالصَّلَوَاتِ وَالطَّهَارَاتِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُهُ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَالْخُضُوعِ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي افْتِقَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ إِلَى النِّيَّةِ، بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

أ- افْتِقَارُ الْعِبَادَاتِ إِلَى النِّيَّةِ:

5- الْعِبَادَةُ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُلْتَبِسَةٍ بِالْعَادَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِصُورَتِهَا، وَلَا تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا.

وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَلْتَبِسُ بِالْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالضَّحَايَا وَالصَّدَقَةِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْجِهَادِ وَالْعِتْقِ؛ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.

ب- افْتِقَارُ الْعُقُودِ إِلَى نِيَّةٍ:

6- الْعَقْدُ إِذَا كَانَ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَالْفُسُوخِ، فَإِنَّ انْعِقَادَهُ بِالْكِنَايَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا فِي انْعِقَادِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ.

وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ، بِأَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَهُوَ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْإِشْهَادُ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ.

الثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

حُكْمُ النِّيَّةِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَوْ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟

فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ- كَمَا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ- وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ.

وَيَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا رُكْنٌ فِيهَا.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الْأَصَحِّ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوْطِنِهِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

فَضِيلَةُ النِّيَّةِ:

8- النِّيَّةُ هِيَ مَحَطُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النِّيَّةِ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ اهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِالنِّيَّةِ فَأَنَاطَ قَبُولَ الْعَمَلِ وَرَدَّهُ وَتَرْتِيبَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالنِّيَّةِ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- قَالَ الْغَزَالِيُّ إِنَّ الْمَرْءَ يُشْرِكُ فِي مَحَاسِنِ الْعَمَلِ وَمَسَاوِيهِ بِالنِّيَّةِ، وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ».

ب- إِنَّ الْهَمَّ بِفِعْلِ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ فِي ذَاتِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» فَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعَائِقٍ.

وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ مِنْ أَعْذَارِهَا- إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ حُضُورَهَا لَوْلَا الْعُذْرُ- يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهَا.

ج- إِنَّ النِّيَّةَ تُعَظِّمُ الْعَمَلَ وَتُصَغِّرُهُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ».

د- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِينُ الْعَبْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ كَتَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اعْلَمْ أَنَّ عَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، فَمَنْ تَمَّتْ نِيَّتُهُ تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ نَقَصَتْ نَقَصَ بِقَدْرِهِ.

هـ- قَالَ الْغَزَالِيُّ: عِمَادُ الْأَعْمَالِ النِّيَّاتُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَالْمَرْءُ يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُرَدُّ عَمَلُهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ.

كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ- أَحْسَبُهُ قَالَ-: فَهُوَ سَارِقٌ».

ز- إِنَّ النِّيَّةَ تَقْلِبُ الْمُبَاحَاتِ إِلَى وَاجِبَاتٍ وَمَنْدُوبَاتٍ لِيَنَالَ النَّاوِي عَلَيْهَا الثَّوَابَ بِنِيَّتِهِ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لُبْسَ الثِّيَابِ هُوَ مُبَاحٌ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يُحَوِّلَ هَذَا الْمُبَاحَ إِلَى وَاجِبٍ نَوَى بِلُبْسِهِ الثِّيَابَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ.فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَإِنَّهُ يَضُمُّ إِلَى نِيَّةِ الْوَاجِبِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي إِظْهَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» فَيَنْوِي بِذَلِكَ مُبَادَرَتَهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَيَنْوِي بِلُبْسِهِ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْكِسَارَ وَالتَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ إِلَيْهِ، وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ- وَهُوَ يُقْدِرُ عَلَيْهِ- دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا».

ثَوَابُ النِّيَّةِ وَحْدَهَا، وَمَعَ الْعَمَلِ:

9- نَاوِي الْقُرْبَةِ يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ نِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعَمَلِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى أَكْثَرِ الْأَعْمَالِ إِلاَّ إِذَا نَوَى؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مُنْصَرِفَةٌ بِنَفْسِهَا وَصُورَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُثَابُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ عَنِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ، أَيْ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِنَفْسِهِ وَصُورَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَحْدَهَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ أُثِيبَ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْوِيَّ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَجْرُهُ- أَيْ مَعَ النِّيَّةِ- أَعْظَمَ وَثَوَابُهُ أَوْفَرَ، وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ هِيَ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتِ وَسَائِلُ.

