نتائج البحث عن (وَأُخْبِرَ)
1-العربية المعاصرة (حدث)
حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من يَحدُث، حُدوثًا، فهو حادث، والمفعول مَحْدُوث عنه.* حدَث الأمرُ: وقع وحصَل (حدثتِ الواقعةُ تحت عينيه).
* حدَث عن كذا/حدَث من كذا: نتج عنه أو منه (يحدث الأمرُ الكبير عن/من الأمر الصَّغير).
حدَثَ يَحدُث، حُدوثًا وحَدَاثةً، فهو حادِث.
* حدَث الشَّيءُ: كان جديدًا، عكسه قدُم، وإذا استعمل مع قَدُم ضُمّت الدَّال للمزاوجة (حدَث الشِّعرُ العربيُّ بشكله ومضمونه- أخذ ما قَدُم وما حَدُث).
أحدثَ يُحدث، إحْداثًا، فهو مُحدِث، والمفعول مُحدَث (للمتعدِّي).
* أحدث الشَّخصُ: وقع منه ما يَنقض وضوءَه.
* أحدث الشَّيءَ:
1 - ابتدعه وابتكره (أحدث طريقةً جديدةً في التّدريب وخُطَّة في اللَّعب).
2 - أوجده (أحدث اضطرابات/انقلابًا- {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [قرآن]) (*) أحدث أثرًا: أثَّر- أحدث وَقْعًا: كان له تأثير متَّسم بالإعجاب والدَّهشة.
استحدثَ يستحدث، اسْتِحداثًا، فهو مُستحدِث، والمفعول مُستحدَث.
* استحدثَ الشَّيءَ:
1 - أحدثه، ابتدعه وابتكره (استحدث الاستعمارُ أساليبَ جديدة للهيمنة على الدول).
2 - عدَّه حَديثًا (استحدث الأمرَ).
3 - وجدَه حديث السِّنِّ صغيرًا (أراد أن يكلّفه بمهمَّة لكنَّه استحدثه).
تحادثَ يتحادث، تحادُثًا، فهو مُتحادِث.
* تحادث الطَّالبان/تحادث الطَّالبُ وصديقه/تحادث الطَّالبُ مع صديقه: حدَّث أحدهما الآخر، تكلَّما معًا، تبادلا الأفكار وأطراف الحديث (تحادَث الوفدان ليتَّفِقَا على الصِّيغة النِّهائيَّة للوثيقة- تحادثوا بالأمر).
تحدَّثَ/تحدَّثَ ب/تحدَّثَ عن يتحدَّث، تحدُّثًا، فهو مُتحدِّث، والمفعول مُتَحَدَّث به.
* تحدَّث الشَّخصُ/تحدَّث بالواقعة/تحدَّث عن الواقعة: تكلَّم عنها وأخبر بها (تحدَّث إلى زميله- تحدَّث بما جدَّ عليه- لأن تعمل بالحسنى خيرٌ من أن تتحدّث بها وتقعد [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى المثل العربيّ: الخير بالتَّمام) (*) مُتحدِّث رسميّ: من يتحدَّث باسم جهة رسميّة، ناطق رسميّ.
حادثَ يحادث، محادثةً، فهو محادِث، والمفعول محادَث.
* حادث فلانًا: كالمه، وشاركه في الحديث (ما كنت مصدِّقًا ما قيل لولا أنّه حادثني بنفسه) (*) حادث قلبَه بذكر الله: تعاهده بذلك.
حدَّثَ يحدِّث، تحديثًا، فهو محدِّث، والمفعول محدَّث (للمتعدِّي).
* حدَّث الشَّخصُ: روَى حديثَ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
* حدَّثه الشَّخصُ/حدَّثه الشَّخصُ بكذا/حدَّثه الشَّخصُ عن كذا: أخبره وتكلَّم إليه (حدَّثني صديقي عمّا رأى في رحلته الأخيرة- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [قرآن]: أَشِعْها واشكر عليها) (*) حدَّثته نفسُه: أوحت إليه ودعته إلى القيام بأمر من الأمور- حدَّثه قلبُه: أعلمه، أحسَّ مسبَّقًا بشيء، وخامره شعور به- حدِّث عنه ولا حَرَج: تكلَّم بحرية تامَّة.
* حدَّث الشَّيءَ: جعله حديثًا، جدَّده، بعث فيه الحداثة والتطوير (تمَّ تحديث المصنع لزيادة الإنتاج- تحديث وسائل التَّعليم/العقل العربي/الأمَّة).
إحداثيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إحْداث.
* إحداثيّ أفقيّ أو سينيّ: [في الهندسة] بُعد نقطة عن مستوى المِحْوَريْن العاديّ والعينيّ.
* إحداثيّ رأسيّ لنقطة: [في الهندسة] بُعْدها العموديّ عن المحور الأفقيّ.
إحداثيَّات [جمع]: مفرده إحداثيّة:
1 - [في الجبر والإحصاء] خطوط متقاطعة وعموديّة على أخرى عُملت لمعرفة علاقة الأجزاء بعضها ببعض في شكل ما.
2 - [في الهندسة] أبعاد يتعيَّن بها موضع نقطة ما بالنِّسبة إلى أساس الإسناد.
* إحداثيَّات جغرافيَّة: [في الجغرافيا] خطوط متقاطعة، وهي خطوط الطُّول وخطوط العرض التي تمكِّن من تحديد موقع نقطة من سطح الأرض.
* إحداثيَّات ذات قطبين: [في الطبيعة والفيزياء] نظام إحداثيّات تكون فيه نقطة في سطح مُسْتوٍ محدّدة بأبعادها عن نقطتين ثابتتين (قطبين).
أُحْدوثة [مفرد]: جمعه أحاديثُ:
1 - ما يكثُر التّحدُّث به بين النَّاس ({وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [قرآن]: أهلكوا ولم يبق إلاّ أخبارهم) (*) صار أحدوثة: كثر فيه الحديث- صاروا أحاديث: مُثِّل بهم.
2 - أقصوصة، حكاية قصيرة (حُسْن الأُحْدوثة).
تحديثيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تحديث: (أهداف/أفكار/نقلة/رؤية/نهضة تحديثيَّة) (*) النُّخبة التَّحديثيَّة: رجال الفكر والثقافة.
2 - مصدر صناعيّ من تحديث: نزعة تهتم بالتطوير والأخذ بأسباب العِلْم الحديث لتلبية حاجات العصر (يريد تحويل نزعته التحديثيّة إلى واقع ملموس- يُعَدّ الدكتور زكي نجيب محمود من رواد التحديثية في الفكر العربي).
حادِث [مفرد]: جمعه حَوَادِثُ:
1 - اسم فاعل من حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من وحدَثَ.
2 - كلُّ ما يجدُّ ويحدُث، ما يقع فجأةً (حادث طارئ/عرضيّ أو فجائيّ/مُؤلم- العالَم حادث: مخلوق) (*) الحوادث الجارية: مُجمل الوقائع الحالية أو اليوميّة التي يمكن ملاحظتها.
حادِثة [مفرد]: جمعه حادثات وحَوَادِثُ:
1 - صيغة المؤنَّث لفاعل حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من: كلُّ ما يجدُّ ويحدث، ما يقع فجأة (حادثة سيّارة) (*) مَسْرَح الحادثة: المكان الذي تُجرى فيه أحداث المسرحيَّة أو الفيلم أو الرِّواية أو القصص الأخرى.
2 - مصيبة ونائبة (حوادِث الدَّهر: نوائبه ومصائبه).
حَداثة [مفرد]:
1 - مصدر حدَثَ.
2 - جِدَّة (اهتمَّ الناس بالأزياء العصريّة لحداثتها).
3 - صِبَا، سِنّ الشباب (على الرّغم من حداثة سنّه إلاّ أنَّه تحمّل المسئوليَّة- *وما الحداثة عن حِلم بمانعة*).
* الحداثة: [في الآداب] مصطلح أُطلق على عدد من الحركات الفكريَّة الدَّاعية إلى التَّجديد والثَّائرة على القديم في الآداب الغربيّة وكان لها صداها في الأدب العربيّ الحديث خاصّة بعد الحرب العالميّة الثَّانية (يميل كثير من المبدعين الآن إلى الحداثة باسم التَّجديد وتارة الصِّدق الفنيّ).
* اللاَّحداثة: [في الآداب] مبدأ يقول بوجوب اتِّباع التقاليد الموروثة في الإبداع الشِّعريّ وعدم إحداث أيّ تجديد (إنه من أنصار التبعيّة واللاّحداثة).
حداثويَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى حَداثة: على غير قياس.
2 - نزعة تميل إلى الاهتمام بكلّ ما هو عصريّ وجديد، وطرح كلّ ما هو قديم مطروق (كانت أعمالها تتّسق وتقاليد نزعتها الحداثويّة- هاجم البعض استعمال التقنيات الحداثويّة للمونتاج والريبورتاج في أعمال السينما).
حدَث [مفرد]: جمعه أحداث:
1 - صغير السّنّ (شابٌّ حَدَثُ السِّنّ) (*) مَحْكَمة الأحداث: مَحْكَمة مختَصَّة بقضايا صغار السِّنّ.
2 - ما يقع من الأمور غير المعتادة (شهر حافل بالأحداث) (*) أحداث السَّاعة: أهمّ الأحداث الجارية- حَدث الدَّهْر/أحداث الدَّهْر: نائبته أو نوائبه- عاش الأحداثَ: عاصرها، أدركها.
3 - [في الفقه] نجاسة حكميّة تزول بالوضوء أو الغُسل أو التيمُّم.
* الحدثان:
1 - اللَّيل والنَّهار.
2 - [في الفقه] الحدث الأكبر كالجنابة، والحدث الأصغر كالبول والغائط.
* إصلاحيَّة الأحداث: [في علوم الاجتماع] مؤسَّسة لإعادة الإصلاح وترسيخ النِّظام وتدريب مخالفي القانون من الأحداث وصغار السِّنّ وتأهيلهم.
حَدَثان [مفرد].
* حَدَثان الدَّهر: نوائبه وحوادثه (أفناهم حَدَثان الدَّهر).
حِدْثان [مفرد].
* حِدْثان الشَّباب: أوّلُه وابتداؤه.
حُدُوث [مفرد]: مصدر حدَثَ/حدَثَ عن/حدَثَ من وحدَثَ.
* حدوث العالم: مصطلح يعني أنِّ العالَم محدَث له صانع أحدثه وأوجده وليس بأزليّ.
حديث [مفرد]: جمعه أحاديثُ:
1 - كلّ ما يتحدَّث به من كلامٍ وخبر (حديث جانبيّ/صحفيّ/ذو شجون- {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [قرآن]) (*) جاذبه أطرافَ الحديث: شاركه في الحوار- حديث المائدة: حديث عفويّ وقت تناول الطعام- حديث النَّفس: ما يحدِّث به الإنسان نفسَه من خير وشرّ- حديث ذو شجون: متشعِّب متفرِّع يستدعي بعضُه بعضًا- قطع عليه حديثَه: اعترضه- ما لي معك حديث: لا شأن لي معك.
2 - [في الحديث] كُلُّ قول أو فعل أو تقرير أو صفة مِمَّا نُسب إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم (حفظت الأربعين حديثًا النوويّة) (*) حديث شريف: كلام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابته.
3 - حُلْم {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [قرآن].
4 - عِبْرة وعِظَة {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [قرآن].
* علم الحديث: علم يُعرف به أقوالُ النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأفعاله وأحواله (*) أصحاب الحديث/أهل الحديث/رجال الحديث: المحدِّثون.
* حديث قدسيّ: حديث يحكيه النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله عزّ وجلّ، ويُسند مضمونه إليه ويسمّى الحديث الإلهيّ أو الرَّبّانيّ.
* الحديث الحَسَن: [في الحديث] كلّ حديث اتصل سنده برواية عَدْلٍ قلّ ضبطه، من غير علّة ولا شذوذ، ومنه الحسن لذاته والحسن لغيره، وهو كالصحيح في الاحتجاج به غير أن رواته أقل ضبطًا من رواة الصحيح.
* الحديث الضَّعيف: [في الحديث] كلّ حديث فقد شرطًا من شروط القبول التي للصحيح والحسن.
* الحديث المتواز: [في الحديث] خبر ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه.
* الحديث الموضوع: [في الحديث] كلّ كلام ينسب إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلم افتراء وزورًا ولم يثبت أنه قاله أو فعله.
حديث [مفرد]: جمعه حِداث وحُدَثاءُ: جديد عصريّ، عكسه قديم (صدر هذا الكتاب حديثًا) (*) حديثًا: مؤخَّرًا- حديث البناء: بُني حديثًا- حديث العَهْد بالزَّواج: تزوَّج منذ وقتٍ قريب- حديث العَهْد بالشَّيء/حديث عَهْد بالشَّيء: عرفه حديثًا- حديث نعمة/حديث غِنى: أصبح ذا نعمة وثراء منذ وقت قريب، يتباهى بعرض ثروته ببذخٍ خالٍ من الذّوق ينمُّ عن تصنُّعٍ وغباءٍ مثيرَيْن للسُّخرية وهو ذو منشأ متواضع.
مُحادثة [مفرد]: جمعه محادثات:
1 - مصدر حادثَ (*) محادثة تلفونيّة: اتِّصال عبر الهاتف.
2 - مُناقشة أو مباحثة (لم تُسفر المحادثات بين الجانبين عن أيِّ تقدُّم- محادثات دبلوماسيّة).
3 - [في الفلسفة والتصوُّف] عند الصُّوفيَّة، مخاطَبة الحقّ للعارفين من عالم الملك والشّهادة، كالنِّداء من الشَّجرة لموسى.
مُحدَث [مفرد]: جمعه مُحْدَثون ومُحْدَثات:
1 - اسم مفعول من أحدثَ.
2 - ما لم يكن معروفًا في كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع (وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا [حديث]).
3 - حَدِيث، جديد قريب العهد، عكس قديم (موضوع مُحدَث- {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [قرآن]) (*) مُحدَث الثَّراء/مُحدَث النِّعمة: شخص حديث الثَّراء.
* المُحدَثون: المتأخِّرون من العلماء والأدباء، وهم خلاف المتقدِّمين أو القدماء (لم يكن اللُّغويّون القدماء يستشهدون بشعر المحدثين).
مُحْدَثة [مفرد]: جمعه مُحْدَثات، والمذكر مُحْدَث:
1 - مؤنَّث مُحدَث.
2 - مُحْدَث، ما لم يكن معروفًا في كتابٍ ولا سُنَّة ولا إجماع (وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ [حديث]).
مُحدَّث [مفرد]:
1 - اسم مفعول من حدَّثَ.
2 - مُلهَم يرى الرَّأي ويظّنُّ الظّنَّ، فيكون كما رأى وكما ظنّ (إِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مُحدَّثٌ فَهُوَ عُمَرُ [حديث]).
مُحدِّث [مفرد]:
1 - اسم فاعل من حدَّثَ.
2 - راوي أحاديث النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم (تزخر المكتبات بكتب الرّواة والمحدِّثين).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (عبر)
عبَرَ يَعبُر، عُبورًا وعَبْرًا، فهو عابر، والمفعول مَعْبور.* عبَر النَّهرَ ونَحوَه: قطعه وجازَه من جانبٍ إلى آخَر (عبَر الطَّريقَ/البحرَ- عبَر به الماءَ- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [قرآن]) (*) الزَّمان العابِر: الماضي- بضائعُ عابرة: بضائع مُعفاة من الرُّسوم في طريق نقلها من بلدٍ إلى بلد آخر- حُبٌّ عابر: غير مقيم- صاروخ عابر قارّات: صاروخ بعيد المدى، يُطلق من قارَّة إلى أخرى- عابرة المحيطات: سفينة ضخمة تُستخدم في النَّقل عبر المحيطات- عابر السَّبيل: المارُّ بالمكان دون أن يقيم فيه، المسافر خاصَّة على قدميه- عبَر الأزمة: تخطّاها وتغلَّب عليها- كلمة عابرة: قيلت في سياق لم تكن معدَّة لأن تقال فيه- وقت عابر: ماضٍ بسرعة.
