نتائج البحث عن (لِلْأَخْبَارِ)

1-العربية المعاصرة (ضرب)

ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في يَضرِب، ضَرْبًا وضَرَبانًا، فهو ضارب، والمفعول مضروب (للمتعدِّي).

* ضرَبَ القلبُ: تحرَّك، نبض (*) ضرَب الجُرحُ/ضرَب الضِّرسُ: اشتدَّ ألمه- ضرَب العِرْقُ: اختلج- ضرَب في الماء: تحرَّك وسبح فيه.

* ضرَبَ الزَّمانُ: مضَى (القرن الذي ضرَب مليء بكبار الحوادث).

* ضرَبَ بين النَّاسِ: أفسد بينهم (استطاعت إسرائيلُ أن تضرِب بين العرب وحلفائهم) - ضرَب الدَّهرُ بيننا.

* ضرَبَ شيئًا/ضرَبَ بالشَّيء/ضرَبَ على الشَّيء/ضرَبَ في الشَّيء:

1 - أصابه وصدمه (ضرَبه ضربة لم يقم بعدها أبدًا- ضربت إسرائيلُ بكلِّ قيم الشرعيَّة الدوليَّة عُرضَ الحائط- ضرب اللهُ قلوبَ بعضهم ببعض: سلَّط كلاًُّ منهم على الآخر- إما أن تؤدِّب الولدَ بالضَّرْب أو تكفّ عن توبيخه [مثل أجنبيّ] - {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [قرآن]) (*) القوَّة الضَّاربة: مجموعة الوسائل العسكريَّة الحديثة- ضرَب آباطَ الأمور: عرف بواطنَها- ضرَب الأرزَ: قشَّره- ضرَب البيضَ بالدَّقيق: خلطه ومزجه به- ضرَب التَّاجرُ على يد شريكه: عقد معه البيعَ- ضرَب الجرسَ: دقّه، ضغط عليه ليرنّ- ضرَب النَّومُ على أذنه: غلبه، نام- ضرَب بالأمر عُرْضَ الحائط: أهمله، أعرض عنه، احتقره- ضرَب بذقنه الأرضَ: أطرق استحياء، خاف وبكى- ضرَب به الأرضَ: ألقاه عليها- ضرَب بيده إلى الشَّيء: أهوى بها وأشار- ضرَبتِ العقربُ الولدَ: لدغته- ضرَب رقبتَه/ضرَب عنقَه: قتله بالسيف- ضرَب عُصْفورين بحجرٍ واحد: حقّق هدفين بعمل واحد- ضرَب على الآلة الكاتبة: كتب عليها- ضرَب على الآلة الموسيقيَّة: طرق وعزف عليها- ضرَب على الرِّسالة: ختمها- ضرَب على الوتر الحسَّاس: مسَّ الموطنَ الحسّاس أو قلبَ الموضوع، عالج نقطة حسّاسة- ضرَب على بصره/ضرَب على سمعه: أضلّه، أعمى بصيرتَه- ضرَب على نغمة الحرِّيَّة والاستقلال: أكَّد على ذلك وكرَّر- ضرَب على وتر واحد: كرَّر الشّيء نفسَه- ضرَب عينَ الأمر/ضرَب وجْهَ الأمر: نجح في تحقيق هدفه- ضرَب كفًّا بكفّ/ضرَب يدًا بيد: أبدى دهشتَه، وحيرتَه، وندمَه- ضرَبه البردُ/ضرَب عليه البردُ: أصابه- ضرَبه بالسَّوط: جلده به- ضرَبه بالسَّيف: أصابه به وأوقعه عليه- ضرَبه ببليّة: رماه بها- ضرَبه ضرب غرائب الإبل: ضرَبه ضربًا شديدًا موجعًا.

2 - أقامه ومدَّه (ضرَب الجيشُ طوقًا أمنيًّا على الحدود- {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [قرآن] - {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [قرآن]) (*) ضرَب أطنابَه/ضرَب سرادقَه: استقرَّ وتمكَّن- ضرَب الإبرةَ في جسد المريض: أدخلها فيه- ضرَب الوتدَ في الأرض: دقَّه فيها- ضرَبتِ العنكبوتُ نسيجَها: خيَّمت- ضرَبتِ المرأةُ بخمارها: ألقته على صدرها- ضرَبت جذورُه في الأعماق: امتدَّت- ضرَبت عليه العنكبوتُ نسيجَها: بلي، صار قديمًا- ضرَب على الحديد وهو ساخن: تصرَّف في الوقت المناسب- ضرَب في الأمر بسهم: شارك فيه- ضرَب في حديد بارد: بذل جهدًا ضائعًا، قام بما لا يُجْدِي- ضرَب للأمر جأشًا: صبر ووطَّن نفسه عليه.

* ضرَبَ النُّقودَ/ضرَبَ العُمْلةَ: سكَّها، طبعها- ضرَب الخاتمَ: صاغه.

* ضرَبَ الودعَ: استخدمه للإخبار بالغيب.

* ضرَبَ مثلًا/ضرَبَ له مثلًا: قاله وذكره وبيّنه (ضرَب الشّعبُ أروعَ الأمثلة في البطولة والمقاومة- {وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [قرآن]: يجعلها حجَّة للنَّاس- {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [قرآن]).

* ضرَبَ عددًا في آخر: [في الجبر والإحصاء] كرَّره بعدد مرات العدد الآخر (ضرب 5 في 6) - ضرَب أخماسًا في أسداس [مثل]: يُضرَب للحائر القَلِق كما يُضَرب للماكر المحتال- ضرَب الرَّقمَ القياسيّ: حقّقه وتعدَّاه إلى رقم جديد لم يحقِّقه غيره، أو تفوَّق على غيره في عمل ما.

* ضرَبَ الضَّريبةَ عليهم: أوجبها عليهم وألزمهم بها {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [قرآن] - ضرَب له في ماله سهمًا: جعل له فيه نصيبًا وحصَّة- ضرَب له موعدًا/ضرَب له وقتًا: حدَّده وعيَّنه له.

* ضرَب عليهم الحصارَ: حاطهم وضيَّق عليهم- ضرَب الشَّبكةَ على الطَّائر: ألقاها عليه- ضرَب القاضي على يد فلان: حجر عليه ومنعه من التصرُّف، عاقبه.

* ضرَبَ اللَّونُ إلى لون آخر: مال إليه (ضرَب إلى الحمرة) - ضرَب اللَّيلُ بأرواقه/ضرَب اللَّيلُ بظلامه: أقبل وخيَّم- ضرَب على غِراره: تبعه، عمل عملَه- ضرَب عليهم اللَّيلُ: طال وامتدَّ- ضرَب عليهم اليأسُ: شملهم.

* ضرَبَ على كلمة: شطبها ومحاها.

* ضرَبَ على أُذُنِه: أنامه، بعث عليه النَّوم ومنعه من السّمع ({فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [قرآن]: المراد: جعلنا عليها حجابًا يمنعهم من السّمع).

* ضرَبَ عن الأمر: أضرب، توقَّف وانقطع (ضرَب عن العمل- {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [قرآن]: أنهملكم فنعرض عن أن نذكِّركم بالقرآن).

* ضَرَبَ في الأرض: سافر، سعى فيها ابتغاء الرِّزق أو الغزو {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} [قرآن] - ضرَب إليه أكبادَ الإبل: سافر إليه- ضرَبتِ الطيرُ: ذهبت تبتغي الرِّزقَ- ضرَب في الآفاق: تنقَّل بعيدًا، تجوَّل- ضرَب في سبيل الله: خرج للجهاد- ضرَب له الأرضَ كلّها: طلبه وبحث عنه في كلّ مكان.

* ضرَبَ في البوق: نفخ فيه.

ضرَبَ يَضرِب، ضِرابًا، فهو ضارب، والمفعول مَضْروب.

* ضرَب الفحلُ النَّاقةَ: نكحها.

أضربَ عن/أضربَ في يُضرب، إضرابًا، فهو مُضرِب، والمفعول مُضرَب عنه.

* أضرب عن الشَّيء: ضرَبَ عنه؛ امتنع عنه، أعرض عنه (أضرب عن الكلام/عن ذكر اسمه).

* أضرب العمَّالُ عن عملهم: امتنعوا عنه احتجاجًا على أمر أو مطالبة بمطلب (أضرب عن الطعام).

* أضرب في المكان: أقام فيه لا يغادره.

اضطربَ/اضطربَ في يضطرب، اضطرابًا، فهو مُضطرِب، والمفعول مُضْطَرَب فيه.

* اضطرب الشَّخصُ: أحسَّ بقلق وحيرة، تردَّد وارتبك (*) مُضطرِب العقل: مختلُّه.

* اضطرب موجُ البحرِ ونحوُه: تموَّج، ضرب بعضُه بعضًا.

* اضطرب الأمنُ في البلاد: اختلَّ وارتبك- اضطرب الحبلُ بينهم: اختلفت كلمتهم وتباينت آراؤهم- اضطرب الرَّجلُ في أموره: تردَّد وارتبك وجاء وذهب.

* اضطرب الجنينُ في أحشاء أمِّه: تحرّك على غير انتظام.

تضاربَ يتضارب، تضارُبًا، فهو مُتضارِب.

* تضارب الشَّخصان: ضرب كلّ منهما الآخرَ.

* تضاربتِ الآراءُ ونحوُها: تباينت واختلفت، تعارضت وتنافرت (تضاربت مشاعرُ الأسف والحيرة والقلق بين جوانحه- تضاربت المصالحُ).

ضاربَ/ضاربَ في/ضاربَ ل يضارب، مُضارَبةً، فهو مُضارِب، والمفعول مُضارَب.

* ضارَب الرَّجلُ عدوَّه:

1 - غالبه وباراه في الضّرب.

2 - ضرب كلٌّ منهما الآخرَ.

* ضارَب في السُّوق: اشترى سلعًا رخيصة أملًا في أن يرتفع سعرُها فيكسب (ضارَب في البورصة: راهن على تقلُّبات الأسعار).

* ضارَب لفلانٍ بماله/ضارَب لفلانٍ في ماله: اتَّجر له فيه.

إضراب [مفرد]: جمعه إضرابات (لغير المصدر):

1 - مصدر أضربَ عن/أضربَ في.

2 - توقُّف وامتناع عن العمل احتجاجًا على أمر أو مطالبة بمطلب، كارتفاع الأجور أو تحسين الأوضاع (هدّد العمالُ بالإضراب عن العمل).

3 - إعراض عن الشَّيء بعد الإقبال عليه.

اضطراب [مفرد]: جمعه اضطرابات (لغير المصدر):

1 - مصدر اضطربَ/اضطربَ في (*) اضطراب البَحر: تلاطم أمواجه.

2 - حالة عدم الاستقرار، فوضى، بلبلة، صَخَب وجَلَبة (*) اضطرابات اجتماعيّة: عدم استقرار اجتماعيّ- اضطرابات جوِّيَّة: عدم استقرار في الطقس- اضطرابات سياسيّة: عدم استقرار سياسيّ.

* اضطراب السُّلوك: [في علوم النفس] نمط من الأنماط السلوكيّة السلبيّة التي تحدث في مرحلة الطفولة والبلوغ، يتميَّز بعدم التكيُّف ويظهر في صورة انطواء ومقاومة مشاعر الآخرين والاعتداء عليهم.

* اضطراب الشَّخصيَّة القسريَّة: [في علوم النفس] نمط من أنماط الشخصيّة غير السويّة، ويتميَّز صاحب هذه الشخصيّة ببرود المشاعر وعدم القدرة على اتِّخاذ القرار.

* اضطراب النُّموّ: [في الطب] خلل في مجموعة من الوظائف العقليَّة والجسميَّة يظهر قبل أن يصل الشّخصُ لمرحلة النضج.

* اضطراب عصبيّ عامّ: [في علوم النفس] نوع من أنواع القلق العصبيّ يتميَّز بالتوتُّر العضليّ والرعشة والخوف والأرق والضجر وعدم القدرة على التركيز.

* اضطراب نطقيّ: [في العلوم اللغوية] قصور في نطق الأصوات اللُّغويَّة مثل التأتأة واللثغة والفأفأة وعدم القدرة على نطق صوت مُعيَّن.

* اضطراب فصاميّ عاطفيّ: [في علوم النفس] اضطراب عقليّ يجمع بين مظاهر انقسام الشخصيّة والاضطراب العاطفيّ.

* اضطراب وسواسيّ قهريّ: [في علوم النفس] نوع من أنواع القلق يتميَّز بأنّ المصاب به يعاني بعض الأفكار والصور والدوافع المتكرِّرة أو يسلك سلوكًا مُعيَّنًا بصورة مقصودة أو إجباريَّة.

* اضطراب انفعاليّ موسميّ: [في علوم النفس] مرض نفسيّ يتميَّز بالإحساس بالهبوط واليأس في مواسم البرد والإظلام.

* اضطراب عقليّ: [في علوم النفس] خلل أو تعثُّر شاذّ في الحالة الذِّهنيّة.

* اضطرابات العاطفة: [في علوم النفس] الاضطرابات الانفعاليّة التي تتميّز بالتغيُّرات في المزاج كالاكتئاب والانبساط.

* اضطرابات الفكر: [في علوم النفس] الاضطرابات التي تصيب عمليَّة التفكير كالهلوسة وهروب الأفكار.

ضِراب [مفرد]: مصدر ضرَبَ.

ضَرْب [مفرد]: جمعه أضراب (لغير المصدر) وضروب (لغير المصدر) وأضرُب (لغير المصدر):

1 - مصدر ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في (*) ضَرْب الرَّمْل: العِرافة، طريقة لقراءة المجهول تعتمد على رسم خطوط وأشكال في الرّمل.

2 - نوع وصنف (هذه الأشياء على ضَرْب واحد- خاصمته هو وأضرابه- تعتبر الرِّواية ضربًا من ضروب التجديد في الأدب العربيّ- قاسى ضروبَ التنكيل والتعذيب: ألوان التنكيل والتعذيب).

3 - [في الجبر والإحصاء] عمليَّة حسابيَّة تستخدم لإيجاد حاصل ضرب عددين أو عبارتين رياضيَّتين، أو تكرار عدد ما عدّة مرّات بقدر ما في عدد آخر من الوحدات.

4 - [في الأحياء] وحدة التصنيف الصغرى، وهي أفراد من نوع واحد تميَّزت بصفات خاصّة ظاهرة أو خفيّة.

5 - [في العروض] آخر تفعيلة من الشطر الثاني من البيت الشعريّ.

6 - [في القانون] كلّ ما يقع على البدن من أذى بسبب لكمة أو ركل بالقدم، ويؤدّي إلى تمزُّق العضل أو الجروح أو النزيف. إلخ (الضَّرب المميت: الضَّرب المؤدِّي إلى موت المجنيّ عليه، وهو جريمة يعاقب عليها القانون- ضرب غير مشروع: إضرار غير قانونيّ بفرد ما باستخدام القوّة).

* الضَّرْبُ من الرِّجال: الماضي في الأمور، الخفيف في قضاء الحاجات (أنا الرجل الضرْبُ الذي تعرفونه).

* الضَّرْبُ من العَسَل: الأبيض الغليظ.

* جَدْول الضَّرْب: [في الجبر والإحصاء] بيان بعمليّات الضرب للأعداد الصغيرة يحفظه المتعلِّم.

ضَرَبان [مفرد]: مصدر ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في.

ضَرْبَة [مفرد]: جمعه ضَرَبات وضَرْبات: اسم مرَّة من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: (ضربه ضَرْبَة عنيفة- تبادلوا الضرَبات- تلقى العدوّ ضَرَبَاتٍ موجعة من رجال المقاومة) (*) أخَذته ضَرْبَة واحدة: دفعة واحدة- ضَرْبَة حظّ: حظّ مفاجئ، غير متوقّع- ضَرْبَة مُعلِّم: عمل أو تصرُّف مُتقَن مُحكَم- على ضَرْبَة مِعول: قريب ميسور.

* ضَرْبَة التَّماسّ: [في الرياضة والتربية البدنية] إطلاق الكرة باليدين ضدّ الفريق الذي يكون قد رمى بالكرة إلى ما وراء خطَّي عرض الملعب.

* ضَرْبَة جزاء: [في الرياضة والتربية البدنية] ضربة عقابيّة موجّهة إلى الهدف من نقطة الجزاء لا يتعرَّض لصدِّها إلاّ حارس المرمى، وهي أن تطلق الكرة مباشرة على الهدف على بعد عدَّة أمتار مُعيَّنة.

* ضَرْبَة حرَّة/ضربة مباشرة: [في الرياضة والتربية البدنية] ضربة جزائيَّة ضدّ الفريق المخطئ.

* ضَرْبَة قاضية: [في الرياضة والتربية البدنية] ضَرْبَة تجعل الخصمَ غير قادر على متابعة اللعب.

* ضَرْبَة إجهاضيَّة: [في العلوم العسكرية] حرب تستهدف القضاءَ على خطر قبل أن يستفحل، فكأنَّ هذا الخطر المتنامي جنين، وضربه يُعدّ إسقاطًا لهذا الجنين.

* ضَرْبَة رُكْنِيَّة: [في الرياضة والتربية البدنية] ضرب الكرة بالقدم من إحدى الزَّاويتين المحاذيتين لمنطقة هدف الفريق الذي يكون قد رمى بالكرة خطأ إلى ما وراء خطّ أهدافه.

* ضَرْبَة الشَّمس: [في الطب] حالة مرضيّة حادّة تنشأ من تأثير أشعّة الشَّمس الحارَّة، قد تؤدِّي إلى موت المريض إذا لم يُسعَف في حينه، وتتميَّز بارتفاع الحرارة والصداع الشديد والحمَّى، وقد تصاحبها غيبوبة.

ضريبة [مفرد]: جمعه ضرِيبات وضرائِبُ: [في الاقتصاد] ما يفرض على المِلْك والعمل والدخل من الفرد لصالح الدولة بصفة جبريّة مساهمة منه في الأعباء العامَّة، وتكون مباشرة بالاقتطاع من الرواتب والأجور، وغير مباشرة بفرضها على السِّلع والموادّ الاستهلاكيّة (ضرِيبة كسب العمل- دافع الضرائب: المكلَّف بدفع الضريبة- مُعْفى من الضريبة: لا يخضع لضريبة) (*) شمول الضريبة: مبدأ يقضي بأنّ على جميع المواطنين دفع الضرِيبة، بمن فيهم الأجانب المقيمون في البلاد- ضرائب إجباريَّة: مُساهَمة تخضع لها الشركات والأفراد مثل الضرائب والاشتراكات في التأمينات الاجتماعيَّة- ضريبة الدَّخل: ما يدفعه المواطن على دخله- ضريبة تصاعُديّة: ضريبة تتزايد حسب تزايد دخل الفرد أو المجموعة أو نحوهما- ضريبة رأسيَّة/ضريبة شخصيَّة: ضريبة تفرض على المواطن نفسه- ضريبة الأملاك: ضريبة تفرض على العقارات التي يمتلكها الأفراد- ضريبة غير مباشرة: ضريبة تدفعها الشركات فتنعكس على الزبائن مثل ضريبة الجمارك- ضريبة مباشِرة: ضريبة تُفرض على دخل المكلّف- وعاء الضَّريبة: المبالغ التي ينبغي أن تفرض عليها الضريبة.

* ضرِيبة الخُمس: [في الفقه] الضريبة التي تغذّي بيتَ المال وكانت تؤخذ من خمس الإنتاج الذي يستخرج من جوف الأرض أو من جوف البحر.

ضريبيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى ضرِيبة: (ازدواج/نظام ضريبيّ- قدَّم التاجرُ الإقرارَ الضريبيّ).

* تهرُّب ضريبيّ: [في الاقتصاد] تخفيض أو تقليل قيمة الضريبة بطرق غير قانونيَّة.

* إعفاء ضريبيّ: [في الاقتصاد] قانون ضرائب يُسمح من خلاله لدافع الضرائب أن يستبعد أنواعًا مُعيَّنة من دخله ويعفيها من الضرائب.

مضاربة [مفرد]:

1 - مصدر ضاربَ/ضاربَ في/ضاربَ ل.

2 - [في الفقه] عقد شركة في الرِّبح بمالٍ من رجل وعمل من آخر.

3 - [في الاقتصاد] عمليّة بيع أو شراء يقوم بها أشخاص خبراء بالسوق للانتفاع من فروق الأسعار، وقد يخسرون.

مِضْرَاب [مفرد]: جمعه مَضَاريبُ:

1 - صيغة مبالغة من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: (ولدٌ مِضْراب).

2 - اسم آلة من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: ما يُضرب به (مِضْراب أرز/بيض- مِضْراب كرة الطّاولة).

مَضْرِب [مفرد]: جمعه مَضَارِبُ:

1 - اسم مكان من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: (مَضْرِب الأرز في ضواحي القرية: مكان قَشْرِه) (*) كان مَضْرِبَ المثل/كان مَضْرِبَ الأمثال: مثاليًّا في مجاله، يُضرب به المثل.

2 - اسم زمان من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: وقت الضَّرْب (مَضْرِب الأرز في الصَّيف: وقت قَشْرِه).

* مَضْرِبُ السَّيف: حدُّه.

مِضْرَب [مفرد]: جمعه مَضَارِبُ: اسم آلة من ضرَبَ/ضرَبَ إلى/ضرَبَ ب/ضرَبَ على/ضرَبَ عن/ضرَبَ في: أداة تُستعمل للضّرب (مِضْرَب بيض/الذباب).

* المِضْرَب: [في الرياضة والتربية البدنية] أداة ذات أشكال مختلفة تُستخدم لضرب الكرة في كثير من اللُّعبات الرِّياضيّة، كالتِّنس، وتنس الطَّاولة.

* كُرَة المِضْرَب: [في الرياضة والتربية البدنية] كرة التِّنِس، لعبة تكون بين فريقين تفصل بينهما شبكة، يتقاذفان الكرة بمضربين ويتألَّف الفريق الواحد من لاعب واحد أو لاعبين.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (نقل)

نقَلَ يَنقُل، نَقْلًا، فهو ناقِل، والمفعول مَنْقول.

* نقَلَ أثاثًا: حوّله من مكانٍ إلى آخر (نقل البضائعَ بالبحر- وسائل النَّقل: كلّ ما يستخدمه الإنسانُ في تنقلاته وأسفاره- نقل قضيّته إلى الرَّأي العام- نقل الملكيّة إليه).

* نقَلَ الخبرَ عن قائله: رواه، حكاه عنه (روّاد نقل الحديث النبويّ- نقل الخطابَ بحذافيره- نقل معلوماتٍ هامّة).

* نقَل الكتابَ:

1 - نَسَخه (نقل المحاضرات من زميله- كان النَّاس ينقلون المخطوطات بأيديهم).

2 - ترجمه إلى لغةٍ أخرى (نقل المقالَ إلى الفرنسيَّة).

* نقَل برنامجًا: تلقّاه أو سجَّله وأعاد بثَّه وإذاعتَه.

انتقلَ/انتقلَ إلى/انتقلَ في ينتقل، انتقالًا، فهو مُنتقِل، والمفعول مُنتقَل إليه.

* انتقل المرضُ: انتشر بالعدوى من شخصٍ مريضٍ إلى شخصٍ سليم (انتقلت أخلاقُه إليك).

* انتقلتِ الملكيَّةُ: تغيَّرت وتحوّلت (انتقلتِ الدولةُ من الإقطاعيّة إلى الديمقراطيّة- انتقل المنزل من الأب إلى الابن- انتقل إلى فقرة أخرى/موضوع آخر) (*) فترة الانتقال/فترة انتقاليَّة: فترة التحوّل من وضع إلى آخر، ما يُمهِّد لمرحلة مقبلة.

* انتقل الخبرُ: ذاع، شاع.

* انتقل الشَّخصُ/انتقل الشَّخصُ إلى المكان: ارتحل، سافر، تحوّل من مكان إلى مكان آخر (انتقل إلى المدينة) - انتقل إلى الرَّفيق الأعلى/انتقل إلى جوار ربّه/انتقل إلى دار القرار/انتقل إلى رحمة الله/انتقل إلى رضوان الله: تُوفِّي، مات.

* انتقلَ في عربة خيول: تنقَّل، تجوَّل وطاف.

تناقلَ يتناقل، تَناقُلًا، فهو مُتناقِل، والمفعول مُتناقَل.

* تناقلا الحديثَ: حكاه أحدهما عن الآخر (خبرٌ تناقلته الألسُن: شاع، ذاع، تداوله النَّاسُ- حديث مُتناقَل: كان على كلِّ شَفَةٍ ولسان) (*) تناقلت الإذاعات النَّبأَ.

* تناقلت الأيدي السِّلعةَ: تداولتها ونقلتها من يدٍ لأخرى.

تنقَّلَ/تنقَّلَ من يتنقَّل، تنقُّلًا، فهو مُتنقِّل، والمفعول مُتنقَّل منه.

* تنقَّل الرَّجلُ: غيَّر مكانَه من منطقة إلى أخرى دوْريًّا أو فصليًّا بشكل خاصّ.

* تنقَّلَ طوالَ اليوم: طاف، جال (تنقَّل في البستان- تنقل بخفّة- طائرٌ متنقِّل) (*) تنقَّل الخبرُ: شاع وذاع- تنقَّل في مدارج العرفان: تدرَّج إلى العُلا- تنقَّل في وظائف الدَّولة: تقلَّب بينها.

* تنقَّل من القرية إلى المدينة: انتَقل، سافر، تحوَّل، أكثر الانتقال (تتمّ تنقُّلات المدرسين صيفًا).

انتقال [مفرد]: مصدر انتقلَ/انتقلَ إلى/انتقلَ في.

* ضريبة انتقال التَّركة: [في الاقتصاد] ضريبة تُفرض على حقّ نقل التَّركة عن طريق الوراثة، وتقدَّر على أساس قيمة تركة الميِّت قبل توزيعها.

انتقاليّ [مفرد]: اسم منسوب إلى انتقال.

* العُنْصر الانْتقاليّ: [في الكيمياء والصيدلة] أحد العناصر المعدنيَّة التي لها بناء داخليّ غير مكتمل للإلكترون وتتميَّز بعدد تكافؤ متعدِّد وبأنّها مركَّبات مُلوَّنة وبتشكيل الأيونات المعقَّدة المستقرَّة.

انتقاليَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى انتقال: (أحكام/وزارة/مرحلة انتقاليّة).

* حكومة انتقاليَّة: [في السياسة] حكومة تتولَّى زمامَ الأمور فترةً إلى أن يُعتمد نظامٌ ثابت للحكم.

* أحكام انتقاليَّة: [في القانون] نصوص تشريعيّة ترعى الأحوالَ إلى أن يمكن تنفيذ الأحكام الدائمة.

مِنْقَلة [مفرد]: جمعه مَناقِلُ:

1 - اسم آلة من نقَلَ: آلة نقل.

2 - [في الهندسة] أداة على شكل نصف دائرة، مقسَّمة إلى درجات، تُقاس بها الزّوايا (منقلة خشبيَّة/معدنيّة/زجاجيّة).

منقول [مفرد]:

1 - اسم مفعول من نقَلَ.

2 - مترجَم (نصٌّ منقول إلى العربيَّة).

* المنقول: ما عُلِم عن طريق الرّواية أو السَّماع كالحديث الشَّريف ونحوه ويقابله المعقول (عُرفٌ منقول) (*) علم المنقولات: علم يُبحث فيه عمّا اختصّ العقل بإدراكه.

* المال غير المنقول: [في الاقتصاد] الشَّيء المملوك الذي لا يمكن نقله كالأبنية والعقارات.

منقولات [جمع]: مفرده منقول: أملاك عينيَّة يمكن نقلُها كالأثاث والسَّيَّارات (حَجْز المنقولات) (*) منقولات المنزل: أثاثُه.

ناقِل [مفرد]: جمعه ناقلون ونُقَّال (للعاقل) ونَقَلة، والمؤنث ناقِلة، والجمع المؤنث ناقِلات ونواقِلُ:

1 - اسم فاعل من نقَلَ.

2 - موصِل، رابط (ناقل الصّوت/العدوى- سلك ناقل الكهرباء) (*) مَوْجَة ناقلة: مَوْجَة كهرومغنطيسيَّة يمكن تعديلها كتعديل ذبذبتها أو ذروتها أو شكلها لنقل الصوْت أو الموسيقى أو الصُّور أو إشارات أخرى.

3 - مترجِم (ناقل إلى ثلاث لغات- هو من النَّقلَة المتميِّزين).

4 - راوٍ (هو من نَقَلةِ العِلْم).

5 - حمّال (ناقل أمتعة في محطّة).

6 - [في الطب] وصف لكائن حيّ، غالبًا ما يكون حشرة، ينقل الكائنات المسبِّبة للأمراض من شخص إلى آخر.

* ناقل السُّرعة: ذراع يُحرَّك يدويًّا في اتِّجاهات معيَّنة لتغيير سرعة المركبة، وفي بعض المركبات يتمّ التّغيير آليًّا.

* ناقل الرِّسالة الوراثيّة: نموذج يتوسَّط نقل المعلومات الجينيَّة من نواة الخليَّة إلى الجسيم الرّيباسيّ في السِّيتوبلازم حيث تساعد في عمليَّة بناء البروتين.

ناقِلة [مفرد]: جمعه ناقِلات ونواقِلُ:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل نقَلَ.

2 - نمَّامة، مُداوِلة للأخبار (امرأة ناقِلة).

3 - باخرة ضخمة (*) ناقلة الطَّائرات: باخرة حربيّة ضخمة تنقل الطَّائرات- ناقِلة النِّفط: سفينة كبيرة جدًّا تزن بين مِائة ألف طُنّ وأربعمائة ألف طنّ وتُستخدم لنقل النِّفط والسّوائل الأخْرى بكمِّيَّات كبيرة.

4 - مصيبة، داهية (أصابته ناقِلة في ولدِه- نواقل الدَّهر: نوائبه).

5 - مَنْ ينتقلون من موضع إلى آخر (العربُ/البدو النَّاقِلَة).

نقّال [مفرد]:

1 - صيغة مبالغة من نقَلَ.

2 - مَنْ ينقل الأشياء من موضع إلى آخر.

* النَّقَّال: يُطلق في بعض الدُّول العربيّة على الهاتف المحمول، وهو هاتف لاسلكي صغير الحجم يحمله معه صاحبُه أينما ذهب.

* سُلّم نقّال: سُلّم له هيكل ذو مفاصل داعمة وله مِنصَّة صغيرة كقمَّة.

نَقَّالة [مفرد]:

1 - اسم آلة من نقَلَ: شبه سرير يُنْقل عليه المريضُ أو المصابُ محمولًا، مِحَفَّة، مَحْمِل (نقل جريحًا على نقَّالة- حامِل النقّالة: الشَّخص الذي يُساعد في حمل نقَّالة الجرحى وخاصَّة في وقت الحرب).

2 - عربة صغيرة لنقل الفحم في المناجم.

نَقْل [مفرد]: جمعه أَنْقَال (لغير المصدر) ونُقُول (لغير المصدر):

1 - مصدر نقَلَ (*) شاحِنةُ نقل: شاحنة خفيفة مفتوحة ذات جوانب مُنْخفضة- نقلًا عن فلان: رواية عنه- نقل الملكيَّة: تغييرها من شخصٍ إلى شخصٍ آخر- نقل جويّ: نظام نقل جوِّيّ لنقل القوّات أو المسافرين أو الإمدادات في حالة إغلاق الطرق- نقل ناشط: تحريك مادّة عبر غشاء الخليَّة بوسائل من الطاقة الكيميائيّة باتِّجاه معاكس للانشطار الطبيعيّ.

2 - [في العلوم اللغوية] وضعُ لفظٍ لمعنى بعد وضعه لمعنًى آخر.

3 - إلحاق الموظَّف بوظيفة غير التي يعمل بها.

* نقل الدَّم: [في الطب] إدخال الدّم الكامل أو البلازما إلى الدورة الدمويّة للمريض مباشرة.

* همزة النَّقل: [في النحو والصرف] همزة التَّعْدية، حرف ينقل الفعلَ اللاّزمَ إلى متعدٍّ لمفعول، أو ينقل الفعلَ المتعدِّي لمفعول واحد إلى متعدٍّ لمفعولين.

* وسائل النَّقل: وسائل لنقل الأشخاص أو الأشياء من مكان لآخر كالسَّيَّارات والطّائرات وغيرها.

نُقْل [مفرد]: جمعه نُقولات ونُقُول:

1 - ما يُتناول مع الشّراب من مخلَّلات وفواكه وغيرها.

2 - مكسّرات، ما يُتفكّه به من جوز ولوز وبندق ونحوها.

نَقْلَة [مفرد]: جمعه نَقَلات ونَقْلات: اسم مرَّة من نقَلَ: (لم ينقل قدمه نَقْلةً واحدة) (*) شكَّل زواجه نقلة نوعيّة في حياته: نقطة تحوُّل مهمة.

نُقْلَة [مفرد]: جمعه نُقُلات ونُقْلات ونُقَل:

1 - انتقال، تحويل من مكان إلى آخر (تمَّت نُقْلةُ الأثاث بسلام- فشلت نقلتُه إلى وظيفةٍ أخرى).

2 - نميمة؛ وشاية، نقل الحديث على وجه الإفساد والوقيعة بين الناس (سعى بالنُّقلة بين الإخوة).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-المعجم الوسيط (المِنَثُّ)

[المِنَثُّ] - يقال فلانٌّ مِنَثًّ: مِذياعٌ للأخبار والأسرار.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


4-المعجم الوسيط (المِنثَارُ)

[المِنثَارُ]: المذياعُ للأخبار والأسرار.

و- الشجرةُ التي تنفُضُ حَمْلَها ولا تمسكه.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


5-المعجم الوسيط (النِّثِرُ)

[النِّثِرُ] - يقال: رجل نَثِرٌ: مذياع للأخبار والأسرار.

ورجلٌ نَثِرٌ: متساقط لا يثبت.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


6-شمس العلوم (الحَشْوِيَّة)

الكلمة: الحَشْوِيَّة. الجذر: حشو. الوزن: فَعْلِيَّة.

[الحَشْوِيَّة]: إِحدى فرق الإِسلام، وهي المعتزلة، والشيعة، والمرجئة، والمجبِّرة، والخوارج.

والحشْوية هذه أصل فرق الإِسلام، ثم تفرقت كل فرقة منها فرقًا؛ وإِنما سميت الحشوية لكثرة روايتها للأخبار، وقبولها ما ورد عليها من غير إِنكار.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


7-شمس العلوم (الزَّاملة)

الكلمة: الزَّاملة. الجذر: زمل. الوزن: فَاعِلَة.

[الزَّاملة]: بعيرٌ يحمل الرجلُ عليه طعامه ومتاعه، قال:

زواملُ للأخبارِ لا علمَ عندهم *** بجيِّدها إِلَّا كعلمِ الأباعرِ

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


8-شمس العلوم (العَيْن)

الكلمة: العَيْن. الجذر: عين. الوزن: فَعْل.

[العَيْن]: عَيْنُ كل ذي بصرٍ من الناس وغيرهم من الحيوان معروفة، والجميع: أعين وعيون، وفي الحديث عن النبي عليه‌ السلام: «في العينين الدية»، قال الله تعالى: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ.

قرأ الكسائي: العينُ، بالرفع، وسائر المعطوفات عليها أيضًا عطفًا على الموضع، والباقون بالنصب إلا قوله {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ}، فَرَفَعَه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على الابتداء، والباقون ينصبونه على العطف، واختار أبو عبيد قراءة الكسائي.

ويقال: لقيته عَيْنَ عُنة: أي عِيانًا.

وفعَل ذلك عَمْدَ عين: إذا تعمده.

ولقيته أول عين: أي أول شيء.

ويقال: هذا عَبْدُ عين: أي يخدم مولاه ما دام يراه، فإذا غاب عنه ترك الخدمة.

والعَيْن: المتجسس للأخبار، يقال: رأيت عَيْنَ القوم.

ومعنى قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي}: أي: بعلمي وإرادتي.

ويقال: ما بالدار عينٌ: أي أحد.

وعَيْن الماء: معروفة، قال الله تعالى: {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.

قرأ نافع وأبو عمرو بضم العين، وهو رأي أبي عبيد، وقرأ الباقون بكسرها.

والعَيْن: الثقب في المزادة.

وعين الرَّكيّة: النقرة التي فيها.

وعين الميزان: معروفة.

والعين: مطر يدوم أيامًا لا يُقلع، يقال: أصابَتْنا عَيْنٌ غزيرة.

وعين الشمس: معروفة.

والعَيْن: النقد من الدراهم.

والعَيْن: الدنانير، وفي حديث ابن سيرين: «كانوا لا يرصدون الثمارَ في الدَّيْن، وينبغي أن يرصدوا العين في الدين».

قيل: معناه إذا كان لرجلٍ ثمارٌ.

يلزم فيها العُشْر وعليه دين، فالذي عليه لا يكون قصاصًا، ويجب عليه العشر.

وإن كان له عينٌ مثل الدَّيْن لم تجب عليه زكاة، وكان الدين قصاصًا بالعين.

وقوله: إن الدَّين يمنع الزكاة؛ قول زيد ابن علي وأبي حنيفة وأصحابه ومالك وأحد قولي الشافعي، وقوله الآخر: إن الدَّيْن لا يمنع الزكاة، وهو قول زُفَر ومن وافقه.

وأَسْوَدُ العين: جبلٌ، قال:

إذا زال عنكم أسود العين كنتمُ *** كرامًا وأنتم ما أقام لئامُ

ونفسُ كل شيءٍ: عينه، يقال: هذا درهمك بعينه: أي بذاته، وفي الحديث عن النبي عليه‌السلام: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مالِهِ فهوَ أَحَقُّ به».

وعين كل شيءٍ: خياره.

وأعيان القوم: أشرافهم.

ويقال لأولاد الرجل من الحرائر: بنو أعيان.

ويقال: الأعيان: الإخوة للأب والأم.

وعيون البقر: جنس من العنب بالشام.

والعين: هذا الحرف.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


9-معجم متن اللغة (النشوان)

النشوان: السكر ان.

وقالوا: النشيان للأخبار؛ والنشوان من الشراب.

وانما قالوا بالياء للفرق بينهما.

وقال الكسائي ك رجل نشيان للخبر ونشوان وهو الكلام المعتمد.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


10-القاموس المحيط (لقطه)

لَقَطَه: أخَذه من الأرضِ، فهو مَلْقوطٌ ولَقِيطٌ،

وـ الثوبَ: رَقَعَه ورَفَاهُ.

واللاَّقِطُ: الرَّفَّاءُ، وكُلُّ عَبْدٍ أعْتِقَ، والماقِطُ: عَبْدُهُ، والساقِطُ: عَبْدُه، ومنه: هو ساقِطُ بنُ ماقِطِ بنِ لاقِطٍ.

واللُّقَاطَةُ، بالضم: ما كانَ ساقِطًا مما لا قِيمَةَ له. وكَسحابٍ: السُّنْبُلُ الذي تُخْطِئُه المَناجِلُ، وبالكسر: اسمُ ذلك الفِعلِ.

ويا مَلْقَطانُ: يا أحْمَقُ، وهي: بهاءٍ.

واللَّقَطُ، محرّكةً وكحُزْمَةٍ وهُمَزَةٍ وثُمامَةٍ: ما الْتُقِطَ.

واللَّقِيطُ: المَوْلُودُ الذي يُنْبَذُ،

كالمَلْقُوطِ، وبِئرٌ وُقِعَ عليها بَغْتَةً. ولَقِيطٌ البَلَويُّ، وابنُ الرَّبيعِ، وابنُ صَبْرَةَ، وابنُ عامِرٍ، وابنُ عَدِيّ، وابنُ عَبَّادٍ: صحابيُّونَ، وبهاءٍ: الرجلُ المَهِينُ الرَّذْلُ، وكذا المرأةُ.

وبنُو اللَّقِيطةِ: سُمُّوا بها لأنّ أمَّهُمُ الْتَقَطَها حُذَيْفَةُ بنُ بَدْرٍ في جَوارٍ أضَرَّتْ بِهِنَّ السَّنَةُ، فأعْجَبَتْه، فَخَطَبها إلى أبيها، وتَزَوَّجَها، وهي بنتُ عُصْمِ بنِ مَرْوانَ وأوَّلُ أبْياتِ الحَماسَةِ مُحَرَّفٌ، والرِّوايةُ: بنُو الشَّقِيقةِ، وهي بنتُ عَبَّادِ بنِ زيد، ويأتي في القافِ.

والمِلْقاطُ، بالكسر: القَلَمُ، والمِنْقاشُ، والعَنْكَبُوتُ. وكمِنْبرٍ: ما يُلْقَطُ به.

وبنُو مِلْقَطٍ: حَيٌّ.

والْتَقَطَه: عَثَرَ عليه من غيرِ طَلَبٍ.

وتَلَقَّطَه: الْتَقَطَه من ههُنا وههنا.

ودارُهُ بِلقاطِ دارِي، بالكسر: بِحِذائِها.

والمُلاقَطَةُ: المُحاذاةُ، وأن يأخُذَ الفرسُ بقَوائِمِه جميعًا.

والأَلْقاطُ: الأوْباشُ.

و"لكلِّ ساقِطَةٍ لاقِطَةٌ" أي: لكلِّ كَلمةٍ سَقَطَتْ من فَمِ الناطِقِ نَفْسٌ تَسْمَعُها فَتَلْقُطُها فَتُذِيعُها، يُضْرَبُ في حِفْظِ اللسانِ.

ولاقِطَةُ الحَصَى: قانِصةُ الطيرِ.

وإنه لُقَّيْطَى خُلَّيْطَى، كسُمَّيْهَى: مُلْتَقِطٌ للأخْبارِ لِيَنِمَّ بها.

واللَّقَطُ، محرّكةً: ما يُلْتَقَطُ من السَّنابِلِ، وقِطَعُ ذَهَبٍ تُوجَدُ في المَعْدِنِ، وبَقْلَةٌ طَيِّبَةٌ تَتْبَعُها الدَّوابُّ، الواحدةُ: بهاءٍ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


11-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نبأ)

(نبأ): {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67]

نَبَأْت من الأرض إلى أرض أخرى: إذا خرجتَ منها إليها. نبَأ من بلد كذا: طَرأ. النابئ: الثور الذي يَنْبَأ من أرض إلى أرض أي يَخرج. سَيل نابئ: جاء من بلد آخر، ورجل نابئ كذلك. نبَأ عليهم: هَجَم وطلع. النَبْأة: النَشْز (من الأرض). النَبْأَة: الصوت الخفّي.

° المعنى المحوري

ظهور أو طروء مسبوق أو مكنوف بخفاءٍ ما. كما في هذه الاستعمالات. فالأصل أن الذي يلحظ طُروء سَيْل أو ثور (أي من فصيلة البقر الوحشي) لا يعرف من أين صَدَر، وكذلك التعبير بهَجَمَ في تفسير "نبأ عليهم "معناه أنه لم يكن متوقَّعًا. وهذا خفاؤه. والنَبْأة النشْز فيها الظهور. أما الخفاء فيتحقق بأن يكون ارتفاعها محدودًا، أو أن يقع بتدرج فلا يَقْوى لحظُه. وأما "النبيء: الطريق الواضح "فأصله من التركيب غير المهموز حسب ما ذُكر في [تاج].

ومن ذلك "النبَأُ الخبر "-وينبغي أن يقيَّد بالخفى أي الذي كان خفيًّا- حسب الأصل الذي ذكرناه. وقد جاء في فروق أبي هلال ما يؤيد هذا. فقد قال إن "الفرق بين النبأ والخبر أن النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبَر، في حين أن الخبر يجوز أن يكون بما يعلمه وبما لا يعلمه. فيجوز أن تقول: تُخْبرني عما عندي ولا تقول تنبئني عما عندي. ثم ذكر قوله تعالى: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا

بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6]، حجةً لذلك، على أساس أنهم استهزءوا لأنهم كانوا لا يعلمون حقيقة العذاب، ولو علموا لتوقَّوْه. كما احتج بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ} [هود: 100]. والحقيقة أن القيد متحقق في كل ما جاء في القرآن الكريم. وبعض ذلك صريح مثل {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيبِ نُوحِيهَا إِلَيكَ} [هود: 49] وغيرها, لكن هناك ما ينبغي أن يُبَيَّن وجهه. كقوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] فالأصل أن سيدنا عيسى لا يعلم هذا، فتحرير كلمة أبي هلال أن يقال إن النبأ يستعمل في ما الأصل فيه مجهول لأحد الطرفين. وقوله تعالى: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة 105]. فلا شك أنهم كانوا يعلمون ما يعملون، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ قال لهم {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [ينظر فصلت: 22]، كما أنهم تصرفوا وهم في الدنيا تصرف من لا يعرف حقيقة ما يعمل، فاستعمل لهم اللفظ الذي يقتضيه حالهم. وهكذا.

وكلمة النبيّ -أرى أن أصلها من المهموز. فالقراءة بالهمز ثابتة في (النبيئين). والهمزة ثابتة في التنبؤ. والمعنى أن النبيّ -صلوات الله على نبينا وعليهم جميعًا- مُنْبأ من الله ومُنبِئٌ عن الله عَزَّ وَجَلَّ. وأرى أنه يُفَضَّل عدم إرجاع هذه الكلمة الشريفة إلى النَبْوة- بالفتح، المكان المرتفع. فيكون معنى الاسم: الشريف أو الرفيع مثلًا. فالأشراف بين الناس بهذا المعنى لا يحصون عددًا، أما المُنْبأ من الله عَزَّ وَجَلَّ فشَرَفُه لا يبارَى. وهم منذ بَدْء الخلق إلى الآن معدودون. وكل ما جاء في القرآن من التركيب فهو راجع إلى معنى "النَبَأ: الخبر الخفيّ حسب ما ذكرنا سواء عن ذلك الأفعال (نبّأ) , (أنبأ)، (استنبأ) والمضارع

والأمر لما له ذانك منهن، و (نبَأ) و (أنباء) و (نبيّ) وجمعاه، (نبيون) و (أنبياء) والمصدر (نبوّة).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


12-المعجم المفصل في النحو العربي (الإخبار)

الإخبار

للإخبار حرفان هما: «هل» كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} و «قد» كقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ}.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


13-المعجم المفصل في النحو العربي (الإضافة 1)

الإضافة

اصطلاحا: هي نسبة اسم إلى اسم آخر على معنى «في» إذا كان المضاف إليه ظرفا للمضاف، مثل: «أتعبني سهر اللّيل وحراسة الحقول» أي: سهر في الليل وحراسة في الحقول، أو على معنى «من» إذا كان المضاف بعضا من المضاف إليه وصالحا للإخبار به عنه، مثل: «اشتريت خاتم ذهب» أي: خاتما من ذهب، أو على معنى «اللّام» فتكون هي «لام الملك» أو الاختصاص، مثل: «أعجبني ثوب زيد» أي: ثوب لزيد.

علاقة المضاف بالمضاف إليه: تتحدّد العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، بما يلي:

1 ـ يجّر المضاف إليه بالمضاف، مثل: «خزانة الكتب مرتّبة صفوفها» «الكتب» مضاف إليه مجرور بالمضاف وكذلك «الهاء» في كلمة صفوفها في محل جرّ بالمضاف.

2 ـ يحذف من المضاف نون التّنوين الظّاهرة أو المقدّرة، والنّون المقدّرة هي التي لا تظهر على آخر الكلمة كالممنوع من الصّرف، كما تحذف منه نون التّثنية والجمع، مثل: «يد زيد نظيفة» و «دراهم عمر قليلة» حيث حذف التّنوين الظّاهر من كلمة «زيد» والتّقدير: «يد لزيد»، كما حذف التّنوين المقدّر من كلمة «دراهم» الممنوعة من الصّرف، كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ} والأصل: «يدان» حذفت «النون» في المثنّى عند الإضافة، وكقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} والأصل «والمقيمين» الصّلاة حيث حذفت «النّون» في الجمع عند الإضافة.

أمّا النّون التي تظهر عليها علامات الإعراب وتكون من حروف الكلمة الأصلية فلا تحذف عند الإضافة، فتقول: «بساتين زيد تسرّ النّاظرين».

3 ـ قليلا ما يضاف اسم إلى مرادفه، مثل: «مسجد الجامع مكتظّ بالمصلّين».

والتّقدير: مسجد المكان الجامع فقد سمع إضافة الاسم إلى مرادفه لذلك يؤوّل بما يتطلبه السّياق في الجملة، وقليلا ما يضاف الموصوف إلى صفته فإن سمع ما يوهم ذلك يؤوّل، مثل: «صلاة الأولى تشرح الصّدور». والتقدير: صلاة الساعة الأولى ومثل: «حبّة الحمقاء ناضجة» والتأويل: حبّة البقلة الحمقاء.

أنواع الإضافة من حيث المعنى: الإضافة من حيث المعنى على ثلاثة أنواع:

1 ـ ما يفيد تعرّف المضاف بالمضاف إليه المعرفة، مثل: غلام زيد ماهر وتخصّصه به إن كان نكرة، مثل: «غلام امرأة جميل».

2 ـ ما يفيد تخصّص المضاف دون تعرّفه، وذلك إذا كان المضاف متوغّلا في الإبهام، أو أريد به المغايرة، أو المماثلة، مثل: «شاهدت ولدا غيرك» كلمة «غيرك» تفيد المغايرة وهي صفة ل «ولد» «والكاف»: في محل جرّ بالإضافة ومثل: «مررت برجل مثلك» كلمة «مثلك» تفيد المماثلة وهي صفة ل «رجل» و «الكاف»: في محل جرّ بالإضافة، والإضافة في هذين النّوعين تسمّى الإضافة المعنويّة أو المحضة.

3 ـ ما لا يفيد التعرّف ولا التخصّص، وذلك إذا كان المضاف صفة تشبه المضارع، كقوله تعالى: {هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ} «هديا» حال منصوب «بالغ» صفة ل «هديا» وهو مضاف «الكعبة» مضاف إليه وهو مفعول به لاسم الفاعل «بالغ». «وبالغ الكعبة» لفظه لفظ المعرفة ومعناه النّكرة والتّقدير: بالغا الكعبة، فحذف التّنوين للتّخفيف. وهذه الإضافة هي الإضافة اللّفظيّة.

أنواع الإضافة من حيث العمل: ومن حيث العمل تقسم الإضافة إلى نوعين:

الأول: الاضافة المحضة، أو المعنويّة وهي التي تفيد أمرا معنويا، وتكون خالصة من تقدير الانفصال، مثل: «من خير ضروب الشّجاعة كلمة حقّ تقال في وجه حاكم ظالم» «خير» مضاف «ضروب» مضاف إليه «ضروب» مضاف «الشجاعة» مضاف إليه، «كلمة» مضاف «حقّ» مضاف إليه، «وجه» مضاف «حاكم» مضاف إليه.

الثاني: الإضافة اللّفظيّة وهي التي يكون فيها المضاف على معنى الحال أو الاستقبال كالمضارع، وهذا المضاف يكون اسم فاعل مثل: «سائل زيد شجاع» أو اسم مفعول، مثل: «مروّع القلب جبان»، أو صفة مشبّهة، مثل: «عظيم الأمل متفائل» وقد تدخل «ربّ» على المضاف في هذا النّوع، مثل:

«يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم ***لاقى مباعدة منكم وحرمانا»

حيث دخلت «ربّ» وهي حرف جرّ شبيه بالزّائد على المضاف. «غابطنا» مبتدأ مرفوع بالضّمّة المقدّرة على الآخر منع من ظهورها اشتغال المحلّ بحركة حرف الجرّ المناسبة وهو مضاف «والنّا» ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محلّ جرّ بالإضافة. وتختصّ هذه الإضافة اللّفظيّة بجواز دخول «أل» على المضاف وذلك في خمسة مواضع:

1 ـ إذا كان المضاف إليه مقرونا بـ «أل»، مثل: «مررت بالقارىء الكتب العالم» «القارىء» مضاف مقرون بـ «أل» لأنّ المضاف إليه مقرون بها.

2 ـ إذا كان مضافا إلى ما فيه «أل»، مثل: «مررت بالمضيق الفاصل رأس القارّة الأفريقيّة عن الأوروبيّة» «الفاصل» هو المضاف المقرون بـ «أل» أضيف إلى كلمة «رأس» التي أضيفت إلى «القارّة» المقرونة بـ «أل».

3 ـ إذا كان مضافا إلى ضمير ما فيه «أل»، مثل: «أمي، الحبّ أنت المستحقة كماله»، «المستحقة» مضاف مقرون بـ «أل» لأنه أضيف إلى ضمير ما فيه «أل» فكلمة «كماله» مقرونة بضمير يرجع إلى كلمة «الحب» المقرونة بـ «أل».

4 ـ إذا كان المضاف مثنّى، مثل: «إن يطلب القاطنا بيتي خدمة فإني أسرع للخدمة».

والمضاف هو كلمة «القاطنا» أتى مقرونا بـ «أل» لأنه مثنى، وحذفت منه «النّون» للإضافة والأصل: «القاطنان».

5 ـ إذا كان المضاف جمع مذكر سالما، مثل: «ليس القوم بالمقيمي الصّلاة» «المقيمي» مضاف أتى مقرونا بـ «أل» لأنه جمع مذكّر سالم، وحذفت منه «النّون» للإضافة، وأجاز الكوفيّون إضافة المقرون بـ «أل» إلى المعرفة، مثل: «أنّبت الولد الضارب زيد» «الضارب» مضاف إلى المعرفة «زيد».

تذكير المضاف وتأنيثه: قد يكتسب المضاف المذكّر تأنيثا من المضاف إليه وبالعكس وذلك بشرط صلاحيّة المضاف للاستغناء عنه بالمضاف إليه، كقوله تعالى: تلتقطه {بَعْضُ السَّيَّارَةِ} «بعض» مضاف وهو في الأصل لفظ مذكّر وقد اكتسب تأنيثا من المضاف إليه بدليل تأنيث الفعل «تلتقطه» وذلك لصلاحيّة الاستغناء عنه بالمضاف إليه. وكقول الشاعر:

«رؤية الفكر ما يؤول له الأمر***معين على اجتناب التّواني»

«رؤية» مضاف وهو لفظ مؤنث في الأصل، وقد اكتسب تذكيرا من المضاف إليه المذكر «الفكر» بدليل أن العائد في «له» يعود إلى مذكّر، وذلك لصلاحيّة الاستغناء عنه بالمضاف إليه، ولا يجوز القول: «قام جارية زيد» لعدم صلاحية الاستغناء عن المضاف بالمضاف إليه.

الأسماء والإضافة: الأسماء من جهة الإضافة ثلاثة أنواع هي:

أولا: نوع يمتنع عن الإضافة وهي أسماء الشّرط، والاستفهام، والإشارة، والموصولات، وكلّها لا تضاف إنما يضاف إليها مثل: «كلّ هذا جميل» «كلّ»: مبتدأ وهو مضاف «هذا»: «الهاء» للتّنبيه و «ذا» اسم إشارة في محل جرّ بالإضافة ومثل: «كلّ من يدرس ينجح» «كلّ» مبتدأ وهو مضاف «من» اسم شرط في محل جر بالإضافة ومثل: «كتب من قرأت؟» «كتب» مفعول به مقدّم وهو مضاف «من» اسم استفهام في محل جر بالإضافة، ومثل: «كل ما صنعته مقبول» «كل» مبتدأ وهو مضاف «ما» اسم موصول في محل جرّ بالإضافة.

والأسماء الباقية كلّها صالحة في الغالب للإفراد وللإضافة فتقول: «لعب الفريقان» «الفريقان»: فاعل مرفوع بالألف لأنه مثنى وهو مفرد أي: غير مضاف. ومثل: «لعب فريق الرّياضة والأدب مع فريق دوحة الأدب». «فريق» فاعل لعب وهو مضاف «الرّياضة» مضاف إليه و «فريق» الثانية مضاف «دوحة» مضاف إليه و «دوحة» مضاف، «الأدب»: مضاف إليه.

2 ـ الأسماء التي تجب إضافتها فهي على أنواع كثيرة منها:

أولا: ما يجوز قطعه عن الإضافة مثل: «كلّ» و «بعض» و «أي»، كقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} «كلّ» قطعت عن الإضافة، وكقوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ} «كل»: مضاف «شيء»: مضاف إليه، وكقوله تعالى: و {فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} «بعضهم»: «بعض» مضاف وضمير الغائبين «هم» في محل جرّ بالإضافة وكقوله تعالى: {أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} «أيا» أفردت فلم تضف إلى شيء بعدها، وكقوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ} «أيّ» مضاف «آيات»: مضاف إليه.

ثانيا: ومنها ما يلزم الإضافة إلى المضمر فقط وهو قسمان: الأوّل: كلمة «وحد» فهي لازمة الإضافة إلى كلّ مضمر، فتقول: «جاء وحده» و «جئت وحدي» و «جئت وحدك»، والثّاني، ما يختصّ بالإضافة إلى ضمير المخاطب، وهو المصادر المثّناة التي معناها التّكرار، مثل: «لبيك»، «سعديك»، «حنانيك»، «دواليك»، «هذاذيك». وتقع هذه المصادر مفعولا مطلقا لفعل محذوف يقدّر من معناه ومنصوبا «بالياء» لأنه مثنى و «الكاف» في محل جرّ بالإضافة، كقول الشاعر:

«حنانيك مسؤولا، ولبيك داعيا***وحسبي موهوبا، وحسبك واهبا»

حيث أتى المصدر «حنانيك» لاستعطاف المخاطب بمعنى «تحنّن حنانا بعد حنان» وكقولهم: «حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض» وكلمة «لبّيك» بمعنى: ألبيّ طلبك تلبية بعد تلبية... وسعديك: إسعادا لك بعد إسعاد، ومثل:

«نأكل الأرض ثمّ تأكلنا الأر***ض دواليك أفرعا وأصولا»

ومن الشّاذّ الذي لا يقاس عليه إضافة إحدى هذه الكلمات إلى ضمير غير المخاطب، كقول الشاعر:

لقلت لبّيه لمن يدعوني

فقد أضيفت «لبّي» إلى ضمير الغائب، ومن الشاذّ أيضا إضافتها إلى المفرد، مثل:

«دعوت لما نابني مسورا***فلبّي يدي مسور»

حيث أضيفت «لبّي» إلى الاسم الظّاهر، وهذا شاذّ، وكلمة «يدي» أصلها يدين حذفت منها «النّون» للإضافة، وكقول الشاعر:

«لبّي نداك، لقد نادى فأسمعني ***يفديك من رجل صحبي وأفديكا»

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


14-المعجم المفصّل في الإعراب (كم)

كم ـ

اسم مبهم يأتي: 1 ـ للاستفهام، يستفهم به عن عدد يراد تعيينه. 2 ـ للإخبار عن العدد الكثير، وتسمّى كم الخبريّة. وإعرابها واحد بحسب موقعهما في الجملة: فهما:

1 ـ مبتدأ، إذا جاء بعدهما فعل لازم، أو فعل متعدّ استوفى مفعوله، نحو: «كم مناضلا استشهد» («كم»: اسم استفهام مبنيّ على السكون في محلّ رفع مبتدأ. «مناضلا»: تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة). والجملة الفعليّة «استشهد» في محلّ رفع خبر المبتدأ «كم»، ونحو: «كم كتابا قرأت».

2 ـ مبتدأ، إذا جاء بعدهما ظرف أو جار ومجرور، نحو: «كم طفلا عندك؟» «كم عاملا في المصنع؟».