مَحَلُّ النِّيَّةِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَلْبُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْمَيْلِ وَالنُّفْرَةِ وَالِاعْتِقَادِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْقَصْدُ، وَمَحَلُّ الْقَصْدِ الْقَلْبُ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَحْضُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وَلَمْ يُضِفِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى الدِّمَاغِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فَصَّلَهُ الْحَطَّابُ فَقَالَ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَقَلُّ الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَكْثَرُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ لَا فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ وَالْمَيْلَ وَالنُّفْرَةَ وَالِاعْتِقَادَ كُلَّهَا أَعْرَاضُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ، فَحَيْثُ وُجِدَتِ النَّفْسُ وُجِدَ الْجَمِيعُ قَائِمًا بِهَا، فَالْعَقْلُ سَجِيَّتُهَا، وَالْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ صِفَاتُهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْلُ وَبَطَلَتِ الْعُلُومُ وَالْفِكْرُ وَأَحْوَالُ النَّفْسِ.

ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لَزِمَ أَنَّ النَّفْسَ فِي الْقَلْبِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي الْقَلْبِ كَانَتِ النِّيَّةُ وَأَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَجَمِيعُ أَحْوَالِ النَّفْسِ فِي الْقَلْبِ.

وَأَضَافَ الْمَازِرِيُّ قَوْلَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَظَوَاهِرُ السَّمْعِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ..أَيْ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهِيَ: مَنْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةً أَوْ مُوضِحَةً خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ.قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ دِيَةُ الْعَقْلِ وَدِيَةُ الْمَأْمُومَةِ أَوِ الْمُوضِحَةِ، لَا يَدْخُلُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ الرَّأْسُ عِنْدَهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْعِ، فَهُوَ كَمَنْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ فِي ضَرْبَةٍ.وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنَّمَا لَهُ دِيَةُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرَّأْسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفَلَاسِفَةِ، وَهُوَ كَمَنْ أَذْهَبَ بَصَرَ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَهُ فِي ضَرْبَةٍ، وَهَذَا فِي الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَيَقْتَصُّ مِنْهُ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ ذَهَبَ عَقْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَدِيَةُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي الْمَأْمُومَةِ لَهُ دِيَتُهَا وَدِيَةُ الْعَقْلِ.

التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ:

11- يَتَرَتَّبُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: لَا يَكْفِي اللَّفْظُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ الظُّهْرَ وَبِلِسَانِهِ الْعَصْرَ، أَوْ بِقَلْبِهِ الْحَجَّ وَبِلِسَانِهِ الْعُمْرَةَ أَوْ عَكْسَهُ، صَحَّ لَهُ مَا فِي الْقَلْبِ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ نِيَّتَهُ فَالْعِبْرَةُ النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لَا اللَّفْظُ، إِنْ وَقَعَ سَهَوَا، وَأَمَّا عَمْدًا فَمُتَلَاعِبٌ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ نِيَّةِ الْقَلْبِ التَّلَفُّظُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.

ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلتَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ سُنَّةٌ لِيُوَافِقَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ الْمُوَسْوَسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّلَفُّظُ لِيَذْهَبَ عَنْهُ اللَّبْسُ.

شُرُوطُ النِّيَّةِ:

12- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- لِلنِّيَّةِ مَا يَلِي:

أ- الْإِسْلَامُ، فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْكَافِرِ.

ب- التَّمْيِيزُ، فَلَا تَصِحُّ عِبَادَةُ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَلَا مَجْنُونٍ.

ج ـ الْعِلْمُ بِالْمَنْوِيِّ، فَمَنْ جَهِلَ فَرِيضَةَ الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَّ فَإِنَّهُمْ صَحَّحُوا الْإِحْرَامَ الْمُبْهَمَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَحْرَمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

د- أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْمَنْوِيِّ، فَلَوِ ارْتَدَّ النَّاوِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ بَطُلَ.

وَمِنَ الْمُنَافِي نِيَّةُ الْقَطْعِ، فَلَوْ نَوَى قَطْعَ الْإِيمَانِ صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَالِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ نِيَّةِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ لَا تُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، وَكَذَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ وَالِاعْتِكَافَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَا يُبْطِلُ قَطْعُ النِّيَّةِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَنَحْوِهَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا.

وَمِنَ الْمُنَافِي التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى يَوْمَ الشَّكِّ إِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ بِصَائِمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ صَائِمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَمِنَ الْمُنَافِي: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْوِيِّ إِمَّا عَقْلًا وَإِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَةً.

فَمِنَ الْأَوَّلِ: نَوَى بِوُضُوئِهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً وَأَنْ لَا يُصَلِّيَهَا، لَمْ تَصِحَّ لِتَنَاقُضِهَا.

وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِهِ الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَحْرِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ.

وَمِنَ الثَّالِثِ: نَوَى بِهِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَهُوَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، أَوِ الطَّوَافَ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ.

هـ- أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُنَجَّزَةً، فَلَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً، فَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ تَصِحَّ.

وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ صَحَّتْ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِالْمَشِيئَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ.وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطُلَ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنِّيَّةِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ، هِيَ:

أ- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُكْتَسَبِ النَّاوِي، فَإِنَّهَا مُخَصِّصَةٌ، وَتَخْصِيصُ غَيْرِ الْمَعْقُولِ لِلْمُخَصِّصِ مُحَالٌ.

ب- أَنْ يَكُونَ الْمَنَوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَهُ، فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ تَكُونُ فِيهِ النِّيَّةُ مُتَرَدِّدَةً فَلَا تَنْعَقِدُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَلَا غُسْلُهُ قَبْلَ انْعِقَادِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ وَلَا مَظْنُونَيْنِ.

ج- أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا عَنِ النِّيَّةِ لَكَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ.

وَقْتُ النِّيَّةِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ هُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، فَيَجِبُ- كَمَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ- أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّلِ كُلِّ عِبَادَةٍ إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ خَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَأَضَافُوا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ الْحَقِيقِيِّ وَالنِّسْبِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ لِلْعِبَادَاتِ، وَبِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِاسْتِصْحَابِهَا مِنْ أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا وَغَيْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ- بَعْدَ ذَلِكَ- تَفْصِيلٌ:

14- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: الْأَصْلُ أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ، فَقَالُوا فِي الصَّلَاةِ: لَوْ نَوَى قَبْلَ الشُّرُوعِ..فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَ النِّيَّةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ...جَازَتْ صَلَاتُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ...كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي التَّجْنِيسِ: إِذَا تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ لِيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَسْجِدَ فَافْتَتَحَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَكْفِيهِ ذَلِكَ- هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ- لِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يُبْقِيهَا إِلَى وَقْتِ الشُّرُوعِ حُكْمًا- كَمَا فِي الصَّوْمِ- إِذَا لَمْ يُبَدِّلْهَا بِغَيْرِهَا.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَوْ سُئِلَ: أَيَّةُ صَلَاةٍ يُصَلِّي؟ يُجِيبُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ..فَهُوَ نِيَّةٌ تَامَّةٌ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى التَّأَمُّلِ لَا تَجُوزُ.

وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَقَدْ شَرَطُوا عَدَمَ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ لِصِحَّةِ تِلْكَ النِّيَّةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ الْمَشْيُ إِلَى مَقَامِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ أَوْ أَكْلٍ، أَوْ نَقُولُ: عَدُّ الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَفْعَالِهَا غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّيَّةِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلشُّرُوعِ، وَلَا يَكُونَ شَارِعًا بِمُتَأَخِّرَةٍ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِعَدَمٍ التَّجَزِّي...وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقِرَانِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.

وَأَمَّا النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ: فَمَحَلُّهَا عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّلِ السُّنَنِ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ لِيَنَالَ ثَوَابَ السُّنَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ.

وَقَالُوا: الْغُسْلُ كَالْوُضُوءِ فِي السُّنَنِ.

وَفِي التَّيَمُّمِ: يَنْوِي عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ.

وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ، فَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ مَا وَجَبَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ إِلاَّ أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ، فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا، كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.

وَهَلْ تَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الْأَدَاءِ؟ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ دَفَعَهَا بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَأَمَّا الصَّوْمُ: فَإِنْ كَانَ فَرْضًا- هُوَ أَدَاءُ رَمَضَانَ- جَازَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِمُقَارِنَةٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِمُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ إِلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ؛ تَيْسِيرًا عَلَى الصَّائِمِينَ.وَإِنْ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ أَدَاءِ رَمَضَانَ- مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ- فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْقِرَانُ.وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا فَكَرَمَضَانَ أَدَاءً.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (نية 3)

نِيَّةٌ -3

اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْأَدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ:

34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ الْأَدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا نَقَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ-: إِذَا عَيَّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا صَحَّ، نَوَى الْأَدَاءَ أَوِ الْقَضَاءَ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا يُسْتَعْمَلُ مَكَانَ الْآخَرِ، حَتَّى يَجُوزَ الْأَدَاءُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ لَهُ كَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا مَا لَا يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَا الْتِبَاسَ لِأَنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْإِمَامِ تُصَلَّى ظُهْرًا، وَأَمَّا مَا يُوصَفُ بِهِمَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، قَالُوا: لَا تُشْتَرَطُ أَيْضًا.قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ نَوَى الْأَدَاءَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ خُرُوجُهُ أَجْزَأَ، وَكَذَا عَكْسُهُ.

وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ بَعْدَمَا خَرَجَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ جَازَ، وَفِي الْجُمُعَةِ: يَنْوِيهَا وَلَا يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.

وَفِي التَّاتَارْخَانِيَّةِ: كُلُّ وَقْتٍ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى ظُهْرَ الْوَقْتِ مَثَلاً فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَ..الْمُخْتَارُ الْجَوَازُ.