عبَرَ يَعبُر، عِبارَةً وعَبْرًا، فهو عابِر، والمفعول معبور.
* عبَر الرُّؤيا أو الحُلْمَ: فسَّرَهُما وأخبر بآخر ما يئول إليه أمرهما {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [قرآن].
عبَرَ يَعبُر، عَبْرًا، فهو عابر.
* عبَرت عينُه: جرت دمعتُها، حزِن (عبَرت دموعُها حين رأت الأيتامَ المحتاجين للعون).
استعبرَ يستعبر، استعبارًا، فهو مُستَعْبِر، والمفعول مُستَعْبَر (للمتعدِّي).
* استعبر فلانٌ: حزِن، جرَتْ دمعتُه (استعبرت عينُها لفراق ابنها).
* استعبر فلانًا الرُّؤْيا: قصَّها عليه وسأله تفسيرَها.
اعتبرَ/اعتبرَ ب يعتبر، اعتبارًا، فهو معتبِر، والمفعول معتبَر.
* اعتبره القاضي مُذنِبًا: عدَّه وحسبه (اعتبره مسئولًا عن الحادِث- أنا مُعتبِرُك أخًا لي- اعتبره عالمًا/صديقًا).
* اعتبر فلانًا: اعتدَّ به واحترمه (الجميع يعتبر أعضاءَ المجمع ويقدِّرهم).
* اعتبرَ بالموت: تدبَّر، اتَّعظ به (اعتبر بما حدث لجاره- اعتبر بمن قبلك ولا تكن عبرةً لمن يأتي بعدك- {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ} [قرآن]).
عبَّرَ/عبَّرَ عن يعبِّر، تعبيرًا، فهو مُعبِّر، والمفعول مُعبَّر.
* عبَّر الرُّؤيا أو الحُلْمَ: عبَرهما، فسَّرهما وأخبر بآخر مايئول إليه أمرهما.
* عبَّرَ عمَّا في نفسه: أوضح، بيَّن بالكلام أو غيره ما يدور في نفسه (لسانُه مُعبِّرٌ عن ضميره- عبَّر عن عواطفه/رفضه للموضوع- عبَّر عنه غيره: أعرب).
اعتبار [مفرد]: جمعه اعتبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر اعتبرَ/اعتبرَ ب (*) اعتبارًا من هذا التَّاريخ: ابتداءً منه- باعتباره مديرًا: بوصفه، بحكم وظيفته- على اعتبار أنَّ: بالنَّظر إلى أنَّ- وضَعه في الاعتبار: فكَّر فيه، وضَعه في حساباته.
2 - تقديرٌ واحترامٌ وكرامة (رجلٌ له اعتباره ومكانته بين النّاس) (*) باعتباره أكبرهُم سِنًّا: بصفته أكبر سِنًّا- دون اعتبار للكفاءة: بغضِّ النَّظر عن الكفاءة- يأخذ بعين الاعتبار: يُراعي أو يقدِّر.
3 - سبب (عفا عنه لاعتبارات كثيرة- تخلَّف عن الحضور لاعتبارات شخصيَّة).
* الاعتبار:
1 - [في الفلسفة والتصوُّف] التَّأمّل والتَّدبّر والاستدلال بذلك على عِظَم القدرة وبديع الصَّنعة.
2 - النَّظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها؛ ليعرف بالنَّظر فيها شيء آخر من جنسها.
* ردُّ الاعتبار: [في القانون] إعادة التَّقدير والاحترام بعد صدور قرارٍ أو حُكْمٍ بالإدانة، أو ردُّ الكرامة وإعادة الحقوق المدنية وإلغاء العقوبة.
اعتباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى اعتبار: فرضيّ (ما زالت النَّظرية اعتباريَّة) (*) شخصيَّة اعتباريَّة: شخصيَّة معنويّة ليس لها وجود خارجيّ محسوس، ولكنَّها موضع اعتراف القانون كالهيئات والمؤسّسات والشَّركات.
تعبير [مفرد]: جمعه تعبيرات (لغير المصدر) وتعابيرُ (لغير المصدر):
1 - مصدر عبَّرَ/عبَّرَ عن.
2 - قول، أسلوب (تعبير جميل/موفَّق- هذا الرَّجل يُحسن التَّعبيرَ عن نفسه) (*) إن جاز التَّعبير: إن صحَّ القولُ- بتعبيرٍ آخر: بكلامٍ آخر يدلُّ على المعنى نفسه- على حدّ تعبيره: وفقًا لما يقول، حسب أقواله.
* تعبير اصطلاحيّ: [في العلوم اللغوية] مجموعة من الألفاظ يختلف معناها مجتمعةً عن مجموع معانيها منفردةً (السُّوق السَّوداء: التُّجَّار المستغِلّون- لبّى نداء ربِّه: مات).
تعبيريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى تعبير.
* رمز تعبيريّ: رمز يُستخدم في الاختزال يرمز إلى عبارة.
تعبيريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تعبير.
2 - مصدر صناعيّ من تعبير.
3 - [في الآداب] حركة أدبيَّة وفنّيّة نشأت في أوّل القرن العشرين تؤكّد على التعبير الذَّاتيّ عن خبرات الفنَّان الدَّاخليَّة.
عِبارة [مفرد]: جمعه عبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر عبَرَ.
2 - مجموعة من الألفاظ قد تؤلِّف جزءًا من جملة أو أكثر (يُكثر من عبارات المجاملة).
3 - كلام يبيّن ما في النَّفس من معنى (كلامي هذا عبارة عن توضيح لما قلته سابقًا).
4 - [في العلوم اللغوية] جملة صغيرةٌ دالَّة على معنًى (تحدَّثَ بوجيز العبارة) (*) العبارة الاصطلاحيَّة: طريقة خاصّة في التعبير مؤدّاها تأليف كلمات في عبارة تتميَّز بها لغة دون غيرها من اللغات، كعبارة: بالرِّفاء والبنين، في العربيّة- العبارة التِّذكاريّة: عبارة محفورة على حجر أو مادة شبيهة به للتذكير بوفاة أو بتاريخ مُنْشأة- العبارة الجامعة: تركيب بلاغي تؤدِّي فيه الكلمة الواحدة أكثر من غرض في الجملة- بعبارةٍ أُخرى: بجملةٍ أخرى، بأسلوب آخر- حَسَنُ العِبارة: جميل الأسلوب، فصيح اللِّسان- عبارة عن كذا: ذو دلالةٍ على كذا- عبارة مُشَوَّشة: غير مستقيمة في التَّركيب أو المعنى- هذا عبارة عن هذا: بمعناه أو مساوٍ له في الدّلالة.
عَبَّارة [مفرد]: سفينةٌ تعبُر البَحرَ ونحوَه من شاطئٍ إلى آخر (أسرعت العَبَّارةُ بالحُجَّاج).
عَبْر [مفرد]:
1 - مصدر عبَرَ وعبَرَ وعبَرَ.
2 - خِلالَ (امتدَّ تأثيرُه عَبْر القرونِ- خاطبَه عَبْرَ الأثيرِ- مرَّ عَبْرَ الحقولِ- عَبْرَ المكان/الزمان/القارّات- انتقلت هذه العادات عَبْر الأجيال).
عِبْرانيّ [مفرد]: عِبْريّ؛ يهوديّ، من أتباع موسى عليه السَّلام (شعب عِبْرانيّ).
عِبْرانيَّة [مفرد]: جمعه عِبرانيّات (للعاقل).
* اللُّغة العِبْرانيَّة: [في العلوم اللغوية] لُغةٌ ساميَّةٌ يتكلَّمها اليهود (تتشابه اللُّغة العبرانيَّة مع اللُّغة العربيَّة في كثير من تصريفاتها).
عَبْرة [مفرد]: جمعه عَبَرات وعَبْرَات وعِبَر: دمعة قبل أن تفيض (عَبْرَةُ فرحٍ- سالت عَبْرَتُه) (*) لك ما أبكي ولا عَبْرَة لي [مثل]: أي أحزن لك ولست حزينًا من أجل نفسي، ويُضرب لمن يشتدّ اهتمامُه بالآخر ويؤثره.
عِبْرَة [مفرد]: جمعه عِبْرات وعِبَر: تَذْكِرة، عِظة يُتَّعَظ بها (جاء الحكمُ على المرتشي عبرةً لمن يعتبر- استخلص العِبَر- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [قرآن]) (*) العِبْرة بكذا/العِبْرة في كذا: العامل الحاسم، الأمر مرتهن ب- جعله عِبْرةً لغيره: بالغ في عقابه وتأديبه- لا عِبْرَةَ به: لا اهتمام به.
عِبْريّ [مفرد]: عبرانيّ؛ يهوديّ من أتباع موسى عليه السَّلام (شعبٌ عِبْريٌّ).
عِبْريَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى عِبْريّ.
* اللُّغة العبريَّة: لُغةٌ ساميَّةٌ يتكلَّمها اليهود.
عُبور [مفرد]: مصدر عبَرَ (*) ذكرى العبور: ذكرى عبور الجيش المصريّ قناة السُّويس في السَّادس من أكتوبر سنة 1973م العاشر من رمضان سنة 1393ه.
عبير [مفرد].
* عبيرُ الأزهار: رائحة طيِّبة زكيَّة، أريج، أخلاط من الطِّيب، شذا (امتلأ المكانُ بالعبير).
مَعْبَر [مفرد]: جمعه مَعابِرُ:
1 - اسم مكان من عبَرَ1: شطّ مُهيَّأ للعبور؛ مكان العبور (أغلقت قوَّاتُ الاحتلال المَعْبَرَ الرَّئيسيّ المؤدِّي إلى المدينة).
2 - ألواح تُتَّخذ للعبور عليها من الشَّاطئ إلى السَّفينة والعكس.
3 - ما يُعْبَر به النَّهر كالسَّفينة والقنطرة.
مِعْبَر [مفرد]: جمعه مَعابِرُ: مَعْبَر؛ ما يُعبر عليه أو به من سفينة أو قنطرة.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-المعجم الوسيط (حَدَّث)
[حَدَّث]: تكلَّم وأَخبر.و- رَوَى حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و- بالنِّعمة: أَشَاعَها وشَكَر عليها.
و- فلانًا الحديثَ، وبه: خبَّره.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
4-المعجم الوسيط (دَاحلَهُ)
[دَاحلَهُ] مُداحَلةٌ، ودِحالًا: راوغَه.و- كَتَمَ ما علمه وأخبر بغيره.
و- ماكَسَه.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
5-معجم متن اللغة (شهد)
شهد: شهادة وشهدًا.وجاء: شهد وشهد وشهد "بإسكان الهاء" وشهد "كلها بمعنى شهد": بين ما علمه وأخبر به.
و- له: أدى ما عنده من الشهادة، فهو شاهد، ج شهد "عن الأخفش" جج أشهاد وشهود؛ أو هي أسم جمع "عن سيبوبه".
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
6-معجم متن اللغة (عبر عبرا وعبارة الرؤيا)
عبر- عبرا وعبارة الرؤيا: فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها.و- عبرا وعبورا النهر: قطعه من عبره إلى عبره.
و- السبيل: شقها، وهو عابر سبيل، وهم عابرو سبيل.
و- فلان: مات (ز).
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
7-معجم متن اللغة (عبر عن فلان)
عبر عن فلان: تكلم عنه.و- عما في نفسه: أعرب.
و- به الماء: جاز.
و- الدراهم: وزنها درهما درهما.
و- الشيء: لم يبالغ في وزنه أو كيله.
و- الرؤيا: فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها.
و- به: أراه عبر عينه أي ما يسخنها ويبكيها.
و- به الأمر: اشتد: أهلكه.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
8-جمهرة اللغة (قزز قز)
ومن معكوسه؛ القَز الملبوس: عربي صحيح.وأخْبِر عن الخليل أنه قال: سمعت أبا الدقَيْش يقول في كلامه: بزوز العراق من قُزوزِها وخُزُوزِها.
ورجلُ قَز، وهو أصل بناء المُتَقَزز.
والقَزة: الوثبة.
وفي الحديث: (إن إبليس لَيَقز القَزَة من المَشْرِق إلى المَغْرِب).
وقزت نفسي عن الشيء، إذا أبَتْه، لغة يمانية.
وأكثر ما يُستعمل في معنى عِفْتُ الشيءَ وقَزِزْته أقزة قزًا.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
9-جمهرة اللغة (بقل بلق قبل قلب لبق لقب)
البَقْل: العُشب وما يُنبت الربيعُ بَقَلَتِ الأرضُ وأبْقَلت، لغتان فصيحتان، إذا أنبتت البَقْلَ.والمثل السائر: "لا تُنبت البَقْلَةَ إلا الحَقْلَةُ"، والحَقْلة: القراح الطَّيِّب الطِّين.
وبَقَلَ وجهُ الغلام وبقّل، إذا ابتدأ فيه الشَّعَر.
والباقِلاء: معروف، عربي صحيح.
وبنو باقِل: بطن من العرب.
وبنو بُقَيْلة: بطن أيضًا، عِباد بالحيرة.
والبُقْل: بطن من الأزد، وهم بنو باقل.
ويقال: دابَّة أبلَقُ بَيِّنُ البَلَق والبُلْقة.
وإبلاقَّ الدابّةُ وأبْلَقّ.
وقال قَوْم: بَلُق الدابّةُ، وهذا لا يُعرف في أصل اللغة.
والبَلَق: الفسطاط.
والبَلَق أيضًا: الباب في بعض اللغات.
وباليمن حجارة تُضيء ما وراءها كما يضيء الزجاج تُسمّى البَلَقَ.
والأبْلَقُ الفردُ: حصن بتَيْماء كان للسَّموأل بن عادِياء.
قال الأعشى:
«بالأَبلق الفَرْد من تَيماء مَنْزِلُـهُ*** حِصْن حصين وجار غيرُ غدّارِ»
ومثل من أمثالهم: "تمرَّدَ ماردٌ وعَزَّ الأبلقُ"، وهما حِصنان لهما حديث.
وزعموا أن الزبَّاء قالته.
ومن أمثالهم: "طلب الأبْلَق العقوق"، إذا طلب ما لا يمكن.
قال الشاعر:
«طَلَبَ الأبلقَ العَقُوقَ فلمَّـا*** لم يَجِدْه أراد بَيْضَ الأنُوقِ»
كأنه طلب شيئًا لم يُدركه، فطلب ما هو فوقه.
لا يقال: الأبلق إلا للذكر، والعَقوق إلا للإناث.
والبَلْقاء: موضع بالشام.
والبَلُّوقة: أرض قَفْر، تزعم العرب أنها من مساكن الجن.
وربما قالوا: بُلُّوقة بضم الباء، والفتح أكثر، والجمع بلالِق.
ويقال: انبلق الباب، إذا انفتح.
وأخبر الأصمعي أن أعرابيًا دخل البصرة فصادف قومًا يدخلون دار العُرْس، فأراد أن يدخل فدُفع فقال: انبلق لي باب فاندفقتُ فيه فدُلِظ في صدري.
وقَبْلُ: ضدُّ بَعْدُ.
والقُبُل: ضدُّ الدُّبُر.
والقَبَل: ما قابلك من جبل أو عُلْو من الأرض يقال: رأيت شخصًا بذلك القَبَل.
قال الشاعر:
«خشيةُ الله وأنّي رَجُلٌ*** إنما ذِكريَ نارٌ بقَبَلْ»
والقَبَل: أن ترى الهلال أوّلَ ما رُئي لم يرَ قبل ذلك، يقال: رأيت هلال كذا قَبَلًا فكان صغيرًا.