3 ـ مفعول به، إذا جاء بعدهما فعل متعدّ لم يستوف مفعوله، نحو: «كم كتابا قرأت؟». («كم»: اسم استفهام مبنيّ على السكون في محلّ نصب مفعول به للفعل المتعدّي «قرأ»).

4 ـ مفعول مطلق، إذا كان مميّزهما من لفظ الفعل أو بمعناه، نحو: «كم مساعدة ساعدت الفقراء؟».

5 ـ نائب ظرف، إذا كان مميّزها ظرفا، نحو: «كم يوما غبت؟»

6 ـ خبر للمبتدأ، إذا وقع الاسم بعد التمييز معرفة أو مضاف إلى معرفة، نحو: «كم تلميذا صفّك؟»

7 ـ خبر للفعل النّاقص، نحو: «كم تلميذا كان الحاضرون؟».

8 ـ مضاف إليه، إذا وقع قبلهما اسم، نحو: «مساعدة كم فقيرا قدّمت».

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


15-معجم الأفعال المتعدية بحرف (نشا)

(نشا) ينشو نشوا ونشوة في بني فلان كبر ونشأ ونشيت منه ريحا طيبة واستنشيت قال الشاعر

(ونشيت ريح الموت من تلقائهم

وخشيت وقع مهند قرضاب) الكامل

ومن أين نشيت هذا الخبر وهو نشيان للأخبار ونشوان وإنه لذو نشوة للأخبار بالكسر.

معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م


16-معجم البلدان (إلبيرة)

إِلْبِيرَةُ:

الألف فيه ألف قطع وليس بألف وصل، فهو بوزن إخريطة، وإن شئت بوزن كبريتة، وبعضهم يقول يلبيرة، وربما قالوا لبيرة: وهي كورة كبيرة من الأندلس ومدينة متصلة بأراضي كورة قبرة، بين القبلة والشرق من قرطبة، بينها وبين قرطبة تسعون ميلا، وأرضها كثيرة الأنهار والأشجار، وفيها عدّة مدن، منها: قسطيلية وغرناطة وغيرهما، تذكر في مواضعها، وفي أرضها معادن ذهب وفضة وحديد ونحاس، ومعدن حجر التوتيا في حصن منها يقال له: شلوبينية. وفي جميع نواحيها يعمل الكتّان والحرير الفائق، وينسب إليها كثير من أهل العلم في كل فن، منهم: أسد بن عبد الرحمن الإلبيري الأندلسي، ولي قضاء البيرة، روى عن الأوزاعي، وكان حيّا بعد سنة خمسمائة، قال ابو الوليد: ومنها ابراهيم بن خالد أبو إسحاق من أهل البيرة، سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، ورحل فسمع من سحنون، وهو أحد السبعة الذين سمعوا بإلبيرة في وقت واحد من رواة سحنون، وهم: ابراهيم بن شعيب وأحمد بن سليمان بن أبي الربيع وسليمان بن نصر وابراهيم بن خالد وابراهيم بن خلّاد وعمر بن موسى الكناني وسعيد بن النمر الغافقي، وتوفي ابراهيم بن خلّاد سنة 270، وتوفي أحمد بن سليمان بإلبيرة سنة 287، ومنها أيضا: أحمد بن عمر بن منصور أبو جعفر، إمام حافظ، سمع محمد بن سحنون والربيع بن سليمان الجيزي وعبد الرحمن بن الحكم وغيرهم، مات سنة 312، ومنها: عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جلهمة بن عباس بن مرداس السّلمي، يكنى أبا مروان، وكان بإلبيرة وسكن قرطبة، ويقال إنه من موالي سليم، روى عن صعصعة بن سلّام والغار بن قيس وزياد بن عبد الرحمن، ورحل وسمع من أبي الماجشون ومطرف ابن عبد الله وابراهيم بن المنذر المغامي وأصبغ بن الفرج وسدر بن موسى وجماعة سواهم، وانصرف إلى الأندلس، وقد جمع علما عظيما. وكان يشاور مع يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وله مؤلفات في الفقه والجوامع، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب غريب الحديث، وكتاب تفسير الموطّأ، وكتاب حروب الإسلام، وكتاب المسجدين، وكتاب سيرة الإمام، في مجلدين، وكتاب طبقات الفقهاء من الصحابة والتابعين، وكتاب مصابيح الهدى، وغير ذلك من الكتب المشهورة، ولم يكن له مع ذلك علم بالحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، وذكر أنه كان يتسهّل في سماعه ويحمل على سبيل الإجازة أكثر روايته، وقال ابن وضّاح: قال لي ابراهيم بن المنذر المغاميّ:

أتاني صاحبكم الأندلسي عبد الملك بن حبيب بغرارة مملوءة كتبا، وقال لي: هذا علمك تجيزه لي؟

فقلت: نعم، ما قرأ عليّ منه حرفا ولا قرأته عليه، قال: وكان عبد الملك بن حبيب نحويّا عروضيّا شاعرا حافظا للأخبار والأنساب والأشعار، طويل

اللسان متصرّفا في فنون العلم، روى عنه مطرف بن قيس وتقي بن مخلد وابن وضّاح ويوسف بن يحيى العاميّ، وتوفي سنة 238 بعلّة الحصى عن أربع وستين سنة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


17-معجم البلدان (قرطبة)

قُرْطُبَةُ:

بضم أوله، وسكون ثانيه، وضم الطاء المهملة أيضا، والباء الموحدة، كلمة فيما أحسب عجمية رومية ولها في العربية مجال يجوز أن يكون من القرطبة وهو العدو الشديد، قال بعضهم:

«إذا رآني قد أتيت قرطبا، *** وجال في جحاشه وطرطبا»

وقال الأصمعي: طعنه فقرطبه إذا صرعه، وقال ابن الصامت الجشمي:

«رقوني وقالوا: لا ترع يا ابن صامت، *** فظلت أناديهم بثدي مجدّد»

«وما كنت مغترّا بأصحاب عامر *** مع القرطبا بلّت بقائمه يدي»

وقال: القرطبا السيف كأنه من قرطبه أي قطعه:

وهي مدينة عظيمة بالأندلس وسط بلادها وكانت سريرا لملكها وقصبتها وبها كانت ملوك بني أمية ومعدن الفضلاء ومنبع النبلاء من ذلك الصقع، وبينها وبين البحر خمسة أيام، قال ابن حوقل التاجر الموصلي وكان طرق تلك البلاد في حدود سنة 350 فقال:

وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسور من حجارة ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسافله من ربضها، وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيّها وشماليها، وغربها وجنوبها فهو إلى واديها وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، ومساكن العامة بربضها، وأهلها متموّلون متخصصون وأكثر ركوبهم البغلات من خورهم وجبنهم أجنادهم وعامتهم، ويبلغ ثمن البغلة عندهم خمسمائة دينار، وأما المائة والمائتان فكثير لحسن شكلها وألوانها وقدودها وعلوها وصحة قوائمها، قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: كانت صفتها هكذا إلى حدود سنة 440 فإنه انقضت مدة الأمويين وابن أبي عامر وظهر المتغلبون بالأندلس وقويت شوكة بني عبّاد وغيرهم واستولى كلّ أمير على ناحية وخلت قرطبة من سلطان يرجع إلى أمره وصار كل من قويت يده عمرت مدينته، وخربت قرطبة بالجور عليها فعمّرت إشبيلية ببني عباد عمارة صارت بها سرير ملك الأندلس، فهي إلى الآن على ذلك من العمارة، وخربت قرطبة وصارت كإحدى المدن المتوسطة، وقد رثوها فأكثروا فيها، وممن تشوّق إليها القاضي محمد بن أبي عيسى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة فقال فيها:

«ويل امّ ذكراي من ورق مغرّدة *** على قضيب بذات الجزع ميّاس»

«رددن شجوا شجا قلبي الخلّي فقل *** في شجو ذي غربة ناء عن الناس»

«ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبة *** بين الأحبّة في لهو وإيناس»

«هجن الصبابة لولا همّة شرفت *** فصيّرت قلبه كالجندل القاسي»

وينسب إليها جماعة وافرة من أهل العلم، منهم: أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي، قرأ عليه كثير من شيوخنا، وكان أديبا فاضلا مقرئا عارفا بالنحو واللغة، سمع كثيرا من كتب الأدب وورد الموصل فأقام بها يفيد أهلها ويقرؤون عليه فنون العلم إلى أن مات بها في سنة 567، وممن ينسب إليها أحمد بن محمد بن عبد البر أبو عبد الملك من

موالي بني أمية، سمع محمد بن أحمد بن الزرّاد وابن لبابة وأسلم بن عبد العزيز وغيرهم، وله كتاب مؤلف في الفقهاء بقرطبة، ومات في السجن لليلتين بقيتا من رمضان سنة 338، قال ابن الفرضي: وأحمد بن محمد بن موسى بن بشير بن حناذ بن لقيط الرازي الكناني من أنفسهم من أهل قرطبة يكنّى أبا بكر، وفد أبوه على الإمام محمد وكان أبوه من أهل اللسانة والخطابة، وولد أحمد بالأندلس، وسمع من أحمد ابن خالد وقاسم بن أصبغ وغيرهما، وكان كثير الرواية حافظا للأخبار وله مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس وتواريخ دول الملوك منها، توفي لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة 344، ومولده في عاشر ذي الحجة سنة 274، قاله ابن الفرضي، وحبّاب ابن عبادة الفرضي أبو غالب القرطبي له تآليف في الفرائض، وحسن بن الوليد بن نصر أبو بكر يعرف بابن الوليد، وكان فقيها عالما بالمسائل نحويّا، خرج إلى الشرق في سنة 362، وخالد بن سعد القرطبي أحد أئمة الأندلس، كان المستنصر يقول: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن مروان أتيناهم بخالد بن سعد، وصنف كتابا في رجال الأندلس، ومات فجأة سنة 352، عن ابن الفرضي، وقد نيف على الستين، وخلف بن القاسم بن سهل بن محمد بن يونس بن الأسود أبو القاسم المعروف بابن الدّبّاغ الأزدي القرطبي، ذكره الحافظ في تاريخ دمشق، وقد سمع بدمشق أبا الميمون بن راشد وأبا القاسم بن أبي العقب، وبمكة أبا بكر أحمد بن محمد بن سهل بن رزق الله المعروف ببكير الحداد وأبا بكر بن أبي الموت، وبمصر عبد الله بن محمد المفسر الدمشقي والحسن بن رشيق، روى عنه أبو عمر يوسف بن محمد بن عبد البر الحافظ وأبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي وأبو عمرو الداني، كان حافظا للحديث عالما بطرقه، ألّف كتبا حسانا في الزهد، ومولده سنة 325 ومات سنة 393 في ربيع الآخر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


18-معجم البلدان (قلعة أيوب)

قَلْعَةُ أيّوب:

مدينة عظيمة جليلة القدر بالأندلس بالثغر، وكذا ينسب إليها فيقال ثغريّ، من أعمال سرقسطة، بقعتها كثيرة الأشجار والأنهار والمزارع ولها عدة حصون وبالقرب منها مدينة لبلة، ينسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم محمد بن قاسم بن خرّم من أهل قلعة أيوب يكنى أبا عبد الله، رحل سنة 338 سمع بالقيروان من محمد بن أحمد بن نادر ومحمد بن محمد بن اللباد، حدثنا عنه ابنه عبد الله بن محمد الثغري وقال: توفي سنة 344، قاله ابن الفرضي، ومحمد بن نصر الثغري من قلعة أيوب يكنى أبا عبد الله أصله من سرقسطة، وكان حافظا للأخبار والأشعار عالما باللغة والنحو خطيبا بليغا، وكان صاحب صلاة قلعة أيوب، قال ابن الفرضي: أحسب أن وفاته كانت في نحو سنة 345.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


19-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الإلجاء)

الإلجاء:

الالجاء من ألجأ أي أسند، وألجأه الى الشيء: اضطره اليه. والالجاء: الاضطرار.

وقد عرّفه المصري بقوله: «هو أن تكون صحة الكلام المدخول ظاهره موقوفة على الاتيان فيه بما يبادر الخصم الى ردّه بشيء يلجئه الى الاعتراف بصحته. وملخص تعريفه أن يقال: لكل كلام يرد فيه على المعترض عليه جواب مدخول إذا دخله الخصم به التجأ الى تصحيح الجواب»، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، قال الله تعالى في جواب هذا القول: {لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فان للخصم أن يقول: نحن إنّما أردنا القصص والأخبار ونحن نعلم أنّ الأعجمي إذا القى الكلام الى العربي لا يخرجه عن كونه تعلم معانيه من الأعجمي. فظاهر الكلام لا يصلح أن يكون ردا على المشركين فيقال لهم: هب أنّ الأعجمي علمه المعاني فهذه العبارة الهائلة التي قطعت أطماعكم عن الاتيان بمثلها من علمها له؟ أفان كان هو الذي أتى بها من قبل نفسه كما زعمتم فقد أقررتم أنّ رجلا واحدا منكم أتى بهذا المقدار من الكلام الذي هو مائة سورة وأربع عشرة سورة، وقد عجزتم بأجمعكم، وكل من تدعونه من دون الله عن الاتيان بأقصر سورة. فان قلتم: إنّ الاعجمي علمه المعاني والالفاظ فهذا أشد عليكم لأنّه إقرار بأنّ رجلا أعجميا قدر على ما بين من الآيات المتضمنة للأخبار والقصص وقد عجزتم عن ثلاث آيات منهن، يلجئهم ذلك الى الاقرار بأنّه من عند الله.

وقال السبكي: «هو ذكر اعتراض وجواب»، ولم يذكر له أمثلة. ويبدو أنّ المصري انفرد بالحديث عن هذا الفن، لأنّ «الالتجاء والمعاظلة» الذي ذكره ابن منقذ غير ذلك، فالالتجاء والمعاظلة ـ كما تقدم ـ هو ما سماه عبد القاهر الاستعارة غير المفيدة، والإلجاء الذي ذكره المصري والسبكي هو «ذكر اعتراض وجواب».

إلجام الخصم بالحجّة:

يقال: ألجم الفرس أي وضع له اللجام، وفي الحديث: «من سئل عما يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»، أي أنّ الممسك عن الكلام ممثل بمن ألجم نفسه بلجام.

وإلجام الخصم بالحجة هو الاحتجاج النظري وقد تقدم، أو المذهب الكلامي وقد سماه الزركشي «الجام الخصم بالحجة» وقال: «هو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه.

والعجب من ابن المعتز في بديعه حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن وهو من أساليبه».

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


20-موسوعة الفقه الكويتية (إحراق 1)

إِحْرَاقٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِحْرَاقُ لُغَةً مَصْدَرُ أَحْرَقَ.أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ الْفِقْهِيُّ فَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِحْرَاقَ هُوَ إِذْهَابُ النَّارِ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ تَأْثِيرُهَا فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الْأَخِيرِ: الْكَيُّ وَالشَّيُّ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- لِلْإِحْرَاقِ صِلَةٌ بِأَلْفَاظٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا:

أ- الْإِتْلَافُ: وَهُوَ الْإِفْنَاءُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِحْرَاقِ.

ب- التَّسْخِينُ: وَهُوَ تَعْرِيضُ الشَّيْءِ لِلْحَرَارَةِ، فَهُوَ غَيْرُ الْإِحْرَاقِ.

ج- الْغَلْيُ: وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ التَّسْخِينِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَادَّةِ الْمُرَادُ غَلْيُهَا، فَهُوَ غَيْرُ الْإِحْرَاقِ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِحْرَاقِ بِاخْتِلَافِ مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ، فَتَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ.

أَثَرُ الْإِحْرَاقِ مِنْ حَيْثُ التَّطْهِيرُ:

4- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْإِحْرَاقَ إِذَا تَبَدَّلَتْ بِهِ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ بِتَبَدُّلِ أَوْصَافِهَا أَوِ انْقِلَابِ حَقِيقَتِهَا حَتَّى صَارَتْ شَيْئًا آخَرَ، وَذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ إِذَا احْتَرَقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أَوْ دُخَانًا، فَإِنَّ مَا يَتَخَلَّفُ مِنَ الْإِحْرَاقِ يَكُونُ طَاهِرًا، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ طَاهِرَةً فِي الْأَصْلِ وَتَنَجَّسَتْ، كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ.

وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ إِذَا تَخَلَّلَتْ وَالْإِهَابِ إِذَا دُبِغَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، إِلَى أَنَّ الْإِحْرَاقَ لَا يَجْعَلُ مَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَيَبْقَى عَلَى نَجَاسَتِهِ.وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ، أَوِ الْمُتَنَجِّسَةُ، لِقِيَامِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَخَلِّفَ مِنَ الْإِحْرَاقِ جُزْءٌ مِنَ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ.

وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: إِنْ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلًا قَوِيًّا فَرَمَادُهَا طَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَنَجِسٌ.

هَذَا وَإِنَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِنَجَاسَةِ الْمُتَخَلِّفِ مِنْ إِحْرَاقِ النَّجِسِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِلضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.

طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ:

5- إِذَا أَصَابَتِ الْأَرْضَ نَجَاسَةٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ النَّارِ، وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَهُوَ هُنَا اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ، جَازَتِ الصَّلَاةُ مَكَانَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام-: «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا».وَعَنِ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا، وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ».

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الصَّعِيدِ شَرْطٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَطَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْجَفَافِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْقَطْعِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ لِلتَّيَمُّمِ بِنَصِّ الْآيَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى مَكَانِهَا وَلَا التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ حَصَلَتْ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُزِيلُ لَمْ يُوجَدْ.

تَمْوِيهُ الْمَعَادِنِ بِالنَّجِسِ:

6- الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُقِيَ الْحَدِيدُ بِنَجِسٍ، فَغُسِلَ ثَلَاثًا، يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ بَعْدَئِذٍ فِي شَيْءٍ لَا يَنْجُسُ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَا مُحَمَّدٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ مُطْلَقًا لَوْ سُقِيَ بِالطَّاهِرِ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِحَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ.وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْلِ فِي الصَّلَاةِ.أَمَّا لَوْ غُسِلَ ثَلَاثًا ثُمَّ قُطِعَ بِهِ نَحْوُ بِطِّيخٍ، أَوْ وَقَعَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، لَا يُنَجِّسُهُ.فَالْغُسْلُ يُطَهِّرُ ظَاهِرَهُ إِجْمَاعًا.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، اخْتَارَهُ الشَّاشِيُّ، أَنَّهُ يُكْتَفَى لِتَطْهِيرِ الْحَدِيدِ الْمَسْقِيِّ بِنَجِسٍ بِتَطْهِيرِهِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كُلَّهَا جُعِلَتْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لَا عَلَى الْجَوْفِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ سُقِيَ الْحَدِيدُ الْمُحْمَى وَالنُّحَاسُ وَغَيْرُهُمَا بِنَجِسٍ لَا يُنَجِّسُهُمَا وَيَبْقَيَانِ عَلَى طَهَارَتِهِمَا لِعَدَمِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا لِانْدِفَاعِ النَّجَاسَةِ بِالْحَرَارَةِ.

الِاسْتِصْبَاحُ بِالنَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ

الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ:

7- عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهَا.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَجُزْؤُهَا.وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ».الْحَدِيثَ.

وَنَحْوُهُمُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُنْتَفَعُ بِالنَّجِسِ إِلاَّ شَحْمُ مَيْتَةٍ لِدَهْنِ الْعَجَلَاتِ وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، لَا فِيهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَحِلُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ.

الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ:

8- اخْتَلَفَتِ الْآرَاءُ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالْأَدْهَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَجَازَ كَالطَّاهِرِ.وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.فَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ.

دُخَانُ وَبُخَارُ النَّجَاسَةِ الْمُحْرَقَةِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ رُشْدٍ وَبَعْضٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَاخْتَارَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اللَّخْمِيُّ وَالتُّونِسِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَوَصَفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ، إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ الدُّخَانِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ وَقُودِ النَّجَاسَةِ، وَالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ ثُمَّ قُطِّرَ فَهُوَ نَجِسٌ، وَمَا يُصِيبُ الثَّوْبَ مِنْ بُخَارِ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُهُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ.وَبُخَارُ النَّجَاسَةِ إِذَا تَصَاعَدَ بِوَاسِطَةِ نَارٍ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَفْصِلُهَا النَّارُ بِقُوَّتِهَا فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ.

وَإِذَا طُبِخَ طَعَامٌ بِرَوْثِ آدَمِيٍّ، أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ أُوقِدَ بِهِ تَحْتَ هِبَابٍ فَصَارَ نَشَادِرًا، فَالطَّعَامُ طَاهِرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أَصَابَهُ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ كَثِيرًا، وَإِلاَّ تَنَجَّسَ.وَكَذَا النَّشَادِرُ إِنْ كَانَ هِبَابُهُ طَاهِرًا، وَإِلاَّ فَهُوَ نَجِسٌ.فَالْهِبَابُ الْمَعْرُوفُ الْمُتَّخَذُ مِنْ دُخَانِ السِّرْجِينِ أَوِ الزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ إِذَا أُوقِدَ بِهِ نَجِسٌ، كَالرَّمَادِ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.

التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ:

10- كُلُّ شَيْءٍ أُحْرِقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ.أَمَّا مَا أُحْرِقَ وَلَمْ يَصِرْ رَمَادًا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَاقِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَصْلِهِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا احْتَرَقَ، لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ صَعِيدًا. وَتَفْصِيلُ مَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مِنْهُ وَمَا لَا يَصِحُّ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ).

الْمَاءُ الْمُتَجَمِّعُ تَحْتَ الْجِلْدِ بِالِاحْتِرَاقِ (النَّفِطَةُ):

11- النَّفِطَةُ تَحْتَ الْجِلْدِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِنَجَاسَةٍ وَلَا نَقْضٍ لِلْوُضُوءِ.أَمَّا إِذَا خَرَجَ مَاؤُهَا فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَيُعْفَى عَمَّا يُعْتَبَرُ مِنْهُ قَلِيلًا تَبَعًا لِكُلِّ مَذْهَبٍ فِي ضَابِطِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْمَعْفُوَّاتِ.أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ سَالَ عَنْ مَكَانِهِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ فَاحِشًا، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ غَيْرُ نَاقِضٍ عِنْدَهُمْ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمْ لَهُ بَيْنَ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.

تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ الْمُحْتَرِقِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنِ احْتَرَقَ بِالنَّارِ يُغَسَّلُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْتَى إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ إِنَّمَا هُوَ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَرِقًا بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهَا.أَمَّا الْمُحْتَرِقُ خَارِجَ الْمَعْرَكَةِ فَهُوَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ.وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ شُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ.

فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْغُسْلِ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا Bوَلَا يُمَسُّ.فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ لَمْ يُغَسَّلْ وَيُيَمَّمُ إِنْ أَمْكَنَ، كَالْحَيِّ الَّذِي يُؤْذِيهِ الْمَاءُ.وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ غُسِّلَ مَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ وَيُيَمَّمُ الْبَاقِي كَالْحَيِّ سَوَاءً.

الصَّلَاةُ عَلَى الْمُحْتَرِقِ الْمُتَرَمِّدِ:

13- ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ تَقَدُّمَ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ حُضُورَهُ أَوْ أَكْثَرِهِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ وَتَيَمُّمُهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ:

14- يُكْرَهُ دَفْنُ الْمَيِّتِ فِي تَابُوتٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ،

وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَمِنْهَا الْمَيِّتُ الْمُحْتَرِقُ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ.

الْإِحْرَاقُ

فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ

الْإِحْرَاقُ الْعَمْدُ:

15- يُعْتَبَرُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ عَمْدًا جِنَايَةُ عَمْدٍ.وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمُحَدَّدِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْجِنَايَاتِ).

الْقِصَاصُ بِالْإِحْرَاقِ:

16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ بِمَا قَتَلَ بِهِ وَلَوْ نَارًا.وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالنَّارِ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّعْذِيبِ بِهَا.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنِ النَّبِيِّ B مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَفِيهِ: «مَنْ حَرَقَ حَرَقْنَاهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ وَإِنْ قَتَلَ بِغَيْرِهِ، فَلَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ عُزِّرَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: «لَا قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ».وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ.

مُوجِبُ تَعْذِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالنَّارِ:

17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُوجِبِ تَعْذِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالنَّارِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ.وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ؛ وَاللَّيْثُ إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى فِعْلِهِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَثَرِ عُمَرَ- رضي الله عنه-، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: وَلِيدَةٌ أَتَتْ عُمَرَ، وَقَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ، فَأَصَابَهَا بِهَا.فَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ.وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. الْعُقُوبَةُ فِي اللِّوَاطِ بِالْإِحْرَاقِ:

18- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ عُقُوبَةَ اللِّوَاطِ سَوَاءٌ اللاَّئِطُ وَالْمَلُوطُ بِهِ التَّعْزِيرُ، وَيُجِيزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ التَّعْزِيرُ بِالْإِحْرَاقِ.وَإِلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَأَوْجَبَ إِحْرَاقَهُمَا ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ عُقُوبَتَهُمَا لَا تَكُونُ بِالْإِحْرَاقِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْحُدُودِ).وَاسْتَدَلَّ مَنْ رَأَى الْإِحْرَاقَ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ أَبُو بَكْرٍ.وَتَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ- رضي الله عنهم-.

إِحْرَاقُ الدَّابَّةِ الْمَوْطُوءَةِ:

19- لَا يُحَدُّ شَخْصٌ بِوَطْءِ بَهِيمَةٍ، بَلْ يُعَزَّرُ وَتُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ، ثُمَّ تُحْرَقُ إِذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، وَذَلِكَ لِقَطْعِ امْتِدَادِ التَّحَدُّثِ بِهِ كُلَّمَا رُئِيَتْ.وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تُؤْكَلُ جَازَ أَكْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: تُحْرَقُ أَيْضًا، وَفِي الْقُنْيَةِ: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا.وَلِأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِقَتْلِهَا بِغَيْرِ ذَبْحٍ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا يُذَكِّرُ بِالْفَاحِشَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِهَا.

التَّحْجِيرُ بِالْإِحْرَاقِ:

20- مَنْ حَجَّرَ أَرْضًا مَيِّتَةً بِأَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهَا بِوَضْعِ عَلَامَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.وَمِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّحْجِيرُ إِحْرَاقُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّوْكِ وَالْأَشْجَارِ لِإِصْلَاحِ الْأَرْضِ.

إِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ:

21- يُكْرَهُ إِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، كَالتَّبْخِيرِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَالتَّدْفِئَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ كَانَ تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ النَّارِ، فَهُوَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ.

وَأَمَّا إِيقَادُ النَّارِ، كَالسُّرُجِ وَغَيْرِهَا، عِنْدَ الْقُبُورِ فَلَا يَجُوزُ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا السُّرُجَ».فَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ تَقْتَضِي الْإِضَاءَةَ كَدَفْنِ الْمَيِّتِ لَيْلًا فَهُوَ جَائِزٌ.

التَّبْخِيرُ عِنْدَ الْمَيِّتِ:

22- يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَبْخِيرُ أَكْفَانِ الْمَيِّتِ بِالْعُودِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الْعُودُ عَلَى النَّارِ فِي مِجْمَرٍ، ثُمَّ يُبَخَّرَ بِهِ الْكَفَنُ حَتَّى تَعْبَقَ رَائِحَتُهُ وَيَطِيبَ.وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ مَاءَ الْوَرْدِ لِتَعْلَقَ الرَّائِحَةُ بِهِ. وَتُجْمَرُ الْأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ الْمَيِّتُ فِيهَا وِتْرًا.

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ.وَقِيلَ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَيِّتِ الْمُحْرِمِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَجْمِيرِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْحَيِّ، وَلِأَنَّهُ انْقَطَعَ إِحْرَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَسَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَبْطُلُ إِحْرَامُهُ، فَلَا يُجْمَرُ هُوَ وَلَا أَكْفَانُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ النَّاقَةُ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».

اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ بِنَارٍ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ بِنَارٍ فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَخُورًا.وَكَذَلِكَ مُصَاحَبَتُهَا لِلْمَيِّتِ، لِلْأَخْبَارِ الْآتِيَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ، وَزَجَرَ عَنْهُ.فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ خَرَجَ فِي Bجِنَازَةٍ، فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ، فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالْآكَامِ»،، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ»،، وَقَدْ أَوْصَى كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَلاَّ يُتْبَعُوا بِنَارٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ.وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: لَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ.قَالُوا لَهُ: أَوَ سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

فَإِنْ دُفِنَ لَيْلًا، فَاحْتَاجُوا إِلَى ضَوْءٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَإِنَّمَا كُرِهَ الْمَجَامِرُ الَّتِي فِيهَا الْبَخُورُ.

الْإِحْرَاقُ الْمَضْمُونُ وَغَيْرُ الْمَضْمُونِ:

24- إِذَا أَوْقَدَ الشَّخْصُ نَارًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتِ حِجْرِهِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهِ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إِلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا، فَإِنْ كَانَ الْإِيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَلاَّ تَنْتَقِلَ النَّارُ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْإِيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا انْتِقَالُ النَّارِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ النَّارُ، وَذَلِكَ كَأَنْ كَانَ الْإِيقَادُ وَالرِّيحُ عَاصِفَةٌ، أَوْ وَضَعَ مَادَّةً مِنْ شَأْنِهَا انْتِشَارُ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ.

وَعَدَمُ الضَّمَانِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى مَرْجِعُهُ إِلَى قِيَاسِهَا عَلَى سِرَايَةِ الْجَرْحِ فِي قِصَاصِ الْأَطْرَافِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ.فَإِنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ مَا لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ النَّارُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ.

مِلْكِيَّةُ الْمَغْصُوبِ الْمُتَغَيِّرِ بِالْإِحْرَاقِ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَأَعْظَمُ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا، وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا.وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا، أَوْ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا، أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً.وَسَبَبُ انْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوَّمَةً؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا أَوْ شَيِّهَا، وَبِهَذَا يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ.وَحَقُّ الْغَاصِبِ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمَا هُوَ قَائِمٌ Bمِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُرَجَّحٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ.

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إِذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ لَحْمًا، فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سِكِّينًا، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَاتَّخَذَهُ خَزَفًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ، وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يُوجِبُ بَقَاءَ مِلْكِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ، فَتَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ الْحَادِثَةُ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ.وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ مَعَ الْأَرْشِ.وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَنَّ الْغَاصِبَ يُشَارِكُ الْمَالِكَ بِكُلِّ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِمَنَافِعِهِ، وَمَنَافِعُهُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ غَيْرَ مُصَنَّعَةٍ، ثُمَّ تُقَوَّمَ مُصَنَّعَةً، فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْغَاصِبِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ. مَا يُبَاحُ إِحْرَاقُهُ وَمَا لَا يُبَاحُ:

26- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُصْحَفَ الصَّالِحَ لِلْقِرَاءَةِ لَا يُحْرَقُ، لِحُرْمَتِهِ، وَإِذَا أُحْرِقَ امْتِهَانًا يَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

وَهُنَاكَ بَعْضُ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، مِنْهَا: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُصْحَفُ إِذَا صَارَ خَلَقًا، وَتَعَذَّرَ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ، لَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ، بَلْ يُدْفَنُ، كَالْمُسْلِمِ.

وَذَلِكَ بِأَنْ يُلَفَّ فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ ثُمَّ يُدْفَنَ.وَتُكْرَهُ إِذَابَةُ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ آيَةٌ، إِلاَّ إِذَا كُسِرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يُكْرَهُ إِذَابَتُهُ، لِتَفَرُّقِ الْحُرُوفِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ دُونَ آيَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَرْقُ الْمُصْحَفِ الْخَلَقِ إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ صِيَانَتِهِ فَلَا ضَرَرَ، بَلْ رُبَّمَا وَجَبَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْخَشَبَةُ الْمَنْقُوشُ عَلَيْهَا قُرْآنٌ فِي حَرْقِهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: يُكْرَهُ حَرْقُهَا لِحَاجَةِ الطَّبْخِ مَثَلًا، وَإِنْ قُصِدَ بِحَرْقِهَا إِحْرَازُهَا لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَرْقُ لِحَاجَةٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عَبَثًا فَيَحْرُمُ، وَإِنْ قَصَدَ الِامْتِهَانَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْرِيقِ الْمُصْحَفِ غَيْرِ الصَّالِحِ لِلْقِرَاءَةِ.

أَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ فَإِحْرَاقُهَا كُفْرٌ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا أَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ الْمَقْرُونَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ: «- عليه الصلاة والسلام- » لَا مُطْلَقُ الْأَسْمَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْكُتُبُ إِذَا كَانَ يَتَعَذَّرُ Bالِانْتِفَاعُ بِهَا يُمْحَى عَنْهَا اسْمُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَيُحْرَقُ الْبَاقِي.

إِحْرَاقُ السَّمَكِ وَالْعَظْمِ وَغَيْرِهِمَا:

27- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِلْقَاءِ السَّمَكِ فِي النَّارِ حَيًّا لِشَيِّهِ.كَمَا أَبَاحُوا إِحْرَاقَ الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ.وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ فِي إِحْرَاقِ الْعَظْمِ.وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شَيَّ السَّمَكِ الْحَيِّ وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ شَيُّ الْجَرَادِ حَيًّا، لِمَا أُثِرَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ أَمَامَ عُمَرَ- رضي الله عنه- مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ،

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِضَاعَةُ الْمَالِ بِالْإِحْرَاقِ أَوْ غَيْرِهِ.

الْإِحْرَاقُ بِالْكَيِّ لِلتَّدَاوِي:

28- إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى التَّدَاوِي بِالْكَيِّ فَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ خَالِقُهَا. وَأَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْكَيُّ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْحَدِيدَ أَوْ غَيْرَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي).

الْوَسْمُ بِالنَّارِ:

29- الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ بِالنَّارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ.وَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَسْمُ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ حَرَامٌ لِكَرَامَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ.وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ فَاعِلَهُ، وَاللَّعْنُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، حَيْثُ قَالَ: «أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا؟»

أَمَّا وَسْمُ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فِي بَقِيَّةِ الْجِسْمِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى كَرَاهَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبٍ وَمُثْلَةٍ.

الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ- لآِخَرَ أَهْوَنَ:

30- لَوْ شَبَّتِ النَّارُ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ السَّلَامَةُ فِيهِ مِنْ بَقَائِهِمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ أَوْ تَرْكِهَا فَعَلُوهُ.

وَإِنِ اسْتَوَى عِنْدَهُمُ الْأَمْرَانِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: كَيْفَ شَاءُوا صَنَعُوا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُمَا مَوْتَتَانِ فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا،

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبِ الْمَوْتِ الَّذِي حَلَّ، إِلَى سَبَبٍ آخَرَ إِنْ رَجَا بِهِ حَيَاةً، أَوْ طُولَهَا، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مَعَهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ.

الْإِحْرَاقُ فِي الْحَرْبِ:

31- إِذَا قَدَرَ عَلَى الْعَدُوِّ بِالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْلَمُ، لِمَا رَوَى «حَمْزَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ فَوَلَّيْتُ، فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحَرِّقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ».

فَأَمَّا رَمْيُهُمْ بِالنَّارِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ.وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ فَجَائِزٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ.

هَذَا وَإِنْ تَتَرَّسَ الْعَدُوُّ فِي الْحَرْبِ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ اضْطُرِرْنَا إِلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَالْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْكُفَّارِ فِي حَالِ الْقِتَالِ.

إِحْرَاقُ أَشْجَارِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ:

32- إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ نِكَايَةٌ بِالْعَدُوِّ، وَلَمْ يُرْجَ حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَالْإِحْرَاقُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا.بَلْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَعَيُّنِ الْإِحْرَاقِ.أَمَّا إِذَا رُجِيَ حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِحْرَاقِهَا نِكَايَةٌ، فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ.وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَتِهِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي إِحْرَاقِهَا نِكَايَةٌ، وَيُرْجَى حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ.بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِنَدْبِ الْإِبْقَاءِ حِفْظًا لِحَقِّ الْفَاتِحِينَ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْإِبْقَاءِ.

وَإِذَا كَانَ لَا نِكَايَةَ فِي إِحْرَاقِهَا، وَلَا يُرْجَى حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ.وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُعَامَلَةُ بِالْمِثْلِ، وَمُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ.

حَرْقُ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ نَقْلِهِ مِنْ أَسْلِحَةٍ وَبَهَائِمَ وَغَيْرِهَا:

33- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَرْقِ وَالْإِتْلَافِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ، وَعَجَزَ عَنْ نَقْلِ أَسْلِحَةٍ وَأَمْتِعَةٍ وَبَهَائِمَ لِمُسْلِمٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَعَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، تُحْرَقُ وَمَا لَا يُحْرَقُ، كَحَدِيدٍ، يُتْلَفُ أَوْ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ خَفِيٍّ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

أَمَّا الْمَوَاشِي وَالْبَهَائِمُ وَالْحَيَوَانَاتُ فَتُذْبَحُ وَتُحْرَقُ، وَلَا يَتْرُكُهَا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ وَتَعْرِيضِهِمْ لِلْهَلَكَةِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِتَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنِ الْكُفَّارِ، وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ وَالتَّحْرِيقِ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَشْرُوعِ، بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنها-، فَأَخَذْتُ بُرْغُوثًا فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ».

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: يُجْهَزُ عَلَى الْحَيَوَانِ وُجُوبًا، لِلْإِرَاحَةِ مِنَ التَّعْذِيبِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ أَوْ قَطْعِ عُرْقُوبِهِ، أَوِ الذَّبْحِ الشَّرْعِيِّ وَيُحْرَقُ الْحَيَوَانُ نَدْبًا بَعْدَ إِتْلَافِهِ إِنْ كَانَ الْأَعْدَاءُ يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ ظَنًّا، لِئَلاَّ يَنْتَفِعُوا بِهِ.فَإِنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لَمْ يُطْلَبِ التَّحْرِيقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا.وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ طَلَبُ تَحْرِيقِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اسْتَحَلُّوا أَكْلَ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا، لِاحْتِمَالِ أَكْلِهِمْ لَهُ حَالَ الضَّرُورَةِ.وَقِيلَ: التَّحْرِيقُ وَاجِبٌ، وَرَجَحَ.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ فَسَادِهِ وَجَبَ التَّحْرِيقُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَدْ حَصَلَ بِالْإِحْرَاقِ.

34- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ عَقْرُ الدَّوَابِّ وَإِحْرَاقُ النَّحْلِ وَبُيُوتِهِ لِمُغَايَظَةِ الْكُفَّارِ وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِمْ، سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ.

وَذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ الْحَرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيُهُمْ بِالنَّارِ، فَيَجُوزُ إِتْلَافُ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِإِتْلَافِ الْبَهَائِمِ إِلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ- رضي الله عنه- قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَلَا هَرِمًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا دَابَّةً عَجْمَاءَ، وَلَا شَاةً إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُحَرِّقَنَّ نَحْلًا وَلَا تُغْرِقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ قَتْلِ شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ لِغَيْظِ الْمُشْرِكِينَ Bمَا يُحْرَقُ لِلْغَالِّ وَمَا لَا يُحْرَقُ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (اختضاب)

اخْتِضَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاخْتِضَابُ لُغَةً: اسْتِعْمَالُ الْخِضَابِ.وَالْخِضَابُ هُوَ مَا يُغَيَّرُ بِهِ لَوْنُ الشَّيْءِ مِنْ حِنَّاءَ وَكَتَمٍ وَنَحْوِهِمَا.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّبْغُ وَالصِّبَاغُ:

2- الصَّبْغُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ مِنَ الْإِدَامِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}.قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالصِّبْغِ فِي الْآيَةِ الزَّيْتُ؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّنُ الْحَبَّ إِذَا غُمِسَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِدَامٌ يُصْبَغُ بِهِ.

ب- التَّطْرِيفُ:

3- التَّطْرِيفُ لُغَةً: خَضْبُ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، يُقَالُ: طَرَفَتِ الْجَارِيَةُ بَنَانَهَا إِذَا خَضَّبَتْ أَطْرَافَ أَصَابِعِهَا بِالْحِنَّاءِ، وَهِيَ مُطَرِّفَةٌ.

ج- النَّقْشُ:

4- النَّقْشُ لُغَةً.النَّمْنَمَةُ، يُقَالُ: نَقَشَهُ يَنْقُشُهُ نَقْشًا وَانْتَقَشَهُ: نَمْنَمَهُ فَهُوَ مَنْقُوشٌ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْخِضَابِ تَبَعًا لِلَوْنِهِ، وَلِلْمُخْتَضِبِ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً.وَسَيَأْتِي.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الِاخْتِضَابِ وَعَدَمِهِ:

6- نَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الِاخْتِضَابِ، وَفِي جِنْسِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الِاخْتِضَابِ أَفْضَلُ، اسْتِبْقَاءً لِلشَّيْبِ، وَرَوَى حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاخْتِضَابُ أَفْضَلُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَالنَّصَارَى»، وَلِقَوْلِهِ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الِاخْتِضَابِ.وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُبَالِغُ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ بِهَا.

وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.ثُمَّ قَدْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَخْتَضِبُ بِالصُّفْرَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَغَيْرُهُمْ.

وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الطَّبَرِيِّ قَوْلَهُ الصَّوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ.بَلِ الْأَمْرُ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ، وَالنَّهْيُ لِمَنْ لَهُ شَمَطٌ فَقَطْ، وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

7- وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ تَنْفِي اخْتِضَابَهُ فَمِنَ الْأُولَى: مَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ».

وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ حَتَّى تَمْلأَ ثِيَابَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَكَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتَهُ.

وَمِنَ الثَّانِيَةِ قَوْلُ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «مَا خَضَّبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ الشَّيْبُ إِلاَّ قَلِيلًا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ».

وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي جُحَيْفَةَ- رضي الله عنه-: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءُ» يَعْنِي عَنْفَقَتَهُ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: «لَوْ فُرِضَ عَدَمُ ثُبُوتِ اخْتِضَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَا كَانَ قَادِحًا فِي سُنِّيَّةِ الِاخْتِضَابِ، لِوُرُودِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهَا قَوْلًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ».

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُثْبِتَةِ لِاخْتِضَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْأَحَادِيثِ النَّافِيَةِ لِاخْتِضَابِهِ: «مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ خَضَّبَ فَقَدْ حَكَى مَا شَاهَدَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْغَالِبِ مِنْ حَالِهِ»- صلى الله عليه وسلم-.

بِمَ يَكُونُ الِاخْتِضَابُ؟

8- كَوْنُ الِاخْتِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، وَبِالْحِنَّاءِ مَعَ الْكَتَمِ، وَبِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَالسَّوَادِ، بِغَيْرِ ذَلِكَ.

أَوَّلًا- الِاخْتِضَابُ بِغَيْرِ السَّوَادِ

الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ:

9- يُسْتَحَبُّ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، لِحَدِيثِ: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ»، فَهُوَ أَمْرٌ، وَهُوَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ.وَأَنَّ الصَّبْغَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا، بَلْ يُشَارِكُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الصِّبَاغَاتِ فِي أَصْلِ الْحُسْنِ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا.

الِاخْتِضَابُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ:

10- الِاخْتِضَابُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ يُشَارِكُ الِاخْتِضَابَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْبَابِ.وَقَدِ اخْتَضَبَ بِهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ»، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَخِي رَافِعٌ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ، وَأَخِي مَخْضُوبٌ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا خِضَابُ الْإِسْلَامِ.وَقَالَ لِأَخِي رَافِعٍ: هَذَا خِضَابُ الْإِيمَانِ.

الِاخْتِضَابُ بِالسَّوَادِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ: فَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- يَقُولُونَ: بِكَرَاهَةِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ.أَمَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، بَلْ هُوَ مُرَغَّبٌ فِيهِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- لَمَّا جِيءَ إِلَيْهِ عَامَ الْفَتْحِ، وَرَأْسُهُ يَشْتَعِلُ شَيْبًا: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ».

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُجَوِّزُونَ لِلِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ أَحْسَنَ مَا اخْتَضَبْتُمْ بِهِ لِهَذَا السَّوَادُ، أَرْغَبُ لِنِسَائِكُمْ فِيكُمْ، وَأَهْيَبُ لَكُمْ فِي صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ».

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، وَيَقُولُ: هُوَ تَسْكِينٌ لِلزَّوْجَةِ، وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ.

وَمِنْهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ اخْتَضَبُوا بِالسَّوَادِ، وَلَمْ يُنْقَلِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.وَكَانَ مِمَّنْ يَخْتَضِبُ بِالسَّوَادِ وَيَقُولُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: «كُنَّا نَخْتَضِبُ بِالسَّوَادِ إِذْ كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا (شَبَابًا) فَلَمَّا نَفَضَ الْوَجْهُ وَالْأَسْنَانُ (كَبِرْنَا) تَرَكْنَاهُ».

وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ بِالْجَوَازِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ لِغَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فِي شَأْنِ أَبِي قُحَافَةَ: وَجَنِّبُوهُ لسَّوَادَ»، فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ عِنْدَهُمُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.

اخْتِضَابُ الْأُنْثَى:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ أَوْ نَحْوِهِ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَرْأَةِ كَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلرَّجُلِ، لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ.وَتَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ، وَالْمَمْلُوكَةُ بِاسْتِحْبَابِ خَضْبِ كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا بِالْحِنَّاءِ أَوْ نَحْوِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَدَا وَقْتَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِضَابَ زِينَةٌ، وَالزِّينَةُ مَطْلُوبَةٌ مِنَ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَمِنَ الْمَمْلُوكَةِ لِسَيِّدِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ الِاخْتِضَابُ تَعْمِيمًا، لَا تَطْرِيفًا وَلَا نَقْشًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ.وَيَجُوزُ لَهَا- بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ سَيِّدِهَا تَحْمِيرُ الْوَجْنَةِ، وَتَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ بِالْحِنَّاءِ مَعَ السَّوَادِ.

وَفِي اسْتِحْبَابِ خَضْبِ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لِكَفَّيْهَا مَا وَرَدَ عَنِ «ابْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ صَلَّتِ الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِيَ: اخْتَضِبِي، تَتْرُكُ إِحْدَاكُنَّ الْخِضَابَ حَتَّى تَكُونَ يَدُهَا كَيَدِ الرَّجُلِ؟» قَالَ: فَمَا تَرَكَتِ الْخِضَابَ حَتَّى لَقِيتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَتْ لِتَخْتَضِبَ وَإِنَّهَا لَابْنَةُ ثَمَانِينَ.

أَمَّا الْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُزَوَّجَةِ وَغَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: كَرَاهَةَ اخْتِضَابِهَا فِي كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَحُرْمَةِ تَحْمِيرِ وَجْنَتَيْهَا وَحُرْمَةِ تَطْرِيفِ أَصَابِعِهَا بِالْحِنَّاءِ مَعَ السَّوَادِ.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ الِاخْتِضَابِ لِلْأَيِّمِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ اخْتَضِبْنَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَضِبُ لِزَوْجِهَا، وَإِنَّ الْأَيِّمَ تَخْتَضِبُ تَعَرَّضُ لِلرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أَيْ لِتُخْطَبَ وَتَتَزَوَّجَ.

وُضُوءُ الْمُخْتَضِبِ وَغُسْلُهُ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وُجُودَ مَادَّةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ تَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ- حَائِلٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَصِحَّةِ الْغُسْلِ.وَالْمُخْتَضِبُ وُضُوءُهُ وَغُسْلُهُ صَحِيحَانِ؛ لِأَنَّ الْخِضَابَ بَعْدَ إِزَالَةِ مَادَّتِهِ بِالْغُسْلِ يَكُونُ مُجَرَّدَ لَوْنٍ، وَاللَّوْنُ وَحْدَهُ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْبَشَرَةِ وَوُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ.

الِاخْتِضَابُ لِلتَّدَاوِي:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِضَابِ لِلتَّدَاوِي، لِخَبَرِ «سَلْمَى- مَوْلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَكَى أَحَدٌ رَأْسَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَاحْتَجِمْ، وَإِذَا اشْتَكَى رِجْلَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَاخْضِبْهَا بِالْحِنَّاءِ» وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: قَالَتْ: «كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَمَا كَانَتْ تُصِيبُهُ قُرْحَةٌ وَلَا نُكْتَةٌ إِلاَّ أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ».

الِاخْتِضَابُ بِالْمُتَنَجِّسِ وَبِعَيْنِ النَّجَاسَةِ:

15- يَرَى الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغَسَلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ (فَهُوَ نَجَسٌ)، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجَسٌ.

الِاخْتِضَابُ بِالْوَشْمِ:

16- الْوَشْمُ هُوَ غَرْزُ الْجِلْدِ بِالْإِبْرَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ ثُمَّ يُذَرُّ عَلَيْهِ كُحْلٌ أَوْ نِيلَةٌ لِيَخْضَرَّ أَوْ يَزْرَقَّ وَهُوَ حَرَامٌ مُطْلَقًا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ»؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا غُرِزَ مَحَلُّ الْوَشْمِ بِإِبْرَةٍ ثُمَّ حُشِيَ بِكُحْلٍ أَوْ نِيلَةٍ لِيَخْضَرَّ تَنَجَّسَ الْكُحْلُ بِالدَّمِ فَإِذَا جَمُدَ الدَّمُ وَالْتَأَمَ الْجُرْحُ بَقِيَ مَحَلُّهُ أَخْضَرَ، فَإِذَا غُسِلَ ثَلَاثًا طَهُرَ.

وَيَرَى الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَشْمَ كَالِاخْتِضَابِ أَوِ الصَّبْغِ بِالْمُتَنَجِّسِ، فَإِذَا غُسِلَ ثَلَاثًا طَهُرَ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ يَشُقُّ زَوَالُهُ إِذْ لَا يَزُولُ إِلاَّ بِسَلْخِ الْجِلْدِ أَوْ جَرْحِهِ.

الِاخْتِضَابُ بِالْبَيَاضِ:

17- يُكْرَهُ خَضْبُ اللِّحْيَةِ السَّوْدَاءِ بِالْبَيَاضِ كَالْكِبْرِيتِ وَنَحْوِهِ إِظْهَارًا لِكِبَرِ السِّنِّ تَرَفُّعًا عَلَى الشَّبَابِ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَتَوَصُّلًا إِلَى التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ.وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَهُوَ جَائِزٌ.

اخْتِضَابُ الْحَائِضِ:

18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ اخْتِضَابِ الْحَائِضِ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: تَخْتَضِبُ الْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: قَدْ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَخْتَضِبُ فَلَمْ يَكُنْ يَنْهَانَا عَنْهُ»، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ نِسَاءَ ابْنِ عُمَرَ كُنَّ يَخْتَضِبْنَ وَهُنَّ حُيَّضٌ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ اخْتِضَابِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ لِأَنَّ صَبْغَ الْخِضَابِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ عَنْهَا بِالْغُسْلِ إِذَا اغْتَسَلَتْ.وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ.

اخْتِضَابُ الْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحِدَّةَ عَلَى زَوْجِهَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَخْتَضِبَ مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثٍ لأُِمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ فَقَالَ لِي: لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ.قَالَتْ: قُلْتُ: بِأَيٍّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ».

خِضَابُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ- وَأَحْمَدُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى كَرَاهَةِ تَلْطِيخِ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» فَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يُمَسَّ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَذًى، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ وَلَا يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ» وَلِأَنَّ هَذَا تَنْجِيسٌ لَهُ فَلَا يُشْرَعُ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خَضْبِ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِالزَّعْفَرَانِ وَبِالْخَلُوقِ (أَيِ الطِّيبِ)، لِقَوْلِ بُرَيْدَةَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَقُّوا عَنِ الصَّبِيِّ خَضَّبُوا قُطْنَةً بِدَمِ الْعَقِيقَةِ، فَإِذَا حَلَقُوا رَأْسَ الْمَوْلُودِ وَضَعُوهَا عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلُوا مَكَانَ الدَّمِ خَلُوقًا» زَادَ أَبُو الشَّيْخِ: «وَنَهَى أَنْ يُمَسَّ رَأْسُ الْمَوْلُودِ بِدَمٍ».

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْعَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ.

اخْتِضَابُ الرَّجُلِ وَالْخُنْثَى:

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتَضِبَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ لِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَجَوَّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَضِبَ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ مَا عَدَا الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَضِبَ فِيهِمَا إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِضَابِهِ فِيهِمَا تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ وَالتَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ مَحْظُورٌ شَرْعًا.

وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِحُرْمَتِهِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَتِهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ».وَحُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ فِي هَذَا.

اخْتِضَابُ الْمُحْرِمِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ مَا عَدَا الرَّأْسَ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ بِأَيِّ سَاتِرٍ مَمْنُوعٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا».

وَلَا بَأْسَ بِاخْتِضَابِ الْمَرْأَةِ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ عَائِشَةُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ وَهُنَّ حُرُمٌ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ حَالَ الْإِحْرَامِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ، مَا عَدَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَيَحْرُمُ خَضْبُهُمَا بِغَيْرِ حَاجَةٍ.

وَكَرِهُوا لِلْمَرْأَةِ الِاخْتِضَابَ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ حَالَ الْإِحْرَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا الِاخْتِضَابُ إِذَا كَانَ نَقْشًا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ.

وَقَالَ الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لأُِمِّ سَلَمَةَ: لَا تَطَيَّبِي وَأَنْتِ مُحْرِمَةٌ وَلَا تَمَسِّي الْحِنَّاءَ فَإِنَّهُ طِيبٌ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (أذان 1)

أَذَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَذَانُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِهِ

وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.أَوِ الْإِعْلَامُ بِاقْتِرَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الدَّعْوَةُ- النِّدَاءُ:

2- كِلَا اللَّفْظَيْنِ يَتَّفِقُ مَعَ الْأَذَانِ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ النِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ وَطَلَبُ الْإِقْبَالِ.

ب- الْإِقَامَةُ:

3- لِلْإِقَامَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ عِدَّةٌ، مِنْهَا الِاسْتِقْرَارُ، وَالْإِظْهَارُ، وَالنِّدَاءُ وَإِقَامَةُ الْقَاعِدِ.

وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إِعْلَامٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

ج- التَّثْوِيبُ:

4- التَّثْوِيبُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ فِي الْأَذَانِ: الْعَوْدُ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ: (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَضَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْوَاجِبِ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» وَالْأَمْرُ هُنَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ آخَرِينَ لِيُشَارِكُوهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُطْلَقًا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ.وَعَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَأَثِمُوا، لِمُخَالَفَتِهِمُ السُّنَّةَ وَأَمْرِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، سُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

بَدْءُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:

6- شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»، «ثُمَّ جَاءَتْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ».

وَقِيلَ: إِنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَارٍ مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِلَا خِلَافٍ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:

7- شُرِعَ الْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِعْلَاءِ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِظْهَارِ شَرْعِهِ وَرِفْعَةِ رَسُولِهِ، وَنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.

فَضْلُ الْأَذَانِ:

8- الْأَذَانُ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْإِمَامَةِ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ قَالُوا: وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا خُلَفَاؤُهُ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لأَذَّنْتُ.

9- وَنَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ وَدَعْوَةِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَشَاحَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَذَانِ قُدِّمَ مَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْأَذَانِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.وَقَدْ تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ.

أَلْفَاظُ الْأَذَانِ:

10- أَلْفَاظُ الْأَذَانِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي رُؤْيَاهُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- هِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.

هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَذَانَ (الْمَلَكِ) النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ

وَأَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ بِنَفْسِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، مَعَ زِيَادَةِ التَّرْجِيعِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَانِ فَقَطْ مِثْلُ آخِرِهِ وَلَيْسَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.

التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ:

11- التَّرْجِيعُ هُوَ أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِمَا.وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فِي أَذَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَذَانِ الْمَلَكِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي عَلَّمَهَا لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ.وَبِهَذَا أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ رُكْنٌ فِي الْأَذَانِ.

التَّثْوِيبُ:

12- التَّثْوِيبُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ الْأَذَانِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي مَحْذُورَةَ: فَإِذَا كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» كَذَلِكَ «لَمَّا أَتَى بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْذِنْهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلَالُ، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ».وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ بِسَبَبِ النَّوْمِ.

وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّثْوِيبَ فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ كَالْفَجْرِ

وَأَجَازَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؛ لِفَرْطِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ».وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ، فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ.

هَذَا هُوَ التَّثْوِيبُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ.

13- وَقَدِ اسْتَحْدَثَ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ تَثْوِيبًا آخَرَ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ عِبَارَةِ «حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ» مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمُ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا- إِلاَّ فِي الْمَغْرِبِ لِضِيقِ الْوَقْتِ- وَذَلِكَ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ، بِالتَّنَحْنُحِ، أَوِ الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.كَذَلِكَ اسْتَحْدَثَ أَبُو يُوسُفَ جَوَازَ التَّثْوِيبِ؛ لِتَنْبِيهِ كُلِّ مَنْ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ، كَالْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، فَيَقُولُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْأَذَانِ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَشَارَكَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَاسْتَبْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

14- وَأَمَّا مَا يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدْعَةً حَسَنَةً، وَقَالَ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ وَلَوْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ.

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الْأَذَانِ:

15- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّا مِثْلَهُ كَالْمُسْتَمِعِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الْأَذَانِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَقَالَ كَلِمَةً مِنَ الْأَذَانِ قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا؛ لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إِلَى الصَّلَاةِ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ.

بِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ الْمُؤَذِّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ».

وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِدْعَةً حَسَنَةً وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبِشْبِيشِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِالتُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَا زِيدَتِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ كُلِّ أَذَانٍ عَلَى الْمَنَارَةِ زَمَنَ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ حَاجِّيِّ بْنِ الْأَشْرَفِ شَعْبَانَ وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 791 هـ وَكَانَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ يُوسُفَ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِمِصْرَ وَالشَّامِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ 777 هـ فَزِيدَ فِيهِ بِأَمْرِ الْمُحْتَسِبِ صَلَاحِ الدِّينِ الْبُرُلُّسِيِّ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عَقِبَ كُلِّ أَذَانٍ سَنَةَ (791) هـ.

النِّدَاءُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَنَازِلِ:

16- يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمَطَرِ أَوِ الرِّيحِ أَوِ الْبَرْدِ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ». شَرَائِطُ الْأَذَانِ

يُشْتَرَطُ فِي الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ مَا يَأْتِي:

دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ:

17- دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ لِلْأَذَانِ، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ- إِلاَّ فِي الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي- لِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ الْأَذَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى النَّاسُ فِي الْوَقْتِ وَكَانَ الْأَذَانُ قَبْلَهُ فَلَا يُعَادُ.وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ».

وَالْمُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلَاةِ، وَكَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِّرُ الْأَذَانَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَيُسَنُّ الْأَذَانُ ثَانِيًا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ- لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ إِلاَّ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رَوَى شَدَّادٌ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلَالٍ: «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ».

18- وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَمِثْلُ بَاقِي الصَّلَوَاتِ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ، أَوَّلُهُمَا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا- وَقَدْ أَمَرَ بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ.

وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَكُونُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أَحْدَثَ عُثْمَانُ الْأَذَانَ الثَّانِيَ.

وَكِلَا الْأَذَانَيْنِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِلْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَانَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَيِّهِمَا الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ).

النِّيَّةُ فِي الْأَذَانِ:

19- نِيَّةُ الْأَذَانِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ عَقِبَ مَا كَبَّرَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا قَالَ.وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَرْجَحِ وَلَكِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الصَّارِفِ فَلَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ.

أَدَاءُ الْأَذَانِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:

20- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَوْنَ الْأَذَانِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ بِأَيِّ لُغَةٍ أُخْرَى وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَجُزِ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يُجْزِئُهُ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ.وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

خُلُوُّ الْأَذَانِ مِنَ اللَّحْنِ:

21- اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ كَمَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ يُبْطِلُ الْأَذَانَ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْكَلِمَاتِ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ.

التَّرْتِيبُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ:

22- يُقْصَدُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤَذِّنُ بِكَلِمَاتِ الْأَذَانِ عَلَى نَفْسِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ دُونَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لِكَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ عَلَى الْأُخْرَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَذِّنُ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّرْتِيبِ يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِنَظْمِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، فَلَوْ قَدَّمَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ أَوْلَى.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، فَلَوْ قَدَّمَ فِي الْأَذَانِ جُمْلَةً عَلَى الْأُخْرَى أَعَادَ مَا قَدَّمَ فَقَطْ وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ أَوَّلِهِ.

الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ:

23- الْمُوَالَاةُ فِي الْأَذَانِ هِيَ الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ بِدُونِ فَصْلٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْدُثُ دُونَ إِرَادَةٍ كَالْإِغْمَاءِ أَوِ الرُّعَافِ أَوِ الْجُنُونِ.وَالْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَسُكُوتٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا يُبْطِلُ الْأَذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسَنُّ اسْتِئْنَافُ الْأَذَانِ فِي غَيْرِ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ.هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْكَلَامِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ.

أَمَّا إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَلَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ نَوْمٍ طَوِيلٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ فَيَبْطُلُ الْأَذَانُ وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ طُولِ الْفَصْلِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الِاسْتِئْنَافِ.

وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِحَالَاتِ بُطْلَانِ الْأَذَانِ وَوُجُوبِ اسْتِئْنَافِهِ الْفَصْلَ بِالْكَلَامِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ كَالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ.

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ:

24- أَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ؛ لِيَحْصُلَ السَّمَاعُ الْمَقْصُودُ لِلْأَذَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِعْلَامَ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاضِرٍ مَعَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدَّ صَوْتًا مِنْكَ».

25- هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ الْمُؤَذِّنُ نَفْسَهُ بِمَا فَوْقَ طَاقَتِهِ مُبَالَغَةً فِي رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْأَذَانِ خَشْيَةَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ لَهُ.

26- وَلِكَيْ يَكُونَ الْأَذَانُ مَسْمُوعًا وَمُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ مِنْهُ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَكْبَرُ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا.

سُنَنُ الْأَذَانِ

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ:

27- يُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَذَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِئُهُ وَيُكْرَهُ، لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ

وَجَازَ عِنْدَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الدَّوَرَانُ حَالَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسْمَعَ لِصَوْتِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْإِعْلَامُ بِتَحْوِيلِ وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَقَطْ مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ بِجِسْمِهِ فِي الْمِئْذَنَةِ.

وَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ قَوْلِهِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ الْمُؤَذِّنُ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ- فَقَطْ دُونَ اسْتِدَارَةِ جِسْمِهِ- يَمِينًا وَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ شِمَالًا وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، هَكَذَا كَانَ أَذَانُ بِلَالٍ وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

التَّرَسُّلُ أَوِ التَّرْتِيلُ:

28- التَّرَسُّلُ هُوَ التَّمَهُّلُ وَالتَّأَنِّي، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ- تَسَعُ الْإِجَابَةَ- بَيْنَ كُلِّ جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَلِ الْأَذَانِ، عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَيُفْرِدَ بَاقِيَ كَلِمَاتِهِ؛ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَذَانِ هُوَ إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالتَّرَسُّلُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا فِي مَسْأَلَةِ حَرَكَةِ رَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فَقَالَ «الْحَاصِلُ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْأَذَانِ سَاكِنَةُ الرَّاءِ لِلْوَقْفِ حَقِيقَةً وَرَفْعُهَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنْ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْهُ وَجَمِيعُ تَكْبِيرَاتِ الْإِقَامَةِ فَقِيلَ مُحَرَّكَةُ الرَّاءِ بِالْفَتْحَةِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَقِيلَ بِالضَّمَّةِ إِعْرَابًا، وَقِيلَ سَاكِنَةٌ بِلَا حَرَكَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَمْدَادِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي يُظْهِرُ الْإِعْرَابَ لِمَا ذَكَرَهُ عَنِ الطَّلَبَةِ، وَلِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ لِلْجِرَاحِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَمُدُّ.وَإِطْلَاقُ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ».

صِفَاتُ الْمُؤَذِّنِ

مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ:

الْإِسْلَامُ:

29- إِسْلَامُ الْمُؤَذِّنِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الصَّلَاةَ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْأَذَانُ دُعَاءً لَهَا، فَإِتْيَانُهُ بِالْأَذَانِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ، وَفِي حُكْمِ إِسْلَامِهِ لَوْ أَذَّنَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (إِسْلَامٌ).

الذُّكُورَةُ:

30- مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ.وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ الذُّكُورَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَكَرِهُوا أَذَانَ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَحَبَّ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَةَ الْأَذَانِ لَوْ أَذَّنَتْ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَ، وَلَا يُعَادُ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَذَانَهَا لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ دُونَ رَفْعِ صَوْتِهَا.

الْعَقْلُ:

31- يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ مِنْ مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمَا، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الْأَذَانِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا لَغْوٌ، وَلَيْسَا فِي الْحَالِ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَذَانَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَاسْتُحِبَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِعَادَةُ أَذَانِهِ.

الْبُلُوغُ:

32- الصَّبِيُّ غَيْرُ الْعَاقِلِ (أَيْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ) لَا يَجُوزُ أَذَانُهُ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَجُوزُ أَذَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (مَعَ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ عَدْلٍ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْوَقْتِ. مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُؤَذِّنُ:

33- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ، فَالْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّئٌ» وَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُحْدِثِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَكْبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَذَلِكَ.

34- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، وَلْيُؤَمِّنْ نَظَرَهُ إِلَى الْعَوْرَاتِ.وَيَصِحُّ أَذَانُ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِالنَّاسِ، فَكَذَا أَذَانُهُ.

35- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، أَيْ حَسَنَ الصَّوْتِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، هَذَا مَعَ كَرَاهَةِ التَّمْطِيطِ وَالتَّطْرِيبِ.

36- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَالَ الْأَذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِلَالًا بِذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ».

37- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِبِلَالٍ: «قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ.وَلَا يُؤَذِّنُ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ كَانَ الْأَذَانُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا إِلاَّ فِي سَفَرٍ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ أَذَانَ الرَّاكِبِ فِي الْحَضَرِ

38- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ؛ لِيَتَحَرَّاهَا فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنَ الضَّرِيرِ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ

39- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُقِيمَ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، حِينَ أَذَّنَ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ».

40- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ رَزَقَ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ.

41- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِجَارَةِ عَلَى الْأَذَانِ فَقَدْ أَجَازَهُ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ كَذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (ر: إِجَارَةٌ).

مَا يُشْرَعُ لَهُ الْأَذَانُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:

42- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ، أَدَاءً وَقَضَاءً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا أَذَانَ فِي الْحَضَرِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِلْجَمَاعَةِ غَيْرِ الْمُسَافِرَةِ الْمُجْتَمِعِينَ بِمَوْضِعٍ وَلَا يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ، وَلَا غَائِبَ حَتَّى يُدْعَى.وَيُنْدَبُ لَهُمُ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (إنشاء)

إِنْشَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِنْشَاءُ: لُغَةً ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ، وَرَفْعُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: نَشَأَ يَنْشَأُ، وَمِنْهُ نَشَأَ السَّحَابُ نَشْئًا وَنُشُوءًا: إِذَا ارْتَفَعَ وَبَدَا.وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الْمُنْشِئَاتُ: السُّفُنُ الْمَرْفُوعَةُ الشُّرُعِ.

وَالْإِنْشَاءُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، قَالَ الْقَلْقَشَنْدِيُّ: هُوَ كُلُّ مَا رَجَعَ مِنْ صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ إِلَى تَأْلِيفِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِ الْمَعَانِي.وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْبَيَانِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ فَالْإِنْشَاءُ أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلَامِ، إِذِ الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ إِمَّا: خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ.

فَالْخَبَرُ هُوَ: مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ، كَقَامَ زَيْدٌ، وَأَنْتَ أَخِي.وَالْإِنْشَاءُ: الْكَلَامُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي الْخَارِجِ نِسْبَةٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لَا تُطَابِقُهُ.وَسُمِّيَ إِنْشَاءً لِأَنَّكَ أَنْشَأْتَهُ: أَيِ ابْتَكَرْتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ.

2- وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: الْإِنْشَاءُ الطَّلَبِيُّ: وَيُسَمَّى طَلَبًا، وَهُوَ مَا أَفَادَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ، فَيُطْلَبُ بِهِ تَحْصِيلُ غَيْرِ حَاصِلٍ فِي الْخَارِجِ.فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ ذِكْرَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ.وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ إِيجَادَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ أَمْرٌ، أَوِ الْكَفُّ عَنْهَا فَهُوَ نَهْيٌ.وَهَكَذَا.

الثَّانِي: الْإِنْشَاءُ غَيْرُ الطَّلَبِيِّ.

وَيَذْهَبُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْكَلَامِ ثُلَاثِيَّةٌ، فَهُوَ إِمَّا خَبَرٌ، أَوْ طَلَبٌ، أَوْ إِنْشَاءٌ.خَصَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الطَّلَبَ بِمَا سَمَّاهُ غَيْرُهُمُ الْإِنْشَاءَ الطَّلَبِيَّ، وَالْإِنْشَاءُ لِمَا عَدَاهُ، كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ.

قَالَ التَّهَانُوِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُولِ الطَّلَبِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى (اضْرِبْ) مَثَلًا وَهُوَ طَلَبُ الضَّرْبِ، مُقْتَرِنٌ بِلَفْظِهِ.وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الطَّلَبِ، لَا الطَّلَبُ نَفْسُهُ.

هَذَا، وَيَدْخُلُ فِي الْإِنْشَاءِ الطَّلَبِيِّ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالتَّمَنِّي وَالنِّدَاءُ.

وَيَدْخُلُ فِي الْإِنْشَاءِ غَيْرِ الطَّلَبِيِّ أَفْعَالُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَفِعْلَا التَّعَجُّبِ، وَالْقَسَمُ.

3- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَأَلْفَاظُ الْفُسُوخِ كَطَلَّقْتُ وَأَعْتَقْتُ، وَنَحْوُهَا كَظَاهَرْتُ، وَصِيَغُ قَضَاءِ الْقَاضِي كَقَوْلِهِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، أَهِيَ خَبَرٌ أَمْ إِنْشَاءٌ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ لَيْسَ مَا أُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ عَقْدٍ سَابِقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ سَابِقٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي أَمْسِ، وَوَقَفْتُ دَارِي الْيَوْمَ، بَلِ الْخِلَافُ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ أَوِ التَّصَرُّفُ، أَيِ اللَّفْظُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي الْعَقْدِ، كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَثَلًا.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ إِنْشَاءٌ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ لَفْظِ (بِعْتُ) مَثَلًا عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ الْحَادِثُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ إِحْدَاثِ الْبَيْعِ، هِيَ دَلَالَةٌ بِالْعِبَارَةِ، فَهُوَ مَنْقُولٌ عُرْفًا عَنِ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ إِلَى الْإِنْشَاءِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ خَبَرًا لَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ.وَلَكِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُهُمَا، وَلَكَانَ لَهَا خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لَا تُطَابِقُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ إِخْبَارٌ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا بِالِاقْتِضَاءِ لَا بِالْعِبَارَةِ.وَوَجْهُ كَوْنِ دَلَالَتِهَا بِالِاقْتِضَاءِ: أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْبَيْعِ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُصُولِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْبَيْعِ.فَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ، أَمَّا الْعِبَارَةُ فَهِيَ: إِخْبَارٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى.وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِخْبَارِ، وَالنَّقْلُ عَنْهُ إِلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ يَثْبُتْ.

وَرَجَّحَ التَّهَانُوِيُّ- وَهُوَ حَنَفِيٌّ- قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ.وَهُوَ قَوْلُ الْبَيَانِيِّينَ أَيْضًا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (أيمان 5)

أَيْمَانٌ -5

106- وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ: وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ عَقْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ نَفْيًا أَمْ إِثْبَاتًا، نَحْوُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا.هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَأَفَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ هِيَ: مَا لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا وَلَا لَغْوًا.

وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي مَعْنَى الْغَمُوسِ وَاللَّغْوِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَجِدْ مَا يُسَمَّى مُنْعَقِدَةً سِوَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَلَى مَا طَابَق الْوَاقِعَ مِنْ مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، أَوْ مَا يُطَابِقُهُ مِنْ مُسْتَقْبَلٍ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ إِمَّا غَمُوسٌ وَإِمَّا لَغْوٌ، لَكِنْ يُلْحَقُ بِالْمُنْعَقِدَةِ الْغَمُوسُ وَاللَّغْوُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَا الْغَمُوسُ فِي الْحَاضِرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ.

وَأَفَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ لَا تُعَدُّ لَغْوًا عِنْدَهُمْ فَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ، فَيَدْخُلُ فِيهَا الْغَمُوسُ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا الْحَلِفُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الْمُمْكِنِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا غَيْرَ مَقْصُودٍ كَانَتْ لَغْوًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْمَاضِي أَمْ فِي الْحَالِ أَمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا مَقْصُودًا، وَكَانَتْ إِخْبَارًا مَبْنِيًّا عَلَى الْيَقِينِ أَوِ الظَّنِّ أَوِ الْجَهْلِ، وَتَبَيَّنَ خِلَافُهَا كَانَتْ لَغْوًا أَيْضًا، مَا لَمْ يَجْزِمِ الْحَالِفُ بِأَنَّ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ هُوَ الْوَاقِعُ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُنْعَقِدَةً وَيَحْنَثُ فِيهَا.

وَإِنْ كَانَتْ إِخْبَارًا مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادِ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَهِيَ غَمُوسٌ، وَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ أَيْضًا.وَإِنْ كَانَتْ لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ وَكَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُمْكِنًا فَإِنَّهَا تَكُونُ مُنْعَقِدَةً أَيْضًا.وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِبًا فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ قَطْعًا وَلَا تُعَدُّ يَمِينًا.وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلاً فَهِيَ كَاذِبَةٌ قَطْعًا وَتَكُونُ مُنْعَقِدَةً وَحَانِثَةً.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا مَقْصُودًا، وَكَانَ الْحَالِفُ مُخْتَارًا، وَكَانَتْ عَلَى مُمْكِنٍ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ مُسْتَحِيلٍ أَوْ نَفْيِ وَاجِبٍ، لَكِنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ أَخْرَجَ مِنْهَا مَنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَ نَفْيِهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يُطِعْهُ.

107- وَتَنَوُّعُ الْيَمِينِ إِلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَسَاسُهَا الْكَذِبُ وَعَدَمُهُ هُوَ اصْطِلَاحُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقُوهُمْ لَا يُقَسِّمُونَ الْيَمِينَ إِلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا يُقَسِّمُونَهَا- مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ وَعَدَمُهُ- إِلَى قِسْمَيْنِ فَقَطْ، وَهُمَا: اللَّغْوُ وَالْمَعْقُودَةُ.فَاللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ، وَكَذَا الَّتِي قُصِدَتْ وَكَانَتْ إِخْبَارًا عَنِ الظَّنِّ، وَالْمَعْقُودَةُ هِيَ الَّتِي قُصِدَتْ وَكَانَتْ لِلْحَمْلِ أَوِ الْمَنْعِ، أَوْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا عَمْدًا.

أَحْكَامُ الْأَيْمَانِ الْقَسَمِيَّةِ:

حُكْمُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ:

الْيَمِينُ الْغَمُوسُ لَهَا حُكْمَانِ: حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَالْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَمَامِهَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِهَا:

108- الْإِتْيَانُ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ حَرَامٌ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ؛ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكَذِبِ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ جُعِلَتْ لِتَعْظِيمِهِ، وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْيَمِينِ بِهِ عَلَى الْكَذِبِ مُسْتَخِفٌّ بِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ الْجُرْأَةَ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الْوُصُولُ إِلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَصْدِيقِ السَّامِعِ لَهُ.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا يُرْوَى أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ قَائِلاً: إِنَّ الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ، وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ، فَكَيْفَ لَا يَكْفُرُ الْعَاصِي؟ فَقَالَ: إِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَاصِي هُوَ فِي ظَاهِرِهِ طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْصِدُ هَذِهِ الطَّاعَةَ فَلَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مُؤْمِنًا عَاصِيًا فَقَطْ.

ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا مُسْتَوِيَةً فِي الْإِثْمِ، فَالْكَبَائِرُ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهَا حَسَبَ تَفَاوُتِ آثَارِهَا السَّيِّئَةِ، فَالْحَلِفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَفْكُ دَمِ الْبَرِيءِ، أَوْ أَكْلُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَشَدُّ حُرْمَةً مِنَ الْحَلِفِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

109- وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَبَيَانِ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا.

مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ».

وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ.قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ.فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلاَّ يَمِينُهُ.فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَدْبَرَ: لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»

وَقَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ- رضي الله عنه-: «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَحْلِفُ رَجُلٌ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلاَّ كَانَتْ كَيًّا فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».

التَّرْخِيصُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِلضَّرُورَةِ:

110- إِنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الْأَصْلُ، فَإِذَا عَرَضَ مَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْحُرْمَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا.

(أَوَّلاً) قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

فَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ يُبِيحُ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَإِبَاحَتُهُ لِلْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَوْلَى.

(ثَانِيًا) آيَاتُ الِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا شَاكَلَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

فَإِذَا أَبَاحَتِ الضَّرُورَةُ تَنَاوُلَ الْمُحَرَّمَاتِ أَبَاحَتِ النُّطْقَ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ.

111- وَإِلَيْكَ نُصُوصُ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ مَا تَخْرُجُ بِهِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عَنِ الْحُرْمَةِ.

(أ) قَالَ الدَّرْدِيرُ فِي أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَشَرْحِهِ، وَالصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ مَا خُلَاصَتُهُ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهَا، وَلَا عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ.وَنُدِبَ أَوْ وَجَبَ الْحَلِفُ لِيَسْلَمَ الْغَيْرُ مِنَ الْقَتْلِ بِحَلِفِهِ وَإِنْ حَنِثَ هُوَ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا قَالَ ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ تُطَلِّقْ زَوْجَتَكَ، أَوْ إِنْ لَمْ تَحْلِفْ بِالطَّلَاقِ قَتَلْتُ فُلَانًا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ، وَمِثْلُ الطَّلَاقِ: النِّكَاحُ وَالْإِقْرَارُ وَالْيَمِينُ.

(ب) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْكَذِبُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا، فَإِذَا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ، وَسَأَلَ عَنْهُ وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ، وَسَأَلَ عَنْهَا ظَالِمٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهَا، حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ بِوَدِيعَةٍ عِنْدَهُ فَأَخَذَهَا الظَّالِمُ قَهْرًا وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمُخْبِرِ، وَلَوِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَيُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ وَلَمْ يُوَرِّ حَنِثَ عَلَى الْأَصْلِ وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ.

(ج) وَقَالَ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ: مِنَ الْأَيْمَانِ مَا هِيَ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُنَجِّي بِهَا إِنْسَانًا مَعْصُومًا مِنْ هَلَكَةٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَا: أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ إِنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ إِنْجَاءُ نَفْسِهِ، مِثْلُ: أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَهُوَ بَرِيءٌ.

الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَمَامِهَا:

112- فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَمَامِ الْغَمُوسِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ.

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى مَاضٍ أَمْ حَاضِرٍ، وَكُلُّ مَا يَجِبُ إِنَّمَا هُوَ التَّوْبَةُ، وَرَدُّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ حُقُوقٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُلَاحَظُ أَنَّهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ خَصُّوهَا بِالْمَاضِي، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَهَا فِي الْحَلِفِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ كُلَّ مَا عَدَا اللَّغْوَ مَعْقُودٌ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِهِمْ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالُوا: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ أَوْ مُعْتَقِدٌ خِلَافَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ أَمْ مُخَالِفًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً وَكَانَ فِي الْحَالَيْنِ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ.

وَإِلَى التَّفْصِيلِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا، حَيْثُ اقْتَصَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي، وَشَرَطُوا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.

113- احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ بِأَنَّهَا مَكْسُوبَةٌ مَعْقُودَةٌ، إِذِ الْكَسْبُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَالْعَقْدُ: الْعَزْمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فَاعِلٌ بِقَلْبِهِ وَعَازِمٌ وَمُصَمِّمٌ، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ.وَقَدْ أَجْمَل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}

عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَحَقُّ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ سَائِرِ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَتَيْنِ، يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْكَسْبِ بِالْقَلْبِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى تَعْقِيدِ الْأَيْمَانِ وَإِرَادَتِهَا، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ أَعْظَمَ انْطِبَاقٍ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا حَانِثَةٌ مِنْ حِينِ إِرَادَتِهَا وَالنُّطْقِ بِهَا، فَالْمُؤَاخَذَةُ مُقَارِنَةٌ لَهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ، فَإِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا، فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ فِي تَطْبِيقِ الْآيَتَيْنِ عَلَيْهَا إِلَى تَقْدِيرٍ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِالْحِنْثِ فِيمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَبِالْحِنْثِ فِي أَيْمَانِكُمُ الْمَعْقُودَةِ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} مَعْنَاهُ: إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.

114- وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

ثَانِيًا: مَا رَوَاهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما- كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَمَا مَعْنَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ أَثْبَتَتْ أَنَّ حُكْمَ الْغَمُوسِ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ.

ثَالِثًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ».

حُكْمُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ:

115- سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ، فَمَنْ فَسَّرُوهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْيَمِينِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا لَا إِثْمَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا.

لَكِنْ لَمَّا فَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِمَعْنًى شَامِلٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ قَالُوا: إِنَّهَا تُكَفَّرُ إِذَا كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ وَحَنِثَ فِيهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ: أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، أَوْ أَلاَّ يَفْعَلَ كَذَا غَدًا، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ سَيَحْصُلُ، وَمَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ لَنْ يَحْصُلَ، فَوَقَعَ خِلَافُ مَا اعْتَقَدَهُ وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يُسَمُّونَ الْحَلِفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَغْوًا كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمَنْ فَسَّرُوهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي اخْتَلَفُوا، هَلْ تُكَفَّرُ بِالْحِنْثِ أَوْ لَا تُكَفَّرُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا، لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا لَمْ يُنَفِّذْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْفِيذَ حَرَامٌ، وَاجْتِنَابَهُ وَاجِبٌ، فَإِذَا اجْتَنَبَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، فَلَا يُطَالَبُ بِكَفَّارَةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ الْحِنْثُ، وَإِذَا حَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} يُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا حَنِثَ وَلَمْ يُنَفِّذْ، فَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى هَذَا الْحِنْثِ، بَلْ يُوجِبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، فَإِذَا حَنِثَ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ كَفَّارَةُ الْأَيْمَانِ مُطْلَقًا لَغْوًا وَمَعْقُودَةً.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِهِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اللَّغْوِ فِيهَا.

أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ:

الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَحُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهَا، وَالْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْبِرِّ وَالْحِنْثِ.

وَبَيَانُهَا كَمَا يَلِي:

أ- حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِهَا:

116- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْإِبَاحَةُ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا مَذْمُومٌ.

وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْيَمِينِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ قَدْ تَعْرِضُ لِلْيَمِينِ أُمُورٌ تُخْرِجُهَا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا فِي الْمَذَاهِبِ الْآتِيَةِ الَّتِي ذَكَرَتِ الْأَحْكَامَ تَفْصِيلاً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَصْلُ فِي الْيَمِينِ الْكَرَاهَةُ إِلاَّ فِي طَاعَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ دِينِيَّةٍ، أَوْ فِي دَعْوَى عِنْدَ حَاكِمٍ، أَوْ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ عَلَى التَّعْيِينِ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ وَهَذَا إِجْمَالٌ تَوْضِيحُهُ فِيمَا يَلِي:

الْأَصْلُ فِي الْيَمِينِ الْكَرَاهَةُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَلِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْحَلِفُ حِنْثٌ أَوْ نَدَمٌ».

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ حَاجِزًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْضَةَ مَعْنَاهَا: الْحَاجِزُ وَالْمَانِعُ، وَالْأَيْمَانُ مَعْنَاهَا: الْأُمُورُ الَّتِي حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهَا.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ نَصْبًا لِأَيْمَانِكُمْ، فَتَبْذُلُوهُ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ جُرْأَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

فَالْآيَةُ الْأُولَى لَا تَدُلُّ عَلَى حُكْمِ الْحَلِفِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِكْثَارِ، لَا كَرَاهَةِ أَصْلِ الْحَلِفِ.

وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا طَلَبُ حِفْظِ الْأَيْمَانِ الْمَحْلُوفَةِ عَنِ الْحِنْثِ، إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ بِهَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، فَتَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْحِنْثِ أَوْ حُرْمَتِهِ، وَلَا شَأْنَ لَهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْحَلِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا طَلَبَ حِفْظِ الْأَيْمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ عَنِ الْإِظْهَارِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ تَرْكَ الْأَيْمَانِ حَذَرًا مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْحِنْثِ وَالْكَفَّارَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ مَكْرُوهًا إِلاَّ لِعَارِضٍ يُخْرِجُهُ عَنِ الْكَرَاهَةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ.

وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ فَيْضِ الْقَدِيرِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ فَالْحَصْرُ فِيهِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ، فَيَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي الْحِنْثِ، وَفِي بَعْضِهَا يَأْتِي بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَارِهًا لَهُ مُسْتَثْقِلاً إِيَّاهُ، نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْحَلِفِ.

117- وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عِنْدَهُمُ الْإِبَاحَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَصَّلُوا، فَقَالُوا: تَنْقَسِمُ الْيَمِينُ إِلَى وَاجِبَةٍ، وَمَنْدُوبَةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، وَحَرَامٍ.

فَتَجِبُ لِإِنْجَاءِ مَعْصُومٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ، وَلَوْ نَفْسَهُ، كَأَيْمَانِ قَسَامَةٍ تَوَجَّهَتْ عَلَى بَرِيءٍ مِنْ دَعْوَى قَتْلٍ.

وَتُنْدَبُ لِمَصْلَحَةٍ، كَإِزَالَةِ حِقْدٍ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ وَدَفْعِ شَرٍّ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهَا.

وَتُبَاحُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمَكًا مَثَلاً أَوْ لَيَأْكُلَنَّهُ، وَكَالْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ بِشَيْءٍ هُوَ صَادِقٌ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ صَادِقٌ.

وَتُكْرَهُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ، كَمَنْ حَلَفَ لَيُصَلِيَنَّ وَهُوَ حَاقِنٌ أَوْ لَيَأْكُلَنَّ بَصَلاً نِيئًا وَمِنْهُ الْحَلِفُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» أَوْ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ كَحَلِفِهِ لَا يُصَلِّي الضُّحَى.

وَتَحْرُمُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، كَشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ.

ثُمَّ إِنَّ إِبَاحَتَهَا عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ مَا لَمْ تَتَكَرَّرْ، فَالتَّكْرَارُ خِلَافُ السُّنَّةِ، فَإِنْ أَفْرَطَ فِيهِ كُرِهَ، لقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} وَهُوَ ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْإِكْثَارِ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا تَأْبَاهُ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى.

ب- حُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهَا:

118- الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ أَوْ عَكْسِهِمَا، أَوْ فِعْلِ مَا هُوَ أَوْلَى أَوْ تَرْكِ مَا تَرْكُهُ أَوْلَى أَوْ عَكْسِهِمَا، أَوْ فِعْلِ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ تَرْكِهِ.

فَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، كَوَاللَّهِ لأَُصَلِيَنَّ الظُّهْرَ الْيَوْمَ، أَوْ لَا أَسْرِقُ اللَّيْلَةَ، يَجِبُ الْبِرُّ فِيهَا وَيَحْرُمُ الْحِنْثُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، كَوَاللَّهِ لأَسْرِقَنَّ اللَّيْلَةَ أَوْ لَا أُصَلِّي الظُّهْرَ الْيَوْمَ يَحْرُمُ الْبِرُّ فِيهَا وَيَجِبُ الْحِنْثُ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.

لَكِنْ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ إِلَى أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنِ التَّوْقِيتِ يَلْزَمُهُ فِيهَا الْعَزْمُ عَلَى الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ.

وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مَا فِعْلُهُ أَوْلَى أَوْ عَلَى تَرْكِ مَا تَرْكُهُ أَوْلَى- كَوَاللَّهِ لأَُصَلِيَنَّ سُنَّةَ الصُّبْحِ أَوْ لَا أَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ- يُطْلَبُ الْبِرُّ فِيهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْحِنْثِ.

هَكَذَا عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدَامَى بِالْأَوْلَوِيَّةِ، وَبَحَثَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبِرِّ وَعَدَمِ جَوَازِ الْحِنْثِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ وَغَيْرُهُ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الْبِرُّ وَيُكْرَهُ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَالْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ مَا فِعْلُهُ أَوْلَى، أَوْ فِعْلُ مَا تَرْكُهُ أَوْلَى- كَوَاللَّهِ لَا أُصَلِّي سُنَّةَ الصُّبْحِ أَوْ لأَلْتَفِتَنَّ فِي الصَّلَاةِ- يُطْلَبُ الْحِنْثُ فِيهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْبِرِّ.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيُكْرَهُ الْبِرُّ.

وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ- كَوَاللَّهِ لأَتَغَدَّيَنَّ هَذَا الْيَوْمَ أَوْ لَا أَتَغَدَّى هَذَا الْيَوْمَ- يُطْلَبُ الْبِرُّ فِيهَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْحِنْثِ.هَكَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدَامَى، وَمُقْتَضَى بَحْثِ الْكَمَالِ وُجُوبُ الْبِرِّ وَعَدَمُ جَوَازِ الْحِنْثِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْبِرُّ أَفْضَلُ، مَا لَمْ يَتَأَذَّ بِذَلِكَ صَدِيقُهُ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ كَذَا، وَكَانَ صَدِيقُهُ يَتَأَذَّى مِنْ تَرْكِ أَكْلِهِ إِيَّاهُ، فَيَنْعَكِسُ الْحُكْمُ وَيَكُونُ الْحِنْثُ أَفْضَلَ. وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ الْأَوْلَوِيَّةُ، وَهِيَ الِاسْتِحْبَابُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدِ، وَيُقَالُ لِمُقَابِلِهَا خِلَافُ الْأَوْلَى أَوْ خِلَافُ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ الْمَكْرُوهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَالْبِرُّ أَوْلَى، فَمَذْهَبُهُمْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

الْحَلِفُ عَلَى الْغَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ إِبْرَارِ الْقَسَمِ:

119- قَدْ يَحْلِفُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مَنْسُوبَيْنِ إِلَيْهِ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ أَوْ لَا أَفْعَلُ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.وَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مَنْسُوبَيْنِ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لَا تَفْعَلْ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُهُ.

وَأَحْكَامُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ السَّابِقُ ذِكْرُهَا إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ تَرْكِهَا.

وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ أَوْ تَرْكِهِ، مُخَاطَبًا كَانَ أَوْ غَائِبًا، فَإِنَّهُ يَتَّفِقُ حُكْمُ التَّحْنِيثِ وَالْإِبْرَارِ فِيهِ مَعَ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ السَّابِقَيْنِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَخْتَلِفُ فِي بَعْضِهَا.

أ- فَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَاجِبًا أَوْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةً وَجَبَ إِبْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوِ انْتِهَاءٌ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.

ب- وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَعْصِيَةً أَوْ يَتْرُكَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ إِبْرَارُهُ، بَلْ يَجِبُ تَحْنِيثُهُ؛ لِحَدِيثِ: «لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» ج- وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَكْرُوهًا أَوْ يَتْرُكَ مَنْدُوبًا فَلَا يَبَرُّهُ، بَلْ يُحَنِّثُهُ نَدْبًا؛ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ.

د- وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا، أَوْ يَتْرُكَ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا فَهَذَا يُطْلَبُ إِبْرَارُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، أَوِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ»

وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، لَكِنِ اقْتِرَانُهُ بِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ- كَإِفْشَاءِ السَّلَامِ- قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- ، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- حَدِيثًا طَوِيلاً يَشْتَمِلُ عَلَى رُؤْيَا قَصَّهَا أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ فَقَالَ: أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا.قَالَ: فَوَاللَّهِ لَتُحَدِّثُنِي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ، قَالَ: لَا تُقْسِمْ»

فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُقْسِمْ» مَعْنَاهُ لَا تُكَرِّرِ الْقَسَمَ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ؛ لِأَنِّي لَنْ أُجِيبَكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الصَّنِيعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- لَا يَفْعَلُ خِلَافَ الْمُسْتَحْسَنِ إِلاَّ بِقَصْدِ بَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، بَلْ لِلِاسْتِحْبَابِ.

ج- الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْبِرِّ وَالْحِنْثِ:

120- الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ إِذَا بَرَّ فِيهَا الْحَالِفُ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِذَا حَنِثَ- بِأَنِ انْتَفَى مَا أَثْبَتَهُ أَوْ ثَبَتَ مَا نَفَاهُ- لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالِفًا عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ كَاذِبًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَاصِدًا لِلْحَلِفِ أَمْ لَا.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَادَةً أَيْضًا عِنْدَ زُفَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَالِفُ قَاصِدًا أَمْ غَيْرَ قَاصِدٍ، وَكَذَا مَنْ حَلَفَ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ.

121- وَالْمَالِكِيَّةُ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ حَاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ، وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ عَقْلاً.

ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلاً إِنْ كَانَ عَالِمًا بِاسْتِحَالَتِهِ أَوْ مُتَرَدِّدًا فِيهَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُوجِبُونَهَا مُطْلَقًا.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ فِي الْيَمِينِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ، فَيَقُولُونَ: مَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِكَلِمَةٍ فَنَطَقَ بِالْيَمِينِ بَدَلَهَا لِخَطَأِ لِسَانِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَمَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِشَيْءٍ فَنَطَقَ مَعَهُ بِالْيَمِينِ زِيَادَةً بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ كَالْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ، فَيُكَفِّرُهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَقْبَلِيَّةً مُطْلَقًا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ غَمُوسًا حَاضِرَةً، وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ نَرَ لَهُمْ تَفْصِيلاً فِي غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ، فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ.

رَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْكَفَّارَةِ فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ كِنَايَةً عَنِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ عَقْلاً.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْكِنَايَةِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهَا لَفْظٌ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ لَازِمُ مَعْنَاهُ، كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ.

122- وَالشَّافِعِيَّةُ يُخَالِفُونَ فِي أُمُورٍ: أَحَدِهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ عَلَى مَاضٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِيجَابُهَا فِي الْغَمُوسِ عَلَى حَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، فَإِنَّ الْغَمُوسَ عِنْدَهُمْ مُنْعَقِدَةٌ مُطْلَقًا.

ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ عَقْلاً، مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً، إِلاَّ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، أَوْ كَانَ جَاهِلاً بِالِاسْتِحَالَةِ.ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْيَمِينَ غَيْرَ الْمَقْصُودَةِ تُعَدُّ لَغْوًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعْنَى عَدَمِ الْقَصْدِ خَطَأَ اللِّسَانِ، أَمْ كَانَ مَعْنَاهُ سَبْقَ اللِّسَانِ إِلَى النُّطْقِ بِهَا، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَوْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.

وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ الْوَاقِعِ، جَاهِلاً بِمُخَالَفَتِهِ لِلْوَاقِعِ: لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ.سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَاضِيًا أَمْ حَاضِرًا أَمْ مُسْتَقْبَلاً، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ هُوَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، فَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ حِينَئِذٍ.

رَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ مُطْلَقًا.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَالْكَفَّارَةُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ وَيَجِبُ الْحِنْثُ، وَلَيْسَ فِيهَا الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ.

الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ

مَعْنَاهُ وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ:

123- أَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِهِ، أَوْ عَدَمِ مَا حَلَفَ عَلَى ثُبُوتِهِ.

وَأَمَّا مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ.الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إِمَّا مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ.

124- أَمَّا الْمَاضِي: فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً أَصْلاً، فَلَا حِنْثَ فِيهَا بِالْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيَعْتَبِرُونَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً إِذَا كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا عَمْدًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحِنْثُ مُقَارِنًا لِلِانْعِقَادِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ تَمَامِ الْإِتْيَانِ بِهَا.

125- وَأَمَّا الْحَاضِرُ: فَهُوَ كَالْمَاضِي، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ مُتَّفِقُونَ مَعَ الْفَرِيقِ الثَّانِي الْقَائِلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا عَمْدًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فَضَمُّوا إِلَى الْكَذِبِ الْعَمْدِ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ، بِأَنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ ظَنًّا ضَعِيفًا، أَوْ يَشُكُّ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ نَقِيضَهُ ظَنًّا ضَعِيفًا، وَسَبَقَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ وَحُكْمِهَا.

126- وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ: فَالْيَمِينُ عَلَيْهِ إِنْ وُجِدَتْ فِيهَا شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا مُطْلَقٌ وَإِمَّا مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ.

أَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُطْلَقِ: فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ الْيَمِينِ أَمْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ قَصِيرٍ أَوْ طَوِيلٍ، وَهَلْ يَمْنَعُ الْحِنْثَ نِسْيَانٌ أَوْ خَطَأٌ فِي الِاعْتِقَادِ، أَوْ خَطَأٌ لِسَانِيٌّ أَوْ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ أَوْ إِكْرَاهٌ؟ وَهَلْ يَحْنَثُ بِالْبَعْضِ إِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ذَا أَجْزَاءٍ أَوْ لَا يَحْنَثُ إِلاَّ بِالْجَمِيعِ؟ كُلُّ ذَلِكَ مَحَلُّ خِلَافٍ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي شَرَائِطِ الْحِنْثِ.

127- وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُؤَقَّتِ: فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِحُصُولِ الضِّدِّ فِي الْوَقْتِ، لَا بِحُصُولِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ.وَفِي النِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (تجسس)

تَجَسُّسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الْأَخْبَارِ، يُقَالُ: جَسَّ الْأَخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْأَخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّحَسُّسُ:

2- التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْلُ الْإِحْسَاسِ: الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أَيْ: هَلْ تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ، وَقَدْ قُرِئَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بِالْحَاءِ «وَلَا تَحَسَّسُوا» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ.

ب- التَّرَصُّدُ:

3- التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ: الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الِانْتِقَالِ، أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.

التَّنَصُّتُ:

4- التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ.يُقَالُ: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ: اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛ لِأَنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:

5- التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالْإِبَاحَةُ.

فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} لِأَنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالِاسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.

وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بِالْهَرَبِ.وَطَلَبُهُمْ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.

وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَالِ صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَا يُكْشَفُ عَنْهُ.وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ وِلَايَةِ الْحِسْبَةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:

6- الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً.

وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا- مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ- عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ، لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ- رضي الله عنه- قَتْلَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرِ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا.أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى.وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الْأَمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَانَ لَكَ- وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا- فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ.

وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ.فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.

وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ.وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.

وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا.وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ.فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ، وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.

وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ، وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى.

7- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا Bدِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} مَا يَأْتِي:

مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ.وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ.وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ- وَهُوَ صَحِيحٌ- لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.

فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَلَّى سَبِيلَهُ.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ»

8- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ.وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ.

9- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَلُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:

10- التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ- يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى..أَنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ الرَّسُولُ: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا.قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا نَارٌ وَلَا بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ...» إِلَخْ فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.

تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:

11- سَبَقَ أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}

وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الْأُمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- Bقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».

وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.

أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ.وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ.فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ.فَقَالَ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَلْ يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْلَ طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لَا يُكْسَرُ.وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.

فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُهَنَّا الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ.ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ Bمَسْعُودٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ.

تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:

12- الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.

وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».

فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:

13- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ Bبَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِلُّ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَالَ الِاطِّلَاعِ، وَلَا ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَالَ لِبِلَالٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا حَتَّى لَا يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.

وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ: (دَفْعُ الصَّائِلِ).

أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (تطوع 1)

تَطَوُّعٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّطَوُّعُ: هُوَ التَّبَرُّعُ، يُقَالُ: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ: تَبَرَّعَ بِهِ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّطَوُّعُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ فِي التَّعَارُفِ: التَّبَرُّعُ بِمَا لَا يَلْزَمُ كَالتَّنَفُّلِ.قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}.

وَالْفُقَهَاءُ عِنْدَمَا أَرَادُوا أَنْ يُعَرِّفُوا التَّطَوُّعَ، عَدَلُوا عَنْ تَعْرِيفِ الْمَصْدَرِ إِلَى تَعْرِيفِ مَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْمَصْدَرِ، فَذَكَرُوا لَهُ فِي الِاصْطِلَاحِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ هُوَ الْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ.وَكُلُّهَا مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ.وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَهُوَ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالتَّطَوُّعُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ عَلَى: السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالنَّفَلِ وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ وَالْقُرْبَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْحَسَنِ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّطَوُّعَ هُوَ مَا عَدَا الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ، وَهُوَ اتِّجَاهُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ: السُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْ لُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ، وَأَمَّا حَدُّ النَّفْلِ- وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ- فَقِيلَ: مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فِي الشَّرْعِ...إِلَخْ.

الثَّالِثُ: التَّطَوُّعُ: هُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ بِخُصُوصِهِ، بَلْ يُنْشِئُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً، وَهُوَ اتِّجَاهُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

هَذِهِ هِيَ الِاتِّجَاهَاتُ فِي مَعْنَى التَّطَوُّعِ وَمَا يُرَادِفُهُ.غَيْرَ أَنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ- بِمَا فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ- يَجِدُ أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ بِإِطْلَاقِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا عَدَا الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّطَوُّعُ وَالسُّنَّةُ وَالنَّفَلُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ.

غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي دَائِرَةِ التَّطَوُّعِ بَعْضُهُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فِي الرُّتْبَةِ، فَأَعْلَاهُ هُوَ السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ، كَالْعِيدَيْنِ، وَالْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَيَلِي ذَلِكَ الْمَنْدُوبُ أَوِ الْمُسْتَحَبُّ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَيَلِي ذَلِكَ مَا يُنْشِئُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُسَمَّى تَطَوُّعًا.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلرَّجُلِ- الَّذِي سَأَلَ بَعْدَمَا عَرَفَ فَرَائِضَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ».

أَنْوَاعُ التَّطَوُّعِ:

2- مِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ لَهُ نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ، مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَجِهَادٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ حِينَ يُذْكَرُ لَفْظُ التَّطَوُّعِ.

وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي جِنْسِهِ بِاعْتِبَارَاتٍ، فَهُوَ يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ، إِذْ مِنْهُ مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ رُتْبَةً كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.

وَمِنْ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ: صِيَامُ يَوْمَيْ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ، فَهُمَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِهِمَا، وَالِاعْتِكَافُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا.كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي جِنْسِهِ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُقَيَّدٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّقْيِيدُ بِوَقْتٍ أَوْ بِسَبَبٍ، كَالضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفُرُوضِ.وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ.

وَيَخْتَلِفُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ كَالرَّوَاتِبِ مِنَ الْفُرُوضِ، إِذْ هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَشْرٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: اثْنَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَاثْنَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ (وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعٌ) وَاثْنَتَانِ بَعْدَهُ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ.وَالتَّطَوُّعُ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْأَفْضَلُ أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ.وَمِثْلُ ذَلِكَ تَطَوُّعُ اللَّيْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ، وَبِهَذَا يُفْتَى.

وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَنَفْلٌ) وَفِيمَا لَهُ أَبْوَابٌ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ: عِيدٌ- كُسُوفٌ- اسْتِسْقَاءٌ...إِلَخْ.

وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ كَطَلَبِ عِلْمٍ غَيْرِ مَفْرُوضٍ.

وَكَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالتَّطَوُّعِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ مُحْتَاجٍ، أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، أَوْ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، أَوِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، أَوِ الْإِرْفَاقِ الْمَعْرُوفِ بِجَعْلِ الْغَيْرِ يَحْصُلُ عَلَى مَنَافِعِ الْعَقَارِ، أَوْ إِسْقَاطِ الْحُقُوقِ...وَهَكَذَا.

وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْإِعَارَةِ وَالْهِبَةِ، إِذْ إِنَّهَا قُرُبَاتٌ شُرِعَتْ لِلتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ.

3- وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا هُوَ عَيْنِيٌّ مَطْلُوبٌ نَدْبًا مِنْ كُلِّ فَرْدٍ، كَالتَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ...وَمِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْأَذَانِ وَغَيْرِهِ.قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ جَمَاعَةً كَفَى عَنْهُمْ تَسْلِيمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ:

4- التَّطَوُّعُ يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَزِيدُهُ ثَوَابًا، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ».الْحَدِيثُ.وَالْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ هِيَ:

أ- اكْتِسَابُ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى:

وَكَذَلِكَ نَيْلُ ثَوَابِهِ وَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَوَابِ التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ.

وَفِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وَالْمُرَادُ الصَّغَائِرُ.حَكَاهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّغَائِرُ رُجِيَ التَّخْفِيفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتِ الدَّرَجَاتُ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي الِاعْتِكَافِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إِلَى بَارِئِهَا، وَالتَّحَصُّنُ بِحِصْنٍ حَصِينٍ، وَمُلَازَمَةُ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَالَ عَطَاءٌ: مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى عَظِيمٍ يَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى تُقْضَى حَاجَتِي.

وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: مِنْ مَحَاسِنِ الْعَارِيَّةِ أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ لِمُحْتَاجٍ كَالْقَرْضِ، فَلِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ.

ب- الْأُنْسُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهَا:

5- قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي تَقْدِيمِ النَّوَافِلِ عَلَى الْفَرَائِضِ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لِانْشِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا تَكُونُ بَعِيدَةً عَنْ حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ، الَّتِي هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِلُ عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النُّفُوسُ بِالْعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الْخُشُوعِ.

ج- جُبْرَانُ الْفَرَائِضِ:

6- قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: النَّوَافِلُ الَّتِي بَعْدَ الْفَرَائِضِ هِيَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِي الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ نَقْصٌ فِي الْفَرْضِ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَلَ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِنِ انْتُقِصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلَ بِهِ مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ».

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى الْجَامِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي الصَّلَاةَ».

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ غَالِبًا إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ نَافِلَةً، حَتَّى إِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ- وَفِيهِ خَلَلٌ مَا- يُجْبَرُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِذَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي فَرِيضَةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ جُوزِيَ عَلَيْهَا، وَأُثْبِتَتْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَلَلٌ كُمِّلَتْ مِنْ نَافِلَتِهِ حَتَّى قَالَ الْبَعْضُ: إِنَّمَا تَثْبُتُ لَكَ نَافِلَةٌ إِذَا سَلِمَتْ لَكَ الْفَرِيضَةُ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ رِبْحًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَسِيمًا.

د- التَّعَاوُنُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَوْثِيقُ الرَّوَابِطِ بَيْنَهُمْ وَاسْتِجْلَابُ مَحَبَّتِهِمُ:

7- التَّطَوُّعُ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ يَنْشُرُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَفِي فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا».يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الْخَيْرِ بِالْفِعْلِ، وَبِالتَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَالشَّفَاعَةِ إِلَى الْكَبِيرِ فِي كَشْفِ كُرْبَةٍ وَمَعُونَةِ ضَعِيفٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّئِيسِ.

كَذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا»

أَفْضَلُ التَّطَوُّعِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ، فَقِيلَ: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ.فَفَرْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ غَيْرِهَا، وَتَطَوُّعُهَا أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا.قَالَ بِهَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ بِتَفْضِيلِ الصِّيَامِ.

قَالَ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ: أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ، فَإِنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، مَنْسُوبًا إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْتَصِرُ مِنَ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ مِنْهُ، فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ.وَالصَّحِيحُ تَفْضِيلُ الصَّلَاةِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أَفْضَلَ تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لقوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثُمَّ النَّفَقَةُ فِيهِ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الْآيَةَ، ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، لِحَدِيثِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ».

ثُمَّ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَمُدَاوَمَتُهُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَفْلِهَا.وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَلُ مِنْهَا، أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ يَفُوتُ بِمُفَارَقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَالِاشْتِغَالُ بِمَفْضُولٍ يَخْتَصُّ بُقْعَةً أَوْ زَمَنًا أَفْضَلُ مِنْ فَاضِلٍ لَا يَخْتَصُّ، وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا.

9- وَيَتَفَاوَتُ مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فِي الْفَضْلِ، فَصَدَقَةٌ عَلَى قَرِيبٍ مُحْتَاجٍ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: لَوْ مَلَكَ عَقَارًا، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ، فَهَلِ الْأَوْلَى الصَّدَقَةُ بِهِ حَالًا، أَمْ وَقْفُهُ؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ شِدَّةٍ وَحَاجَةٍ فَتَعْجِيلُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ وَقْفَةٌ، وَلَعَلَّ الْوَقْفَ أَوْلَى، لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ.وَأَطْلَقَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَقْدِيمَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ حَظِّ النَّفْسِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ.

وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَرَاتِبُ الْقُرْبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَالِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ.

لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ: مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ: فَقَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُقْتَرِضُ لَا يَقْتَرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ».

وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ- لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ- أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ، وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَقَدْ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تَتَبَاهَى، فَتَقُولُ الصَّدَقَةُ: أَنَا أَفْضَلُكُمْ.

وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

10- الْأَصْلُ فِي التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ.سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ...أَمْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالْإِعَارَةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَأَنْوَاعِ الْإِرْفَاقِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ مِنْهَا: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» قَوْلُهُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» وَقَوْلُهُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» وَقَوْلُهُ: «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ».

وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَبَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، وَكَإِعَارَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِمَنْ يُخْشَى هَلَاكُهُ بِعَدَمِهَا، وَكَإِعَارَةِ الْحَبْلِ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَالْعِبَادَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُحَرَّمَةِ كَالصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا، وَكَصِيَامِ يَوْمَيِ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَتَصَدُّقِ الْمَدِينِ مَعَ حُلُولِ دَيْنِهِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يُسَدِّدُ بِهِ دَيْنَهُ.

وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَوُقُوعِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطِيَّةِ لِأَوْلَادِهِ.

أَهْلِيَّةُ التَّطَوُّعِ:

11- التَّطَوُّعُ يَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَطَوِّعِ بِهَا مَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ مِنَ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.

ب- أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّتِهِ.وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ،

لِأَنَّهُ فِي الْحَجِّ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ يُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.

ج- التَّمْيِيزُ، فَلَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ مِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ؛ لِأَنَّ تَطَوُّعَ الصَّبِيِّ بِالْعِبَادَاتِ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ: فَإِنَّ الشَّرْطَ هُوَ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ هَذَا يُنْظَرُ فِي (أَهْلِيَّةٌ).

أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ:

12- أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ مِنْهَا مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَشْمَلُ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعِبَادَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

(أَوَّلًا) مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ:

أ- مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:

13- تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَتُسَنُّ لِلتَّرَاوِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الْأَفْضَلُ الِانْفِرَادُ بِهَا- بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ- إِنْ لَمْ تُعَطَّلِ الْمَسَاجِدُ عَنْ فِعْلِهَا فِيهَا.وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ كَذَلِكَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُصَلَّى جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَا تُصَلَّى إِلاَّ فُرَادَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْجَمَاعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ.وَيُسَنُّ الْوِتْرُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ

وَبَقِيَّةُ التَّطَوُّعَاتِ تَجُوزُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتُكْرَهُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَمَاعَةُ فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ سُنَّةٌ وَالْفَجْرُ خِلَافُ الْأَوْلَى.أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجُوزُ فِعْلُهُ جَمَاعَةً، إِلاَّ أَنْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ أَوْ يَشْتَهِرَ الْمَكَانُ فَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ حَذَرَ الرِّيَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ- نَفْلٌ)

مَكَانُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:

14- صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ» وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ، فَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، وَيُسْتَثْنَى كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَلَاةُ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، فَيُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ.

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنَ السُّنَنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إِذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ»، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ، لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِلِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا، حَتَّى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ، وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ.كَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه-.قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ صَلَّى وَرَاءَ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ مَكَانَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-.وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِسْنَادِهِ.وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ».

صَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ:

15- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ.قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ أَيْضًا، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ بَعِيرُك.وَهَذَا يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.وَلِلْبُخَارِيِّ: «إِلاَّ الْفَرَائِضَ» وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: «غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ؛ وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا.

وَالْوِتْرُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ.كَذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ لَا يَجُوزُ، لِاخْتِصَاصِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا، فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نَفْلٌ- نَافِلَةٌ).

صَلَاةُ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا:

16- تَجُوزُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ مِنْ قُعُودٍ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتَرَكَ أَكْثَرَهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ.

الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ:

17- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ الْمُصَلِّي بَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَهَا بِالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالسُّنَّةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: نَفْلٌ).

قَضَاءُ التَّطَوُّعِ:

18- إِذَا فَاتَ التَّطَوُّعُ- سَوَاءٌ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمُقَيَّدُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ- فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا يُقْضَى سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّيْتَ صَلَاةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا فَقَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ فَشَغَلَنِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: لَا».

وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا شَرِكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ.وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلًا، إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إِذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «فَعَلَهُمَا مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ» فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ.وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ فَاتَ النَّفَلُ الْمُؤَقَّتُ (كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالضُّحَى) نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الْأَظْهَرِ، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لَمَّا نَامَ فِي الْوَادِي عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ».وَفِي مُسْلِمٍ نَحْوُهُ.«وَقَضَى رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْمُتَأَخِّرَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ»؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَقُضِيَتْ كَالْفَرَائِضِ، وَسَوَاءٌ السَّفَرُ وَالْحَضَرُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي.

وَالثَّانِي: لَا يُقْضَى كَغَيْرِ الْمُؤَقَّتِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَتْبَعْ غَيْرَهُ كَالضُّحَى قُضِيَ، لِشَبَهِهِ بِالْفَرْضِ فِي الِاسْتِقْلَالِ، وَإِنْ تَبِعَ غَيْرَهُ كَالرَّوَاتِبِ فَلَا.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ (أَيِ النَّوَوِيِّ) أَنَّ الْمُؤَقَّتَ يُقْضَى أَبَدًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالثَّانِي: يَقْضِي فَائِتَةَ النَّهَارِ مَا لَمْ تُضْرَبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتَةَ اللَّيْلِ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُهُ.وَالثَّالِثُ: يَقْضِي مَا لَمْ يُصَلِّ الْفَرْضَ الَّذِي بَعْدَهُ.وَخَرَجَ بِالْمُؤَقَّتِ مَا لَهُ سَبَبٌ كَالتَّحِيَّةِ وَالْكُسُوفِ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقَضَاءِ فِيهِ.نَعَمْ لَوْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ قَضَاؤُهُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ، إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

وَقَالَ الْقَاضِي وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَا يُقْضَى إِلاَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ.

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بَعْضَهَا، وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهَا.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ، إِلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ، فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا.

انْقِلَابُ الْوَاجِبِ تَطَوُّعًا:

19- قَدْ يَنْقَلِبُ وَاجِبُ الْعِبَادَاتِ إِلَى تَطَوُّعٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِ قَصْدٍ.وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلًا فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، ثُمَّ غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَجَعَلَهَا تَطَوُّعًا، صَارَتْ تَطَوُّعًا.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: إِنْ أَحْرَمَ مُصَلٍّ بِفَرْضٍ، كَظُهْرٍ فِي وَقْتِهِ الْمُتَّسِعِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَلَبَهُ نَفْلًا، بِأَنْ فَسَخَ نِيَّةَ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ، صَحَّتْ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى الْأَكْثَرَ مِنْهَا أَوِ الْأَقَلَّ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ النَّفَلَ يَدْخُلُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَكُرِهَ قَلْبُهُ نَفْلًا لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.ثُمَّ قَالَ: وَيَنْقَلِبُ نَفْلًا مَا بَانَ عَدَمُهُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَائِتَةٍ ظَنَّهَا عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، أَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُ النَّفَلَ.

وَمِنْ ذَلِكَ الصِّيَامُ.جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ قَطَعَ نِيَّةَ صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، ثُمَّ نَوَى صَوْمًا نَفْلًا صَحَّ نَفْلُهُ، وَإِنْ قَلَبَ صَائِمٌ نِيَّةَ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ إِلَى نَفْلٍ صَحَّ، كَقَلْبِ فَرْضِ الصَّلَاةِ نَفْلًا.وَخَالَفَ الْحَجَّاوِيُّ فِي «الْإِقْنَاعِ» فِي مَسْأَلَةِ قَلْبِ الْقَضَاءِ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى رَجُلٍ، وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ الدَّفْعِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصَارِفِهَا لَمْ تُجْزِئْهُ زَكَاةٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَيَقَعُ تَطَوُّعًا.ثُمَّ قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إِذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً: أَنَّهُ إِنْ وَصَلَ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ- وَهُوَ السَّاعِي- لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ.وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ.

وَفِي الْمُهَذَّبِ أَيْضًا: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْلِ.

وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ نَذْرًا وَنَفْلًا كَانَ نَفْلًا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الْأَصَحِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (خطبة)

خُطْبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخُطْبَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ لُغَةً الْكَلَامُ الْمَنْثُورُ يُخَاطِبُ بِهِ مُتَكَلِّمٌ فَصِيحٌ جَمْعًا مِنَ النَّاسِ لِإِقْنَاعِهِمْ.

وَالْخَطِيبُ: الْمُتَحَدِّثُ عَنِ الْقَوْمِ، وَمَنْ يَقُومُ بِالْخَطَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.

وَالْخُطْبَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ الْكَلَامُ الْمُؤَلَّفُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَإِبْلَاغًا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَوْعِظَةُ:

2- الْمَوْعِظَةُ هِيَ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَالْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ.قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.

ب- الْوَصِيَّةُ:

3- الْوَصِيَّةُ هِيَ لُغَةُ التَّقَدُّمِ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ.

ج- النَّصِيحَةُ:

4- النَّصِيحَةُ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.

وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ تَكُونَ سِرًّا، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَسْمَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ.

د- الْكَلِمَةُ:

5- تُسْتَعْمَلُ الْكَلِمَةُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُطَوَّلِ: خُطْبَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا كَالْقَصِيدَةِ وَالْمَقَالَةِ وَالرِّسَالَةِ.

أَحْكَامُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ:

6- الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ هِيَ: خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَخُطَبِ الْحَجِّ، وَكُلُّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ إِلاَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ، وَخُطْبَةَ الْحَجِّ يَوْمَ عَرَفَةَ.

وَمِنَ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ أَيْضًا الْخُطْبَةُ فِي خِطْبَةِ النِّكَاحِ.

أ- خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ:

حُكْمُهَا:

7- هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ الْحَنَفِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّرْطَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتُسَنُّ خُطْبَتَانِ.

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ فِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ قَوْلِهِ: « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مُقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكُلَّ خُطْبَةٍ مَكَانَ رَكْعَةٍ، فَالْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا كَالْإِخْلَالِ بِإِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ.

أَرْكَانُهَا:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْخُطْبَةِ تَحْمِيدَةٌ أَوْ تَهْلِيلَةٌ أَوْ تَسْبِيحَةٌ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مُطْلَقُ الذِّكْرِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَكُونُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الذِّكْرِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ رُكْنَهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَلَوْ سَجْعَتَيْنِ، نَحْوُ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ، وَانْتَهُوا عَمَّا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ.

فَإِنْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ لَمْ يُجْزِهِ.

وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ أَقَلَّهَا حَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَتَحْذِيرٌ، وَتَبْشِيرٌ، وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا خَمْسَةَ أَرْكَانٍ وَهِيَ:

أ- حَمْدُ اللَّهِ، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ (اللَّهِ) وَلَفْظُ (الْحَمْدِ).

ب- الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَتَعَيَّنُ صِيغَةُ صَلَاةِ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِاسْمِهِ أَوْ بِصِفَتِهِ، فَلَا يَكْفِي ((.

ج- الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا.

د- الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ.

هـ- قِرَاءَةُ آيَةٍ مُفْهِمَةٍ- وَلَوْ فِي إِحْدَاهُمَا- فَلَا يُكْتَفَى بِنَحْوِ « ثُمَّ نَظَرَ »، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِالْإِفْهَامِ، وَلَا بِمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، وَيُسَنُّ جَعْلُهَا فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

أَمَّا أَرْكَانُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَأَرْبَعَةٌ، وَهِيَ:

أ- حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْحَمْدِ.

ب- الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصِيغَةِ الصَّلَاةِ.

ح- الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْخُطْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا.

د- قِرَاءَةُ آيَةٍ كَامِلَةٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ رُكْنَيْنِ آخَرَيْنِ:

أ- الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَا بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى، وَلَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

ب- الْجَهْرُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ لِلْجُمُعَةِ، حَيْثُ لَا مَانِعَ.

وَعَدَّهُمَا الْآخَرُونَ فِي الشُّرُوطِ- وَهُوَ الْأَلْيَقُ- كَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

شُرُوطُهَا:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ وَهِيَ: (1) أَنْ تَقَعَ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ.

وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ وَقْتَهَا يَبْدَأُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعِيدِ، وَهُوَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ رُمْحٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ قَالَ « شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: قَدْ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ ».

(2) أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

فَلَوْ خَطَبَ بَعْدَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ- فَقَطْ- إِنْ قَرُبَ، وَإِلاَّ اسْتَأْنَفَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا وَصْلَ الصَّلَاةِ بِهَا.

(3) حُضُورُ جَمَاعَةٍ تَنْعَقِدُ بِهِمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِمْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا سِوَى الْإِمَامِ- عَلَى الصَّحِيحِ-

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ وُجُوبَ حُضُورِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْلِهَا الْخُطْبَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوهُمَا مِنْ أَوَّلِهِمَا لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مُنَزَّلَتَانِ مَنْزِلَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حُضُورِ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا.

فَلَوْ حَضَرَ الْعَدَدُ، ثُمَّ انْفَضُّوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِنِ انْفَضُّوا قَبْلَ افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُبْتَدَأْ بِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّ الرُّكْنَ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي غَيْبَتِهِمْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، فَإِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، وَبَعْدَ طُولِهِ يَسْتَأْنِفُهَا لِفَوَاتِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْمُوَالَاةُ.هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَفِي الْمَذَاهِبِ أَقْوَالٌ أُخْرَى يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

(4) رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ، إِنْ لَمْ يَعْرِضْ مَانِعٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ الْكَلَامُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَكَذَا لِتَحْذِيرِ إِنْسَانٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ.وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- « إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ ».

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ، لِمَا صَحَّ « أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَخْطُبُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ...» وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمَا وُجُوبَ السُّكُوتِ.

وَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ.

(5) الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ، وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَيُغْتَفَرُ يَسِيرُ الْفَصْلِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ بِأَكْلٍ أَوْ عَمَلٍ قَاطِعٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا كَمَا إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْجُمُعَةِ فَاشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا أَوْ أَفْسَدَ الْجُمُعَةَ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَتِهَا، أَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ فَلَا تَبْطُلُ الْخُطْبَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ قَاطِعٍ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى إِعَادَتُهَا، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُسِيئًا.

(6) كَوْنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، تَعَبُّدًا.لِلِاتِّبَاعِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ أَرْكَانُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ فَاشْتُرِطَ فِيهِ ذَلِكَ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ الْجَمَاعَةُ عَجَمًا لَا يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَصِحُّ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْخَطِيبُ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوَافَقَ الصَّاحِبَانِ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ إِلاَّ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا مَعْنَى مَا يَقُولُ، فَلَا يَكْفِي أَعْجَمِيٌّ لُقِّنَ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ- عَلَى الظَّاهِرِ-

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يَخْطُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ خُوطِبَ بِهِ الْجَمِيعُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ زَادُوا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا عَصَوْا وَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ بَلْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْ سُؤَالِ مَا فَائِدَةُ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ بِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْعِلْمُ بِالْوَعْظِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِيمَا إِذَا سَمِعُوا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَصِحُّ.وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا خَطَبَ وَاحِدٌ بِلُغَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أَحَدٌ مِنْهُمُ التَّرْجَمَةَ فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا.

(7) النِّيَّةُ: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ».فَلَوْ حَمِدَ اللَّهَ لِعُطَاسِهِ أَوْ تَعَجُّبًا، أَوْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا تَصِحُّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ.

وَهُنَاكَ أُمُورٌ شَرَطَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى سُنِّيَّتِهَا وَتَأْتِي فِي السُّنَنِ.

سُنَنُهَا:

10- تَنْقَسِمُ هَذِهِ السُّنَنُ إِلَى سُنَنٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا وَأُخْرَى مُخْتَلَفٍ فِيهَا

أَمَّا السُّنَنُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ:

(1) أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ عَلَى مِنْبَرٍ لِإِلْقَاءِ الْخُطْبَةِ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ (بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصَلِّي)، لِلِاتِّبَاعِ.

فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ الْمِنْبَرُ فَعَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ.

(2) الْجُلُوسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، عَمَلًا بِالسُّنَّةِ.

(3) اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ الْإِقْبَالُ بِوَجْهِهِمْ عَلَيْهِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: « كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ ».

(4) الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ.وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ « إِنَّ الْأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما-، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَكَثُرُوا أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأَذَّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ».

(5) رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْخُطْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْجَهْرِ الْوَاجِبِ السَّابِقِ بَيَانُهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، لِقَوْلِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ».

(6) تَقْصِيرُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَكَوْنُ الثَّانِيَةِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُولَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصِرُوا الْخُطْبَةَ ».

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ فَصِيحَةً بَلِيغَةً مُرَتَّبَةً مَفْهُومَةً بِلَا تَمْطِيطٍ وَلَا تَقْعِيرٍ، وَلَا تَكُونُ أَلْفَاظًا مُبْتَذَلَةً مُلَفَّقَةً، حَتَّى تَقَعَ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعَهَا.

(7) أَنْ يَعْتَمِدَ الْخَطِيبُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ- رضي الله عنه- قَالَ: « وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-...فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ».

وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: يَتَّكِئُ عَلَى السَّيْفِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، لِيُرِيَهُمْ قُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْحَزْمَ، وَيَخْطُبُ بِدُونِهِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ صُلْحًا.

11- وَأَمَّا السُّنَنُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهِيَ:

(1) الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، لِلِاتِّبَاعِ.

وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَثِمَ وَصَحَّتْ.

فَإِنْ عَجَزَ خَطَبَ قَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ خَطَبَ مُضْطَجِعًا كَالصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ سَوَاءٌ أَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ أَمْ سَكَتَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِعُذْرٍ.

وَالْأَوْلَى لِلْعَاجِزِ الِاسْتِنَابَةُ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ قَعَدَ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا أَجْزَأَ، وَكُرِهَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

(2) الْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ مُطْمَئِنًّا فِيهِ، لِلِاتِّبَاعِ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَشَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

(3) الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ.

وَهِيَ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ.

وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتَأْنَفَهَا، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَصُرَ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُؤَدَّى بِطَهَارَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَحْدَث بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَتَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْخُطْبَتَيْنِ وَلَكِنَّ تَرْكَهَا مَكْرُوهٌ.

(4) سَتْرُ الْعَوْرَةِ:

سَتْرُ الْعَوْرَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

(5) السَّلَامُ عَلَى النَّاسِ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْخَطِيبُ عَلَى النَّاسِ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَالَ خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ (أَيْ مِنْ حُجْرَتِهِ أَوْ عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ قَادِمًا مِنْ خَارِجِهِ) وَالْأُخْرَى، إِذَا وَصَلَ أَعْلَى الْمِنْبَرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ سَلَامُهُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ فَقَطْ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْدَ انْتِهَاءِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُلْجِئُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ.

6- الْبَدَاءَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، كَمَا يُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا خَتْمُهَا بِيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيبُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ بِالثَّنَاءِ، ثُمَّ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ بِالْمَوْعِظَةِ، فَإِنْ نَكَسَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.وَهَذَا التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.

وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُمْ.وَقَدْ تَقَدَّمَ.

7- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِسُنِّيَّةِ حُضُورِ الْخَطِيبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، بِحَيْثُ يَشْرَعُ فِي الْخُطْبَةِ أَوَّلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ، وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.

8- أَنْ يَصْعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ عَلَى تُؤَدَةٍ، وَأَنْ يَنْزِلَ مُسْرِعًا عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.

مَكْرُوهَاتُهَا:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِزَمَنٍ، فِي الشِّتَاءِ لِقِصَرِ الزَّمَانِ، وَفِي الصَّيْفِ لِلضَّرَرِ بِالزِّحَامِ وَالْحَرِّ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَلَوْ وِتْرًا، وَهُوَ صَاحِبُ تَرْتِيبٍ فَلَا يُكْرَهُ الشُّرُوعُ فِيهَا حِينَئِذٍ، بَلْ يَجِبُ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ التَّسْبِيحُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، إِلاَّ إِذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يُصَلِّي سِرًّا إِحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَيَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ إِذَا عَطَسَ- عَلَى الصَّحِيحِ- وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِسَمَاعٍ وَاجِبٍ، وَيَجُوزُ إِنْذَارُ أَعْمَى وَغَيْرِهِ إِذَا خُشِيَ تَعَرُّضُهُ لِلْوُقُوعِ فِي هَلَاكٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِنْصَاتِ- حَقِّ اللَّهِ-

وَيُكْرَهُ لِحَاضِرِ الْخُطْبَةِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَقَالَ الْكَمَالُ: يَحْرُمُ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ.

وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ وَالِالْتِفَاتُ، وَيُكْرَهُ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ إِذَا أَخَذَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.

13- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ تَخَطِّي الرِّقَابِ قَبْلَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِغَيْرِ فُرْجَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الْجَالِسِينَ، وَأَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَالتَّنَفُّلُ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِجَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ يُقْتَدَى بِهِ كَعَالِمٍ وَأَمِيرٍ، كَمَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ مِنَ الْجَالِسِينَ حَالَ الْخُطْبَةِ وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَسْمَعُوا الْخُطْبَةَ إِلاَّ أَنْ يَلْغُوَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ سَاقِطٍ، فَيَجُوزَ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ، وَيَحْرُمَ السَّلَامُ مِنَ الدَّاخِلِ أَوِ الْجَالِسِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَا رَدُّهُ، وَلَوْ بِالْإِشَارَةِ وَيَحْرُمُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَنَهْيٌ لَاغٍ، وَالْإِشَارَةُ لَهُ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَابْتِدَاءُ صَلَاةِ نَفْلٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ لِلْخُطْبَةِ، وَلَوْ لِدَاخِلٍ.

14- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أَشْيَاءُ مِنْهَا:

مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْخُطَبَاءِ مِنَ الدَّقِّ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَالدُّعَاءِ إِذَا انْتَهَى صُعُودُهُ قَبْلَ جُلُوسِهِ، وَالِالْتِفَاتِ فِي الْخُطْبَةِ، وَالْمُجَازَفَةِ فِي أَوْصَافِ السَّلَاطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ وَكَذِبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِهَا، وَاسْتِدْبَارِ الْخَطِيبِ لِلْمُصَلِّينَ، وَهُوَ قَبِيحٌ خَارِجٌ عَنْ عُرْفِ الْخِطَابِ، وَالتَّقْعِيرِ وَالتَّمْطِيطِ فِي الْخُطْبَةِ، وَيُكْرَهُ شُرْبُ الْمَاءِ لِلْمُصَلِّينَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ لِلتَّلَذُّذِ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ لِلْعَطَشِ، وَيُكْرَهُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يُسَلِّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَمِعِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَنَفُّلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بَعْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجُلُوسُهُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ تَخْفِيفُهَا عِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ وَجُلُوسِهِ، وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ جَمَاعَةً بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ.

وَتُسْتَثْنَى التَّحِيَّةُ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُسَنُّ لَهُ فِعْلُهَا، وَيُخَفِّفُهَا وُجُوبًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ». (ر: تَحِيَّةٌ ف 5)

15- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الْخُطْبَةِ، وَاسْتِدْبَارُ النَّاسِ، وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ رَفْعُ يَدَيْهِ حَالَ الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ فِي دُعَائِهِ، وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ عَقِبَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ، وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُسْنِدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَمَدُّ رِجْلَيْهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ، وَابْتِدَاءُ تَطَوُّعٍ بِخُرُوجِ الْخَطِيبِ خَلَا تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ الدَّاخِلُ مِنْهَا، وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ، وَشُرْبُ مَاءٍ عِنْدَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ عَطَشُهُ.

ب- خُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ:

حُكْمُهَا:

16- خُطْبَتَا الْعِيدِ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ حُضُورُهُمَا وَلَا اسْتِمَاعُهُمَا، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: « شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إِنَّا نَخْطُبُ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ ».

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الْخُطْبَةُ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ أَوْ لَا تَلْزَمُهُ مِنْ صَبِيٍّ أَوِ امْرَأَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ حُضُورَ سُنَّتِهَا، كَطَوَافِ النَّفْلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ رُكُوعَهُ (أَيْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ) لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّتِهِ.

وَهِيَ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فِي صِفَتِهَا وَأَحْكَامِهَا، إِلاَّ فِيمَا يَلِي:

1- أَنْ تُفْعَلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، لَا قَبْلَهَا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَخُطْبَتَا الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ (أَيْ فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ) خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِذَا خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ أَسَاءَ الْخَطِيبُ بِذَلِكَ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَيُعِيدُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.

2- وَيُسَنُّ افْتِتَاحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي أَثْنَائِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَتِحُهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَفْتَتِحَ الْأُولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَبَّرَ ثَلَاثًا أَوْ سَبْعًا أَوْ غَيْرَهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَيِّنَ فِي خُطْبَةِ الْفِطْرِ أَحْكَامَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَفِي الْأَضْحَى أَحْكَامَ الْأُضْحِيَّةِ 3- أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- الْقِيَامُ، وَالطَّهَارَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ.

د- خُطْبَةُ الْكُسُوفِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالصَّلَاةِ دُونَ الْخُطْبَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ وَعْظٌ بَعْدَهَا، يَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّهِ، لِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

وَلَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.

وَيُنْدَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي أَرْكَانِهِمَا وَسُنَنِهِمَا، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِمَا الشُّرُوطُ كَمَا فِي الْعِيدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَلَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ إِنْ قَدَّمَهَا عَلَى الصَّلَاةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (كُسُوفٌ).

د- خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ:

18- يُنْدَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً كَخُطْبَةِ الْعِيدِ فِي الْأَرْكَانِ، وَالشُّرُوطِ، وَالسُّنَنِ، يَعِظُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَيُخَوِّفُهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي جَمَاعَةً وَلَا يَخْطُبُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْخُطَبِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُمَا خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ، لَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِالتَّكْبِيرِ الِاسْتِغْفَارَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكَبِّرُ فِي أَوَّلِهَا تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (اسْتِسْقَاءٌ).

هـ- خُطَبُ الْحَجِّ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْخُطْبَةُ فِي الْحَجِّ، يُبَيِّنُ فِيهَا مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْخُطَبِ الَّتِي يَخْطُبُهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ خُطَبٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ.

1- الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

يُسَنُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَا الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُسَمَّى بِيَوْمِ الزِّينَةِ، خُطْبَةً وَاحِدَةً لَا يَجْلِسُ فِيهَا يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

2- الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ، قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ- جَمْعَ تَقْدِيمٍ- اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَا أَمَامَهُمْ مِنْ مَنَاسِكَ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ.

وَهِيَ خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ هِيَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

3- الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ مِنَ النَّحْرِ وَالْإِفَاضَةِ وَالرَّمْيِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، يَعْنِي بِمِنًى ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ تَكُونُ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لَا يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِالْمَنَاسِكِ، يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ الِاسْتِعْجَالِ لِمَنْ أَرَادَ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الْأَخِيرَةُ عِنْدَهُمْ.

4- الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بِمِنًى ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ النَّفْرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيُوَدِّعُهُمْ.

و- خُطْبَةُ النِّكَاحِ:

20- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ خُطْبَةً وَاحِدَةً، بَيْنَ يَدَيِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَطَبَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ، وَالْأُخْرَى قَبْلَ الْعَقْدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (سقوط)

سُقُوطٌ

التَّعْرِيفُ:

1- السُّقُوطُ مَصْدَرُ سَقَطَ، يُقَالُ: سَقَطَ الشَّيْءُ؛ أَيْ وَقَعَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَأَسْقَطَهُ إِسْقَاطًا فَسَقَطَ، فَالسُّقُوطُ أَثَرُ الْإِسْقَاطِ، وَالسَّقَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ- رَدِيءُ الْمَتَاعِ، وَالْخَطَأُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

يُقَالُ: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ؛ أَيْ: لِكُلِّ نَادَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ مَنْ يَحْمِلُهَا وَيُذِيعُهَا، وَيُضْرَبُ مَثَلًا لِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ: مَعْنَاهُ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.

وَالسِّقْطُ (بِتَثْلِيثِ السِّينِ): الْجَنِينُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى السُّقُوطِ الِاصْطِلَاحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

مَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ وَلَا تُرَابًا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِلَا طَهُورٍ.وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِعَادَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَدَاءً وَقَضَاءً.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (تَيَمُّم ف 41، وَصَلَاة).

سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ عَنْ بُرْءٍ، وَفِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُهَا لَا عَنْ بُرْءٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَة ف 7).

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْأَةِ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَلَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (صَلَاة، وَحَيْض، وَنِفَاس).

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَقْضِي الصَّلَاةَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى جُنُونِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَيَقْضِي مَا كَانَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ أَقَلَّ.

وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ أَثْنَاءَ إغْمَائِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ.

وَكَذَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ بِلَا تَعَدٍّ، عَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة).

إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ بِالْإِطْعَامِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ بِالْإِطْعَامِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ عَنْهَا، فَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ لِكُلِّ صَلَاةِ مَفْرُوضَةٍ، وَكَذَا الْوِتْرُ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ» وَالصَّلَاةُ كَالصِّيَامِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ لِكَوْنِهَا أَهَمَّ.

وَالصَّحِيحُ: اعْتِبَارُ كُلِّ صَلَاةٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَتُهُ، وَهِيَ أَفْضَلُ لِتَنَوُّعِ حَاجَاتِ الْفَقِيرِ.

وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ جَازَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ فِي الصَّوْمِ يَجْزِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ.وَفِي إِيصَائِهِ بِهِ جَزَمَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْإِجْزَاءِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (صَلَاة وَصَوْم).

سُقُوطُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ:

7- مِمَّا تَسْقُطُ بِهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ الْحَبْسُ وَالْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ، وَإِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ، وَالْمَطَرُ وَالْوَحْلُ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ ظُهْرًا وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ فِي اللَّيْلِ، وَمُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ، وَأَكْلُ نَتِنٍ نِيءٍ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ.

وَتَفْصِيلُ هَذَا فِي (صَلَاة الْجَمَاعَةِ، وَصَلَاة الْجُمُعَةِ).

سُقُوطُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَالْحَاضِرَةِ يَسْقُطُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيُقَدِّمُ عِنْدَئِذٍ الْحَاضِرَةَ ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْتِيب)

سُقُوطُ الصِّيَامِ:

9- يَسْقُطُ الصِّيَامُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام).

وَأَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ، إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، (وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَوَجَبَ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إِذَا تَرَكَ الصِّيَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا».

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: يُصَامُ عَنْهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ وَذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَوْم).

سُقُوطُ الزَّكَاةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: تُؤْخَذُ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ.

وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ، وَبِالرِّدَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَة ف 26).

سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ:

11- يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَلَوْ بِظَنِّ الْفِعْلِ.

ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط وَفَرْض).

سُقُوطُ التَّحْرِيمِ لِلضَّرُورَةِ:

12- يَسْقُطُ التَّحْرِيمُ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.

ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط) وَتُنْظَرُ أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ (اضْطِرَار، خَمْر، عَوْرَة).

حُقُوقُ الْعِبَادِ:

13- الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، سَقَطَ هَذَا الْحَقُّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط).

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلسُّقُوطِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سُقُوطُ الْمَهْرِ:

14- أ- يَسْقُطُ الْمَهْرُ كُلُّهُ عَنِ الزَّوْجِ بِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:

(1) الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ بِسَبَبِهَا.

(2) الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْإِسْقَاطِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ.

(3) الْخُلْعُ عَلَى الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.

(4) هِبَةُ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ عَيْنًا.

15- ب- مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.

يَسْقُطُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ.

وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (مَهْر، خُلْع، هِبَة، مُتْعَة، طَلَاق).

سُقُوطُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:

16- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالنُّشُوزِ (الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ) وَبِالْإِبْرَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز، نَفَقَة).

سُقُوطُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ:

17- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.

عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).

سُقُوطُ الْحَضَانَةِ:

18- إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَضَانَةِ، أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ سَقَطَتْ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاضِنُ لِلنُّقْلَةِ وَالِانْقِطَاعِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة) ف 18 (ج 17 310).

سُقُوطُ الْخَرَاجِ:

19- يَسْقُطُ الْخَرَاجُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ وَتَعْطِيلِهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَبِهَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَبِإِسْقَاطِ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خَرَاج ف 57 وَمَا بَعْدَهَا).

سُقُوطُ الْحُدُودِ:

20- تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِمَا يَلِي: أ- بِالشُّبُهَاتِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».

ب- بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ.

ج- بِمَوْتِ الشُّهُودِ.

د- بِالتَّكْذِيبِ، كَتَكْذِيبِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

ر: مُصْطَلَحَ (حُدُود ف 13، 14، 15، 16 وَزِنًى، وَقَذْف).

هـ- بِالتَّوْبَةِ: وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ (الْمُحَارِبِ) بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة ف 24).

وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» «وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَطَهِّرْنِي وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْحَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَاوَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ فَقَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، «وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَحَدِّ الْمُحَارِبِ.

وَهَلْ يَتَقَيَّدُ سُقُوطُ التَّوْبَةِ، وَبِكَوْنِهِ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ وَبِكَوْنِهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟.

يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 12) وَتَوْبَة (18 وَ 19).

سُقُوطُ الْجِزْيَةِ:

21- تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِتَدَاخُلِ الْجِزَى أَوْ بِطُرُوءِ الْإِعْسَارِ أَوِ التَّرَهُّبِ وَالِانْعِزَالِ عَنِ النَّاسِ، أَوْ بِالْجُنُونِ، أَوْ بِالْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ أَوْ بِاشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْمَوْتِ.

وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ خِلَافٌ يُرْجَعُ تَفْصِيلُهُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 69- 79).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة 1)

شَهَادَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ، وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلَانِيَةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْإِقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.يُقَالُ: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْلُ (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ: أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالْأَلِفِ، فَقَالَ: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً، مِثْلُ عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى.

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ».

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمُعَايَنَةِ: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.

قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: «وَقَوْلُهُ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ».

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.

قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: «الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا».

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}.

وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ: قوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أَيْ مُقِرِّينَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْسِ هِيَ الْإِقْرَارُ.

وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.

وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ (الْإِخْبَارُ وَالْإِقْرَارُ)، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ الْإِعْلَامُ وَالْبَيَانُ لِأَمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالْإِقْرَارُ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ: «أَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.وَأُبَيِّنُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبَلِّغٌ لِلْأَخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » وَسُمِّيَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّلَ) مِنَ الشَّهَادَةِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ.

جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ.- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ».

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْعَلَانِيَةِ: قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: «السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ».

وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.

فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الْإِخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).

وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ).

وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي اللِّعَانِ).

كَمَا اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الْإِخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.

فَعَرَّفَهَا الْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.

وَعَرَّفَهَا الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.

وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: الْإِخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ.

وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا شَاهَدَهُ وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لَا تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ».

وَتُسَمَّى «بَيِّنَةً» أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ فِيهِ.

وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.

أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:

الْإِقْرَارُ:

2- الْإِقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْإِخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.

الدَّعْوَى:

3- الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَلِ الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.

فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الْإِقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الْإِخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67).

الْبَيِّنَةُ:

4- الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً.وَعَرَّفَهَا الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ وَالدَّلِيلُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ.وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلَاثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولًا وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ.

وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.

5- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.

وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ.فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.

وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.

فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّلِ أَوِ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لَا تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّلِ فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».

وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ.وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ.

وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي أَفْضَلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:

6- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْكِتَابُ.فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.

وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ».

وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى Cالْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.

«قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لِإِثْبَاتِ الدَّعَاوَى».

أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.

أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:

7- أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ: الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ.

وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ (أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ.

سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

8- سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.

حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:

9- الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَلَا تُوجِبُهُ.وَلَكِنْ تُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا.لِأَنَّهَا إِذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.

(شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:

10- لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:

شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.

وَشُرُوطُ أَدَاءً.

فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّلِ: فَمِنْهَا:

11- أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْلُ.

12- أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنَ الْأَعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ Cالتَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلَانٍ.

13- أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ».

وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ.أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ.

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلَا مُعَوَّلَ إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ.وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ.

14- وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّلِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.

15- وَأَمَّا شُرُوطُ الْأَدَاءِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ.

وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ.

وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.

وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى النِّصَابِ (أَيْ عَدَدِ الشُّهُودِ).

أَوَّلًا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ:

أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِتَوَفُّرِ شُرُوطِهَا فِيهِ.وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ:

(1) - الْبُلُوغُ:

16- فَلَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}.

وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنَ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ، فَلأَنْ لَا يُؤْمَنَ عَلَى حِفْظِ حُقُوقِ غَيْرِهِ أَوْلَى.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي إِنَاثِهِمْ.

(2) - الْعَقْلُ:

17- فَلَا تَصِحُّ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَاقِلِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُهُ وَلَا يَصِفُهُ.

وَسَوَاءٌ أَذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ وَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ: «وَلِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُتَحَرَّزُ مِنْهُ»

(3) - الْحُرِّيَّةُ:

18- فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، إِذْ فِي، الشَّهَادَاتِ نُفُوذُ قَوْلٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَوْعُ وِلَايَةٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فِيهِ رِقٌّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

(وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: رِقٌّ ج 23 ص 81).

(4) - الْبَصَرُ:

19- فَلَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهَا الْبَصَرُ، وَكَذَا فِي الْأَقْوَالِ إِلاَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَلَيْسَ الرُّؤْيَةَ، وَإِلاَّ فِي التَّرْجَمَةِ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ مَا سَمِعَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ فِيمَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ إِذَا كَانَ فَطِنًا، وَلَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ، وَتَيَقَّنَ الْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ لِأَنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْبَصِيرِ؛ وَلِأَنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الْأَعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، فِيمَا تَيَقَّنَهُ كَالْبَصِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

وَذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إِلَى السَّمَاعِ، وَلَا خَلَلَ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ فَإِنْ تَحَمَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْدَمَا عَمِيَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ لِكَثْرَةِ إِلْفِهِ لَهُ صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ Cشَهَادَتِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِتَصِيرَ حُجَّةً.

(5) - الْإِسْلَامُ:

20- الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَمْ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَيْسَ مِنَّا وَلِأَنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُ الْكَذِبُ عَلَى خَلْقِهِ.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ جَرَى مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ.

لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَجَازُوهَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَشَهَادَةَ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْثَالِهِمْ.

وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا.

(6) - النُّطْقُ:

21- فَلَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إِذَا عُرِفَتْ إِشَارَتُهُ وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ قَبُولَ شَهَادَةِ الْأَخْرَسِ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.

(7) - الْعَدَالَةُ:

22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ.

وَالْعَدَالَةُ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِالْمُحَافَظَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَهِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ.

وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِالصَّلَاحِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا Cاسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ بِفِعْلِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكِ مَا يُدَلِّسُهُ وَيَشِينُهُ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُرُوءَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ)

وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى الْقَاضِي لَا جَوَازِهِ.فَإِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِشَهَادَتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.

(8) - التَّيَقُّظُ: أَوِ الضَّبْطُ:

23- لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ لَا يَضْبِطُ أَصْلًا أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ، أَمَّا مَنْ لَا يَضْبِطُ نَادِرًا وَالْأَغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَلُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ.

(9) - أَلاَّ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ:

24- وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فَإِنْ تَابَ وَأَصْلَحَ:

فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لقوله تعالى بَعْدَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُبَاشَرَةً: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَلَوْ تَابَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ إِنْ تَابَ.

وَمَنَاطُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَذْكُورِينَ أَيَشْمَلُهُمْ كُلَّهُمْ أَمْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ؟

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الْأَخِيرِ وَهُوَ هُنَا التَّوْبَةُ مِنَ الْفِسْقِ فَقَطْ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِمَنْ جَلَدَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِقَوْلِهِ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ.

وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ.

(10) - الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:

يُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ

25- لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: «مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ».

(11) - عَدَمُ التُّهْمَةِ:

26- لِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ مِنْهَا:

أ- أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ ضُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، وَلَا الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا الْإِبْرَاءِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ.ب- الْبَعْضِيَّةُ: فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلَا فَرْعٍ لِأَصْلِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

ح- الْعَدَاوَةُ: فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هُنَا، الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَا الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالسُّنِّيُّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لَا تُهْمَةَ.

د- أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ تَابَ بِشُرُوطِ التَّوْبَةِ فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ لَمْ تُقْبَلْ.

هـ- الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ.

و- الْعَصَبِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِهَا وَبِالْإِفْرَاطِ فِي الْحَمِيَّةِ كَتَعَصُّبِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعَدَاوَةِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.

وَاسْتَدَلُّوا لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ التُّهْمَةِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا Cذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ».

ثَانِيًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:

27- (1) - اشْتِرَاطُ وُجُودِ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ الْمُدَّعِي أَوْ نَائِبِهِ.أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الدَّعْوَى عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

(2) - مُوَافَقَتُهَا لِلدَّعْوَى (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).

(3) - الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.

(4) - اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).

(5) - تَعَذُّرُ حُضُورِ الْأَصْلِ (وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) كَمَا سَيَأْتِي.

(6) - أَنْ تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِكَذَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عِلْمِ الشَّاهِدِ كَأَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ.

ثَالِثًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ:

(28) - (1) - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَجْهُولٍ فَلَا تُقْبَلُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.

(2) - كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَالًا أَوْ مَنْفَعَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا.

رَابِعًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ إِلَى نِصَابِ الشَّهَادَةِ:

29- يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ الْمَوْضُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ:

أ- مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لَا امْرَأَةَ بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ.

وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الْآيَةَ.

وقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ».

ب- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى أَنَّهُ فَقِيرٌ لِأَخْذِ زَكَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ، يَشْهَدُونَ لَهُ.

لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ «حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ».

ج- وَمِنْهَا مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، وَالْمَوْتِ وَالْإِعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا.

وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.

وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي النِّكَاحِ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».

وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ.

وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ.

د- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ هُوَ مَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ مَالًا أَمْ غَيْرَ مَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ.

وَدَلِيلُهُ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُولَ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ، وَالْأَجَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَجَازُوا فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي.

وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ».

وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ.

هـ- وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالِاسْتِهْلَالُ وَالرَّضَاعُ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مِنَ النِّسَاءِ.عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهَا.

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ قَابِلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، إِلاَّ وِلَادَةَ الْمُطَلَّقَةِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ».

وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَتَهَا.

الثَّالِثُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَالِ اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ

الرَّابِعُ: هُوَ مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ تُقْبَلُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْهُنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ.وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِرْنَ ثَلَاثًا.

الْخَامِسُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ أَجَازَ الشَّهَادَةَ انْتَهَى بِأَقَلِّهَا إِلَى شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، حَيْثُ أَجَازَهُمَا فَإِذَا أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا يَغِيبُ عَنِ الرِّجَالِ لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُجِيزُوهَا إِلاَّ عَلَى أَصْلِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّهَادَاتِ، فَيَجْعَلُونَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَإِذَا فَعَلُوا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَرْبَعٌ، وَهَكَذَا Cالْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ- عَزَّ ذِكْرُهُ- وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.

و- وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ بِمُفْرَدِهِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ».

وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ وَأَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا».

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْوَاحِدِ فِي الشِّجَاجِ، وَالْبَيْطَارِ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.

وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ بِتَكْلِيفٍ مِنَ الْإِمَامِ.

وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (ظل)

ظِلٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الظِّلُّ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الضِّحِّ (الشَّمْسُ أَوْ ضَوْءُهَا)، قَالَ الْفَيُّومِيُّ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ، مِثْلُهُ مَا فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الظِّلُّ ضَوْءُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا اسْتَتَرَتْ عَنْكَ بِحَاجِزٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: الظِّلُّ أَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ: أَنَا فِي ظِلِّ فُلَانٍ، وَظِلُّ اللَّيْلِ: سَوَادُهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْفَيْءُ:

2- الْفَيْءُ: هُوَ الرُّجُوعُ.وَيُطْلَقُ عَلَى الظِّلِّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ وَيُقَالُ لِلْفَيْءِ التَّبَعُ، لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ.

وَيُفَرِّقُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الظِّلِّ وَالْفَيْءِ: بِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ وَفَيْءٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ ظِلٌّ وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْفُرُوقِ: بِأَنَّ الظِّلَّ يَكُونُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا يَكُونُ الْفَيْءُ إِلاَّ بِالنَّهَارِ.

وَقِيلَ: الظِّلُّ بِالْغَدَاةِ، وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ.

وَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الظِّلَّ: يَشْمَلُ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْفَيْءُ: مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَهُ

ب- الزَّوَالُ:

3- الزَّوَالُ لُغَةً: التَّنْحِيَةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَيُعْرَفُ بَعْدَ تَوَقُّفِ الظِّلِّ مِنْ الِانْتِقَاصِ، وَإِذَا أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ وَعَلَى هَذَا فَالزَّوَالُ سَبَبٌ لِطُولِ الظِّلِّ وَالْفَيْءِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا- الظِّلُّ وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ.

فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ هُوَ بُلُوغُ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرُ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ أَيْضًا.

وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ، كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَدْخُلُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الظِّلِّ عِنْدَهُ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 8، 9).

ثَانِيًا- التَّبَوُّلُ وَالتَّخَلِّي فِي الظِّلِّ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّبَوُّلُ وَالتَّخَلِّي فِي ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ- رضي الله عنه- قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اتَّقُوا اللَّعَّانِينَ، قَالُوا وَمَا اللَّعَّانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ».

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ وَاسْتَظْهَرَ الدُّسُوقِيُّ التَّحْرِيمَ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِي الْمَوْرِدِ وَالطَّرِيقِ وَالظِّلِّ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حَرَامٌ.

وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي حُرْمَتُهُ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلِإِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

وَيُلْحَقُ بِالظِّلِّ فِي الصَّيْفِ مَحَلُّ الِاجْتِمَاعِ فِي الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ.

ثَالِثًا: اسْتِظْلَالُ الْمُحْرِمِ:

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ بِمَا لَا يُلَامِسُ الْوَجْهَ، كَبِنَاءٍ مِنْ حَائِطٍ وَسَقْفٍ وَقَبْوٍ وَخَيْمَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْمَحْمَلِ فَيَجُوزُ الِاسْتِظْلَالُ بِظِلِّهِ الْخَارِجِ، كَمَا يُسْتَظَلُّ بِالْحَائِطِ، نَازِلًا أَوْ سَائِرًا، سَوَاءٌ بِجَانِبِهِ أَوْ تَحْتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَجَوَازُ الِاسْتِظْلَالِ بِمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَظَلَّلُ بِهِ ثَابِتًا فِي أَصْلٍ تَابِعٍ لَهُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ»..

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُظِلُّ ثَابِتًا فِي أَصْلٍ يَتْبَعُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 63).

رَابِعًا: الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّلِّ:

7- يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّلِّ، لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُجْلَسَ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّلِّ وَقَالَ: مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ؟ قَالَ: هَذَا مَكْرُوهٌ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَا؟ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الظِّلِّ».

وَفِي رِوَايَةٍ «عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَقَامَ فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُوِّلَ إِلَى الظِّلِّ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (غيبة)

غِيبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْغِيبَةُ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ اغْتَابَهُ اغْتِيَابًا: إِذَا ذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهُوَ حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بَهْتٍ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبُهْتَانُ:

2- الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ بَهَتَهُ بَهْتًا مِنْ بَابِ نَفَعَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا لَيْسَ فِيهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ هُوَ: أَنَّ الْغِيبَةَ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَالْبُهْتَانَ وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ أَمْ فِي وُجُودِهِ.

ب- الْحَسَدُ:

3- الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ.

وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الِاصْطِلَاحِ: تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، سَوَاءٌ تَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَا، بِأَنْ تَمَنَّى انْتِقَالَهَا عَنْ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِيبَةِ: أَنَّ الْحَسَدَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْغِيبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، فَيُرِيدُ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ، فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْقَدْحِ فِيهِ.

ج- الْحِقْدُ:

4- الْحِقْدُ مَعْنَاهُ: الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ هِيَ أَنَّ الْحِقْدَ مِنَ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ.

د- الشَّتْمُ:

5- الشَّتْمُ فِي اللُّغَةِ: السَّبُّ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: وَصْفُ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ نَقْصًا وَازْدِرَاءً.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ هُوَ: أَنَّ الْغِيبَةَ ذِكْرُ الشَّخْصِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَالشَّتْمُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَفِي حَالِ حُضُورِهِ.

هـ- النَّمِيمَةُ:

6- النَّمِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: السَّعْيُ لِلْإِيقَاعِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْوَحْشَةِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِيقَاعَ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

7- الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} وَيَقُولُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ» وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْت إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْته.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» قَالَ الْقَرَافِيُّ: حُرِّمَتْ أَيِ الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إِفْسَادِ الْأَعْرَاضِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ إِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ.وَإِلاَّ فَصَغِيرَةٌ.

مَا تَكُونُ بِهِ الْغِيبَةُ:

8- الْغِيبَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَتَكُونُ بِغَيْرِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ إِنَّمَا حَرُمَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْهِيمَ الْغَيْرِ نُقْصَانَ أَخِيك وَتَعْرِيفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ، فَالتَّعْرِيضُ بِهِ كَالتَّصْرِيحِ، وَالْفِعْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ، وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ وَالْغَمْزُ وَالْهَمْزُ وَالْكِتَابَةُ وَالْحَرَكَةُ وَكُلُّ مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَة- رضي الله عنها-: «دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأْت بِيَدَيَّ: أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ- عليه السلام-: اغْتَبْتِيهَا».

الْأَسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْغِيبَةِ:

9- ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الْغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ، وَثَلَاثَةً تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَاصَّةِ.

أَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ فَهِيَ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَشْفِيَ الْغَيْظَ.

الثَّانِي: مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ وَمُجَامَلَةُ الرُّفَقَاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ يُقَبِّحُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ.أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ، فَيُبَادِرُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَبِّحَ هُوَ وَيَطْعَنَ فِيهِ لِيُسْقِطَ أَثَرَ شَهَادَتِهِ.

الرَّابِعُ: أَنْ يُنْسَبَ إِلَى شَيْءٍ، فَيُرِيدَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيَذْكُرَ الشَّخْصَ الَّذِي فَعَلَهُ.

الْخَامِسُ: إِرَادَةُ التَّصَنُّعِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ بِتَنْقِيصِ غَيْرِهِ.

السَّادِسُ: الْحَسَدُ.وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، فَيُرِيدُ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ.فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْقَدْحِ فِيهِ.

السَّابِعُ: اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ وَالْمُطَايَبَةُ وَتَزْجِيَةُ الْوَقْتِ بِالضَّحِكِ، فَيَذْكُرُ عُيُوبَ غَيْرِهِ بِمَا يُضْحِكُ النَّاسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاكَاةِ.

الثَّامِنُ: السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ اسْتِحْقَارًا لِلْغَيْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَيَجْرِي أَيْضًا فِي الْغِيبَةِ.

وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ فِي الْخَاصَّةِ،

فَهِيَ أَغَمْضُهَا وَأَدَقُّهَا.وَهِيَ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَنْبَعِثَ مِنَ الدِّينِ دَاعِيَةُ التَّعَجُّبِ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَالْخَطَأِ فِي الدِّينِ، فَيَقُولَ: مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِهِ صَادِقًا، وَيَكُونُ تَعَجُّبُهُ مِنَ الْمُنْكَرِ.وَلَكِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَجَّبَ وَلَا يَذْكُرَ اسْمَهُ، فَيُسَهِّلُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ ذِكْرَ اسْمِهِ فِي إِظْهَارِ تَعَجُّبِهِ، فَصَارَ بِهِ مُغْتَابًا وَآثِمًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.

الثَّانِي: الرَّحْمَةُ، وَهُوَ أَنْ يَغْتَمَّ بِسَبَبِ مَا يُبْتَلَى بِهِ غَيْرُهُ، فَيَقُولُ: مِسْكِينٌ فُلَانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُغْتَابًا، فَيَكُونُ غَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرًا وَكَذَا تَعَجُّبُهُ، وَلَكِنْ سَاقَهُ الشَّيْطَانُ إِلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ لِيُبْطِلَ بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ.

الثَّالِثُ: الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ قَدْ يَغْضَبُ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَهُ إِنْسَانٌ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ، فَيُظْهِرُ غَضَبَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُظْهِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلَا يَذْكُرَهُ بِالسُّوءِ.

فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعَوَّامِ.فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّعَجُّبَ وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ إِذَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الِاسْمِ وَهُوَ خَطَأٌ.بَلِ الْمُرَخَّصُ فِي الْغَيْبَةِ حَاجَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لَا تُرَخِّصُ الْغِيبَةَ فِي سِوَاهَا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ.فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللَّهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْت، أَمَّا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ، قُمْ يَا فُلَانُ- رَجُلًا مِنْهُمْ- فَأَخْبِرْهُ، قَالَ: فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْت بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلَانٌ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلَامَ، فَلَمَّا جَاوَزْتهمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللَّهِ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلَى مَا يُبْغِضُنِي؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ قُلْت لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَلِمَ تَبْغُضُهُ؟ قَالَ: أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يُصَلِّي صَلَاةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ الرَّجُلُ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ أَسَأْت الْوُضُوءَ لَهَا، أَوْ أَسَأْت الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.قَالَ: فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْت فِيهِ أَوِ انْتَقَصْت مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْته يُعْطِي سَائِلًا قَطُّ، وَلَا رَأَيْته يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ: فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كَتَمْت مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ، أَوْ مَاكَسْت فِيهَا طَالِبَهَا؟ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قُمْ، إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْك».

أُمُورٌ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ:

10- الْأَصْلُ فِي الْغِيبَةِ التَّحْرِيمُ لِلْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أُمُورًا سِتَّةً تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُجَوِّزَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا وَتِلْكَ الْأُمُورُ هِيَ:

الْأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ.يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ، فَيَذْكُرُ أَنَّ فُلَانًا ظَلَمَنِي وَفَعَلَ بِي كَذَا وَأَخَذَ لِي كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.

الثَّانِي: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ.وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا.

الثَّالِثُ: الِاسْتِفْتَاءُ: وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبِي أَوْ أَخِي أَوْ فُلَانٌ بِكَذَا.فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ وَتَحْصِيلِ حَقِّي وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنِّي؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ يَقُولَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، أَوْ فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ تَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْغَرَضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ، لِحَدِيثِ هِنْدٍ- رضي الله عنها- وَقَوْلِهَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ..» الْحَدِيثُ.وَلَمْ يَنْهَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ.

أَوَّلًا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ وَاجِبٌ صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ.

ثَانِيًا.الْإِخْبَارُ بِغِيبَةٍ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مُصَاهَرَةٍ وَنَحْوِهَا.

ثَالِثًا: إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، تَذْكُرُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ نَصِيحَةً لَهُ، لَا لِقَصْدِ الْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ.

رَابِعًا: إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمًا.وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَرَهُ، فَعَلَيْك نَصِيحَتُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ.

خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ لَا يَقُومُ لَهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِيَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ أَوْ يَعْرِفَ.فَلَا يَغْتَرَّ بِهِ وَيُلْزِمُهُ الِاسْتِقَامَةَ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ.فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ.

السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ..فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَالْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ وَنَحْوِهَا جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى.

كَيْفِيَّةُ مَنْعِ الْغِيبَةِ:

11- ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُعَالَجُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ بِمُضَادَّةٍ سَبَبِهَا.ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عِلَاجَ كَفِّ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّفْصِيلِ.

أَمَّا عِلَاجُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ: فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ تَعَرُّضَهُ لِسُخْطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِغَيْبَتِهِ، وَذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحْبِطَةٌ لِحَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهَا تَنْقُلُ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنِ اغْتَابَهُ بَدَلًا عَمَّا اسْتَبَاحَهُ مِنْ عِرْضِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ نُقِلَ إِلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُشَبَّهٌ عِنْدَهُ بِآكِلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ أَنْ تُنْقِصَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالْحِسَابِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا النَّارُ فِي الْيَبِسِ بِأَسْرَعَ مِنَ الْغِيبَةِ فِي حَسَنَاتِ الْعَبْدِ» وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّك تَغْتَابُنِي؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ مِنْ قَدْرِك عِنْدِي أَنِّي أُحَكِّمُك فِي حَسَنَاتِي، فَمَهْمَا آمَنَ الْعَبْدُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْغِيبَةِ لَمْ يُطْلِقْ لِسَانَهُ بِهَا خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ.وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا أَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا عَيْبًا اشْتَغَلَ بِعَيْبِ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ» وَمَهْمَا وَجَدَ الْعَبْدُ عَيْبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ ذَمَّ نَفْسِهِ وَيَذُمَّ غَيْرَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي التَّنَزُّهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ كَعَجْزِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ.وَإِنْ كَانَ أَمْرًا خُلُقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ، فَإِنَّ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً فَقَدْ ذَمَّ صَانِعَهَا، قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ: يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ، قَالَ: مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إِلَيَّ فَأُحَسِّنَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَبْدُ عَيْبًا فِي نَفْسِهِ فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يُلَوِّثَنَّ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ ثَلْبَ النَّاسِ وَأَكْلَ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفَ لَعَلِمَ أَنَّ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَهْلٌ بِنَفْسِهِ.وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ.

وَيَنْفَعُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَأَلُّمَ غَيْرِهِ بِغِيبَتِهِ كَتَأَلُّمِهِ بِغِيبَةِ غَيْرِهِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُغْتَابَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ.

وَأَمَّا عِلَاجُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ: فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّبَبِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَقْطَعُهُ، فَإِنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا.

كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ.

12- ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُشْتَرَطُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ.وَإِنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا، وَأَنْ يَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ،

وَرَابِعٌ: وَهُوَ رَدُّ الظُّلَامَةِ إِلَى صَاحِبِهَا، أَوْ طَلَبُ عَفْوِهِ عَنْهَا وَالْإِبْرَاءُ مِنْهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ التَّوْبَةُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْغِيبَةَ حَقُّ آدَمِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِحْلَالِهِ مَنِ اغْتَابَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَوْنِهِ هَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اغْتَبْتُك فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، أَوْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا اغْتَابَ بِهِ؟

أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ مَالٍ مَجْهُولٍ.

وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَحُ بِالْعَفْوِ عَنْ غِيبَةٍ دُونَ غِيبَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا فَقَدْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ دُونَ الِاسْتِحْلَالِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَفَّارَةُ أَكْلِك لَحْمَ أَخِيك أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِخَيْرٍ، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ قَوْلَ عَطَاءٍ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ التَّوْبَةِ مِنَ الْغِيبَةِ، وَهُوَ: أَنْ تَمْشِيَ إِلَى صَاحِبِك، فَتَقُولَ لَهُ: كَذَبْت فِيمَا قُلْت وَظَلَمْتُك وَأَسَأْت، فَإِنْ شِئْت أَخَذْت بِحَقِّك، وَإِنْ شِئْت عَفَوْت.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الْعِرْضُ لَا عِوَضَ لَهُ، فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَالِ، فَكَلَامٌ ضَعِيفٌ، إِذْ قَدْ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ وَتَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَتْ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- لِامْرَأَةٍ قَالَتْ لأُِخْرَى إِنَّهَا طَوِيلَةُ الذَّيْلِ: قَدِ اغْتَبْتِيهَا فَاسْتَحِلِّيهَا.فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْلَالِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْغِيبَةِ أَنْ يُبْرِئَ الْمُغْتَابَ مِنْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَإِسْقَاطُ حَقٍّ، فَكَانَ إِلَى خِيرَتِهِ.وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَبَالِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَفُوزَ هُوَ بِعَظِيمِ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْحَثُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الْغِيبَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (قيافة)

قِيَافَة

التَّعْرِيفُ:

1- الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ بِمَعْنَى تَتَبَّعَ أَثَرَهُ لِيَعْرِفَهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُوفُ الْأَثَرَ وَيَقْتَافُهُ قِيَافَةً.

وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ الْآثَارَ وَيَعْرِفُهَا، وَيُعْرَفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْقِيَافَةِ وَمُشْتَقَّاتِهَا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِتَتَبُّعِ الْأَثَرِ وَمَعْرِفَةِ الشَّبَهِ.

فَفِي التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ النَّسَبَ بِفِرَاسَتِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَوْلُودِ وَيُعَرِّفُهُ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَجَرٍ وَالصَّنْعَانِيُّ بِمَا لَا يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعِيَافَةُ:

2- تَأْتِي هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الضَّبِّ الْمَشْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْهُ: «لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ».

كَمَا يُرَادُ بِهَا التَّرَدُّدُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَالْحَوْمُ عَلَيْهِ، فَعَافَتِ الطَّيْرُ أَيْ: تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ، وَعَافَتْ عَلَى الْجِيَفِ أَيْ: تَطِيرُ حَوْلَهَا تُرِيدُ الْوُقُوعَ عَلَيْهَا.

وَتُطْلَقُ عَلَى زَجْرِ الطُّيُورِ وَالسَّوَانِحِ، وَالِاعْتِبَارُ بِأَسْمَائِهَا وَمَسَاقِطِهَا وَمَمَرِّهَا وَأَصْوَاتِهَا.

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى طَائِرًا أَوْ غُرَابًا فَيَتَطَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَقَالَ بِالْحَدْسِ كَانَ عِيَافَةً أَيْضًا وَهَذَا هُوَ الَّذِي شُهِرَ بِهِ بَنُو لَهَبٍ وَبَنُو أَسَدٍ.

وَكَانَ الْعَائِفُ هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي يَعْمِدُ إِلَى التَّضْلِيلِ، وَيَدَّعِي الِاتِّصَالَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُنَاكَ شَوَاهِدُ عَدِيدَةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْعِيَافَةِ بِالْكَهَانَةِ، وَهِيَ بِهَذَا تَخْتَلِفُ عَنِ الْقِيَافَةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَهَانَةِ، وَتَقُومُ عَلَى النَّظَرِ الْمَنْطِقِيِّ التَّجْرِيبِيِّ حَسْبَمَا يَتَّضِحُ مِنْ شُرُوطِ الْعَمَلِ بِهَا

ب- الْفِرَاسَةُ:

3- الْفِرَاسَةُ: اسْمٌ فِعْلُهُ تَفَرَّسَ كَتَوَسَّمَ وَزْنًا وَمَعْنًى، أَمَّا الْفِرَاسَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ فَمَصْدَرُ الْفِعْلِ فَرَسَ يَفْرُسُ، وَمَعْنَاهَا: الْعِلْمُ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ وَرَكْضِهَا مِنَ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالْفَارِسُ: الْحَاذِقُ بِمَا يُمَارِسُ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ فَارِسًا.

وَتُطْلَقُ الْفِرَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أَوَّلِهِمَا: نَوْعٌ يُتَعَلَّمُ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ النَّاسِ وَيُسْتَفَادُ إِطْلَاقُ الْفِرَاسَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَلَامَاتِ عِنْدَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَفْسِيرِهِ لِلتَّوَسُّمِ بِأَنَّهُ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا، وَهِيَ الْفِرَاسَةُ..وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَلَامَةِ، وَمِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَوَّلِ نَظَرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ لَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ.

وَالثَّانِي: مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَحْوَالَ بَعْضِ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الظَّنِّ وَالْحَدْسِ وَلَا يُكْتَسَبُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ..وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي، وَكُدُورَةِ الْأَخْلَاقِ وَفُضُولِ الدُّنْيَا.

وَتَتَمَيَّزُ الْقِيَافَةُ عَنِ الْفِرَاسَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ يَقُومُ بِجَمْعِ الْأَدِلَّةِ وَيَكْشِفُ عَنْهَا، مَعَ النَّظَرِ فِيهَا وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَهَا بِنَوْعِ خِبْرَةٍ لَا تُتَاحُ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّمَرُّسِ وَمُدَاوَمَةِ النَّظَرِ وَالدِّرَاسَةِ، أَمَّا التَّفَرُّسُ فَيُخْتَصُّ بِإِعْمَالِ الذَّكَاءِ الشَّخْصِيِّ وَالْقُدْرَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِوَزْنِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَتَقْدِيرِهَا.

وَيُلْحِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْفِرَاسَةَ بِالْإِلْهَامِ وَالْكَرَامَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ عِنْدَهُمْ لِهَذَا.

ج- الْقَرِينَةُ:

4- الْقَرِينَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَرِينٌ لِفُلَانٍ أَيْ مُصَاحِبٌ لَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَافَةِ وَبَيْنَ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْقِيَافَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَرَائِنِ.

نَوْعَا الْقِيَافَةِ:

5- يَقْسِمُ صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ الْقِيَافَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلِهِمَا: قِيَافَةُ الْأَثَرِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعِيَافَةُ كَذَلِكَ، وَيُعْرَفُ هَذَا النَّوْعُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ تَتَبُّعِ آثَارِ الْأَقْدَامِ وَالْأَخْفَافِ وَالْحَوَافِرِ فِي الطُّرُقِ الْقَابِلَةِ لِلْأَثَرِ.

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ قِيَافَةُ الْبَشَرِ الَّذِي يُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَيْئَاتِ أَعْضَاءِ الشَّخْصَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالِاتِّحَادِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَافَةِ:

أ- إِثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ إِلَى رَأْيَيْنِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ، وَأَجَازُوا الِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْأَقْوَى مِنْهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ؛ لِأَنَّهُ «كَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ مِثْلَ الْقَارِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ مِثْلَ الْقُطْنِ».

وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ سُرُورَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِ الْقَائِفِ إِقْرَارٌ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيَّةَ- رضي الله عنها-، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا».

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ: أَنَّ إِخْبَارَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ (أَيِ الشَّبَهَ) مَنَاطٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلاَّ لَمَا كَانَ لِلْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا.

وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- كَانَ يَلِيطُ- أَيْ: يُلْحِقُ- أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي حُضُورِ الصَّحَابَةِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَدْعُو الْقَافَةَ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ.

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ إِلَى اتِّصَالِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي ثُبُوتِهَا بِأَدْنَى الْأَسْبَابِ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَظَاهِرِ الْفِرَاشِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ الْخَالِي عَنْ سَبَبٍ مُقَاوِمٍ لَهُ كَافِيًا فِي ثُبُوتِهِ

7- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِيَافَةَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبُ الْوَلَدِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَمَةِ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالْقَرَافِيُّ وَالْمَوَّاقُ أَنَّ الْقَافَةَ إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لَا فِي النِّكَاحِ يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ.

كَمَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً وَطْئًا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ وَكَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّهَا إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الزَّوَاجِ وَقَبْلَ انْتِهَاءِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، كَانَ الْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يُلْحِقُهُ بِأَيٍّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ أَوْ أَكْثَرُ بُنُوَّةَ أَحَدٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ أَيٍّ مِنْهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَلَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا صَبِيًّا وَاحِدًا..يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا ابْنِي..الْوَاجِبُ فِي هَذَا عِنْدِي عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ تُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ أَيْضًا وَمِنْ جِنْسِهِ مَا أَوْرَدَهُ الْمَوَّاقُ عَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ هِيَ وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ الضَّيْفِ فِي لَيْلَةٍ صَبِيَّيْنِ فَلَمْ تَعْرِفْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَهَا، دَعِي لَهُمَا الْقَافَةُ وَكَذَا لَوْ وُضِعَ وَلِيدُهَا فِي مَكَانٍ فَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي تَرْكِهَا لَهُ، كَأَنْ قَصَدَتْ نَبْذَهُ وَالْخَلَاصَ مِنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يُدْعَى لَهَا الْقَافَةُ.

وَيُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ إِذَا تَنَازَعَ بُنُوَّتَهُ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، لَا لِأَنَّ الْقِيَافَةَ كَالْكَهَانَةِ فِي الذَّمِّ وَالْحُرْمَةِ، أَوْ أَنَّ الشَّبَهَ لَا يَثْبُتُ بِهَا، وَإِنَّمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَصَرَ دَلِيلَ النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ، وَغَايَةُ الْقِيَافَةِ إِثْبَاتُ الْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لَا إِثْبَاتُ الْفِرَاشِ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لأَمَرَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

؛ وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الْأَدْنَى، وَقَدْ يُشْبِهُ الْأَبَ الْأَعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَجَانِبِ فِي الْحَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ «أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَأَنَّى هُوَ؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ» فَبَيَّنَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ».أَيِ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ..وَالْمُرَادُ مِنَ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَرْأَةُ.

وَفِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أَنَّهَا نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:

أَحَدِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْقِسْمَةِ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجَرَ لِلزَّانِي، فَاقْتَضَى أَلاَّ يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ، كَمَا لَا يَكُونُ الْحَجَرُ لِمَنْ لَا زِنَا مِنْهُ، إِذِ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَنَفَاهُ عَنِ الزَّانِي بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ.

وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ.

وَمُفَادُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَلَا يَرْجِعُ عَمَلُ الْقَائِفِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّخَلُّقِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا مِنْ هَذَا التَّخَلُّقِ وَلَا فِرَاشَ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ.

شُرُوطُ الْقَائِفِ:

8- يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يَلِي:

أ- الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ إِلاَّ بِتَجْرِبَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسَبِ عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْمَرَّاتِ جَمِيعًا اعْتُمِدَ قَوْلُهُ..وَالْأَبُ مَعَ الرِّجَالِ كَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ فِي رِجَالٍ كَذَلِكَ.

وَإِذَا حَصَلَتِ التَّجْرِبَةُ وَتَوَلَّدَتِ الثِّقَةُ بِخِبْرَتِهِ فَلَا حَاجَةَ لِتَكْرَارِ هَذَا الِاخْتِبَارِ عِنْدَ كُلِّ إِلْحَاقٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيهِ وَيَرَى إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا خَطَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرَيْنَاهُ إِيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيهِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ، وَلَوِ اعْتُبِرَ بِأَنْ يُرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ عُلِمَتْ إِصَابَتُهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ جَازَ وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إِصَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجَرَّبْ فِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْإِصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَازَ.

ب- الْعَدَالَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الْقَائِفِ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِهِ، فَرِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي (الْقَائِفِ) الْوَاحِدِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الِاجْتِزَاءَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ.

ج- التَّعَدُّدُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَدُّدُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَيُكْتَفَى بِقَوْلِ قَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي وَالْمُخْبِرِ، لَكِنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ رَأْيٌ آخَرُ يَقْضِي بِاشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، جَاءَ فِي «التَّبْصِرَةِ» حِكَايَةُ الْخِلَافِ عَنْ مَالِكٍ فِي الِاجْتِزَاءِ بِقَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْأَخْبَارِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ قَائِفَيْنِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ قَوْلُ اثْنَيْنِ..فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ..وَقَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ، وَيُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ قَوْلُ وَاحِدٍ، وَحَمَلَ كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى مَا إِذَا تَعَارَضَ قَوْلُ الْقَائِفَيْنِ وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ قَائِفٍ وَاحِدٍ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَهُوَ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ مَا يَقُولُهُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ.

وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَرَافِيُّ إِلْحَاقَ قَوْلِ الْقَائِفِ بِالشَّهَادَةِ لِلْقَضَاءِ بِهِ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ أَوِ التُّهْمَةِ لِذَلِكَ، وَلَا يَقْدَحُ انْتِصَابُهُ لِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ الشَّاهِدِ أَمَّا السُّيُوطِيُّ فَيُرَجِّحُ إِلْحَاقَ قَوْلِ الْقَائِفِ بِالرِّوَايَةِ، يَقُولُ: وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ تَغْلِيبًا لِشَبَهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ.

د- الْإِسْلَامُ: نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَهِيَ الْقَاضِيَةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلَا يُسَلِّمُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِوُجُوبِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي مَذْهَبِهِمْ.

هـ- الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ: الْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.

و- الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ، وَانْتِفَاءُ مَظِنَّةِ التُّهْمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَدُوًّا لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَهُ، وَلَا أَصْلاً أَوْ فَرْعًا لِمَنْ يُثْبِتُ نَسَبَهُ، نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَيَتَخَرَّجُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ أَلْحَقُوا الْقَائِفَ بِالشَّاهِدِ أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي فَيُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ.

شُرُوطُ الْقِيَافَةِ:

9- يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَافَةِ لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا مَا يَلِي:

أ- عَدَمُ قِيَامِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِالشَّبَهِ، فَلَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَإِلْغَاءُ الشَّبَهِ بِاللِّعَانِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا.

وَلَا يُعْتَبَرُ الشَّبَهُ كَذَلِكَ إِذَا تَعَارَضَ مَعَ الْفِرَاشِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي ابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ..وَاحْتَجِبِي عَنْهُ يَا سَوْدَةُ» فَقَدْ أَلْغَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الشَّبَهَ وَأَلْحَقَ النَّسَبَ بِزَمْعَةَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.

ب- وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا وَعَدَمُ وُجُودِ دَلِيلٍ يَقْطَعُ هَذَا التَّنَازُعَ، كَمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَوِ امْرَأَتَانِ، وَكَمَا إِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ.أَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، وَلَا يَقُومُ التَّنَازُعُ حَقِيقَةً فِيمَا بَيْنَهُمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْوَلَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَلَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ الْآخَرُ: بِنْتِي، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ.

ج- إِمْضَاءُ الْقَاضِي قَوْلَ الْقَائِفِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَلَا يَلْزَمُ قَوْلُهُ عَلَى هَذَا إِلاَّ بِإِمْضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ: وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْقَائِفِ حَتَّى يَأْمُرَ الْقَاضِي، وَإِذَا أَلْحَقَهُ اشْتَرَطَ تَنْفِيذَ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ قَائِفٌ وَرَأَى الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقَائِفَ إِنْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الْإِلْحَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي اسْتَخْلَفَهُ وَجَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَهُمَا جَازَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ بِمَا رَآهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ وَإِلْحَاقِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ.

د- حَيَاةُ مَنْ يُرَادُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقِيَافَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: أَنَّهَا إِنْ وَضَعَتْهُ تَمَامًا مَيِّتًا لَا قَافَةَ فِي الْأَمْوَاتِ، وَنَقَلَ الصَّقَلِّيُّ عَنْ سَحْنُونٍ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا دُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَيُحْتَمَلُ رَدُّهُمَا إِلَى وِفَاقٍ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ (أَيْ لِابْنِ الْقَاسِمِ) فِيمَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَقَوْلَ سَحْنُونَ فِيمَا وُلِدَ حَيًّا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ حَيَاةَ الْمَقُوفِ، فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا جَازَ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقَافَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوْ يُدْفَنْ.

هـ- حَيَاةُ مَنْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ: اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيَاةَ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَعَنْ سَحْنُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا تُلْحِقُ الْقَافَةُ الْوَلَدَ إِلاَّ بِأَبٍ حَيٍّ، فَإِنْ مَاتَ فَلَا قَوْلَ لِلْقَافَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ قَرَابَتِهِ إِذْ لَا تَعْتَمِدُ عَلَى شَبَهِ غَيْرِ الْأَبِ وَيَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَرْضُ الْأَبِ عَلَى الْقَافَةِ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، جَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: وَلَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إِلاَّ عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ.قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، قِيلَ: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ.

وَلَا يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

اخْتِلَافُ الْقَافَةِ:

10- إِذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْقَافَةِ جُمِعَ بَيْنَهَا إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ أَحَدُ الْقَائِفِينَ نَسَبَ اللَّقِيطِ بِرَجُلٍ، وَأَلْحَقَهُ الْآخَرُ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ.

وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ قَائِفَيْنِ اثْنَيْنِ خَالَفَهُمَا قَائِفٌ ثَالِثٌ، كَبَيْطَارَيْنِ خَالَفَهُمَا بَيْطَارٌ فِي عَيْبٍ وَكَطَبِيبَيْنِ خَالَفَهُمَا طَبِيبٌ فِي عَيْبٍ، قَالَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ فَقَوْلُهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ لَا يَتَرَجَّحُ قَوْلُ ثَلَاثَةِ قَافَةٍ عَلَى قَوْلِ قَائِفَيْنِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلَا التَّرْجِيحُ، كَأَنْ يُلْحِقَ الْقَائِفُ الْمَقُوفَ بِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَيُلْحِقَهُ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَفِيهِ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِلاَّ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَخَّرُ الْوَلَدُ إِذْ قَضَى الْقَافَةُ بِاشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِيهِ إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي الِالْتِحَاقِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى مَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَيْلٍ فِطْرِيٍّ بَيْنَ الْوَلَدِ وَأَصْلِهِ قَدْ يُعِينُهُ عَلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالِاشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَالَ لَهُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلَا يُلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ عَدِمَ الْقَائِفُ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِأَنْ تَحَيَّرَ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، وُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً وَيَخْتَارَ الِانْتِسَابَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْمَيْلِ الَّذِي يَجِدُهُ، وَيُحْبَسُ لِيَخْتَارَ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ الِانْتِسَابِ، إِلاَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَيْلاً إِلَى أَحَدِهِمَا فَيُوقَفُ الْأَمْرُ.

وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ قَائِفٍ إِلاَّ قَبْلَ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَذَا لَا يُصَدَّقُ لِغَيْرِ الْآخَرِ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ إِمْكَانِ تَعَلُّمِهِ مَعَ امْتِحَانٍ لَهُ بِذَلِكَ.

وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولاً نَسَبَهُ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَنْكَرَتْهُ زَوْجَتُهُ لَحِقَهُ عَمَلاً بِإِقْرَارِهِ دُونَهَا، لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَإِنِ ادَّعَتْهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، امْرَأَةٌ أُخْرَى وَأَنْكَرَهُ زَوْجُهَا، وَأَقَامَ زَوْجُ الْمُنْكِرَةِ بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَيَسْقُطَانِ، وَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهَا لَحِقَهَا، وَكَذَا زَوْجُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، أَوْ بِالرَّجُلِ لَحِقَهُ وَزَوْجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدًا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ قَائِفٍ بِقَوْلِ قَائِفٍ آخَرَ، وَلَوْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِالْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وَآخَرُ بِالْأَشْبَاهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخُلُقِ وَتَشَاكُلِ الْأَعْضَاءِ، فَالثَّانِي أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ حِذْقٍ وَبَصِيرَةٍ، وَلَوْ أَلْحَقَ الْقَائِفُ التَّوْأَمَيْنِ بِاثْنَيْنِ، بِأَنْ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالْآخَرَ بِالْآخَرِ بَطَلَ قَوْلُهُ حَتَّى يُمْتَحَنَ وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِاثْنَيْنِ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ قَائِفَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِلْحَاقِ حَتَّى يُمْتَحَنَا وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُمَا.

وَيَلْغُو انْتِسَابُ بَالِغٍ أَوْ تَوْأَمَيْنِ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِنْ رَجَعَ، أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ قُبِلَ، وَيُؤْمَرُ الْبَالِغُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَمَتَى أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَوْ أَنْكَرَاهُ؛ لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ أَوْ يَنْتَسِبَ، وَيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عَلَى مَنْ لَحِقَهُ إِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ، وَيَقْبَلَانِ لَهُ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، وَنَفَقَةُ الْحَامِلِ عَلَى الْمُطَلِّقِ فَيُعْطِيهَا لَهَا وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ إِنْ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْآخَرِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَيِّتًا، لَا إِنْ تَغَيَّرَ أَوْ دُفِنَ، وَإِنْ مَاتَ مُدَّعِيهِ عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ مَعَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ.

وَرَجَّحَ الْحَنَابِلَةُ إِطْلَاقَ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِاثْنَيْنِ لَحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ الْتُحِقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُلْحِقَ بِالِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا كِلَاهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَدَعَا عُمَرُ لَهُمَا بِالْقَافَةِ فَنَظَرُوا وَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ.

وَإِنِ ادَّعَتِ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْلِ إِحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَفِيهِ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ.

الْإِثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الْأَثَرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

11- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ جَوَازَ اعْتِمَادِ الْقَاضِي عَلَى الْقِيَافَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَمْوَالِ، يَقُولُ: وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْقِيَافَةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا، كَمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ فِي الْجِذْعِ الْمَقْلُوعِ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الدَّارِ، وَكَمَا حَكَمْنَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ، فَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَادَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّانِعَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا حَكَمْنَا بِالْوَصْفِ فِي اللُّقَطَةِ إِذَا تَدَاعَاهَا اثْنَانِ، وَهَذَا نَوْعُ قِيَافَةٍ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا غِرَاسًا أَوْ تَمْرًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَشَهِدَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ حَيْثُ يَسْتَوِي الْمُتَدَاعِيَانِ، كَمَا رُجِعَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالنَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ لِبَاسًا مِنْ لِبَاسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً تَذْهَبُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى إِصْطَبْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا زَوْجَ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعَ بَابٍ مَعَ الْآخَرِ شَكْلُهُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ لِأَحَدِهِمَا كَالزُّرْبُولِ الَّتِي لِلْجُنْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ.

وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَيَا بَهِيمَةً أَوْ فَصِيلاً فَشَهِدَ الْقَائِفُ أَنَّ دَابَّةَ هَذَا أَنْتَجَتْهَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ وَقَدْ «حَكَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْأَثَرِ فِي السَّيْفِ فِي قَضِيَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ».

فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهُمَا: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ».

الْإِثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الْأَثَرِ فِي الْجِنَايَاتِ:

12- يُرْجَعُ إِلَى قَائِفِ الْأَثَرِ لِلْقَبْضِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ وَإِحْضَارِهِمْ مَجْلِسَ الْقَاضِي، كَمَا حَدَثَ فِي قَضِيَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ».

وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ فِي جَمْعِ الْأَدِلَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ.

وَيُعَدُّ رَأْيُ الْقَائِفِ شَهَادَةً تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ وَالدَّعَاوَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، مِثَالُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَثْبُتَ ذَلِكَ، فَيَقْتَصُّ الْقَائِفُ أَثَرَ الْوَطْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَشَهَادَةُ الْقَائِفِ أَنَّ الْمَالَ دَخَلَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْحُكْمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعِي، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمَارَاتِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْأَثَرِ فِي السَّيْفِ كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَصْحَابِهِ- رضي الله عنهم- «لَمَّا دَخَلُوا الْحِصْنَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً، فَوَقَعُوا فِيهِ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى نَبَعَ ظَهْرُهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ نَظَرَ- عليه الصلاة والسلام- إِلَى سُيُوفِهِمْ فَقَالَ: هَذَا قَتَلَهُ» لِأَنَّهُ رَأَى عَلَى السَّيْفِ أَثَرَ الطِّعَانِ.

وَقَدِ اسْتَنَدَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْأَثَرِ حِينَ اخْتَصَمَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فِي قَطِيفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَمْرَاءُ وَالْأُخْرَى خَضْرَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي الَّتِي بِيَدِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ تَرَكَ قَطِيفَتَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَأَخَذَهَا الْآخَرُ وَتَرَكَ قَطِيفَتَهُ هُوَ فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ إِيَاسٌ أَنْ يُؤْتَى بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذَا وَرَأْسَ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ رَأْسِ أَحَدِهِمَا صُوفٌ أَحْمَرُ، وَمِنْ رَأْسِ الْآخَرِ صُوفٌ أَخْضَرُ، فَقَضَى بِالْحَمْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ وَبِالْخَضْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الْأَخْضَرُ.

وَفِي إِحْدَى الْقَضَايَا هَرَبَ الْقَاتِلُ وَانْدَسَّ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُعْرَفْ، فَمَرَّ الْمُعْتَضِدُ عَلَى النَّاسِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيَجِدُهُ سَاكِنًا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَإِذَا بِهِ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ، وَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ فَقَتَلَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاسْتِنَادَ إِلَى الْأَثَرِ لَيْسَ قَرِينَةً قَطْعِيَّةً عَلَى ارْتِكَابِ الْجَرِيمَةِ، تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ الْقَصَّابِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى خَرِبَةٍ لِلتَّبَوُّلِ وَمَعَهُ سِكِّينُهُ، فَإِذَا بِهِ أَمَامَ مَقْتُولٍ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَمَا أَفَاقَ مِنْ ذُهُولِهِ حَتَّى وَجَدَ الْعَسَسَ يَقْبِضُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الرَّجُلُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَدِلَّةَ جَمِيعَهَا ضِدُّهُ، وَلَمْ يُنْقِذْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَحْتُومَةِ- وَهِيَ الْقَتْلُ- إِلاَّ إِقْرَارُ الْقَاتِلِ الْحَقِيقِيِّ بِالْجَرِيمَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (معصية)

مَعْصِيَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَعْصِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ يُقَالُ عَصَاهُ مَعْصِيَةً وَعِصْيَانًا: خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فَهُوَ عَاصٍ وَعَصَّاءٌ وَعَصِيٌّ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: الْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لِفِعْلِ حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

1- الزَّلَّةُ:

2- مِنْ مَعَانِي الزَّلَّةِ فِي اللُّغَةِ: السَّقْطَةُ وَالْخَطِيئَةُ.

وَالزَّلَّةُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِفِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ لَكِنَّهُ اتَّصَلَ الْفَاعِلُ بِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ قَصَدَهُ فَزَلَّ بِشُغْلِهِ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ حَرَامٌ لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالزَّلَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ بِخِلَافِ الزَّلَّةِ.

أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ:

3- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعَاصِيَ رُتَبًا ثَلَاثَةً وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِيَ فَسُوقًا دُونَ بَعْضٍ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «تِسْعٌ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: » وَمِنْ كَذَا إِلَى كَذَا مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَلِيقُ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعَ.

الثَّانِي: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا: بَلْ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ فِي الْمُرْشِدِ بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إِجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ.

الثَّالِثُ: قَسَمَ الْحَلِيمِيُّ الْمَعَاصِيَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ.

أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا

4- قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِالنَّهْيِ عَنْهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ دَاعِيَةً إِلَيْهَا وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الزَّجْرِ:

أَحَدُهُمَا: حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ.

وَالثَّانِي: وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ.

ب- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّجْرِ عَنْهَا بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ، لِأَنَّ النَّفُوسَ مُسْعَدَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنِ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ، قَالَ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا أَوْ مَا مِنْهَا مَوْضِعٌ أَرْبَعُ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- أَيِ الْجِبَالِ- تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ».

آثَارُ الْمَعَاصِي

5- أَوَجَبَ الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً.

فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَتَتَمَثَّلُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوَعُّدٍ عَلَى اقْتِرَافِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا قِي النَّارِ».

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَمِنْهَا مَا هُوَ حِسِّيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا أَوَجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَالْعُقُوبَاتِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا، وَكَالتَّعْزِيرِ فِيمَا لَمْ يُوجِبِ الشَّرْعُ فِيهِ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةٌ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ.

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ:

مِنْهَا: حِرْمَانُ الْعِلْمَ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.

وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الرِّزْقَ، وَفِي الْمُسْنَدِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ، فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقٌ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي.

وَمِنْهَا: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحِسُّ بِهِ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ فَلَوْ لَمْ تُتْرُكِ الذُّنُوبُ إِلاَّ حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا.

وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلاَّ يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مَنْ أَمْرِهِ عُسْرًا.

وَمِنْهَا: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يُحِسُّ بِهَا كَمَا يُحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حِيرَتُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمْرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ فِي الْعُمْرِ.وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا وَيُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارِقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَتَضَاعَفَ الرِّبْحُ وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ وَكَذَلِكَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَصِفَاتٍ لَازِمَةً.

وَمِنْهَا: وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ، أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ فَتَقْوَى إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَضْعُفُ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَيَأْتِي مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ مُصِرٌّ عَلَيْهَا عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ.

وَمِنْهَا: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا».

وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ قَالَ مُجَاهَدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّ السَّنَةُ وَأَمْسَكَ الْمَطَرُ وَتَقُولُ هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ.

فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْعِزَّ كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أَيْ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُهَا إِلاَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قَالَ: هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ.

قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْغَفْلَةُ تُورِثُ الْقَسْوَةَ وَالْقَسْوَةُ تُورِثُ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ وَالْبُعْدُ مِنَ اللَّهِ يُورِثُ النَّارَ، وَإِنَّمَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا الْأَحْيَاءُ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَقَدْ أَمَاتُوا أَنَفْسَهُمْ بِحُبِّ الدُّنْيَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَسَاكِنِ، قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ فَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ.

اسْتِدْرَاجُ أَهْلِ الْمَعَاصِي بِالنِّعَمِ

6- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أَمُنْيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً وَوَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ».

أَحْوَالُ النَّاسِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي

7- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:

فَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ، وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ.وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَشَرُّ صِفَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَّهِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: عَجِبْتُ لَمِنْ يَحْتَمِي مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنَ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ؟

وَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبِةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفَضْلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدُ الشَّهْوَةُ دِينَهُ وَلَمْ تُزِلِ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ.

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: فِي كِتَابِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ أَفَضْلُ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَسَنَةِ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِ الذُّنُوبِ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا سِوَى التَّرْكِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}

وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عِقَابَ اللاَّهِي عَنْ دِينِهِ الْمُنْذِرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ.

التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ:

8- التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، فَتَجِبُ التَّوْبَةُ عَنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ وَأَوَّلُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مُعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَوْبَةٌ ف 10).

الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ

9- الْإِصْرَارُ هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى الْأَمْرِ وَلُزُومُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآثَامِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَدُّ الْإِصْرَارِ: أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِدِينِهِ إِشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْإِصْرَارُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَتُوبَ، فَإِنْ نَوَى التَّوْبَةَ خَرَجَ عَنِ الْإِصْرَارِ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الصَّغِيرَةُ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.

وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ.

فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ وَلَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا لَوْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنَ السَّيِّئَاتِ إِذَا دَامَ عُظِمَ تَأْثِيرُهُ فِي إِظْلَامِ الْقَلْبِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْإِصْرَارُ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (كَبَائِرُ ف 12).

التَّصَدُّقُ عَقِبَ الْمَعْصِيَةِ

10- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ التَّصَدُّقُ عَقِبَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، قَالُوا: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِلَا عُذْرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارِ أَوْ نِصْفِهِ وَعَمَّمَهُ بَعْضُهُمْ فِي إِتْيَانِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ» وَقَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ: صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَمِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي آخِرِهِ، أَوْ وَسَطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ كَفَّارَةً لَمِنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 43).

سَتْرُ الْمَعْصِيَةِ

11- إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدُّ اللَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحِيَاءَ وَالسَّتْرَ».فَإِنْ أَظَهَرَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ، لِأَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا فَرَجَمَهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِظْهَارُ الْمَعْصِيَةِ لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ.

وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِالْمَعْصِيَةِ تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً وَوَاجِبٌ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي مُعْرِفَةِ أَحْكَامِ سَتْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ، وَسَتْرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمَعَاصِي (ر: سَتْرٌ ف 2- 4).

الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي:

12- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهَرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي (ر: مُجَاهَرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ

13- يَشْتَرِطُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ فِعْلًا هُوَ مَعْصِيَةٌ كَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَمْنَعُ الرُّخْصَةَ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ ف 10).

أَثَرُ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ:

14- قَالَ الْقَرَافِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ الْمَعَاصِي لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ، لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا، وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْنَعُ إِجْمَاعًا، كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمُ التَّيَمُّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ، وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ، وَالْجُلُوسُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ، وَلَا تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَسِبَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، بَلْ هِيَ عَجْزُهُ عَنِ الصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً، فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ لَا سَبَبٌ.

إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرِ فِي مَعْصِيَةٍ

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ.وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ لِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ ابْنَ السَّبِيلِ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِسَفَرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ ف 175). إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْغَارِمِ الْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ:

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ.

وَتُعْطَى الزَّكَاةُ لَمِنْ تَابَ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَمُقَابِلُهُ لَا تُعْطَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ثُمَّ يَعُودُ.

إِجَابَةُ دَعْوَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِمَعَاصٍ

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْلَ حُضُورِهَا بِوُجُودِ مَعَاصٍ فِيهَا لَا يَحْضُرُهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ إِجَابَتَهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى بِهِ أَوْ لَا.

وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَوَجَدَ بَعْدَ الْحُضُورِ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ يَمْنَعُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرُ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ ف 27، عُرْسٌ ف 4، وَلِيمَةٌ).

الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ:

18- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ، أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ بَاطِلًا لِأَنَّهَا مَعَاصٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَقْفٌ).

الْوَصِيَّةُ لِجِهَةِ الْمَعْصِيَةِ

19- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تَكُونَ الْجِهَةُ مَعْصِيَةً فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلِحُصْرِهَا وَقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ وَلَا لِبَيْتِ نَارٍ وَلَا لِبِيعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ وَلَا دَيْرٍ وَلَا لِإِصْلَاحِهَا وَشَعْلِهَا وَخِدْمَتِهَا وَلَا لِعَمَارَتِهَا.وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِبِيعَةٍ أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَصِيَّةٌ).

نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ

20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِحَدِيثِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ».وَلِخَبَرِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِ» وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لَا تَحِلُّ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ).

طَاعَةُ الْمَخْلُوقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:

21- لَا طَاعَةَ لِأَحَدِ الْمَخْلُوقِينَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كُلُّ حَقٍّ وَإِنْ عَظُمَ سَاقِطٌ إِذَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ حُدُودِ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ (ر: طَاعَةٌ ف 11)

الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي:

22- لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ هُوَ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْئًا، إِذِ الْمُبَادَلَةُ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِلْمَعْصِيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ شَرَعَ عَقْدًا مُوجِبًا لِلْمَعْصِيَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا،

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَشَيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ، وَلَا إِجَارَةُ الدَّارِ لِتُجْعَلَ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ لِبَيْعِ الْخَمْرِ أَوْ لِلْقِمَارِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِجَارَةٌ ف 108).

عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي

23- الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخَسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ.

وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ صُدُورَ الصَّغَائِرِ غَيْرِ الْخَسِيسَةِ أَيْضًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نُبُوَّةٌ، وَنَبِيٌّ وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيِّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (مني)

مَنِيٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ- مُشَدَّدَةَ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفُ لُغَةٌ- مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَجَمْعُهُ مُنْيٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمَاءُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَذْيُ:

2- الْمَذْيُ فِي اللُّغَةِ: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوِ التَّذَكُّرِ وَيَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ، وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْأُولَى: سُكُونُ الذَّالِ، وَالثَّانِيَةُ: كَسْرُهَا مَعَ تَثْقِيلِ الْيَاءِ، وَالثَّالِثَةُ: الْكَسْرُ مَعَ التَّخْفِيفِ.

وَالْمَذَّاءُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ الْمَذْيِ مِنْ مَذَى يَمْذِي.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ: أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ بِشَهْوَةٍ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَيَخْرُجُ لَا عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ.

ب- الْوَدْيُ:

3- الْوَدْيُ فِي اللُّغَةِ بِإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمَاءُ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي إِثْرِ الْبَوْلِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ بِشَهْوَةٍ، وَأَنَّ الْوَدْيَ يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ عَقِبَ الْبَوْلِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَنِيِّ:

حُكْمُ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ حَرَامٌ وَفِيهِ التَّعْزِيرُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ وَنَحْوِهِ بِدُونِ عُذْرٍ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَلَمْ يُبِحِ الِاسْتِمْتَاعَ إِلاَّ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ سَلْخَ الْمَاءِ وَتَهْيِيجَ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ.

أَمَّا إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْخَلَاصُ مِنَ الزِّنَا بِالِاسْتِمْنَاءِ وَكَانَ عَزْبًا لَا زَوْجَةَ لَهُ وَلَا أَمَةَ أَوْ كَانَ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَإِنْ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَفَعَلَ إِرَادَةَ تَسْكِينِهَا بِهِ فَالرَّجَاءُ أَلاَّ يُعَاقَبَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ وَفِيهِ التَّعْزِيرُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكْرَهُ.

وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْنَاءُ خَوْفًا مِنَ الزِّنَى جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ كَالْمُضْطَرِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَلَوْ خَافَ الزِّنَى.

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَا يُبَاحُ الِاسْتِمْنَاءُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ثُمَّ قَالَ: وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الرَّجُلِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِمْنَاءُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ

طَهَارَةُ الْمَنِيِّ وَنَجَاسَتُهُ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ سَوَاءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا دُونَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمَنِيُّ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، أَمَّا مَنِيُّ مُبَاحِ الْأَكْلِ فَفِيهِ خِلَافٌ.

فَقِيلَ بِطَهَارَتِهِ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ لِلِاسْتِقْذَارِ وَالِاسْتِحَالَةِ إِلَى فَسَادٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ بَقَّعَ الْمَاءُ فِي ثَوْبِهِ».

وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَدْ غَسَلَتِ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْغُسْلُ شَأْنُ النَّجَاسَاتِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ عَلِمَ بِهَذَا فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ: إِنْ رَأَيْتَهُ فَاغْسِلْهُ وَإِلاَّ فَاغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّهُ وَمِنِ التَّابِعِينَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمَنِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْبَوْلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سَبَبَ نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ دَمٌ مُسْتَحِيلٌ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ مَنَاطَ التَّنْجِيسِ كَوْنُهُ دَمًا مُسْتَحِيلًا إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ.

وَبِأَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مُوجِبًا لِتَنْجِيسِهِ فَأُلْحِقَ الْمَنِيُّ بِالْبَوْلِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِنَّ مَنِيَّ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الذَّكَرِ أَمِ الْأُنْثَى.

لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ» فَدَلَّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَنِيُّ عَلَى ثَوْبِهِ وَهَذَا شَأْنُ الطَّاهِرَاتِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ أَوِ الْمُخَاطِ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ إِذْخِرٍ».

فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ شَبَّهَ الْمَنِيَّ بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ وَأَمَرَ بِإِمَاطَتِهِ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ كَانَتْ- وَلَوْ بِإِذْخِرٍ- لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ الْمَنِيُّ إِنْ كَانَ رَطْبًا مَسَحَهُ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا حَتَّهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ وَلِأَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ طَاهِرًا كَالطِّينِ وَكَذَلِكَ مَنِيُّ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ حَالَ حَيَاتِهَا فَإِنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِهَا وَيُخْلَقُ مِنْهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ مِنَ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا مَنِيُّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ مَنِيَّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَنَحْوِ الْكَلْبِ نَجِسٌ كَسَائِرِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْأَصَحَّ طَهَارَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَأَشْبَهَ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ طَاهِرٌ مِنَ الْمَأْكُولِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِهِ كَلَبَنِهِ.

الْوُضُوءُ مِنَ الْمَنِيِّ

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا).

الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ.

لِمَا وَرَدَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ- رضي الله عنها- حَدَّثَتْ: «أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ- وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ- قَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذْ هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ مَنِيًّا وَكَانَ مِمَّا لَا يَنَامُ فِيهِ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- اغْتَسَلَا حِينَ رَأَيَاهُ فِي ثَوْبَيْهِمَا وَلِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ مِنْهُ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى إِمَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَهَا فَيُعِيدُ مِنْ أَدْنَى نَوْمَةٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الرَّائِي لَهُ غُلَامًا يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَنِيِّ مِنْهُ كَابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَهُوَ كَالرِّجَالِ لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلِيلَهُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ فَأَمَّا إِنْ وَجَدَ الرَّجُلُ مَنِيًّا فِي ثَوْبٍ يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْتَلِمُ فَلَا غُسْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ مُفْرَدًا يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ فَوُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جُنُبٌ يَقِينًا فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا كَمَا لَوْ سَمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْتَ رِيحٍ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (غُسْلٌ ف 5).

الْمَنِيُّ وَأَثَرُهُ فِي الصَّوْمِ

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا قَبَّلَ وَلَمْ يُمْنِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَوَرَدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ: فَمَهْ».

شَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ وَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نُزُولُ الْمَاءِ لَمْ يُفْطِرْ.

وَإِنْ قَبَّلَ الصَّائِمُ فَأَمْنَى فَسَدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ بِالْمُبَاشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنَ الصَّائِمِ يَقَظَةً بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ فَسَدَ الصَّوْمُ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَأَمَّا إِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ خَرَجَ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يَرَى أَصْحَابُنَا الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَمْنَى مِنْ لَمْسٍ وَقُبْلَةٍ اسْتِحْبَابًا وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقُبْلَةُ حَرَّكَتِ الْمَنِيَّ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا إِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَلَوِ اسْتَمْنَى الصَّائِمُ بِيَدِهِ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقُبْلَةِ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ وَإِنْ نَزَلَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ أَوِ الْمَذْيُ لِمَرَضٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَشْبَهَ الْبَوْلَ وَلِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا تَسَبُّبٍ إِلَيْهِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ، وَلَوِ احْتَلَمَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ شَيْءٌ وَهُوَ نَائِمٌ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ إِلَى وَجْهِهَا أَوْ فَرْجِهَا فَأَمْنَى- كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَا- لَا يُفْطِرُ فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ فِي امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ إِذَا أَمْنَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَمْنَى بِتَعَمُّدِ إِدَامَةِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمُجَرَّدِ فِكْرٍ وَنَظَرٍ بِشَهْوَةٍ لَمْ يُفْطِرْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَلَهُ حَالَتَانِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ إِنْزَالٌ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ فَيَفْسُدَ الصَّوْمُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ كَالْإِنْزَالِ بِاللَّمْسِ وَالْفِكْرِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ بِخِلَافِ تَكْرَارِ النَّظَرِ.

تَطْهِيرُ الثَّوْبِ مِنَ الْمَنِيِّ

9- نَظَرًا لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وَطَهَارَتِهِ فَقَدْ بَيَّنَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَسِيلَةَ تَطْهِيرِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِنْ جَفَّ عَلَى الثَّوْبِ أَجْزَأَ فِيهِ الْفَرْكُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ.لِمَا وَرَدَ عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ: أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِلَى الْجُرُفِ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَلَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلاَّ احْتَلَمْتُ وَمَا شَعَرْتُ وَصَلَّيْتُ وَمَا اغْتَسَلْتُ قَالَ: فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ وَنَضَحَ مَا لَمْ يَرَ وَأَذَّنَ أَوْ أَقَامَ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى مُتَمَكِّنًا.

أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنُوا كَيْفِيَّةَ تَنْظِيفِهِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْمَنِيِّ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.

أَثَرُ انْقِطَاعِ الْمَنِيِّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَةِ

10- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَكُونُ عَيْبًا فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ طَالَمَا يَسْتَطِيعُ الْخَصِيُّ الْوِقَاعَ لِأَثَرِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: يُرَدُّ النِّكَاحُ لِأَرْبَعٍ: مِنَ الْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَنِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ لِلْخِصَاءِ ذُكِرَ بِخُصُوصِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ عُمُومِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْخِصَاءِ فِي الرِّجَالِ وَإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ فِيهِمْ وَأَنَّ الزَّوَاجَ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ وَلَمَّا كَانَ الِاتِّصَالُ مِنَ الْخَصِيِّ مَوْجُودًا كَانَ الضَّرَرُ فِي مُعَاشَرَتِهِ مُنْتَفِيًا فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْعُنَّةِ لِلضَّرَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْخِصَاءَ عَيْبٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ وَيُبَرِّرُ طَلَبَ التَّفْرِيقِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنْ أَنْزَلَ مَنِيًّا فَلَا يُعْتَبَرُ خِصَاءً يُبَرِّرُ التَّفْرِيقَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (خِصَاءٌ ف 7).

أَثَرُ انْقِطَاعِ الْمَنِيِّ بِالْجِنَايَةِ

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى شَخْصٌ جِنَايَةً عَلَى رَجُلٍ فَكَسَرَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَ قُوَّةَ إِمْنَائِهِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ كَامِلَةً.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 62).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-الغريبين في القرآن والحديث (سمع)

(سمع)

قوله عز وجل: {واسمع غير مسمع} أي غير مجاب إلى ما تدعونا إليه.

ومنه قول المصلي: (سمع الله لمن حمده) أي تقبل الله منه حمده وأجاب حمده، ويقال اسمع دعائي أي أجب دعائي لأن غرض السائل الإجابة

والقبول فذكر مراده وغرضه باسم غيره للاشتراك الذي بين القبول والسمع، فوضع السمع موضع القبول والإجابة.

ومنه قوله: {إني آمنت بربكم فاسمعون} أي اسمعوا مني الطاعة والقبول.

ومنه الحديث: (أعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي لا يجاب وعلى هذا المعنى يتأول قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} أي لا تقدر أن توفق الكفار لقبول الحق.

ومنه قوله: {وقولوا انظرنا واسمعوا} يعني سمع الطاعة.

وقوله تعالى: {سماعون للكذب} أي قابلون للباطل.

وقوله: {إنما يستجيب الذين يسمعون} الذين يصغون إليك إصغاء الطاعة والقبول، وقال مجاهد في قوله: {واسمع غير مسمع} أي غير مقبول ما تقول، وقال ابن عرفة: معناه اسمع لا سمعت، وكذلك قوله قم غير صاغر: أي لا أصغرك الله.

وقال في قوله: {يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} أي كانوا يستطيعون السمع ويبصرون أيام حياتهم: أي يعرضون عما يسمعون ويبصرون فيضاعف لهم العذاب أضعاف تلك المدة التي لا أكد لها عقوبة لهم على إعراضهم عما كانوا يسمعونه.

وقوله: {وكانوا لا يستطيعون سمعًا} أي لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلى عليهم من القرآن لبغضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كما تقول لمن يكره قولك: ما يستطيع أن يسمع كلامي.

وقوله: (وفيكم سماعون لهم) أي مطيعون، وقيل: متحسسون للأخبار.

وفي الحديث: (من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه) ورواه

بعضهم (أسامع خلقه) قال أبو عبيد: يقال سمعت بالرجل تسميعًا إذا نددت به وشهرته فمن رواه (سامع خلقه) برفع العين أراد سمع الله الذي هو سامع خلقه من نعت الله تبارك وتعالى أي فضحه الله، ومن رواه (أسامع خلقه) منصوبًا فهو جمع أسمع، يقال: سمع وأسمع، وأسامع جمع

وفي الحديث: (أنه سئل أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) أي أخلق بالدعاء وأرجى للاستجابة.

ومنه حديث الضحاك: (لما عرض عليه الإسلام قال: فسمعت منه كلامًا لم أسمع قط قولًا أسمع منه) يريد أبلغ وأنجع في القلب.

وفي حديث بعض الصحابة: (قيل له: لم لا تكلم عثمان رضي الله عنه؟ قال: أترونني أكلمه سمعكم) أي بحيث تسمعون، قال الراجز.

«حتى إذا أجرس كل طائر *** قامت تغتظي بك سمع الحاضر»

أي حيث يسمع من حضر، ويقال: سمع به إذا أسمعه المكروه بمرأى من الناس.

وفي حديث قيلة: (لا تخبر أختي فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها) قال أبو زيد: يقال: خرج فلان بين سمع الأرض وبصرها إذا لم يدر أين يتوجه، لأنه لا يدل على الطريق، وقيل: أرادت بين سمع أهل الأرض وبصرها كقوله: {واسأل القرية} يعني أنها أرادت أنه لا يبصرها إلا الأرض القفر ولا يصحبها من يحوطها ويؤنسها، وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل إذا غرر بنفسه، وألقاها حيث لا يدرى أين هو ألقى نفسه بين سمع الأرض وبصرها، وقيل معناه بين طولها وعرضها.

وكتب الحجاج إلى بعض عماله (أن ابعث إلى فلانًا مسمعًا مزمرًا) أي مقيدًا مسجورًا، والمسمع من أسماء القيد والزمارة الساجورة.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


36-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين النبإ والخبر)

الْفرق بَين النبإ وَالْخَبَر

أَن النبأ لَا يكون إِلَّا للإخبار بِمَا لَا يُعلمهُ الْمخبر وَيجوز أَن يكون الْخَبَر بِمَا يُعلمهُ وَبِمَا لَا يُعلمهُ وَلِهَذَا يُقَال عِنْدِي وَلَا تَقول تنبئني عَن نَفسِي وَكَذَلِكَ تقولت تُخبرنِي عَمَّا عِنْدِي وَلَا تَقول تنبئني عَمَّا عِنْدِي وَفِي الْقُرْآن (فسيأتيهم أَبنَاء مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون) وإنم استهزأوا بِهِ لأَنهم لم يعلمُوا حَقِيقَته وَلم علمُوا ذَلِك لتوقوه يَعْنِي الْعَذَاب وَقَالَ تَعَالَى (ذَلِك من أَبنَاء الْقرى نَقصه عَلَيْك) وَكَانَ النَّبِي لم يكن يعرف شَيْئا مِنْهَا وَقَالَ عَليّ بن عِيسَى عَن النبأ معنى عَظِيم الشَّأْن وَكَذَلِكَ أَخذ مِنْهُ صفة النبيَ أَبُو هِلَال أيده الله وَلِهَذَا يُقَال سَيكون لفُلَان نبأ وَلَا يُقَال خبر بِهَذَا الْمَعْنى وَقَالَ الزّجاج فِي قَوْله تَعَالَى (فسيأتيهم أَبنَاء مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون) أنباؤه تَأْوِيله والمنى سيعلمون مَا يؤول إِلَه استهزاؤهم قُلْنَا وَإِنَّمَا يُطلق عَلَيْهِ هَذَا لما فِيهِ من عَظِيم الشَّأْن قَالَ أَبُو هِلَال والإنباء عَن الشَّيْء أَيْضا قد يكون بِغَيْر حمل النبأ عَنهُ تَقول هَذَا الْأَمر ينبىء بِكَذَا وَلَا تَقول يخبر بِكَذَا لِأَن الْإِخْبَار لَا يكون إِلَّا بِحمْل الْخَبَر.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


37-المعجم الغني (إِشْعارٌ)

إِشْعارٌ- [شعر]، (مصدر: أَشْعَرَ):

1- "اِحْتَفَظَ بِإشْعارِ الوُصولِ": بِطاقَةٌ بَريدِيَّةٌ لِلإخْبارِ بِوُصولِ رِسالَةٍ مَضْمونَةٍ أَوْ حَوالَةٍ مَالِيَّةٍ.

2- "إلى إِشْعارٍ آخَرَ": إلى أَنْ يَصْدُرَ أَمْرٌ آخَرُ، إِصْدارٌ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


38-المعجم الغني (بَلاغٌ)

بَلاغٌ- الجمع: (بَلاغَاتٌ ). [بلغ]:

1- "في هَذا الأمْرِ بَلاغٌ": كِفايَةٌ.

2- "أَصْدَرَتْ وِزارَةُ التَّعْلِيمِ بَلاغًا": بَيانًا، أَيْ ما يُذاعُ على النَّاسِ حَوْلَ مَوْضوعٍ مَّا لِلإخْبارِ بِهِ. {هَذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] "ما على الرَّسولِ إِلاَّ البَلاغُ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


39-المعجم الغني (جَاسُوسِيَّةٌ)

جَاسُوسِيَّةٌ- [جسس]، (مصدر: صِنَاعِيٌّ): مِهْنَةُ الجَوَاسِيسِ، أَيْ تَلَمُّسُ الأَخْبَارِ وَالْمَعْلُومَاتِ لِلْإِخْبَارِ بِهَا لِمَنْ يَهُمُّهُ الأَمْرُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


40-المعجم الغني (مُخْتَلِقٌ)

مُخْتَلِقٌ(مُخْتَلِقَةٌ )- الجمع: (مُخْتَلِقُونَ، مُخْتَلِقَاتٌ ). [خلق]، (اسم فاعل. مِن اِخْتَلَقَ)، "مُخْتَلِقٌ لِلأَخْبَارِ": مُلَفِّقٌ لَها.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


41-المعجم الغني (مُلَفِّقٌ)

مُلَفِّقٌ(مُلَفِّقَةٌ )- الجمع: (مُلَفِّقُونَ، مُلَفِّقَاتٌ ). [لفق]، (اسم فاعل من: لَفَّقَ)، "مُلَفِّقٌ لِلأَخْبَارِ": مَنْ يَخْتَلِقُهَا ويُلَفِّقُهَا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


42-مقاليد العلوم (الأدَاةُ)

الأدَاةُ (فِي علم الْمنطق): مَا لَا يصلح للإخبار بِهِ أصلا، أَو وَحده.

مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م


43-مقاليد العلوم (الاسمُ)

الاسمُ (فِي علم الْمنطق): مَا يصلح للإخبار بِهِ وَحده، وَلم يدل بهيئته وصيغته على زمَان معِين من الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة.

مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م


44-مقاليد العلوم (الفعلُ)

الفعلُ (فِي علم الْمنطق): مَا يصلح للإخبار بِهِ وَحده، وَيدل بهيئته الوضعية على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة.

مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م


45-طِلبة الطلبة (عسس)

(عسس):

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ وَهُوَ الْقَدَحُ الْعَظِيمُ وَقَوْلُهُ: بَعَثْنَاكَ دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْكَ رَاعِيًا: أَيْ بَعَثْنَاكَ دَاعِيًا إلَى الصَّلَاةِ بِالْأَذَانِ وَلَمْ نَبْعَثْكَ حَافِظًا لِلشَّمْسِ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ذَلِكَ إنْكَارًا عَلَى الْمُؤَذِّنِ إخْبَارَهُ بِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ، وَأَنَّهُ إنَّمَا بَعَثَهُ لِلْأَذَانِ لَا لِلتَّعَرُّفِ عَنْ حَالِ الشَّمْسِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ، وَبِئْسَمَا ظَنُّوا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ الْإِنْكَارُ لِلْإِخْبَارِ بِالْحَقِّ وَحَالُهُ فِي كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْحَقِّ قَابِلًا لَهُ، لَكِنْ قَالَ ذَلِكَ شُكْرًا لَهُ وَثَنَاءً عَلَيْهِ، أَيْ كُنَّا بَعَثْنَاكَ لِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَذَانُ، وَخَفَى عَلَيْنَا الْأَهَمُّ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ لَكَ: تَعَرَّفْ لَنَا حَالَ الشَّمْسِ وَأَخْبِرْنَا بِهَا، وَقَدْ قُمْتَ لَنَا فِي هَذَا الْمُهِمِّ أَحْسَنَ الْقِيَامِ وَأَخْبَرَتْنَا بِهِ فَنَحْنُ لَك شَاكِرُونَ وَبِالْخَيْرِ ذَاكِرُونَ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


46-تاج العروس (جأث)

[جأث]: جَئِثَ الرَّجُلُ، كفَرِحَ، جَأَثًا: ثَقُلَ عندَ القِيَامِ، أَو عِنْدَ حَمْلِ شَيْ‌ءٍ ثَقَيل، وقد أَجْأَثَهُ الحِمْلُ.

وعن الليث: الجَأْثُ: ثِقَلُ المشْيِ، يُقَال: أَثْقَلَهُ الحِمْلُ حتَّى جَأَثَ.

وقال غيرُه: الجَأَثَانُ: ضَرْبٌ من المَشْيِ، قال جَنْدلُ بنُ المُثَنَّى:

عفَنْجَجٌ في أَهْلِه جَآثُ *** جآبُ أَخْبارٍ لها نَجَّاثُ

وجأَثَ البعِيرُ بحِمْلِه، «كمنَعَ» يَجْأَثُ: مَرَّ بِه مُثْقَلًا، عن ابن الأَعْرابِيّ، وعن أَبي زيد: جأَثَ البَعِيرُ جَأْثًا، وهو مِشْيَتُه مُوقَرًا حَمْلًا.

وعن الأَصمعيّ: جأَثَ الرَّجُلُ يَجْأَثُ جَأْثًا، إِذا نَقَلَ الأَخْبارَ، وأَنشد:

جآثٌ أَخْبارٍ لها نَبَّاثُ

وجُئِثَ، كزُهِيَ جَأْثًا، جُؤُوثًا: فَزِعَ، وقد جُئِثَ، إِذا أَفْزع، فهو مَجْئُوثٌ؛ أَي مَذْعُور، وفي حديث النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم «أَنَّه رَأَى جِبْرِيلَ عليه‌السلام، قال: فجُئِثْتُ منه فَرَقًا حينَ رَأَيْتُه» أَي ذُعِرْتُ وخِفْتُ.

الجَئَّاثُ ككَتَّانِ: الرَّجُلُ السّيِّئُ الخُلُقِ الصَّخَّاب، والنَّقّالُ للأَخْبار، والمُتَثَاقِلُ في المَشْي.

وأَنْجَأَثَ النَّخْلُ: انْصَرَعَ.

وجُؤْثَةُ بالضّمِّ: قَبِيلَةٌ، إِليها نُسِبَ تَمِيم.

وجُؤَاثَى، ككُسَالَى: مَدِينَةُ الخَطِّ، وفي اللسان أَنّهُ موضِعٌ، قال امرؤُ القَيْس:

ورُحْنَا كَأَنِّي من جُؤَاثَى عَشِيَّةً *** نُعَالِي النِّعاجَ بيْنَ عِدْلٍ ومُحْقِبِ

أَو حِصْنٌ، وقيل: قَرْيَةٌ بالبَحْرَين معروفة، وسيأْتي في الجمع: وث.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


47-تاج العروس (عد عدد عدعد)

[عدد]: العَدُّ: الإِحصاءُ، عَدَّ الشيْ‌ءَ يَعُدُّه عَدًّا، وتَعدَادًا، وعِدَّةً. وعَدَّدَه، والاسمُ: العَدَدُ والعَدِيدُ، قالَ الله تعالى: {وَأَحْصى كُلَّ شَيْ‌ءٍ عَدَدًا} قال ابنُ الأثِيرِ: له مَعْنَيانِ: يكونُ أَحْصَى كُلَّ شيْ‌ءٍ مَعْدُودًا، فيكونُ نَصْبُه على الحالِ، يقال: عَدَدْتُ الدَّرَاهِمَ عَدًّا، وما عُدَّ فهو مَعْدُودٌ وَعَدَدٌ، كما يقال: نَفَضْتُ ثَمَرَ الشَّجَرِ نَفْضًا، والمَنْفُوضُ نَفَضٌ. ويكونُ مَعْنَى قولِهِ أَي إِحصاءً، فأَقَامَ عَدَدًا مُقَامَ الأَحصاءِ لأَنَّهُ بِمَعْنَاه.

وفي المصباح: قال الزَّجَّاجُ: وقد يكونُ العَدَدُ بمعنى المَصْدَرِ كقولِهِ تعالى: {سِنِينَ عَدَدًا} وقال جماعة: هُو على بابِهِ، والمعنَى: سِنِينَ مَعْدُودةً، وإِنَّمَا ذكَّرها على معنَى الأَعْوَامِ.

وعَدَّ الشي‌ءَ: حَسَبَهُ. وقالوا: العَدَد هو الكَمِّيَّةُ المُتَأَلِّفَة من الوَحَدَاتِ، فيَخْتَصُّ بالمتعدِّد في ذاتِهِ، وعلى هذا فالواحِدُ ليس بِعَدَدٍ، لأَنّه غير متعدِّد، إِذ التَّعَدُّدُ الكَثْرَةُ.

وقال النُّحاةُ: الواحِدُ من العَدَدِ، لأَنَّه الأَصْلُ المَبْنِيُّ مِنْهُ، ويَبْعُدُ أَن يكونَ أَصلُ الشيْ‌ءِ ليسَ منه، ولأَنَّ له كَمِّيَّةً في نَفْسِهِ فإِنَّه إِذا قِيل: كَمْ عِنْدَك؟ صَحَّ أَنْ يُقَالَ في الجَوَابِ: واحد، كما يقال: ثلاثَةٌ وغيرُها. انتهى.

وفي اللسان: وفي حَدِيثِ لُقْمَان: «ولا نَعُدُّ فَضْلَه عَلَيْنَا» أَي لا نُحْصِيه لكَثْرَته، وقيل: لا نَعْتَدُّه علينا مِنَّةً له.

قال شيخُنَا: قال جماعةٌ من شُيوخنا الأَعلامِ: إِنَّ المعروفَ في عَدَّ أَنَّه لا يُقَالُ في مُطاوِعِه: انْعَدَّ، على انْفَعَلَ، فقيل: هي عامِيَّةٌ، وقيل رَدِيئةٌ. وأَشارَ له الخَفَاجِيُّ في «شرح الشفاءِ».

وجمع العِدِّ الأَعدادُ و‌في الحديث: «أَن أَبيضَ بنَ حَمَالٍ المازِنِيَّ قَدِمَ على رسولِ اللهِ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، فاسْتَقْطَعَه المِلْحَ الّذِي بِمَأْرِبَ، فأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ، فلمّا ولَّى قال رَجُلٌ: يا رسُولَ اللهِ، أَتَدْرِي ما أَقْطَعْتَه؟ إِنما أَقْطَعْتَ له الماءَ العِدَّ. قال: فَرَجَعَه مِنْهُ». قال اللَّيْث: العِدُّ، بالكسر مَوْضِعٌ يَتَّخِذُه الناسُ يَجْتَمِعُ فيه ماءٌ كَثِيرٌ. والجمْع الأَعدادُ.

قال الأَزهريُّ: غَلِطَ اللّيثُ في تفسير العِدِّ ولم يَعْرِفْهُ.

قال الأَصمَعِيّ: الماءُ العدُّ هو الجارِي الدائِمُ الذي له مادَّةٌ لا تَنْقَطِعُ، كماءِ العَيْنِ والبِئرِ. وفي الحديث «نَزَلُوا أَعْدَادَ مِياهِ الحُدَيْبِيَةِ» أَي ذواتِ المادَّةِ كالعُيُونِ والآبارِ، قال ذو الرُّمَّةِ يذكر امرأَةً حَضَرَتْ ماءً عِدًّا بعْدَ ما نَشَّتْ مِيَاهُ الغُدْرَانِ في القَيْظِ، فقال:

دَعَتْ مَيَّةَ الأَعدَادُ واسْتَبْدَلَتْ بها *** خَنَاطِيلَ آجَالٍ من العِينِ خُذَّلِ

اسْتَبْدَلَتْ بها يَعْني منازِلَها التي ظَعَنَتْ عنها حاضِرةً أَعدادَ المياهِ فخالَفَتْهَا إِليها الوَحشُ وأَقامَتْ في منازِلِهَا، وهذا استعارةٌ، كما قال:

ولقد هَبَطتُ الوادِيَيْنِ ووادِيًا *** يَدْعُو الأَنِيسَ بها الغَضِيضُ الأَبْكَمُ

وقيل: العِدُّ ماءُ الأَرْضِ الغَزِيرُ. وقيل: العِدُّ: ما نَبَعَ من الأَرضِ، والكَرَعُ: ما نَزَلَ من السّماءِ. وقيل: العِدُّ: الماءُ القَدِيمُ الذي لا يَنْتَزِحُ، قال الرَّاعي:

في كُلِّ غَبرَاءَ مَخْشِيٍّ مَتالِفُهَا *** دَيْمُومةٍ ما بِهَا عِدٌّ ولا ثَمَدُ

وقال أَبو عَدْنَانَ: سَأَلْتُ أَبا عُبَيْدَة عن المَاءِ العِدِّ، فقالَ لي: الماءُ العِدُّ بلغَةِ تَمِيمٍ: الكَثِيرُ. قال: وهو بِلُغَةِ بَكْرِ بنِ وائِلٍ: الماءُ القليلُ. قال: بَنُو تَمِيمٍ يَقُولون: الماءُ العِدُّ مثْلُ كاظِمَةَ، جاهِليٌّ إِسْلامِيٌّ لم يُنْزَحْ قَطُّ. وقالت لي الكلابِيَّة: الماءُ العِدُّ: الرَّكِيُّ. يقال: أَمِنَ العِدِّ هذا أَم من ماءِ السَّماءِ. وأَنْشدتْنِي:

وماءٍ لَيْسَ من عِدِّ الرَّكَايَا *** ولا جَلْبِ السّماءِ قد استقَيْتُ

وقالت: ماءُ كُلِّ رَكِيَّة عِدٌّ، قَلَّ أَو كَثُرَ.

والعِدُّ: الكَثْرَةُ في الشَّيْ‌ءِ، يقال: إِنَّهم لَذُو عِدٍّ وقِبْص.

وفي الحديث «يَخْرُجُ جَيْشٌ من المَشْرِق آدَى شيْ‌ءٍ وأَعَدُّه» أَي أَكثَرُه عِدَّةً وَأَتَمُّه وأَشدُّه استعدادًا.

والعِدُّ: القَدِيمُ، وفي بعض الأُمَّهات: القَديمة من الرَّكايا وقد تقدَّم قولُ الكلابِيَّةِ.

وفي المحكم: هو من قولِهم: حَسَبٌ عِدٌّ: قَديمٌ. قال ابن دُرَيْد: هو مُشْتَقٌّ من العِدِّ الذي هو الماءُ القَدِيمُ الذي لا يَنْتَزِحُ، هذا الذي جَرَت العادةُ به في العِبَارةِ عنه.

وقال بعض المُتَحَذِّقِينَ: حَسَبٌ عِدٌّ: كَثِيرٌ، تَشْبِيهًا بالماءِ الكَثِيرِ. وهذا غيرُ قَوِيٍّ وأَن يكونَ العِدُّ القَدِيمَ أَشْبَهُ، وأَنشد أَبو عبيدةِ:

فَوَرَدَتْ عدًّا من الأَعدادِ *** أَقْدَمَ مِن عادٍ وقَوْمٍ عادِ

وقال الحُطَيْئةُ:

أَتَتْ آلَ شَمَّاسِ بنِ لأْيٍ وإِنَّما *** أَتَتْهُمْ بها الأَحْلَامُ والحَسَبُ العِدُّ

والعَدَدُ: المَعْدُودُ، وبه فُسِّرت الآيةُ {وَأَحْصى كُلَّ شَيْ‌ءٍ عَدَدًا} وقد تقدَّم، والعَدَدُ مِنْكَ: سِنُو عُمُرِكَ الّتي تَعُدُّهَا: تُحْصِيها.

وعن ابن الأَعْرَابِيِّ قال: قالت امرأَةٌ، ورأَتْ رَجُلًا كانَتْ عَهدَتْهُ شابًّا جَلْدًا: أَين شَبَابُكَ وَجَلَدُك؟ فقال: مَن طالَ أَمَدُه، وكَثُرَ وَلدُه، ورَقَّ عَدَدُه، ذَهَبَ جَلَدُه.