وَاخْتَلَفُوا إِنْ كَانَتِ الْوَقْتِيَّةُ تَجُوزُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ فَرْضُ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ هُوَ الْمُخْتَارُ.

وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ أَنَّ الْأَدَاءَ يَصِحُّ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً، وَعَكْسُهُ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ، وَالْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْحَجُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ فِيهِ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْكَامِلَةَ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: تَعْيِينِ الصَّلَاةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِهَا، وَأَدَائِهَا، وَاسْتِشْعَارِ الْإِيمَانِ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ سَهَا عَنِ الْإِيمَانِ أَوْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ كَوْنِهَا أَدَاءً، أَوِ التَّقَرُّبِ بِهَا لَمْ تَفْسَدْ إِذَا عَيَّنَهَا لِاشْتِمَالِ التَّعْيِينِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي اشْتِرَاطِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاطُ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ فِي وَقْتِهِ تُخَالِفُ رُتْبَةَ تَدَارُكِ الْفَائِتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّمْيِيزِ.

وَالثَّانِي: تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَمَيَّزُ بِالْوَقْتِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ اشْتُرِطَ فِي الْمُؤَدَّاةِ نِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَالرَّابِعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطَانِ مُطْلَقًا، لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُجْتَهِدِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَصَوْمِ الْأَسِيرِ إِذَا نَوَى الْأَدَاءَ فَبَانَا بَعْدَ الْوَقْتِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَائِيُّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ أَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَضَاءَ كَالْجُمُعَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ الْأَدَاءِ إِذْ لَا يَلْتَبِسُ بِهَا قَضَاءٌ فَتَحْتَاجَ إِلَى نِيَّةٍ مُمَيِّزَةٍ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّوَافِلِ الَّتِي تُقْضَى فَهِيَ كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَوَى قَضَاءَ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَدَاءٌ أَوِ الْعَكْسَ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَطْعًا؛ لِتَلَاعُبِهِ.

وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ مِنْهَا دُونَ الْأَدَاءِ لِتَمْيِيزِهِ بِالْوَقْتِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّوْمِ الْخِلَافَ فِي نِيَّةِ الْأَدَاءِ.

وَبَقِيَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَا يُشْتَرَطَانِ فِيهِمَا، إِذْ لَوْ نَوَى بِالْقَضَاءِ الْأَدَاءَ لَمْ يَضُرَّهُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَفْسَدَهُ فِي صِبَاهُ أَوْ رِقِّهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ فَنَوَى الْقَضَاءَ، انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَدَاءُ.

وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ: فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مَحْدُودٌ بِالدَّفْنِ.

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى أَنَّهَا تَصِيرُ قَضَاءً إِذَا جَامَعَ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فِيهَا.

وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَيُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِيهَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ كَوْنِ الصَّلَاةِ حَاضِرَةً أَوْ قَضَاءً، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ أَدَاءٍ فِي حَاضِرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَلاَّهَا يَنْوِيهَا أَدَاءً فَبَانَ وَقْتُهَا قَدْ خَرَجَ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ وَتَقَعُ قَضَاءً.وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهَا قَضَاءً فَبَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا وَقَعَتْ أَدَاءً، وَيُصْبِحُ قَضَاءً بِنِيَّةِ أَدَاءٍ إِذَا بَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ، وَيَصِحُّ عَكْسُهُ إِذَا بَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ وَقَصْدِ مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ.

أَقْسَامُ النِّيَّةِ:

النِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالنِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ، وَأَنَّ الْحَقِيقِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةَ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا.

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الْأَفْعَالِ يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا نَوَى بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ.قَالُوا: لَوْ طَافَ طَالِبًا الْغَرِيمَ لَا يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ، وَحُكْمِيَّةٍ مَعْدُومَةٍ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعِبَادَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فِي أَوَّلِهَا، وَتَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ فِي بَقِيَّتِهَا لِلْمَشَقَّةِ فِي اسْتِمْرَارِهَا بِالْفِعْلِ، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: لَوْ وَزَنَ زَكَاتَهُ وَعَزَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ دَفَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ اكْتَفَى بِالْحُكْمِيَّةِ وَأَجْزَأَتْ.

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فُرُوعًا ثَلَاثَةً:

الْأَوَّلُ: تَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُنَافِي، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ فَخَاضَ بِهِمَا نَهْرًا وَمَسَحَ بِيَدَيْهِ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لَا يُجْزِئُهُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ.قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: يُرِيدُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ غَيْرَ الْوُضُوءِ بَلْ إِزَالَةَ الْقَشَبِ.وَقَالَ صَاحِبُ النُّكَتِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَنَّ كَمَالَ وُضُوئِهِ فَرَفَضَ نِيَّتَهُ، أَمَّا لَوْ بَقِيَ عَلَى نِيَّتِهِ وَالنَّهْرُ قَرِيبٌ أَجْزَأَهُ.