والقَبَل: أن يورِدَ الرجلُ إبلَه ثم يستقي لها فيصبّ عليها يقال: سقاها قَبَلًا.
والقَبَل: أن يتكلم الرجل بكلام لم يكن استعدّ له، يقال: تكلم فلان قَبَلًا فأجاده، وكلّمتُه من ذي قَبَل، أي استقبلت له الكلام.
والريح القَبول: الصَّبا لأنها تقابل الدَّبور.
وقُبالتك: ما قابلك.
والقَبيل: جيل من الناس، وقد قرئ: {قِبَلًا} و {قُبُلًا}، فمن قرأ: قُبُلًا، أراد جميع قَبيل، ومن قرأ قِبَلًا أراد مقابلةً، والله أعلم.
ويقولون: "ما يَعرف قَبيلَه من دَبيره" فقال قوم.
أراد: لا يَعرف نسب أبيه من نسب أمّه.
وقال آخرون: القَبيل: الخيط الذي يُفتل إلى قُدّام، والدبير: الذي يُفتل إلى خَلْفٍ.
والقَبيل: الكفيل، يقال: فلان قبيلي، أي كفيلي.
وقبيل القوم: عَريفهم.
قال الشاعر:
«أوَكلّما ورَدَتْ عُكاظَ قبيلة*** بعثوا إليّ عَريفَهم يتوسَّمُ»
ويَّروى: قَبيلهم.
ونحن في قِبالة فلان، أي عِرافته.
ويقال في الكفالة: قبِلَتْ تَقْبُل، وفي العين قَبِلَتْ تَقْبَل قبلًا.
ورجل أقْبَلُ، والجمع قُبْل، والأنثى قَبْلاء، وهي أن تُقْبل حدقتاه على ماقِئَيه.
والقَبَلُ عند العامة: الحَوَل الخفي وليس كذلك عند العرب، إنما الحَوَل ضد القَبَل، وذلك أن الحَوَل عندهم أن تميل إحدى الحَدَقتين إلى مُؤْخِر العين والأخرى إلى مُؤْقها.
قال الشاعر:
«ولو سمعوا منهم دعاءً يَروعهم*** إذًا لأتته الخيل أعيُنُها قُـبْـلُ»
يعني أن الخيل تجذب الأعِنَّة فتصير كالقَبَل في العين.
وأقبل الشيءُ إقبالًا، إذا ابتدأ بخير أو صلاح.
والقابلة: التي تَقْبَل الصبيَّ إذا سقط من بطن أمه.
وسئل أعرابي عن امرأة فقال: تركتها تَوَحْوَح بين القوابل، قال الشاعر:
«أطَوْرَين في عام غزَاة ورِحلةٌ*** ألا ليَّتَ قَيسًا غرَّقته القوابـلُ»
والقابِل: الذي يقبل دَلْوَ السّانية.
قال الشاعر:
«وقابِلٌ يتغنَّى كلّمـا قَـدَرَتْ*** على العَراقي يداه قائمًا دَفَقا»
ويقال: عام قابل وليلة قابلة.
وقبائل الرأس: شُعَبه التي تتّصل بينها الشؤون، وبه سُمِّيت قبائل العرب.
وقِبال النَّعْل: معروف.
ونَعْل مُقابَلة: لها قِبالان.
والشاة والناقة المقابَلة: ضِدُّ المدابَرة.
فالمقابَلة: التي تُشَقُّ أذُنها من قِبل وجهها والمدابَرة: التي تُشَق أذُنها من قِبَل قفاها.
والشَّقّ: الإقبالة والإدبارة.
والقُبْلة: خَرَزَة شبيهة بالفَلْكَة تعلَّق في أعناق الخيل.
والقُبْلة: خَرَزَة من خَرَز نساء الأعراب اللواتي يؤخِّذن بهن الرجال يَقُلن في كلامهن: "يا قُبْلَة أَقْبِليه ويا كرارِ كُرِّيه".
وهكذا جاء الكلام، وإن كان الكلام ملحونًا عن العرب، لأن العرب تُجري الأمثال على ما جاءت ولا تستعمل فيها الإعراب.
والقُبْلة: ما تتّخذه الساحرة لتُقْبِل بوجه الإنسان إلى صاحبه.
والقِبْلَة: قِبْلة الصلاة.
ويقال: ما لفلان قِبْلة، أي ما له جهة.
والقَلْب، قلب الإنسان وغيره: معروف.
والقَلْب: نجم من منازل القمر.
قال الشاعر:
«بين السِّماك وبين قَلْبِ العَقْرَبِ»
وقَلْبُ النخلة وقُلْبها لغتان.
ويُجْمَع قُلْب قِلَبَة.
ومثل من أمثالهم: "ما الخوافي كالقِلَبَة ولا الخُنّاز كالثًّعَبَة" الخُنّاز: الوَزَغَة والثُّعَبَة: أغلظ من الوَزَغَة وأشد غُبرةً، تلسع لسعًا مُنْكرًا وربما قتلت، والخوافي: ما دون القُلْب من سَعَفِ النخل يسمّيها أهل نجد: العَواهن.
وقَلَّبْت النخلةَ: نزعت قلْبَها.
وقَلْبُ كل شيء: خالصه، يقال: عربي قَلْب، أي خالص، وعربية قَلْبٌ.
وقَلَبْت الشيء لوجهه قَلْبًا، إذا كَبَبْتَه، وقلَّبته بيدي تقليبًا.
ومن أمثالهم: "إقْلِبْ قَلاّبُ"، يُضرب للرجل الذي يقلَب لسانه فيضعه حيث يشاء.
والقُلْب: السِّوار.
قال الشاعر:
«تَخول خلاخيلُ النِّساء ولا أرى*** لرملةَ خَلخالًا يجول ولا قُلْبا»
والقُلاَب: داء يأخذ في القلب فلا يلبِّث.
والقالَب: الذي يُصبّ فيه الشيء من صُفر أو غيره فيجيء مثله.
والقَليب: الرَّكيّ مذكَّر.
وأقْلَبَتِ الخبزة في المَلَّة، إذا نضج أحدُ وجهيها فاحتاجت أن تُقلب إلى الوجه الآخر.
والقِلِّيب: الذئب لغة يمانية.
قال الشاعر:
«أُتيحَ لها القِلَيبُ من بطن قَرْقَرَى*** وقد تَجْلِبُ الشرَّ البعيدَ الجوالبُ»
تَجْلِب بالتاء والكسر أنشدَناه أبو حاتم عن أبي زيد.
والقُلوْب: الذئب أيضًا.
وبنو القُلَيْب: قبيلة من العرب.
واللَّبِق.
الحاذق بالشيء إذا عمله رجل لَبِق ولَبيق.
قال الشاعر:
«وكان بتصريف القناة لَبيقا»
والمصدر اللَّباقة واللَّبَق.
ولبقت الثريدَ والشىء تلبيقًا، إذا أحكمت تليينه وضربَه حتى يلتحم.
واللَّقَب: اللَمْز والنَّبْز لقَّبته تلقيبًا.
وجمع لَقَب ألقاب.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
10-جمهرة اللغة (دعم دمع عدم عمد مدع معد)
دَعَمْتُه أدعَمه دَعْمًا، إذا أسندته.وكل شيء عَمَدْتَ به شيئًا فهو دِعامة له ودِعام له.
قال الشاعر:
«وبفاحمٍ رَجْلٍ أثـيثٍ نَـبْـتُـه***كالكَرْم مالَ على الدِّعام المُسْنَدِ»
وقد سمّت العرب دِعامة ودِعامًا ودُعامًا.
ودُعْميّ: اسم.
وبنو دُعام: بطن من هَمْدان منهم.
والدَّعْم: المال والقوّة؛ يقال: فلان ذو دَعْمٍ، أي ذو قوّة ومَقْدُرَة.
قال الراجز:
«لا دَعْمَ لي لكن لسلمى دَعْمُ *** جاريةٌ في وَرِكَيْها شَحْمُ»
والدّمْع: دمْع العين، والجمع دُموع.
ودَمَعَت العينُ تدمَع دَمَعًا، بفتح الميم.
قال الراجز:
«فبات يَأذَى من رَذاذٍ دَمَعا *** من واكفِ العِيدانِ حتى أقْلَعا»
يقال: أذِيتُ بالشيء آذَى، وأَذِيَ فلانٌ بالشيء يأْذى به.
وقال قوم: دَمِعَت عينُه.
ومَجاري الدّمع: المَدامع.
والدِّماع: مِيسَم في مجرى الدمع.
ويوم دَمّاع: ذو رَذاذ.
ثرى دَمّاع: يرشح بالنّدى.
والدَّمّاع: نبت، لا أحُقُّه.
والعَدَم والعُدْم: الفقر؛ أعْدَمَ الرجلُ يُعْدِم إعدامًا فهو مُعْدِم وعديم أيضًا؛ وهو أحد ما جاء على فعيل من أفْعَلَ.
وعدِمَ يعدَم عدَمًا وعُدْمًا، ثم كثر ذلك في كلامهم حتى صار كلُّ ما أعْوَزَك فقد أُعْدِمْتَه.
قال الشاعر:
«ولقد أغدو وما يفعْدِمُـنـي***صاحبٌ غيرُ طويلِ المحتَبلْ»
يعني فرسًا قصير الأرساغ، وهو موضع الحِبالة.
وأخبر ابنُ الكلبي أنه وُجد حجر بحضرموت مزبور فيه: عَدْمٌ عَدِمَه أهلُه؛ وعَدْم: وادٍ باليمن، وقال أيضًا: وعَدْم: وادٍ بحضرموت كانوا يزرعون عليه فغاض ماؤه قبل الإسلام، فهو كذلك الى اليوم.
وأرض عدْماء: بيضاء.
وشاة عَدْماء: بيضاء الرأس وسائرُها أيّ لون كان.
والعَمْد: ضدّ الخَطأ.
وعَمَدْتُ للأمر، إذا قصدته أعمِده عَمْدًا.
وعَمَدْتُ الشيءَ أعمِده عَمْدًا، إذا أسندته، والشيء الذي يُسند إليه عِماد.
والعَمود: عَمود الخِباد، والجمع عُمُد؛ وعُمُد الخِباء: أسقابه، الواحد سَقْب.
ويُجمع عَمود عُمُدًا وعَمَدًا.
وعَمود الصبح: ابتداء ضوئه.
ورجل عَميد: سيّد يُعتمد عليه؛ هذا عَميد بني فلان وعِمادهم، أي سيّدهم.
ورجل عَميد: قد عَمَدَه الحزنُ، أي لَهَدَ فؤادَه.
ويقال: قد عَمِدَ الثرى يعمَد عَمَدًا، إذا كان كثيرًا فإذا قبضت منه على شيء تعقّد واجتمع من نُدُوَّته.
قال الراعي:
«حتى غَدَتْ في بياض الصبح طيّبةً***ريحَ المباءة تخدي والثَّرى عَمِـدُ»
وعَمِدَ سَنامُ البعير يعمَد عَمَدًا، إذا عضّ الحِمْلُ غاربَه وسنامه حتى يتوخّض لحمه، أي يتكسّر ويتفسّخ، فإذا قاح الموضع فهي العَمَدَة والبعير عَمِد.
قال لبيد:
«فبات السيلُ يركب جانبيه***من البَقّار كالعَمِدِ الثَّفالِ»
وفلان عُمْدَة بني فلان وعِمْدَتهم، أي الذي يعتمدون عليه في أمورهم.
ورجل عُمُدّان وعُمُدّاني، إذا كان طويلًا.
وعَمود الرّكيّ: القائمتان اللتان تكون عليهما المَحالة.
قال الراجز:
«لا دَلْوَ إلاّ مثلُ دَلْوِ أُهْبانْ *** لها عِناجان وسِتُّ آذانْ»
«إذا استقلّت رَجَفَ العَمودانْ»
والمَعْد من قولهم: ثَعْدٌ مَعْدٌ، إتباع لا يُفرد، وهو البقل الرَّخْص.
والمَعْد من قولهم: مَعَدْتُ الرمحَ أمعَده مَعْدًا، إذا انتزعته من مركزه.
والمَعْد أيضًا: الغِلَظ، ومنه اشتقاق المَعِدَة.
والمَعَدّان: اللحمتان في مَرْجِع الكتف من الفرس يقع عليهما السَّرج من عن يمين وشمال، وبه سُمِّي الرجل مَعَدًّا.
والمَعَدّان من جنب الفرس: موضع عَقِبَي الفارس؛ هكذا قال الأصمعي.
وأنشد:
«رأت رَجُلًا قد لوّحته مَـرازئٌ***فطافت برَيّان المَعَدَّيْن ذي شَحْمِ»
وقال أبو عبيدة: المَعَدّان هما موضع السَّرج من جَنْبَي الفرس.
قال الشاعر:
«فإما زال سَرْجٌ عن مَعَـدٍّ***فأجْدِرْ بالحوادث أن تكونا»
ويقال: تَمَعْدَدَ الغلامُ، إذا صلب واشتدّ.
قال الراجز:
«ربَّيتُه حتى إذا تَمَعْدَدا *** وآضَ نَهْدًا كالحِصان أجردا»
«كان جزائي بالعصا أن أُجْلَدا»
وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (اخشوشِنوا وتمعددوا).
والمثل السائر: "تسمعُ بالمُعَيْديّ لا أن تراه"، كأنه نسبه الى مَعَدّ ثم صغّره، وكان اسمه شِقّ بن ضَمْرَة، فسمّاه النعمان ضَمْرَة بن ضَمْرَة؛ وكأن الأصل فيه مُعَيِّديّ فاستثقلوا ذلك فخفّفوا.
ومَعْدي كَرِب: اسم.
ومَعْدان: اسم.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
11-جمهرة اللغة (سفن سنف فسن فنس نسف نفس)
سَفَنْتُ العودَ أسفِنه سَفْنًا، إذا قشرته من لحائه.والسَّفَن: الجلد الذي يُجعل على قوائم السيوف، وإنما سُمّي سَفَنًا لخشونته، ومنه اشتقاق السّفينة لأنها تسفِن الماء كأنها تقشره، فهي فَعيلة في موضع فاعلة.
وسَفّانة: اسم بنت حاتم طيّئ، وبها كان يُكنى.
والسَّفّان: ملاّح السفينة.
والسَّنَف منه اشتقاق السِّناف، والسِّناف: خيط يُشَدّ من حَقَب البعير الى تصديره ثم يُشَدّ في عُنُقه إذا ضَمَرَ فقلِق وَضينُه؛ سَنَفْتُ البعيرَ فهو مسنوف وأسنفتُه فهو مُسْنَف، وأبى الأصمعي إلا أسنفتُ فهو مُسْنَف، ولم يعرف مسنوفًا.
ويقال: فرس مُسْنِفَة، إذا كانت تتقدّم الخيل في سيرها، فإذا سمعتَ في شِعْر: مُسْنِفَة، بكسر النون، فإنما يعني فرسًا، وإذا سمعت: مُسْنَفَة، بفتح النون، فإنما يعني الناقة.
والسِّنْف: وعاء ثمر المَرْخ، وهو شبيه بوعاء الباقِلَّى تُشبَّه به آذان الخيل إذا يبس، ويسمّى إعْلِيطًا أيضًا.
قال الشاعر:
«كسِنف النّخلةِ الصّفِرِ»
الصَّفْر: الفارغ الذي ليس فيه شيء.
وفرس نَسوف، إذا كانت واسعة الخَطْو.
قال الشاعر:
«نَسوفٌ للحِزام بمِرْفَقيها***يَسُدُّ خَواءَ طُبْبَيْها الغُبارُ»
وناقة نَسوفٌ، إذا نسفت الترابَ بخُفَّي يديها في سيرها.
والنَّسْف: نسفُك الشيءَ بالمِنْسَف، وما يقع منه: النُّسافة.
