نتائج البحث عن (لِيُطَهِّرَكُمْ)

1-العربية المعاصرة (رجز)

رجَزَ يَرجُز، رَجْزًا، فهو راجز.

* رجَز الشَّاعرُ: أنشد قصيدة من بحر الرَّجَز، أنشد أُرجوزة.

ارتجزَ يرتجز، ارتجازًا، فهو مُرتجِز.

* ارتجز الشَّاعرُ: رجَز؛ قال أرُجوزة (قصيدة من بحر الرجز) (*) ارتجز الرَّعدُ: تدارك صوته كارتجاز الراجز.

تراجزَ يتراجز، تراجُزًا، فهو مُتراجِز.

* تراجز القومُ: تناشدوا الرَّجَزَ بينهم؛ أي القصائد من بحر الرَّجَز.

راجزَ يُراجز، مُراجَزةً، فهو مُراجِز، والمفعول مُراجَز.

* راجز صديقَه: باراه في الرَّجَز.

رجَّزَ يُرجِّز، ترجيزًا، فهو مُرجِّز.

* رجَّزَ الشَّاعرُ: رجَزَ؛ أنشد قصيدة من بحر الرّجَز.

أُرجوزة [مفرد]: جمعه أراجيزُ وأُرجوزات: قصيدة من بحر الرَّجَز (كان العرب يُنشدون الأراجيز في حداء الإبل).

راجِز [مفرد]: جمعه راجِزون ورُجَّاز: اسم فاعل من رجَزَ.

رَجْز [مفرد]: مصدر رجَزَ.

رَجَز [مفرد]: جمعه أرجاز.

* الرَّجَز:

1 - [في الطب] داء يصيب الإبل، ترتعش منه أفخاذها عند قيامها.

2 - [في العروض] أحد بحور الشِّعر العربي، ووزنه: مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ، في كلِّ شطر.

رُجْز [مفرد]: عبادة الأوثان {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [قرآن].

رِجْز [مفرد]:

1 - رِجْس؛ عذاب وعقاب {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [قرآن].

2 - قَذَرٌ ونَجَسٌ.

* رِجْزُ الشَّيطان: وسوستُه {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [قرآن].

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (الرِّجْزُ)

[الرِّجْزُ] [وبضم الراء]: الذَّنْبُ.

و- العذابُ.

وفي التنزيل العزيز: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134].

و- عبادة الأَوثان.

وفي التنزيل العزيز: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5].

و- الشِّرْكُ.

ورِجْزُ الشيطان: وَسْوَسَته.

وفي التنزيل العزيز: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11].

(والجمع): أَرجاز.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-شمس العلوم (التطهير)

الكلمة: التطهير. الجذر: طهر. الوزن: التَّفْعِيل.

[التطهير]: طَهّره من النجاسة، قال الله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.

وطهّره: أي نزهه عن الإثم والدنس، ومنه قوله تعالى: يعني نساء النبي عليه‌ السلام، لقوله تعالى في أول الآية: {يا نِساءَ النَّبِيِ} وفي الآية بعدها: {وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


4-المعجم الاشتقاقي المؤصل (رجز)

(رجز): {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]

الرَجَز -محركة: ارتعادٌ يصيب البعيرَ والناقة في أفخاذهما ومُؤَخَّرِهما عند القيام. وناقةٌ رَجْزاء: ضعيفةُ العجُز إذا نهضت من مَبْرَكها لم تستقلّ إلا بعد نَهْضَتَين أو ثلاثٍ. وقِدْرٌ رَجْزاء: كبيرة ثقيلة. والرِجَازة -كرسالة: ما عُدِل به مَيْلُ الحِمْل والهودَج -وَهو كِساء يُجْعَل فيه حِجَارةٌ ويُعَلَّق بأَحَدِ جانبي الهودَج ليَعْدِلَه إذا مال. وتَرَجَّزَ السحابُ: تَحرَّك تحركًا بطيئًا لكثرة مائه. وارتجز الرعدُ: سمعت له صوتًا متتابعًا متداركًا.

° المعنى المحوري

ارتعادٌ (= حركة ترددية واهتزاز) عند النهوض أو الحمل بسبب الثقل العظيم -كالبعير (المثقل) يرتعد فَخِذاه عند القيام، وكذا السحابُ يتحرك ببُطءٍ وثِقَل، والقِدْر الثقيلة لا تُحْمَل إلا بجَهْد، والرِجَازة ثِقْل يعلَّقُ في الجانب الخفيف وتهتز (أو لأنها تقاوم الاهتزاز والميل)، وصوت الرعد غليظ شديد كأنه صوت حركة أشياء بالغة الثقل. والرجز -بالكسر: العذاب (المُثْقِل المعجز) تأمل {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف: 133]، {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134]. [وانظر قر 7/ 267] وكل (رِجز) عذاب منزل من السماء فهو من هذا. ومن هذا الثقل قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11]، أي ما يجعلهم يشعرون به من ثِقَل نفسي بوسوسته المثبِّطة. فأذهب الله ذلك فنَشِطَت نفوسهم ولَقُوا عَدُوَّهم على هذا فنصرهم الله. وفسر [ابن قتيبة 177] الرِجْز بالكيد [وانظر قر 7/ 372] وفي قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، ذكر [قر 19/ 66] في تفسيره: الأوثان، إساف ونائلة- على ضم راء {وَالرُّجْزَ}، وهو رأي بالغ الإيحاش، والوعيد (على فتح الراء) وهو بعيد للزوم الوعيد ووقوعه. كلما فُسِّرت بالنجاسة، والمعصية والمأثم -وهذا جيد على أنها مُثْقِلات (انظر أثم)، وبالعذاب أي أسبابه. والذي أراه أن معنى الرُّجْز هنا هو الثقَل ونحوه. أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يَنِي ولا يَفْتُر في أمر الدعوة تأثرًا بما يَلْقَى من إعراض ونحوه. وسياق السورة من أولها وإلى الآية السابعة يؤيد هذا. {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ...} [المدثر: 1 - 2]. أما الرَجَز من

الشعر فهو شعر كل بيت فيه ذو قافية في شطره الثاني تتسق مع قافية شطره الأول، وهكذا. وهذا شبيه بالتردد. فهو من التردد وحده.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


5-المعجم الاشتقاقي المؤصل (طهطه)

(طهطه): فَرَس طَهْطاه: فَتِيٌّ مطهَّم/ فَتِيّ رائع (المطهم من الناس والخيل: الحَسَن التامّ كلِّ شيء منه على حدته. فهو بارع الجمال).

° المعنى المحوري

حُسْن الشيء وكَمَالُ حاله على ما يُعْجِب منه (1).

(page)

• (طهر):

{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]

الشاة تقْذِى عشرًا ثم تَطْهُر. وطهُرَت المرأة: انقطع عنها الدم ورأت الطهر. وطهّر فلان ولده - ض: أقام سُنّة ختانه ""."

° المعنى المحوري

نقاء الشيء مما يُتَأَذَّى به، أو انقطاع قذى الشيء. كما في انقطاع قذى الشاة ودم المرأة وقُلْفَة المختون {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108].

ثم عمم في التنزُّه عن القبائح المادية والمعنوية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. ومن التنزه الذي سخر منه القوم {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] وأطهر لقلوبكم من المعاصي [قر 17/ 302] (تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يشعر بخطر الأمر، فيحسن النية، ويتحفّظ، ولا يناجى إلا بما هو مطمئن القلب لسلامته دينيًّا). وكل ما في القرآن من التركيب فهو من الطهارة بمعنى النقاء من الأدران المادية أو المعنوية ومن المعنوية قبائح النفس والقلب.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


6-موسوعة الفقه الكويتية (تعبدي 1)

تَعَبُّدِيٌّ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعَبُّدِيُّ لُغَةً: الْمَنْسُوبُ إِلَى التَّعَبُّدِ.

وَالتَّعَبُّدُ مَصْدَرُ تَعَبَّدَ، يُقَالُ: تَعَبَّدَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ: إِذَا اتَّخَذَهُ عَبْدًا، أَوْ صَيَّرَهُ كَالْعَبْدِ.

وَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِالطَّاعَةِ: اسْتَعْبَدَهُ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ الْعِبَادَةَ.

وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ.وَمِنْهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ: إِذَا كَانَ مُذَلَّلًا بِكَثْرَةِ الْمَشْيِ فِيهِ.

وَيَرِدُ التَّعَبُّدُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى: التَّذَلُّلِ، يُقَالُ: تَعَبَّدَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ: إِذَا خَضَعَ لَهُ وَذَلَّ.وَبِمَعْنَى: التَّنَسُّكُ، يُقَالُ: تَعَبَّدَ فُلَانٌ لِلَّهِ تَعَالَى: إِذَا أَكْثَرَ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَظَهَرَ فِيهِ الْخُشُوعُ وَالْإِخْبَاتُ.

وَالتَّعَبُّدُ مِنَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: تَكْلِيفُهُمْ أُمُورَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرَهَا.وَيُكْثِرُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِمْ: نَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ، أَيْ مُكَلَّفُونَ بِذَلِكَ.وَيَقُولُونَ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، أَيْ مُكَلَّفًا بِالْعَمَلِ بِهِ.

2- وَالتَّعَبُّدِيَّاتُ- فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ- تُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَعْمَالُ الْعِبَادَةِ وَالتَّنَسُّكِ.وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى مُصْطَلَحِ (عِبَادَةٌ).

الثَّانِي: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا يَظْهَرُ لِلْعِبَادِ فِي تَشْرِيعِهَا حِكْمَةٌ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ، أَيِ التَّكْلِيفِ بِهَا، لِاخْتِبَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَطَاعَ أُثِيبَ، وَإِنْ عَصَى عُوقِبَ.

وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هُنَا: مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَقْلِهِ.أَمَّا مَصْلَحَتُهُ الْأُخْرَوِيَّةُ- مِنْ دُخُولِ جَنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِهِ- فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِتَلْبِيَةِ كُلِّ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، تَعَبُّدِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

3- هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَعْرِيفِ التَّعَبُّدِيَّاتِ.وَقَدْ لَاحَظَ الشَّاطِبِيُّ فِي مُوَافَقَاتِهِ أَنَّ حِكْمَةَ الْحُكْمِ قَدْ تَكُونُ مَعْلُومَةً عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ.قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ: طَلَبُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَالذَّبْحُ فِي الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَالْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدُ الْأَشْهُرِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي فَهْمِ مَصَالِحِهَا الْجُزْئِيَّةِ، حَتَّى يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا.فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي النِّكَاحِ، مِنَ الْوَلِيِّ وَالصَّدَاقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، هِيَ لِتَمْيِيزِ النِّكَاحِ عَنِ السِّفَاحِ، وَأَنَّ فُرُوضَ الْمَوَارِيثِ تَرَتَّبَتْ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْبَى مِنَ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْعِدَدَ وَالِاسْتِبْرَاءَاتِ، الْمُرَادُ بِهَا اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ خَوْفًا مِنِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَلَكِنَّهَا أُمُورٌ جُمَلِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ الْخُضُوعَ وَالْإِجْلَالَ عِلَّةُ شَرْعِ الْعِبَادَاتِ.وَهَذَا الْمِقْدَارُ لَا يَقْضِي بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ فِيهَا، بِحَيْثُ يُقَالُ: إِذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ بِأُمُورٍ أُخَرَ مَثَلًا، لَمْ تُشْتَرَطْ تِلْكَ الشُّرُوطُ.وَمَتَى عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَمْ تُشْرَعِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ وَلَا بِالْأَشْهُرِ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

4- هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ التَّعَبُّدِيَّاتِ شُرِعَتْ لَنَا لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا، أَوْ إِنَّهَا شُرِعَتْ لَا لِحِكْمَةٍ أَصْلًا غَيْرَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ وَاسْتِدْعَائِهِ الِامْتِثَالَ مِنْهُمْ، اخْتِبَارًا لِطَاعَةِ الْعَبْدِ لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا يَعْمَلُ، بِمَنْزِلَةِ سَيِّدٍ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَبِيده أَيَّهمْ أَطْوَعُ لَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّسَابُقِ إِلَى لَمْسِ حَجَرٍ، أَوِ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا مِمَّا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ غَيْرُ مُجَرَّدِ الطَّاعَةِ.

5- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُتَّجَهُ، بِدَلَالَةِ اسْتِقْرَاءِ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهَا جَالِبَةً لِلْمَصَالِحِ دَارِئَةً لِلْمَفَاسِدِ.

وَكَذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ فِي مُوَافَقَاتِهِ اعْتَمَدَ الِاسْتِقْرَاءَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ.قَالَ: وَلَمَّا اضْطُرَّ الرَّازِيَّ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلَلِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَثْبَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ بِمَعْنَى الْعَلَامَاتِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْأَحْكَامِ.وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَقْرَأَهَا قوله تعالى فِي شَأْنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَفِي الصِّيَامِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَفِي الْقِصَاصِ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَآيَاتٌ نَحْوُ هَذِهِ.

وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ، حَيْثُ قَالَ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ وَاحِدٌ إِلاَّ وَلَهُ مَعْنًى وَحِكْمَةٌ، يَعْقِلُهُ مَنْ يَعْقِلُهُ، وَيَخْفَى عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ.وَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا أَوْسَعَ فَقَالَ: شَرَعَ اللَّهُ الْعُقُوبَاتِ، وَرَتَّبَهَا عَلَى أَسْبَابِهَا، جِنْسًا وَقَدْرًا، فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ، وَمَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَأَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَخَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا، مَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُمْكِنُهُمْ.وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ وَالتَّقْدِيرَاتُ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَاقِعَةٌ فِي خَلْقِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا فِي خَلْقِهِ وَذَاكَ فِي أَمْرِهِ، وَمَصْدَرُهُمَا جَمِيعًا عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَتَقَاضَى إِلاَّ إِيَّاهُ، كَمَا وَضَعَ قُوَّةَ الْبَصَرِ وَالنُّورِ الْبَاصِرِ فِي الْعَيْنِ، وَقُوَّةَ السَّمْعِ فِي الْأُذُنِ، وَقُوَّةَ الشَّمِّ فِي الْأَنْفِ، وَخَصَّ كُلَّ حَيَوَانٍ وَغَيْرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَحْسُنُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهَيْئَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ، فَشَمِلَ إِتْقَانَهُ وَإِحْكَامَهُ، وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَتْقَنَ خَلْقَهُ غَايَةَ الْإِتْقَانِ، وَأَحْكَمَهُ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، فَلأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا يَكُونُ الْجَهْلُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَإِتْقَانِهِ كَذَلِكَ وَصُدُورِهِ عَنْ مَحْضِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مُسَوِّغًا لِإِنْكَارِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَسَارَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلِيُّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيُّ فِي حُجَّةِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ (الْآتِي) تُكَذِّبُهُ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ.

6- أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي بِوُجُودِ أَحْكَامٍ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ قُصِدَ مِنْهَا التَّعَبُّدُ وَالِامْتِثَالُ.فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ: قوله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَعَلَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا آصَارًا وَأَغْلَالًا لِتَعَنُّتِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، كَمَا أَلْزَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ تَكُونَ الْبَقَرَةُ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِذَبْحِهَا لَا فَارِضًا وَلَا بِكْرًا، وَأَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي بَعْضِ الِابْتِلَاءِ وَاسْتِدْعَاءِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ وَالتَّدْرِيبِ عَلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَبِيرَةٌ، لَا يَزَالُ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ يُدَرِّبُونَ عَلَيْهَا أَنْصَارَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَيَبْذُلُونَ فِي ذَلِكَ الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ، لِيَكُونُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ مُلَبِّينَ لِلْأَوَامِرِ دُونَ تَرَدُّدٍ أَوْ حَاجَةٍ إِلَى التَّفَهُّمِ، اكْتِفَاءً وَثِقَةً بِأَنَّ وَلِيَّ أَمْرِهِمْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمَا يُرِيدُ.بَلْ إِنَّ مَصْلَحَةَ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِمَا هِيَ الْحِكْمَةُ الْأُولَى الْمُبْتَغَاةُ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَسَاسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}.وَقَالَ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وَقَالَ {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَاإِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}

وَلَكِنْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ جَعَلَ غَالِبَ أَحْكَامِهَا تُرَاعِي مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الِابْتِلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ أَحْكَامٍ لَا تُرَاعِي ذَلِكَ، بَلْ قُصِدَ بِهَا الِابْتِلَاءُ خَاصَّةً، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ: عُرِفَ مِنْ دَأْبِ الشَّرْعِ اتِّبَاعُ الْمَعَانِي الْمُنَاسَبَةِ دُونَ التَّحَكُّمَاتِ الْجَامِدَةِ، وَهَذَا غَالِبُ عَادَةِ الشَّرْعِ.وَيَقُولُ: حَمْلُ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ عَلَى التَّحَكُّمِ أَوْ عَلَى الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ، نَوْعُ ضَرُورَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ.وَقَالَ: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْأَحْكَامِ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُنَاكَحَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالضَّمَانَاتِ وَمَا عَدَا الْعِبَادَاتِ فَالتَّحَكُّمُ فِيهَا نَادِرٌ، وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَالْمُقَدَّرَاتُ فَالتَّحَكُّمَاتُ فِيهَا غَالِبَةٌ، وَاتِّبَاعُ الْمَعْنَى نَادِرٌ.وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَتَجَرَّدَ التَّعَبُّدَاتُ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ يَقَعُ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ مِنْ غَيْرِ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ غَيْرَ مَصْلَحَةِ الثَّوَابِ وَلَا دَرْءِ مَفْسَدَةٍ غَيْرَ مَفْسَدَةِ الْعِصْيَانِ.

7- فَالتَّعَبُّدِيُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ سَبِيلًا لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مَعَ ثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُمُ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا.هَلْ يَمْتَثِلُونَ وَيُطِيعُونَ دُونَ أَنْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ، أَمْ يَعْصُونَ اتِّبَاعًا لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ؟.

وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: ابْتَلَاهُمْ بِمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الثَّوَابِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعِبَادَةُ:

8- أَصْلُ الْعِبَادَةِ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ.وَالْعِبَادَاتُ، أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ.وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى، بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ حِكْمَتَهُ، أَوِ اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ.وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْحَجِّ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي حِكْمَةِ التَّرْخِيصِ فِي الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ أَثْنَاءَ رَمَضَانَ: إِنَّهَا دَفْعُ الْمَشَقَّةِ.فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا.

وَبَعْضُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَكُونُ تَعَبُّدِيًّا، كَكَوْنِ رَمْيِ الْجِمَارِ سَبْعًا سَبْعًا.

وَتَكُونُ التَّعَبُّدِيَّاتُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ قَبْلَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي بِهَا.

ب- حَقُّ اللَّهِ:

9- قَدْ يُقَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ: إِنَّهُ لِحَقِّ اللَّهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَكَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَى.وَيُقَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا: إِنَّهُ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالدَّيْنِ وَالضَّمَانَاتِ.وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ، إِلاَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ (حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) أَنَّهُ لَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْعِبَادِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ، بَلْ لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْ تَنْفِيذِهِ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَتَمَّتْ شُرُوطُ وُجُوبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ.وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَعَبُّدِيًّا، بَلْ يَكُونُ تَعَبُّدِيًّا إِذَا خَفِيَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ.وَيَكُونُ غَيْرَ تَعَبُّدِيٍّ، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَةُ لِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ فِي التَّعَبُّدَاتِ، كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمَعْرُوفَةِ، فِي الْأَمَاكِنِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَلَا تَحُومُ حَوْلَهُ، يَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيَطْرُقُ إِلَيْهِ بِزَعْمِهِ حِكَمًا، يَزْعُمُ أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْضَاعِ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ، وَلَا مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ، بَلْ كَالتَّعْلِيلِ بَعْدَ السَّمَاعِ لِلْأُمُورِ الشَّوَاذِّ، لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَلَا دَلِيلَ لَنَا عَلَيْهِ.

ج- الْمُعَلَّلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ:

10- وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ التَّعَبُّدِيَّاتِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَقَدْ يُشْتَبَهُ بِهَا الْمُعَلَّلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّعَبُّدِيَّ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، أَمَّا الْمُعَلَّلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَعِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ لَكِنَّهَا لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا، إِذْ لَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَصْلِ.مِثَالُهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.وَهَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِ، وَعِلَّتُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنَبَّهَ وَبَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا وَالشَّهَادَةِ لَهُ، بِمُوجِبِ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-.وَالْأَوَّلِيَّةُ مَعْنًى لَا يَتَكَرَّرُ، فَاخْتَصَّ بِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا، لِكَوْنِ عِلَّتِهِ مَعْلُومَةً.

د- الْمَعْدُولُ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ:

11- مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى كَتَخْصِيصِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِنِكَاحِ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَإِجْزَاءِ الْعَنَاقِ فِي التَّضْحِيَةِ فِي حَقِّ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ دِينَارٍ وَكَتَقْدِيرِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ.

وَقَدْ يَكُونُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَاسْتِثْنَاءِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا.

هـ- الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ:

12- أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ بَعْضَ مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ قَدْ يَكُونُ تَعَبُّدِيًّا.فَقَالَ: إِنَّ الْمَصَالِحَ فِي التَّكْلِيفِ ظَهَرَ لَنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَسَالِكِهِ الْمَعْرُوفَةِ كَالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ وَالسَّبْرِ وَالْإِشَارَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الظَّاهِرُ الَّذِي نُعَلِّلُ بِهِ، وَتَقُولُ: إِنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْمَسَالِكِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْوَحْيِ كَالْأَحْكَامِ الَّتِي أَخْبَرَ الشَّارِعُ فِيهَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لِلْخِصْبِ وَالسَّعَةِ وَقِيَامِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ قِصَّةِ نُوحٍ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}.فَلَا يُعْلَمُ وَجْهُ كَوْنِ الِاسْتِغْفَارِ سَبَبًا لِلْمَطَرِ وَلِلْخِصْبِ إِلاَّ بِالْوَحْيِ.وَلِذَلِكَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْلَمُ كَوْنُ الِاسْتِغْفَارِ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْعِلْمِ وَقُوَّةِ الْأَبْدَانِ مَثَلًا، فَلَا يَكُونُ إِلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ سَبِيلٌ، فَبَقِيَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ.وَلِذَا يَكُونُ أَخْذُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهَا مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ هُنَا: الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ الشَّارِعُ فِيهِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ التَّعَبُّدِيَّاتِ:

13- حِكْمَةُ تَشْرِيعِ التَّعَبُّدِيَّاتِ اسْتِدْعَاءُ الِامْتِثَالِ، وَاخْتِبَارُ مَدَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ بِقَوْلِهِ- فِي بَيَانِ أَسْرَارِ رَمْيِ الْجِمَارِ- وَظَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالًا لَا تَأْنَسُ بِهَا النُّفُوسُ، وَلَا تَهْتَدِي إِلَى مَعَانِيهَا الْعُقُولُ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ بِالْأَحْجَارِ، وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ.وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ كَمَالُ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِرْفَاقٌ، وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ، وَلِلْعَقْلِ إِلَيْهِ مَيْلٌ، وَالصَّوْمُ كَسْرٌ لِلشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفَرُّغٌ لِلْعِبَادَةِ، بِالْكَفِّ عَنِ الشَّوَاغِلِ.وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ تَوَاضُعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَفْعَالٍ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَاضُعِ، وَلِلنُّفُوسِ السَّعْيُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.فَأَمَّا تَرَدُّدَاتُ السَّعْيِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، فَلَا حَظَّ لِلنُّفُوسِ فِيهَا وَلَا أُنْسَ لِلطَّبْعِ بِهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لِلْعُقُولِ إِلَى مَعَانِيهَا، فَلَا يَكُونُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا بَاعِثٌ إِلاَّ الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ، وَقَصْدُ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فَقَطْ، وَفِيهِ عَزْلٌ لِلْعَقْلِ عَنْ تَصَرُّفِهِ وَصَرْفُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ عَنْ مَحَلِّ أُنْسِهِ.فَإِنَّ كُلَّ مَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ مَعْنَاهُ مَالَ الطَّبْعُ إِلَيْهِ مَيْلًا مَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ مُعَيِّنًا لِلْأَمْرِ وَبَاعِثًا مَعَهُ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ بِهِ كَمَالُ الرِّقِّ وَالِانْقِيَادِ.وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَجِّ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا» وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا.

وَإِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى رَبْطَ نَجَاةِ الْخَلْقِ بِأَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُمْ عَلَى خِلَافِ هَوَى طِبَاعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ زِمَامُهَا بِيَدِ الشَّرْعِ، فَيَتَرَدَّدُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عَلَى سُنَنِ الِانْقِيَادِ وَعَلَى مُقْتَضَى الِاسْتِعْبَادِ، كَانَ مَا لَا يُهْتَدَى إِلَى مَعَانِيهِ أَبْلَغَ أَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَصَرْفِهَا عَنْ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى مُقْتَضَى الِاسْتِرْقَاقِ.

طُرُقُ مَعْرِفَةِ التَّعَبُّدِيِّ:

14- لَمْ يُعْرَفْ فِي تَمْيِيزِ التَّعَبُّدِيَّاتِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ وَجْهٌ مُعَيَّنٌ، غَيْرُ الْعَجْزِ عَنِ التَّعْلِيلِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُعْتَبَرَةِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَبَاحِثِ الْقِيَاسِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ إِنْ ظَهَرَتْ لَنَا حِكْمَتُهُ، قُلْنَا: إِنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَإِلاَّ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ.وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا، مِنْ أَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى التَّعَبُّدِ نَوْعُ ضَرُورَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ.

وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيًّا أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، فَمَا يَرَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَعَبُّدِيًّا قَدْ يَرَاهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ مُعَلَّلًا بِمَصَالِحَ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِعَايَتُهَا.فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ قَالَ: إِنَّ تَكْرَارَ السُّجُودِ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، أَيْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ، تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ ثُنِّيَ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، حَيْثُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ مَرَّةً فَلَمْ يَسْجُدْ، فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ.

وَكَوْنُ طَلَاقِ الْحَائِضِ بِدْعِيًّا، قِيلَ: هُوَ تَعَبُّدِيٌّ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا مِنَ الطُّهْرِ بَعْدَ الْحَيْضِ.

وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ يُمَثِّلُ بِهَا الْفُقَهَاءُ لِغَيْرِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْغَزَالِيِّ.غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُعَلِّلُونَهُ وَأَمْثَالَهُ مِمَّا وُضِعَ مِنَ الْمَنَاسِكِ عَلَى هَيْئَةِ أَعْمَالِ بَعْضِ الصَّالِحِينَ، كَالسَّعْيِ الَّذِي جُعِلَ عَلَى هَيْئَةِ سَعْيِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ- عليه السلام- بَيْنَهُمَا.يَقُولُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ تَذَكُّرُ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ لِلسَّلَفِ الْكِرَامِ، وَفِي طَيِّ تَذَكُّرِهَا مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ، إِذْ يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ، وَبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ.وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْحَجِّ، وَيُقَالُ بِأَنَّهَا (تَعَبُّدٌ) لَيْسَتْ كَمَا قِيلَ.أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا فَعَلْنَاهَا وَتَذَكَّرْنَا أَسْبَابَهَا حَصَلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، فَكَانَ هَذَا التَّذَكُّرُ بَاعِثًا لَنَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمُقَرِّرًا فِي أَنْفُسِنَا تَعْظِيمَ الْأَوَّلِينَ، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْقُولٌ.ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اقْتِدَاءٌ بِفِعْلِ هَاجَرَ، وَأَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ اقْتِدَاءٌ بِفِعْلِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، إِذْ رَمَى إِبْلِيسَ بِالْجِمَارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، سَيْرًا عَلَى خُطَى شَيْخِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (، رَأَى كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَرَدَّ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، كَفَرْضِ الصَّاعِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ الْمَرْدُودَةِ عَلَى بَائِعِهَا، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَاتِ، كَأَمْرِهَا بِالْغُسْلِ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَبِالنَّضْحِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ، وَسَوَّتْ بَيْنَ الْمُفْتَرِقَاتِ، كَتَسْوِيَتِهَا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ.فَعَلَّلَ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَأَنَّ عِلَّتَهُ مَعْقُولَةٌ، وَيُوَافِقُ الْقِيَاسَ وَلَا يُخَالِفُهُ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ.

مَا تَكُونُ فِيهِ التَّعَبُّدِيَّاتُ، وَأَمْثِلَةٌ مِنْهَا:

15- يَذْكُرُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ التَّعَبُّدِيَّاتِ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ فِي أُصُولِ الْعِبَادَاتِ، كَاشْتِرَاعِ أَصْلِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوِ الِاعْتِكَافِ.وَفِي نَصْبِ أَسْبَابِهَا، كَزَوَالِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَغُرُوبِهَا لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ.وَفِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ.وَفِي التَّقْدِيرَاتِ الْعَدَدِيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، كَتَقْدِيرِ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَتَقْدِيرِ عَدَدِ الْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ، وَتَقْدِيرِ أَعْدَادِ الشُّهُودِ.

وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ مِنْ أَمْثِلَةِ وُقُوعِهَا فِي الْعَادَاتِ: طَلَبُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَتَخْصِيصُ الذَّبْحِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَالْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدُ الْأَشْهُرِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ».

قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: مَنْعُ الرَّجُلِ مِنِ اسْتِعْمَالِ فَضْلَةِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لِامْرَأَةٍ سِوَاهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ بِالرَّجُلِ، وَلَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَحَلِّ النَّهْيِ.وَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يُطَهِّرُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ، فَيُزِيلُ النَّجَاسَةَ إِذَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ كَسَائِرِ الْمِيَاهِ.وَالْحَدِيثُ لَا تُعْقَلُ عِلَّتُهُ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ لَفْظُهُ- أَيِ التَّطَهُّرُ مِنَ الْحَدَثِ لَا غَيْرُ.

الْأَصْلُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيلُ أَوِ التَّعَبُّدُ:

16- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ هَلِ الْأَصْلُ فِي الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ أَوْ عَدَمُهُ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَلَا تُعَلَّلُ الْأَحْكَامُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.قَالُوا: لِأَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ لَا بِالْعِلَّةِ.وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ- رضي الله عنه-: أَنَّ الْأَصْلَ التَّعْلِيلُ بِوَصْفٍ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُهُ مِنْ غَيْرِهِ.قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيلِ.قَالَ: وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ- أَيْ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ- مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ قَبْلَ التَّعْلِيلُ وَالتَّمْيِيزُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي يُرِيدُ اسْتِخْرَاجَ عِلَّتِهِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ.

وَذَهَبَ الشَّاطِبِيُّ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، قَالَ: الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَلَّفِ التَّعَبُّدُ، دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْأَصْلُ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي.

17- فَأَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّعَبُّدُ، فَيَدُلُّ لَهُ أُمُورٌ مِنْهَا:

الِاسْتِقْرَاءُ.فَالصَّلَوَاتُ خُصَّتْ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ إِنْ خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَاتٍ، وَوَجَدْنَا الذِّكْرَ فِي هَيْئَةٍ مَا مَطْلُوبًا، وَفِي هَيْئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ مَطْلُوبٍ، وَأَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ النَّظَافَةُ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ- وَلَيْسَتْ فِيهِ نَظَافَةٌ حِسِّيَّةٌ- يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ.وَهَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ التَّعَبُّدِ الْعَامَّةِ الِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمِقْدَارُ لَا يُعْطِي عِلَّةً خَاصَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا حُكْمٌ خَاصٌّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الْأَوَّلَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْمَحْدُودِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ شَرْعًا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّوْسِعَةَ فِي التَّعَبُّدِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ، لَنَصَبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ كَذَلِكَ- بَلْ عَلَى خِلَافِهِ- دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَحْدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مَعْنًى مُرَادٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَا لَوْمَ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ.لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِأَصْلٍ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ مَا عَمَّ فِي الْبَابِ وَغَلَبَ عَلَى الْمَوْضِعِ.

18- ثُمَّ قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَأَمَّا إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي فَلأُِمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِقْرَاءُ، فَنَرَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يُمْنَعُ فِي حَالٍ لَا تَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ جَازَ كَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ: تَمْتَنِعُ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ.وَكَبَيْعِ الرُّطَبِ مِنْ جِنْسٍ بِيَابِسِهِ.يَمْتَنِعُ حَيْثُ يَكُونُ مُجَرَّدَ غَرَرٍ وَرِبًا مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ (كَمَا فِي تَمْرِ الْعَرَايَا أُبِيحَ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ)، وَلِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ أَحْكَامُ الْعَادَاتِ بِالْمَصْلَحَةِ كَمَا فِي قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَفِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَفِي حَدِيثٍ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ مَا عَلَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَادَاتِ بِالْمُنَاسِبِ الَّذِي إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهَا اتِّبَاعُ الْمَعَانِي، لَا الْوُقُوفُ مَعَ النُّصُوصِ.بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ فِيهَا خِلَافُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا تَوَسَّعَ مَالِكٌ حَتَّى قَالَ بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَالِاسْتِحْسَانِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْمَعَانِي فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْفَتَرَاتِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ، حَتَّى جَرَتْ بِذَلِكَ مَصَالِحُهُمْ، سَوَاءٌ أَهْلُ الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.إِلاَّ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي جُمْلَةٍ مِنَ التَّفَاصِيلِ، فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ لِتُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ.وَمِنْ هُنَا أَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَالدِّيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (تيمم 1)

تَيَمُّمٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ.

يُقَالُ: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ وَمِثْلُهُ: تَأَمَّمَهُ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عَنْ صَعِيدٍ مُطَهَّرٍ، وَالْقَصْدُ شَرْطٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ النِّيَّةُ، فَهُوَ قَصْدُ صَعِيدٍ مُطَهِّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ.

وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةٍ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، أَوْ بَدَلًا عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمَا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ:

2- يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِشَرْطِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمِنَ الْكِتَابِ: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.

وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» أَيْ: لَهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأُمَّتِهِ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ.

3- وَسَبَبُ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هُوَ «مَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَالْمُسَمَّاةِ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ لَمَّا أَضَلَّتْ عِقْدَهَا.فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- عَلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْن حُضَيْرٍ- رضي الله عنه- فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا أَكْثَر بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ».

اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالتَّيَمُّمِ:

4- التَّيَمُّمُ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي.نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِصْدَاقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.

التَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ عَزِيمَةٌ.وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: إِنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ رُخْصَةٌ، وَقَالَ التَّادَلِيُّ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ، رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْوَاجِدِ الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.

ثُمَّ إِنَّ وَجْهَ التَّرْخِيصِ هُوَ فِي أَدَاةِ التَّطْهِيرِ إِذِ اكْتَفَى بِالصَّعِيدِ الَّذِي هُوَ مُلَوَّثٌ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى شَطْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ: مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنْ قُلْنَا رُخْصَةٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ.

شُرُوطُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ:

6- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:

أ- الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.

ب- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ.

ج- وُجُودُ الْحَدَثِ النَّاقِضِ.أَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ.

أَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ.فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُوَسَّعًا فِي أَوَّلِهِ وَمُضَيَّقًا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ.

هَذَا وَلِلتَّيَمُّمِ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا وَهِيَ:

أ- الْإِسْلَامُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلنِّيَّةِ.

ب- انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.

ج- الْعَقْلُ.

د- وُجُودُ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ.

فَإِنَّ فَاقِدَ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا فَقَطْ، كَالْأَرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ جَفَّتْ، فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكُونُ مُطَهَّرَةً فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا.

ثُمَّ إِنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَوُجُودَ الْحَدَثِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ، وَانْقِطَاعَ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ) لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْهُمَا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ.

أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:

7- لِلتَّيَمُّمِ أَرْكَانٌ أَوْ فَرَائِضُ، وَالرُّكْنُ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالُوا: لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَانِ هُمَا: الضَّرْبَتَانِ، وَاسْتِيعَابُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ فَقَطْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ أَمْ شَرْطٌ؟

أ- النِّيَّةُ:

8- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ مَسْحِ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ.

مَا يَنْوِيهِ بِالتَّيَمُّمِ:

9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا نِيَّةَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوْ نِيَّةَ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ، أَوْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ.

وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ.فَإِنْ نَوَى التَّيَمُّمَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ الْقَائِمِ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِهَذَا التَّيَمُّمِ، كَمَا إِذَا نَوَى مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَصْلًا كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، كَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً مَقْصُودَةً تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالتَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِلسَّلَامِ، أَوْ رَدِّهِ مِنَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر، فَإِنْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ صَحَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ، وَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لَهُ كَالْوُضُوءِ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ النِّيَّةِ: الْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْعِلْمُ بِمَا يَنْوِيهِ؛ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْمَنْوِيِّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَنْوِي بِالتَّيَمُّمِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَوْ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ، مُلَاحَظَةُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ تَيَمُّمَهُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَمَّا إِذَا نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَيُجْزِيهِ عَنِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ، وَلَا يُصَلَّى فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهِ.

قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَلَا صَلَاةَ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَى طَهَارَةٍ.كَطَوَافٍ، وَحَمْلِ مُصْحَفٍ، وَسُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ فَبَانَ أَكْبَرُ أَوْ عَكْسَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ لِتَلَاعُبِهِ.فَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ وَنَسِيَ، وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا، وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا، أَعَادَ صَلَاةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ.

وَلَا تَكْفِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، أَوِ الْأَكْبَرِ، أَوِ الطَّهَارَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُهُ لِبُطْلَانِهِ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهِ؛ «وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَشَمِلَ كَلَامَهُ (النَّوَوِيَّ) مَا لَوْ كَانَ مَعَ التَّيَمُّمِ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرْفَعُهُ حِينَئِذٍ.

وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطُّهْرِ، أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ، أَوِ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ لَمْ يَكْفِ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، Bفَلَا يُجْعَلُ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَكْفِي كَالْوُضُوءِ.

وَيَجِبُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِنَقْلِ الصَّعِيدِ الْحَاصِلِ بِالضَّرْبِ إِلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَرْكَانِ، وَكَذَا يَجِبُ اسْتِدَامَتُهَا إِلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.فَلَوْ زَالَتِ النِّيَّةُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ.

وَيَنْوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يُبَاحُ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِمَا تَيَمَّمَ لَهُ كَصَلَاةٍ، أَوْ طَوَافٍ، أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَر أَوْ أَكْبَر أَوْ نَجَاسَةٍ عَلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَإِنَّمَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ تَقْوِيَةً لِضَعْفِهِ.

وَصِفَةُ التَّعْيِينِ: أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا مِنَ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مِنَ الْحَدَثِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ جُنُبًا مُحْدِثًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَإِنْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لَمْ يُجِزْهُ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فَلَمْ تُؤَدَّ إِحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى.وَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِنِيَّةِ رَفْعِ حَدَثٍ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك».

نِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ:

10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا صَلَّى بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَيَأْتِي بِأَيِّ فَرْضٍ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا جَازَ لَهُ فِعْلُ فَرْضٍ وَاحِدٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ مِثْلَهُ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ أَخَفُّ، وَنِيَّةُ الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُهُ.

أَمَّا إِذَا نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ كَأَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِلَا تَعْيِينِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَمْ يُصَلِّ إِلاَّ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّفَلُ تَابِعٌ فَلَا يُجْعَلُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَكَمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ نَفْلًا.

وَالْمَالِكِيَّةُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَالَ نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ أَبَدًا.

وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نِيَّةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إِذَا نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، لَكِنْ لَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَلَا تُنْدَبُ نِيَّةُ الْأَصْغَرِ وَلَا الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تُجْزِئُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.

وَإِذَا تَيَمَّمَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ سَوَاءٌ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ الْفَرْضَ أَوِ النَّفَلَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.

ب- مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَمَسْحَ الْيَدَيْنِ فَرْضٌ آخَرُ.لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ هُوَ الضَّرْبَةُ الْأُولَى، وَالْفَرْضَ الثَّانِيَ هُوَ تَعْمِيمُ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْيَدَيْنِ هُوَ مَسْحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ كَالْوُضُوءِ.لِقِيَامِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ فَيُحْمَلُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَمِنَ الْكُوعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ».

فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ.فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ».

ثُمَّ إِنَّ الْمَفْرُوضَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَةَ الْأُولَى فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ.وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا هُوَ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ مُجْمَلَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَحَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تُصَرِّحُ بِالضَّرْبَتَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ».وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَيَمَّمَ Bبِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِالْأُخْرَى ذِرَاعَيْهِ».

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِزَالَةِ الْحَائِلِ عَنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ كَنَزْعِ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لَيْسَ لَهُ سَرَيَانُ الْمَاءِ وَسَيَلَانُهُ.وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الْأُولَى، وَيَجِبُ النَّزْعُ عِنْدَ الْمَسْحِ لَا عِنْدَ نَقْلِ التُّرَابِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوِ الْأَصَابِعِ كَيْ يَتِمَّ الْمَسْحُ.

وَالتَّخْلِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْدُوبٌ احْتِيَاطًا.وَأَمَّا إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.

ج- التَّرْتِيبُ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ الْمَسْحُ، وَإِيصَالُ التُّرَابِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَسْحُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ كَالْوُضُوءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ حَدَثٍ أَكْبَر، أَمَّا التَّيَمُّمُ لِحَدَثٍ أَكْبَر وَنَجَاسَةٍ بِبَدَنٍ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَرْتِيبٌ.

د- الْمُوَالَاةُ:

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا تُسَنُّ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَرْضٌ، وَأَمَّا عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَهِيَ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْحَنَابِلَةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ مَا يُفْعَلُ لَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَنَحْوِهَا.

الْأَعْذَارُ الَّتِي يُشْرَعُ بِسَبَبِهَا التَّيَمُّمُ:

14- الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ، إِمَّا لِفَقْدِ الْمَاءِ وَإِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ:

أَوَّلًا: فَقْدُ الْمَاءِ:

أ- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ:

15- إِذَا فَقَدَ الْمُسَافِرُ الْمَاءَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ أَصْلًا، أَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِلطَّهَارَةِ حِسًّا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَيَكُونُ فَقْدُ الْمَاءِ شَرْعًا لِلْمُسَافِرِ بِأَنْ خَافَ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَلَا يُكَلَّفُ الْمُسَافِرُ حِينَئِذٍ بِطَلَبِهِ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَنْ ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُودِهِ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَارٌّ تَوَهَّمَ وُجُودَهُ) أَنْ يَطْلُبَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ لَا فِيمَا بَعُدَ.

حَدُّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِيلٌ وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ.

وَحَدَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِيلَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهُوَ حَدُّ الْغَوْثِ وَهُوَ مِقْدَارُ غَلْوَةٍ (رَمْيَةُ سَهْمٍ)، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ تَوَهُّمِهِ لِلْمَاءِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكِّهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَأَوْجَبُوا طَلَبَ الْمَاءِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ إِنْ ظَنَّ قُرْبَهُ مِنَ الْمَاءِ مَعَ الْأَمْنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ فَقْدَ الْمَاءِ حَوْلَهُ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوْلَهُ طَلَبَهُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ (وَهُوَ سِتَّةُ آلَافِ خُطْوَةٍ) وَلَا يَطْلُبُ الْمَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْقُرْبِ أَوِ الْغَوْثِ إِلاَّ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ الْمَاءَ طَلَبَهُ لِأَقَلَّ مِنْ مِيلَيْنِ، وَيَطْلُبُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ عَادَةً.

هَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فِي رَحْلِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ أَوْ قَبُولُ هِبَتِهِ؟

الشِّرَاءُ:

17- يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ الْمَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَكَانَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُ الْمَاءِ تَيَمَّمَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ يَرْجُو الْوَفَاءَ بِبَيْعِ شَيْءٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا بِوُجُوبِ اقْتِرَاضِ الْمَاءِ أَوْ ثَمَنِهِ إِذَا كَانَ يَرْجُو وَفَاءَهُ.

الْهِبَةُ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءُ أَوْ أُعِيرَ دَلْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، أَمَّا لَوْ وُهِبَ ثَمَنَهُ فَلَا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ.

ب- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُقِيمِ:

19- إِذَا فَقَدَ الْمُقِيمُ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فَأَيْنَمَا تَحَقَّقَ جَازَ التَّيَمُّمُ.

وَيُعِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَصِّرُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ إِنْ لَمْ يُعِدْ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ الَّذِي طَلَبَهُ طَلَبًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِتَقْصِيرِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ.أَمَّا خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يُعِيدُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَيَمُّمِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ الْفَاقِدِ لِلْمَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا خَشِيَ فَوَاتَهَا بِطَلَبِ الْمَاءِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ يَتَيَمَّمُ لَهَا وَلَا يَدَعُهَا وَهُوَ أَظْهَر مَدْرَكًا مِنَ الْمَشْهُورِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضُ التَّيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ بِالْمَرَّةِ فَيُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يَدَعُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَتَيَمَّمُ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ لِجِنَازَةٍ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ مِنْ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ.

وَلَا يَتَيَمَّمُ لِنَفْلٍ اسْتِقْلَالًا، وَلَا وِتْرًا إِلاَّ تَبَعًا لِفَرْضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّصِلَ النَّفَلُ بِالْفَرْضِ حَقِيقَةً أَوْ Bحُكْمًا، فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَادِمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِهِ.ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ وَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ.وَقَالَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ، وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِذْ اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ.

وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُقِيمُ فَقْدَ الْمَاءِ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ؛ لِأَنَّ طَلَبَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ عَبَثٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَجِدْ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَوَهَّمَهُ أَيْ جَوَّزَهُ تَجَوُّزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ، طَلَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.

نِسْيَانُ الْمَاءِ:

20- لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَإِنْ تَذَكَّرَهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَأَعَادَهَا إِجْمَاعًا، أَمَّا إِذَا أَتَمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَقْضِي صَلَاتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ صَلَاتَهُ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يَقْضِي.وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْصِيرُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمَاءِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَصَلَّى عُرْيَانًا، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ نَسِيَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ فِي الرَّحْلِ أَوْ غَيْرِهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ غَيْرَهُ وَبِلَا عِلْمِهِ فَلَا إِعَادَةَ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ وَطَلَبَهُ بِإِمْعَانٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ.

ثَانِيًا: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

21- يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي عِبَادَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ إِلاَّ إِذَا عُدِمَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمَرَضِ، أَوْ خَوْفِ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.

أ- الْمَرَضُ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوِهِ هَلَاكَهُ، أَوْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْئِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا أَيْ غَيْرَ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ- وَالْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ- خَوْفَ حُدُوثِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ.

وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا يَكُونُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيَدُومُ ضَرَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ يَتَيَمَّمُ كَعَادِمِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ مَالٌ لَا يَتَيَمَّمُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.

ب- خَوْفُ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْحَضَرِ) لِمَنْ خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ هَلَاكًا، أَوْ حُدُوثَ مَرَضٍ، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، أَوْ مَا يُدْفِئُهُ، سَوَاءٌ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوِ الْأَصْغَرِ؛ لِإِقْرَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- رضي الله عنه- عَلَى تَيَمُّمِهِ خَوْفَ الْبَرْدِ وَصَلَاتِهِ بِالنَّاسِ إِمَامًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ خَاصٌّ بِالْجُنُبِ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ فِي الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ مِنَ الْوُضُوءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْبَرْدِ- عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ- لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ فِي الْأَظْهَرِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ الْمُقِيمُ لِلْبَرْدِ فَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ الْقَطْعُ Bبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ جُمْهُورَ الشَّافِعِيَّةِ قَطَعُوا بِهِ.

ج- الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

23- يَتَيَمَّمُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ كَالْمُكْرَهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَرْبُوطِ بِقُرْبِ الْمَاءِ، وَالْخَائِفِ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوِ إِنْسَانٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ حُكْمًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ».وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْمُكْرَهَ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ.

د- الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ:

24- يَتَيَمَّمُ وَلَا يُعِيدُ مَنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَاءَ الَّذِي مَعَهُ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِنَحْوِ عَطَشِ إِنْسَانٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا- وَلَوْ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ- عَطَشًا مُؤَدِّيًا إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الْأَذَى، وَذَلِكَ صَوْنًا لِلرُّوحِ عَنِ التَّلَفِ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ بَلْ يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ لِعَدَمِ حُرْمَةِ هَؤُلَاءِ.

وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَاءِ لِلشُّرْبِ، أَمِ الْعَجْنِ، أَمِ الطَّبْخِ.

وَمِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ لِلْمَاءِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ أَمِ الثَّوْبِ، وَخَصَّهَا الشَّافِعِيَّةُ بِالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الثَّوْبِ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ وَصَلَّى عُرْيَانًا إِنْ لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.

التَّيَمُّمُ لِلنَّجَاسَةِ:

25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ لَهَا وَصَلَّى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ».

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ بِلَا تَيَمُّمٍ وَلَا يُعِيدُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (خل)

خَلٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَلُّ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفٌ، يُقَالُ: اخْتَلَّ الشَّيْءُ إِذَا تَغَيَّرَ وَاضْطَرَبَ، وَخَلَّلَ الْخَمْرَ أَيْ جَعَلَهَا خَلًّا.وَسُمِّيَ الْخَلُّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ اخْتَلَّ مِنْهُ طَعْمُ الْحَلَاوَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ.وَفِي الْحَدِيثِ: « نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ ».

وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخَمْرُ:

2- الْخَمْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ خَامَرَ الْعَقْلَ أَيْ غَطَّاهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ.

وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَسَتَرَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْخَلِّ فِي الطَّعْمِ وَفِي أَنَّهَا مُسْكِرٌ.

ب- النَّبِيذُ:

3- النَّبِيذُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّبْذِ بِمَعْنَى التَّرْكِ، يُقَالُ: نَبَذْتُهُ نَبْذًا: أَلْقَيْتَهُ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا يُلْقَى مِنَ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا أَوِ الْحُبُوبِ فِي الْمَاءِ لِيَكْسِبَهُ مِنْ طَعْمِهِ، وَالِانْتِبَاذُ اتِّخَاذُ النَّبِيذِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَبِيذٌ).

ج- الْخَلِيطَانِ:

4- الْخَلِيطَانِ شَرَابٌ خُلِطَ عِنْدَ النَّبْذِ أَوِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، أَوْ بُسْرٍ مَعَ رُطَبٍ، أَوْ تَمْرٍ وَحِنْطَةٍ مَعَ شَعِيرٍ، أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ تِينٍ.

وَهُنَاكَ أَشْرِبَةٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالْخَلِّ لَهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ خَاصَّةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ).

حُكْمُ الْخَلِّ:

5- الْخَلُّ، مَالٌ مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَحِلُّ أَكْلُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَوِّمَةِ.وَبِمَا أَنَّ أَصْلَهُ وَأَصْلَ الْخَمْرِ وَسَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَاحِدٌ غَالِبًا تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِأَحْكَامِ الْخَلِّ فِي مَوَاضِعَ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: تَخَلُّلُ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلُهَا:

6- إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلَاجٍ بِأَنْ تَتَغَيَّرَ مِنَ الْخَمْرِيَّةِ إِلَى الْخَلِيَّةِ حَلَّ ذَلِكَ الْخَلُّ، فَيَجُوزَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ ».

كَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَقْلِهَا مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ وَعَكْسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْلِيلِهَا بِالْعِلَاجِ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ، أَوِ الْبَصَلِ، أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا، أَوْ إِيقَادِ نَارٍ عِنْدَهَا بِقَصْدِ التَّخْلِيلِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ وَلَا تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ.لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: « أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا فَقَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا ».

وَلِأَنَّنَا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ، وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ فَلَا يَجُوزُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَازَ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ، وَحَلَّ شُرْبُ ذَلِكَ الْخَلِّ وَأَكْلُهُ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: « نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ » مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ التَّخْلِيلِ وَالتَّخَلُّلِ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ يُزِيلُ الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَثْبُتُ وَصْفُ الصَّلَاحِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ التَّدَاوِي، وَالتَّغَذِّي وَمَصَالِحَ أُخْرَى، وَإِذَا زَالَ الْمُفْسِدُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ حَلَّتْ، كَمَا إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا؛ وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ إِصْلَاحٌ فَجَازَ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ دَبْغِ الْجِلْدِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ » وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ ج 5 27- 29) (وَتَخْلِيلٌ ج 11 54).

ثَانِيًا: أَكْلُ وَشُرْبُ الْخَلِّ:

7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْلِ وَشُرْبِ الْخَلِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ أَكْلِ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلَاجٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ ».

وَكَمَا حَلَّ أَكْلُ الْخَلِّ حَلَّ أَكْلُ دُودِهِ مَعَ الْخَلِّ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، كَدُودِ الْفَاكِهَةِ مَعَهَا لِعُسْرِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَجُزْئِهِ طَبْعًا وَطَعْمًا.أَمَّا أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا فَحَرَامٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ

أَمَّا إِذَا خُلِّلَتِ الْخَمْرُ بِالْعِلَاجِ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا مَثَلًا، فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي تَخَلُّلِ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا ف 6.

ثَالِثًا: الطَّهَارَةُ بِالْخَلِّ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ بِالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُعْتَصَرُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ أَنْ يَكُونَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَالْخَلُّ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَاءُ الْوَرْدِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ إِلاَّ بِالْقَيْدِ.

كَذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِالْخَلِّ، فَالطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا تَحْصُلُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِمَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى امْتِنَانًا فَلَوْ حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِنَانُ بِهِ.

وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ لِتُصَلِّيَ فِيهِ ».وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جَوَازُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَلَوْ جَازَ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَبَيَّنَهُ مَرَّةً فَأَكْثَرَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا بِهِ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ.

وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا » وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ».وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخَلَّ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ قَالِعٌ لِلنَّجَاسَةِ وَمُزِيلٌ لَهَا كَالْمَاءِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.

رَابِعًا: بَيْعُ الْخَلِّ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ:

9- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسَاءً؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِبًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ » وَفِي رِوَايَةٍ « وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ».