الثَّانِي: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَفْسَدُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّمْيِيزُ حَالَةَ الْفِعْلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ فَسَادُهَا لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَذَهَابُ جُزْءِ الطَّهَارَةِ يُفْسِدُهَا، قَالَ صَاحِبُ النُّكَتِ: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ أَوِ الْحَجِّ لَا يَضُرُّ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ التَّمْيِيزُ وَهُمَا مُتَمَيِّزَانِ بِمَكَانِهِمَا، وَهُوَ الْأَعْضَاءُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْأَمَاكِنُ الْمَخْصُوصَةُ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ اسْتِغْنَاؤُهُمَا عَنِ النِّيَّةِ أَكْثَرَ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الرَّفْضُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.

الثَّالِثُ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فِي الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ، فَلَوْ نَسِيَ عُضْوًا وَطَالَ ذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْحُكْمِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيَقْتَصِرُ فِيهَا عَلَى الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَشَرَعَ فِي غَسْلِ رِجْلَيْهِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْإِيمَانُ وَالنِّيَّاتُ وَالْإِخْلَاصُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيٍّ وَحُكْمِيٍّ، وَالنِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةُ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي قَطْعَهَا، وَلَوْ ذَهَلَ عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ بِدَلِيلِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ.

نِيَّةُ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةُ التَّمْيِيزِ:

36- قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- النِّيَّةَ إِلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةِ التَّمْيِيزِ.

فَالْأُولَى: تَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ Bإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِيَةُ: تَكُونُ فِي الْمُحْتَمَلِ لِلشَّيْءِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ إِذَا أَقْبَضَهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ هِبَةً وَقَرْضًا وَوَدِيعَةً وَإِبَاحَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ تَمْيِيزِ إِقْبَاضِهِ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِقْبَاضِ.وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ، كَمَنْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَسَلَّمَهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لَا يَقَعُ عَنْهُ الدَّيْنُ مَا لَمْ يَقْصِدْ أَدَاءَهُ، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ وَيَتِيمِهِ، فَإِذَا أُطْلِقَ الشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنِ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ.

عَلَاقَةُ النِّيَّةِ بِالْإِخْلَاصِ:

37- فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُفَرِّقْ، وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي:

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: صَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَوْضَحَهُ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ بِأَنَّهُ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ.وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ ثُمَّ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ لِلسَّابِقِ، وَلَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ.ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةُ لِإِرْضَاءِ الْخُصُومِ لَا تُفِيدُ، بَلْ يُصَلِّي لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ لَمْ يَعْفُ يُؤْخَذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَقَدْ أَفَادَ الْبَزَّازِيُّ بِقَوْلِهِ «فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ»: إِنَّ الْفَرَائِضَ مَعَ الرِّيَاءِ صَحِيحَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْوَاجِبِ.وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَةِ أَنَّ الْبَدَنَةَ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ إِنْ كَانَ الْكُلُّ مُرِيدِينَ الْقُرْبَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُمْ مِنْ أُضْحِيَةٍ وَقِرَانٍ وَمُتْعَةٍ.قَالُوا: فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُرِيدًا لَحْمًا لِأَهْلِهِ أَوْ كَانَ نَصْرَانِيًّا لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْبَعْضَ إِذَا لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً خَرَجَ الْكُلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَبَحَهَا أُضْحِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ لَا تُجْزِئُهُ بِالْأَوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ تَحْرُمَ.

وَفِي التَّاتَارَخَانِيَّةِ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ، وَالرِّيَاءُ: أَنَّهُ لَوْ خَلَّى عَنْهُ النَّاسُ لَا يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي، فَأَمَّا لَوْ صَلَّى مَعَ النَّاسِ يُحْسِنُهَا وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْسِنُ، فَلَهُ ثَوَابُ أَصْلِ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَدْخُلُ الرِّيَاءُ فِي الصَّوْمِ.

وَفِي الْيَنَابِيعِ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ: لَوْ صَلَّى رِيَاءً فَلَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ.قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفُرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ.

وَفِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَخَافُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا دَامَ حَيًّا مُسْتَطِيعًا قَبْلَ حُضُورِهَا وَحُضُورِ أَسْبَابِهَا، فَإِذَا حَضَرَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ الْفِعْلِيَّانِ فِي أَوَّلِهَا، وَيَكْفِي الْحُكْمِيَّانِ فِي بَقِيَّتِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ الْإِخْلَاصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَلِ النِّيَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِخْلَاصُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى النِّيَّةِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَقَدْ تَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ قَاصِرٌ عَلَى النِّيَّةِ، وَأَحْكَامُهُمْ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُكَلَّفُ الطَّاعَةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لَا يُرِيدُ بِهَا تَعْظِيمًا مِنَ النَّاسِ وَلَا تَوْقِيرًا وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ دِينِيٍّ وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَهُ رُتَبٌ، مِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَمَهَابَةً وَانْقِيَادًا وَإِجَابَةً، وَلَا يَخْطُرُ لَهُ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، بَلْ يَعْبُدُ مَوْلَاهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَإِذَا رَآهُ غَابَتْ عَنْهُ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا وَانْقَطَعَتِ الْأَعْرَاضُ بِأَسْرِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْرِيفِ النِّيَّةِ شَرْعًا: إِنَّهَا عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ أَوْ نَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَالَ آخَرُ: هُوَ التَّوَقِّي عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَشْخَاصِ، وَقَالَ آخَرُ: هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفِعْلِ لِدَاعِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاعِي تَأْثِيرٌ فِي الدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ.

وَفِي الْخَبَرِ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ Bعِبَادِي».وَدَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَةٌ: عُلْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ امْتِثَالاً لِأَمْرِهِ، وَقِيَامًا بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ.وَوُسْطَى: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ.وَدُنْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِلْإِكْرَامِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِهَا، وَمَا عَدَا الثَّلَاثَ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْعِبَادَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى الْبُعْدِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّكَ عَبْدٌ وَهُوَ رَبٌّ.

النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ:

38- لَا تُقْبَلُ النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَنَقَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ فَالنِّيَّةُ عَلَى الْمَرِيضِ دُونَ الْمُيَمِّمِ، وَفِي الزَّكَاةِ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُوَكِّلِ، فَلَوْ نَوَاهَا وَدَفَعَ الْوَكِيلُ بِلَا نِيَّةٍ أَجْزَأَتْهُ، وَفِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ..الِاعْتِبَارُ لِنِيَّةِ الْمَأْمُورِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ فِيهَا لِأَنَّ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْمُورِ فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي النِّيَّةِ الْإِخْلَاصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَلِ النِّيَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي النِّيَّةِ إِلاَّ فِيمَا اقْتَرَنَ بِفِعْلٍ كَتَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَذَبْحِ أُضْحِيَةٍ وَصَوْمٍ عَنِ الْمَيِّتِ وَحَجٍّ

التَّشْرِيكُ فِي النِّيَّةِ:

39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَائِلِ أَوْ فِي الْمَقَاصِدِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَسَائِلِ فَإِنَّ الْكُلَّ صَحِيحٌ، قَالُوا: لَوِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ فِي الْمَقَاصِدِ: فَإِمَّا أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَيْنِ، أَوْ نَفْلَيْنِ، أَوْ فَرْضًا وَنَفْلاً.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ Bتَصِحَّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، قَالَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَوْ نَوَى صَلَاتَيْ فَرْضٍ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ نَوَى فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ كَانَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ نَوَى كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يُجْعَلْ لِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ جَعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَهُوَ عَنِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً وَصَلَاةَ جِنَازَةٍ فَهِيَ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَنَفْلاً، فَإِنْ نَوَى الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَا التَّطَوُّعِ، وَإِنْ نَوَى الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ يَكُونُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ نَافِلَةٌ وَجِنَازَةٌ فَهِيَ نَافِلَةٌ.

وَأَمَّا إِذَا نَوَى نَافِلَتَيْنِ، كَمَا إِذَا نَوَى بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةَ الْفَجْرِ أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا.

وَأَمَّا التَّعَدُّدُ فِي الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلاً كَانَ نَفْلاً، أَوْ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَعِيَّةِ إِحْدَاهُمَا، وَفِي التَّعَاقُبِ الْأُولَى فَقَطْ.

وَأَمَّا إِذَا نَوَى عِبَادَةً ثُمَّ نَوَى فِي أَثْنَائِهَا الِانْتِقَالَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ كَبَّرَ نَاوِيًا الِانْتِقَالَ إِلَى غَيْرِهَا صَارَ خَارِجًا عَنِ الْأُولَى، وَإِنَ نَوَى وَلَمْ يُكَبِّرْ لَا يَكُونُ خَارِجًا، كَمَا إِذَا نَوَى تَجْدِيدَ الْأُولَى وَكَبَّرَ.

40- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ أَجْزَأَهُ- أَيْ عَنْ رَفْعِ الْحَدَثِ- لأَنَّ مَا نَوَاهُ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلَا تَضَادَّ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ إِذَا صَحِبَهَا قَصْدُ التَّبَرُّدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَا يَضُرُّهَا مَا صَحِبَهَا، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَهَاهُنَا الْأَمْرَانِ.

41- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلتَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ نَظَائِرُ، وَضَابِطُهَا أَقْسَامٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، فَقَدْ يُبْطِلُهَا كَمَا إِذَا ذَبَحَ الْأُضْحِيَةَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ، فَانْضِمَامُ غَيْرِهِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الذَّبِيحَةِ.

وَقَدْ لَا يُبْطِلُهَا.وَفِيهِ صُوَرٌ: Bمِنْهَا مَا لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ وَالتَّبَرُّدَ، فَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ لِلتَّشْرِيكِ، وَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ حَاصِلٌ قَصَدَهُ أَمْ لَا، فَلَمْ يَجْعَلْ قَصْدَهُ تَشْرِيكًا وَتَرْكًا لِلْإِخْلَاصِ، بَلْ هُوَ قَصْدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَتِهَا حُصُولَ التَّبَرُّدِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ أَوِ الْحِمْيَةَ أَوِ التَّدَاوِيَ وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ وَدَفْعَ غَرِيمِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ لأَنَّ الِاشْتِغَالَ عَنِ الْغَرِيمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَصْدٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ خَرَّجَهُ ابْنُ أَخِي صَاحِبِ الشَّامِلِ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّبَرُّدِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عِبَادَةً أُخْرَى مَنْدُوبَةً، وَفِيهِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَا لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ وَيَحْصُلَانِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ الْفَرْضُ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ النَّفْلُ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْكُلِّ.

فَمِنَ الْأَوَّلِ: أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ وَنَوَى بِهَا الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ، صَحَّتْ، وَحَصَلَا مَعًا، وَكَذَا لَوْ نَوَى بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، أَوْ نَوَى حَجَّ الْفَرْضِ وَقَرَنَهُ بِعُمْرَةٍ تَطَوُّعًا أَوْ عَكْسَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِحِجَّةٍ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ وَقَعَ فَرْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ. وَمِنَ الثَّالِثِ: أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَنَوَى بِهَا الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، لَمْ تَقَعْ زَكَاةً وَوَقَعَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ.

وَمِنَ الرَّابِعِ: كَبَّرَ الْمَسْبُوقُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً وَنَوَى بِهَا التَّحَرُّمَ وَالْهُوِيَّ إِلَى الرُّكُوعِ...لَمْ تَنْعَقِدِ الصَّلَاةُ أَصْلاً لِلتَّشْرِيكِ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ مَعًا، وَلَمْ يَتَحَمَّضْ هَذَا التَّكْبِيرُ لِلْإِحْرَامِ بِأَيِّهِمَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا وَكَذَا نَفْلاً، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي وَجْهٍ: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ نَفْلاً كَمَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الزَّكَاةِ فَبَقِيَتْ تَبَرُّعًا، وَهَذَا مَعْنَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْمَفْرُوضَةِ فَرْضًا آخَرَ:

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَا يُجْزِئُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَعَقَّبَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ لَهُمَا نَظِيرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ مَعًا فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ عَلَى الْأَصَحِّ.ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِذَا نَوَى فَرْضَيْنِ بَطَلَا إِلاَّ إِذَا أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ وَاحِدَةٌ.وَإِذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضَيْنِ صَحَّ لِوَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ النَّفْلِ نَفْلاً آخَرَ.

قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَحْصُلَانِ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ.

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ غَيْرِ الْعِبَادَةِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ:

وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَيَنْوِيَ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ..فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لِقُوَّتِهِ.وَقِيلَ: الظِّهَارُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: سَائِرُ الْعِبَادَاتِ يُدْخَلُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا إِلاَّ الصَّلَاةَ فَلَا بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ التَّكْبِيرُ.

42- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ شَرِكَ بَيْنَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوِ الْوَسَخِ أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ تَعْلِيمَ الْوُضُوءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْصِدُ أَحْيَانًا بِالصَّلَاةِ تَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ كَمَا قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».

وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ: لَا يَضُرُّ مَعَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ قَصْدُ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ، لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَصْدُ خَلَاصٍ مِنْ خَصْمٍ أَوْ إِدْمَانِ سَهَرٍ، أَيْ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالنِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، لَا أَنَّهُ لَا يُنْقِصُ ثَوَابَهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَا يُنْقِصُ الْأَجْرَ، وَمِثْلُهُ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الصَّوْمِ هَضْمَ الطَّعَامِ، أَوْ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الْحَجِّ رُؤْيَةَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَا يَلْزَمُ ضَرُورَةً.