والنّسيف: موضع أثر رجل الراكب من الرَّحْل.
قال الشاعر:
«وقد تَخِذَتْ رِجلي الى جَنْب غَرْزِها***نَسيفًا كأُفْحوص القطاة المطـرِّقِ»
والنَّسْف: نَقْرُ الطائر بمِنقاره.
والنُّسّاف: طائر معروف.
والنَّفْس: نَفْس الإنسان والدابّة وكلّ شيء.
والنَّفْس: مِلء الكفّ من الدِّباغ.
وأخبر الأصمعي أن أمَةً من بعض إماء العرب جاءت مستعجلةً الى قوم فقالت لهم: تقول لكم مولاتي: أعطوني نَفْسًا أو نَفْسين فإني أفِدَة، أي مستعجلة.
وأصابت فلانًا نَفْسٌ، أي عَين.
ونَفَس الإنسان وغيره: معروف.
والنَّفْس: الماء، سُمّي نَفْسًا لأن به قِوام النَّفْس.
والنَّفْس: الدم.
ويقال: ادفع إليّ الشيءَ نَفْسَه، أي عينه.
ورجل نَفوس، إذا كان يصيب الناس بالعين.
ونُفِسَت المرأة ونَفِسَت، فهي نُفَساء والجمع نِفاس.
قال الراجز:
«أحْبَنَ يمشي مِشْيَةَ النِّفاسِ»
ويُروى: أبَدُّ يمشي.
وهذا مَتاع نفيس.
وغلام منفوس به.
ونَفِسْتُ على فلان بكذا وكذا، ونَفِسْتُ عليه كذا، أنفَس نَفاسةً فأنا نافس.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
12-جمهرة اللغة (سفو سوف فسو فوس وسف وفس)
السَّفْو: مصدر سفا يسفو سَفْوًا، إذا مشى مشيًا سريعًا، وكذلك الطائر إذا طار.وبغلة سَفْواء: خفيفة سريعة، وهو في البغال مدح، وكذلك الأتان الوحشية.
قال الراجز:
«فراحَ يحدوها وراحت نَيْرَجا *** سفواءَ مِرْخاءَ تباري مِغْلَجا»
يصف أتانًا.
وقال الآخر يصف بغلة:
«جاءت به معتجرًا ببُرْدِهْ*** سفواءُ تَرْدي بنسيجِ وحدِهْ»
وفرس أسْفَى وحِجْر سَفْواءُ: قليلة شعر الناصية، وهو عيب.
وسَفَوان: موضع.
وسوف: كلمة تُستعمل في التهديد والوعد والوعيد، فإذا شئت أن تجعلها اسمًا نوّنتها: قال الشاعر:
«إنّ سَوْفًا وإنّ لَوًّا عَناءُ»
ويُروى: إنّ لَوًّا وإنّ لَيْتًا عناءُ، فنوّن إذا جعلهما اسمين، وكذلك سبيل هذه الأحرف.
وذكر أصحاب الخليل عنه أنه قال لأبي الدُّقَيْش: هل لك في الرُّطَب? فقال: أسْرَعَ هَلٍّ وأوحاه؛ فجعله اسمًا ونوّنه.
والبصريون يدفعون هذا.
والسَّوْف: مصدر سُفْتُ الشيءَ أسُوفه سَوْفًا، إذا شمِمته.
والحمار يَسوف عانتَه، إذا شمّها؛ والعانة هاهنا: القطعة من الأُتْن.
والسُّواف: الهلاك؛ رماه الله بالسُّواف، أي بالهلاك.
والوَسْف: أصل بناء توسَّف الشيءُ، إذا تقشّر؛ وتوسّف جلدُ الرجل، إذا أصابته شمسٌ فتقشّر جلدُه.
والفَسْو: معروف وتُعيَّر به قبيلة، وذلك أنهم اشتروه من إياد بسوق عُكاظ ببُرْدَي حِبَرَة، وله حديث.
فأما قولهم: تفسّأ الثوبُ، إذا تشقّق، فمهموز تراه في موضعه إن شاء الله.
وأخبر يونس أن أعرابيًا مرّ به وهو مُحْتَبٍ بطَيْلَسانه فقال: علامَ تَفْسَؤه?
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
13-جمهرة اللغة (الفاء في الهمز)
فَأوتُ رأسَ الرجل فَأْوًا وفَأيتُه فَأْيًا، إذا فلقته بالسيف.والفَأْو: متّسع من الأرض بين جبال أو رمل.
قال الشاعر:
«فأْوٌ من الأرض محفوفٌ بأعلامِ»
وكل ما اتّسع فقد انفأى.
قال الشاعر:
«حتَى انفأى الفَأْو عن أعناقها سَحَرا»
وفَقَأتُ عينَه فَقْأً فهي مفقوءِة.
والفَقْء: نَقر في حجر أو غلظٍ يجتمع فيه الماء، والجمع فُقْآن.
والفَقْء: موضع أيضًا.
وفَثَأت القدِر أفثَؤها.
فَثأً، إذا كسرت غليانها بالماء البارد.
قال الشاعر:
«تدور علينا قِدْرُهم فنُديمهُا *** ونَفْثَؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا»
وفَثَأتُه عني، إذا كففته عنك.
وفَجَأتُه فَجْأً وفَجِئتُه فُجاءة، إذا لقيته وهو لا يشعر بك.
وفَطَأتُ الرجلَ أفطَؤه فَطْأً، إذا ضربته بعصًا أو ضربت برجلك ظهره.
وفَطَأتُ على الدابّة، إذا حملت عليه حملًا ثقيلًا حتى تفزر ظهرَه.
وفأفأ الرجلُ فأفأةً، إذا ردّد كلامَه، والرجل فأفاء كما ترى.
قال الشاعر:
«يقولون فَأْفاءٌ فلا تَنْكِحِنّه*** ولستُ بفأفاءٍ ولا بجبانِ»
وفَسَأتُه بالعصا أفسَؤه فَسْأً، إذا ضربته بها.
وفَسَأتُ الثوبَ أفسَؤه فَسْأً، إذا مددته حتى يتفزّر.
وأخبر الأصمعي عن يونس قال: رآني أعرابي محتبيًا بطيلسان فقال: علامَ تَفْسَؤ ثوبَك? وذكر بعض أهل اللغة أنه سمع أعرابيًا يقول: تفسّأ أمرُ القوم، إذا تشعّب.
وتقول: فِئتُ إلى كذا وكذا فَيْئًا، أي رجعت، وفاء الفَيءُ، إذا رجع.
قال الشاعر:
«تيمّمتِ العينَ التي جنبَ ضـارجٍ*** يَفيء عليها الظِّلُّ عَرْمَضهُا طامِ»
وفَيء الغنيمة من هذا لأن الله جلّ ثناؤه أفاءه عليهم وردّه.
وتقول: ما فتأتُ أذكره، وفَتِئت أذكره، أي ما زلت أذكره.
قال الشاعر:
«وما فَتِئتْ خيلٌ تثوب وتدّعي*** ويَلْحَقُ منها لاحقٌ وتَقطَّعُ»
وفي التنزيل: {تَفْتَؤ تَذْكُرُ يوسُفَ}.
وفَأدتُ الصَّيد، إذا أصبتَ فؤادَه.
وفَأدتُ الخُبزة، إذا مَلَلْتَها.
وفَأدتُ اللحمَ، إذا دفنتَه في الجمر، واللحم فئيد.
والمِفْأد: حديدة يُشوى بها اللحم.
قال الشاعر:
«ويجيبه في الأمر كلُّ مقلَّصِ*** عاري الأشاجع لونُه كالِمْفأدِ»
والمفتأَد: الموضع الذي يُشتوى فيه اللحم.
وفَشَأ المرضُ في القوم فُشوءًا، مهموز، وتفشَّأ تفشُّؤًا، إذا انتشر فيهم.
قال الشاعر:
«تفشّأ إخوانَ الثِّقاتِ فعـمَّـهـم*** وأسكتُّ عنّي المُعْوِلاتِ البواكيا»
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
14-جمهرة اللغة (أبواب نوادر ما جاء في القوس وصفاتها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى)
قال أبو عُبيدة: يقال لِما بين طائف القوس وسِيَتها الكِتاف، وأخبر بذلك عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن حبيب، ولها كِتافان، والجمع أكتِفة وكُتُف.ويقال لحدّي السِّيَتَيْن اللذين في بواطنهما: أنفا السِّيَتَيْن.
ويقال يد القوس للسِّيَة العُليا ورِجْلها للسِّيَة السُّفلى.
ويقال: قوس مُحْدَلة، إذا حُطّت سِيَتُها.
وقال أبو عُبيدة: يقال: فاقَ السهمَ يفوقه فَوْقًا، إذا وضع فُوقَه في الوَتَر.
وموضع الفُوق من الوَتَر يسمّى المُفاق، هذا في لغة من قال: أفقتُ السهمَ فهو مُفاق مثل أقلتُه فهو مُقال، ومُوفَق في لغة من قال: أوفقتُ السهم مثل أوعدتُه فهو مُوعَد، وفُقْتُه فهو مَفُوق مثل قُلْتُه فهو مَقُول.
وأنشدوا في أوفقتُ السهمَ:
«ولقد أَوفَقَ اللئامُ جميعـًا*** ليَ حتى فُعالةُ الجَعْراءُ»
كنّى أبو بكر بفعالة عن القبيلة.
والدِّجَّة: جِلدة قَدْرُ إصبعين توضع في طرف السَّير الذي تعلّق به القوس وفيها حلقة فيها طرف السَّير، وهي دُجية القوس أيضًا.
وكُلْية القوس: ما تحت الدِّخَّة من قِبل اليد والرِّجل، وهما الكلْيتان.
وفي ظهر الدِّجَّة سَير يكون عِلاقة القوس في حلقة في طرفه.
والحَلَق تسمّى الرَّصائع، فإذا كان العَقَب على سِيَتها لغير عيب فهو التوقيف، وإن كان من عيب فهو الجَلائز.
قال الشَّمّاخ في الجَلائز:
«مُطِلاًّ بزُرْقٍ ما يداوَى رَمِيُّهـا*** وصفراءَ من نَبْعٍ عليها الجَلائزُ»
وهذا عيب لأن الجَلائز لا تكون إلا على موضعٍ مَعِيب، ويقال لها المضائغ.
وقوم يسمّون ذوائب القوس: الذَخال.
ويقال: قوس عاتكة اللِّياط، إذا احمرّت، فإذا كان فيها طرائق من لونها وصفائها فتلك الأساريع.
ويقال: وعِجْس القوس؛ وعَجْسها ومَعْجِسُها.
وأنشد أبو عُبيدة:
«ماطورةٌ بالدَّهْن والأسكانِ»
الدَّهْن؛ مصدر دهنتُه دهنًا.
قال أبو حاتم: فقلت له: ما الأسكان? فقال: جمع سَكَن، وهي النار.
ومن صفات القِسِيّ عنده
مُحْدَلة، أي تطأمنت.
وزَوْراء، إذا دخل زَوْرُها.
وحَنِيّة وعَطوف ومعطوفة وكَبْداء، وهي الغليظة الوسط.
ومَلْساء، إذا لم يكن فيها شَقّ، وكَتوم كذلك.
وحَنّانة، إذا سمعتَ لها رَنّة، وكذلك هَتَفَى.
وأنشد:
«وهَتَفى معطيَةً طروحا»
وتَرْنَموت، إذا سمعتَ لها رَنّة أيضًا.
وإذا كانت سريعة السهم فهي طَحور وطَحوم وطَروح وضَروح ومِلحاق ولُحُق وعَجْلَى ورَكوض.
ويقال أيضًا للتي لها حنين عند الرمي مُرِنّة ومِرنان وهَزوم وجَشء.
وإذا كانت هتوفًا نسبوها إلى الهَزَج لأن صوتها يَهْتِف بالقوس.
ويقال لصوتها الترنّم والنَّأمة والحنين والأَزْمَل والغَمغمة والهَتْف والولولة.
وقال أبو عبيدة: تشبِّه العربُ القوسَ بالهلال.
وأنشد قول الراجز:
«كأنَّها في كفِّه تحت الرَّوَقْ *** وَفْقُ هلالٍ بين ليلٍ وأُفُقْ»
ويُروى: وأُفَقْ، وجمعه آفاق، وجمع أُفُق آفاق؛ والرَّوَق: موضع الصائد الذي يقعد فيه كأنه شبّهه بالرِّواق؛ وقوله وَفْق، أي متّفق في شَبَهه.
وتشبّهه أيضًا بالسَّبيكة:
«مثل السَّبيكة لا نِكْسٌ ولا عُطُلُ»
وتشبّه بالعاج، وهو السِّوار.
قال المتنخّل الهذلي:
«وصفراءُ البرايةِ فَرْعُ نَبْعٍ*** كوَقْفِ العاج عاتكةِ اللِّياطِ»
«ومما جاء في صفة الأوتار»
وَتَر حُبْجُر وحُباجِر وحَبْجَر، وهو أغلظها وأبقاها وأصوبها سهمًا ويملأ الفُوقَين، والجمع حَباجِر، وهو العُنابل.
قال الراجز:
«والقوسُ فيها وَتَرٌ عُنابلُ»
وهو مأخوذ من العُنْبُل، وأصله الغِلَظ.
وبه سُمّي الزَّنجي عُنْبُليًّا لغِلَظه.
قال الراجز:
«يا رِيَّها حين جرى مَسيحي *** وابتلَّ ثوباي من النَّضيحِ»
«وصار ريحُ العُنْبُليِّ ريحي»
والوَتَر الشِّرْع والشِّرْعة والمجزَّع: الذي لم يُحْسَن إغارته فظهر بعض قُواه على بعض، وهو أسرعها انقطاعًا.
وفيها المثلوث والمربوع والمخموس، وهو الذي يُفتل من ثلاث قُوىً وأربع وخمس.
وأنشد:
«نحن ضربنا العارضَ القُدموسا *** ضربًا يُزيل الوَتَرَ المخموسا»
«ومما توصف به السهام»
قال أبو عبيدة: وأول ما يُقطع السهم يسمّى قضيبًا، فإذا أمِرّت عليه الطريدة فهو نَصِيّ وقِدْح ما دام ليس عليه ريش ولا عليه نَصْل، فإذا راشوه بلا نَصْل فهو المِنْجاب والمِلْجاب.
قال الشاعر:
«ماذا تقول لأشياخٍ أولي جُـرُمٍ*** سودِ الوجوه كأمثال الملاجيبِ»
وفي السهم فُوقُه، وقد مرَّ ذكره، وزَنَمتا الفُوق: حرفاه؛ وغارُه: الفُرْضة التي يقع فيها الوترة وتسمّى الزَّنَمتان: الرِّجلين، وعِجْس السهم: ما دون الريش، ويقال له العِجْز أيضًا، وزافرة السهم ممّا يلي نصله، وهذه عن عيسى بن عمر، والرُّعْظ: الثقب الذي يدخل فيه سِنخ النصل وسرائحُه، وهي العَقَب المعصوب به، والسرائح أيضًا: آثار فيه كآثار النار، فإن كانت من آثار النار فهي ضبْح، سهم ضبيح ومضبوح، وتسمّى السريحة: الشريحة أيضًا؛ وسَفاسقه: الطرائق التي فيه، الواحدة سِفْسِقة؛ وبادرته، وهي طرفه من قِبل النصل، وإنما سُمّيت بادرة لأنها تَبْحُر الرميّة.
وقد يقال له أيضًا إذا سُوِّي ولم يريَّش: الحِراث، والجمع أحرِثة، ذكر ذلك عيسى بن عمر عن عبد الله بن حبيب.
ويقال له البَرِيّ.
وأنشد في ذلك:
«يَمُدّ إليها جِيدَه رونقَ الضُّحـى*** كهزِّك في الكفّ البَرِيَّ المقوَّما»
وتدويمه: ثباته في الأرض.