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الْعِنَبِ، وَلَا بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ، وَلَا بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسَاءً، وَيَجُوزُ مُتَمَاثِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنَ الْمَكِيلَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْخُلُولِ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ آخَرَ، كَخَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ مَثَلًا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ نَوْعٍ مِنَ الْخَلِّ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ مُتَفَاضِلًا كَاللُّحُومِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِأَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ، وَأَسْمَاؤُهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ كَدَقِيقِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَرْغَبُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ يَضُرُّهُ الْبَعْضُ وَيَنْفَعُهُ غَيْرُهُ، فَفُرُوعُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تُعْتَبَرُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، كَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ وَالدُّهْنِ وَالْخَلِّ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ تَتْبَعُ أُصُولَهَا.وَعَلَى ذَلِكَ فَخَلُّ التَّمْرِ جِنْسٌ وَخَلُّ الْعِنَبِ جِنْسٌ آخَرُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلًا.

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَصَّلُوا فِي بَيْعِ الْخَلِّ إِذَا دَخَلَهُ الْمَاءُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا بَيْعَ خَلِّ عِنَبٍ بِخَلِّ زَبِيبٍ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِهِ وَلَوْ مُتَمَاثِلًا؛ لِانْفِرَادِ خَلِّ الزَّبِيبِ بِالْمَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ جَمِيعَ الْخُلُولِ جِنْسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ، أَمْ مِنَ الزَّبِيبِ، أَوِ التَّمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.وَكَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ جِنْسُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُمْ.حَتَّى إِنَّ الْأَنْبِذَةَ وَالْخُلُولَ اعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ وَلَا النَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْخُلُولِ وَلَوْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهَا كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْأَنْبِذَةِ مُتَفَاضِلَةً فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ لِاعْتِبَارِهِمْ الْخُلُولَ وَالْأَنْبِذَةَ جِنْسًا وَاحِدًا لِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهَا.

خَامِسًا: الضَّمَانُ فِي غَصْبِ الْخَلِّ وَإِتْلَافِهِ:

10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ خَلَّ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَجُوزُ أَكْلُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ كَمَا سَبَقَ.

11- وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَيْهِ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَلًّا عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَدُ الْمَالِكِ لَمْ تَزُلْ عَنْهَا بِالْغَصْبِ، فَكَأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ. وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (وَهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ التَّخْلِيلِ بِالْعِلَاجِ كَمَا سَبَقَ)، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا بِمَا إِذَا كَانَ التَّخْلِيلُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَإِلْقَاءِ حِنْطَةٍ وَمِلْحٍ يَسِيرٍ، أَوْ تَشْمِيسٍ.أَمَّا لَوْ خَلَّلَهَا بِذِي قِيمَةٍ كَالْمِلْحِ الْكَثِيرِ وَالْخَلِّ، فَالْخَلُّ مِلْكُ الْغَاصِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ وَالْخَلَّ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْخَمْرُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَيَرْجِعُ جَانِبُ الْغَاصِبِ فَيَكُونُ لَهُ بِلَا شَيْءٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَا: يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ إِنْ شَاءَ، وَيَرُدُّ قَدْرَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنَ الْخَلِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْخَلَّ لِلْغَاصِبِ مُطْلَقًا لِحُصُولِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَصَّلُوا بَيْنَ خَمْرِ الْمُسْلِمِ وَخَمْرِ الْكَافِرِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْخَمْرُ لِلْكَافِرِ وَتَخَلَّلَتْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الْخَلِّ وَبَيْنَ تَرْكِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهَا.وَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَخْذُ الْخَلِّ.

12- وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَلَى الْغَاصِبِ الضَّمَانَ بِرَدِّ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ التَّالِفِ لِذَهَابِ مَالِيَّتِهِ بِتَخَمُّرِهِ وَانْقِلَابِهِ إِلَى لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ.

وَإِذَا تَخَلَّلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ التَّخَمُّرِ فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَرُدُّهُ الْغَاصِبُ وَيَرُدُّ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ بِسَبَبِ غَلَيَانِهِ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُهُ.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ مِثْلُ الْعَصِيرِ.لِأَنَّهُ بِالتَّخَمُّرِ كَالتَّالِفِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَخَلَّلَ الْعَصِيرُ الْمَغْصُوبُ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ تَخَمُّرِهِ خُيِّرَ مَالِكُهُ بَيْنَ أَخْذِ عَصِيرِ مِثْلِهِ وَبَيْنَ أَخْذِهِ خَلًّا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (رخصة)

رُخْصَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ كَلِمَةُ رُخْصَةٍ- فِي لِسَانِ الْعَرَبِ- عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ نُجْمِلُ أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:

أ- نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، يُقَالُ: رَخُصَ الْبَدَنُ رَخَاصَةً إِذَا نَعُمَ مَلْمَسُهُ وَلَانَ، فَهُوَ رَخْصٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَرَخِيصٌ، وَهِيَ رَخْصَةٌ وَرَخِيصَةٌ.

ب- انْخِفَاضُ الْأَسْعَارِ، يُقَالُ: رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- فَهُوَ رَخِيصٌ ضِدُّ الْغَلَاءِ.

ج- الْإِذْنُ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ: يُقَالُ: رَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالِاسْمُ رُخْصَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٌ مِثْلُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ ضِدُّ التَّشْدِيدِ، أَيْ أَنَّهَا تَعْنِي التَّيْسِيرَ فِي الْأُمُورِ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي كَذَا تَرْخِيصًا، وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ عَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَزِيمَةُ:

2- الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ.

وَاصْطِلَاحًا عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَلَا يُقَالُ رُخْصَةٌ بِدُونِ عَزِيمَةٍ تُقَابِلُهَا، فَهُمَا يَنْتَمِيَانِ مَعًا إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ (أَوْ الِاقْتِضَاءَ) مَوْجُودٌ فِي الْعَزِيمَةِ كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الرُّخْصَةِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْأُولَى أَصْلِيٌّ كُلِّيٌّ مُطَّرِدٌ وَاضِحٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ طَارِئٌ جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ.وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الْأُولَى تُمَثِّلُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ تُمَثِّلُ حَظَّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَزِيمَة).

ب- الْإِبَاحَةُ:

3- الْإِبَاحَةُ هِيَ: تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.فَالْإِبَاحَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أَصْلِيٌّ.وَتَتَلَاقَى فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ الرُّخَصِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبَاحَة).

ج- رَفْعُ الْحَرَجِ:

4- رَفْعُ الْحَرَجِ فِي الِاصْطِلَاحِ يَتَمَثَّلُ فِي إِزَالَةِ كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ، وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ وُجُوهٍ:

1- أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ أَصْلٌ كُلِّيٌّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهَا- كَمَا سَبَقَ- أَمَّا الرُّخَصُ فَهِيَ فَرْعٌ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ هَذَا الْأَصْلِ الْعَامِّ وَجُزْءٌ أُخِذَ مِنْ هَذَا الْكُلِّ، فَرَفْعُ الْحَرَجِ مُؤَدَّاهُ يُسْرُ التَّكَالِيفِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَالرُّخَصُ مُؤَدَّاهَا تَيْسِيرُ مَا شَقَّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمُيَسَّرَةِ ابْتِدَاءً.

2- أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، بَيْنَمَا الرُّخَصُ تَشْمَلُ- عَادَةً- أَحْكَامًا مَشْرُوعَةً بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا، وَأُخْرَى تُرَاعَى فِيهَا أَسْبَابٌ مُعَيَّنَةٌ تَتْبَعُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.

وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ مُرَادِفَةً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلاَّ لَكَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا رُخَصًا بِدُونِ عَزَائِمَ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

3- إِذَا رَفَعَ الْمُشَرِّعُ الْحَرَجَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ لَا إِثْمَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، بِخِلَافِ التَّرْخِيصِ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ- إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ- الْإِذْنَ فِيهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

د- النَّسْخُ:

5- النَّسْخُ اصْطِلَاحًا بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مِنَ الْأَشَدِّ لِلْأَخَفِّ فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْتِمَاسِ التَّخْفِيفِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْأَصْلِيَّ لَمْ يَعُدْ قَائِمًا.انْظُرْ: (نَسْخ).

الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الرُّخَصِ:

6- تَحْقِيقُ مَبْدَأِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيقًا عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا.قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.وَقَالَ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وَقَالَ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»

الصِّيَغُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الرُّخْصَةِ:

7- الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي:

أ- مَادَّتُهَا: مِثْلَ رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٍ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ» «وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ..» وَفِيهِ- أَيْضًا- أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ».

«وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنَ الْأَوْعِيَةِ».«وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ».«وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».

«وَرَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ..» وَفِي حَدِيثِ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ».يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالْأَنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ.

ب- نَفْيُ الْجُنَاحِ:

وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

ج- نَفْيُ الْإِثْمِ:

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَاأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

د- الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: - فِي شَأْنِ الْإِكْرَاهِ-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِإِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكْرَهِ إِظْهَارَ الْكُفْرِ- إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ- فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَاعْتِبَارًا لِلْأَشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ- بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: إِنْ عَادُوا فَعُدْ».

أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ:

8- تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا:

أ- بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا:

الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

9- رُخَصٌ وَاجِبَةٌ: مِثْلُ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَكْلَ الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ.

وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْأَكْلِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا-: هَلْ تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا، أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ فَقَطْ؟.

بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إِبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ- كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إِلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ:

الْأُولَى: إِذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي.

الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ حَرَامًا أَبَدًا، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

10- رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ: مِثْلُ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ، وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ، وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

11- رُخَصٌ مُبَاحَةٌ: وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، كَالسَّلَمِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْجُعْلِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ:

12- رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى: مِثْلُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعِ الَّذِي لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ.

وَالسُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ.

ب- بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:

تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُمَثِّلُ وِجْهَةَ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ:

13- وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَالُ الْعَمَلُ بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ- بِدَوْرِهِ- إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَالْحُرْمَةِ مَعًا، وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ فِي أَكْمَلِ دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ.وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخَصِ بِكَمَالِ الْعَزَائِمِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَانَتِ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ.وَقَدْ ذَكَرُوا- لِهَذَا الْقِسْمِ- أَمْثِلَةً مِنْهَا:

التَّرْخِيصُ فِي إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفِعْلِ إِتْلَافَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ إِتْلَافَ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إِنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِي الْإِيمَانِ- وَهُوَ التَّصْدِيقُ- بَاقٍ عَلَى حَالِهِ.وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بَلْ رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمُ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ بِالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ- هُنَا- يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالْإِبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا، وَأَصَرَّ الْآخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ، فَقَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ».

2- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ: مِثْلُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- قَائِمٌ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيِ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنَ الْإِفْطَارِ عِنْدَهُمْ.

أَوَّلًا: لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- كَانَ قَائِمًا، وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ التَّعْجِيلِ، مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّرْفِيهِ، فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.

ثَانِيًا: لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ.هَذَا إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلَا خِلَافٍ.وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إِدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ.وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ:

14- وَتُسَمَّى أَيْضًا- فِي اصْطِلَاحِهِمْ-: رُخَصُ الْإِسْقَاطِ، وَقَدْ قَسَّمُوهَا- كَذَلِكَ- إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ:

1- مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِثْلُ:

- قَتْلِ النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ

- قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ.

2- مَا سَقَطَ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ، مِثْلَ السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنَ الْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الْأُصُولِ أَشْبَهَتِ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبَ إِلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ، وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا.وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ.وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ- الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ- لَا تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الْإِطْلَاقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ.

ج- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ حَسَبِ التَّخْفِيفِ:

تَنْقَسِمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- الَّذِي يَخُصُّ الْأَحْكَامَ الطَّارِئَةَ- إِلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:

15- الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَيَكُونُ حَيْثُ يُوجَدُ الْعُذْرُ أَوِ الْمُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ.

1- إِسْقَاطُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ». 2- إِسْقَاطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ لِلْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَلِغَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ.

3- إِسْقَاطُ شَرْطِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.

4- إِسْقَاطُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

5- إِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنْ ذَوِي الْأَعْذَارِ، قَالَ الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}.

6- إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.وَقَالَ مَالِكٌ- فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ-: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ حُكْمُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَيُوجِبُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ فِقْدَانِهِمَا.

7- إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا مَتَى تَذَكَّرَهَا.

8- إِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَظْهَرِ وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ..«أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ». 9- إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ- عَمَلًا بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ يُدَعِّمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ- مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ: مِثَالُهُ:

16- 1- قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقَصْرِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا.

2- تَنْقِيصُ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ: كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْقَدْرِ الْمَيْسُورِ مِنْ ذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ: مِثْلُ:

17- إِبْدَالِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ بِالتَّيَمُّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَالْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءًفَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ: مِثْلُ:

18- 1- تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِهِ جُمْلَةً فِي عِدَّةِ حَالَاتٍ مِنْهَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ.

2- تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- مِنْ «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رضي الله عنه- سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ». الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ: مِثْلُ:

19- تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَيَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّأْخِيرِ.

السَّادِسُ: تَخْفِيفُ إِبَاحَةٍ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ: مِثْلُ:

20- 1- صَلَاةُ الْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ أَثَرِ النَّجَسِ الَّذِي لَا يَزُولُ تَمَامًا إِلاَّ بِالْمَاءِ.

2- الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا، أَوْ لِعُسْرِ إِزَالَتِهَا.

د- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا:

هَذَا التَّقْسِيمُ يُعَدُّ أَكْثَرَ ضَبْطًا لأُِصُولِ الرُّخَصِ، وَأَكْثَرَ جَمْعًا لِفُرُوعِهَا، وَهِيَ- بِحَسَبِهِ- تَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:

21- رُخَصٌ سَبَبُهَا الضَّرُورَةُ:

قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعِرْضِ، أَوْ بِالْعَقْلِ، أَوْ بِالْمَالِ، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ- عِنْدَئِذٍ- أَوْ يُبَاحُ لَهُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ضِمْنَ قُيُودِ الشَّرْعِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: ضَرُورَة).

وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً هَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْقَرِيبَةِ نَصُّهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ: إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ.وَالضَّرَرُ يُزَالُ.وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.

22- 2- رُخَصٌ سَبَبُهَا الْحَاجَةُ:

الْحَاجَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ (انْظُرِ التَّفَاصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: حَاجَة).

وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَخَّصُ مِنْ أَجْلِهِ: فَالْعُقُودُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْجُعْلِ وَالْمُغَارَسَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ عُمُومًا إِلَيْهَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي التَّأْدِيبِ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَفِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي أَوِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ لِلدِّقَّةِ وَفِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ لِلْعِلَاجِ وَفِي التَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لِإِغَاظَةِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، وَفِي الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ، وَفِي الْغِيبَةِ عِنْدَ التَّظَلُّمِ أَوِ الِاسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهَا، أَوْ لِلتَّعَلُّمِ وَالْفَتْوَى وَالتَّقَاضِي وَسَفَرِهَا لِلْعِلَاجِ وَمَا إِلَى هَذِهِ الْحَالَاتِ إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَاتٍ تَمَسُّ طَوَائِفَ خَاصَّةً مِنَ الْمُجْتَمَعِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ يُبَاحُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ تُثْبِتُ حُكْمًا مِثْلَ الْأُولَى إِلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْحَاجَةِ مُسْتَمِرٌّ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ عَامَّةً وَحُكْمَ الضَّرُورَةِ مَوْقُوتٌ بِمُدَّةِ قِيَامِهَا إِذْ «الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا» كَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ لِغَيْرِهَا، فَالْأُولَى لَا يُرَخَّصُ فِيهَا عَادَةً إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ يُرَخَّصُ فِيهَا حَتَّى مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَاجِيَّةٍ.عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُعَامَلَ هَذِهِ مُعَامَلَةَ الْأُولَى وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ وَمَا قَبْلَهُ جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.وَقَدْ خَرَّجَ الْفُقَهَاءُ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتٍ مُتَفَرِّقَةً يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أُصُولًا يَلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ نَظَائِرِهَا.

وَهُنَاكَ رُخَصٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ أَوِ النِّسْيَانُ أَوِ الْجَهْلُ أَوِ الْخَطَأُ أَوِ النَّقْصُ أَوِ الْوَسْوَسَةُ أَوِ التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ أَوِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَيْسِير).

عَلَاقَةُ الرُّخْصَةِ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ:

23- الْمُتَتَبِّعُ لِلِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَوَابِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ يَظْفَرُ بِعَلَاقَةٍ وَطِيدَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الرُّخَصِ تَتَمَثَّلُ إِجْمَالًا فِي جَلْبِ الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْعُسْرِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلْتُرَاجَعْ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

الْقِيَاسُ عَلَى الرُّخَصِ:

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخَصَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.فَقَدْ قَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى بَيْعِ الْعَرَايَا الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِالنَّصِّ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ.كَمَا حَكَمُوا بِصِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَفْطَرَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا الَّذِي ثَبَتَتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ.وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ عَلَيْهِ كَلَامَ النَّاسِي فِي صَلَاتِهِ.

وَقَاسُوا الْإِقْطَارَ فِي الْعَيْنِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الِاكْتِحَالِ الْمُرَخَّصِ فِيهِ نَصًّا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ- بِاسْتِثْنَاءِ أَبِي يُوسُفَ- إِلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ لِأَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ أَوِ الْعَزَائِمِ:

25- قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّلَ رَأْيَهُ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ الْمَعْقُولَةِ تَكَفَّلَ الشَّاطِبِيُّ بِعَدِّهَا عَدًّا وَاضِحًا مُرَتَّبًا.

آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ:

26- الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَا بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ».

أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَلَ فِسْقًا لَا يَحِلُّ.وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.وَقَالَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا.