قوله: رَقَّ عَدَدُه؛ أَي سِنُوه التي يَعُدُّها ذَهَبَ أَكثَرُ سِنِّه، وقَلَّ ما بَقِيَ فكانَ عِنْدَه رَقِيقًا.

والعَدِيدُ: النِّدُّ والقِرْنُ، كالعِدِّ، والعِدَادِ، بكسرهما يقال: هذه الدَّراهِمُ عَدِيدُ هذِه الدراهِمِ؛ أَي مِثْلُهَا في العِدَّةِ، جاءُوا به على هذا المِثَال من باب الكَمِيعِ والنَّزِيعِ.

وعن ابن الأَعرابيِّ: يُقَال: هذا عِدَادُه وعِدُّه، ونِدُّه ونَدِيدُه، وبِدُّه وبَدِيدُهُ، وسِيُّه، وزِنُه وزَنُه، وَحَيْدُه وحِيدُه، وعَفْرُه، وَغفْرُه، ودَنُّه؛ أَي مِثْلُه وقِرْنُه. والجمع الأَعْدَاد، والأَبدَادُ، قال أَبو دُوادٍ:

وطِمِرَّةٍ كهِرَاوَةِ الأَعْ *** زَابِ ليس لها عَدائِدْ

وجَمْعُ العَدِيدِ: العَدَائِدُ، وهم النُّظَرَاءُ، ويقال: ما أَكْثَرَ عَدِيدَ بني فلانٍ. وبَنُو فلانٍ عَدِيدُ الحَصَى والثَّرَى، إِذا كانُوا لا يُحْصَوْنَ كثرةً، كما لا يُحْصَى الحَصَى والثَّرَى؛ أَي هم بِعَدَدِ هذينِ الكَثِيريْنِ.

والعَدِيدُ من القَوْمِ: مَنْ يُعَدُّ فِيهِمْ وليس معهم، كالعِدَادِ.

والعَدِيدةُ: الحِصَّةُ، قاله ابنُ الأَعْرَابِيّ. والعِدَادُ: الحِصَصُ، وجَمْعُ العَدِيدة: عَدائِدُ، قال لَبِيد:

تَطِيرُ عَدَائِدُ الأَشْرَاكِ شَفْعًا *** وَوِتْرًا والزَّعَامةُ للغُلامِ

وقد فَسَّرَه ابنُ الأَعرابِيّ، فقال: العَدَائِدُ: المالُ والمِيرَاثُ، والأَشْرَاكُ: الشَّرِكَةُ، يَعْنِي ابنُ الأَعرابِيّ بالشَّرِكَة جمْع شَرِيك؛ أَي يَقتسمونها بينهم، شَفْعًا وَوِترًا، سَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ، وَسهْمًا سَهْمًا، فيقول: تَذْهَبُ هذه الأَنْصِباءُ على الدَّهْرِ، وتَبْقَى الرِّياسَة لِلوَلَدِ.

والأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وهي ثلاثةٌ بعدَ يَومِ النَّحْرِ.

وأَمَّا الأَيامُ المَعْلُوماتُ فعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، عُرِّفَتْ تلك بالتَّقْلِيلِ، لأَنَّها ثلاثةٌ. وعُرِّفَت هذه بالشُّهْرَةِ، لأَنَّهَا عَشَرةٌ.

وإِنما قُلِّل بِمَعْدُودةٍ لأَنَّهَا نَقِيضُ قولِكَ لا تُحْصَى كَثْرةً. ومنه {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} أي قليلةٍ. قال الزِّجّاجُ: كُلُّ عَدَدٍ، قَلَّ أَو كَثُرَ، فهو مَعْدُودٌ. ولكنَّ مَعْدُودَاتٍ أَدلُّ على القِلَّةِ، لأَنَّ كُلَّ قلِيلٍ يُجْمَعُ بالأَلِفِ والتاءِ، نحو دُرَيْهِماتٍ، وحَمَّامَاتٍ. وقد يَجُوزُ أَن تَقَعَ الأَلِفُ والتَّاءُ للتَّكْثِير.

والعِدَّةُ. مَصْدَرٌ كالعَدِّ، وهي أَيضًا: الجماعةُ، قَلَّتْ أَو كَثُرَتْ، تقول: رأَيتُ عِدَّةَ رِجالٍ وعِدَّةَ نِساءٍ وأَنفَذْتُ عِدَّةَ كُتُبٍ؛ أَي جَماعة كُتُبٍ.

وفي الحديث: «لم تَكُنْ للمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ فأَنْزلَ اللهُ تعالى العِدَّة للطَّلاقِ» وعِدَّةُ المَرْأَةِ المُطَلَّقةِ والمُتَوفَّى زَوْجُها: هي ما تَعُدُّه مِن أَيَّامِ أَقْرائِها، أَو أَيَّامِ حَمْلها، أَو أَربعة أَشْهُرٍ وعَشْر ليالٍ. وعِدَّتُها أَيضًا: أَيامُ إِحْدَادِها على الزَّوْجِ وإِمساكِها عن الزِينةِ، شُهُورًا كان أَو قراءً، أَو وَضْعَ حَمْلٍ حَمَلَتْه من زَوْجِها، وقد اعتَدَّت المرأَةُ عِدَّتَها من وَفَاةِ زَوْجِها أَو طَلاقِهِ إِيَّاها. وجَمْعُ عِدَّتِها عِدَدٌ. وأَصْلُ ذلك كُلِّه مِن العَدِّ. وقد انْقَضَتْ عِدَّتُها.

وَعِدَّانُ الشَّيْ‌ءِ، بالفتح والكسر، ولو قال: وعَدَّان الشيْ‌ءِ، ويُكْسَر كان أَخْصَر: زَمَانُهُ وعَهْدُهُ، قال الفَرَزْدَقُ، يخاطب مِسْكيِنًا الدارِمِيَّ، وكان قد رَثَى زِيَادَ ابنَ أَبِيه:

أَمِسْكِينُ أَبكَى اللهُ عَينكَ إِنّمَا *** جَرَى في ضَلَالٍ دَمْعُها فتَحَدَّرا

أَقولُ له لَمَّا أَتانِي نَعِيُّهُ *** بِهِ لا بِظَبْيٍ بالصَّرِيمةِ أَعْفَرا

أَتَبْكِي امْرَأً من آلِ مَيْسانَ كافِرًا *** ككِسْرَى على عِدَّانِه أَوْ كَقَيْصَرَا

وأَنا على عِدَّانِ ذلكَ أَي حِينِه وإِبَّانِهِ، عن ابن الأَعرابِيّ.

وأَوردَه الأَزهريُّ في عَدَنَ، أَيضًا. وجِئْتُ على عِدَّانِ تَفْعَلُ ذَلِكَ [وعَدَّانِ تَفْعَل ذلك] أَي حِينِه. أَو معنى قولهم: كان ذلك في عِدَّانِ شَبَابِه، وعِدَّانِ مُلْكه، هو أَوَّلُهُ وأَفْضَلُهُ وأَكثرُه. قال الأَزهريُّ: واشتقاقُ ذلك من قولِهِم: أَعَدَّهُ لأَمْرِ كذا: هَيَّأَهُ له، وأَعْدَدتُ للأَمْرِ عُدَّته، ويقال: أَخَذَ للأَمْر عُدَّتَهُ وعَتَادَه، بِمَعنًى، قال الأَخفشُ: ومنه قولُه تعالَى: {جَمَعَ مالًا} وَعَدَّدَهُ أَي جَعَلَهُ عُدَّةً للدَّهْرِ، ويقال: جَعَلَه ذا عَدَدٍ. واستَعَدَّ له: تَهَيَّأَ، كأَعَدَّ، واعْتَدَّ، وتَعَدَّدَ، قال ثَعْلبٌ: يُقَالُ: استَعْدَدتُ للمَسائل، وتَعدَّدْتُ. واسم ذلك: العُدَّةُ.

ويقال: هُم يَتَعَادُّونَ، ويَتَعَدَّدُون على أَلْفٍ؛ أَي يَزِيدُون عليه في العَدَدِ، وقيل: يَتَعَدَّدُون عليه: يَزِيدُون عليه في العَدَد، ويَتعادُّونَ: إِذا اشتَركُوا فيما يُعادُّ به بَعْضُهُم بَعضًا من المَكَارِمِ.

والمَعَدَّانِ: مَوْضِعُ دَفَّتَي السَّرْجِ على جَنْبَيْهِ من الفَرَسِ، تقولُ: عَرِقَ مَعَدَّاه، وأَنشدَ اللِّحْيَانِيُّ:

كَزِّ القُصَيْرَى مُقْرِفِ المَعَدِّ

وقال: عَدَّه مَعَدًّا، وفَسَّرَه ابنُ سيده وقال: المَعَدُّ هُنا: الجَنْبُ، لأَنَّه قد قال: كَزّ القُصَيْرَى، والقُصَيْرَى عُضْوٌ، فمُقَابَلَةُ العُضْوِ بالعُضْوِ خَيْرٌ من مُقَابَلَتِهِ بالعِدَّةِ.

ومَعَدُّ بنُ عَدْنَانَ: أَبو العَرَبِ، والمِيمُ زائدةٌ، أَو المِيمُ أَصْلِيَّةٌ، لقولهم: تَمَعْدَدَ، لِقِلَّةِ تَمَفْعَلَ في الكلام، وهذا قولُ سِيبويهِ، وقد خُولِفَ فيه.

وتَمَعْدَدَ الرَّجُلُ؛ أَي تَزَيَّا بِزِيِّ مَعَدٍّ، في تَقَشُّفِهِم، أَو تَنَسَّبَ هكذا في النُّسخ. وفي بعضها: أَو انْتَسَبَ إِليهِمْ أَو تكلَّم بكَلامِهِمْ أَو تَصَبَّرَ عَلَى عَيْشِهِمْ، ونقَلَ ابنُ دِحْيَةَ في «كتاب التَّنْوِير» له، عن النُّحاةِ: أَنَّ الأَغلبَ على مَعَدٍّ، وقُرَيْشٍ، وثَقِيفٍ، التذكيرُ والصَّرْفُ، وقد يُؤَنَّثُ ولا يُصْرَفُ. قاله شيخُنا.

وقولُ الجَوْهَرِيِّ: قال عُمَرُ، رضي ‌الله‌ عنه. الصَّوابُ: قالَ رسولُ الله، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم: «تَمَعْدَدُوا واخْشَوْشِنُوا وانتَضِلُوا، وامشُوا حُفاةً» أَي تَشَبَّهُوا بِعَيْشِ مَعَدٍّ، وكانُوا أَهلَ تَقَشُّفٍ وغِلْظَةٍ في المَعَاشِ، يقول كُونُوا مِثْلَهُمْ ودَعُوا التَّنَعُّمَ وزيَّ الأَعاجِمِ.

وهكذا هو في حديث آخَرَ: «عَلَيْكُم باللِّبْسَةِ المَعَدِّيَّةِ».

وفي «الناموس» و«حاشية سَعْدِي چلبى» وشرْحِ شَيْخِنا: لا يَبْعُدُ أَن يكونَ الحديثُ جاءَ مرفُوعًا عن عُمَر، فليس للتَّخْطئةِ وَجْهٌ والحديثُ ذَكَرَه السُّيوطيُّ في «الجامِع»، رَواه الطَّبرانِيُّ عن ابن حَدْرَدٍ، هكذا في النُّسَخِ، وفي بعضٍ: ابن أَبِي حَدْرَد. وهو الصّواب وهو: عبدُ اللهِ بنُ أَبي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيُّ. أَخرجَه الطَّبرانِيُّ، وأَبو الشَّيخ، وابن شاهِين، وأَبو نُعَيمٍ، كُلُّهم مِن حديثِ يَحيَى بنِ أَبي زائدةَ، عن ابن أَبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ، عن أَبيه عن القَعْقاع، عن ابن أَبي حَدْرَدٍ. قال الهَيْثَميُّ: عبدُ اللهُ بنُ أَبي سَعِيدٍ ضَعِيفٌ. وقال العِراقيُّ: ورَواه أَيضًا البَغَوِيُّ، وفيه اختلاف. ورواه ابنُ عَدِيٍّ مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ. والكُلُّ ضَعِيفٌ. وأَوردَه ابنُ الأَثِيرِ، فقال: وفي حديث عُمر: «واخْشَوْشِنُوا» بالنون، كما في الرَّواية المشهورة، وفي بعضها: بالموحَّدةِ. وفي رِواية أُخُرَى: «تَمَعَّزُوا» بالزاي، من المَعْزِ، وهو الشِّدَّةُ والقُوَّةُ.

وقد بَسَطَه ابنُ يَعِيشَ في «شَرْحِ المُفَصَّلِ».

ويقال: تَمَعْدَدَ الغُلامُ، إِذا شَبَّ وغَلُظَ قال الراجِزُ:

رَبَّيْتُه حتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا

وفي «شرح الفصيح» لأَبي جَعفَرٍ: والمُعَيْدِيُّ فيما قالَه أَبو عُبَيْدٍ، حاكِيًا عن الكِسَائيِّ تَصْغِيرُ المَعَدِّيّ، هو رَجُلٌ مَنْسوبٌ إِلى مَعَدٍّ. وكانَ يَرَى التَّشْدِيدَ في الدَّالِ، فيقُولُ: المُعَيِدِّيّ. قال أَبو عُبَيْدٍ: ولم أَسْمَعْ هذا من غَيْرِهِ، قال سيبويه: وإِنَّمَا خُفِّفَت الدَّالُ من المُعَيْدِيّ استثقالًا للتَّشْدِيدَيْنِ؛ أَي هَرَبًا من الجَمْعِ بينَهُمَا مع ياءِ التَّصْغِيرِ. قال سِيبَوَيْهِ: وهو أَكثَرُ في كَلامِهِمْ من تَحْقِيرِ مَعَدِّيٍّ في غيرِ هذا المَثَلِ، يَعْنِي أَنَّهُم يُحَقِّرُونَ هذا الاسمَ إِذا أَرادُوا بِهِ المَثَلَ. قال سيبويه: فإِنْ حَقَّرتَ «مَعدِّيّ، ثَقَّلْتَ الدَّالَ، فقلتَ: مُعَيِدِّيّ.

قال ابنُ التيانِيّ: يعني إِذا كان اسمَ رَجُلٍ ولم تُرِدْ به المَثَلَ، وليس من باب أُسَيْدِيٍّ في شيْ‌ءٍ، لأَنَّه إِنَّمَا حُذِفَ من أُسَيْدِيٍّ، كَرَاهَةَ تَوالِي الياآتِ، والكَسَرَات، فحُذِفَتْ باء مكسورةٌ، وإِنَّمَا حُذِفَتْ من معدِّيّ دالٌ ساكنةٌ لا يا ولا كَسْرةٌ، فعُلِمَ أَن لا عِلَّةَ لِحَذْفِهِ إِلَّا الخِفَّةُ، وأَنَّهُ مَثَلُ، كذا تُكُلِّم به، فوجَبَ حِكَايَتُهُ. وقال ابنُ دُرُسْتَويْهِ: الأَصلُ في المُعَيْدِيّ تشدِيدُ الدَّالِ، لأَنَّه في تقديرِ المُعَيْدِدِيِّ فكُرِهَ إِظهارُ التَّضْعِيفِ، فأُدْغِمَ الدَّالُ الأُولَى في الثانيةِ، ثم استُثْقِلَ تشديدُ الدَّالِ، وتَشْدِيدُ الياءِ بعدَها، فخُفِّفَت الدّالُ، فقيل: المُعَيْدِيّ، وَبَقِيَت الياءُ مُشَدَّدةً. وهكذا قاله أَبو سَعِيدٍ السِّيرافِيُّ، وأَنشدَ قولَ النَّابِغَةِ:

ضَلَّتْ حُلُومُهُمُ عَنْهُمْ وغَرَّهُمُ *** سَنُّ المُعَيْدِيّ في رَعْيٍ وتَغْرِيبِ

وهذا المَثَلُ على ما ذَكره شُرَّاحُ الفَصِيحِ فِيه روايتانِ، وتَتَولَّدُ منهما رِوَايَاتٌ أُخَرُ، كما سيأْتِي بيانُها، إِحداهُما: تَسْمَعُ ـ بضَمّ العينِ، وحذف أَنْ، وهو الأَشْهَرُ، قالَه أَبو عُبَيْدٍ. ومِثْلُه قولُ جَمِيلٍ:

جَزِعْتُ حِذارَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا *** وحَقَّ لمِثْلِي يا بُثَيْنةُ يَجْزَعُ

أَراد: أَن يَجْزَعَ، فلَمَّا حَذَف «أَن» ارتفَع الفِعْلُ، وإِن كانتْ محذوفَةً من اللفظِ فهي مُرادةٌ، حتَّى كأَنَّهَا لم تُحْذَفْ. ويدلّ على ذلك رفعُ تَسْمَعُ بالابتداءِ، على إِرادة أَنْ. ولو لا تقديرُ أَن لم يَجُزْ رفعُه بالابتداءِ.

ورُوِيَ بنصْبِها على إِضمارِ أَن، وهو شاذٌّ يُقتَصر على ما سُمعَ منه، نحو هذا المَثَل، ونحو قولِهم: خُذ اللِّصَّ قبلَ يأْخُذَكَ، بالنصب ونحو: أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرونِّي أعْبُدَ بالنصب في قراءَةٍ.

قال شيخُنا: وكونُ النصبِ بعد أَنْ، محذوفةً، مقصورًا على السَّماع، صَرَّح به ابنُ مالِكٍ في مواضِعَ من مصنَّفاتِه.

والجوازُ مَذهبُ الكوفّيين ومَن وافَقَهُم ـ بالمُعَيْدِيّ قال الميدانيُّ وجماعةٌ: دخَلتْ فيه الباءُ، لأَنه على معنَى تُحَدَّث به، وأَشار الشِّهاب الخَفاجيُّ وغيرُه إِلى أَنَّه غيرُ مُحْتَاجٍ للتأْويلِ، وأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كذلك. وسَمِعْت بكذا، من الأَمرِ المشهورِ. قال شيخُنا، وهو كذلك، كما تَدلُّ له عباراتُ الجُمْهورِ، خَيْرٌ خَبَرُ تَسْمَع. والتقديرُ أَن تَسمعَ أَو سماعُكَ بالمُعَيْدِيِّ أَعظم مِن أَن تراهُ؛ أَي خَبَرُهُ أَعظمُ من رُؤْيتِهِ.

قال أَبو جَعْفَرٍ الفِهْريُّ: وليس فيه إِسنادٌ إِلى الفِعْلِ الذي هو تَسْمع، كما ظَنَّه بعضُهم. وقال: قد جاءَ الإِسنادُ إِلى الفِعْل. واستَدلَّ على ذلك بهذا المَثَلِ. وبقوله تبارَكَ وتعالَى: {وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} وقول الشاعر:

وحَقَّ لِمِثْلي يا بُثَيْنَةُ يَجْزَعُ

قال: فالفعْلُ في كُلّ هذا مبتدأٌ، مسنَدٌ إِليه، أَو مفعولٌ مسنَدٌ إِليه الفعل الذي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه.

وما قاله هذا القائِلُ فاسِدٌ، لأَن الفِعْلَ في كلامِهم إِنَّما وُضِعَ للإِخْبارِ بِه لا عنه. وما ذكرهَ يُمكِن أَن يُرَدَّ إِلى الأَصْلِ الّذِي هو الإِخبارُ عن الاسْمِ، بأَن تُقَدَّر في الكلامِ أَن محذُوفَةً للعِلْم بها، فتقديرُ ذلك كُلِّه: أَن تَسْمَعَ بالمُعِيدِيِّ خَيْرٌ من أَن تَرَاه. ومِن آيَاتِه أَن يُريَكُم البَرْقَ. وحَقَّ لِمِثْلِي أَن يَجْزَعَ. وأَنْ وما بعدَهَا في تَأْويل اسمٍ، فيكون ذلك إِذا تُؤُوِّلَ على هذا الوَجْه، من الإِخبارِ عن الاسمِ، لا من الإِخبار عن الفِعْلِ. كذا في شرح شيخِنا.

قال أَبو جعفر: ورُوِيَ «مِن عَنْ تَرَاه» قاله الفرّاءُ في المصادر، يعني أَنّه ورد بإِبدال الهمزةِ في أَنْ عينًا، فقيل «عن» بدل «أَن»، وهي لغةٌ مشهورةٌ، كما جَزَمَ به الجماهِيرُ.

أَو المَثَلُ: «تَسْمَعُ بالمُعَيْديِّ لا أَنْ تَرَاهُ» بتجرِيدِ تَسمعُ، من «أَنْ» مرفوعًا على القياسِ، ومنصوبًا على تَقديرها وإِثبات لا العاطِفةِ النافيةِ وأَنْ، قبْلَ: تراه. وهي الرِّواية الثّانِية. وقد صحَّحها كثيرُون.

ونقَل أَبو جَعفرٍ عن الفَرَّاءِ قال: وهي في بَني أَسَدٍ، وهي التي يَختارُها الفصحاءُ.

وقال ابنُ هشامٍ اللَّخْمِيُّ: وأَكثرُهم يقول: لا أَنْ تراه.

وكذلك قاله ابن السِّكِّيت.

قال الفَرَّاءُ: وقَيْسٌ تقول: «لأَنْ تَسمعَ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أَن تَراه» وهكذا في «الفصيح».

قال التّدْمريُّ فاللّام هنا لامُ الابتداءِ، وأَن مع الفِعْلِ بتأْوِيلِ المصدر، في موضعِ رَفْعٍ بالابتداءِ. والتقديرُ: لسَمَاعُكَ بالمُعيدِيِّ خيرٌ من رُؤيَتِهِ فسَمَاعُكَ: مبتدأٌ.

وخيرٌ: خَبَرٌ عنه. وأَن تراه: في موضعِ خَفْضٍ بِمِنْ. قال: وفي الخَبَرِ ضميرٌ يعُود على المصدرِ الذي دَلَّ عليه الفِعْلُ، وهو المبتدأٌ، كما قالوا: مَن كَذَب كَان شَراًّ له.

يُضْرَبُ فيمَنْ شُهِرَ وذُكِرَ وله صِيتٌ في الناس وتُزْدَرَى مَرْآتُهُ؛ أَي يُسْتَقْبَحُ مَنْظَرُه لِدَمَامَتِهِ وحقَارَتِهِ. أَو تأْوِيلُهُ أَمْرٌ، قال ابنُ السِّكِّيت؛ أَي اسْمَعْ به ولا تَرَهُ.

وهذا المَثَلُ أَوردَهُ أَهلُ الأَمثال قاطِبَةً: أَبو عُبَيْدٍ أَوَّلًا.

والمُتَأخِّرُون كالزَّمَخْشَرِيِّ، والمَيْدانِي. وأَورده أَبو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ في «الفَصِيح» بروايَتَيْهِ. وبَسطه شُرَّاحُه. وزادوا فيه.

قال سيِبيوْيه: يُضْرَب المَثَلُ لمن تَراه حَقِيرًا، وقَدْرُه خَطِيرٌ. وخَبَرُه أَجَلُّ مِن خُبْرِه.

وأَوّلُ مَن قَالَه النُّعْمَانُ بن المُنذِرُ أَو المُنذِرِ بنُ ماءِ السماءِ.

والمُعَيْديُّ رجُلٌ من بني فِهْرٍ، أَو كِنانةَ، واختُلِفَ في اسمِهِ: هل هو صَقْعَب بن عَمْرٍو، أَو شِقَّة بن ضَمْرةَ، أَو ضَمْرَة التَّمِيمِيّ، وكان صَغِيرَ الجُثَّةِ، عَظِيم الهَيْئةِ. ولَمَّا قِيل له ذلك، قال: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، إِنَّ الرجالَ ليسُوا بجُزُرٍ، يُرَادُ بها الأَجسام، وإِنَّما المرءُ بأَصْغَرَيْهِ. ومثله قال ابن التّيانيّ تبعًا لصاحب «العَيْن» وأَبو عُبَيْدٍ عن ابن الكَلْبِيِّ والمفضَّل. وفي بعضِها زيادات على بعض.

وفي رواية المفضَّل: فقال له شِقَّة: أَبيتَ اللَّعن: إِنَّمَا المرءُ بِأَصْغَرَيْهِ: لسانِهِ وقَلْبِهِ، إِذا نَطَق نَطَق ببَيَان، وإِذا قاتَلَ قاتل بِجَنان. فعَظُم في عَيْنِه، وأَجزل عَطِيَّتَه. وسَمَّاه باسمِ أَبِيه، فقال له: أَنتَ ضَمْرةُ بنُ ضَمْرَةَ. وأَورده العلَّامة أَبو عليٍّ اليوسيّ في «زَهر الأَكم» بأَبْسَطَ من هذا، وأَوضَحَ الكلامَ فيه. وفيه: أَن هذا المثلَ أَولَ ما قِيلَ، لخَيْثَم بنِ عَمْرٍو النَّهْديّ، المعروفِ، بالصّقعَب الذي ضُرِب به المثَلُ فقيل: «أَقْتَلُ مِن صَيْحَةِ الصَّقْعَب» زعَمُوا أَنَّه صاحَ في بَطْنِ أُمِّه، وأَنّه صاحَ بقَوْمٍ فهَلَكُوا عن آخِرِهم.

وقيل: المَثُل للنُّعْمَانِ بن ماءِ السماءِ، قاله لشِقَّة بن ضَمْرة التّميميّ. وفيه: فقال شِقّة: أَيُّها المِلكُ إِنَّ الرَّجالَ لا تُكال بالقُفْزَان، ولا تُوزَن بالمِيزَان. وليست بمُسوك ليُسْتقَى فيها الماءُ. وإِنَّما المرءُ بأَصْغَرَيْه: قَلْبِه ولِسَانِه، إِن قال قال بِبَيان، وإِن صالَ صالَ بجَنان: فأَعْجَبَهُ ما سَمِعَ منه. قال أَنت ضَمْرَةُ بنُ ضَمْرَةَ.

قال شيخُنا: قالوا: لم يَرَ الناسُ من زَمَنِ المُعَيْدِيِّ إِلى زَمَنِ الجَاحِظِ أَقبَحَ منه، ولم يُرَ من زَمنِ الجاحِظِ إِلى زَمَنِ الحَرِيريِّ أَقْبَحُ منه.

وفي «وفَيات الأَعيان» لابنِ خلِّكان أَن أَبا محمدٍ القاسِمَ بنَ عليّ الحريريَّ، رحمه ‌الله، جاءَه إِنسان يَزُوره ويأْخُذُ عنه شيئًا من الأَدب، وكان الحَرِيريُّ دَميم الخِلْقة جِدًّا فلَمَّا رآه الرّجُل استنزرَى خِلْقَتَه، ففَهِمَ الحريريُّ ذلك منه، فَلَمَّا طلبَ الرَّجُل من الحريريِّ أَن يُمْلِيَ عليه شيئًا من الأَدب، قال له: اكتُب:

ما أَنْتَ أَولُ سارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ *** ورائدٍ أَعجبتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ

فاخْتَرْ لنفسِكَ غيرِي إِنَّني رَجُلٌ *** مِثْلُ المُعَيْدِيِّ فاسمَعْ بِي ولا تَرَبِي

وزاد غيرُ ابنِ خلّكان في هذه القصّةِ أَن الرجلَ قال:

كانَتْ مُساءَلَةُ الرُّكْبَانِ تُخْبِرُنا *** عَنْ قاسِمِ بنِ عَلِيٍّ أَطيَبَ الخَبَرِ

حتَّى الْتَقَيْنَا فلا والله ما سَمِعتْ *** أُذْنِي بأَحْسَنَ مِمَّا قد رَأَى بَصَرِي

وذُو مَعَدِّيِّ بْنُ بَرِيمٍ كَكَرِيم، ابن مَرْثَد، قَيْلٌ من أَقْيَالِ اليَمن.

والعِدَادُ، بالكسر: العَطَاءُ، ويومُ العِدَادِ: يوم العَطَاءِ، قال عُتْبَة بن الوَعْلِ:

وقائلةٍ يومَ العِدَادِ لِبَعْلِها *** أَرى عُتْبةَ بن الوَعْلِ بَعدِي تَغَيَّرَا

ويقال: بالرَّجل عِدَادٌ؛ أَي مَسٌّ مِن جُنُونٍ، وقيَّدَه الأَزْهَرِيُّ فقال هو شِبْهُ الجُنونِ يأْخذ الإِنسانَ في أَوقاتٍ مَعلومةٍ.

والعِدَادُ: المُشَاهَدَةُ ووَقْتُ المَوْتِ قال أَبو كَبيرٍ الهُذَلِيُّ:

هَلْ أَنْتِ عارِفَةُ العِدَادِ فتُقْصِرِي *** أَم هَلْ أَراحَكِ مَرَّةً أَن تَسْهَرِي

معناه: هل تَعرفين وَقْتَ وفاتِي.

وقال ابن السِّكِّيتِ: إِذا كَانَ لأَهْلِ المَيِّتِ يومٌ أَو ليلةٌ يُجتمع فيه للنِّياحة عليه، فهو عِدادٌ لهم.

والعِدَاد مِن القَوْسِ: رَنِينُهَا وهو صَوتُ الوَتَرِ، قال صَخْرُ الغَيِّ:

وسَمْحَةٌ من قِسِيِّ زارةَ حَم *** راءُ هَتُوفٌ عِدَادُها غَرِدُ

كالعَدِيدِ، كأَمير.

والعِدَاد: اهْتِيَاجُ وَجَعِ اللَّدِيغِ بَعْدَ تَمَام سَنَةٍ، فإِذا تَمَّت له مُذْ يَوْمَ لُدِغَ هَاجَ به الأَلمُ، كالعِدَدِ، كَعِنَبٍ مقصورٌ منه. وقد جاءَ ذلك في ضرورةِ الشِّعْر. ويقال: بِه مَرضٌ عِدادٌ، وهو أَن يَدَعَه زَمانًا، ثم يُعَاوِدَه، وقد عادَّه مُعَادَّة وعِدَادًا. وكذلك السَّلِيمُ والمَجْنُونُ، كأَنَّ اشتقاقَه من الحِسَاب، من قِبَلِ عَدَدِ الشُّهُورِ والأَيَّامِ، ويقال: عادَّتْهُ اللَّسْعَةُ مُعَادَّةً، إِذا أَتَتْهُ لِعِدادٍ، ومنه الحديثُ المشهور: «ما زالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادُّنِي، فهذا أَوانَ قَطَعَتْ أَبْهَرِي» أَي يُرَاجِعُني ويُعَاوِدُني أَلَمُ سمِّهَا في أَوقاتٍ مَعْلُومة، وقال الشاعر:

يُلاقِي مِنْ تَذَكُّرِ آلِ سَلْمَى *** كما يَلْقَى السَّلِيمُ من العِدَادِ

وقيل: عِدَادُ السَّلِيم أَن تَعُدَّ له سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فإِن مَضَتْ رَجَوْا له البُرْءَ، وما لم تَمْضِ قيل: هو في عِدَادِه. ومعنى الحديث: تُعادُّنِي: تُؤْذِيني وتُراجِعُنِي [ويعاودُني أَلم سُمِّها]، في أَوقاتٍ معلومةٍ كما قال النابِغةُ في حَيَّةٍ لدَغت رَجُلًا:

تُطَلِّقُهُ حِينًا وحِينًا تُرَاجِعُ

ويقال: به عِدَادٌ من أَلمٍ؛ أَي يُعَاوِدُه في أَوقاتٍ مَعْلُومةٍ.

وعِدَادُ الحُمَّي: وَقْتُها المعروفُ الَّذي لا يَكاد يُخْطِئُه. وعَمَّ بعضُهم بالعِدَادِ فقال: هو الشْي‌ءُ يأْتِيك لِوَقْتِهِ مثْل الحُمَّى الغِبِّ والرِّبْعٍ وكذلك السّمُّ الَّذي يَقْتُلُ لِوَقْتِهِ، وأَصْله من العَدَدِ، كما تقدَّم.

وقال ابنُ شُمَيل: يقال: أَتيتُ فُلانًا في يَوم عِدادٍ؛ أَي يَوْم جُمْعَةٍ أَو فِطْرٍ أَو أَضْحَى.

ويقال: عِدَادُه في بَنِي فُلانٍ؛ أَي يُعَدُّ منهم ومعَهم في الدِّيوانِ، وفلانٌ في عِدَادِ أَهْلِ الخَيْرِ؛ أَي يُعَدُّ منهم.

والعرب تقول: لَقِيتُهُ عِدَادَ الثُّرَيَّا القَمَرَ؛ أَي مرّةً في الشَّهْرِ وما يأْتِينا فلانٌ إِلَّا عِدَادَ الثُّريَّا القَمَرَ وإِلَّا قِرَانَ القَمَرِ الثُّرَيَّا. أَي ما يأْتِينا في السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً واحدةً، أَنشدَ أَبو الهَيْثَم، لأُسَيْد بن الحُلَاحِلِ:

إِذَا ما قَارَنَ القَمَرُ الثُّرَيّا *** لِثَالِثَةٍ فقد ذَهَب الشِّتَاءُ

قال أَبو الهَيْثَم: وإِنَّمَا يُقَارِنُ القَمرُ الثُّريَّا لَيْلَةً ثالثةً من الهِلال، وذلك أَوَّلَ الرَّبِيعِ وآخِرَ الشِّتَاءِ. ويقال: ما أَلْقَاه إِلّا عِدَّةَ الثُّرَيّا القَمَرَ، وإِلّا عِدَادَ الثُّريَّا القَمَرَ وإِلَّا عِدادَ الثُّريَّا من القَمَرِ؛ أَي إِلَّا مَرَّةً في السَّنة. وقيل: في عِدَّةِ نُزُولِ القَمَرِ الثُّرَيَّا. وقيل: هي ليلةٌ في كلِّ شَهرٍ يلتقِي فيه الثريّا والقمرُ.

وفي الصّحاح: وذلك أَن القَمَرَ يَنزِل الثُّريَّا في كلِّ شَهْرٍ مرَّةً. قال ابن بَرِّيٍّ: صوابُه أَن يقول: لأَنَّ القَمَر يُقَارِنُ الثُّريَّا في كلِّ سَنَةٍ مَرَّةً. وذلك في خَمْسَةِ أَيّامٍ من آذار، وعلى ذلك قوْل أُسَيْدِ بن الحُلاحِل:

إِذا ما قَارَنَ القَمَرُ الثُّرَيّا

البَيْت. وقال كُثَيِّر:

فدَعْ عنك سُعْدَى إِنّما تُسْعِفُ النَّوَى *** قِرَانَ الثُّرَيَّا مَرّةً ثم تَأْفُلُ

قال ابن منظور: رأَيتُ بخطّ القاضي شمُسِ الدين أَحمد بن خلكّان: هذا الذي استدركه الشيخُ على الجوهريِّ لا يَرِدُ عليه، لأَنه قال: إِن القَمَرَ يَنْزِل الثُّريَّا في كلِّ شَهْرٍ مرَّةً.

وهذا كلامٌ صحيحٌ، لأَن القَمَرَ يَقطَع الفَلَكَ في كل شهرٍ مرَّةً، ويكون كلَّ لَيلَةٍ في مَنْزِلةٍ، والثُّريَّا من جُمْلَة المَنَازِل، فيكون القَمَرُ فيها في الشَّهْر مرَّةً: ويقالُ: فُلانٌ إِنّما يأْتِي أَهْلَهُ العِدَّةَ؛ أَي في الشَّهْر والشَّهْرَينِ وما تعرَّض الجوهريُّ للمقارَنةِ حتَّى يقولَ الشيخُ: صَوابُه كذا وكذا.

والعَدْعَدَةُ: العَجَلَةُ والسُّرْعَةُ، عن ابن الأَعرابيِّ.

وعَدْعَدَ في المَشْيِ وغَيْرِه عَدْعَدَةً: أَسرَعَ.

والعَدْعَدةُ: صَوْتُ القَطَا، عن أَبي عُبَيْدٍ. قال: وكأَنَّهَا حِكايةٌ.

وعَدْعَدْ: زَجْرٌ للبَغْلِ، قاله أَبو زيدٍ، قال وعَدَسْ مثلُه.

وعَدِيدٌ كأَمِيرٍ: ماءٌ لِعَمِيرَةَ، كسَفِينةٍ، بطْن من كَلْب.

والعُدُّ والعُدَّةُ بضمِّهما بَثْرٌ يكون في الوَجْه، عن ابن جِنِّي، وقيل: هما بَثْرٌ يَخْرُج في، وفي بعض النُّسخ: علي وُجُوهِ المِلَاحِ، يقال: قد اسْتَمْكَتَ العُدُّ فاقْبَحْهُ؛ أَي ابيضَّ رأْسُه فاكْسِره هكذا فَسَّروه.

* ومما يُستدرك عليه:

حكى اللِّحْيَانيُّ عن العرب: عَدَدتُ الدَّراهِمَ أَفرادًا ووِحَادًا، وأَعْددتُ الدَّرَاهِمَ أَفرادًا ووِحَادًا، ثم قال: لا أَدري، أَمن العَدَدِ أَم من العُدَّةِ. فشَكُّه في ذلك يَدُلُّ على أَن أَعددْت لُغَةٌ في عَدَدْتُ، ولا أَعرفها.

وعَدَدْتُ: من الأَفعالِ المتعدِّيَة إِلى مَفْعُولَيْنِ بعدَ اعتِقادِ حذفِ الوَسِيط، يقولون: عَدَدْتُكَ المالَ، وعَدَدْت لكَ المالَ. قال الفارسيّ: عددتُكَ وعَددْت لك، ولم يَذكر المالَ.

وعادَّهم الشْي‌ءُ: تَساهَمُوه بينهم فسَاوَاهُم، وهم يَتعادُّون، إِذا اشتَرَكُوَا فيما يُعادُّ فيه بعضُهم بعضًا من مَكارِمَ أَو غيرِ ذلك من الأَشياءِ كُلِّهَا.

والعَدَائِدُ: المَالُ المُقْتَسمُ والميراثُ.

وقول أَبي دُوَادٍ في صِفَة فَرَسٍ:

وطِمِرَّةٍ كهِرَاوةِ الأَعْ *** زَابِ ليسَ لها عَدائِدْ

فسَّره ثَعلبٌ فقال: شَبَّهها بعصَا المُسَافِرِ، لأَنها مَلْساءُ، فكأَنَّ العَدائِدَ هنا العُقَدُ، وإِن كان هو لم يُفَسِّرها.

وقال الأَزهريُّ: معناه ليس لها نَظائِرُ.

وعن أَبي زيدٍ: يقال انقضَتْ عِدَّةُ الرَّجُلِ، إِذا انقضَى أَجَلُه، وجمعُهَا: العِدَدُ. ومثْله: انقضتْ مُدَّتُه. وجَمْعها المُدَدُ.

وإِعْدَادُ الشيْ‌ءِ، واعتِدادُه، واسْتِعْدَاده، وتَعْداده: إِحضارُه.

والعُدَّةُ، بالضّمِّ: ما أَعددْتَه لحوادِثِ الدَّهْرِ، من المال والسِّلاحِ، يقال: أَخَذَ للأَمْرِ عُدَّتَه وعَتادَه، بمعنًى، كالأَهْبة، قاله الأَخْفشُ.

وقال ابن دُرَيد: العُدَّة من السِّلاحِ ما اعتَدَدْته، خَصَّ بِهِ السِّلاح لفظًا، فلا أَدرِي: أَخَصَّه في المَعْنَى أَم لا.

والعِدَادُ، بالكسر: يومُ العَرْضِ، وأَنشد شَمِرٌ، لجَهْم بن سَبَل:

مِنَ البِيضِ العَقَائِلِ لم يُقَصِّرْ *** بِهَا الآباءُ في يومِ العِدَادِ

قال شَمِر: أَراد يومَ الفَخارِ ومُعادَّةِ بعضِهِم بعضًا.

والعِدَّانُ: جمع عَتُودٍ. وقد تقدَّم.

وتَمَعْدَدَ الرجلُ: تَباعَدَ وذَهَبَ في الأَرضِ، قال مَعْنُ بنُ أَوْسٍ:

قِفَا إِنَّها أَمْسَتْ قِفارًا ومَنْ بِها *** وإِن كانَ مِن ذِي وُدِّنَا قَدْ تَمَعْدَدا

وهو من قولهم: مَعَدَ في الأَرضِ، إِذا أَبْعَدَ في الذَّهابِ. وسيذكر في فصل: مَعَدَ مستوفًى.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


48-تاج العروس (لقط)

[لقط]: لَقَطَهُ يَلْقُطُه لَقْطًا: أَخَذَهُ مِنَ الأَرضِ، فهو مَلْقُوطٌ ولَقِيطٌ.

ومِنَ المَجَازِ: لَقَطَ الثَّوْبَ يَلْقُطُه لَقْطًا: رَقَعَهُ، عن الكِسَائيِّ. وقال الفَرّاءُ: لَقَطَ الثَّوْبَ، إِذا رَفَأَهُ مُقَارِبًا.

وثَوْبٌ لَقِيطٌ: مَرْفُوءٌ، ويُقَالُ: الْقُطْ ثَوْبَك؛ أَي ارْفَأْهُ، وكذلِك: نَمِّلْ ثَوْبَك.

وقالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: الّلاقِطُ: الرَّفّاءُ، وهو مَجازٌ.

ومن المَجَازِ أَيْضًا: كُلُّ عَبْدٍ أُعْتِقَ فهو لَاقِطٌ، والماقِطُ:

عَبْدُه أَي عَبْدُ الّلاقِطِ، والسّاقِطُ: عَبْدُه؛ أَي عَبْدُ الماقِطِ، ومنه قولُهُم: هو ساقِطُ بنُ ماقِطِ بنِ لاقِطٍ وقد أَشَرْنَا إِلى ذلِك في «س ق ط».

واللُّقَاطَةُ، بالضَّمِّ: ما كَانَ سَاقِطًا مِمَّا لا قِيمَةَ له من الشَّيْ‌ءِ التّافِهِ، ومن شَاءَ أَخَذَه.

واللَّقَاطُ، كسَحَابٍ: السُّنْبُلُ الذي تُخْطِئُه المَنَاجِلُ يَلْتَقِطُه النّاسُ، حكاهُ أَبو حَنِيفَةَ. واللِّقَاطُ، بالكَسْرِ: اسمُ ذلِكَ الفِعْلِ، كالحَصَادِ والحِصادِ.

ومن المَجَازِ: يُقَال في النِّدَاءِ خَاصّةً: يا مَلْقَطَانُ، كَأَنَّهُم أَرادُوا يا لاقِطُ. وفي الأَسَاسِ: أَي يا أَحْمَقُ، وهي بهاءٍ، وفي التَّهْذِيبِ: تَقُولُ: يا مَلْقَطَانُ، تَعْنِي به الفَسْلَ الأَحْمَقَ.

واللَّقَطُ، مُحَرَّكَةً: ما الْتُقِطَ من الشَّيْ‌ءِ، وكُلُّ نُثَارَةٍ من سُنْبُلٍ أَو ثَمَرٍ: لَقَطٌ، والوَاحِدَةُ لَقَطَةٌ.

واللَّقَطَة كحُزْمَةٍ؛ أَي بالضَّمِّ، عن اللَّيْثِ، وقال غَيْرُه: هي اللُّقَطَةُ، مثالُ هُمَزَةٍ، واللُّقَاطَةُ، مثلُ ثُمَامَةٍ: ما الْتُقِطَ من الشَّيْ‌ءِ، ولُقَاطَةُ النَّخْلِ: ما الْتُقِطَ من كَرَبِه بعد الصِّرامِ. قالَ اللَّيْثُ: اللُّقْطَةُ، بتَسْكِينِ القافِ: اسمُ الذِي تَجِدُه مُلْقًى فتَأْخُذُه، وكذلِكَ المَنْبُوذُ من الصِّبْيان: لُقْطَةٌ، وأَما اللُّقَطَةُ، بفَتْح القافِ، فهُوَ: الرَّجُل اللَّقَّاطُ يَتَتَبَّعُ اللُّقْطَاتِ يَلْتَقِطُها. وقال الأزْهَرِيُّ: وكلامُ العَرَبِ الفُصحَاءِ على غَيْرِ ما قَال اللَّيْثُ في اللُّقْطَةِ واللُّقَطَةِ، وَرَوَى أَبو عُبَيْد عن الأَصْمَعِيِّ والأَحْمَرِ، قالا: هي اللُّقَطَةُ، والقُصَعَةُ، والنُّفَقَةُ، مُثَقَّلاتٌ كلُّهَا [لما يُلتقطُ من الشي‌ءِ السَّاقِطِ]، قال: وهذا قَوْلُ حُذّاقِ النَّحْوِيِّينَ [و] لم أَسْمَعْ «لُقْطَة» لغَيْرِ اللَّيْثِ، وهكَذَا رَوَاهُ المُحَدِّثُونَ عن أَبِي عُبَيْد، قال: ورَوَاهُ الفَرّاءُ أَيْضًا «اللُّقْطَةُ»، بالتَّسْكِينِ، وقولُ الأَحْمَرِ والأَصْمَعِيِّ أَصْوَبُ.

قال: وأَمّا الصَّبِيُّ المَنْبُوذُ يجِدُه إِنْسَانٌ فهو اللَّقِيطُ عِنْدَ العَرَبِ، لا كما زَعَمَه اللَّيْثُ، وهو المَوْلُودُ الذي يُنْبَذُ على الطُّرُقِ، أَو يُوجَد مَرْمِيًّا على الطُّرُق لا يُعْرَفُ أَبُوه ولا أُمُّه، فَعِيلٌ بمعنَى مَفْعُولٍ، كالمَلْقُوطِ، ومنه‌ الحَدِيثُ: «المَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَها ولَقِيطَها ووَلَدَهَا الَّذِي لاعَنَتْ عنه» ‌وهو في قَوْلِ عامَّةِ الفُقَهَاءِ حُرٌّ، لا وَلَاءَ عليهِ لأَحَدٍ، ولا يَرِثُه مُلْتَقِطُه، وذَهَبَ بعضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ العَمَلَ بهذا الحَدِيثِ علَى ضَعْفِه عندَ أَكْثَرِ أَهْلِ النَّقْلِ. قلتُ: وما ردَّ به الأَزْهَرِيُّ على الَّليْثِ قولَه فإِنَّ ابْنَ بَرِّيّ قد صَوَّبَه واسْتَحْسَنَه، وقال: لأَن الفُعْلَةَ للمَفْعُولِ كالضُّحْكَةِ والفُعَلَةَ للفاعِل، كالضُّحَكَةِ، قال: ويَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذلِكَ قَوْلُ الكُمَيْتِ.

أَلُقْطَةَ هُدْهُدٍ وجُنُودَ أُنْثَى *** مُبَرْشِمَةً، أَلَحْمِي تَأْكُلُونا؟

لُقْطَةَ: مُنَادَى مضافٌ، وكذلِك جُنُودَ أُنْثَى، وجَعَلَهم بذلِك النهايَةَ في الدناءَةِ؛ لأن الهُدْهُدَ يَأْكُلُ العَذِرَةَ، وجَعَلَهُم يَدِينُون لامْرَأَةٍ، ومُبَرْشِمَةً: حالٌ من المُنادَى.

والبَرْشَمَةُ: إِدامةُ النظَرِ، وذلِكَ من شِدَّةِ الغَيْظِ، وكذلِك التُّخْمَةُ، بالسُّكُونِ، وهو الصحيحُ. والتُّخَمَةُ بالتَّحْرِيكِ نادِرٌ كما أَن اللُّقَطَةَ، بالتَّحْرِيكِ نادرٌ. انتهى، فتَأَملْ.

وفي الحَدِيث: «لا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاّ لِمُنْشِدٍ» ‌قال ابنُ الأَثِيرِ: وقد تَكَرّرَ ذِكْرُهَا في الحَدِيثِ، وهي بضَمِّ الّلامِ وفَتْحِ القافِ: اسمُ المالِ المَلْقُوطِ؛ أَي المَوْجودُ. وقال بَعْضُهم: هي اسمُ المُلْتَقِطِ، كالضُحَكَةِ والهُمَزَة، وأَمّا المالُ المَلْقُوطُ فهو بسُكُونِ القافِ. قال: والأَوّلُ أَكثرُ وأَصَحُّ.

والَّلقِيطُ: بِئْرٌ الْتُقِطَتْ الْتِقَاطًا؛ أَي وُقِعَ عليهَا بَغْتَةً من غَيْرِ طَلَبٍ، عن الليْثِ، وفِعْلُه الالْتِقَاطُ.

ولَقِيطٌ هو النُّعْمَانُ بنُ عَصَرِ بنِ الرَّبِيعِ بنِ الحارِثِ البَلَوِيُّ حَلِيفُ الأَنْصَارِ، عَقَبِيٌّ بَدْرِيُّ، وفي أَبِيه اخْتِلافٌ كَبِيرٌ، قُتِلَ لَقِيطٌ يومَ اليَمَامَةِ.

ولَقِيطُ بنُ الرَّبِيعِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ عَبْدِ شَمْسٍ العَبْشَمِيُّ، صِهْرُ رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، أُسِرَ يومَ بَدْرٍ، وهو ابنُ أُخْتِ خَدِيجَةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ، وكُنْيَتُه أَبو العاصِ، مَشْهُورٌ بها.

وقِيلَ: بل اسْمُه مُهَشِّمُ، وقيلَ: هُشَيْمٌ، وقيلَ: قاسِمٌ.

ولَقِيطٌ أَصَحُّ.

ولَقِيطُ بنُ صَبْرَةَ وَالِدُ عاصِمٍ: حِجَازَيٌّ، وهو وَافِدُ بني المُنْتَفِقِ، له فِي الوُضُوءِ.

ولَقِيطُ بنُ عامِرِ بنِ المُنْتَفِقِ بنِ عامِرٍ بنِ عُقَيْلٍ العامِرِيُّ العُقَيْلِيُّ، أَبو رَزِينٍ، وقال البُخَارِيُّ: هو لَقِيطُ بنُ صَبْرَةً الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُه، وفرَّقَ بينَهُمَا مُسْلِمُ.

ولَقِيطُ بنُ عَدِيٍّ اللَّخْمِيُّ، كان على كَمِينِ عَمْرِو بنِ العاصِ وَقْتَ فتحِ مِصْرَ.

ولَقِيطُ بنُ عَبّادِ بنِ نُجَيْدٍ السَّامِيُّ، له وِفَادَةٌ، ذَكَره ابنُ ماكُولا: صَحَابِيُّون رَضِيَ اللهُ عَنْهم.

وفاتَهُ:

لَقِيطُ بنُ أَرْطاةَ السَّكُونِيُّ: شامِيٌّ، روَى عنه عَبْدُ الرّحْمنِ بنُ عائِذٍ.

ولَقِيطُ بنُ عَبْدِ القَيْسِ الفَزَارِيُّ حَلِيفُ الأَنْصَارِ، قال سَيْفٌ: كان أَمِيرًا على كُرْدُوسٍ يَوْمَ اليَرْمُوكِ.

وأَبو لَقِيطٍ: من مَوالِي رَسُول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، كان نُوبِيًّا، أَو حَبَشِيًّا، مات زَمَنَ عُمَر.

واللَّقِيطَة بهَاءٍ: الرَّجُلُ المَهِينُ الرَّذْلُ السّاقِطُ. وكَذَا المَرْأَةُ، قالَهُ اللَّيْثُ، وهو مَجَازٌ، تَقُول: إِنَّه لَسَقِيطٌ لَقِيطٌ، وإِنَّهَا لَسَقِيطَةٌ لَقِيطَةٌ، وإِذا أَفْرَدُوا للرَّجُلِ قالُوا: إِنَّهُ لسَقِيطٌ.

وبَنُو اللَّقِيطَةِ: سُمُّوا بها، وفي الصّحاحِ: بذلِكَ، لأَنَّ أُمَّهَمُ زَعَمُوا الْتَقَطَهَا حُذَيْفَةُ بنُ بَدْرٍ؛ أَي الفَزَارِيُّ في جَوَارٍ‌ قد أَضَرَّتْ بهِنَّ السَّنَةُ، فأعجَبَتْه فضَمَّها إِليه، فخَطَبَها إِلى أَبِيهَا وتَزَوَّجَها، إِلى هُنَا نَصُّ الصّحاحِ، قال الصّاغَانِيُّ: وهي بِنْتُ عُصْمِ بنِ مَرْوَانَ بنِ وَهْبٍ، وهِيَ أُمُّ حِصْنِ بنِ حُذَيْفَةَ، وفي دِيوَانِ حَسّانَ رَضِيَ اللهُ عنه:

هَلْ سَرَّ أَوْلادَ اللَّقِيطَةِ أَنَنا *** سَلْمٌ غَدَاةَ فَوَارِسِ المِقْدَادِ

وأَوّلُ أَبْيَاتِ الحَمَاسَةِ اختِيَارُ أَبي تَمّامٍ حَبِيبِ بنِ أَوْسٍ الطائيِّ مُحَرَّفٌ، وهو قولُ بعضِ شُعَرَاءِ بَلْعَنْبرَ. قلتُ، هو قُرَيْطُ بنُ أُنَيْفٍ:

لَوْ كُنتُ من مازِنٍ لم تَسْتَبِح إِبِليِ *** بَنُو اللَّقِيطَةِ من ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا

وهي ثَمانِيَةُ أَبياتٍ، كذا هو في سائِرِ نُسَخِها، والرِّوَايَةُ: «بنُو الشَّقِيقَةِ» وهي بِنْتُ عَبَّادِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ ذُهْلِ بنِ شَيَبانَ، هكذا حَقَّقه الصاغَانِيُّ في العُبَابِ، ويَأْتِي في القافِ قلتُ: ورواهُ أَبو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بنُ عليِّ بنِ أَبِي الصَّقْرِ الواسِطِيُّ عن أَبِي الحَسَنِ الخَيْشِيِّ النَّحْوِيِّ «بنو اللَّقِيطَةِ» كما هو المَشْهُورُ.

والمِلْقاطُ، بالكسرِ: القَلَمُ قال شَمِرٌ: سَمِعْتُ حِمْيَرِيّةً تَقُولُ ـ لكَلِمَةٍ أَعَدْتُها عَليْهَا: لقد لَقَطْتُها بالمِلْقَاطِ؛ أَي كتَبْتُها بالقَلَمِ.

والمِلْقَاطُ: المِنْقَاشُ الّذِي يُلْقَطُ به الشَّعرُ.

والمِلْقَاطُ: العَنْكَبُوتُ، والجَمْعُ: مَلاقِيطُ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن بَعْضِهم.

والمِلْقَط، كمِنْبَرٍ: ما يُلْقَطُ به، كالمِلْقاط الّذِي تقدّمَّ ذِكْرُه. وفي الجَمْهَرَةِ: ما يُلْقَطُ فِيه.

وبَنُو مِلْقِطٍ: حيٌّ من العَرَبِ، ذَكَرَهُ ابنُ دُرَيْدٍ، وأَنْشَدَ لِعَلْقَمَةَ بنِ عَبَدَةَ:

أَصْبْنَ بن الطَّريفِ بنِ مالِكٍ *** وكانَ شِفاءً لو أَصَبْنَ المَلاقِطا

قلتُ: وهُمْ بَنُو مِلْقَطِ بنِ عَمْرِو بنِ ثَعْلبَةَ بنِ عَوْفِ بنِ وَائِلِ بنِ ثَعْلبَةَ بنِ رُومانَ، من طيِّ‌ءٍ، من وَلَدِه الأَسَدُ الرَّهِيصُ الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُه في «رهص» وقال ابنُ هَرْمَةَ:

كالدُّهْمِ والنَّعَمِ الهِجَانِ يَحُوزُهَا *** رَجُلانِ من نَبْهانَ أَو مِنْ مِلْقَطِ

ومن المَجَازِ: الْتَقَطَه: عَثَرَ عليهِ من غَيْرِ طَلَب. ومنه‌ الحديِثُ: «أَنَّ رَجُلًا من تَمِيمٍ الْتَقَطَ شَبكَةً فطَلَبَ أَنْ يَجْعَلَها له». الشَّبَكَةُ: الآبارُ القَرِيبَةُ من الماءِ، والْتَقَط الكَلأَ كذلِكَ.

وتَلَقَّطَه؛ أَي التَمْرَ، كما في الصّحاح: الْتَقَطَ من هاهُنا وهاهُنا.

وقال اللِّحْيَانِيُّ: يقالُ: دَارُه بلِقَاطِ دَارِي، بالكسرِ أَي بحِذائها وكذلك بطِوارِها.

والمُلاقَطةُ: المحُاذاةُ كاللِّقاطِ.

ويقال: لقيتُه لِقاطًا؛ أَي مُواجَهَةً، حكاه ابنُ الأَعرابيِّ.

وقال أَبو عُبَيْدَةَ: المُلاقَطَةُ: أَنْ يَأْخُذَ الفَرَسُ التَّقْرِيبَ بقَوَائمِهِ جميعًا.

ومن المَجَازِ: الأَلْقَاطُ: الأَوْباشُ، يُقَال: جاءَ أَسْقَاطٌ من النّاسِ وأَلْقاطٌ.

ومن المجازِ قَوْلُهم: لكُلِّ سَاقِطَةٍ لاقطِةٌ؛ أَي لِكلِّ كَلِمَةٍ سَقَطَتْ من فَمِ النّاطِقِ نَفْسٌ تَسْمَعُها، فَتَلْقُطُهَا، فتُذِيعُها وأَخْصَرُ منه عِبَارَةُ الجَوْهَرِيُّ؛ أَي لكلِّ ما نَدَرَ من الكَلامِ من يَسْمَعُها ويُذِيعُها، يُضْرَبُ مَثَلًا في حِفْظِ اللِّسَانِ. وأَوَّلَه الزَّمَخْشَرِيُّ على معنًى آخَرَ، فقال: أَي: لكلِّ نَادِرَةٍ مَنْ يأْخُذُهَا ويَسْتَفِيدُها. وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه في «س ق ط».

ومن المَجَازِ: أَخْرَجَ القَصّابُ الّلاقِطَةَ، ولاقِطَةُ الحَصَى، وهي قانِصَةُ الطَّيْرِ، زادَ الجَوْهَرِيُّ: يجْتَمِعُ فيها الحَصَى، وفي الأَساسِ: هي القِبَةُ؛ لأَنَّ الشّاةَ كُلَّمَا أَكَلَتْ من تُرَابٍ أَو حَصًى حَصَّلَتْه فِيهَا.

ومن المَجَازِ: إِنَّهُ لُقَّيْطَى خُلَّيْطَى، كسُمَّيْهَى، فِيهما؛ أَي مُلْتَقِطٌ للأَخْبَارِ لِيَنِمَّ بها. فالالْتِقاطُ هو النَّمُّ، وعَادَتُه اللُّقَيْطَى، يُقَال له إِذا جاءِ بها: لُقَّيْطَى خُلَّيَطَى، يُعَابُ بذلِكَ.

واللَّقَطُ، مُحَرَّكةً: ما يُلْتَقَطُ من السَّنَابِلِ، كاللُّقَاطِ.

بالضَّمِّ، وقد ذُكِرَ.

واللَّقَطُ أَيْضًا: قِطَعُ ذَهَبِ تُوجَدُ في المَعْدِنِ، كما في الصّحاحِ، وقالَ اللَّيْثُ: اللَّقَطُ: قِطَعُ ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ أَمْثَالُ الشَّذْرِ، وأَعْظَمُ في المَعَادِن، وهو أَجْوَدُهُ، ويقال: ذَهَبٌ لَقَطٌ.