ويسمّى أيضًا المِراط إذا لم يكن له ريش، فإذا جُعل في أسفله مكانَ النصل كالجوزة من غير أن يراش فذلك الجُبّاء، ممدود، والواحدة بالهاء جُبّاءة.
فإذا اعوجَّ السهمُ فهو الأعْصَل والمستحيل، وإذا استوى قَدْرُ قُذَذه سُمّي حَشْرًا، وقد يقال المحشور أيضًا.
ومن الريش الظُّهارُ، وهو ما يلي ظهر الطائر، والبُطْنان ممّا يلي بطنه، فالظُّهار أجودها وأسرعها مُضِيًّا بالسهم.
ومنها اللَّغْب، والجمع اللِّغاب، فإذا استقبل البطنُ الظهرَ والظهرُ البطنَ فهو اللُّؤام.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
15-جمهرة اللغة (باب آخر من النوادر)
قال يونس: حَفَصْتُ الشيء"، إذا ألقيتَه من يدك، بالصاد غير المعجمة؛ وحَفَضْتُه، إذا عطفتَه، بالضاد المعجمة.قال أبو عُبيدة: يقال: عَشَشْت الرجلَ عن مكانه وأعششتُه، إذا أزلتَه عنه وهو كاره.
وقال: المُتْمَهِلّ والمُتْلَئبّ مثل المُسْجَهِرّ سواء، وهو امتداد الليل وغيره.
وقال: المُقْمَهِدّ: الذي قد لوى عُنُقَه وشمخ بأنفه.
وقال يونس: أقامت امرأة فلان عنده رُبْضَتها، يعني امرأة العِنِّين إذا أقامت عنده سنةً ثم فُرِّق بينهما.
وقال يونس: ذَفّفه بالسيف وذافّه وذفّه، وذفّف عليه، إذا أجهز أي قتله؛ يقال بالدال والذال.
وأخبر عن يونس قال: تقول العرب: "إن في مِضَّ لمَطْمَعًا" وفي مِضِّ ومِضٍّ، يريدون بذلك كَسْرَ الرجل شِدْقَه عند سؤال الحاجة.
وقال يونس: تزوج فلان في شَرِيّة نساء، يريد حيًّا تَلِد نساؤهم الإناثَ، وتزوج في عَرارة نساء، يريد حيًّا تَلِد نساؤهم الذكور.
ويقال: رجع الأمرُ على قَرْواه، أي رجع على مَسْلَكه الأول.
وقال يونس: الرأتلة: أن يمشي الرجلُ متكفّئًا على جانبيه كأنه متكسِّر العظام.
وقال أيضًا: سِقاء أَدِيّ وسِقاء زَنِيّ: بين الصغير والكبير.
ويقال: هذا أمر له نَجيث، أي عاقبة سَوءٍ، وأصله من النَّجيثة، وهي النَّبيثة.
وقال يونس: الشريطة إذا وضعت الناقة ولدًا شرطوا أُذنه، فإن خرج منه دم أكلوه وإن لم يخرج دم تركوه.
قال: ويقال: رجل دَخْشَنّ: غليظ خَشِن.
وأنشد:
«أصبحتُ يا عمرُو كمثل الشَّنِّ *** أمري ضَروسًا كعصا الدَّخْشَنَ»
وقال أبو عبيدة: تركت القوم حَوْثًا بَوثًا، أي مختلطين.
وقال: العَكْل: اللئيم من الرجال، والجمع أعكال.
وقال يونس: يقال عكبشَه وعكشَه، إذا شدّه وثاقًا.
وبالعَكْش سُمّي الرجل عُكاشة.
وقال يونس: تقول العرب للرجل إذا أقرّ بما عليه: دِحٍ دِحٍ، وقالوا دِحِنْدِحٌ موصول، وقالوا دِحْ دِحْ بلا تنوين، يريدون قد أقررتَ فاسكت.
وقال يونس: جاء فلان مُضَرْفَطًا بالحبال، أي موثَقًا.
وقال: يقال: صارت الحُمّى تُحاوِدُه وتَعَهَّدُه وتَعاهَدُه، وبه سُمّي الرجل حاوِدًا، وهو أبو قبيلة من العرب من حُدّان.
ويقال: فلان يحاودنا بالزيارة، أي يزورنا بين الأيام.
ويقال: نحن في رسْلة من العيش، أي في عيش صالح.
وقال أبو عبيدة: يقال: يوم طانٌ: كثير الطين؛ ورجل خاطٌ من الخياطة، وكَبْش صافٌ: كثير الصوف؛ ورجل مالٌ: كثير المال؛ ورَجل نالٌ: كثير النوال؛ ويقال: رجل مَأل، بالهمز: كثير اللحم، وامرأة مَأْلة مثل ذلك.
قال: ويقال: تأنّقت هذا المكانَ، أي أحببته وأعجبني.
وفي الحديث أنّ عبد الله بن مسعود كان يقول: (إذا قرأتُ آل حاميم صرتُ في روضاتٍ أتأنّق فيهنّ)، أي يعجبنني.
قال أبو بكر: قال أبو حاتم: الحواميم من كلام الصِّبيان، وإنما الوجه أن يقال: قرأت آل حاميم.
وأنشد أبو بكر فى آل حاميم:
«وجدنا لكم في آلِ حاميمَ آيةً*** تَدَبّرها منّا تَقِيّ ومُعْـرِبُ»
يعني فصيحًا يُعْرِب اللغة.
وقال يونس: لقيتُه أوّلَ ذات يَدَيْ، أي أوّلَ كل شيء.
ويقال: أخبرته بالخبر صُحْرَةَ بُحْرَةَ وصَحْرَةَ بَحْرَةَ، أي كفاحًا لم يُسْتَرمنه شيء.
قال: ويقال: أخبرتُه خُبوري وفُقوري وحُبوري وشُقوري، إذا أخبرته بما عندك.
قال: ويقال: زَمْهَرَتْ عيناه وازمهرّت، إذا أحمرّتا.
قال يونس: تقول العرب: فَطَرَ نابُ البعير وشَقَأَ نابُه وشقّ نابُه وبَقَلَ وبَزَغَ وصَبَأَ بمعنى واحد.
وقال: يقال: قد أَجهَى لك الأمرُ، إذا استبان ووضحَ؛ وأجهيتُ لك السبيل.
ويقال: ما هَيّان فلانٍ? أي ما أمرُه وما حاله? ويقال: سَدَح فلانٌ بالمكان ورَدَحَ به، إذا أقام به.
ويقال: أنف فناخِر، أي عظيم.
وأنشد أبو بكر:
«إنّ لنا لَجارةً فُنـاخِـرهْ*** تَكْدَحُ للدنيا وتَنسى الآخرهْ»
ويقال: أتانا فلان بنَعْوٍ طيّب وبمَعْوٍ طيّب، وهو ما لان من الرُّطَب.
وقال أبو عُبيدة: يقال: هو في عيش أوطَفَ وأَغضَفَ وغاضفٍ وأَرغَلَ وأغرَلَ ودَغْفَلٍ ورافغٍ وعُفاهِمً وضافٍ، إذا كان واسعًا.
ويقال: أنقفَ الجرادُ، إذا رمى ببيضه.
ونَقَفْتُ البيضةَ ونَقَبْتُها واحد، إذا ثقبتها.
وقال يونس: القِرْطِبَّى مثال فِعْلِلّى: الصَّرْع على القفا.
وأخبرنا أبو حاتم عن أبي عُبيدة عن يونس قال: شهد أعرابيّان الجمعة فلما ركع الإمامُ وجعل الناسُ يتأخّرون قال أحدهما لصاحبه: "اثْبُتْ إنها القِرْطِبَّى".
قال: ويقال: تجوّظ الرجلُ وجوّظَ وجَوِظَ، إذا سعى.
وفي كلام بعض العرب: "أكثرُ ما أسهلتنا الغيوثُ ونحن في الأموال جَشَرٌ ولو نال ذلك أحدَكم لجوّظَ حتى يَقْرَعِبَّ في أصل شجرة".
قال أبو بكر: هذا أعرابي قال لأهل الحضر: نحن أصبر منكم لأن المطر يجيئنا ونحن في السهل فلا نعتصم منه بشيء كما تعتصمون أنتم لو أصابكم بأصول لأشجار.
قال أبو عبيدة: يقال: اعتسسنا الإبلَ فما وجدنا عَساسًا ولا بَساسًا، أي قليلًا ولا كثيرًا.
قال أبو عُبيدة: الدُّقَّى: التراب الدقيق بمنزلة الجُلَّى.
وقال: مرّ يَمْلَخ مَلْخًا، إذا مرّ مرًّا سهلًا.
قال أبو حاتم: سألتُ الأصمعي عن ذلك فقال: المَلْخ: كل مَرٍّ سهلٍ.
وفي كلام الحَسَن رحمة اللّه عليه: {يَمْلَخ في الباطل مَلْخًا}، أي يسرع فيه.
وقال الراجز:
«إذا تَتَلاّهُنّ صَلصالُ الصَّعَقْ *** معتزِمُ التجليح مَلاّخُ المَلَقْ»
قال أبو عُبيدة: إذا تهيّأ الرجل للأمر قيل: قد تشنّعَ له.
قال: ويقال: أبَدٌ وآباد وبَلَدٌ وأبلاد، والأبلاد: الآثار.
وقال الأصمعي: يقال: ما ذقت غَمَاضًا ولا تَغْماضًا ولا غِماضًا ولا غُمْضًا ولا تغميضًا.
قال أبو حاتم: الغُمْض: ما دخل العينَ من النوم، والغَمَاض اسم الفعل، والتَّغماض تَفعال، وكذلك التغميض تفعيل، والغَمَاض اسم النوم.
قال رؤبة:
«أرَّقَ عينيَّ عن الغَمَاض *** بَرْقٌ سَرَى في عارضٍ نَهّاضِ»
وقال الأصمعي وأبو زيد: مضمضتِ العينُ بالنوم مِضماضًا، وتمضمضَ النومُ في العين تمضمضًا.
قال الراجز:
«وصاحب نبّهتُه ليَنْهَضا *** إذا الكَرَى في عينه تَمَضْمَضا»
«فقام عَجْلانَ وما تأرّضا *** يَمْسَح بالكفَّين وجهًا أبيضا»
وحكى الأصمعي: لهم كلب يتمضمضُ عَراقيبَ الناس.
وقال الأصمعي: قال منتجِع: عذَّبه الله عَذابًا شَزْرًا، أي شديدًا.
وقال الأصمعي: رجل نُزَك: طَعّان في الناس.
قال أبو حاتم: كأنه يطعن بنَيْزَك.
قال أبو عُبيدة: المؤتفِكة من الريح: التي تجيء بالتراب.
وقال أعرابي من بني العَنْبَر: إذا كثرت المؤتفِكات زَكَتِ الأرضُ.
وقال أبو عبيدة: الضِّكاك واللِّكاك: الزِّحام؛ ضَكَه ولَكَّه، إذا زحمه.
قال أبو حاتم: الدّاكدان من الحديد بالفارسية يسمّى المِنْصب، ويسمّى المِقْلَى المِحْضب، ويسمّى القُفْل المِحْصَن، ويسمّى الزَّبيل في بعض اللغات المِحْصَن، وتسمّى الفراشة المِنْشَب.
قال: ويقال: قِدْر صَلود: لا تغلى سريعًا.
والصَّلود من الخيل: الذي لا يعرق.
وقال أبو عبيدة: قِلْف الشيء وقِرْفه وقِشْره وأحد، وهي القُلافة والقرافة.
وقال: تركت العربُ الهمزَ في أربعة أشياء: في الخابية، وهي من خَبأْتُ، والبَرِيّة، وهي من بَرَأَ اللّه الخَلْقَ، والنبيّ، وهو من النَّبَأ؛ والذُّرّيّة من ذَرَأ اللّه الخَلْقَ.
ويَرَى من رأيتُ صحّحه أبو بكر خامسًا.
وقال: العود الذي يُدفن في الجمر حتى تأخذ فيه النار يسمّى الثَّقْبة والذَّكْوة.
ويقال: سَخّيتُ النار، بالخاء المعجمة، إذا فرّجتها؛ وسَخَوْتُها، إذا فتحتها.
وقال أبو عُبيدة والأصمعي جميعًا: الذِّيبان: الوَبَر الذي يكون على المَنْكِبين من البعير.
قال الشاعر:
«مِلاطٌ ترى الذِّيبانَ فيه كأنّه*** مَطِينٍ بثَأْطٍ قد أُمِيرَ بشَيّانِ»
المِلاطان: الكَتِفان، والثَّأْط: الحَمْأة الرقيقة؛ وأْميرَ: خُلِطَ؛ وشَيّان: دم الأخوين.
وقال الآخر:
«عَسُوف لأجواز الفَلا حِمبريّة*** مَريشٌ بذِيبان السَّبيب تليلُهـا»
ويُروى: لأجواز الفَلا هَبْهَبيّة، والهَبْهَبيّة: السريعة؛ والتَّليل: العُنُق؛ والسَّبيب: شَعَر القفا والناصية.
وقال أبو زيد: مكان عَكَوَّك، إذا كان صلبًا شديدًا.
وأنشد:
«إذا بَرَكْنَ مَبْرَكًا عَكَوَّكا*** كأنما يَطْحَنَّ فيه الدَّرْمَكا»
الدَّرْمَك: الحُوّارى من الدقيق.
ورجل تاكٌّ فاكٌّ، إذا تساقط حُمُقًا.
وقال: العَضنَّكة، وقالوا العَضْنَكة والغَضَنَّكة والعَفَلَّقة: العظيمة الرَّكَب.
وقال أبو زيد: يقال: رماه اللّه بالتُّهْلوك، أي بالهَلَكة.
وقال أبو نُخَيْلة لشَبيب بن شَيْبَة:
«شبيبُ عادى اللّه من يَقليكا *** وسبَّب اللهّ له تُهْـلُـوكـا»
وقال: العَجِنة من الإبل، وقالوا العَجِنة والعَجْناء: التي يَرِمُ حَياؤها فلا تَلْقَح، والمعتجِنة: التي قد انتهت سِمَنًا.
وقال رجل من العرب: "عَمَدَ فلانٌ إلى عِدّة من جَراهِيَة غنمه فباعها وترك دِقالها"، جَراهِيَتها: ضِخامها، ودِقالها: صِغارها، ويقال: شاة دَقِلة، على وزن فَعِلة، إذا كانت كذلك، وقالوا: أَدقلتْ فهي مُدْقِل، وقالوا: دَقيلة، وهي الشاة الضاوية.
وقالوا: الكَيَّه من الرجال: الذي لا متصرَّف له ولا حيلة، وهو البَرِم بحيلته.
وقال أبو زيد: شيخ دُمالِق ومشائخ دَماليق، أي صُلْع الرؤوس.
وقال: شخشختِ الناقةُ، إذا رفعت صدرها وهي باركة.
وقال: تشأشا القومُ، أي تشتّتوا.
وقال: البَرَصة: دابّة صغير دون الوَزَغة إذا عضّت شيئًا لم يبرأ.
وقال: سمعتُ أعرابيًا يقول: إنهم ليَهْرِجون ويَهْرِدون منذ اليوم، أي يموج بعضهم في بعض.
قال: وسمعت أعرابيًا يقول: تغطمشَ علينا فلان، أي ظلمَنا.
وقال في كلامه: فرفرَني، فِرفارةً وبعذرَني بِعذارةً، إذا نفضني.
قال: وسمعته يقول الرجل منا لصاحبه إذا قُضي له عليه:
«وَكَلْتُك العامَ من كلبٍ بتَنْباح»
وقال: صبَّ اللّه عليه حُمّى ربيضًَا، أي صبَّ اللّه عليه من يهزأ به.
وقال: المقطئرّ من الناس: الغضبان المنتفخ.