وَقَدْ دَخَلَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ- يَوْمًا- عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ- بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ-: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

فَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ لَا يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّلِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الِانْتِقَالَ مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

الرُّخَصُ إِضَافِيَّةٌ:

27- إِنَّ الرُّخَصَ عَلَى كَثْرَةِ أَدِلَّتِهَا أَوْ صِيَغِهَا، وَعَلَى مَا صَحَّ مِنْ حَثِّ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا- تَبْقَى فِي النِّهَايَةِ إِضَافِيَّةً: أَيْ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا أَوْ فِي عَدَمِهِ.وَيَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَثَلًا الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ تَخْتَلِفُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَفِي التَّنَقُّلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسَافِرِينَ، وَأَزْمِنَةِ السَّفَرِ، وَمُدَّتِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَاطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَمْ يُنَطِ الْحُكْمُ بِذَاتِ الْمَشَقَّةِ بَلْ أُسْنِدَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مِمَّا يَدُلُّ غَالِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ السَّفَرُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (رفع الحرج)

رَفْعُ الْحَرَجِ

التَّعْرِيفُ-

رَفْعُ الْحَرَجِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ، تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ لَفْظِيَّةٍ، فَالرَّفْعُ لُغَةً: نَقِيضُ الْخَفْضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالتَّبْلِيغُ، وَالْحَمْلُ، وَتَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَالْأَصْلُ فِي مَادَّةِ الرَّفْعِ الْعُلُوُّ، يُقَالُ: ارْتَفَعَ الشَّيْءُ ارْتِفَاعًا إِذَا عَلَا، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ.يُقَالُ: رُفِعَ الشَّيْءُ: إِذَا أُزِيلَ عَنْ مَوْضِعِهِ.

قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّفْعُ فِي الْأَجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ، وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» وَالْقَلَمُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا تَكْلِيفَ، فَلَا مُؤَاخَذَةَ.

وَالْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الضَّيِّقُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ، وَالضِّيقُ وَالْإِثْمُ، وَالْحَرَامُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الضِّيقُ.قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْحَرَجُ فِي الْأَصْلِ: الضِّيقُ، وَيَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَامِ.

تَقُولُ رَجُلٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ إِذَا كَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ.وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضِّيقِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا.

فَرَفْعُ الْحَرَجِ فِي اللُّغَةِ: إِزَالَةُ الضِّيقِ، وَنَفْيُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ.ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الرَّفْعِ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.وَرَفْعُ الْحَرَجِ: إِزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ بِتَخْفِيفِهِ أَوْ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَخْرَجٌ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَوْسُوعَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير).

فَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مُتَرَادِفَانِ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الشِّدَّةِ خِلَافًا لِلتَّيْسِيرِ.وَالْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قَدْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا «دَفْعَ الْحَرَجِ» «وَنَفْيَ الْحَرَجِ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّيْسِيرُ:

2- التَّيْسِيرُ: السُّهُولَةُ وَالسِّعَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ يَسَّرَ، وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ» أَيْ أَنَّهُ سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيلُ التَّشْدِيدِ، وَالتَّيْسِيرُ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}.وَقَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شِدَّةٍ.

ب- الرُّخْصَةُ:

3- الرُّخْصَةُ: التَّسْهِيلُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ.وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ: أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَتَرْخِيصُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ: تَخْفِيفُهَا عَنْهُ، وَالرُّخْصَةُ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ خِلَافُ التَّشْدِيدِ.

فَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ.

ج- الضَّرَرُ:

4- الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ النَّفْعِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ فَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ عَدَمِ رَفْعِ الْحَرَجِ.

رَفْعُ الْحَرَجِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ:

5- رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالْإِعْنَاتِ فِيهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».

وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْحَرَجِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لَحَصَلَ فِي الشَّرِيعَةِ التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الْإِعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَطَوَّعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ، كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الِاضْطِرَارِ.فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ.

وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ.وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلَا تَخْفِيفٌ؛

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِقُصُورِ الْبَدَنِ، أَوْ لِقُصُورِهِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ، وَلَا عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ لِقُصُورِ الْعَقْلِ.وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَانْتَفَى الْإِثْمُ فِي خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، وَكَذَا فِي النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ.

أَقْسَامُ الْحَرَجِ:

يَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

6- الْأَوَّلِ: حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ كَحَرَجِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ.

الثَّانِي: تَوَهُّمِيٌّ، وَهُوَ مَا لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ تَكُنْ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ مُحَقَّقٍ.

وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِالرَّفْعِ وَالتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَوْهَامِ، وَالْحَرَجُ الْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ وَقْتِ تَحَقُّقِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْحَرَجُ الْحَالِيُّ: وَهُوَ مَا كَانَتْ مَشَقَّتُهُ مُتَحَقِّقَةً فِي الْحَالِ، كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَكَالْحَرَجِ الْحَاصِلِ لِلْمَرِيضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوِ الْحَاصِلِ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ عَلَى الْحَجِّ أَوْ رَمْيِ الْجِمَارِ بِنَفْسِهِ إِنْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ.

الثَّانِي: الْحَرَجُ الْمَالِيُّ: وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ بِسَبَبِ الدَّوَامِ عَلَى فِعْلٍ لَا حَرَجَ مِنْهُ.كَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَإِمَّا ذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ، قَالَ: فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.قَالَ: فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا.قَالَ: وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ.قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ دُخُولَ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدَّوَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا بَلْ هُوَ إِضَافِيٌّ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ أَوْ فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةِ يَقِينِهِمْ.

وَيَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ عَلَى الِانْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ.

فَالْحَرَجُ الْعَامُّ هُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي الِانْفِكَاكِ عَنْهُ غَالِبًا كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.

وَالْحَرَجُ الْخَاصُّ هُوَ مَا كَانَ فِي قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ غَالِبًا، كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ.

7- هَذَا تَقْسِيمُ الشَّاطِبِيِّ، وَهُنَاكَ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَرَجَ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ مِنْ حَيْثُ شُمُولِ الْحَرَجِ وَعَدَمِهِ.فَالْعَامُّ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ مَا كَانَ بِبَعْضِ الْأَقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ، أَوْ بَعْضِ النَّاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ.

كَمَا يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْحَرَجِ إِلَى بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ.

فَالْبَدَنِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ كَوُضُوءِ الْمَرِيضِ الَّذِي يَضُرُّهُ الْمَاءُ، وَصَوْمِ الْمَرِيضِ، وَكَبِيرِ السِّنِّ، وَتَرْكِ الْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ.

وَالنَّفْسِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى النَّفْسِ، كَالْأَلَمِ وَالضِّيقِ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ أَوْ ذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ.

شُرُوطُ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ:

8- لَيْسَ كُلُّ حَرَجٍ مَرْفُوعًا.بَلْ هُنَاكَ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا لِاعْتِبَارِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَهِيَ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْحَرَجُ حَقِيقِيًّا، وَهُوَ مَا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ.وَمِنْ ثَمَّ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْحَرَجِ التَّوَهُّمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لِأَجْلِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، كَمَا أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرِ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ.وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النَّاسِ، فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا.فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ حِينَئِذٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

(2) أَنْ لَا يُعَارِضَ نَصًّا.فَالْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا فِي حَالِ مُخَالَفَةِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِمَا.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَأْتِي فِي تَعَارُضِ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ.

(3) أَنْ يَكُونَ عَامًّا.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

وَقَدْ فَسَّرَ الشَّاطِبِيُّ الْحَرَجَ الْعَامَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَالْخَاصُّ هُوَ مَا يَطَّرِدُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ.

أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ:

9- أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ هِيَ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْلُ، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى، وَالنَّقْصُ، وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير).

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ:

مِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ قَطْعًا وَهُوَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

وَمِنْهَا: مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ قَطْعًا، وَهُوَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ.

وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَهُوَ الْجَمْعُ.

وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ.

وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيلِ رُخْصَةً تَاسِعَةً، صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ وَهِيَ:

مَا إِذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إِذَا رَجَعَ. (ر: تَيْسِير).

كَيْفِيَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ:

رَفْعُ الْحَرَجِ ابْتِدَاءً:

10- لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ ابْتِدَاءً فَضْلًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَلَا عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ، وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.كَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالتَّشْرِيعَاتِ الَّتِي جَاءَتْ ابْتِدَاءً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ النَّاسِ، وَلَوْلَاهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِيهِمَا.وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخِيَارِ، إِذْ إِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ غَالِبًا مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَيَحْصُلُ فِيهِ النَّدَمُ فَيَشُقُّ عَلَى الْعَاقِدِ، فَسَهَّلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ الْفَسْخِ فِي مَجْلِسِهِ وَمِنْهَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالتَّحَالُفُ وَالْإِقَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالْإِبْرَاءُ وَالْقَرْضُ وَالشَّرِكَةُ وَالصُّلْحُ وَالْحَجْرُ وَالْوَكَالَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْعَارِيَّةُ الْوَدِيعَةُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَنْتَفِعُ إِلاَّ بِمَا هُوَ مِلْكُهُ، وَلَا يَسْتَوْفِي إِلاَّ مِمَّنْ عَلَيْهِ حَقُّهُ، وَلَا يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِكَمَالِهِ، وَلَا يَتَعَاطَى أُمُورَهُ إِلاَّ بِنَفْسِهِ، فَسَهُلَ الْأَمْرُ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَكَالَةً وَإِيدَاعًا وَشَرِكَةً وَمُضَارَبَةً وَمُسَاقَاةً، وَبِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْيُونِ حَوَالَةً، وَبِالتَّوْثِيقِ عَلَى الدَّيْنِ بِرَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَضَمَانٍ وَحَجْرٍ، وَبِإِسْقَاطِ بَعْضِ الدَّيْنِ صُلْحًا أَوْ كُلِّهِ إِبْرَاءً.

وَمِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ أَيْضًا جَوَازُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا شَاقٌّ فَتَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ تَعَاطِيهَا، وَمِنْهَا لُزُومُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْعٌ وَلَا غَيْرُهُ.

وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلَاقِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالِافْتِدَاءِ وَالرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُشْرَعْ دَائِمًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ.

رَفْعُ الْحَرَجِ عِنْدَ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ:

11- قَدْ يَأْتِي الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ فِي التَّكَالِيفِ مِنْ أَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ، إِذْ إِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ بَلْ فِيهِ كُلْفَةٌ أَيْ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الْحَرَجُ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ التَّكْلِيفِ بِأُمُورٍ أُخْرَى كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَلِلشَّارِعِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ وَتَكُونُ تِلْكَ التَّخْفِيفَاتُ بِالْإِسْقَاطِ أَوِ التَّنْقِيصِ أَوِ الْإِبْدَالِ أَوِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ أَوِ التَّرْخِيصِ أَوِ التَّغْيِيرِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رُخْصَة) وَمُصْطَلَحِ (تَيْسِير).

تَعَارُضُ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ:

12- النَّصُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالظَّنِّيُّ إِمَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ أَوْ لَا.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَكَذَا الظَّنِّيُّ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ الْأَخْذُ بِالنَّصِّ وَتَرْكُ الْحَرَجِ.

ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الظَّنِّيِّ الْمُعَارِضِ لِأَصْلٍ قَطْعِيٍّ كَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْأَخْذِ بِالنَّصِّ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ فَلَا، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ..

لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا».

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ.

وَنَقَلَ الشَّاطِبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ هَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ مَالِكٌ فِي الْمَسْأَلَةِ.قَالَ: وَمَشْهُورُ قَوْلِهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَالَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ تَرَكَهُ.قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الِاعْتِبَارِ، كَإِنْكَارِهِ لِحَدِيثِ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، تَعْوِيلًا عَلَى أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَأَجَازَ أَكْلَ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَسْمِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.

حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ مَجْهُولُ الْمُدَّةِ، وَلَوْ شَرَطَ أَحَدٌ الْخِيَارَ مُدَّةً مَجْهُولَةً لَبَطَلَ إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ شَرْطًا بِالشَّرْعِ؟ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى أَصْلٍ إِجْمَاعِيٍّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الضَّرَرِ وَالْجَهَالَةِ قَطْعِيَّةٌ، وَهِيَ تُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الظَّنِّيَّ.

قَوَاعِدُ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ:

13- لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلًا مِنْ أُصُولِهَا، فَقَدْ ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.

فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ.قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ فِي الدِّينِ.

وَكَذَا الِاسْتِحْسَانُ، قَالَ السَّرْخَسِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ: الِاسْتِحْسَانُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ: الِاسْتِحْسَانُ طَلَبُ السُّهُولَةِ فِي الْأَحْكَامِ فِيمَا يُبْتَلَى فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَقِيلَ: الْأَخْذُ بِالسِّعَةِ وَابْتِغَاءُ الدَّعَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.«وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ- رضي الله عنهما- حِينَ وَجَّهَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا».

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.وَبِمَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ.قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وُضِعَتِ الْأَشْيَاءُ فِي الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهَا إِذَا ضَاقَتِ اتَّسَعَتْ، وَإِذَا اتَّسَعَتْ ضَاقَتْ.

وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الرُّخَصُ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَنَفْيِهِ عَنِ الْأُمَّةِ.

وَكَذَا قَاعِدَةُ الضَّرَرُ يُزَالُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَوَاعِدَ، كَالضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.

وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفِي الْحَرَجَ النَّفْسِيَّ لَدَى الْمُذْنِبِ التَّوْبَةُ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْكَفَّارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 1)

طَهَارَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَالُ: طَهُرَ الشَّيْءُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا يَطْهُرُ بِالضَّمِّ طَهَارَةً فِيهِمَا، وَالِاسْمُ: الطُّهْرُ بِالضَّمِّ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ.

وَفِي الشَّرْعِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَعُرِفَتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا: زَوَالُ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةُ النَّجِسِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى صُورَتِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ، أَوْ فِيهِ، أَوْ لَهُ.فَالْأَوَّلَانِ يَرْجِعَانِ لِلثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَالْأَخِيرُ لِلشَّخْصِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ غَسَلَ، وَالْغُسْلُ بِالضَّمِّ: اسْمٌ مِنَ الْغَسْلِ- بِالْفَتْحِ- وَمِنْ الِاغْتِسَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الِاغْتِسَالِ.

وَيُعَرِّفُونَهُ لُغَةً: بِأَنَّهُ سَيَلَانُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.

وَشَرْعًا: بِأَنَّهُ سَيَلَانُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَسْلِ.

ب- التَّيَمُّمُ:

3- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْقَصْدِ، وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالتَّيَمُّمُ أَخَصُّ مِنَ الطَّهَارَةِ.

ج- الْوُضُوءُ:

4- الْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَبِفَتْحِهَا: اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ وَالضِّيَاءُ مِنْ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ.

وَفِي الشَّرْعِ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.

تَقْسِيمُ الطَّهَارَةِ:

5- الطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.

فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.

وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ؛ أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ: الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَمِنْهُ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالْهَادِي وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا.

وَأَمَّا النَّجِسُ (وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَثِ أَيْضًا) فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَالْأُولَى مِنْهُمَا- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا- وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وَبِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».

وَالطَّهَارَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.

وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ- إِلَى مَوَاطِنِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدَث، وُضُوء، جَنَابَة، حَيْض، نِفَاس).

مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.لِمَا مَرَّ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَسُنَّةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ.

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا، أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ.

وَأَيْضًا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْمَيِّتِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُصَلِّي.

وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَذَلِكَ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى اشْتِرَاطِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.

وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:

7- النَّجَاسَاتُ الْعَيْنِيَّةُ لَا تَطْهُرُ بِحَالٍ، إِذْ أَنَّ ذَاتَهَا نَجِسَةٌ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْأَصْلِ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا.

وَالْأَعْيَانُ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَمِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ مِنَ الْآدَمِيِّ.

وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: إِنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَلِمَعْرِفَةِ مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا أَوْ غَيْرَ نَجِسٍ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَة).

النِّيَّةُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِشَرْطٍ فِي طَهَارَةِ الْخَبَثِ، وَيَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ بِلَا نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ، فَإِذَا لَاقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ الْمُسْتَعْمِلُ ذَلِكَ أَوْ لَا، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ.

مَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُزِيلٌ لِلْخَبَثِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَلِحَدِيثِ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا) أَيْ حَكَّتْهُ.وَلِأَنَّهُ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الطَّهَارَةَ كَالْمَاءِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْلَعُ لَهَا، وَلِأَنَّا نُشَاهِدُ وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَائِعَ يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ الْمَاءِ بِهِ، وَالنَّجَاسَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَجْزَاؤُهَا بَقِيَ الْمَحَلُّ طَاهِرًا لِعَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا لِشِدَّتِهَا الْمُسْكِرَةِ الْحَادِثَةِ لَهَا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ خَلَفَتْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَطْهُرَ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالتَّغَيُّرِ إِذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَالَ: وَأَنَا غُلَامٌ- قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ».

وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ: الدَّلْكَ، وَالْفَرْكَ، وَالْمَسْحَ، وَالْيُبْسَ، وَانْقِلَابَ الْعَيْنِ، فَيَطْهُرُ الْخُفُّ وَالنَّعْلُ إِذَا تَنَجَّسَ بِذِي جِرْمٍ بِالدَّلْكِ، وَالْمَنِيُّ الْيَابِسُ بِالْفَرْكِ، وَيَطْهُرُ الصَّقِيلُ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ بِالْمَسْحِ، وَالْأَرْضُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْيُبْسِ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْحِمَارُ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَقَعَا فِي الْمَمْلَحَةِ فَصَارَا مِلْحًا.

الْمِيَاهُ الَّتِي يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهَا، وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ:

10- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّطْهِيرِ بِهِ وَرَفْعُهُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ، إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أ- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُقَيَّدًا.

وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْخَبَثَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُلْحَقُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ.

ب- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ، وَخَصَّ كُلُّ مَذْهَبٍ هَذَا الْقِسْمَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمِيَاهِ: فَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مِثْلُ الْهِرَّةِ الْأَهْلِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخْلَاةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ، وَكَانَ قَلِيلاً، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ أَصْلاً.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ حَدَثٍ كَوُضُوءٍ أَوِ اغْتِسَالٍ مَنْدُوبٍ لَا فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلاً كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْمَاءُ الْيَسِيرُ- وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ فَمَا دُونَهَا- إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لَا تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهُورٍ، كَرَفْعِ حَدَثٍ حُكْمَ خَبَثٍ وَوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ مَنْدُوبٍ، فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلَا كَرَاهَةَ.