وقال أَبُو مالِكٍ: اللَّقَطُ: بَقْلَةٌ طَيِّبَةٌ تَتبَعُهَا الدَّوَابُّ فتَأْكُلُها لطِيبِها، ورُبَّمَا انْتَتَفَها الرَّجُلُ فنَاوَلَهَا بَعِيرَهُ، وهيَ بُقُولٌ كَثِيرَةٌ يَجْمَعُهَا اللَّقَطُ، الوَاحِدَةُ بهاءٍ. وقال غَيْرُه: هو نَبَاتٌ سُهْلِيٌّ يَنْبُتُ في الصَّيْف والقَيْظِ في دِيَار عُقَيْلٍ، يُشْبِه الفِطْرَ والمَكْرَةَ، إِلاّ أَنَّ اللَّقَطَ تَشْتَدُّ خُضْرَتُه وارْتِفَاعُه.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:

الْتَقَطَ الشَيْ‌ءَ؛ أَي لَقَطَه وأَخَذَه من الأَرْضِ. والعربُ تقول: «إِنّ عندَكَ دِيكًا يَلْتَقِط الحَصَى». يقال ذلك للنَّمّامِ.

والمُلْتَقَط: الشَيْ‌ءُ الساقِطُ. والذَّهَبُ يُوجَدُ في المَعْدِن.

ويقالُ للَّذِي يَلْقُط السَّنابِلَ ـ إِذا حُصِدَ الزَّرْعُ ووُخِزَ الرُّطَبُ من العِذْقِ: لَاقِطٌ ولَقّاطٌ ولَقّاطَةٌ.

وفي هذا المكان لَقَطٌ من المَرْتَعِ. مُحَرَّكَة؛ أَي شْي‌ءٌ مِنْهُ قَلِيلٌ، كما في الصّحاحِ. وقال غَيْرُه: في الأَرض لَقَطٌ للمالِ؛ أَي مَرْعًى ليسَ بالكَثِير، والجَمْعُ: أَلْقَاطٌ.

وقال الأَصْمَعِيُّ: أَصْبَحَتْ مَرَاعِينَا مَلاقِطَ مِنَ الجَدْبِ: إِذا كانَتْ يابِسَةً ولا كَلَأ فيها، وأَنْشَدَ:

تُمْسِي وجُلُّ المُرْتَعَى مَلَاقِطُ *** والدِّنْدِنُ البالِي وحَمْضٌ حَانِطُ

والأَلْقاطُ: الفِرْقُ من النّاسِ القَلِيل، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وهو غَيْرُ الأَوْبَاشِ الَّذِي ذَكَرَه المُصَنِّفُ.

والَّلاقِطَةُ: قِبَةُ الشّاةِ.

والرَّجُلُ السّاقِطُ.

ومن أَمثالهم: أَصَيْدُ القُنْفُذِ أَمْ لُقْطَةٌ، يُضْرَبُ للرَّجُلِ الفَقِيرِ يَسْتَغْنِي فى ساعةٍ.

ويُقَالُ: لَقِيتُه الْتِقَاطًا، إِذا لَقِيتَهُ من غيرِ أَنْ تَرْجُوَه أَو تَحْتَسِبَه.

وفي الصّحاحِ: وَرَدْتَ الشِّيْ‌ءَ الْتِقَاطًا، إِذا هَجَمْتَ عليهِ بَغْتَةً، وأَنْشَدَ للرّاجِزِ ـ وهو نُقَادَةُ الأَسَدِيُّ:

ومَنْهَلٍ وَرَدْتُه الْتِقاطَا

وقال سيبويْه: الْتِقاطًا؛ أَي فَجْأَةً، وهو من المصادرِ التي وَقَعَتْ أَحْوَالًا نَحْوَ جاءَ رَكْضًا.

والمَلْقَطُ، كمَقْعَدٍ: المَعْدِنُ والمَطْلَبُ.

ولَقَطَ الذُّبابُ: سَفَدَ. نقله ابْنُ القَطّاعِ في كتاب الأَبْنِيَةِ.

واللُّقَاطَةُ بالضَّمّ: مَوْضِعٌ قريبٌ من الحَاجِرِ.

ولَقَطٌ، محرَّكَةً: اسمُ ماءٍ بينَ جَبَلَىْ طَيِّئٍ وتَيْمَاءَ.

واللَّقِيطَةُ، كسَفِينَةٍ: بئرٌ بأَجَأَ، وتُعْرَف بالبُوَيْرَةِ، وماءٌ عَلَى مَرْحَلَةٍ من قُوص بالصَّعِيد.

واللَّقِيطُ، كأَمِيرٍ: ماءٌ لغَنِيٍّ.

وبَطْنٌ من العَرَبِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


49-تاج العروس (نشي)

[نشي]: ي: هكذا في سائِرِ النسخِ، والصَّحيحُ أنَّه واوِيٌّ لأنَّ أَصْلَ نشيت واوٌ قلِبَتْ ياءً للكَسْرة، فتأَمَّل.

نَشَى رِيحًا طَيِّبَةً، مِن حَدِّ رَمَى؛ كما في النسخ، والذي في الصِّحاح مِن حَدِّ عَلِمَ؛ أَو عامٌّ؛ أَي سواء كانتْ رِيحًا طَيِّبةً أَو مُنْتِنَةً، نُشوَةً، مُثَلَّثةً؛ اقْتَصَرَ الجَوْهرِي على الكَسْر؛ وزادَ ابنُ سِيَدَه الفَتْح؛ شَمَّها.

وفي المُحْكم: النَّشَا، مَقْصورٌ: نَسِيمُ الرِّيحِ الطّيِّبَةِ، وقد نَشِيَ منه ريحًا طيِّبَةً نِشْوةً ونَشْوَةً؛ أَي شَمَّها، عن اللّحْياني؛ قالَ أَبو خِراشٍ الهُذَلي:

ونَشِيتُ رِيحَ المَوْتِ مِن تِلْقائِهِم *** وخَشِيتُ وَقْعَ مُهَنَّدٍ قِرْضابِ.

وهكذا أنْشَدَه الجَوْهرِي أيْضًا للهُذَلي وهوَ أَبو خِراشٍ.

وقال ابنُ برِّي: قال أَبو عُبيدَةَ في المجاز في آخِرِ سُورَةِ {ن وَالْقَلَمِ}: إنَّ البَيْتَ لقَيْسِ بنِ جَعْدَةَ الخُزاعي.

قال ابنُ سِيدَه: وقد تكونُ النشوة في غيرِ الرِّيحِ الطيِّبَةِ.

كاسْتَنْشَى؛ نقلَهُ الجَوْهرِي؛ وأَنْشَدَ لذي الرُّمّة:

وأَدْرَكَ المُتَنَقَّى مِنْ ثَمِيلَتِه *** ومِن ثَمائِلِها واسْتُنْشِيَ الغَرَبُ

والغَرَبُ: الماءُ الذي يَقْطرُ مِن الدلَّائِين للبِئْرِ والحَوْضِ ويَتَغيَّر رِيحُه سَرِيعًا.

وانْتَشَى وتَنَشَّى. ونقلَ شيْخُنا عن شَرْحِ نوادِرِ القالِي لأبي عبيدٍ البَكْري: أنَّ اسْتَنْشَى مِن النّشْوةِ، وهي الرَّائحةُ، ولاحَظَ لها في الهَمْزةِ ولم يُسْمَع اسْتَنْشَأَ إلَّا مَهْموزًا كالفرقِئ للبَيْض لم يُسْمَع إلَّا مَهْموزًا، وهو مِن الغرقِ ونَقِيضُهما الخابِيَة لا تُهْمَزُ، وهي مِن خَبَأَ، انتَهَى.

قُلْت: وأَصْلُ هذا الكَلامِ نقلَهُ يَعْقوب فإنَّه قالَ: الذِّئْبُ يَسْتَنْشئُ الرِّيحَ، بالهَمْز، وإنَّما هو مِن نَشِيت، غَيْر مَهْموزٍ، كما في الصِّحاح، وتقدَّمَ ذلكَ في الهَمْزةِ؛ وقد ذَكَرَه ابنُ سِيدَه في خطْبَةِ المُحْكم أَيْضًا؛ وبعَكْسِه نَشَوْت في بَني فلانٍ أَي رُبِّيتُ، وهو نادِرٌ، محوَّل مِن نَشَأْت.

ونَشِيَ الخَبَرَ عَلِمَهُ زِنَةً ومَعْنًى.

وفي الصِّحاح: ويقالُ أَيْضًا: نَشِيتُ الخَبَرَ إذا تَخبَّرْتَ ونَظَرْتَ مِن أيْنَ جاءَ. يقالُ: مِن أَيْن نَشِيتَ هذا الخَبَرَ أي مِن أَيْن عَلِمْتَه؟ وقال ابن القطَّاع: نَشِيت الخَبَرَ نَشْيًا ونَشيةً تَخَبَّرْته.

ونَشِيَ مِن الشَّرابِ، كعَلِمَ، نَشْوًا، بالفتح، ونُشْوَةً، مَثَلَّثَةً؛ الكَسْرُ عن اللّحْياني؛ سَكِرَ؛ أَنْشَدَ ابنُ الأعْرابي:

إني نَشِيتُ فما أَسْطِيعُ مِن فَلَتٍ *** حتى أُشَقِّقَ أَثْوابي وأَبْرادِي

كانْتَشَى وتَنَشَّى؛ قال، سِنانِ بنُ الفحلِ الطَّائِي:

وقالوا: قد جُنِنْتَ فقلت: كَلَّا *** ورَبي ما جُنَنْتُ ولا انْتَشَيْتُ

ويُرْوَى: ما بَكَيْتُ ولا انْتَشَيْتُ: وأَنْشَدَ الجَوْهرِي وقالَ: يريدُ ولا بَكَيْتُ مِن سكْرٍ.

ويقالُ: الانْتِشاءُ أَوَّل السُّكْر ومُقدِّماته.

ونَشِيَ بالشَّئٍ نَشًا: عاوَدَهُ مَرَّةً بعْدَ أُخْرَى؛ وأنْشَدَ أَبو عَمْرو لشوال بن نعيم:

وأَنْت نَشٍ بالفاضِحاتِ الغَوائِل

أَي مُعاوِدٌ لها.

ونَشِيَ المالُ نَشًا: أَخَذَه داءٌ مِن نَشْوَةِ العِضاهِ، وهي أَوَّل ما يَخْرجُ.

وأَنْشاهُ: وَجَدَ نَشْوَتُه، نقلَهُ ابن القطَّاعِ عن اللّحْياني.

والنَّشِيَّةُ، كغَنِيَّةٍ: الرَّائِحَةُ، كالنَّشْوَةِ، هكذا في النسخِ، وهو غيْرُ محرَّرٍ مِن وَجْهَيْن: الأوَّل: الصَّوابُ في النّشْيَة كسْر النونِ وتَخْفيفِ الياءِ وهو المَنْقولُ عن ابنِ الأعْرابي وفَسَّره بالرَّائِحَةِ؛ وثَانِيًا: قولهُ كالنَّشْوة مُسْتدركٌ لا حاجَةَ إلى ذِكْرهِ، وسِياقُ المُحْكم في ذلكَ أَتَم فقالَ: وهو طَيِّبُ النَّشْوَةِ والنِّشْوَةِ والنَّشْيَةِ الأخيرَةُ عن ابنِ الأعرابي، فتأَمَّل ذلكَ؛ ولم يَذْكَر أَحَدٌ النَّشِيَّة كغَنِيَّةٍ، وإنَّما هو تَصْحيفٌ وَقَعَ فيه المصنِّفُ.

ورجُلٌ نَشْوانُ ونَشْيانُ؛ على المُعاقَبَةِ، بَيِّنُ النَّشْوَةِ، بالفتح؛ إنما ذكر الفَتْح ولو أنَّ الإطْلاقَ يَكْفِيه مُراعاةً لِمَا يأْتي بعْدَه مِن قوْلهِ بالكَسْر يقالُ اسْتَبَانَتْ نِشْوَته.

قالَ الجَوْهرِي: وزَعَمَ يونس أنَّه سَمِعَ فيه نِشْوة، بالكَسْر.

ورجُلٌ نَشْيانُ بالأَخْبارِ؛ وفي الصِّحاح: للأَخْبارِ وهو الصَّوابُ، قالَ: وإنَّما قالوا بالياءِ للفَرْقِ بَيْنه وبَيْنَ النَّشْوانِ مِن الشَّرابِ، وأَصْلُ الياءِ في نَشِيت واو قُلِبَت ياءً للكَسْرةِ انتَهَى. وقالَ غَيْرُه هذا على الشّذوذِ وإنَّما حكْمُه نَشْوان، ولكنَّه مِن بابِ جَبَوْت الماءَ جبايَةً؛ وقال شمِرٌ: رجُلٌ نَشْيانُ للخَبَرِ ونَشْوانُ مِن السّكْرِ، وأَصْلُهما الواو ففَرَّقُوا بَيْنهما؛ وقالَ الكِسائي: رجُلٌ نَشْيانُ للخَبَرِ ونَشْوانُ، وهو الكَلامُ المُعْتَمَدُ؛ بَيِّنُ النِّشْوةِ، بالكَسْر، هكذا فَصَّلَه شمِرٌ وفَرَّق بَيْنه وبَيْنَ نَشْوةِ الخَمْرِ؛.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


50-المصباح المنير (حسس)

الْحِسُّ وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَحَسَّهُ حَسًّا فَهُوَ حَسِيسٌ مِثْلُ: قَتَلَهُ قَتْلًا فَهُوَ قَتِيلٌ وَزْنًا وَمَعْنًى وَأَحَسَّ الرَّجُلُ الشَّيْءَ إحْسَاسًا عَلِمَ بِهِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ مَعَ الْأَلِفِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52] وَرُبَّمَا زِيدَتْ الْبَاءُ فَقِيلَ أَحَسَّ بِهِ عَلَى مَعْنَى شَعَرَ بِهِ وَحَسَسْتُ بِهِ مِنْ بَابِ قَتَلَ لُغَةٌ فِيهِ وَالْمَصْدَرُ الْحِسُّ بِالْكَسْرِ تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ عَلَى مَعْنَى شَعَرْتُ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُ الْفِعْلَيْنِ بِالْحَذْفِ فَيَقُولُ أَحَسْتُهُ وَحَسْتُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُ فِيهِمَا بِإِبْدَالِ السِّينِ يَاءً فَيَقُولُ حَسَيْتُ وَأَحْسَيْتُ وَحَسِسْتُ بِالْخَبَرِ

مِنْ بَابِ تَعِبَ وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ حَسَسْتُ الْخَبَرَ مِنْ بَابِ قَتَلَ فَهُوَ مَحْسُوسٌ وَتَحَسَّسْتُهُ تَطَلَّبْتُهُ وَرَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلْأَخْبَارِ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا وَأَصْلُ الْإِحْسَاسِ الْإِبْصَارُ.

وَمِنْهُ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] أَيْ هَلْ تَرَى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ وَحَوَاسُّ الْإِنْسَانِ مَشَاعِرُهُ الْخَمْسُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ الْوَاحِدَةُ حَاسَّةٌ مِثْلُ: دَابَّةٍ وَدَوَابَّ وَحَسَّانُ اسْمُ رَجُلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْحِسِّ فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحُسْنِ فَتَكُونَ أَصْلِيَّةً وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يُبْنَى الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


51-المصباح المنير (شهد)

الشَّهْدُ الْعَسَلُ فِي شَمْعِهَا وَفِيهِ لُغَتَانِ فَتْحُ الشِّينِ لِتَمِيمٍ وَجَمْعُهُ شِهَادٌ مِثْلُ سَهْمٍ وَسِهَامٍ وَضَمُّهَا لِأَهْلِ الْعَالِيَةِ.

وَالشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ فِي الْمَعْرَكَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ شَهِدَتْ غَسْلَهُ أَوْ شَهِدَتْ نَقْلَ رُوحِهِ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَاسْتُشْهِدَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ قُتِلَ شَهِيدًا وَالْجَمْعُ شُهَدَاءُ وَشَهِدْتُ الشَّيْءَ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ وَعَايَنْتُهُ فَأَنَا شَاهِدٌ وَالْجَمْعُ أَشْهَادٌ وَشُهُودٌ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ وَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَشَهِيدٌ أَيْضًا وَالْجَمْعُ شُهَدَاءُ وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ وَشَهِدْتُ عَلَى الرَّجُلِ بِكَذَا وَشَهِدْتُ لَهُ بِهِ وَشَهِدْتُ الْعِيدَ أَدْرَكْتُهُ وَشَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً مِثْلُ عَايَنْتُهُ مُعَايَنَةً وَزْنًا وَمَعْنًى وَشَهِدَ بِاَللَّهِ حَلَفَ وَشَهِدْتُ الْمَجْلِسَ حَضَرْتُهُ فَأَنَا شَاهِدٌ وَشَهِيدٌ أَيْضًا وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَيْ مَنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الشَّهْرِ مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ فَلْيَصُمْ مَا حَضَرَ وَأَقَامَ فِيهِ وَانْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَصَلَيْنَا صَلَاةَ الشَّاهِدِ أَيْ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَا يَقْصُرُهَا بَلْ يُصَلِّيهَا كَالشَّاهِدِ وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ أَيْ الْحَاضِرُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْغَائِبُ وَشَهِدَ بِكَذَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَخْبَرَ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ الشَّهَادَةُ الْإِخْبَارُ بِمَا قَدْ شُوهِدَ.

فَائِدَةٌ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا

وَخَلَفِهَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَشْهَدُ مُقْتَصِرِينَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ نَحْوَ أَعْلَمُ وَأَتَيَقَّنُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْيِينِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يَخْلُو مِنْ مَعْنَى التَّعَبُّدِ إذْ لَمْ يُنْقَلْ غَيْرُهُ وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ اسْمٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الشَّيْءِ عِيَانًا فَاشْتُرِطَ فِي الْأَدَاءِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ وَأَقْرَبُ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اُشْتُقَّ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ أَشْهَدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وَلَا يَجُوزُ شَهِدْتُ لِأَنَّ الْمَاضِيَ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ عَمَّا وَقَعَ نَحْوُ قُمْتُ أَيْ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ فَلَوْ قَالَ شَهِدْتُ احْتَمَلَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي فَيَكُونُ غَيْرَ مُخْبِرٍ بِهِ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَ أَبِيهِمْ أَوَّلًا بِسَرِقَتِهِ حِينَ قَالُوا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ فَلَمَّا اتَّهَمَهُمْ اعْتَذَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا صُنْعَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا وَمَا شَهِدْنَا عِنْدَكَ سَابِقًا بِقَوْلِنَا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إلَّا بِمَا عَايَنَّاهُ مِنْ إخْرَاجِ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِهِ وَالْمُضَارِعُ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ فِي الْحَالِ فَإِذَا قَالَ أَشْهَدُ فَقَدْ أَخْبَرَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] أَيْ نَحْنُ الْآنَ شَاهِدُونَ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ أَشْهَدُ فِي الْقَسَمِ نَحْوُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا أَيْ أُقْسِمُ فَتَضَمَّنَ لَفْظُ أَشْهَدُ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ وَالْقَسَمِ وَالْإِخْبَارِ فِي الْحَالِ فَكَأَنَّ الشَّاهِدَ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَا الْآنَ أُخْبِرُ بِهِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَفْقُودَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا وَاتِّبَاعًا لِلْمَأْثُورِ وَقَوْلُهُمْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَعْلَمُ وَاسْتَشْهَدْتُهُ طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ وَالْمَشْهَدُ الْمَحْضَرُ وَزْنًا وَمَعْنًى وَتَشَهَّدَ قَالَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَتَشَهَّدَ فِي صَلَاتِهِ فِي التَّحِيَّاتِ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


52-المصباح المنير (نعم)

النَّعَمُ الْمَالُ الرَّاعِي وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ النَّعَمُ الْجِمَالُ فَقَطْ وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ وَجَمْعُهُ نُعْمَانٌ مِثْلُ حَمَلٍ وَحُمْلَانٌ وَأَنْعَامٌ

أَيْضًا وَقِيلَ النَّعَمُ الْإِبِلُ خَاصَّةً وَالْأَنْعَامُ ذَوَاتُ الْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَقِيلَ تُطْلَقُ الْأَنْعَامُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ الْإِبِلُ فَهِيَ نَعَمٌ وَإِنْ انْفَرَدَتْ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَمْ تُسَمَّ نَعَمًا.

وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ وَالِاسْمُ النِّعْمَةُ وَالْمُنْعِمُ مَوْلَى النِّعْمَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا وَالنُّعْمَى وِزَانُ حُبْلَى وَالنَّعْمَاءُ وِزَانُ الْحَمْرَاءِ مِثْلُ النِّعْمَةِ وَجَمْعُ النِّعْمَةِ نِعَمٌ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ وَأَنْعُمٌ أَيْضًا مِثْلُ أَفْلُسٍ وَجَمْعُ النَّعْمَاءِ أَنْعُمٌ مِثْلُ الْبَأْسَاءِ يُجْمَعُ عَلَى أَبْؤُسٍ.

وَالنَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ التَّنَعُّمِ وَالتَّمَتُّعِ وَهُوَ النَّعِيمُ وَنَعِمَ عَيْشُهُ يَنْعَمُ مِنْ بَابِ تَعِبَ اتَّسَعَ وَلَانَ وَأَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا وَنَعَّمَهُ اللَّهُ تَنْعِيمًا جَعَلَهُ ذَا رَفَاهِيَةٍ وَبِلَفْظِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ التَّنْعِيمُ سُمِّيَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ أَقْرَبُ أَطْرَافِ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَيُقَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَيُعْرَفُ بِمَسَاجِدِ عَائِشَةَ.

وَنَعُمَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ نُعُومَةً لَانَ مَلْمَسُهُ فَهُوَ نَاعِمٌ وَنَعَّمْتُهُ تَنْعِيمًا.

وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَوَابِ نَعَمْ مَعْنَاهَا التَّصْدِيقُ إنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمَاضِي نَحْوُ هَلْ قَامَ زَيْدٌ وَالْوَعْدُ إنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوُ هَلْ تَقُومُ قَالَ سِيبَوَيْهِ نَعَمْ عِدَةٌ وَتَصْدِيقٌ قَالَ ابْنُ بَابْشَاذْ يُرِيدُ أَنَّهَا عِدَةٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَتَصْدِيقٌ لِلْإِخْبَارِ وَلَا يُرِيدُ اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا فِي كُلٍّ قَالَ النِّيلِيُّ وَهِيَ تُبْقِي الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إيجَابٍ أَوْ نَفْيٍ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَصْدِيقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْفَعَ النَّفْيَ وَتُبْطِلَهُ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَا جَاءَ زَيْدٌ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَ وَقُلْتَ فِي جَوَابِهِ نَعَمْ كَانَ التَّقْدِيرُ نَعَمْ مَا جَاءَ فَصَدَّقْتَ الْكَلَامَ عَلَى نَفْيِهِ وَلَمْ تُبْطِلْ النَّفْيَ كَمَا تُبْطِلُهُ بَلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ قُلْتَ فِي الْجَوَابِ بَلَى وَالْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فَنَعَمْ تُبْقِي النَّفْيَ عَلَى حَالِهِ وَلَا تُبْطِلُهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وَلَوْ قَالُوا نَعَمْ كَانَ كُفْرًا إذْ مَعْنَاهُ نَعَمْ لَسْتَ بِرَبِّنَا لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ النَّفْيَ بِخِلَافِ بَلَى فَإِنَّهَا لِلْإِيجَابِ بَعْدَ النَّفْيِ وَأَنْعَمْتُ لَهُ بِالْأَلِفِ قُلْتُ لَهُ نَعَمْ.

وَالنَّعَامَةُ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْجَمْعُ نَعَامٌ.

وَنِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ بِكَسْرِ النُّونِ مُبَالَغَةٌ فِي الْمَدْحِ وَالْمَعْنَى لَوْ فُصِّلَ الرِّجَالُ رَجُلًا رَجُلًا فَضَلَهُمْ زَيْدٌ وَقَوْلُهُمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ أَيْ وَنِعْمَتْ الْخَصْلَةُ السُّنَّةُ وَالتَّاءُ فِيهَا كَهِيَ فِي قَامَتْ هِنْدٌ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ وَالتَّاءُ ثَابِتَةٌ فِي الْوَقْفِ.

وَنُعْمَانُ الْأَرَاكِ بِفَتْحِ النُّونِ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ.

وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ نُعْمَانٌ اسْمُ جَبَلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَهُوَ وَجُّ الطَّائِفِ.

وَالنُّعْمَانُ بِالضَّمِّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الدَّمِ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


53-لسان العرب (لقط)

لقط: اللَّقْطُ: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الأَرض، لَقَطَه يَلْقُطه لَقْطًا والْتَقَطَه: أَخذه مِنَ الأَرض.

يُقَالُ: لِكُلِّ ساقِطةٍ لاقِطةٌ أَي لِكُلِّ مَا نَدَر مِنَ الْكَلَامِ مَن يَسْمَعُها ويُذِيعُها.

ولاقِطةُ الحَصى: قانِصةُ الطَّيْرِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّ عِنْدَكَ دِيكًا يَلْتَقِط الْحَصَى، يُقَالُ ذَلِكَ لِلنَّمَّامِ.

اللَّيْثُ: إِذا التقَط الكلامَ لنميمةٍ قُلْتَ لُقَّيْطَى خُلَّيْطَى، حِكَايَةً لِفِعْلِهِ.

قَالَ اللَّيْثُ: واللُّقْطةُ، بِتَسْكِينِ الْقَافِ، اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي تجِدُه مُلْقًى فتأْخذه، وَكَذَلِكَ المَنبوذ مِنَ الصِّبْيَانِ لُقْطةٌ، وأَمّا اللُّقَطةُ، بِفَتْحِ الْقَافِ، فَهُوَ الرَّجُلُ اللّقّاطُ يَتْبَعُ اللُّقْطات يَلْتَقِطُها؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لأَنّ الفُعْلة لِلْمَفْعُولِ كالضُّحْكةِ، والفُعَلةُ لِلْفَاعِلِ كالضُّحَكةِ؛ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:

أَلُقْطَةَ هُدهدٍ وجُنُودَ أُنْثَى ***مُبَرْشِمةً، أَلَحْمِي تأْكُلُونا؟

لُقْطة: مُنَادَى مُضَافٌ، وَكَذَلِكَ جُنُودَ أُنثى، وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ النهايةَ فِي الدَّناءة لأَنّ الهُدْهد يأْكل العَذِرةَ، وَجَعَلَهُمْ يَدِينون لامرأَة.

ومُبَرْشِمة: حَالٌ مِنَ الْمُنَادَى.

والبَرْشَمةُ: إِدامة النَّظَرِ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ التُّخْمةُ، بِالسُّكُونِ، هُوَ الصَّحِيحُ، والنُّخَبةُ، بِالتَّحْرِيكِ، نَادِرٌ كَمَا أَن اللُّقَطة، بِالتَّحْرِيكِ، نَادِرٌ؛ قَالَ الأَزهري: وَكَلَامُ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ غَيْرِ مَا قَالَ اللَّيْثُ فِي اللقْطة واللقَطة، وَرَوَى أَبو عُبَيْدٍ عَنِ الأَصمعي والأَحمر قَالَا: هِيَ اللُّقَطةُ والقُصَعةُ والنُّفَقةُ مُثَقَّلَاتٍ كُلُّهَا، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ حُذّاق النَّحْوِيِّينَ لَمْ أَسمع لُقْطة لِغَيْرِ اللَّيْثِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ أَنه قَالَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنه سُئِلَ عَنِ اللقَطة فَقَالَ: «احْفَظْ عِفاصَها ووِكاءها».

وأَما الصَّبِيُّ الْمَنْبُوذُ يَجِده إِنسان فَهُوَ اللقِيطُ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالَّذِي يأْخذ الصَّبِيَّ أَو الشَّيْءَ الساقِط يُقَالُ لَهُ: المُلْتَقِطُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «المرأَةُ تَحُوز ثلاثةَ مَوارِيثَ: عَتِيقَها ولَقِيطَها وولدَها الَّذِي لاعَنَت عَنْهُ»؛ اللَّقِيطُ الطِّفل الَّذِي يوجَد مرْميًّا عَلَى الطُّرق لَا يُعرف أَبوه" وَلَا أُمّه، وَهُوَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ حُرّ لَا وَلاء عَلَيْهِ لأَحد وَلَا يَرِثُه مُلْتَقِطه، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهل الْعِلْمِ إِلى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ضَعفه عِنْدَ أَكثر أَهل النَّقْلِ.

وَيُقَالُ لِلَّذِي يَلْقُط السَّنابِلَ إِذا حُصِدَ الزرعُ ووُخِزَ الرُّطَب مِنَ العِذْق: لاقِطٌ ولَقّاطٌ ولَقَّاطةٌ.

وأَمَّا اللُّقاطةُ فَهُوَ مَا كَانَ سَاقِطًا مِنَ الشَّيْءِ التَّافِه الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ ومَن شاءَ أَخذه.

وَفِي حَدِيثِ مَكَّةَ: «وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُها إِلا لِمُنْشِد»، وَقَدْ تكرر ذكرها من الْحَدِيثِ، وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، اسْمُ المالِ المَلْقُوط؛ أي الْمَوْجُودِ.

والالتقاطُ: أَن تَعْثُر عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ قَصْد وطلَب؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْمُ المُلْتَقِط كالضُّحَكةِ والهُمَزَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فأَما المالُ المَلْقُوط فَهُوَ بِسُكُونِ الْقَافِ، قَالَ: والأَول أَكثر وأَصح.

ابْنُ الأَثير: واللقَطة فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَا تحِل إِلا لِمَنْ يُعرِّفها سَنَةً ثُمَّ يتملَّكها بَعْدَ السَّنَةِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لِصَاحِبِهَا إِذا وَجَدَهُ، فأَمّا مكةُ، صَانَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَفِي لُقَطتِها خِلاف، فَقِيلَ: إِنها كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَقِيلَ: لَا، لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بالإِنشاد الدَّوام عَلَيْهِ، وإِلا فَلَا فَائِدَةَ لِتَخْصِيصِهَا بالإِنشاد، وَاخْتَارَ أَبو عُبَيْدٍ أَنه لَيْسَ يحلُّ للملتقِط الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ إِلا الإِنشاد، وَقَالَ الأَزهري: فَرق بِقُولِهِ هَذَا بَيْنَ لُقَطة الْحَرَمِ وَلُقَطَةِ سَائِرِ الْبِلَادِ، فإِن لُقَطة غَيْرِهَا إِذا عُرِّفت سَنَةً حَلَّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وجَعل لُقطةَ الْحَرَمِ حَرَامًا عَلَى مُلْتَقِطها والانتفاعَ بِهَا وإِن طَالَ تَعْرِيفُهُ لَهَا، وَحَكَمَ أَنها لَا تحلُّ لأَحد إِلا بِنِيَّةِ تَعْرِيفِهَا مَا عَاشَ، فأَمَّا أَن يأْخذها وَهُوَ يَنْوِي تَعْرِيفَهَا سَنَةً ثُمَّ يَنْتَفِعُ بِهَا كَلُقَطَةِ غَيْرِهَا فَلَا؛ وَشَيْءٌ لَقِيطٌ ومَلْقُوطٌ.

واللَّقِيطُ: الْمَنْبُوذُ يُلْتَقَطُ لأَنه يُلْقَط، والأُنثى لَقِيطَةٌ؛ قَالَ الْعَنْبَرِيُّ:

لوْ كُنْتُ مِن مازِنٍ، لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلي ***بَنُو اللَّقِيطةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيْبانا

وَالِاسْمُ: اللِّقاطُ.

وَبَنُو اللَّقِيطةِ: سُموا بِذَلِكَ لأَن أُمهم، زَعَمُوا، التَقَطها حُذَيْفةُ بْنُ بَدْرٍ فِي جَوارٍ قَدْ أَضَرّتْ بِهِنَّ السَّنَةُ فَضَمَّهَا إِليه، ثُمَّ أَعجبته فَخَطَبَهَا إِلى أَبيها فتزوَّجها.

واللُّقْطةُ واللُّقَطةُ واللُّقاطةُ: مَا التُقِط.

واللَّقَطُ، بِالتَّحْرِيكِ: مَا التُقِط مِنَ الشَّيْءِ.

وَكُلُّ نُثارة مِنْ سُنْبل أَو ثمَر لَقَطٌ، وَالْوَاحِدَةُ لَقَطة.

يُقَالُ: لقَطْنا الْيَوْمَ لقَطًا كَثِيرًا، وَفِي هَذَا الْمَكَانِ لَقَطٌ مِنَ الْمَرْتَعِ أَي شَيْءٌ مِنْهُ قَلِيلٌ.

واللُّقاطةُ: مَا التُقِط مِنْ كَربِ النَّخْلِ بَعْدَ الصِّرامِ.

ولَقَطُ السُّنْبُل: الَّذِي يَلْتَقِطُه النَّاسُ، وَكَذَلِكَ لُقاطُ السُّنْبُلِ، بِالضَّمِّ.

واللَّقاطُ: السُّنْبُلُ الَّذِي تُخْطِئه المَناجِلُ تَلْتَقِطُهُ النَّاسُ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ، واللِّقاطُ: اسْمٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ كالحَصاد والحِصاد.

وَفِي الأَرض لَقَطٌ لِلْمَالِ أَي مَرْعى لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَالْجَمْعُ أَلقاط.

والأَلقاطُ: الفِرْقُ مِنَ النَّاسِ القَلِيلُ، وَقِيلَ: هُمُ الأَوْباشُ.

واللَّقَطُ: نَبَاتٌ سُهْلِيّ يَنْبُتُ فِي الصَّيْفِ والقَيظ فِي دِيَارِ عُقَيْل يُشْبِهُ الخِطْرَ والمَكْرَةَ إِلا أَن اللقَط تشتدُّ خُضرته وَارْتِفَاعُهُ، وَاحِدَتُهُ لَقَطة.

أَبو مَالِكٍ: اللقَطةُ واللقَطُ الْجَمْعُ، وَهِيَ بَقْلَةٌ تَتْبَعُهَا الدوابُّ فتأْكلها لِطِيبِهَا، وَرُبَّمَا انْتَتَفَهَا الرَّجُلُ فَنَاوَلَهَا بعيرَه، وَهِيَ بُقول كَثِيرَةٌ يَجْمَعُهَا اللَّقَطُ.

واللَّقَطُ: قِطَع الذَّهب المُلْتَقَط يُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ.

اللَّيْثُ: اللقَطُ قِطَعُ ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ أَمثال الشَّذْرِ وأَعظم فِي الْمَعَادِنِ، وَهُوَ أَجْوَدُه.

وَيُقَالُ ذهبٌ لَقَطٌ.

وتَلقَّط فُلَانٌ التَّمْرَ أَي الْتَقَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا.

واللُّقَّيْطَى: المُلْتقِط للأَخْبار.

واللُّقَّيْطى شِبْهُحِكَايَةٍ إِذا رأَيته كَثِيرَ الالتِقاطِ للُّقاطاتِ تَعِيبه بِذَلِكَ.

اللِّحْيَانِيُّ: دَارِي بلِقاطِ دَارِ فُلَانٍ وطَوارِه أَي بحِذائها: أَبو عُبَيْدٍ: المُلاقَطةُ فِي سَير الْفَرَسِ أَن يأْخذ التقْرِيبَ بِقَوَائِمِهِ جَمِيعًا.

الأَصمعي: أَصْبحت مَراعِينا مَلاقِطَ مِنَ الجَدْبِ إِذا كَانَتْ يَابِسَةً لَا كَلأَ فِيهَا؛ وأَنشد:

تَمْشي، وجُلُّ المُرْتَعَى مَلاقِطُ، ***والدِّنْدِنُ الْبَالِي وحَمْضٌ حانِطُ

واللَّقِيطةُ واللَّاقِطةُ: الرجلُ الساقِطُ الرَّذْل المَهِينُ، والمرأَة كَذَلِكَ.

تَقُولُ: إِنه لَسقِيطٌ لقِيطٌ وإِنه لساقِط لاقِط وإِنه لسَقِيطة لقِيطة، وإِذا أَفردوا لِلرَّجُلِ قَالُوا: إِنه لَسَقِيطٌ.

واللَّاقِطُ الرَّفّاء، واللاقِطُ العَبد المُعْتَقُ، والماقِط عَبْدُ اللاقِطِ، والساقِطُ عَبَدُ الماقِطِ.

الْفَرَّاءُ: اللَّقْطُ الرَّفْو المُقارَبُ، يُقَالُ: ثوبٌ لقِيطٌ، وَيُقَالُ: القُط ثوبَك أَي ارْفَأْه، وَكَذَلِكَ نَمِّل ثَوْبَكَ.

وَمِنْ أَمثالهم: أَصِيدَ القُنْفذُ أَم لُقَطةٌ؛ يُضرب مَثُلًا لِلرَّجُلِ الْفَقِيرِ يَستغني فِي سَاعَةٍ.

قَالَ شَمِرٌ: سَمِعْتُ حِمْيرِيّةً تَقُولُ لِكَلِمَةٍ أَعَدْتُها عَلَيْهَا: قَدْ لقَطْتها بالمِلْقاطِ أَي كَتَبْتُهَا بِالْقَلَمِ.

ولَقِيتُه التِقاطًا إِذا لَقِيتَهُ مِنْ غَيْرِ أَن ترجُوَه أَو تَحْتَسِبه؛ قَالَ نِقادة الأَسدي:

ومنهلٍ وَرَدْتُهُ التِقاطا، ***لَمْ أَلْقَ، إِذْ وَرَدْتُه، فُرَّاطا

إِلا الحَمامَ الوُرْقَ والغَطاطا وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: التِقاطًا أَي فَجأَةً وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي وَقَعَتْ أَحوالًا نَحْوَ جَاءَ رَكضًا.

وَوَرَدْتُ الْمَاءَ وَالشَّيْءَ التِقاطًا إِذا هَجَمْتَ عَلَيْهِ بَغْتَةً وَلَمْ تَحْتَسِبْهُ.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: لَقِيتُهُ لِقاطًا مُواجَهة.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَن رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ الْتَقَطَ شَبكة فَطَلَبَ أَن يَجْعَلَهَا لَهُ»؛ الشَّبَكةُ الآبارُ القَريبةُ الْمَاءِ، والتِقاطها عُثُورُه عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ.

وَيُقَالُ فِي النِّداء خَاصَّةً: يَا مَلْقَطانُ، والأُنثى يَا مَلْقطانة، كأَنهم أَرادوا يَا لاقِط.

وَفِي التَّهْذِيبِ: تَقُولُ يَا مَلْقَطَانُ تَعْنِي بِهِ الفِسْلَ الأَحمق.

واللاقِطُ: المَولى.

وَلَقَطَ الثوبَ لَقْطًا: رقَعَه.

ولقِيط: اسْمُ رَجُلٍ.

وَبَنُو مِلْقَطٍ: حَيّانِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


54-لسان العرب (أول)

أول: الأَوْلُ: الرُّجُوعُ.

آلَ الشيءُ يَؤُولُ أَوْلًا ومَآلًا: رَجَع.

وأَوَّلَ إِليه الشيءَ: رَجَعَه.

وأُلْتُ عَنِ الشَّيْءِ: ارْتَدَدْتُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا آلَ» أَي لَا رَجَعَ إِلى خير، والأَوْلُ الرجوع.

في حَدِيثِ خُزَيْمَةَ السُّلَمِيِّ: حَتَّى آلَ السُّلامِيُ "أَي رَجَعَ إِليه المُخ.

وَيُقَالُ: طَبَخْت النبيذَ حَتَّى آلَ إِلَى الثُّلُث أَو الرُّبع أَي رَجَع؛ وأَنشد الْبَاهِلِيُّ لِهِشَامٍ:

حَتَّى إِذا أَمْعَرُوا صَفْقَيْ مَباءَتِهِم، ***وجَرَّد الخَطْبُ أَثْباجَ الجراثِيم

آلُوا الجِمَالَ هَرامِيلَ العِفاءِ بِها، ***عَلَى المَناكِبِ رَيْعٌ غَيْرُ مَجْلُوم

قَوْلُهُ آلُوا الجِمَال: ردُّوها لِيَرْتَحِلُوا عَلَيْهَا.

والإِيَّل والأُيَّل: مِنَ الوَحْشِ، وَقِيلَ هُوَ الوَعِل؛ قَالَ الْفَارِسِيُّ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَآلِهِ إِلى الْجَبَلِ يَتَحَصَّنُ فِيهِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فإِيَّل وأُيَّل عَلَى هَذَا فِعْيَل وفُعيْل، وَحَكَى الطُّوسِيُّ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: أَيِّل كسَيِّد مِنْ تذكِرة أَبي عَلِيٍّ.

اللَّيْثُ: الأَيِّل الذَّكَرُ مِنَ الأَوْعال، وَالْجَمْعُ الأَيَايِل، وأَنشد:

كأَنَّ فِي أَذْنابِهنَّ الشُّوَّل، ***مِنْ عَبَسِ الصَّيْف، قُرونَ الإِيَّل

وَقِيلَ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: إِيَّل وأَيِّل وأُيَّل عَلَى مِثَالِ فُعَّل، وَالْوَجْهُ الْكَسْرُ، والأُنثى إِيَّلة، وَهُوَ الأَرْوَى.

وأَوَّلَ الكلامَ وتَأَوَّلَهُ: دَبَّره وقدَّره، وأَوَّلَهُ وتَأَوَّلهُ: فَسَّره.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؛ أَي لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عِلْمُ تأْويله، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَن عِلْمَ التَّأْوِيل يَنْبَغِي أَن يُنْظَرَ فِيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يأْتهم ما يؤُول إِليه أَمرهم فِي التَّكْذِيبِ بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ تعالى: {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهه فِي الدِّينِ وعَلِّمه التَّأْوِيل»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ مِنْ آلَ الشيءُ يَؤُولُ إِلى كَذَا؛ أي رَجَع وَصَارَ إِليه، وَالْمُرَادُ بالتَّأْوِيل نَقْلُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ الأَصلي إِلى مَا يَحتاج إِلى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِك ظاهرُ اللَّفْظِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَن يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ يَتَأَوَّل القرآنَ، تَعْنِي أَنه مأْخوذ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}.

وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيُّ قَالَ: «قُلْتُ لعُروة مَا بالُ عائشةَ تُتِمُّ فِي السَّفَر يَعْنِي الصَّلَاةَ؟ قَالَ: تَأَوَّلَت كَمَا تَأَوَّلَ عثمانُ»؛ أَراد بتَأْوِيل عُثْمَانَ مَا رُوِيَ عَنْهُ" أَنه أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فِي الْحَجِّ "، وَذَلِكَ أَنه نَوَى الإِقامة بِهَا.

التَّهْذِيبُ: وأَما التَّأْوِيل فَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنْ أَوَّلَ يُؤَوِّلُ تَأْوِيلًا وثُلاثِيُّه آلَ يَؤُولُ أَي رَجَعَ وَعَادَ.

وَسُئِلَ أَبو الْعَبَّاسِ أَحمد بْنُ يَحْيَى عَنِ التَّأْوِيل فَقَالَ: التَّأْوِيل وَالْمَعْنَى وَالتَّفْسِيرُ وَاحِدٌ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: يُقَالُ أُلْتُ الشيءَ أَؤُولُهُ إِذا جَمَعْتَهُ وأَصلحته فَكَانَ التَّأْوِيل جَمْعَ مَعَانِي أَلفاظ أَشكَلَت بِلَفْظٍ وَاضِحٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: أَوَّلَ اللهُ عَلَيْكَ أَمرَك أَي جَمَعَه، وإِذا دَعَوا عَلَيْهِ قَالُوا: لَا أَوَّلَ اللهُ عَلَيْكَ شَمْلَك.

وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ للمُضِلِّ: أَوَّلَ اللهُ عَلَيْكَ أَي رَدَّ عَلَيْكَ ضالَّتك وجَمَعها لَكَ.

وَيُقَالُ: تَأَوَّلت فِي فُلَانٍ الأَجْرَ إِذا تَحَرَّيته وَطَلَبْتَهُ.

اللَّيْثُ: التَّأَوُّلُ والتَّأْوِيلُ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ الَّذِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ وَلَا يَصِحُّ إِلّا بِبَيَانِ غَيْرِ لَفْظِهِ؛ وأَنشد:

نَحْنُ ضَرَبْناكم عَلَى تَنْزِيلِهِ، ***فاليَوْمَ نَضْرِبْكُم عَلَى تَأْوِيلِه

وأَما قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}؛ فَقَالَ أَبو إِسحق: مَعْنَاهُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا ما يَؤُول إِليه أَمرُهم مِنَ البَعْث، قَالَ: وَهَذَا التَّأْوِيل هُوَ قَوْلُهُ تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}؛ أَي لَا يَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ أَمْرُ البعث وما يؤول إِليه الأَمرُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أَي آمَنَّا بِالْبَعْثِ، وَاللَّهُ أَعلم؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا حَسَنٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَعلم اللهُ جَلَّ ذكرُه أَن فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنزله آياتٍ محكماتٍ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ لَا تَشابُهَ فِيهِ فَهُوَ مَفْهُومٌ مَعْلُومٌ، وأَنزل آيَاتٍ أُخَرَ مُتَشَابِهَاتٍ تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ مُجْتَهِدِينَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَن الْيَقِينَ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، وذلك" مِثْلُ الْمُشْكَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ المُتَأَوِّلُون فِي تأْويلها وَتَكَلَّمَ فيها من تكلم على مَا أَدَّاه الِاجْتِهَادُ إِليه، قَالَ: وإِلى هَذَا مَالَ ابْنُ الأَنباري.

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، قَالَ: جَزَاءَهُ.

يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، قَالَ: جَزَاؤُهُ.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ "، قَالَ: التَّأْوِيل المَرجِع والمَصير مأْخوذ مِنْ آلَ يَؤُولُ إِلى كَذَا أَي صَارَ إِليه.

وأَوَّلْتُهُ: صَيَّرته إِليه.

الْجَوْهَرِيُّ: التَّأْوِيل تَفْسِيرُ مَا يؤول إِليه الشَّيْءُ، وَقَدْ أَوّلته تَأْوِيلًا وتَأَوَّلْته بِمَعْنَى؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعْشَى:

عَلَى أَنها كَانَتْ، تَأَوُّلُ حُبِّها ***تَأَوُّلُ رِبْعِيِّ السِّقاب، فأَصْحَبا

قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: تَأَوُّلُ حُبِّها أَي تَفْسِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ أَي أَن حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَثْبُتُ حَتَّى أَصْحَب فَصَارَ قَديمًا كَهَذَا السَّقْب الصَّغِيرِ لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى صَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمه وَصَارَ لَهُ ابْنٌ يَصْحَبُهُ.

والتَّأْوِيل: عِبَارَةُ الرُّؤْيَا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ}.

وآلَ مالَه يَؤُولُه إِيَالَة إِذا أَصلحه وَسَاسَهُ.

والائْتِيَال: الإِصلاح وَالسِّيَاسَةُ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ جُوَين:

كَكِرْفِئَةِ الغَيْثِ، ذاتِ الصَّبيرِ، ***تَأْتي السَّحاب وتَأْتَالَها

وَفِي حَدِيثِ الأَحنف: «قَدْ بَلَوْنا فُلَانًا فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ إِيَالَة للمُلْك»، والإِيَالَة السِّياسة؛ فلان حَسَن الإِيَالَة وسيِءُ الإِيَالَة؛ وَقَوْلُ لَبِيدٍ:

بِصَبُوحِ صافِيَةٍ، وجَذْبِ كَرِينَةٍ ***بِمُؤَتَّرٍ، تَأْتَالُه، إِبْهامُها

قِيلَ هُوَ تَفْتَعِلُهُ مِنْ أُلْتُ أَي أَصْلَحْتُ، كَمَا تَقُولُ تَقْتَاله مَنْ قُلت، أَي تُصْلِحهُ إِبهامُها؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: مَعْنَاهُ تُصْلِحُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِليه وتَعطِف عَلَيْهِ، وَمَنْ رَوَى تَأْتَا لَه فإِنه أَراد تأْتوي مِنْ قَوْلِكَ أَوَيْت إِلى الشَّيْءِ رَجَعْت إِليه، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن تَصِحَّ الْوَاوُ، وَلَكِنَّهُمْ أَعَلُّوه بِحَذْفِ اللَّامِ وَوَقَعَتِ الْعَيْنُ مَوْقِعَ اللَّامِ فَلَحِقَهَا مِنَ الإِعلال مَا كَانَ يَلْحَقُ اللَّامَ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَقَوْلُهُ أُلْنَا وإِيلَ عَلَيْنَا أَي سُسْنَا وسَاسونا.

والأَوْل: بُلُوغُ طِيبِ الدُّهْن بِالْعِلَاجِ.

وآلَ الدُّهْن والقَطِران والبول والعسل يَؤُولُ أَوْلًا وإِيَالًا: خَثُر؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " كأَنَّ صَابًا آلَ حَتَّى امْطَلَّا "أَي خَثُر حَتَّى امتدَّ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِذِي الرُّمَّةِ:

عُصَارَةُ جَزْءٍ آلَ، حَتَّى كأَنَّما ***يُلاقُ بِجَادِيٍّ ظُهُورُ العَراقبِ

وأَنشد لِآخَرَ:

ومِنْ آيِلٍ كالوَرْسِ نَضْحًا كَسَوْنَهُ ***مُتُونَ الصَّفا، مِنْ مُضْمَحِلٍّ وناقِع

التَّهْذِيبُ: وَيُقَالُ لأَبوال الإِبل الَّتِي جَزَأَت بالرُّطْب فِي آخِرِ جَزْئِها: قَدْ آلَتْ تَؤُولُ أَوْلًا إِذا خَثُرت فَهِيَ آيِلَة؛ وأَنشد لِذِي الرُّمَّةِ:

ومِنْ آيِلٍ كالوَرْسِ نَضْح سُكُوبه ***مُتُونَ الحَصَى، مِنْ مُضْمَحِلٍّ وَيَابِسِ

وآلَ اللبنُ إِيالًا: تَخَثَّر فَاجْتَمَعَ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ، وأُلْتُهُ أَنا.

وأَلْبانٌ أُيَّل؛ عَنِ ابْنِ جِنِّي، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا عَزِيزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن تُجْمَعَ صِفَةُ غَيْرِ الْحَيَوَانِ عَلَى فُعَّل وإِن كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ نَحْوَ عِيدانقُيَّسٌ، وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ، والآخَرُ أَنه يَلْزَمُ فِي جَمْعِهِ أُوَّل لأَنه مِنَ الْوَاوِ بِدَلِيلِ آلَ أَوْلًا لَكِنَّ الْوَاوَ لَما قَرُبت مِنَ الطَّرَفِ احْتَمَلت الإِعلال كَمَا قَالُوا نُيَّم وصُيَّم.

والإِيَالُ: وِعَاءُ اللّبَن.

اللَّيْثُ: الإِيَال، عَلَى فِعال، وِعاء يُؤَالُ فِيهِ شَراب أَو عَصِيرٌ أَو نَحْوُ ذَلِكَ.

يُقَالُ: أُلْتُ الشرابَ أَؤُولُهُ أَوْلًا؛ وأَنشد:

فَفَتَّ الخِتامَ، وَقَدْ أَزْمَنَتْ، ***وأَحْدَث بَعْدَ إِيالٍ إِيَالا

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَالَّذِي نَعْرِفُهُ أَن يُقَالَ آلَ الشرابُ إِذا خَثُر وَانْتَهَى بلوغُه ومُنْتهاه مِنَ الإِسكار، قَالَ: فَلَا يُقَالُ أُلْتُ الشرابَ.

والإِيَال: مَصْدَرُ آلَ يَؤُول أَوْلًا وإِيَالًا، والآيِل: اللَّبَنُ الْخَاثِرُ، وَالْجَمْعُ أُيَّل مِثْلُ قَارِحٍ وقُرَّح وَحَائِلٍ وحُوَّل؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

وكأَنَّ خاثِرَه إِذا ارْتَثَؤُوا بِهِ ***عَسَلٌ لَهُمْ، حُلِبَتْ عَلَيْهِ الأُيَّل

وَهُوَ يُسَمِّن ويُغْلِم؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ يَهْجُو لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ:

وبِرْذَوْنَةٍ بَلَّ البَراذينُ ثَغْرَها، ***وَقَدْ شَرِبتْ مِنْ آخِرِ الصَّيْفِ أُيَّلا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنشاده: بُريْذِينةٌ، بِالرَّفْعِ وَالتَّصْغِيرِ دُونَ وَاوٍ، لأَن قَبْلَهُ:

أَلا يَا ازْجُرَا لَيْلى وقُولا لَهَا: هَلا، ***وَقَدْ ركبَتْ أَمْرًا أَغَرَّ مُحَجَّلا

وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ عِنْدَ قَوْلِهِ شَرِبَتْ أَلْبان الأَيَايِل قَالَ: هَذَا مِحَالٌ، وَمِنْ أَين تُوجَدُ أَلبان الأَيايل؟ قَالَ: وَالرِّوَايَةُ وَقَدْ شَرِبَتْ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُيَّلا، وَهُوَ اللَّبَنُ الْخَاثِرُ مِنْ آلَ إِذا خَثُر.

قَالَ أَبو عَمْرٍو: أُيَّل أَلبان الأَيايل، وَقَالَ أَبو مَنْصُورٍ: هُوَ الْبَوْلُ الْخَاثِرُ بِالنَّصْبِ مِنْ أَبوال الأُرْوِيَّة إِذا شَرِبَتْهُ المرأَة اغْتَلَمَتْ.

وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الأُيَّل هُوَ ذُو الْقَرْنِ الأَشعث الضخمِ مِثْلُ الثَّوْرِ الأَهلي.

ابْنُ سِيدَهْ: والأُيَّل بَقِيَّةُ اللَّبَنِ الْخَاثِرِ، وَقِيلَ: الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ، قَالَ: فأَما مَا أَنشده ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَقَدْ شَرِبَتْ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِيَّلا "فَزَعَمَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنه أَراد لَبَنَ إِيَّل، وَزَعَمُوا أَنه يُغْلِم ويُسَمِّن، قَالَ: وَيُرْوَى أُيَّلا، بِالضَّمِّ، قَالَ: وَهُوَ خطأٌ لأَنه يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أُوَّلًا.

قَالَ أَبو الْحَسَنِ: وَقَدْ أَخطأَ ابْنُ حَبِيبٍ لأَن سيبوبه يَرَى الْبَدَلَ فِي مِثْلِ هَذَا مُطَّرِدًا، قَالَ: وَلَعَمْرِي إِن الصَّحِيحَ عِنْدَهُ أَقوى مِنَ الْبَدَلِ، وَقَدْ وَهِم ابْنُ حَبِيبٍ أَيضًا فِي قَوْلِهِ إِن الرِّوَايَةَ مَرْدُودَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لأَن أُيَّلا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مثْلُها فِي إِيّلا، فَيُرِيدُ لَبَنَ أُيَّل كَمَا ذَهَبَ إِليه فِي إِيَّل، وَذَلِكَ أَن الأُيَّل لُغَةٌ فِي الإِيَّل، فإِيَّل كحِثْيَل وأُيَّل كَعُلْيَب، فَلَمْ يَعْرِفِ ابْنُ حَبِيبٍ هَذِهِ اللُّغَةَ.

قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلى أَن أُيَّلا فِي هَذَا الْبَيْتِ جَمْعُ إِيَّل، وَقَدْ أَخْطأَ مِنْ ظَنَّ ذَلِكَ لأَن سِيبَوَيْهِ لَا يَرَى تَكْسِيرَ فِعَّل عَلَى فُعَّل وَلَا حَكَاهُ أَحد، لَكِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ اسْمًا لِلْجَمْعِ؛ قَالَ وَعَلَى هَذَا وَجَّهت أَنا قَوْلَ الْمُتَنَبِّي:

وقِيدَت الأُيَّل فِي الحِبال، ***طَوْع وهُوقِ الخَيْل وَالرِّجَالِ

غَيْرُهُ: والأُيَّل الذَّكَر مِنَ الأَوعال، وَيُقَالُ لِلَّذِي يُسَمَّى "بالفارسية گوزن، وَكَذَلِكَ الإِيَّل، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ الأَيِّل، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، قَالَ الْخَلِيلُ: وإِنما سمي أَيِّلًا لأَنه يَؤُول إِلى الْجِبَالِ، وَالْجَمْعُ إِيَّل وأُيَّل وأَيَايِل، وَالْوَاحِدُ أَيِّل مِثْلَ سَيِّد ومَيِّت.

قَالَ: وَقَالَ أَبو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ مُوَافِقًا لِهَذَا الْقَوْلِ الإِيَّل جَمْعُ أَيِّل، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بِدَلِيلِ قَوْلِ جَرِيرٍ:

أَجِعثنُ، قَدْ لاقيتُ عِمْرَانَ شَارِبًا، ***عَنِ الحَبَّة الخَضْراء، أَلبان إِيَّل

وَلَوْ كَانَ إِيَّل وَاحِدًا لَقَالَ لَبَنَ إِيَّل؛ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَن وَاحِدَ إِيَّل أَيِّل، بِالْفَتْحِ، قَوْلُ الْجَعْدِيِّ: " وَقَدْ شَرِبت مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيِّلًا قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، قَالَ: تَقْدِيرُهُ لبن أَيِّل ولأَن أَلبان الإِيَّل إِذا شَرِبَتْهَا الْخَيْلُ اغتَلَمت.

أَبو حَاتِمٍ: الآيِل مِثْلُ الْعَائِلِ اللَّبَنُ الْمُخْتَلِطُ الْخَاثِرُ الَّذِي لَمْ يُفْرِط فِي الخُثورة، وَقَدْ خَثُرَ شَيْئًا صَالِحًا، وَقَدْ تَغَيَّرَ طَعمه إِلى الحَمَض شَيْئًا وَلَا كُلَّ ذَلِكَ.

يقال: آلَ يَؤُولُ أَوْلًا وأُوُولًا، وَقَدْ أُلْتُهُ أَي صَبَبْتُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى آلَ وَطَابَ وخَثُر.

وآلَ: رَجَع، يُقَالُ: طَبَخْتُ الشَّرَابَ فآلَ إِلى قَدْر كَذَا وَكَذَا أَي رَجَعَ.

وآلَ الشيءُ مَآلًا: نَقَص كَقَوْلِهِمْ حَارَ مَحارًا.

وأُلْتُ الشيءَ أَوْلًا وإِيالًا: أَصلحته وسُسْتُه.

وإِنه لَآيِلُ مَالٍ وأَيِّل مَالٍ أَي حَسَنُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ.

أَبو الْهَيْثَمِ: فُلَانٌ آيِلُ مَالٍ وَعَائِسُ مَالٍ ومُراقِح مَالٍ وإِزَاء مَالٍ وسِرْبال مَالٍ إِذا كَانَ حَسَنَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالسِّيَاسَةِ لَهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ خالُ مالٍ وَخَائِلُ مَالٍ.

والإِيَالة: السِّياسة.

وآلَ عَلَيْهِمْ أَوْلًا وإِيَالًا وإِيَالة: وَليَ.