وقال: المُسْتَباه: الذي لا عقل له؛ والمُسْتَباهة: الشجرة يَقْعَرها السيلُ فينحّيها عن مَنْبِتها، والمُسْتَباه: الرجل الذي يخرج من أرض إلى أخرى.
ويقال: ضربه فوَقَطَه وأَقطَه ووَقَذه، إذا غُشي عليه.
ويقال: تمأّى فيهم الشرُّ وتمعّى، إذا فشا فيهم.
ومَأَوتُ الأديم فتمأّى، إذا بَلَلْتَه حتى يمتدّ ويتّسع.
وأنشد:
«دَلْوٌ تَمَأّى دُبغت بالخلَّـبِ*** أو بأعالي السَّلَم المضرَّبِ»
«فلا تُقَعْسِرْها ولكن صَوِّبِ»
يقول: لا تأخذها بالقهر والشدة ولكن صوَب ظهرك حتى يخرج ماءُ الدلو.
وقال أبو زيد: يقال: شاة مخروعة الأُذن، أي مشقوقة في وسطها بالطول.
وقال: تقول العرب: قد وأّر فلان فلانًا توئيرًا، على مثال وعَّر توعيرًا، وهو أن يلقيه في شرّ.
وقد وعّره، إذا حبسه عن حاجته ووِجهته.
ويقال: ما تحلَّسَ منه بشيء، أي ما أصاب منه شيئًا؛ وإنه لَحَلوس أي حريص.
وقال أبو عُبيدة: يقال: ازمهرّت الكواكبُ في السماء، إذا أضاءت.
وقال أبو زيد: تقول العرب: أكلتُ لقمة فسَبَتَتْ حلقي، بالتخفيف والتثقيل والتخفيف أجود، أي قطّعته وسرّحته.
وسَبَتَ عُنُقَه بالسيف، إذا قطعها.
قال: وسمعتُ أعرابيًا يقول: تَقَعْوَشَ عليه البيت فتغمّطه الترابُ، أي غطّاه، وتَقَعْوَشَ: انهدم.
ويقال: مَلَقْتُ جلدَه أملُقه مَلْقًا، إذا دلكته حتى يملاسَّ.
وأنشد:
«رأت غلامًا جِلْدُه لم يُمْلَق *** بماءِ حَمّامٍ ولم يخـلَّـقِ»
يخلَّق: يملسَّ من قولك: حبل أخْلَقُ، أي أمْلَسُ.
وقال: الضّافِطة من الناس: الحمّالون والمكارون.
وقال: القوس الفراغ: البعيدة موقع السهم.
وقال أبو عُبيدة: دَفَّتْ دافّة، وهَفَّتْ هافّةٌ، وهَفَتَت هافتةٌ، وهَفَتْ هافيةٌ، وقَذَتْ قاذيةٌ، إذا أتاهم قوم قد أُقحموا في البادية.
وقال أبو زيد: تقول العرب: أنا عُذَلة وأنت خُذَلة وكِلانا ليس بابن أمَة؛ يقول: أنا ألومك وأنت تخذُلني ولم نُؤتَ من قِبَل أُمّنا.
وتقول: ناقة هكِعة وهَقِعة وهَدِمة، إذا اشتدَّت ضَبْعَتُها وألقت نفسَها بين يدي الفحل.
وقال أبو زيد: يقال لكلّ منفرد من أصحابه: قد يَتِمَ، وبذلك سُمّي اليتيم.
والدُّرّة اليتيمة التي في بيت اللّه الحرام سُمّيت بذلك لأنه لا شبيه لها.
وقال أبو زيد: يقال: صَرَبْتُ في إنائي وقَرَعْتُ وقلَدْتُ، أي جمعت.
ويقال للوَطْب: المِقْرَع والمِصْرَب والمِقْلد.
وقال أبو زيد وأبو مالك: تقول العرب: سَبّوح وقَدّوس وسَمّور وذَرّوح، وقد قالوه بالضمّ وهو أعلى، وذَرّوح واحد الذَّراريح، وهي الدود الصغار وهو سَمّ.
ويقال ذُرَحرح وذُرَحْرِح وذُرْنُوح وذُرُّوخ وذُرّاح.
وقال أبو زيد: يقال: ماء كثير الواردة، إذا وردته السِّباعُ والناسُ وغيرُهم.
وماء كثير الوارد، إذا لم يَرِدْه إلاّ الناس.
ويقال: طعنتُه بالرمح طعنًا وباللسان طَعَنانًا لا غير.
قال أبو زُبيد:
«وأبَى ظاهرُ الشَّناءةِ إلاّ*** طَعَنانًا ؤقولَ ما لا يقالُ»
وقال أبو زيد: العَقَنْقس: العَسِر الأخلاق: وخالفه قوم فقالوا: العَفَنْقَس.
وقال: الخَجَل: سوء احتمال الغِنى، والدَّقَع: سوء احتمال الفقر، وعن الأصمعي أيضًا.
قال الكميت:
«ولم يَدْقَعوا عندما نالهـم*** لفَرْطِ زمانٍ ولم يَخجلوا»
وقال أبو زيد: الشَّجَى: ما اعترض في الحلق مر عظم أو غيره.
والغَصَص بالطعام، والجَأْز بالرِّيق، والجَرَض مثل الجأز.
وقال أبو زيد: سمعتُ أعرابيًا يقول: إذا أجدبَ الناسُ أتى الهاوي والعاوي، فالهاوي: الجراد، والعاوي: الذئب.
وقال أبو زيد: يقال: ذاحه يَذوحه وذوّحه، إذا فرّقه.
وأنشد لرجل يخاطب عنزًا له:
«فأبْشِري بالبيع والتّذويح*** فأنتِ في السَّوأة والقُبوح»
وقال الأصمعي: يقال: جاء يَرْنَأ في مِشيته، إذا جاء يتثاقل فيها.
وقال: سماء حريصة: كثيرة الماء تحرِص وجه الأرض أي تقشِره.
وقال: في مثل من أمثالهم: "تَفْرَق من صوت الغُراب وتَفْرِس الأسدَ المشبَّمَ"، قال: المشبَّم: الذي قد عُكِم فوه لخُبثه، مأخوذ من الشِّبام، وهي الخشبة التي تُعْرَض في فم الجدي حتى لا يَرضع.
ويقال: جاءني بكلمة فسألني عن مذاهبها فسرّجَ عليها أسروجة، أي بنى عليها بناءً ليس منها.
وقال: جاء يَزْأب بحِمله وجاء يَجْأث بحِمله، إذا جاء يجره.
وقال الأصمعي: هذا سِبْقُ زيدٍ، أي مِثله وإن لم يسابقه؛ وهذا سِبْقي، أي مِثلي.
قال الراجز:
«سِبْقانِ من نُوبةً والبَرابرِ»
ويقال: فلان عِجْبي، أي الذي أُعجب به، وكذاك فلانة عِجْبي وطِلْبي، أي التي أطلبها.
وتقول العرب: صَدَقَكَ وَسْم قِدْحِه، مثل صَدَقَكَ سِنَّ بَكْرِه.
وقال: تقول العرب: أَبصِر وَسْمَ قِدْحِك، أي لا تُجاوِزَن قَدْرَك.
ويقولون: أَلهِ له كما يُلْهي لك، أي اصنع به كما يصنع بك.
قال: وتقول العرب: بيتك هذا زَبْن، أي متنحٍّ عن البيوت.
قال: وتقول العرب: أصبتَ سَمَّ حاجتك، أي وجهَها، وفلان بصير بسَمّ حاجته، أي بمَطْلَبها.
قال: وتقول العرب: لم يكن في أمرنا توفة، أي تَوانِ، ولا أَتم ولا يَتم.
وقال: يقال: قَعَدَ مَقْعَدَ ضُنْأة، مهموز مخفّف مضموم الأول، وهو مَقْعَد الضارورة بالإنسان.
ويقال: عَتَكَ اللبنُ والنبيذُ إذا حَزَرَ، أي حَمَضَ.
وقال: ماء مُخْضم، أي شريب، وماء باضع وبضيع، أي الذي يُبْضَع به، أي يُرْوَى منه.
وقال: يقال: كان فلان راعيَ غنم فأسلمَ عنها، أي تركها؛ وكل من أسلمَ عن شيء فقد تركه.
وتقول العرب: ما يُعرف لفلان مَضْرِبُ عَسَلَة، أي أصل ولا قوم ولا أب ولا شَرَف.
وقال آخر: ما يُعرف له مَنْبِض عَسَلَة، نحو الأول.
ويقال: فلان صَوْغي وسَوْغي، أي مثلي.
وقال الأصمعي: تقول العرب: أَعرِضْ عن ذي قَبْرٍ، إذا جعل الرجل يعيب ميتًا فنُهي عن ذلك.
قال: ويقولون: ما عندنا صَميل، أي سِقاء.
ويقال: لا أفعله أبَدَ الأبَديّة، وأبَدَ الأبيد، وأبَدَ الآبدِين، وقالوا: أبَدَ الأبَدِين، مثل الأرَضِين.
قال: وتقول العرب: أدْرِكْ أمرًا برَبَغه، أي بجِنّه قبل أن يفوت، أي بحداثته، وجِنّ الشباب: أوّله، وجِنّ كل شيء: أوّله.
وقال مرة أخرى.
وتقول العرب: أَدرِك الأمرَ برَبَغه، أي بحينه قبل أن يفوت، وكذلك برَيِّقه وبجِنّه وبحداثته وبرُبّانه.
قال: تقول العرب: إن فلانًا لَيتصحّت عن مجالستنا، أي يستحيي.
وقال أبو حاتم: قلت للأصمعي: الرِّبّة: الجماعة من الناس؛ فلم يقل فيه شيئًا، وأوهمني أنه تركه لأن في القرآن {رِبِّيّونَ}، أي جَماعيّون، منسوبة إلى الرِّبّة والرُّبّة والرَّبّة.
وقال الأصمعي: تقول العرب: بلغنا أرضًَا ليس بها عاثنةٌ، أي ناس؛ وأتانا عاثنة منهم، أي ناس.
وقال: القُرْعة: جراب واسع الأسفل ضيّق الفم.
وقال: لقيتُ فيه الذَّرَبَيّا والذَّرَبَى، أي العيب.
وقال: تقول العرب: لم تفعل به المِهرَةَ ولم تعطه المِهَرةَ، وذلك إذا عالجت شيئًا فلم ترفق به ولم تُحسن عمله، وكذلك إن غذّى إنسانًا أو أدّبه فلم تحسن عمله.
قال: وتقول العرب: اُبْقُه بُقْوَتَك مالَك، وبِقْيَتَك مالَك، أي احفظه حفظك مالَك، ويقولون اِبْقِه أيضًا بكسر الألف، فمن قال بُقْوَتَك مالَك قال ابْقه بُقاوتَك مالك.
ويقول آخرون: اِمْقِه مِقْيَتَك مالَك، ويقولون أيضًا: اُمْقُه مُقاوتَك مالَك.
ويقال: مَقَوْتُ الطَّسْتَ، إذا جلوتها، وكذلك المِرآة.
ويقال: فلان أمثلُ من فلان شَوايَةً، أي بقيّة من قومه أو ماله، وهو من قولهم: قد أشواه الدهرُ، أي تركه.
ويقال: ما أشوَى لنا الدهرُ مثلَه، أي ما ترك.
والشَّوِيَّة: بقيّة من قوم قد ذهبوا.
قال الشاعر:
«وهم شَرُّ الشَّوايا من ثمودٍ*** وعَوْفٌ شَرُّ منتعِلٍ وحافي»
وقال: الطَّريدة: أصل العِذْق.
والجَمْز: ما يبقى من أصل الطَّلْع من الفُحّال، والجمع جُموز.
قال: ومن كلامهم: الآن حيث زَفَرَت الأرضُ، أي ظهر نباتُها.
قال: وتقول العرب: جاءوا بالرَّقَم والرَّقِم، وجاءوا بالطِّبن، أي الكثرة.
وجاءوا بالرَّقْم والرَّقِم والرَّقْماء، أي بالداهية.
وجاءوا بالحَظِر الرَّطْب، يعني الداهية والشيء المستشنَع.
وأنشد:
«أعانَتْ بنو الحَريش فـيهـا بـأربـعٍ*** وجاءت بنو العَجْلان بالحَظِر الرطْبِ»
الحَظِر الرطب: أغصان شجر رَطْب أو يابس تُحظر بها بيوت القوم؛ يقول: جاء بنو الحَريش بأربع ذَوْدٍ، أظنّه في حَمالة.
ويقال: نزلنا أرضًا عَفْراء وبيضاء لم تنْزل قطُّ.
قال أبو حاتم: الأتان: مقام المستقي على فم الركيّة.
قال أبو بكر: فسألت عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي فقال: الإتان بكسر الألف.
قال أبو بكر: والكفّ عنها أحبّ إليّ لاختلافهما.
وقال الأصمعي: مثل للعرب:
«لَحُسْنَ ما أضْرَعْتِ إن لم تُرْشِفي»
أي إن لم يذهب اللبن؛ يقال ذلك للرجل إذا ابتدأ بإحسان فخِيف أن يُسيء.
قال: ويقال: جاء يمشي البَرْنَسا، مقصور، أي في غير ضيعه؛ وما أدري أي البَرْنساء أنت، ممدود.
وقال: يقال: أوجأتُ، أي جئت في طلب حاجة أو صيد فلم أصبهما، وبعضهم لا يهمز.
ويقال: أوجأتِ الرَّكِيّة، إذا قل ماؤها.
قال: وتقول العرب: أمعزْنا يومَنا كلَّه، إذا سِرْنا في المَعْزاء.
ويقال: حظبتُ من الماء، أي امتلأت، وجاءني حاظبًا.
قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن الصَّرف والعَدْل فلم يتكلّم فيه.
قال أبو بكر: وسألت عبد الرحمن عنه فقال: الصَّرْف: الاحتيال والتكلّف، والعَدْل: الفِداء والمِثل؛ فلا أدري ممّن سمعه.
قال أبو بكر: الصَّرْف: الفريضة، والعَدْل: النافلة.
قال أبو حاتم: قال الأصمعي: يقال: ما بقي في سَنام بعيرك أَهْزَعُ، أي بقيّة شحم.
والأهْزَع: آخر سهم يبقى في الكِنانة.
وتقول العرب: أخرِجَ الرجلُ من سِرّ خَميره سِرًّا أي باح به.
واجعله في سِرّ خميرك، أي اكتمْه.
وقال: الرَّغُول: اللاّهج بالرَّضاع من الإبل والغنم.
ويقال: إنه لقريب الثَّرَى بعيد النَّبَط، أي يقول بلسانه ولا يفي به.
وأنشد:
«قريبٌ ثراه لا يَنال عَـدُوّه*** له نَبَطًا عند الهَوان قَطوبُ»
قال أبو بكر: هذا البيت في المدح.
ومثل من أمثالهم: "إن العِقاب الوَلَقَى" أي العقوبة سرعة التجازي.
قال: ويقال: أغْتَمْتُ الزيارةَ، بالغين المعجمة، وقالوا: وكان العجّاج يُغْتِم الشِّعْرَ، أي يُكثر.
ويقال: رجل تِقْن وتَقِن، أي متقن للأشياء.
وقال الصَّعَف: عصير العنب أوّل ما يُدْرِك.
وقال: مجلس عُبْر، أي وافر؛ وكذلك كبش مُعْبَر: وافر الصوف؛ وغلام مُعْبَر: لم يُختن؛ ومجلسر عُبْر، أي وافر الأهل.
وقال: الصَّقَعيّ: الذي يولد في الضَّفَريّة، والضَّفَريّة: وقت يمتارون فيه.
قال: ويقال: بقيت في الجُوالق ثُرْمُلة، أي بقيّة من تمر أو غيره.
قال: وتقول: جاءني سَلَفٌ من القوم، أي جماعة.