وَمِنَ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ سَلَامَةٌ فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاءُ الْمَكْرُوهُ ثَمَانِيَةٌ: الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ ثَمُودَ إِلاَّ بِئْرُ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ، وَمَاءُ أَرْضِ بَابِلَ، وَمَاءُ بِئْرِ ذَرْوَانَ.

وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ، كَدُهْنٍ وَقَطِرَانٍ وَقِطَعِ كَافُورٍ، أَوْ مَاءٍ سُخِّنَ بِمَغْصُوبٍ أَوْ بِنَجَاسَةٍ، أَوِ الْمَاءُ الَّذِي اشْتَدَّ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ تَعَيَّنَ وَزَالَتِ الْكَرَاهَةُ.

وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الْمَقْبَرَةِ، وَمَاءٌ فِي بِئْرٍ فِي مَوْضِعِ غَصْبٍ، وَمَا ظُنَّ تَنَجُّسُهُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَم فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ دُونَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ تَشْرِيفًا لَهُ.

ج- مَاءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ، بِخِلَافِ الْخَبَثِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْجَسَدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِمَحَلٍّ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- هُوَ: الْمَاءُ الْمُغَيَّرُ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ وَنَفْلِهَا عَلَى الْجَدِيدِ.

وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ.

د- مَاءٌ نَجِسٌ، وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ قَلِيلاً، أَوْ كَانَ كَثِيرًا وَغَيَّرَتْهُ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا النَّجِسَ بِالِاتِّفَاقِ.

هـ- مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقِسْمِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَا شَرِبَ مِنْهُ بَغْلٌ أَوْ حِمَارٌ.

و- مَاءٌ مُحَرَّمٌ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَاءُ آبَارِ دِيَارِ ثَمُودَ- غَيْرِ بِئْرِ النَّاقَةِ- وَالْمَاءُ الْمَغْصُوبُ، وَمَاءٌ ثَمَنُهُ الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).

تَطْهِيرُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ.

فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَلَوْ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَلِيظَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْغُسْلِ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا، فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا.

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّهُ يُغْسَلُ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ، وَعَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: ثَلَاثًا بَعْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ زَوَالُ الطَّعْمِ فِي النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ النَّجَاسَةِ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ، وَكَذَا الرِّيحُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ زَوَالُهُ.

وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ غَسَلَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.

أَمَّا لَوْ غَسَلَهَا فِي إِجَّانَةٍ فَيَطْهُرُ بِالثَّلَاثِ إِذَا عُصِرَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا وُجُوبًا، وَالْعَصْرُ كُلَّ مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، تَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي اسْتِخْرَاجِهَا.

قَالَ الطَّحْطَاوِيّ: وَيُبَالِغُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّقَاطُرُ، وَالْمُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُلِّ عَاصِرٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَصَرَ غَيْرَهُ قَطَّرَ طَهُرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ قُوَّتَهُ لِرِقَّةِ الثَّوْبِ قِيلَ: يَطْهُرُ لِلضَّرُورَةِ.وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: لَا يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ قَاضِيخَانْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْتَفَى بِالْعَصْرِ مَرَّةً.

ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْغَسْلِ وَالْعَصْرِ ثَلَاثًا إِنَّمَا هُوَ إِذَا غَمَسَهُ فِي إِجَّانَةٍ، أَمَّا إِذَا غَمَسَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهُ ثَلَاثًا، فَقَدْ طَهُرَ مُطْلَقًا بِلَا اشْتِرَاطِ عَصْرٍ وَتَكْرَارِ غَمْسٍ.

وَيُقْصَدُ بِالنَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَهُمْ: مَا يُرَى بَعْدَ الْجَفَافِ، وَغَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ: مَا لَا يُرَى بَعْدَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ، بِشَرْطِ زَوَالِ طَعْمِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحَلِّ فَيُشْتَرَطُ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ زَوَالُ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ.ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَسَّرَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.

فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الطَّعْمِ، وَمُحَاوَلَةُ إِزَالَةِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ عَسِرَ زَوَالُ الطَّعْمِ، بِأَنْ لَمْ يَزُلْ بِحَتٍّ أَوْ قَرْصٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا- وَهِيَ مَا لَا يُدْرَكُ لَهَا عَيْنٌ وَلَا وَصْفٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ لِخَفَاءِ أَثَرِهَا بِالْجَفَافِ، كَبَوْلٍ جَفَّ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَلَا أَثَرَ لَهُ وَلَا رِيحَ، فَذَهَبَ وَصْفُهُ، أَمْ لَا، لِكَوْنِ الْمَحَلِّ صَقِيلاً لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَالْمِرْآةِ وَالسَّيْفِ- فَإِنَّهُ يَكْفِي جَرْيُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ كَمَطَرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنَقِّيَةٍ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا» وَقَدْ أُمِرَ بِهِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِدَلِيلِ إِلْحَاقِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ بِهِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُغْسَلُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ سَبْعًا كَغَيْرِهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ عَدَدٌ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ.

وَيَضُرُّ عِنْدَهُمْ بَقَاءُ الطَّعْمِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ وَلِسُهُولَةِ إِزَالَتِهِ وَيَضُرُّ كَذَلِكَ بَقَاءُ اللَّوْنِ أَوِ الرِّيحِ أَوْ هُمَا مَعًا إِنْ تَيَسَّرَ إِزَالَتُهُمَا، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ.

وَهَذَا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، أَمَّا نَجَاسَتُهُمَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَغْسُولِ:

12- الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَحَدِ أَوْصَافِ النَّجَاسَةِ نَجِسَةٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ».قَالَ الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَلَوِ الْمُتَعَسِّرَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْجُسُ الْمَحَلُّ الَّذِي تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهُ كَتَطْهِيرِ أَيِّ مَحَلٍّ مُتَنَجِّسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغُسْلِهِ سَبْعًا، فَيُغْسَلُ عِنْدَهُمْ مَا نَجِسَ بِبَعْضِ الْغَسَلَاتِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْغَسْلَةِ، فَلَوْ تَنَجَّسَ بِالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ مَثَلاً غُسِلَ ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْغَسَلَاتِ، فَطَهُرَتْ بِهِ فِي مِثْلِهِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغُسَالَةَ غَيْرَ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةُ بَوْلٍ مَثَلاً فِي جَسَدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَسَالَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ فِي سَائِرِهِ وَلَمْ تَنْفَصِلْ عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْغُسَالَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ إِنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهُمَا فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْغَسْلِ، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ فَنَجِسَةٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ غُسِلَتْ بِالطَّهُورِ نَجَاسَةٌ فَانْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا، أَوِ انْفَصَلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْغَسْلَةِ السَّادِسَةِ فَمَا دُونَهَا وَهُوَ يَسِيرٌ فَنَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مُلَاقٍ لِنَجَاسَةٍ لَمْ يُطَهِّرْهَا.

وَإِنِ انْفَصَلَ الْقَلِيلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ عَنْ مَحَلٍّ طَهُرَ أَرْضًا كَانَ الْمَحَلُّ أَوْ غَيْرُهَا، فَطَهُورٌ إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرٌ.

تَطْهِيرُ الْآبَارِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُولَ التَّغَيُّرُ، وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزَحِ فَقَطْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آبَار ف 21 وَمَا بَعْدَهَا).

الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ مَكْرُوهٌ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ أَوِ الْمُغْتَسِلُ، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْوَسْوَسَةَ فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ».

تَطْهِيرُ الْجَامِدَاتِ وَالْمَائِعَاتِ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَامِدٍ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِرَفْعِ النَّجَاسَةِ وَتَقْوِيرِ مَا حَوْلَهَا وَطَرْحِهِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي طَاهِرًا، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ».

وَإِذَا وَقَعَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ، وَلَا يَطْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُرَاقُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَلْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي مَاءٍ وَيَغْلِي، فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ، فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ بِالْغَلْيِ- كَالزَّيْتِ- يَطْهُرُ بِهِ كَالْجَامِدِ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ: جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ يُخَاضُ فِيهِ، حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِلاَّ الزِّئْبَقَ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ.وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ السَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ إِلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ».

تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ يَكُونُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَمُكَاثَرَتِهَا حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ.

وَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ، قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا، وَقِيلَ: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلاً، وَحِينَئِذٍ فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.

وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلَا خِلَافٍ.

كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ زَالَ أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلَا يَطْهُرُ، لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» وَتَطْهِيرُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ: كَأَنْ زَالَ بِطُولِ الْمُكْثِ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ، وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ: كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجِسٌ لَا وَصْفَ لَهُ فَيُقَدَّرُ مُخَالِفًا أَشَدَّ، كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُعْرَفُ زَوَالُ التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَالِ نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إِلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا لَزَالَ، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْحِسِّيُّ.

وَلَا يَطْهُرُ الْمَاءُ إِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِمِسْكٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ أَوْ خَلٍّ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَالَ أَوِ اسْتَتَرَ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِتَارُ، مِثْلُ ذَلِكَ زَوَالُ التَّغَيُّرِ بِالتُّرَابِ وَالْجِصِّ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نُزِحَ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ الْكَثِيرُ، وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَنْزُوحِ كَثِيرٌ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ لِزَوَالِ عِلَّةِ تَنَجُّسِهِ، وَهِيَ التَّغَيُّرُ.وَكَذَا الْمَنْزُوحُ الَّذِي زَالَ مَعَ نَزْحِهِ التَّغَيُّرُ طَهُورٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَا تُغَيَّرُ بِهِ وَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه).

تَطْهِيرُ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَاتِ:

17- الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا.

وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة) ج 1 ف 10 وَمَا بَعْدَهَا.

تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ:

18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً- كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ، وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلاً.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ مَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ، لِمُلَاقَاةِ الْبَلَلِ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لَا بَلَلَ فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا طَهُرَ ظَاهِرُهَا، وَهَلْ يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ أَمْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟ وَجْهَانِ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا، إِنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُولُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ.

فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيلِ صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلاً، وَكَانَ يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْلِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، خَوْفًا مِنْ إِفْسَادِ الْغَسْلِ لَهُ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، أَيْ خِلَافًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ إِلاَّ إِذَا مُسِحَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ وَالْجَسَدَ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إِذَا مُسِحَ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا، أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْلُ مِنْهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ إِذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ: الْمُبَاحُ أَصَالَةً، فَلَا يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْلِ مُرْتَدٍّ بِهِ، وَقَتْلِ زَانٍ أَحْصَنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ.

كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولاً لَا خَرْبَشَةَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا عَفْوَ.

تَطْهِيرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْمَنِيِّ

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكِهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا».

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي طَهَارَةِ مَحَلِّهِ بِفَرْكِهِ يَابِسًا وَغَسْلِهِ طَرِيًّا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَحُتُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي»، وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَحْتَلِمُ، فَيَلْزَمُ اخْتِلَاطُ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ مَنِيِّهَا بِالْفَرْكِ بِالْأَثَرِ، لَا بِالْإِلْحَاقِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِالْغَسْلِ لَا غَيْرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَنِيّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (مياه 1)

مِيَاهٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِيَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَاءٍ، وَالْمَاءُ مَعْرُوفٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَاءِ وَأَصْلُهُ مَوَهَ بِالتَّحْرِيكِ تَحَوَّلَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً.

وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاهٍ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَعَلَى مِيَاهٍ جَمْعَ كَثْرَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ بِهِ حَيَاةُ كُلِّ نَامٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الطَّهَارَةُ

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَّةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيَاهِ وَالطَّهَارَةِ أَنَّ الْمِيَاهَ تَكُونُ وَسِيلَةً لِلطَّهَارَةِ.

أَقْسَامُ الْمِيَاهِ

يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْمِيَاهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

مُطْلَقٍ، وَمُسْتَعْمَلٍ، وَمُسَخَّنٍ، وَمُخْتَلَطٍ.

الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:

3- الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ.

وَقِيلَ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ.

وَقَدْ أَجَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّهُورِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:

أَوْلًا: أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ جَاءَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ لِلْمُطَهِّرِ، وَمِنْ هَذَا:

أ- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.فَقَوْلُهُ: (طَهُورًا) يُرَادُ بِهِ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، يُفَسِّرُ ذَلِكَ قوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالْأُولَى.

ب- وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحَلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالطَّهُورِ الطَّاهِرُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِزْيَةٌ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لِإِثْبَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَصَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمَّتُهُ بِالتَّطَهُّرِ بِالتُّرَابِ.

ج- وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا».

فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ جُعِلَتْ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَالطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا: طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ.

د- وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

فَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ هَذَا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْجَوَابُ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقُعُودٌ: لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَالطَّهُورُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللاَّزِمَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ وَسُفْيَانَ وَأَبِي بَكْرِ الْأَصَمِّ وَابْنِ دَاوُدَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهُورِ هُوَ الطَّاهِرُ.

ثَانِيًا: قَوْلُ جَرِيرٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ:

عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ

وَالرِّيقُ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ.

ثَالِثًا: وَالطَّهُورُ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّكُورِ وَالْغَفُورِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْغَافِرِ وَالشَّاكِرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّهُورِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الطَّاهِرِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ التَّطْهِيرِ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الطَّهَارَةِ كِلْتَا الصِّفَّتَيْنِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ صِفَّةُ التَّطْهِيرِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، لَا أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الْمُطَهَّر.

أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ

4- أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:

الْأَوَّلُ: مَاءُ السَّمَاءِ: أَيِ النَّازِلُ مِنْهَا، يَعْنِي الْمَطَرَ، وَمِنْهُ النَّدَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.

وَالثَّانِي: مَاءُ الْبَحْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَالثَّالِثُ: مَاءُ النَّهْرِ

وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْبِئْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ» وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ (أَيْ كَانَتْ تَجْرُفُهَا إِلَيْهَا السُّيُولُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْأَفْنِيَةِ وَلَا تُطْرَحُ فِيهَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».

الْخَامِسُ: مَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ.

السَّادِسُ: مَاءُ الثَّلْجِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَائِعًا ثُمَّ جَمَدَ أَوْ مَا يَتِمُّ تَجْمِيدُهُ بِالْوَسَائِلِ الصِّنَاعِيَةِ الْحَدِيثَةِ.

السَّابِعُ: مَاءُ الْبَرَدِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ جَامِدًا ثُمَّ مَاعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُسمَّى حَبُّ الْغَمَامِ وَحَبُّ الْمُزْنِ.

وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ: حَدِيثُ أَبِي هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً- قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً-، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ، وَآخَرُ بِعَدِمِهَا، وَمِنْ قَائِلٍ بِصِحَّتِهَا وَآخَرُ بِعَدِمِ صِحَّتِهَا، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- مَاءُ الْبَحْرِ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

يَقُولُ التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ فَيَقَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةُ التَّطَهُّرِ بِهِ.

ثَانِيًا- مَاءُ الثَّلْجِ

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِالثَّلْجِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ مَا لَمْ يَتَقَاطَرْ وَيَسِلْ عَلَى الْعُضْوِ.

يَقُولُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «يُرْفَعُ الْحَدَثُ مُطْلَقًا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَاءِ سَمَاءٍ وَأَوْدِيَةٍ وَعُيُونٍ وَآبَارٍ وَبِحَارٍ وَثَلْجٍ مُذَابٍ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ».

وَيَقُولُ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَهُوَ- أَيِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ- مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ وَإِنْ جُمِعَ مِنْ نَدًى أَوْ ذَابَ أَيْ تَمَيَّعَ بَعْدَ جُمُودِهِ كَالثَّلْجِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مَائِعًا ثُمَّ يَجْمُدُ عَلَى الْأَرْضِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ الْمُغْنِي الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَمَرَّرَهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُلِ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَلَّ بِهِ الْعُضْوُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْغُسْلُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبُ، وَيَجْرِي مَاؤُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغَسْلُ، فَيُجْزِئُهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

يَقُولُ الطَّحْطَاوِيُّ: قَوْلُهُ (بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ وَيُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَالْمَمْسُوحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ سَيْلِ الثَّلْجِ عَلَى الْعُضْوِ لِشِدَّةِ حَرِّ وَحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَرَخَاوَةِ الثَّلْجِ، وَبَيْنَ عَدَمِ سَيْلِهِ.فَإِنْ سَالَ عَلَى الْعُضْوِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُولِ جَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَغْسُولِ، وَيَصِحُّ مَسْحُ الْمَمْسُوحِ مِنْهُ وَهُوَ الرَّأْسُ وَالْخُفُّ وَالْجَبِيرَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.

ثَالِثًا- مَاءُ زَمْزَمَ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي إِزَالَةِ الْأَحْدَاثِ، أَمَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ فَيُكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا.

الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَمْ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا أَيْ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: «لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ يَغْتَسِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ حِلٌّ وَبِلٌّ».

رَابِعًا- الْمَاءُ الْآجِنُ

8- وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْء وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ الْآسِنُ.

(ر: مُصْطَلَحُ آجِنٌ فِقْرَة 1، وَمُصْطَلَحُ طَهَارَةٍ فِقْرَة 10).

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

يَقُولُ صَاحِبُ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَإِنْ غَيَّرَ طَاهِرٌ بَعْضَ أَوْصَافِهِ كَالتُّرَابِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ أَوْ أَنْتَنَ بِالْمُكْثِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِشَيْءِ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَالسَّمَكِ وَالَدُودِ وَالطُّحْلُبِ (بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا)، وَكَذَا إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطُولِ مُكْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أُلْقِيَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ.

وَيَقُولُ الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَا يُقَالُ الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطُولِ الْمُكْثِ أَوْ بِمُجَاوَرٍ أَوْ بِمَا يَعْسُرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ بِمَا يُتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنْهُ.

وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ.

يَقُولُ صَاحِبُ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ فِي الْمَاءِ الْآجِنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُكْثِ فَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ فَكَرِهَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَحُكْمِهِ وَذَلِك عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

9- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ لِإِقَامَةِ قُرْبَةٍ.

وَعِنْدَ زُفَرَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْبَدَنِ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوَ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا.

فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ، وَهُمَا: إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَإِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْدِثٍ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِانْعِدَامِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ.