تَفْرِيقُ النِّيَّةِ:

43- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ عَلَى أَجْزَاءِ الطَّاعَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ، أَيْ جِنْسُهَا الْمُتَحَقِّقُ فِي مُتَعَدِّدٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ خَصَّ كُلَّ عُضْوٍ بِنِيَّةٍ، بِأَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ Bالْوُضُوءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَغْسِلُ الْيَدَيْنِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِنِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِتَمَامِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى عَدَمَ إِتْمَامِهِ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ أَصْلاً، أَمَّا لَوْ خَصَّ كُلَّ عُضْوٍ بِنِيَّةٍ مَعَ قَصْدِهِ إِتْمَامَ الْوُضُوءِ عَلَى الْفَوْرِ مُعْتَقِدًا أَنْ لَا يَرْتَفِعَ حَدَثُهُ وَلَا يَكْمُلَ وُضُوؤُهُ إِلاَّ بِجَمْعِ النِّيَّاتِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ فَلَا يَضُرُّ، لَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ.

أَمَّا لَوْ جَزَّأَ النِّيَّةَ عَلَى الْأَعْضَاءِ، بِأَنْ جَعَلَ لِكُلِّ عُضْوٍ رُبْعَهَا مَثَلاً فَإِنَّهُ يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَعْنًى لَا تَقْبَلُ التَّجْزِيءَ وَحِينَئِذٍ فَجَعْلُهُ لَغْوٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ ابْنُ مَرْزُوقٍ بِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ؛ لِأَنَّ رُبْعَ النِّيَّةِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فِي اعْتِقَادِ الْمُتَوَضِّئِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ:

أَحَدُهَا: طَاعَةٌ مُتَّحِدَةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا، مِثَالُهُ فِي الصِّيَامِ أَنْ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا، ثُمَّ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ يُفْرِدُ كُلَّ إِمْسَاكٍ بِنِيَّةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْكَانِهَا وَأَبْعَاضِهَا: كَأَنْ يُفْرِدَ التَّكْبِيرَ بِنِيَّةٍ، وَالْقِيَامَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ، وَالرُّكُوعَ بِثَالِثَةٍ، وَكَذَلِكَ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى حِيَالِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: طَاعَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ أَبْعَاضَهُ بِالنِّيَّةِ وَأَنْ يَجْمَعَهُ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ فِي الْقِرَاءَةِ مِثْلَ أَنَّهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا..فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُثَابُ إِلاَّ إِذَا فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ، إِذْ لَا قُرْبَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِأَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَجُمَلُ الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: مَا لَا يُذْكَرُ إِلاَّ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}.فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ ذِكْرًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ كَقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقِرَاءَةَ لِغَلَبَةِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي اتِّحَادِهِ، كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَمَنْ رَآهُمَا مُتَّحِدَيْنِ مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَجْزَائِهِمَا، وَمَنْ رَآهُمَا مُتَعَدِّدَيْنِ جَوَّزَ تَفْرِيقَ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهِمَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ فَرَّقَ الْمُتَوَضِّئُ النِّيَّةَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ عِنْدَ غَسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ، صَحَّ وُضُوؤُهُ، لِوُجُودِ النِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ.

ثَانِيًا: الْأَحْكَامُ التَّفْصِيلِيَّةُ لِلنِّيَّةِ:

سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا الْأَحْكَامَ الْعَامَّةَ لِلنِّيَّةِ، وَنُورِدُ هُنَا أَثَرَ النِّيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنْ عِبَادَاتٍ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا:

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:

أ- النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ:

44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِهَا، وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ.وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي: قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه-: إِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالْإِخْلَاصُ هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...»، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْعَمَلِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَ الْعَمَلِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ شَرْعِيًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَصِحَّ بِلَا نِيَّةٍ كَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ فَوَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ.

وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مُفْتَقِرٍ إِلَى طُهْرٍ، أَوْ أَدَاءَ فَرْضِ الْوُضُوءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ سُنَّةٌ فِي Bالْوُضُوءِ، لِيَقَعَ قُرْبَةً وَلِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطًا وَلَا فَرْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أَمَرَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إِلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْيِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً وَفِعْلُ اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ حَتَّى لَوْ سَالَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، إِذِ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللاَّزِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنَ الزَّوَائِدِ، فَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعْ عِبَادَةً وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعْ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَارِثٍ: اتِّفَاقًا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الْأَصَحِّ، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

وَمُقَابِلُ الْأَشْهَرِ وَالْأَصَحِّ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ فِي الطَّهَارَةِ- كَالْوُضُوءِ- شَائِبَتَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا Bالنَّظَافَةُ تُشْبِهُ مَا صُورَتُهُ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَأَدَاءِ الدُّيُونِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْ حَيْثُ مَا شُرِطَ فِيهَا مِنَ التَّحْدِيدِ فِي الْغَسَلَاتِ وَالْمَغْسُولِ وَالْمَاءِ أَشْبَهَتِ التَّعَبُّدَ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.

وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَيِ الْوَصْفِ الْمُقَدَّرِ قِيَامُهُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَنْوِي أَدَاءَ الْوُضُوءِ الْمَفْرُوضِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، أَوْ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ مَمْنُوعٍ بِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com