قال: ويقال: غَرْب معدَّن، والعدينة هي الزيادة التي تزاد في الغَرْب.
وغَرْب مسعَّن، أي من أديمين.
ويقال: نعجة ضُرّيطة، أي ضخمة سمينة.
قال: ويقال: ناقة شَصيبة، أي يابسة.
قال أبو بكر: وكذلك شَصِبة.
وأنشد:
«لحا اللّه قومًا شَوَوْا جارَهم*** والشاة بالدِّرهمين الشَصِبْ»
قال أبو بكر: وشَصائب الدهر من هذا، أي الشدائد.
قال: وقلت لأعرابي: ما شرّ الطعام? فقال: "طُرثوث مُرّ أنبتَه القُرّ" والطُرثوث: نبت يؤكل.
قال: وقيل لامرأة من العرب: ما شجرة أبيك.
فقالت: "الإسْليح رُغوة وصَريح وسَنام إطريح"، وهو الني.
يميل في أحد شِقّيه حتى يطرح الناقةَ من ثقله؛ قال أبو بكر: الإسْليح: نبت.
وقالت أخرى: "شجرة أبي العَرْفَج إن حُلِب كَثب وإن أوقِد تلهّب"، قال أبو بكر: تكثَّب، أي صار كُثَبًا، والكُثْبة: الشيء المجتمع من لبن أو غيره، ولا يكون إلا ثخينًا.
وقالت أخرى: "شجرة أبي الشِّرْشِر وَطْبٌ حَشر وغلام أشِر"؛ قال أبو بكر: حَشِر: بين الصغير والكبير.
وقال الأصمعي: تقول العرب: "ربَّ مُهْرٍ تَئق تحت غلام مَئق ضربه فانزهق"، قال أبو بكر: تئق: سريع، والمئق من الغضب.
وقال: لِحاظ السهم: ما وَلِيَ أعاليَ السهم من القُذَذ.
ويقال: رماه الله بالجَريب، أي بالحصى الذي فيه التراب.
وقال: لبن مشمعِلّ، أي حامض قد غلب بحموضته.
وقال: تهقّعت الضأن حِرْمَةً، إذا أرادت الفحل كلُّها؛ وكذلك تهقّعوا وِرْدًا، أي ودوا كلُّهم.
قال أبو بكر: قوله حِرْمَة، يقال: استحرمتِ الشاةُ، إذا اشتهت الفحلَ، وهذه شاة حَرْمَى، وشاء حَرْمَى مثله سواء للجمع، وقالوا حِرام.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
16-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (وادي سر وقبر نبي الله صالح)
وادي سر وقبر نبيّ الله صالحفي شمال الكسر: وادي سر، يفصل بينهما جبل لا عرض له، والظّاهر أنّه محرّف عن الرّسّ، ومثل ذلك التّحريف واقع بكثرة عند الحضارم وغيرهم. وهو واد واسع، تصبّ إليه أودية وجبال كثيرة.
وفي سفح الجبل الّذي بأعلاه مكان يقال له: (عسنب): قبر نبيّ الله صالح عليه السّلام، والأدلّة على وجوده بحضرموت كثيرة، منها: قوله جلّ ذكره: (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) إذ الخلافة صريحة بوجودهم بديار عاد، وهي حضرموت غير مدافعة.
وقال غير واحد من المؤرّخين، منهم اليعقوبيّ: (إنّه لمّا هلكت عاد.. صار في ديارهم ثمود).
وفي (ص 590 ج 2) من «شرح النّهج»: (قال المفسّرون: إنّ عادا لمّا هلكت.. عمّرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض).
وفي «التّاج»: (أنّ العرب العاربة ـ وهم: عاد وثمود وأميم وعبيل... ووبار ـ كلّهم نزلوا الأحقاف وما جاورها).
وقال ياقوت [3 / 43]: (روي أنّ الرّسّ ديار لطائفة من ثمود).
وقال البغويّ عند تفسير قوله تعالى: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (روي عن الضّحّاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت)
ويتأكّد هذا بما سيأتي في بور وحنظلة بن صفوان عليهما السّلام، ولا يغبّر على شيء ما صحّ أنّ ثمود بالحجر؛ لأنّ الموجودين بحضرموت إمّا أن يكونوا نجعوا إليها بعد نجاتهم من العذاب كما فصّل ب «الأصل»، وإمّا أن يكونوا ضاربين من هناك إلى حضرموت؛ إذ لا يستنكر ذلك من أمّة عظيمة يملأ خبرها سمع الأرض وبصرها وقد سبق في أخبار حجر القول بأنّ فيها الوادي المشار إليه في قوله جلّ ذكره: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ)
وأخبرني غير واحد من أهل تلك النّاحية أنّهم لا يقدرون أن يقبروا أحدا في موضع يرى من مكان قبر نبيّ الله صالح عليه السلام؛ فإن قبروا أحدا من الجهلة أو تركة الصّلاة بحيث يتراءى من موضع قبره عليه السّلام.. لفظته الأرض.
وإنّما يقبرون من وراء جبل يسترهم من مكان ضريحه صّلى الله عليه وعلى نبيّنا وآله وسلّم.
وأكثر وادي سرّ لآل كثير؛ فهم بغاية الحاجة إلى التّردّد إليه.
وفي حدود سنة (1307 ه) بدا لعبد الحميد بن عليّ جابر أن يبني كوتا في موضع يقال له: (قلات) على طريقهم، فاشتدّ عليهم الأمر، وجاء محمّد بن بدر إلى لحمان بن عبد العزيز فقال له: سر وأخبر عائض بن سالمين، فسار إلى بابكر وأخبر آل عبدات، فكاتبوا السّلطان وآل كثير، فلم يجبهم أحد، فعاد على غبيراء الظّهر فلاقاه لحمان إلى بعض الطّريق ولمّا خبّره بالجليّة.. سبّه وأخذ جمله وركب عليه وهو أرمد إلى عائض، فكتب للسّلطان ولآل كثير من اللّيلة الثّانية: أن وافوا إلى القارّة، فجاؤوا بقضّهم وقضيضهم، وشعر بهم عبد الحميد، فجاء إلى منصّر بن عبد الله يطلب النّجدة فلم يساعده، وقال له: نحن نحبّ إخماد الشّرّ وأنت تثيره، وهجم عائض بمن معه على الكوت وأحرقوه، وكان فيه تسعة؛ اثنان من الطّراشمة رمى بهم البارود إلى مكان بعيد فسلموا؛ وسبعة من العبيد سقط عليهم الكوت فهلكوا.
هذه رواية امبارك بن جعفر القحوم والّذي في «الأصل» غيرها، والله أعلم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
17-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عرض مسرور)
عرض مسرورهو أرض واسعة في جنوب الجبل الشّماليّ عن شبام، في غربيّها مفتك وادي سر، وكانت لآل سالم بن زيمة الكثيريّين.
ولمّا استولى السّلطان الكثيريّ على أموال بني بكر بمريمه، بعد إبعادهم عنها في سنة (1284 ه) حسبما تقدّم في ذكرهم.. حصل من السّلطان القعيطيّ ردّ فعل، فطرد آل سالم بن زيمة من عرض مسرور.
وفي جانبه الغربيّ: حويلة آل الشّيخ عليّ، وفيها آل نهيم، من المشايخ آل باوزير، لا يزيد رجالهم بها اليوم عن خمسة عشر، وآل حويل من آل كثير، ومن بقاياهم بها الآن نحو خمسة رجال بعائلاتهم.
وفي شرقيّ حويلة: مصنعة آل سالم بن عليّ وآل عبد الله بن عليّ. وفي جانبه الشّرقيّ: حصون آل الشّيخ أحمد بن عليّ أيضا، ولا تزال بينهم خماشات؛ وأمّا آل سالم بن حسين بن يحيى بن هرهرة.. فكانت ديارهم في وسط سيئون، وكانت لهم رئاسة شهارة بسيئون والسّوق، وكان سكن رئيسهم ـ بل رئيس آل الظّبي بسيئون: الشّيخ صالح بن سالم الشّرفيّ ـ: حصن الدّويل بسيئون، ولمّا زالوا عنها.. انتقلوا أوّلا، ثمّ ابتنوا لهم حصونا بالقطن، بين آل الفضليّ وآل المصلّي، وما بها منهم الآن غير الأطفال والنساء، وأمّا الرّجال ف (بجاوة).
وآل الشّيخ عليّ كلّهم مساعير حرب، وأباة ذلّ، وحماة حقائق، ينطبق على جدّهم قول أبي تمّام [في «ديوانه»: 1 / 229 من الكامل]:
«أكفاءهم تلد الرّجال وإنّما *** ولد الحتوف أساودا وأسودا»
وهذا البيت من البدائع، وقد تحرّش به الرّضيّ فيما يأتي عنه في حصن العزّ ولهم أخبار كثيرة في «الأصل».
وكان بينهم وبين جدّنا العلّامة الإمام محسن عداء وسوء تفاهم، أراد الماس عمر مولى القعيطيّ بدهائه ـ الّذي تتمزّق به سحب المشكلات ـ أن يزيله.. فلم يقدر، ولو نجح.. لما قامت لآل كثير قائمة قطّ.
وعدد آل الشّيخ عليّ هؤلاء لا يزال قليلا، لكنّهم كما قال أبو تمّام من القصيدة الأخرى [في «ديوانه»: 1 / 244 من البسيط]:
«فلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم *** جيش من الصّبر لا يحصى له عدد »
«إذا رأوا للمنايا عارضا.. لبسوا *** من اليقين دروعا ما لها زرد »
«نأوا عن المصرخ الأدنى فليس لهم *** إلّا السّيوف على أعدائهم مدد »
ومن أخبار آل سالم بن عليّ ـ وهم صالح بن سالم وحسين بن سالم، وعليّ بن سالم ـ أنّ أحد آل جوفان في حدود سنة (1330 ه) كان يمشي بحمل من الحطب، ومعه عبد صغير لآل الشّيخ المشار إليهم، فلقيه بعض الغرباء من يافع، وكان يطلبه بثأر.. فأرداه، فسار العبد يقود بعير الجوفانيّ، وأخبر مولاه الشّيخ حسين بن سالم بن عليّ، فجمع أولاده وقال لهم: أمّكم طالق بالثّلاث إن لم تبيّضوا وجهي اليوم ولم أقتل أحدا منكم غدا.
فخفّوا إلى شبام ـ وعليها الشّيخ يحيى بن عبد الحميد بن عليّ جابر نائبا من جهة السّلطان غالب بن عوض ـ وحالا طلعوا إلى الحصن، وأغلقوا الأبواب، وقالوا للشّيخ: إمّا أن تسلّم لنا القاتل، وإلّا.. تقاسمنا الموت في هذا المنزل حتّى لا يسلم إلّا من عصمه الأجل.
ولمّا عرف أنّ الأمر جدّ.. تخلّص من فناء النّفوس الكثيرة بتسليمه، وما كادوا ينفصلون به عن شبام حتّى ذبحوه، غير أنّ السّلطان غالبا تميّز من الغيظ على يحيى ولم يولّه عملا بعدها، وقد تمكّن منه، ولو لا أنّه جبل على العفو وكلّمه النّاس.. لقطّعه إربا إربا؛ لأنّه كان قدر عليه؛ لأنّه لو لم يرض.. لم يقدر آل الشّيخ على ما فعلوا، ففي القضيّة ضمير تقديره: أنّ آل الشّيخ عليّ أرضوا آل عليّ جابر، وإلّا.. فما كانوا ليؤخذوا ضغطة، وإنّما أشاعوا ما سبق للتّغطية، وإلى ذلك يشير شاعر الهند المجهول الملقّب بالفرزدق:
«يا بن علي جابر تحيّل *** ما الجماعه للنقود»
«ضحك عليهم قد حشمتوهم *** وسرحوا بالبرود»
وقد اختلف في هذا الشّاعر؛ فقيل: إنّه العلّامة ابن شهاب، وقيل: إنّه الأمير حسين بن عبد الله القعيطيّ، وقيل: إنّه الشّيخ صلاح أحمد لحمديّ، وقيل: إنّه عبد القويّ بن سعيد بن عليّ الحاج.
وأمّا آل أحمد بن عليّ: فيرأسهم الشّيخ عليّ بن أحمد، صاحب الدّار الّتي بجانب سدّة سيئون القبليّة، وكان موجودا في سنة (1328 ه)، ثمّ أصابته رصاصة غرب من آل سالم بن عليّ، كان فيها حتفه.
واتفّق أن كان عندهم يوم قتله رجل شرّير من آل عليّ جابر يثير لأصحابه الفتن، فزعم أنّ قتله وهو عندهم يخفر ذمّته؛ فأشار الشّيخ يحيى بن عبد الحميد بقتله، وكان له ابن غائب، فقدم حتّى ختل يوما عبد الله بن عبد الحميد فأطلق عليه الرّصاص مع خروجه لصلاة الصّبح، ولكنّ آل عليّ جابر قتلوه في الحال، وما شيّعوهما إلّا معا.
ولعبد الله بن عبد الحميد هذا شذوذ، حتّى إنّه نزل مرة على الشّيخ محمّد بن عليّ بن عبود في باندوم، ولمّا شرعوا في راتب الحدّاد.. قال الشيخ عبد الله بن عبد الحميد: هذا بدعة. فقال الشّيخ محمّد بن عليّ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إلخ.. بدعة! ! وطرده.
والشّيخ عليّ بن أحمد هو والد الشّيخ عبد القادر بن عليّ، الّذي أقام دهرا طويلا على إمارة شبام بالنّيابة عن السّلطان غالب بن عوض، وكان حسن الأخلاق موطّأ الأكناف، محبوبا عند النّاس.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
18-القاموس المحيط (عبر)
عبَرَ الرُّؤيا عَبْرًا وعِبارةًوعَبَّرَها: فَسَّرَها، وأخْبَرَ بآخِرِ ما يَؤُولُ إليه أمْرُها.
واسْتَعْبَرَه إيَّاها: سَألَهَ عَبْرَها.
وعَبَّرَ عما في
نفسه: أعْرَبَ، وعَبَّرَ عنه غيرهُ فأعْرَبَ عنه، والاسم: العَبْرَةُ والعِبارةُ.
وعِبْرُ الوادِي، ويفتحُ: شاطِئُه، وناحِيَتُه.
وعَبَرَه عَبْرًا وعُبورًا: قَطَعَه من عِبْرِه إلى عِبْرِهِ،
وـ القومُ: ماتوا،
وـ السَّبيلَ: شَقَّها،
وـ به الماءَ،
وعَبَّرَه به: جازَ،
وـ الكتابَ عَبْرًا: تَدَبَّرَه، ولم يَرفَعْ صَوْتَه بِقِراءَتِهِ،
وـ المَتاعَ والدَّراهِمَ: نَظَرَ كَمْ وزْنُها، وما هي،
وـ الكَبْشَ: تَرَكَ صُوفَه عليه سَنَةً، وأكبُشٌ عُبْرٌ،
وـ الطَّيْرَ: زَجَرَها، يَعْبُرُ ويَعْبِرُ.
والمِعْبَرُ: ما عُبِرَ به النَّهْرُ، وبالفتح: الشَّطُّ المُهَيَّأ للعُبُورِ،
ود بِساحِلِ بَحْرِ الهِندِ.
وناقةٌ عُبْرُ أسْفارٍ، مُثَلَّثَةً: قَوِيَّةٌ تَشُقُّ ما مَرَّتْ به، وكذا رجلٌ، للواحدِ والجَمْع.
وجَمَلٌ عَبَّارٌ، ككَتَّانٍ: كذلكَ.
وعَبَّرَ الذَّهَبَ تَعْبيرًا: وزَنَه دِينارًا دِينارًا، ولم يُبالِغْ في وَزْنِه.
والعِبْرَةُ، بالكسر: العَجَبُ.