ب- إِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ لِوُجُودِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ.

ج- إِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ مُخَيَّرٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يُوجَدْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

د- إِذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْحِنَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا.

وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ بِطَهُورٍ لِحَدَثٍ بَلْ لِخَبَثٍ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

10- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ:

هُوَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ: هُوَ مَا تَقَاطَرَ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِهَا أَوِ انْفَصَلَ عَنْهَا- وَكَانَ الْمُنْفَصِلُ يَسِيرًا- أَوْ غَسَلَ عُضْوَهُ فِيهِ.

وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوِ اغْتِسَالَاتٍ مَنْدُوبَةٍ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَرْجَحِ اسْتِعْمَالُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْلِ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلًا كَآنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إِذَا صُبَّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلٌ مِثْلُهُ حَتَّى كَثُرَ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْأَجْزَاءِ يَثْبُتُ لِلْكُلِّ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ نَفْيَهَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ آنِيَةِ الْغَسْلِ فَأَقَلُّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَدَثٍ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ لَا حُكْمَ خَبَثٍ، وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي فِي رَفْعِ حَدَثٍ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حُكْمِ خَبَثٍ لَا يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حُكْمِ خَبَثٍ، وَالرَّاجِحُ فِي تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

11- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عَنْ حَدَثٍ كَالْغَسْلَةِ الْأُولَى فِيهِ، أَوْ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، أَمَّا نَفْلُ الطَّهَارَةِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَالْأَصَحُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَهُورٌ.

وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ.

فَيَرَوْنَ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، فَلَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَلَا عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.

فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ».

وَلِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ- مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ- لَمْ يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لِلِاسْتِعْمَالِ ثَانِيًا بَلِ انْتَقَلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ، كَمَا لَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَيْ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا يَعُودُ طَهُورًا لِأَنَّ قَوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالِاسْتِعْمَالِ فَالْتَحَقَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ سُرَيْجٍ.

وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ضَرْبَانِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ النَّجَسِ.

فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَسِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ انْفَصَلَ مِنَ الْمَحَلِّ وَتَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ».

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ مَاءٌ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ لَاقَى نَجَاسَةً، فَأَشْبَهَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ نَجِسٌ، فَهُوَ نَجِسٌ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ: فَكَانَ حُكْمُهُ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ حُكْمَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

12- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَسٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجِسًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ.

أَمَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِ وَالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ أَشَبَهَ مَا لَوِ اغْتَسَلَ بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَمْنَعُ الطُّهُورِيَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ أَشَبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا كَالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْوُضُوءِ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ أَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ فَقَالَ القْاضِي: هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ أَشَبَهَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا»،، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشَبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهَا.

أ- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ (الْمُشَمَّسُ):

13- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ اسْمَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جِوَازُ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْبَدَنِ أَمْ فِي الثَّوْبِ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِهِ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيِّ: وَيُكْرَهُ شَرْعًا تَنْزِيهًا الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ أَيْ مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ، أَيْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ: كَانَ يَكْرَهُ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَقَالَ: يُورِثُ الْبَرَصَ.

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادٍ حَارَّةٍ أَيْ تَقْلِبُهُ الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْأَصْحَابِ فِي آنِيةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَهِيَ كُلُّ مَا طُرِقَ كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَالِ حَرَارَتِهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِلُ مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ، فَإِذَا لَاقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُلُ الْبَرَصُ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: يُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ أَيِ الْمُسَخَّنُ بِالشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ الْحَارَّةِ كَأَرْضِ الْحِجَازِ لَا فِي نَحْوِ مِصْرَ وَالرُّومِ.

وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى قَوْلِ الدَّرْدِيرِ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ «وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ» بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.

وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ طِبِّيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ إِكْمَالِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَاهَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ يُثَابُ تَارِكُهَا بِخِلَافِ الطِّبِّيَّةِ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: قَدَّمْنَا فِي مَنْدُوبَاتِ الْوُضُوءِ أَنَّ مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْحِلْيَةِ مُسْتَدِلًّا بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلِذَا صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَتُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمُشَمَّسِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- حِينَ سَخَّنَتِ الْمَاءَ بِالشَّمْسِ: «لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ»،، وَفِي الْغَايَةِ: يُكْرَهُ بِالْمُشَمَّسِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ فِي أَوَانٍ مُنْطَبِعَةٍ.

ب- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِغَيْرِ الشَّمْسِ

14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ التَّسْخِينُ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ.

وَأَمَّا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ فَيُنَجِّسَهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا.

وَالثَّانِي: أَلاَّ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْحَائِلُ غَيْرُ حَصِينٍ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ.

الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْحَائِلُ حَصِينًا فَقَالَ الْقَاضٍي يُكْرَهُ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

الْمَاءُ الْمُخْتَلِطُ:

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِطَاهِرٍ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِنَجَسٍ.

أَوَّلًا- حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ طَاهِرٌ- وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لِقِلَّتِهِ- لَمْ يَمْنَعِ الطَّهَارَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ- كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُولُ مِنَ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِ كَالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ- فَتَغَيَّرَ بِهِ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ- كَزَعْفَرَانٍ وَصَابُونٍ وَنَحْوِهِمَا- فَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرَوْنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّغْيِيرُ عَنْ طَبْخٍ، أَوْ عَنْ غَلَبَةِ أَجْزَاءِ الْمُخَالِطِ حَتَّى يَصِيرَ ثَخِينًا.قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ، وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الصَّابُونُ أَوِ الْأُشْنَانُ...إِلَى أَنْ يَقُولَ:

وَلَا يَجُوزُ- أَيِ التَّطَهُّرُ- بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ، كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلاَّ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَغَيْرِهِ: مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ وَالْمَيْمُونِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ- مُنَكَّرًا- عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُبِحِ التَّيَمُّمَ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا أَمْ عَسَلًا أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اغْتَسَلَ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَاطٌ يَمْنَعُ التَّطَهُّرَ لَمَا اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فِيهِ أَثَرُ الْعَجِينِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى طُهُورِيَّتِهِ وَلِأَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَقَدْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ وَلَا رِقَّتَهُ وَلَا جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ، أَوِ الْمُخْتَلَطَ بِالطُّحْلُبِ وَشِبْهَهُ.

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ.قَالَ صَاحِبُ أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ: وَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ كَاللَّبَنِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ طَهُورٍ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَاتِ كَالطَّبْخِ وَالشُّرْبِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْعُ الطَّهَارَةِ بِالْمُتَغَيِّرِ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَالْمَاءُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ- طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ- كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا- رحمه الله- فِي ذَلِكَ.فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ...قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهِيَ الْأَصَحُّ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ الْمَغْلِيِّ، وَبِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَمْنَعُهُ الْإِطْلَاقُ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ الْحَالِفُ عَلَى أَلاَّ يَشْرَبَ مَاءً، وَلِقِيَاسِهِ عَلَى مَاءِ الْوَرْدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 1)

نَجَاسَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَالُ: تَنَجَّسَ الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ.

وَالنَّجَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّهَارَةُ:

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ.

فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَلُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَخْبَاثٍ.

ب- الِاسْتِنْجَاءُ:

3- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.

وَالِاسْتِنْجَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.

وَالِاسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لَا عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ: أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَتَطْهِيرِهِ.(ر: اسْتِنْجَاء ف 1).

مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:

4- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ.وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ فَهُوَ مُغَلَّظٌ، كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأَ الْفَمَ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ سَائِلاً، فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً.

وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لَا يُؤْكَلُ.

أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ تَمْيِيزِ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:

أ- الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.

ب- وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.

ج- وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.

د- وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ.

وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الْأَعْيَانُ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ.

فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.

وَالْحَيَوَانُ- أَيِ الْحَيُّ- كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.

وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ، وَالْآدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.

وَالْمُنْفَصِلُ عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ- أَيِ الْحَيِّ- وَإِمَّا لَهُ اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْلِ فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ:

5- مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.

وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.

وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُلُّ فِي الْأَعْضَاءِ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ.سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، فَلَا تَحِلُّ مَثَلاً صَلَاةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ مُرِيدُ الصَّلَاةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ» فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.

وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَلِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا.فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ مِنَ الصَّلَاةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ.وَعَلَى هَذَا فَقَلِيلُ الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا، وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَالِ عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَبِالْغُسْلِ فِي غَيْرِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّ حُلُولِ مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ، وَالْحُكْمِيَّةَ هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُولِ الْمَنِيِّ.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لَا وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ مُوجِبِهِ.

وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالْأَعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.

وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.

وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لَا يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ.

وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، وَلَا يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَالُ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِالْغُسْلِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ).

وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ الْخَبَثَ لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» «وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ (الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.

فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الْأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لَا، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ فَمُخَفَّفٌ، وَلَا نَظَرَ لِلْأَدِلَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ) ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا.

طَهَارَةُ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ.

وَأَمَّا الْآدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِلَ يُحْكَمُ بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ حَامِلِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.

قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ «وَلِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ- رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ.وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ

نَجَس}.فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لَا نَجَاسَةُ الْأَبْدَانِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ.

7- وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- الْكَلْبُ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ، لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُلُّ حَيٍّ وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ.

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15- 19، شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.ف 44).

ب- الْخِنْزِيرُ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ج ـ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ، وَنَجَاسَةِ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيلَ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا، إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:

11- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَلِّ لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ، وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.

ب- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ.وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.

وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ كَحُوتٍ، أَوْ تَطُولُ حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.

وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَيْتَةِ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْأَمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ وَحَلَالٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْلِ الْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَنَحْوِهِمَا حَلَالٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لَا تَحِلُّ قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ، لِأَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ.وَيُفَارِقُ السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ.

ج- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة).

د- مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا- عَلَى الْمَشْهُورِ- وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي الْخَانِيَةِ: لَا، وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ.

(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا).

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.

وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ.وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيلَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ»، فَالْمُنْفَصِلُ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ شَعْرَ الْمَأْكُولِ أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ.

وَقَالُوا: دَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُولُ شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُولُ رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا.

وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12).

هـ- جِلْدُ الْحَيَوَانِ:

15- جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.

أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ- إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.

وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لَا تُطَهِّرُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10، وَدِبَاغَة ف9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23).

حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:

أ- الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ بَلْغَمًا لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأَ الْفَمَ لِطَهَارَتِهِ، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ النَّازِلُ مِنَ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، هُوَ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ، بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ- وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ فَمِهِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ- طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لَازَمَ وَإِلاَّ فَلَا، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ أَنْفِهِ.

وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَلَ عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.

وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ

نَجِسٌ، بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الْآدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ- أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.

وَرِيقُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا.

الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ.

ب- الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:

17- يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ، لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارٍ- رضي الله عنه-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ...وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ».

وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَالِ الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ.

فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.

18- أَمَّا الْقَلْسُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ- فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ».

وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا.

ج- الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:

19- الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِلَى فِيهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلِاجْتِرَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لِأَنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلَا يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ مَعِدَةَ مُبَاحِ الْأَكْلِ طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ.

د- عَرَقُ الْحَيَوَانِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.

فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

هـ- اللَّبَن:

21- اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي حِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ، فَمَا حَلَّ أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

و- الْإِنْفَحَةُ:

22- الْإِنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.

وَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ اللَّبَنِ.

وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَطْعِمَة ف 85).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (نية 3)

نِيَّةٌ -3

اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْأَدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ:

34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ الْأَدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا نَقَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ-: إِذَا عَيَّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا صَحَّ، نَوَى الْأَدَاءَ أَوِ الْقَضَاءَ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا يُسْتَعْمَلُ مَكَانَ الْآخَرِ، حَتَّى يَجُوزَ الْأَدَاءُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ لَهُ كَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا مَا لَا يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَا الْتِبَاسَ لِأَنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْإِمَامِ تُصَلَّى ظُهْرًا، وَأَمَّا مَا يُوصَفُ بِهِمَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، قَالُوا: لَا تُشْتَرَطُ أَيْضًا.قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ نَوَى الْأَدَاءَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ خُرُوجُهُ أَجْزَأَ، وَكَذَا عَكْسُهُ.

وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ بَعْدَمَا خَرَجَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ جَازَ، وَفِي الْجُمُعَةِ: يَنْوِيهَا وَلَا يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.

وَفِي التَّاتَارْخَانِيَّةِ: كُلُّ وَقْتٍ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى ظُهْرَ الْوَقْتِ مَثَلاً فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَ..الْمُخْتَارُ الْجَوَازُ.

وَاخْتَلَفُوا إِنْ كَانَتِ الْوَقْتِيَّةُ تَجُوزُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ فَرْضُ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ هُوَ الْمُخْتَارُ.

وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ أَنَّ الْأَدَاءَ يَصِحُّ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً، وَعَكْسُهُ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ، وَالْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْحَجُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ فِيهِ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْكَامِلَةَ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: تَعْيِينِ الصَّلَاةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِهَا، وَأَدَائِهَا، وَاسْتِشْعَارِ الْإِيمَانِ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ سَهَا عَنِ الْإِيمَانِ أَوْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ كَوْنِهَا أَدَاءً، أَوِ التَّقَرُّبِ بِهَا لَمْ تَفْسَدْ إِذَا عَيَّنَهَا لِاشْتِمَالِ التَّعْيِينِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي اشْتِرَاطِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاطُ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ فِي وَقْتِهِ تُخَالِفُ رُتْبَةَ تَدَارُكِ الْفَائِتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّمْيِيزِ.

وَالثَّانِي: تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَمَيَّزُ بِالْوَقْتِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ اشْتُرِطَ فِي الْمُؤَدَّاةِ نِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَالرَّابِعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطَانِ مُطْلَقًا، لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُجْتَهِدِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَصَوْمِ الْأَسِيرِ إِذَا نَوَى الْأَدَاءَ فَبَانَا بَعْدَ الْوَقْتِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَائِيُّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ أَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَضَاءَ كَالْجُمُعَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ الْأَدَاءِ إِذْ لَا يَلْتَبِسُ بِهَا قَضَاءٌ فَتَحْتَاجَ إِلَى نِيَّةٍ مُمَيِّزَةٍ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّوَافِلِ الَّتِي تُقْضَى فَهِيَ كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَوَى قَضَاءَ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَدَاءٌ أَوِ الْعَكْسَ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَطْعًا؛ لِتَلَاعُبِهِ.

وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ مِنْهَا دُونَ الْأَدَاءِ لِتَمْيِيزِهِ بِالْوَقْتِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّوْمِ الْخِلَافَ فِي نِيَّةِ الْأَدَاءِ.

وَبَقِيَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَا يُشْتَرَطَانِ فِيهِمَا، إِذْ لَوْ نَوَى بِالْقَضَاءِ الْأَدَاءَ لَمْ يَضُرَّهُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَفْسَدَهُ فِي صِبَاهُ أَوْ رِقِّهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ فَنَوَى الْقَضَاءَ، انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَدَاءُ.

وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ: فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مَحْدُودٌ بِالدَّفْنِ.

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى أَنَّهَا تَصِيرُ قَضَاءً إِذَا جَامَعَ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فِيهَا.

وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَيُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِيهَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ كَوْنِ الصَّلَاةِ حَاضِرَةً أَوْ قَضَاءً، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ أَدَاءٍ فِي حَاضِرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَلاَّهَا يَنْوِيهَا أَدَاءً فَبَانَ وَقْتُهَا قَدْ خَرَجَ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ وَتَقَعُ قَضَاءً.وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهَا قَضَاءً فَبَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا وَقَعَتْ أَدَاءً، وَيُصْبِحُ قَضَاءً بِنِيَّةِ أَدَاءٍ إِذَا بَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ، وَيَصِحُّ عَكْسُهُ إِذَا بَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ وَقَصْدِ مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ.

أَقْسَامُ النِّيَّةِ:

النِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالنِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ، وَأَنَّ الْحَقِيقِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةَ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا.

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الْأَفْعَالِ يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا نَوَى بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ.قَالُوا: لَوْ طَافَ طَالِبًا الْغَرِيمَ لَا يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ، وَحُكْمِيَّةٍ مَعْدُومَةٍ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعِبَادَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فِي أَوَّلِهَا، وَتَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ فِي بَقِيَّتِهَا لِلْمَشَقَّةِ فِي اسْتِمْرَارِهَا بِالْفِعْلِ، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: لَوْ وَزَنَ زَكَاتَهُ وَعَزَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ دَفَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ اكْتَفَى بِالْحُكْمِيَّةِ وَأَجْزَأَتْ.

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فُرُوعًا ثَلَاثَةً:

الْأَوَّلُ: تَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُنَافِي، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ فَخَاضَ بِهِمَا نَهْرًا وَمَسَحَ بِيَدَيْهِ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لَا يُجْزِئُهُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ.قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: يُرِيدُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ غَيْرَ الْوُضُوءِ بَلْ إِزَالَةَ الْقَشَبِ.وَقَالَ صَاحِبُ النُّكَتِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَنَّ كَمَالَ وُضُوئِهِ فَرَفَضَ نِيَّتَهُ، أَمَّا لَوْ بَقِيَ عَلَى نِيَّتِهِ وَالنَّهْرُ قَرِيبٌ أَجْزَأَهُ.

الثَّانِي: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَفْسَدُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّمْيِيزُ حَالَةَ الْفِعْلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ فَسَادُهَا لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَذَهَابُ جُزْءِ الطَّهَارَةِ يُفْسِدُهَا، قَالَ صَاحِبُ النُّكَتِ: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ أَوِ الْحَجِّ لَا يَضُرُّ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ التَّمْيِيزُ وَهُمَا مُتَمَيِّزَانِ بِمَكَانِهِمَا، وَهُوَ الْأَعْضَاءُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْأَمَاكِنُ الْمَخْصُوصَةُ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ اسْتِغْنَاؤُهُمَا عَنِ النِّيَّةِ أَكْثَرَ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الرَّفْضُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.