وَفِي الْمَثَلِ: قَدْ أُلْنا وإِيل عَلَيْنَا، يَقُولُ: ولِينا وَوُلي عَلَيْنَا، وَنَسَبَ ابْنُ بَرِّيٍّ هَذَا الْقَوْلُ إِلى عُمَرَ وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَي سُسْنا وسِيسَ عَلَيْنَا، وقال الشَّاعِرُ:

أَبا مالِكٍ فانْظُرْ، فإِنَّك حَالِبُ ***صَرَى الحَرْب، فانْظُرْ أَيَّ أَوْلٍ تَؤُولُها

وآلَ المَلِك رَعِيَّته يَؤُولُها أَوْلًا وإِيالًا: سَاسَهُمْ وأَحسن سِيَاسَتَهُمْ وَوَليَ عَلَيْهِمْ.

وأُلْتُ الإِبلَ أَيْلًا وإِيالًا: سُقْتها.

التَّهْذِيبُ: وأُلْتُ الإِبل صَرَرْتها فَإِذَا بَلَغَتْ إِلى الحَلْب حَلْبَتُهَا.

وَالْآلُ: مَا أَشرف مِنَ الْبَعِيرِ.

وَالْآلُ: السَّرَابُ، وَقِيلَ: الْآلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ ضُحى كَالْمَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْض يَرْفَعُ الشُّخوص ويَزْهَاهَا، فأَما السَّرَاب فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ نِصْفَ النَّهَارِ لاطِئًا بالأَرْض كأَنه مَاءٌ جَارٍ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْآلُ فِي أَوّل النَّهَارِ؛ وأَنشد: " إِذ يَرْفَعُ الآلُ رأْس الْكَلْبِ فَارْتَفَعَا "وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: السَّرَاب يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ؛ وَفِي حَدِيثِ قُسّ بْنِ ساعدَة: «قَطَعَتْ مَهْمَهًا وَآلًا فَآلَا الآل: السَّراب»، والمَهْمَهُ: القَفْر.

الأَصمعي: الْآلُ وَالسَّرَابُ وَاحِدٌ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: الْآلُ مِنَ الضُّحَى إِلى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَالسَّرَابُ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَاحْتَجُّوا بأَن الْآلَ يَرْفَعُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى يَصِيرَ آلًا أَي شَخْصًا، وآلُ كُلِّ شَيْءٍ: شَخْصه، وأَن السَّرَابَ يُخْفِضُ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ حتى يصير لاصقًا "بالأَرض لَا شَخْصَ لَهُ؛ وَقَالَ يُونُسُ: تَقُولُ الْعَرَبُ الْآلُ مُذ غُدْوة إِلى ارْتِفَاعِ الضُّحَى الأَعلى، ثُمَّ هُوَ سَرَابٌ سائرَ الْيَوْمِ؛ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْآلُ الَّذِي يَرْفَعُ الشُّخُوصَ وَهُوَ يَكُونُ بِالضُّحَى، والسَّراب الَّذِي يَجْري عَلَى وَجْهِ الأَرض كأَنه الْمَاءُ وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ؛ قَالَ الأَزهري: وَهُوَ الَّذِي رأَيت الْعَرَبَ بِالْبَادِيَةِ يَقُولُونَهُ.

الْجَوْهَرِيُّ: الْآلُ الَّذِي تَرَاهُ فِي أَول النَّهَارِ وَآخِرِهِ كأَنه يَرْفَعُ الشُّخُوصَ وَلَيْسَ هُوَ السَّرَابُ؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ:

حَتَّى لَحِقنا بِهِمْ تُعْدي فَوارِسُنا، ***كأَنَّنا رَعْنُ قُفٍّ يَرْفَعُ الْآلَا

أَراد يَرْفَعُهُ الْآلُ فَقَلَبَهُ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَجْهُ كَوْنِ الْفَاعِلِ فِيهِ مَرْفُوعًا وَالْمَفْعُولِ مَنْصُوبًا باسمٍ صَحِيحٍ، مَقُول بِهِ، وَذَلِكَ أَن رَعْن هَذَا القُفِّ لَمَّا رَفَعَهُ الآل فرُؤي فِيهِ ظَهَرَ بِهِ الْآلُ إِلى مَرْآة الْعَيْنِ ظُهُورًا لَوْلَا هَذَا الرَّعْن لَمْ يَبِنْ لِلْعَيْنِ بَيانَه إِذا كَانَ فِيهِ، أَلا تَرَى أَن الْآلَ إِذا بَرَق لِلْبَصَرِ رَافِعًا شَخْصه كَانَ أَبدى لِلنَّاظِرِ إِليه مِنْهُ لَوْ لَمْ يُلَاقِ شَخْصًا يَزْهاه فَيَزْدَادُ بِالصُّورَةِ الَّتِي حَمَلَهَا سُفورًا وَفِي مَسْرَح الطَّرْف تجَلِّيًا وَظُهُورًا؟ فإِن قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ الأَعشى: إِذ يَرْفَع الآلُ رأْسَ الكلبِ فَارْتَفَعَا "فَجَعَلَ الْآلَ هُوَ الْفَاعِلُ وَالشَّخْصَ هُوَ الْمَفْعُولُ، قِيلَ: لَيْسَ فِي هَذَا أَكثر مِنْ أَن هَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَن غَيْرَهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، أَلا تَرَى أَنك إِذا قُلْتَ مَا جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ فإِنما فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَن الَّذِي هُوَ غَيْرَهُ لَمْ يأْتك، فأَما زَيْدٌ نَفْسُهُ فَلَمْ يُعَرَّض للإِخبار بإِثبات مَجِيءٍ لَهُ أَو نَفْيِهِ عَنْهُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ قَدْ جَاءَ وأَن يَكُونَ أَيضًا لَمْ يَجِئْ؟ وَالْآلُ: الخَشَبُ المُجَرَّد؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " آلٌ عَلَى آلٍ تَحَمَّلَ آلَا "فَالْآلُ الأَول: الرَّجُلُ، وَالثَّانِي السَّرَابُ، وَالثَّالِثُ الْخَشَبُ؛ وَقَوْلُ أَبي دُوَاد:

عَرَفْت لَهَا مَنزلًا دَارِسًا، ***وَآلًا عَلَى الْمَاءِ يَحْمِلْنَ آلَا

فَالْآلُ الأَول عِيدانُ الخَيْمة، وَالثَّانِي الشَّخْصُ؛ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْآلُ بمعنى السَّرَابِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّة:

تَبَطَّنْتُها والقَيْظَ، مَا بَيْن جَالِها ***إِلى جَالِها سِتْرٌ مِنَ الْآلِ نَاصِحُ

وَقَالَ النَّابِغَةُ:

كأَنَّ حُدُوجَها فِي الآلِ ظُهْرًا، ***إِذا أُفْزِعْنَ مِنْ نَشْرٍ، سَفِينُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: فَقَوْلُهُ ظُهْرًا يَقْضِي بأَنه السَّرَابُ، وَقَوْلُ أَبي ذؤَيب:

وأَشْعَثَ فِي الدارِ ذِي لِمَّة، ***لَدَى آلِ خَيْمٍ نَفَاهُ الأَتِيُ

قِيلَ: الْآلُ هُنَا الْخَشَبُ.

وآلُ الْجَبَلِ: أَطرافه وَنَوَاحِيهِ.

وآلُ الرَّجُلِ: أَهلُه وعيالُه، فإِما أَن تَكُونَ الأَلف مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، وإِما أَن تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ، وَتَصْغِيرُهُ أُوَيْل وأُهَيْل، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِما لَا يَعْقِلُ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

نَجَوْتَ، وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْكَ طَلاقَةً ***سِوَى رَبَّة التَّقْريبِ من آل أَعْوَجا

وَالْآلُ: آلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال أَبو "الْعَبَّاسِ أَحمد بْنُ يَحْيَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآلِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اتَّبَعَهُ قَرَابَةً كَانَتْ أَو غَيْرَ قَرَابَةٍ، وَآلُهُ ذُو قَرَابَتِهِ مُتَّبعًا أَو غَيْرَ مُتَّبع؛ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْآلُ والأَهل وَاحِدٌ، وَاحْتَجُّوا بأَن الْآلَ إِذا صُغِّرَ قِيلَ أُهَيْل، فكأَن الْهَمْزَةَ هَاءٌ كَقَوْلِهِمْ هَنَرْتُ الثَّوْبَ وأَنَرْته إِذا جَعَلْتَ لَهُ عَلَمًا؛ قَالَ: وَرَوَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فِي تَصْغِيرِ آلٍ أُوَيْل؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: فَقَدْ زَالَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ وَصَارَ الْآلُ والأَهل أَصلين لِمَعْنَيَيْنِ فَيَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، قُرَابَةً كَانَ أَو غَيْرَ قُرَابَةٍ؛ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَنه سُئِلَ عَنْ" قَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ: مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: قَالَ قَائِلٌ آلُهُ أَهله وأَزواجه كأَنه ذَهَبَ إِلى أَن الرَّجُلَ تَقُولُ لَهُ أَلَكَ أَهْلٌ؟ فَيَقُولُ: لَا وإِنما يَعْنِي أَنه لَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ، قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ اللِّسَانُ وَلَكِنَّهُ مَعْنَى كَلَامٍ لَا يُعْرَف إِلَّا أَن يَكُونَ لَهُ سَبَبُ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَن يُقَالَ لِلرَّجُلِ: تزوَّجتَ؟ فَيَقُولُ: مَا تأَهَّلت، فَيُعْرَف بأَول الْكَلَامِ أَنه أَراد مَا تَزَوَّجْتُ، أَو يَقُولُ الرَّجُلُ أَجنبت مِنْ أَهلي فَيُعْرَفُ أَن الْجَنَابَةَ إِنما تَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ، فأَما أَن يَبْدَأَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ أَهلي بِبَلَدِ كَذَا فأَنا أَزور أَهلي وأَنا كَرِيمُ الأَهْل، فإِنما يَذْهَبُ النَّاسُ فِي هَذَا إِلى أَهل الْبَيْتِ، قَالَ: وَقَالَ قَائِلٌ آلُ مُحَمَّدٍ أَهل دِينِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وَمَنْ ذَهَبَ إِلى هَذَا أَشبه أَن يَقُولَ قَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ، وَقَالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، أَي لَيْسَ مِنْ أَهل دِينِكَ؛ قَالَ: وَالَّذِي يُذْهَب إِليه فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَن مَعْنَاهُ أَنه لَيْسَ من أَهلك الذين أَمرناك بِحَمْلِهِمْ مَعَكَ، فإِن قَالَ قَائِلٌ: وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ؟ قِيلَ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، فأَعلمه أَنه أَمره بأَن يَحْمِل مِنْ أَهله مَنْ لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهل الْمَعَاصِي، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، قَالَ: وَذَهَبَ نَاسٌ إِلى أَن آلَ مُحَمَّدٍ قَرَابَتُهُ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ قَرَابَتِهِ، وإِذا عُدَّ آلُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الَّذِينَ إِليه نَسَبُهم، ومن يُؤْويه بَيْتُهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَو مَمْلُوكٍ أَو مَوْلى أَو أَحد ضَمَّه عِيَالُهُ وَكَانَ هَذَا فِي بَعْضِ قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَل أَبيه دُونَ قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَل أُمه، لَمْ يَجُزْ أَن يَسْتَدِلَّ عَلَى مَا أَراد اللَّهُ مِنْ هَذَا ثُمَّ رَسُولَهُ إِلا بسنَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَالَ: إِن الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ دَلَّ عَلَى أَن آلَ مُحَمَّدٍ هُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ وعُوِّضوا مِنْهَا الخُمس، وَهِيَ صَلِيبة بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَهُمُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْدَ نَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجمعين.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَاخْتُلِفَ فِي آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لَهُمْ، فالأَكثر عَلَى أَنهم أَهل بَيْتِهِ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَن آلَ مُحَمَّدٍ هُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ وَعُوِّضُوا مِنْهَا الخُمس، وَقِيلَ: آلُهُ أَصحابه وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ أُعْطِي مِزْمارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»، أَراد مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ نَفْسِهِ.

وَالْآلُ: صِلَةٌ زَائِدَةٌ.

وَآلُ الرَّجُلِ أَيضًا: أَتباعه؛ قَالَ الأَعشى:

فكذَّبوها بِمَا قَالَتْ، فَصَبَّحَهم ***ذُو آلِ حَسَّانَ يُزْجي السَّمَّ والسَّلَعا

يَعْنِي جَيْشَ تُبَّعٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ}.

التَّهْذِيبُ: شَمِرٌ قَالَ أَبو عَدْنَانَ قَالَ لِي مَنْ لَا أُحْصِي "مِنْ أَعراب قَيْسٍ وَتَمِيمٍ: إِيلة الرَّجُلِ بَنُو عَمِّه الأَدْنَوْن.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَطاف بِالرَّجُلِ وَحَلَّ مَعَهُ مِنْ قَرَابَتِهِ وعِتْرته فَهُوَ إِيلته؛ وَقَالَ العُكْلي: وَهُوَ مِنْ إِيلَتِنا أَي مِنْ عِتْرَتنا.

ابْنُ بَزْرَجٍ: إِلَةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَئِلُ إِليهم وَهُمْ أَهله دُنيا.

وهؤُلاء إِلَتُكَ وَهُمْ إِلَتي الَّذِينَ وأَلْتُ إِليهم.

قَالُوا: رَدَدْتُهُ إِلى إِلَتِهِ أَي إِلى أَصله؛ وأَنشد: " وَلَمْ يَكُنْ فِي إِلَتِي عَوَالَا "يُرِيدُ أَهل بَيْتِهِ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ نَوَادِرِهِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَما إِلَة الرَّجُلِ فَهُمْ أَهل بَيْتِهِ الَّذِينَ يَئِلُ إِليهم أَي يلجأُ إِليهم.

وَالْآلُ: الشَّخْصُ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبي ذُؤَيْبٍ:

يَمانِيَةٍ أَحْيا لَهَا مَظَّ مائِدٍ ***وَآلَ قِراسٍ، صَوْبُ أَرْمِيَةٍ كُحْلِ

يَعْنِي مَا حَوْلَ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ النَّبَاتِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ الْآلُ الَّذِي هُوَ الأَهل.

وَآلُ الخَيْمة: عَمَدها.

الْجَوْهَرِيُّ: الْآلَةُ وَاحِدَةُ الْآلِ وَالْآلَاتِ وَهِيَ خَشَبَاتٌ تُبْنَى عَلَيْهَا الخَيْمة؛ وَمِنْهُ قَوْلُ كثيِّر يَصِفُ نَاقَةً وَيُشَبِّهُ قَوَائِمَهَا بِهَا:

وتُعْرَف إِن ضَلَّتْ، فتُهْدَى لِرَبِّها ***لموضِع آلَاتٍ مِنَ الطَّلْح أَربَع

والآلةُ: الشِّدَّة.

وَالْآلَةُ: الأَداة، وَالْجَمْعُ الْآلَاتُ.

وَالْآلَةُ: مَا اعْتَمَلْتَ بِهِ مِنَ الأَداة، يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.

وَقَوْلُ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: تُسْتَعْمَل آلَةُ الدِّينِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا "؛ إِنما يَعْنِي بِهِ الْعِلْمَ لأَن الدِّينَ إِنما يَقُومُ بِالْعِلْمِ.

وَالْآلَةُ: الْحَالَةُ، وَالْجَمْعُ الآلُ.

يُقَالُ: هُوَ بآلَة سُوءٍ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الْآلَهْ، ***وأَتْرُك العاجِزَ بالجَدَالَه

وَالْآلَةُ: الجَنازة.

وَالْآلَةُ: سَرِيرُ الْمَيِّتِ؛ هَذِهِ عَنْ أَبي العَمَيْثَل؛ وَبِهَا فَسَّرَ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

كُلُّ ابنِ أُنْثَى، وإِن طالَتْ سَلَامَتُه، ***يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمُولُ

التَّهْذِيبُ: آلَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ أَي وَأَل مِنْهُ ونَجَا، وَهِيَ لُغَةُ الأَنصار، يَقُولُونَ: رَجُلٌ آيِل مَكَانَ وَائِلٍ؛ وأَنشد بَعْضُهُمْ:

يَلُوذ بشُؤْبُوبٍ مِنَ الشَّمْسِ فَوْقَها، ***كَمَا آلَ مِن حَرِّ النَّهَارِ طَرِيدُ

وَآلَ لحمُ النَّاقَةِ إِذا ذَهَب فضَمُرت؛ قَالَ الأَعْشَى:

أَذْلَلْتُهَا بعد المِرَاح، ***فَآلَ مِنْ أَصلابها

أَي ذَهَبَ لحمُ صُلْبها.

والتَّأْوِيل: بَقْلة ثَمَرَتِهَا فِي قُرُونٍ كَقُرُونِ الْكِبَاشِ، وَهِيَ شَبِيهة بالقَفْعاء ذَاتِ غِصَنَة وَوَرَقٍ، وَثَمَرَتُهَا يَكْرَهُهَا الْمَالُ، وَوَرَقُهَا يُشْبِهُ وَرَقَ الْآسِ وهيَ طَيِّبة الرِّيحِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْبيت، وَاحِدَتُهُ تَأْوِيلَة.

وَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ قَالَ: إِنما طَعَامُ فُلَانٍ الْقَفْعَاءُ والتَّأْوِيل، قَالَ: والتَّأْوِيل نَبْتٌ يَعْتَلِفُهُ الْحِمَارُ، وَالْقَفْعَاءُ شَجَرَةٌ لَهَا شَوْكٌ، وإِنما يُضْرَبُ هَذَا الْمَثَلَ لِلرَّجُلِ إِذا اسْتَبْلَدَ فَهْمُهُ وَشُبِّهَ بِالْحِمَارِ فِي ضَعْفِ عَقْلِهِ.

وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ.

الْعَرَبُ تَقُولُ أَنت فِي ضَحَائك بين القَفْعاء "والتَّأْوِيل، وَهُمَا نَبْتَان مَحْمُودَانِ مِنْ مَرَاعي الْبَهَائِمِ، فإِذا أَرادوا أَن يَنْسِبُوا الرَّجُلَ إِلى أَنه بَهِيمَةٌ إِلا أَنه مُخْصِب مُوَسَّع عَلَيْهِ ضَرَبُوا لَهُ هَذَا الْمَثَلَ؛ وأَنشد غَيْرُهُ لأَبي وَجْزَة السَّعْدِيِّ:

عَزْبُ المَراتع نَظَّارٌ أَطاعَ لَهُ، ***مِنْ كُلِّ رَابِيَةٍ، مَكْرٌ وتأْويل

أَطاع لَهُ: نَبَت لَهُ كَقَوْلِكَ أَطَاعَ لَهُ الوَرَاقُ، قَالَ: ورأَيت فِي تَفْسِيرِهِ أَن التَّأْوِيل اسْمُ بَقْلَةٍ تُولِعُ بَقْرَ الْوَحْشِ، تَنْبُتُ فِي الرَّمْلِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: والمَكْر والقَفْعاء قَدْ عَرِفْتُهُمَا ورأَيتهما، قَالَ: وأَما التَّأْوِيل فإِني مَا سَمِعْتُهُ إِلَّا فِي شِعْرِ أَبي وَجْزَةَ هَذَا وَقَدْ عَرَفَهُ أَبو الْهَيْثَمِ وأَبو سَعِيدٍ.

وأَوْل: مَوْضِعٌ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

أَيا نَخْلَتَيْ أَوْلٍ، سَقَى الأَصْلَ مِنكما ***مَفِيضُ الرُّبى، والمُدْجِناتُ ذُرَاكُما

وأُوَال وأَوَالُ: قَرْيَةٌ، وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ مِمَّا يَلِي الشَّامَ؛ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: أَنشده سِيبَوَيْهِ:

مَلَكَ الخَوَرْنَقَ والسَّدِيرَ، ودَانَه ***مَا بَيْنَ حِمْيَرَ أَهلِها وأَوَال

صَرَفَهُ لِلضَّرُورَةِ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لأُنَيف بْنِ جَبَلة:

أَمَّا إِذا اسْتَقْبَلْتُهُ فكأَنَّه ***للعَيْنِ جِذْعٌ، مِنْ أَوَال، مُشَذَّبُ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


55-لسان العرب (رسل)

رسل: الرَّسَل: القَطِيع مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ أَرْسَال.

والرَّسَل: الإِبل، هَكَذَا حَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ مِنْ غَيْرِ أَن يَصِفَهَا بِشَيْءٍ؛ قَالَ الأَعشى:

يَسْقِي رِيَاضًا لَهَا قَدْ أَصبحت غَرَضًا، ***زَوْرًا تَجانف عَنْهَا القَوْدُ والرَّسَل

والرَّسَل: قَطِيع بَعْدَ قَطِيع.

الْجَوْهَرِيُّ: الرَّسَل، بِالتَّحْرِيكِ، القَطِيع مِنَ الإِبل وَالْغَنَمِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

أَقول للذَّائد: خَوِّصْ برَسَل، ***إِني أَخاف النَّائِبَاتِ بالأُوَل

وَقَالَ لَبِيدٌ: وفِتْيةٍ كالرَّسَل القِمَاح "وَالْجَمْعُ الأَرْسَال؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

يَا ذائدَيْها خَوِّصا بأَرْسَال، ***وَلَا تَذُوداها ذِيادَ الضُّلَّال

ورَسَلُ الحَوْض الأَدنى: مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، يُذَكَّرُ ويؤَنث.

والرَّسَل: قَطيعٌ مِنَ الإِبِل قَدْر عَشْرٍ يُرْسَل بَعْدَ قَطِيع.

وأَرْسَلُوا إِبلهم إِلى الْمَاءِ أَرْسَالًا أَي قِطَعًا.

واسْتَرْسَلَ إِذا قَالَ أَرْسِلْ إِليَّ الإِبل أَرْسَالًا.

وجاؤوا رِسْلَةً رِسْلَةً أَي جَمَاعَةً جَمَاعَةً؛ وإِذا أَورد الرَّجُلُ إِبله مُتَقَطِّعَةً قِيلَ أَوردها أَرْسَالًا، فإِذا أَوردها جَمَاعَةً قِيلَ أَوردها عِراكًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: أَن النَّاسَ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَرْسَالًا يُصَلُّون عَلَيْهِ أَي أَفواجًا وفِرَقًا مُتَقَطِّعَةً بَعْضُهُمْ يَتْلُو بَعْضًا، وَاحِدُهُمْ رَسَلٌ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالسِّينِ.

وَفِي حَدِيثٍ فِيهِ ذِكْرُ السَّنَة: ووَقِير كَثِيرُ الرَّسَل قَلِيلُ الرِّسْل "؛ كَثِيرُ الرَّسَل يَعْنِي الَّذِي يُرْسَل مِنْهَا إِلى الْمَرْعَى كَثِيرٌ، أَراد أَنها كَثِيرَةُ العَدَد قَلِيلَةُ اللَّبن، فَهِيَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مُفْعَل أَي أَرسلها فَهِيَ مُرْسَلَة؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ العُذْري فَقَالَ: كَثِيرُ الرَّسَل أَي شَدِيدُ التَّفَرُّقِ فِي طَلَبِ المَرْعى، قَالَ: وَهُوَ أَشبه لأَنه قَدْ قَالَ فِي أَول الْحَدِيثِ مَاتَ الوَدِيُّ وهَلَك الهَدِيُ، يَعْنِي الإِبل، فإِذا هَلَكَتِ الإِبل مَعَ صَبْرِهَا وَبَقَائِهَا عَلَى الجَدْب كَيْفَ تَسْلَمُ الْغَنَمُ وتَنْمي حَتَّى يَكْثُرَ عَدَدُهَا؟ قَالَ: وَالْوَجْهُ مَا قَالَهُ العُذْري وأَن الْغَنَمَ تتفرَّق وَتَنْتَشِرُ فِي طَلَبِ الْمَرْعَى لِقِلَّتِهِ.

ابْنُ السِّكِّيتِ: الرَّسَل مِنَ الإِبل وَالْغَنَمِ مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلى خَمْسٍ وعشرين.

وفي الحديث: «إِني لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ وإِنه سَيُؤتى بِكُمْ رَسَلًا رَسَلًا فتُرْهَقون عَنِّي»، أَي فِرَقًا.

وَجَاءَتِ الْخَيْلُ أَرْسَالًا أَي قَطِيعًا قَطِيعًا.

ورَاسَلَه مُرَاسَلَة، فَهُوَ مُرَاسِلٌ ورَسِيل.

والرِّسْل والرِّسْلَة: الرِّفْق والتُّؤَدة؛ قَالَ صَخْرُ الغَيِّ وَيَئِسَ مِنْ أَصحابه أَن يَلْحَقوا بِهِ وأَحْدَق بِهِ أَعداؤه وأَيقن بِالْقَتْلِ فَقَالَ:

لَوْ أَنَّ حَوْلي مِنْ قُرَيْمٍ رَجْلا، ***لمَنَعُوني نَجْدةً أَو رِسْلا

أَي لَمَنَعُونِي بِقِتَالٍ، وَهِيَ النَّجْدة، أَو بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَهِيَ الرِّسْل.

والتَّرَسُّل كالرِّسْل.

والتَّرسُّلُ فِي الْقِرَاءَةِ والتَّرْسِيل وَاحِدٌ؛ قَالَ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ بِلَا عَجَلة، وَقِيلَ: بعضُه عَلَى أَثر بَعْضٍ.

وتَرَسَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ: اتَّأَد فِيهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ فِي كَلَامِهِ تَرْسِيلٌ "أَي تَرْتِيلٌ؛ يُقَالُ: تَرَسَّلَ الرجلُ فِي كَلَامِهِ وَمَشْيِهِ إِذا لَمْ يَعْجَل، وَهُوَ والتَّرَسُّل سَوَاءٌ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِذا أَذَّنْتَ فتَرَسَّلْ»؛ أي تَأَنَّ وَلَا تَعْجَل.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِن الأَرض إِذا دُفِن فِيهَا الإِنسان قَالَتْ لَهُ رُبَّما مَشَيت عليَّ فَدَّادًا ذَا مالٍ وَذَا خُيَلاء».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَيُّما رجلٍ كَانَتْ لَهُ إِبل لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤه بأَخفافها إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي نَجْدتها ورِسْلها "؛ يُرِيدُ الشِّدَّة وَالرَّخَاءَ، يَقُولُ: يُعْطي وَهِيَ سِمانٌ حِسانٌ يشتدُّ عَلَى مَالِكِهَا إِخراجُها، فَتِلْكَ نَجْدَتها، ويُعْطِي فِي رِسْلِها وَهِيَ مَهازِيلُ مُقارِبة، قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ أَعْطى فِي إِبله مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إِعطاؤه فَيَكُونُ نَجْدة عَلَيْهِ أَي شدَّة، أَو يُعْطي مَا يَهُون عَلَيْهِ إِعطاؤُه مِنْهَا فَيُعْطِي مَا يُعْطِي مُسْتَهِينًا بِهِ عَلَى رِسْله؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي فِي قَوْلِهِ: إِلا مَنْ أَعْطى فِي رِسْلها؛ أَي بطِيب نِفْسٍ مِنْهُ.

والرِّسْلُ فِي غَيْرِ هَذَا: اللَّبَنُ؛ يُقَالُ: كَثُرَ الرِّسْل العامَ أَي كثر اللبن، وقد تقدم تَفْسِيرُهُ أَيضًا فِي نَجَدَ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ لَيْسَ للهُزال فِيهِ مَعْنًى لأَنه ذَكَرَ الرِّسْل بَعْدَ النَّجْدة عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ للإِبل، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِمْ إِلا مَنْ أَعْطى فِي سِمَنها وَحُسْنِهَا وَوُفُورِ لَبَنِهَا، قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلى مَعْنًى وَاحِدٍ فَلَا مَعْنَى للهُزال، لأَن مَنْ بَذَل حَقَّ اللَّهِ مِنَ الْمَضْنُونِ بِهِ كَانَ إِلى إِخراجه مِمَّا يَهُونُ عَلَيْهِ أَسهل، فَلَيْسَ لِذِكْرِ الهُزال بَعْدَ السِّمَن مَعْنًى؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: والأَحسن، وَاللَّهُ أَعلم، أَن يَكُونَ الْمُرَادُ بالنَّجْدة الشِّدَّةَ والجَدْب، وبالرِّسْل الرَّخاء والخِصْب، لأَن الرِّسْل اللَّبَنُ، وإِنما يَكْثُرُ فِي حَالِ الرَّخَاءِ والخِصْب، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنه يُخْرج حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ والجَدْب والخِصْب، لأَنه إِذا أَخرج حَقَّهَا فِي سَنَةِ الضِّيقِ وَالْجَدْبِ كَانَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْهِ فإِنه إِجحاف بِهِ، وإِذا أَخرج حَقَّهَا فِي حَالِ الرَّخَاءِ كَانَ ذَلِكَ سَهْلًا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْحَدِيثِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نَجْدتها ورِسْلها؟ قَالَ: عُسْرها وَيُسْرُهَا، فَسَمَّى النَّجْدة عُسْرًا والرِّسْل يُسْرًا، لأَن الجَدب عُسْرٌ، والخِصْب يُسْرٌ، فَهَذَا الرَّجُلُ يُعْطِي حَقَّهَا فِي حَالِ الْجَدْبِ وَالضِّيقِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّجْدَةِ، وَفِي حَالِ الخِصب وَالسَّعَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بالرِّسْل.

وَقَوْلُهُمُ: افعلْ كَذَا وَكَذَا عَلَى رِسْلك، بِالْكَسْرِ، أَي اتَّئدْ فِيهِ كَمَا يُقَالُ عَلَى هِينتك.

وَفِي حَدِيثِ صَفِيَّة: «فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلكما»أَي اتَّئِدا وَلَا تَعْجَلا؛ يُقَالُ لِمَنْ يتأَنى وَيَعْمَلُ الشَّيْءَ عَلَى هِينَتِهِ.

اللَّيْثُ: الرَّسْل، بِفَتْحِ الرَّاءِ، الَّذِي فِيهِ لِينٌ وَاسْتِرْخَاءُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ رَسْلة الْقَوَائِمِ أَي سَلِسة لَيِّنة الْمَفَاصِلِ؛ وأَنشد:

برَسْلة وُثّق مُلْتَقَاهَا، ***مَوْضِعَ جُلْب الكُور مِنْ مَطاها

وسَيْرٌ رَسْلٌ: سَهْل.

واسْتَرْسَلَ الشيءُ: سَلِس.

وَنَاقَةٌ رَسْلة: سَهْلَةُ السَّيْرِ، وجَمَل رَسْلٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ رَسِلَ رَسَلًا ورَسَالة.

وَشَعَرٌ رَسْل: مُسْترسِل.

واسْتَرْسَلَ الشعرُ أَي صَارَ سَبْطًا.

وناقة مِرْسَال: "رَسْلة الْقَوَائِمِ كَثِيرَةُ الشَّعَرِ فِي سَاقَيْهَا طَوِيلَتُهُ.

والمِرْسال: النَّاقَةُ السَّهْلَةُ السَّيْرِ، وإِبِل مَراسيلُ؛ وَفِي قَصِيدِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

أَضحت سُعادُ بأَرض، لَا يُبَلِّغها ***إِلا العِتاقُ النَّجيبات المَراسِيل

المَراسِيل: جَمْعُ مِرْسَال وَهِيَ السَّرِيعَةُ السَّيْرِ.

وَرَجُلٌ فِيهِ رَسْلة أَي كَسَل.

وَهُمْ فِي رَسْلة مِنَ الْعَيْشِ أَي لِينٍ.

أَبو زَيْدٍ: الرَّسْل، بِسُكُونِ السِّينِ، الطَّوِيلُ المسترسِل، وَقَدْ رَسِلَ رَسَلًا ورَسَالة؛ وَقَوْلُ الأَعشى: " غُولَيْن فَوْقَ عُوَّجٍ رِسَال أَي قَوَائِمُ طِوال.

اللَّيْثُ: الاسْتِرْسَال إِلى الإِنسان كَالِاسْتِئْنَاسِ والطمأْنينة، يُقَالُ: غَبْنُ المُسْتَرسِل إِليك رِبًا.

واستَرْسَلَ إِليه أَي انْبَسَطَ واستأْنس.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيُّما مسلمٍ اسْتَرْسَلَ إِلى مُسْلِمٍ فغَبَنه فَهُوَ كَذَا»؛ الاسْتِرْسَال: الِاسْتِئْنَاسُ والطمأْنينة إِلى الإِنسان والثِّقةُ بِهِ فِيمَا يُحَدِّثه، وأَصله السُّكُونُ وَالثَّبَاتُ.

قَالَ: والتَّرَسُّل مِنَ الرِّسْل فِي الأُمور وَالْمَنْطِقِ كالتَّمهُّل والتوقُّر والتَّثَبُّت، وَجَمْعُ الرِّسَالَة الرَّسَائِل.

قَالَ ابْنُ جَنْبة: التَّرَسُّل فِي الْكَلَامِ التَّوقُّر والتفهمُ وَالتَّرَفُّقُ مِنْ غَيْرِ أَن يَرْفَعَ صَوْتَهُ شَدِيدًا.

والتَّرَسُّل فِي الرُّكُوبِ: أَن يَبْسُطَ رِجْلَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ حَتَّى يُرْخِي ثِيَابَهُ عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُغَشِّيَهما، قَالَ: والتَّرَسُّل فِي الْقُعُودِ أَن يتربَّع ويُرْخي ثِيَابَهُ عَلَى رِجْلَيْهِ حَوْلَهُ.

والإِرْسَال: التَّوْجِيهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِليه، وَالِاسْمُ الرِّسَالَة والرَّسَالَة والرَّسُول والرَّسِيل؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وأَنشد:

لَقَدْ كَذَب الواشُون مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ***بلَيْلى، وَلَا أَرْسَلْتُهم برَسِيل

والرَّسُول: بِمَعْنَى الرِّسالة، يُؤَنَّثُ ويُذكَّر، فَمَنْ أَنَّث جَمَعَهُ أَرْسُلًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " قَدْ أَتَتْها أَرْسُلي "وَيُقَالُ: هِيَ رَسُولك.

وتَرَاسَل القومُ: أَرْسَلَ بعضُهم إِلى بَعْضٍ.

والرَّسول.

الرِّسالة والمُرْسَل؛ وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ فِي الرَّسُولِ الرِّسالة للأَسعر الجُعفي:

أَلا أَبْلِغ أَبا عَمْرٍو رَسُولًا، ***بأَني عَنْ فُتاحتكم غَنِيُ

عَنْ فُتاحتكم أَي حُكْمكم؛ وَمِثْلُهُ لِعَبَّاسِ بْنِ مِرْداس:

أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي خُفافًا ***رَسُولًا، بَيْتُ أَهلك مُنْتهاها

فأَنث الرَّسُول حَيْثُ كَانَ بِمَعْنَى الرِّسالة؛ وَمِنْهُ قَوْلُ كثيِّر:

لَقَدْ كَذَب الواشُون مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ***بسِرٍّ، وَلَا أَرْسَلْتهم برَسُول

وَفِي التَّنْزِيلِ العزيز: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ "؛ وَلَمْ يَقُلْ رُسُل لأَن فَعُولًا وفَعِيلًا يَسْتَوِي فِيهِمَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ مِثْلُ عَدُوٍّ وصَدِيق؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

أَلِكْني إِليها، وخَيْرُ الرَّسول ***أَعْلَمهُم بِنَوَاحِي الخَبَر

أَراد بالرَّسول الرُّسُل، فَوَضَعَ الْوَاحِدَ مَوْضِعَ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، لَا يُرِيدُونَ بِهِ الدِّينَارَ بِعَيْنِهِ وَالدِّرْهَمَ بِعَيْنِهِ، إِنما يُرِيدُونَ كَثْرَةَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالْجَمْعُ أَرْسُل ورُسُل ورُسْل ورُسَلاء؛ الأَخيرة عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وَقَدْ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعُوَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ شَاهِدًا عَلَى جَمْعِهِ عَلَى أَرْسُل لِلْهُذَلِيِّ:

لَوْ كَانَ فِي قَلْبِي كقَدْرِ قُلامة ***حُبًّا لِغَيْرِكِ، مَا أَتاها أَرْسُلي

وَقَالَ أَبو بَكْرِ بْنُ الأَنباري فِي قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: أَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَعلم وأُبَيِّن أَن مُحَمَّدًا مُتابِعٌ للإِخبار عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

والرَّسُول: مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الَّذِي يُتابِع أَخبار الَّذِي بَعَثَهُ أَخذًا مِنْ قَوْلِهِمْ جَاءَتِ الإِبل رَسَلًا أَي مُتَتَابِعَةً.

وَقَالَ أَبو إِسحاق النَّحْوِيُّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَةً عن موسى وأَخيه: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ "؛ مَعْنَاهُ إِنا رِسالة رَبّ الْعَالَمِينَ أَي ذَوَا رِسالة رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وأَنشد هُوَ أَو غَيْرُهُ:

***مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ***بسِرٍّ وَلَا أَرسلتهم برَسُول

أَراد وَلَا أَرسلتهم برِسالة؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا قَوْلُ الأَخفش.

وسُمِّي الرَّسول رَسُولًا لأَنه ذُو رَسُول أَي ذُو رِسالة.

والرَّسول: اسْمٌ مِنْ أَرْسَلْتُ وَكَذَلِكَ الرِّسَالة.

وَيُقَالُ: جَاءَتِ الإِبل أَرْسَالًا إِذا جَاءَ مِنْهَا رَسَلٌ بَعْدَ رَسَل.

والإِبل إِذا وَرَدت الْمَاءَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فإِن القَيِّم بِهَا يُورِدُهَا الْحَوْضَ رَسَلًا بَعْدَ رَسَل، وَلَا يُورِدُهَا جُمْلَةً فَتَزْدَحِمُ عَلَى الْحَوْضِ وَلَا تَرْوَى.

وأَرْسَلْت فُلَانًا فِي رِسالة، فَهُوَ مُرْسَل ورَسُول.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَدُلُّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَن قَوْمَ نُوحٍ قَدْ كَذَّبوا غَيْرَ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقَوْلِهِ الرُّسُل، وَيَجُوزُ أَن يُعْنى بِهِ نُوحٌ وَحْدَهُ لأَن مَنْ كَذَّبَ بنبيٍّ فَقَدْ كَذَّب بِجَمِيعِ الأَنبياء، لأَنه مُخَالِفٌ للأَنبياء لأَن الأَنبياء، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِجَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ يَعْنِي بِهِ الْوَاحِدَ وَيَذْكُرَ لَفْظَ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ: أَنت مِمَّنْ يُنْفِق الدَّرَاهِمَ أَي مِمَّنْ نَفَقَتُه مِنْ هَذَا الْجِنْسِ؛ وَقَوْلُ الْهُذَلِيِّ: " حُبًّا لِغَيْرِكِ مَا أَتاها أَرْسُلي "ذَهَبَ ابْنُ جِنِّي إِلى أَنه كَسَّر رَسُولًا عَلَى أَرْسُل، وإِن كَانَ الرَّسُولُ هُنَا إِنما يُرَادُ بِهِ المرأَة لأَنها فِي غَالِبِ الأَمر مِمَّا يُسْتَخْدَم فِي هَذَا الْبَابِ.

والرَّسِيل: المُوافِق لَكَ فِي النِّضال وَنَحْوِهِ.

والرَّسِيل: السَّهْل؛ قَالَ جُبَيْهاء الأَسدي:

وقُمْتُ رَسِيلًا بِالَّذِي جَاءَ يَبْتَغِي إِليه ***بَلِيجَ الْوَجْهِ، لَسْتُ بِباسِر

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: الْعَرَبُ تُسَمِّي المُراسِل فِي الغِناء والعَمل المُتالي.

وَقَوَائِمُ الْبَعِيرِ: رِسالٌ.

قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْفَحْلِ الْعَرَبِيِّ يُرْسَل فِي الشَّوْل لِيَضْرِبَهَا رَسِيل؛ يُقَالُ: هَذَا رَسِيل بَنِي فُلَانٍ أَي فَحْلُ إِبلهم.

وَقَدْ أَرْسَلَ بَنُو فُلَانٍ رَسِيلَهم أَي فَحْلهم، كأَنه فَعِيل بِمَعْنَى مُفْعَل، مِنْ أَرْسَلَ؛ قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ؛ يُرِيدُ، وَاللَّهُ أَعلم، المُحْكَم، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ؛ وَمِمَّا يُشَاكِلُهُ قَوْلُهُمْ للمُنْذَرِ نَذير، وللمُسْمَع سَمِيع.

وحديثٌ مُرْسَل إِذا كَانَ غَيْرَ مُتَّصِلِ الأَسناد، وَجَمْعُهُ مَرَاسِيل.

والمُرَاسِل مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تُراسِل الخُطَّاب، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجَهَا بأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، مَاتَ أَو طَلَّقَهَا، وَقِيلَ: المُرَاسِل الَّتِي قَدْ أَسَنَّتْ وَفِيهَا بَقِيَّة شَبَابٍ، وَالِاسْمُ الرِّسَال.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «أَن رَجُلًا مِنَ الأَنصار تزوَّج امرأَة مُراسِلًا، يَعْنِي ثَيِّبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهَلَّا بِكْرًا تُلاعِبُها وتلاعِبك وَقِيلَ: امرأَة مُرَاسِل هِيَ الَّتِي»يَمُوتُ زَوْجُهَا أَو أَحَسَّت مِنْهُ أَنه يُرِيدُ تَطْلِيقَهَا فَهِيَ تَزَيَّنُ لِآخَرَ؛ وأَنشد الْمَازِنِيُّ لِجَرِيرٍ:

يَمْشِي هُبَيرةُ بَعْدَ مَقْتَل شَيْخِهِ، ***مَشْيَ المُرَاسِل أُوذِنَتْ بِطَلَاقِ

يَقُولُ: لَيْسَ يَطْلُبُ بِدَمِ أَبيه، قَالَ: المُرَاسِل الَّتِي طُلِّقت مَرَّاتٌ فَقَدْ بَسَأَتْ بِالطَّلَاقِ أَي لَا تُباليه، يَقُولُ: فهُبَيرة قَدْ بَسَأَ بأَن يُقْتَل لَهُ قَتِيلٌ وَلَا يَطْلُبَ بثأْره مُعَوَّدٌ ذَلِكَ مِثْلَ هَذِهِ المرأَة الَّتِي قَدْ بَسَأَتْ بِالطَّلَاقِ أَي أَنِسَتْ بِهِ، وَاللَّهُ أَعلم.

وَيُقَالُ: جَارِيَةٌ رُسُل إِذا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَخْتَمر؛ قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:

وَلَقَدْ أَلْهُو بِبِكْرٍ رُسُلٍ، ***مَسُّها أَليَنُ مِنْ مَسِّ الرَّدَن

وأَرْسَلَ الشيءَ: أَطلقه وأَهْمَله.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ أَرْسَلْنا وَجْهَانِ: أَحدهما أَنَّا خَلَّينا الشَّيَاطِينَ وإِياهم فَلَمْ نَعْصِمهم مِنَ القَبول مِنْهُمْ، قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، أَنهم أُرْسِلوا عَلَيْهِمْ وقُيِّضوا لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا}؛ وَمَعْنَى الإِرْسَال هُنَا التَّسْلِيطُ؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: الْفَرْقُ بَيْنَ إِرسال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنبياءه وإِرْساله الشَّيَاطِينَ عَلَى أَعدائه فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ}، أَن إِرْسَاله الأَنبياء إِنما هُوَ وَحْيُه إِليهم أَن أَنذِروا عِبَادِي، وإِرْسَاله الشياطينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَخْلِيَتُه وإِياهم كَمَا تَقُولُ: كَانَ لِي طَائِرٌ فأَرْسَلْته أَي خَلَّيْتُهُ وأَطلقته.

والمُرْسَلات، فِي التَّنْزِيلِ: {الرِّيَاحُ}، وَقِيلَ الخَيْل، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَلَائِكَةُ.

والمُرْسَلَة: قِلادة تَقَعُ عَلَى الصَّدْرِ، وَقِيلَ: المُرْسَلَة القِلادة فِيهَا الخَرَزُ وَغَيْرُهَا.

والرِّسْل: اللَّبن مَا كَانَ.

وأَرْسَلَ القومُ فَهُمْ مُرْسَلُون: كَثُر رِسْلُهم، وَصَارَ لَهُمُ اللَّبَنُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:

دَعَانَا المُرْسِلون إِلى بِلادٍ، ***بِهَا الحُولُ المَفارِقُ والحِقاق

ورَجُلٌ مُرَسِّلٌ: كَثِيرُ الرِّسْل وَاللَّبَنِ والشِّرْب؛ قَالَ تأَبَّط شَرًّا:

وَلَسْتُ بِرَاعِي ثَلَّةٍ قَامَ وَسْطَها، ***طوِيل الْعَصَا غُرْنَيْقِ ضَحْلٍ مُرَسِّل

مُرَسِّل: كَثِيرُ اللَّبَنِ فَهُوَ كالغُرْنَيْق، وَهُوَ شِبْهُ الكُرْكِيّ فِي الْمَاءِ أَبدًا.

والرَّسَلُ: ذَوَاتُ اللَّبَنِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ الخُدْري: «أَنه قَالَ رأَيت فِي عَامٍ كَثُرَ فِيهِ الرِّسْل البياضَ أَكثر مِنَ السَّواد، ثُمَّ رأَيت بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَامٍ كَثُرَ فِيهِ التَّمْرُ السَّوادَ أَكثر مِنَ الْبَيَاضِ»؛ الرِّسْل: اللَّبَنُ وَهُوَ الْبَيَاضُ إِذا كَثُر قَلَّ التَّمْر وَهُوَ السَّواد، وأَهل البَدْو يَقُولُونَ إِذا كَثُرَ الْبَيَاضُ قَلَّ السَّوَادُ، وإِذا كَثُرَ السَّوَادُ قَلَّ الْبَيَاضُ.

والرِّسْلان مِنَ الْفَرَسِ: أَطراف الْعَضُدَيْنِ.

والرَّاسِلان: الكَتِفان، وَقِيلَ عِرْقان فِيهِمَا، وَقِيلَ الوابِلَتان.

وأَلقَى الكلامَ عَلَى رُسَيْلاته أَي تَهاوَن بِهِ.

والرُّسَيْلى، مَقْصُورٌ: دُوَيْبَّة.

وأُمُّ رِسَالة: الرَّخَمة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


56-أساس البلاغة (نشو)

نشو

رجل نشوان بيّن النشوة، وامرأة نشوى، وقوم نشاوى، وقد انتشوا، ووجدت منه نشوة المسك بالكسر ونشا المسك. قال:

وينشى نشا المسك في فأرة *** وريح الخزامى على الأجرع

ونشيت منه ريحًا طيّبة واستنشيت. قال:

ونشيت ريح الموت من تلقائهم *** ةوخشيت وقع مهندٍ قرضاب

ومن المجاز: من أين نشيت هذا الخبر؟ وهو نشيان للأخبار ونشوان، وإنه لذو نشوة للأخبار بالكسر.

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


57-صحاح العربية (نشا)

[نشا] النَشا مقصورٌ: نسيم الريح الطيِّبة.

يقال: نَشِيتُ منه ريحًا نِشْوَةً بالكسر، أي شَمِمْتُ.

قال الهذليّ: ونَشيتُ ريحَ الموتِ من تِلْقائِهِمْ *** وخشيتُ وَقْعَ مُهَنَّدٍ قِرْضابِ واستنشيت مثله.

قال ذو الرمة:

واستنشى الغرب *** ويقال أيضا: نشيت الخبر، إذا تخبَّرتَ ونظرتَ من أين جاء.

يقال: من أين نَشيتَ هذا الخبر، أي من أين علمته.

قال يعقوب: الذئب يَسْتَنْشِئُ الريحَ بالهمز، وإنَّما هو من نَشيتُ غير مهموز.

ورجلٌ نَشْيانُ للأخبار بيِّن النِشْوْةِ بالكسر، وإنما قالوه بالياء للفرق بينه وبين

النشوان.

وأصل الياء في نشيت واو قلبت ياء للكسرة.

ورجلٌ نَشْوانُ، أي سكرانُ، بيِّن النشوة بالفتح.

وزعم يونس أنه سمع فيه نشوة بالكسر.

وقد انتشى، أي سكر.

وقول الشاعر: وقالوا قد جننت فقلت كلا *** وربى ما جننت ولا انتشيت يريد: ولا بكيت من سكر.

والنشا، هو النشاستج، فارسي معرب، حذف شطره تحفيفا، كما قالوا للمنازل منا.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


58-منتخب الصحاح (نشا)

النَشا مقصورٌ: نسيم الريح الطيِّبة.

يقال: نَشِيتُ منه ريحًا نِشْوَةً بالكسر، أي شَمِمْتُ.

قال الهذليّ:

ونَشيتُ ريحَ الموتِ من تِلْقائِهِمْ *** وخشيتُ وَقْعَ مُهَنَّدٍ قِرْضابِ

واسْتَنْشَيْتُ مثله.

ويقال أيضًا: نَشيتُ الخبر، إذا تخبَّرتَ ونظرتَ من أين جاء.

يقال: من أين نَشيتَ هذا الخبر، أي من أين علمته.

قال يعقوب: الذئب يَسْتَنْشِئُ الريحَ بالهمز، وإنَّما هو من نَشيتُ غير مهموز.

ورجلٌ نَشْيانُ للأخبار بيِّن النِشْوْةِ بالكسر.

ورجلٌ نَشْوانُ، أي سكرانُ، بيِّن النَشْوَةِ بالفتح.

وقد انْتَشى، أي سكر.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


59-المحيط في اللغة (حسى)

حِسْيٌ: مَوْضِعٌ سَهْلٌ يَسْتَنْقِعُ فيه الماءُ، والجَميعُ: الأحْسَاءُ.

واحْتَسَيْنا حِسْيًا: حَفَرْناه.

وذو حُسَيً: مَوْضِعٌ.

وتَحَسَّيْتُ الخَبَرَ: بمعنى تَحَسَّسْتُ، وحَسِيْتُه.

ورَجُلٌ حَسٌ للأخْبارِ أشَدَّ الحَسى.

وحَسِيْتُ به عَلِمْتَه.

وأحَسْنَ به.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


60-تهذيب اللغة (رسل)

رسل: قال أبو بكر بن الأنباريّ في قول المؤذِّن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله.

قال: معنى أشهَد أُعلم وأُبيِّن أن محمدًا مُتابع للإِخبار عن الله جلَّ وعز.

قال: والرسول معناه في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بَعثَه؛ أُخِذ من قولهم: جاءت الإبلُ رسلًا، أي: متتابعة.

وقال أبو إسحاق النحويّ في قول الله جلّ وعزّ حكايةً عن موسى وأخيه: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الشعراء: 16]، معناه:

إنا رسالةُ ربّ العالمين، أي: ذَوَا رِسالةِ رَبِّ العالمين، وأنشد هو أو غيره:

لقد كَذَب الواشُون ما فُهتُ عندَهم *** بسرٍّ ولا أَرْسَلْتهُم برَسولِ

أراد: ولا أرسلتهُم برسالة.

قلت: وهذا قولُ الأخفش، وسمِّيَ الرسولُ رسولًا لأنه ذُو رَسول، أي: ذو رسالة، والرسول اسمٌ من أَرسلْت، وكذلك الرسالة.

ويقال: جاءت الإبلُ أَرْسالًا: إذا جاء منها رَسل بعد رَسل، والإبل إذا وَرَدت الماءَ وهي كثيرة فإن القيِّم بها يُورِدها الحوضَ رَسلًا بعد رَسل، ولا يُورِدُها جملةً فتزدَحم على الحوض ولا تَرْوَى.

والرَّسلُ: قطيعٌ من الإبل قَدْر عَشر تُرسل بعد قَطِيع.

وسمعتُ العرب تقول للفحل العربيّ يُرْسل في الشَّوْل ليَضربَها: رَسيلٌ، يقال: هذا رسيلُ بني فلان، أي: فَحْل إبلِهم، وقد أَرسل بنُو فلان رَسيلَهم، أي: فَحلَهم، كأنه فَعِيل، بمعنى مُفعَل من أُرسل.

وهو كقول الله: {الم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 1، 2]، يريد والله أعلم الكتابَ المُحكَم دَلَّ على ذلك قولُه: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} [هود: 1]، ومما يشاكله قولهم للمُنذَر: نَذِير، وللمُسْمَع: سَميع.

ورُوي عن النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال: «إن الأرض إذا دُفِن فيها الإنسان قالت له: ربما مشيت عليّ فَدّادًا ذا مالٍ كثير وذا خُيَلاء».

وفي حديثٍ آخَرَ: «أَيُّما رجلٍ كانت له إبلٌ لم يُؤَدِّ زكاتَها بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ تَطؤُه بأخفافها إلَّا من أَعطَى في نَجْدَتها ورِسلها».

قال أبو عُبيد: معناه: إلا من أعطى في إبلِه ما يَشُقّ عليه عطاؤه، فيكون نجدةً عليه، أي: شدةً، أو يُعطى ما يهون عليه عطاؤه منها، فيعطِي ما يعطِي مُسْتهينًا به على رِسلِه.

وأخبرَني المنذريُّ عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ في قوله: «إلّا من أَعطَى في رِسلِها»، أي: بطيبِ نَفْس منه.

والرِّشْل في غير هذا: اللَّبَنُ.

يقال: كثُر الرِّسل العام، أي: كثُر اللبن.

وقد مر تفسير الحديث في باب الجيم بأكثر من هذا.

وإذا أورد الرجل إبلَه متقطعةً قيل: أوردها أرسالًا.

فإذا أوردها جماعةً قيل: أوردها عِراكًا.

وفي حديث فيه ذِكر السَّنَة: «ووَقِير كثير الرَّسَل، قليل الرِّسْل».

قوله: «كثير الرَّسل»، يعني الذي يُرسل منها إلى الرِّعي كثير.

أراد أنها كثيرةُ العدد قليلة اللبن.

وقال ابن السِّكيت: الرَّسَلُ من الإبل والغنم: ما بين عشر إلى خمس وعشرين.

وفي حديث أبي هريرة: أن رجلًا من الأنصار تزوج امرأة مُرَاسِلًا، يعني ثيّبًا.

وفي حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ أنه قال: رأيت في عام كثُر فيه الرِّسْل البياضَ أكثرَ من السواد، ثم رأيت بعد ذلك في عام كثر فيه التّمر السوادَ أكثرَ من البياض.

الرِّسْلُ: اللبن، وهو البياض إذا كثُر قلّ التّمر، وهو السواد.

وأهل البَدْو يقولون: إذا كثر البياض قل السواد، وإذا كثر السواد قل البياض.

وقال الليث: الرَّسْل ـ بفتح الراء ـ الذي فيه لِينٌ واسترخاء.

يقال: ناقةٌ رَسْلةُ القوائم، أي: سِلسةٌ ليّنة المفاصل، وأنشد:

برَسْلَةٍ وُثِّق مُلتَقاها *** موضع جُلْبِ الكُورِ من مَطاهَا

وقال أبو زيد: الرَّسْل ـ بسكون السين ـ الطويلُ المسترسل، وقد رَسل رَسَلًا ورَسَالة.

وقال الليث: الاسترسال إلى الإنسان كالاستئناس والطُّمأنينة.

يقال: غَبْنُ المُسترسِل إليك رِيًا.

قال: والتَّرسُّل: من الرِّسْل في الأمور والمَنطِق: كالتمهُّل والتوقُّر والتثبت.

وجمعُ الرسالة الرسائل، وجمع الرَّسول الرُّسل.

والرسولُ بمعنى الرسالة يؤنَّث ويذكّر فمن أنّث جمعَه أَرسُلًا.

وقال الشاعر:

* قد أَتَتْها أَرْسُلِي *

ويقال: هي رَسولُك.

وناقةٌ مِرْسال: رَسلةُ القوائم، كثيرةُ شعر الساقين، طويلة.

أبو عُبَيد عن الكسائيّ: يقال: امرأةٌ مُراسل، وهي التي مات عنها زوجُها أو طلّقها.

وقال ابن الأعرابي: العرب تسمِّي المُراسل في الغِناء والعَمل: المُتالي.

أبو عبيد عن أبي زيد: أَرسل القومُ فهم مُرسلون: إذا كان لهم رِسل، وهو اللبن.

وقول الأعشى:

* عُولَيْنِ فوْق عُوّجٍ رِسَالِ *

أي: قوائم طوال.

وقال اليزيديّ: الترتيل في القراءة والتَّرْسيل واحد.

قال: وهو التحقيق بلا عجلة.

وقيل: بعضه على إثر بعض.

والمُرْسلةُ: القِلادة فيها الخَرَز وغيرها.

ويقال: جارِيةٌ رُسُلٌ: إذا كانت صغيرة لا تَخْتَمِر.

وقال عديّ بنُ زيد:

ولقد أَلْهُو ببِكْرٍ رُسُلٍ *** مَسُّها أَلْيَنُ من مَسِّ الرَّدَنْ

وقال أبو العباس: الفرق بين إرسالِ الله جلّ وعزّ أنبياءَه وإرسالِه الشياطينَ على أعدائه في قوله: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، أن إرسالَه الأنبياء إنما هو وَحيُه إليهم أن أَنذِروا عِبادي، وإرسالُه الشياطينَ على الكافرين تَخليَتُهم وإياهم، كما تقول: كان في يدي طائرٌ فأرسلتُه، أي: خلّيته وأطلَقْتُه، وحديثٌ مُرسل: إِذا كان غيرَ متّصل الإسناد، وجمعُه مَراسيل.

الخرّاز بن الأعرابي: أرسل القوم: إذا كَثُر رِسلهم، وهو اللبن.

وأرسلوا إبلَهم إلى الماء إرسالًا، أي: قِطعًا.

واسترسل: إذا قال أرسلْ إلى الإبل أرسالًا.

ورجلٌ مُرَسِّلٌ: كثيرُ الرِّسل واللبن والشِّرْب.

وقال تأبّط شرًّا:

ولستُ بِرَاعي ثلّة قام وسطَها *** طويلِ العصا غُرْنَيْقِ ضَحْلِ مُرَسَّلِ

مُرسِل: كثير اللبن، فهو كالغُرْنيق، وهو شبه الكُرَليّ في الماء أبدًا.

شمر عن ابن الأعرابي عن خالد بن جنْبة: الترسلُ في الكلام: التّوَقّر والتفهُّم والتَّرفُّق من غير أن يرفع صوته شديدًا.

قال: والترسلُ في الركوب: أن يبسط الدابة ثُم تُرخى ثيابه على رجليه حتى يغيّبهما.

قال: والترسلُ في القعود: أن يتربَّع، وأن يرخي ثيابه على رجليه حوله.

قال الشيخ رحمه‌الله: حدثنا ابن منيع عن جده عن يعقوب بن الوليد عن ابن أبي ذؤيب عن المقبري عن أبي هريرة قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة مُراسلًا ـ يعني ثيّبًا ـ فقال النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «فهلّا تزوجت بكرًا تلاعبها وتلاعبك».

وأنشد المازني:

يمشي هبيرةُ بعد مقتل شيخه *** مَشْيَ المُراسِل بُشّرتْ بطلاقِ

قال: المُراسِلُ: التي طُلقت مرات، فقد بسأت بالطلاق، فهي لا تباليه.

يقول: فهُبيرة قد بسأ بأن يقتل له قتيل ولا يطلب بثأره، فتعوّدَ ذلك مثل هذه المرأة التي بسأت بالطلاق، أي: أنست به.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com