الثَّالِثُ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فِي الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ، فَلَوْ نَسِيَ عُضْوًا وَطَالَ ذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْحُكْمِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيَقْتَصِرُ فِيهَا عَلَى الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَشَرَعَ فِي غَسْلِ رِجْلَيْهِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْإِيمَانُ وَالنِّيَّاتُ وَالْإِخْلَاصُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيٍّ وَحُكْمِيٍّ، وَالنِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةُ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي قَطْعَهَا، وَلَوْ ذَهَلَ عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ بِدَلِيلِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ.

نِيَّةُ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةُ التَّمْيِيزِ:

36- قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- النِّيَّةَ إِلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةِ التَّمْيِيزِ.

فَالْأُولَى: تَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ Bإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِيَةُ: تَكُونُ فِي الْمُحْتَمَلِ لِلشَّيْءِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ إِذَا أَقْبَضَهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ هِبَةً وَقَرْضًا وَوَدِيعَةً وَإِبَاحَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ تَمْيِيزِ إِقْبَاضِهِ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِقْبَاضِ.وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ، كَمَنْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَسَلَّمَهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لَا يَقَعُ عَنْهُ الدَّيْنُ مَا لَمْ يَقْصِدْ أَدَاءَهُ، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ وَيَتِيمِهِ، فَإِذَا أُطْلِقَ الشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنِ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ.

عَلَاقَةُ النِّيَّةِ بِالْإِخْلَاصِ:

37- فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُفَرِّقْ، وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي:

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: صَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَوْضَحَهُ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ بِأَنَّهُ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ.وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ ثُمَّ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ لِلسَّابِقِ، وَلَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ.ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةُ لِإِرْضَاءِ الْخُصُومِ لَا تُفِيدُ، بَلْ يُصَلِّي لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ لَمْ يَعْفُ يُؤْخَذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَقَدْ أَفَادَ الْبَزَّازِيُّ بِقَوْلِهِ «فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ»: إِنَّ الْفَرَائِضَ مَعَ الرِّيَاءِ صَحِيحَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْوَاجِبِ.وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَةِ أَنَّ الْبَدَنَةَ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ إِنْ كَانَ الْكُلُّ مُرِيدِينَ الْقُرْبَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُمْ مِنْ أُضْحِيَةٍ وَقِرَانٍ وَمُتْعَةٍ.قَالُوا: فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُرِيدًا لَحْمًا لِأَهْلِهِ أَوْ كَانَ نَصْرَانِيًّا لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْبَعْضَ إِذَا لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً خَرَجَ الْكُلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَبَحَهَا أُضْحِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ لَا تُجْزِئُهُ بِالْأَوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ تَحْرُمَ.

وَفِي التَّاتَارَخَانِيَّةِ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ، وَالرِّيَاءُ: أَنَّهُ لَوْ خَلَّى عَنْهُ النَّاسُ لَا يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي، فَأَمَّا لَوْ صَلَّى مَعَ النَّاسِ يُحْسِنُهَا وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْسِنُ، فَلَهُ ثَوَابُ أَصْلِ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَدْخُلُ الرِّيَاءُ فِي الصَّوْمِ.

وَفِي الْيَنَابِيعِ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ: لَوْ صَلَّى رِيَاءً فَلَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ.قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفُرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ.

وَفِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَخَافُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا دَامَ حَيًّا مُسْتَطِيعًا قَبْلَ حُضُورِهَا وَحُضُورِ أَسْبَابِهَا، فَإِذَا حَضَرَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ الْفِعْلِيَّانِ فِي أَوَّلِهَا، وَيَكْفِي الْحُكْمِيَّانِ فِي بَقِيَّتِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ الْإِخْلَاصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَلِ النِّيَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِخْلَاصُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى النِّيَّةِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَقَدْ تَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ قَاصِرٌ عَلَى النِّيَّةِ، وَأَحْكَامُهُمْ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُكَلَّفُ الطَّاعَةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لَا يُرِيدُ بِهَا تَعْظِيمًا مِنَ النَّاسِ وَلَا تَوْقِيرًا وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ دِينِيٍّ وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَهُ رُتَبٌ، مِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَمَهَابَةً وَانْقِيَادًا وَإِجَابَةً، وَلَا يَخْطُرُ لَهُ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، بَلْ يَعْبُدُ مَوْلَاهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَإِذَا رَآهُ غَابَتْ عَنْهُ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا وَانْقَطَعَتِ الْأَعْرَاضُ بِأَسْرِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْرِيفِ النِّيَّةِ شَرْعًا: إِنَّهَا عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ أَوْ نَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَالَ آخَرُ: هُوَ التَّوَقِّي عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَشْخَاصِ، وَقَالَ آخَرُ: هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفِعْلِ لِدَاعِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاعِي تَأْثِيرٌ فِي الدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ.

وَفِي الْخَبَرِ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ Bعِبَادِي».وَدَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَةٌ: عُلْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ امْتِثَالاً لِأَمْرِهِ، وَقِيَامًا بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ.وَوُسْطَى: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ.وَدُنْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِلْإِكْرَامِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِهَا، وَمَا عَدَا الثَّلَاثَ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْعِبَادَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى الْبُعْدِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّكَ عَبْدٌ وَهُوَ رَبٌّ.

النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ:

38- لَا تُقْبَلُ النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَنَقَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ فَالنِّيَّةُ عَلَى الْمَرِيضِ دُونَ الْمُيَمِّمِ، وَفِي الزَّكَاةِ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُوَكِّلِ، فَلَوْ نَوَاهَا وَدَفَعَ الْوَكِيلُ بِلَا نِيَّةٍ أَجْزَأَتْهُ، وَفِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ..الِاعْتِبَارُ لِنِيَّةِ الْمَأْمُورِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ فِيهَا لِأَنَّ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْمُورِ فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي النِّيَّةِ الْإِخْلَاصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَلِ النِّيَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي النِّيَّةِ إِلاَّ فِيمَا اقْتَرَنَ بِفِعْلٍ كَتَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَذَبْحِ أُضْحِيَةٍ وَصَوْمٍ عَنِ الْمَيِّتِ وَحَجٍّ

التَّشْرِيكُ فِي النِّيَّةِ:

39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَائِلِ أَوْ فِي الْمَقَاصِدِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَسَائِلِ فَإِنَّ الْكُلَّ صَحِيحٌ، قَالُوا: لَوِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ فِي الْمَقَاصِدِ: فَإِمَّا أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَيْنِ، أَوْ نَفْلَيْنِ، أَوْ فَرْضًا وَنَفْلاً.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ Bتَصِحَّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، قَالَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَوْ نَوَى صَلَاتَيْ فَرْضٍ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ نَوَى فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ كَانَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ نَوَى كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يُجْعَلْ لِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ جَعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَهُوَ عَنِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً وَصَلَاةَ جِنَازَةٍ فَهِيَ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَنَفْلاً، فَإِنْ نَوَى الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَا التَّطَوُّعِ، وَإِنْ نَوَى الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ يَكُونُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ نَافِلَةٌ وَجِنَازَةٌ فَهِيَ نَافِلَةٌ.

وَأَمَّا إِذَا نَوَى نَافِلَتَيْنِ، كَمَا إِذَا نَوَى بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةَ الْفَجْرِ أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا.

وَأَمَّا التَّعَدُّدُ فِي الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلاً كَانَ نَفْلاً، أَوْ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَعِيَّةِ إِحْدَاهُمَا، وَفِي التَّعَاقُبِ الْأُولَى فَقَطْ.

وَأَمَّا إِذَا نَوَى عِبَادَةً ثُمَّ نَوَى فِي أَثْنَائِهَا الِانْتِقَالَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ كَبَّرَ نَاوِيًا الِانْتِقَالَ إِلَى غَيْرِهَا صَارَ خَارِجًا عَنِ الْأُولَى، وَإِنَ نَوَى وَلَمْ يُكَبِّرْ لَا يَكُونُ خَارِجًا، كَمَا إِذَا نَوَى تَجْدِيدَ الْأُولَى وَكَبَّرَ.

40- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ أَجْزَأَهُ- أَيْ عَنْ رَفْعِ الْحَدَثِ- لأَنَّ مَا نَوَاهُ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلَا تَضَادَّ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ إِذَا صَحِبَهَا قَصْدُ التَّبَرُّدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَا يَضُرُّهَا مَا صَحِبَهَا، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَهَاهُنَا الْأَمْرَانِ.

41- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلتَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ نَظَائِرُ، وَضَابِطُهَا أَقْسَامٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، فَقَدْ يُبْطِلُهَا كَمَا إِذَا ذَبَحَ الْأُضْحِيَةَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ، فَانْضِمَامُ غَيْرِهِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الذَّبِيحَةِ.

وَقَدْ لَا يُبْطِلُهَا.وَفِيهِ صُوَرٌ: Bمِنْهَا مَا لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ وَالتَّبَرُّدَ، فَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ لِلتَّشْرِيكِ، وَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ حَاصِلٌ قَصَدَهُ أَمْ لَا، فَلَمْ يَجْعَلْ قَصْدَهُ تَشْرِيكًا وَتَرْكًا لِلْإِخْلَاصِ، بَلْ هُوَ قَصْدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَتِهَا حُصُولَ التَّبَرُّدِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ أَوِ الْحِمْيَةَ أَوِ التَّدَاوِيَ وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ وَدَفْعَ غَرِيمِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ لأَنَّ الِاشْتِغَالَ عَنِ الْغَرِيمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَصْدٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ خَرَّجَهُ ابْنُ أَخِي صَاحِبِ الشَّامِلِ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّبَرُّدِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عِبَادَةً أُخْرَى مَنْدُوبَةً، وَفِيهِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَا لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ وَيَحْصُلَانِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ الْفَرْضُ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ النَّفْلُ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْكُلِّ.

فَمِنَ الْأَوَّلِ: أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ وَنَوَى بِهَا الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ، صَحَّتْ، وَحَصَلَا مَعًا، وَكَذَا لَوْ نَوَى بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، أَوْ نَوَى حَجَّ الْفَرْضِ وَقَرَنَهُ بِعُمْرَةٍ تَطَوُّعًا أَوْ عَكْسَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِحِجَّةٍ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ وَقَعَ فَرْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ. وَمِنَ الثَّالِثِ: أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَنَوَى بِهَا الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، لَمْ تَقَعْ زَكَاةً وَوَقَعَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ.

وَمِنَ الرَّابِعِ: كَبَّرَ الْمَسْبُوقُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً وَنَوَى بِهَا التَّحَرُّمَ وَالْهُوِيَّ إِلَى الرُّكُوعِ...لَمْ تَنْعَقِدِ الصَّلَاةُ أَصْلاً لِلتَّشْرِيكِ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ مَعًا، وَلَمْ يَتَحَمَّضْ هَذَا التَّكْبِيرُ لِلْإِحْرَامِ بِأَيِّهِمَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا وَكَذَا نَفْلاً، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي وَجْهٍ: تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ نَفْلاً كَمَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الزَّكَاةِ فَبَقِيَتْ تَبَرُّعًا، وَهَذَا مَعْنَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْمَفْرُوضَةِ فَرْضًا آخَرَ:

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَا يُجْزِئُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَعَقَّبَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ لَهُمَا نَظِيرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ مَعًا فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ عَلَى الْأَصَحِّ.ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِذَا نَوَى فَرْضَيْنِ بَطَلَا إِلاَّ إِذَا أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ وَاحِدَةٌ.وَإِذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضَيْنِ صَحَّ لِوَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ النَّفْلِ نَفْلاً آخَرَ.

قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَحْصُلَانِ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ.

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ غَيْرِ الْعِبَادَةِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ:

وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَيَنْوِيَ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ..فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لِقُوَّتِهِ.وَقِيلَ: الظِّهَارُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: سَائِرُ الْعِبَادَاتِ يُدْخَلُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا إِلاَّ الصَّلَاةَ فَلَا بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ التَّكْبِيرُ.

42- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ شَرِكَ بَيْنَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوِ الْوَسَخِ أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ تَعْلِيمَ الْوُضُوءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْصِدُ أَحْيَانًا بِالصَّلَاةِ تَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ كَمَا قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».

وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ: لَا يَضُرُّ مَعَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ قَصْدُ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ، لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَصْدُ خَلَاصٍ مِنْ خَصْمٍ أَوْ إِدْمَانِ سَهَرٍ، أَيْ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالنِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، لَا أَنَّهُ لَا يُنْقِصُ ثَوَابَهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَا يُنْقِصُ الْأَجْرَ، وَمِثْلُهُ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الصَّوْمِ هَضْمَ الطَّعَامِ، أَوْ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الْحَجِّ رُؤْيَةَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَا يَلْزَمُ ضَرُورَةً.

تَفْرِيقُ النِّيَّةِ:

43- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ عَلَى أَجْزَاءِ الطَّاعَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ، أَيْ جِنْسُهَا الْمُتَحَقِّقُ فِي مُتَعَدِّدٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ خَصَّ كُلَّ عُضْوٍ بِنِيَّةٍ، بِأَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ Bالْوُضُوءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَغْسِلُ الْيَدَيْنِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِنِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِتَمَامِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى عَدَمَ إِتْمَامِهِ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ أَصْلاً، أَمَّا لَوْ خَصَّ كُلَّ عُضْوٍ بِنِيَّةٍ مَعَ قَصْدِهِ إِتْمَامَ الْوُضُوءِ عَلَى الْفَوْرِ مُعْتَقِدًا أَنْ لَا يَرْتَفِعَ حَدَثُهُ وَلَا يَكْمُلَ وُضُوؤُهُ إِلاَّ بِجَمْعِ النِّيَّاتِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ فَلَا يَضُرُّ، لَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ.

أَمَّا لَوْ جَزَّأَ النِّيَّةَ عَلَى الْأَعْضَاءِ، بِأَنْ جَعَلَ لِكُلِّ عُضْوٍ رُبْعَهَا مَثَلاً فَإِنَّهُ يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَعْنًى لَا تَقْبَلُ التَّجْزِيءَ وَحِينَئِذٍ فَجَعْلُهُ لَغْوٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ ابْنُ مَرْزُوقٍ بِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ؛ لِأَنَّ رُبْعَ النِّيَّةِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فِي اعْتِقَادِ الْمُتَوَضِّئِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ:

أَحَدُهَا: طَاعَةٌ مُتَّحِدَةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا، مِثَالُهُ فِي الصِّيَامِ أَنْ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا، ثُمَّ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ يُفْرِدُ كُلَّ إِمْسَاكٍ بِنِيَّةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْكَانِهَا وَأَبْعَاضِهَا: كَأَنْ يُفْرِدَ التَّكْبِيرَ بِنِيَّةٍ، وَالْقِيَامَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ، وَالرُّكُوعَ بِثَالِثَةٍ، وَكَذَلِكَ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى حِيَالِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: طَاعَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ أَبْعَاضَهُ بِالنِّيَّةِ وَأَنْ يَجْمَعَهُ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ فِي الْقِرَاءَةِ مِثْلَ أَنَّهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا..فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُثَابُ إِلاَّ إِذَا فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ، إِذْ لَا قُرْبَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِأَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَجُمَلُ الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: مَا لَا يُذْكَرُ إِلاَّ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}.فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ ذِكْرًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ كَقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقِرَاءَةَ لِغَلَبَةِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي اتِّحَادِهِ، كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَمَنْ رَآهُمَا مُتَّحِدَيْنِ مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَجْزَائِهِمَا، وَمَنْ رَآهُمَا مُتَعَدِّدَيْنِ جَوَّزَ تَفْرِيقَ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهِمَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ فَرَّقَ الْمُتَوَضِّئُ النِّيَّةَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ عِنْدَ غَسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ، صَحَّ وُضُوؤُهُ، لِوُجُودِ النِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ.

ثَانِيًا: الْأَحْكَامُ التَّفْصِيلِيَّةُ لِلنِّيَّةِ:

سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا الْأَحْكَامَ الْعَامَّةَ لِلنِّيَّةِ، وَنُورِدُ هُنَا أَثَرَ النِّيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنْ عِبَادَاتٍ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا:

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:

أ- النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ:

44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِهَا، وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ.وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي: قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه-: إِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالْإِخْلَاصُ هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...»، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْعَمَلِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَ الْعَمَلِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ شَرْعِيًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَصِحَّ بِلَا نِيَّةٍ كَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ فَوَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ.

وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مُفْتَقِرٍ إِلَى طُهْرٍ، أَوْ أَدَاءَ فَرْضِ الْوُضُوءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ سُنَّةٌ فِي Bالْوُضُوءِ، لِيَقَعَ قُرْبَةً وَلِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطًا وَلَا فَرْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أَمَرَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إِلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْيِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً وَفِعْلُ اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ حَتَّى لَوْ سَالَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، إِذِ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللاَّزِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنَ الزَّوَائِدِ، فَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعْ عِبَادَةً وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعْ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَارِثٍ: اتِّفَاقًا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الْأَصَحِّ، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

وَمُقَابِلُ الْأَشْهَرِ وَالْأَصَحِّ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ فِي الطَّهَارَةِ- كَالْوُضُوءِ- شَائِبَتَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا Bالنَّظَافَةُ تُشْبِهُ مَا صُورَتُهُ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَأَدَاءِ الدُّيُونِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْ حَيْثُ مَا شُرِطَ فِيهَا مِنَ التَّحْدِيدِ فِي الْغَسَلَاتِ وَالْمَغْسُولِ وَالْمَاءِ أَشْبَهَتِ التَّعَبُّدَ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.

وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَيِ الْوَصْفِ الْمُقَدَّرِ قِيَامُهُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَنْوِي أَدَاءَ الْوُضُوءِ الْمَفْرُوضِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، أَوْ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ مَمْنُوعٍ بِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-المعجم الغني (رِجْزٌ)

رِجْزٌ-

1- "اِرْتَكَبَ رِجْزًا": إثْمًا، ذَنْبًا.

2- "دَخَلَهُ الرِّجْزُ": الوَسْواسُ. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11]:

3- "أَتَى رِجْزًا": عَمَلًا قَبِيحًا، قَذِرًا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com