واعْتَبَرَ منه: تَعَجَّبَ، وبالفتح: الدَّمْعَةُ قبلَ أن تَفيضَ، أو تَرَدُّدُ البُكاءِ في الصَّدْرِ، أو الحُزْنُ بلا بُكاءٍ
ج: عَبَراتٌ وعِبَرٌ.
وعَبَرَ عَبْرًا،
واسْتَعْبَرَ: جَرَتَ عَبْرَتُه، وحَزِنَ. وامرأةٌ عابِرٌ وعَبْرَى وعَبِرَةٌ
ج: عَبارَى. وعينٌ عَبْرَى، ورجلٌ عَبْرانُ وعَبِرٌ.
والعُبْرُ، بالضم: سُخْنَةُ العينِ، ويُحَرَّكُ، والكثيرُ من كلِّ شيءٍ، والجَماعةُ.
وعَبَّرَ به: أراهُ عُبْرَ عَيْنِه.
وامرأةٌ مُسْتَعْبِرَةٌ، وتفتحُ الباءُ، (أي): غيرُ حَظِيَّةٍ.
ومجلسٌ عَبْرٌ، بالكسر والفتح: كثيرُ الأهْلِ.
وقَوْمٌ عَبِيرٌ: كثيرٌ.
وأعْبَرَ الشاةَ: وفَّرَ صُوفَها.
وجَمَلٌ مُعْبَرٌ: كثيرُ الوَبَرِ، ولا تَقُلْ أعْبَرْتُه.
وسَهْمٌ مُعْبَرٌ وعَبيرٌ: مَوْفُورُ الرِّيشِ.
وغُلامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ بعدُ.
ويا ابنَ المُعْبَرَةِ: شَتْمٌ، أي: العَفْلاءِ.
والعُبْرُ، بالضم: قبيلَةٌ، والثَّكْلَى، والسَّحائِبُ التي تَسيرُ شديدًا، والعُقابُ، وبالكسر: ما أخَذ على غَرْبِيِّ الفُراتِ إلى بَرِّيَّةِ العَرَبِ، وقبيلَةٌ.
وبناتُ عِبْرٍ: الكَذِبُ، والباطِلُ.
والعِبْرِيُّ والعِبْرانِيُّ: لُغَةُ اليَهودِ، وبالتحريكِ: الاعْتبارُ، ومنه قولُ العَرَبِ: اللهمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيا ولا يَعْمُرُها. وأبو عَبَرَةَ، أو أبو العَبَرِ: هازِلٌ خَليعٌ.
والعَبيرُ: الزَّعْفرانُ، أو أخْلاطٌ من الطِّيبِ.
والعَبُورُ: الجَذَعَةُ من الغَنَمِ
ج: عَبائِرُ، والأَقْلَفُ
ج: عُبْرٌ.
والعُبَيْراءُ: نَبْتٌ.
والعَوْبَرُ: جِرْوُ الفَهْدِ.
والمَعابِيرُ: خَشَبٌ في السفينةِ يُشَدُّ إليها الهَوْجَلُ. وعابَرُ، كهاجَرَ: ابنُ أرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلامُ.
وعَبَّرَ به الأمرُ تَعْبيرًا: اشْتَدَّ عليه.
وعَبَّرْتُ به: أهْلَكْتُهُ. وكمُعَظَّمٍ: جَبلٌ بالدَّهْناءِ.
وقَوْسٌ مُعَبَّرَةٌ: تامَّةٌ.
والمُعْبَرَةُ، بالتخفيفِ: الناقةُ لم تُنْتَجْ ثلاثَ سنين، فيكونُ أصْلَبَ لها.
والعَبْرانُ: ع.
وعَبَرْتَى: ة قُرْبَ النَّهْرَوانِ.
والعُبْرَةُ، بالضم: خَرَزَةٌ كانَ يَلْبَسُها ربيعةُ بنُ الحَريشِ، فَلُقِّبَ ذا العُبْرَةِ.
ويومُ العَبَراتِ، محركةً: م.
ولُغَةٌ عابِرَةٌ: جائزَةٌ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
19-القاموس المحيط (الدحل)
الدَّحْلُ، ويُضَمُّ: نَقْبٌ ضَيِّقٌ فَمُهُ، مُتَّسِعٌ أَسْفَلُهُ حتى يُمْشَى فيه، ورُبَّما أنْبَتَ السِدْرَ، أو مَدْخَلٌ تحتَ الجُرْفِ، أو في عُرْضِ خَشَبِ البِئْرِ في أسْفَلِها، أو خَرْقٌ في بُيوتِ الأَعْرابِ، يُجْعَلُ لِتَدْخُلَهُ المرأةُ إذا دَخَلَ داخِلٌ، والمَصْنَعُ يَجْمَعُ الماءَ، ج: أدْحُلٌ وأدْحالٌ ودِحالٌ ودُحولٌ ودُحْلانٌ، بضمهما، وبهاءٍ: البِئْرُ. وككَتِفٍ: المُسْتَرْخِي البَطينُ، والكثيرُ المالِ، والداهِيَةُ الخَدَّاعُ، والمُماكِسُ عندَ البَيْعِ حتى يَسْتَمْكِنَ منْ حاجَتِهِ، والسَّمينُ القصيرُ المُنْدَلِقُ البَطْنِ، وقد دَحِلَ، كفرِحَ في الكُلِّ. وكصَبورٍ: الرَّكِيَّةُ تُحْفَرُ فَيوجَدُ ماؤُها تحتَ أجْوالِها، فَتُحْفَرُ حتى يُسْتَنْبَطَ ماؤُها، والبِئْرُ الواسِعَةُ الجَوانِبِ، وناقَةٌ تُعارِضُ الإِبِلَ مُتَنَحِّيَةً عنها. وكَمنَعَ: حَفَرَ في جَوانِبِ البِئْرِ، أو صارَ في جانِبِ الخِباءِ.والداحولُ: ما يَنْصِبُهُ الصائِدُ للحُمُرِ كأنها طَرَّاداتٌ، ج: دَواحيلُ.
ودَحْلانُ: ة.
ودَحَلَ عَنِّي، كمنَعَ: تَباعَدَ، أو فَرَّ واسْتَتَرَ وخافَ، ودَخَلَ في الدَّحْلِ،
كأَدْحَلَ.
وداحَلَهُ: راوَغَهُ، وخادَعَه وماكَسَه، وكَتمَ ما عَلِمَهُ وأخْبَرَ بغيرِه. وككِتابٍ: الامْتِناعُ.
ودَحْلٌ: ع قُرْبَ حَزْنِ بَني يَرْبوعٍ، وبالضم: جَزيرةٌ بينَ اليمنِ وبلادِ البُجَةِ.
والدَّحْلاءُ: البِئْرُ الضَّيِّقَةُ الرأسِ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
20-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (شهد)
(شهد) - في الحديث: "يَأتي قومٌ يَشْهِدون ولا يُسْتَشْهَدُون".قيل: أراد به الشَّهَادَة على المُغَيَّب، كقَوْلهم: فُلانٌ في الجنَّة وفلان في النَّار.
وفيه معنى التَّأَلِّى على الله عزَّ وجَلَّ وقيل: هو الذي يَشْهَد قبل أن يُسْتَشْهد، فإنَّ الشهادةَ في الحق الذي يَدَّعِيه الرَّجلُ قبَلَ صاحبِه إذا أتى بها الشَّاهدُ قَبلَ أن يُسْأَلَها لا قَرارَ لها، ولا يَجِب تَنَجُّزُ الحُكمِ بها حتى يَسْتَشْهِدَه صاحِبُ الحق.
- فأما حَدِيثهُ الآخر: "خَيْرُ الشُّهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْأَلهَا".
فهو الذي لا يعلم بها صاحبُ الحَقِّ. وقيل: هي في الأمانةِ والوَديعةِ وما لا يَعلمُه غَيرُه. وقيل: هذا مَثَل في سُرعَة إجابة الشاهد إذ استُشْهِد أن لا يمنَعَها ولا يُؤَخِّرَها. وأصل الشَّهادة الإخبارُ بما شَاهد. والمَشهد: المَحْضَر.
والشَّهِيدُ، قال ابنُ فارس: إنما سُمِّى شَهِيدا لأنَّ ملائِكَة الرحمة تَشْهَدُه
فَعِيل بمعنى مَفْعُول. وقيل: لِسُقُوطه بالأرضِ، وهي الشَّاهِدَة.
وقيل في قوله عزّ وجلّ: {ويَوْمَئذٍ تُحدِّثُ أَخْبَارَهَا}
: أي تَشهَدُ على كلِّ مَنْ عَمِل على ظَهِرها، والشَّاهد: المَلَك، والشاهِدُ: اللِّسان.
قال الأَعشىَ فيهما:
فلا تَحْسَبنّىِ كافرًا لك نِعمةً
على شَاهِدِى يا شَاهِدَ اللَّهِ فَاشْهَدِ
شَاهدِى: أي لِساني، وشَاهِدُ الله المَلَك. وقيل: سُمى شَهيدًا لأنه يُبَيِّن إيمانهَ وإخلَاصَه ببَذْلِه رُوحه في طاعة الله عز وجل، من قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ}.
: أي بَيَّن وأَعْلَمَ وأَخْبَر. وقيل: لأنه شاهِدٌ عند ربّه عز وجل: أي يَحضُر
وقيل: لأنهم يشهدون ملكوتَ الله عز وجل. وأما التَّشَهُّد في الصلاة فسُمِّى به لأن فيها الشهادتين.
- في حديث أَبِى نصرة وأبي سعيد: "لا صَلاةَ بَعْدَ العصْر حتى يبَدُوَ الشّاهدُ".
قال أبو الشَّيخ: ذَكَر أن هذا الشَّاهِدَ نَجْم يقال له العَيُّوق، وهو كوكب أَحْمَر مُنِير مُنفرد في شِقِّ الشّمال على يَمِين الثُّرَيَّا يظَهَر عند غَيْبوبةِ الشمس.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
21-معجم الأفعال المتعدية بحرف (حدث)
(حدث) الحديث وحدث به أخبر بهورواه وهو حدث من الأحداث وأستحدثوا منه خبرا أي أستفادوا منه خبرا حديثا جديدا قال ذو الرمة
استحدث الركب من أشياعهم خبرا
أم عاود القلب من أطرابه طرب (بسيط)
وحدثه بكذا وتحدثوا به وهو يتحدث إلى فلانة وتحدث بالشيء وعن الشيء تكلم وأخبر.
معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م
22-معجم البلدان (البيضاء)
البيضاءُ:ضدّ السوداء، في عدة مواضع منها: مدينة مشهورة بفارس، قال حمزة: وكان اسمها في أيام الفرس در درإسفيد فعرّبت بالمعنى، وقال الإصطخري:
البيضاء أكبر مدينة في كورة إصطخر، وإنما سميت البيضاء لأن لها قلعة تبيّن من بعد ويرى بياضها، وكانت معسكرا للمسلمين يقصدونها في فتح إصطخر، وأما اسمها بالفارسية فهو نسايك، وهي مدينة تقارب إصطخر في الكبر، وبناؤهم من طين، وهي تامة العمارة خصبة جدّا، ينتفع أهل شيراز بميرتها، وبينها وبين شيراز ثمانية فراسخ، وينسب إليها جماعة، منهم: القاضي أبو الحسن محمد ابن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد البيضاوي الفقيه الشافعي ختن أبي الطيّب الطّبري على ابنته، ولي القضاء بربع الكرخ ببغداد، روى عنه الحافظ أبو بكر الخطيب، وتوفي سنة 468، ومولده في شعبان سنة 392، وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسحاق المقري أحد قرّاء فارس، سمع من أبي الشيخ الحافظ وأبي بكر الجعابيّ وعبد الله بن محمد القتّات، مات في سنة 393، وهو ثقة، ومحمد بن علي بن الحسين أبو عبد الله السّلمي البيضاوي، روى عن أبي القاسم بن أبي محمد الوزّان، وعلي بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم ابو الحسن الصوفي المعروف بالكردي البيضاوي، سمع أبا الحسين أحمد بن محمد بن فادشاه وأبا بكر بن رنده، ويوسف بن علي بن عبد الله بن يحيى البيضاوي أبو يعقوب المقري الصوفي، روى عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن محمد الشاعر، وأحمد بن محمد ابن بهنور أبو بكر البيضاوي يلقّب بلبل الصوفي، كان من أصحاب أبي الأزهر بن حيّان، قدم أصبهان وسمع من أبي عبد الله الجرجاني وأبي بكر بن مردويه، روى عن محمد بن أحمد بن أبي المنى البروجردي وغيره، وكان رحل إلى العراق والشام، ومات بشيراز وحمل إلى البيضاء في سنة 455.
والبيضاء أيضا: كورة بالمغرب. والبيضاء: عقبة في جبل المناقب، وقد ذكر المناقب في موضعه.
والبيضاء: ثنية التنعيم بمكة، لها ذكر في كتاب السيرة.
والبيضاء: ماء لبني سلول بالضّمرين، وهما جبلان.
والبيضاء: اسم لمدينة حلب لبياض تربتها. والبيضاء:
دار عمرها عبيد الله بن زياد ابن أبيه بالبصرة، ولما تمّ بناؤها أمر وكلاءه أن لا يمنعوا أحدا من دخولها وأن يتحفّظوا كلاما إن تكلم به أحد، فدخل فيها أعرابيّ وكان فيها تصاوير ثم قال: لا ينتفع بها صاحبها ولا يلبث فيها إلّا قليلا، فأتي به ابن زياد وأخبر بمقالته، فقال له: لم قلت هذا؟ قال: لأني رأيت فيها أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا، فكان الأمر كما قال، ولم يسكنها إلّا قليلا حتى أخرجه أهل البصرة إلى الشام ولم يعد إليها. وفي خبر آخر: أنه لما بنى البيضاء أمر أصحابه أن يستمعوا ما يقول الناس، فجاؤوه برجل فقيل له إن هذا قرأ وهو ينظر إليها:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟ فقال له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: آية من كتاب الله عرضت لي، فقال: والله لأعملنّ بك بالآية الثالثة: وإذا بطشتم بطشتم جبارين، ثم أمر فبني عليه ركن من أركان القصر. والبيضاء أيضا:
عين ماء قريبة من بومارية بين الموصل وتلّ يعفر.
والبيضاء أيضا: بيضاء البصرة، وهو المخيّس، قال جحدر المحرزي اللّصّ وهو حبس بها:
«أقول للصّحب في البيضاء: دونكم *** محلّة سوّدت بيضاء أقطاري»
«مأوى الفتوّة للأنذال، مذ خلقت، *** عند الكرام محلّ الذّلّ والعار»
«كأنّ ساكنها من قعرها أبدا، *** لدى الخروج، كمنتاش من النار»
والبيضاء: اسم لأربع قرى بمصر، الأولى من كورة الشرقية. والبيضاء ويقال لها منية الحرون قرب المحلّة من كورة جزيرة قوسنيّا. والبيضاء: قرية من كورة حوف رمسيس بين مصر والإسكندرية في غربيّ النيل. والبيضاء أيضا: قرية من ضواحي الإسكندرية. والبيضاء أيضا: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب، قال البحتري يمدح ابن كنداجيق الخزري:
«إن يرم إسحاق بن كنداجيق في *** أرض، فكلّ الصيد في جوف الفرا»
«قد ألبس التاج المعاور لبسه *** في الحالتين، مملّكا ومؤمّرا»
«لم تنكر الخزرات إلف ذؤابة *** يحتلّ في الخزر الذوائب والذّرى»
«شرف تزيّد بالعراق إلى الذي *** عهدوه بالبيضاء، أو ببلنجرا»
ويروى عهدوه في خمليخ. والبيضاء: ماء لبني عقيل ثم لبني معاوية بن عقيل، وهو المنتفق، ومعهم فيها عامر بن عقيل، قال حاجب بن ذبيان المازني يرثي أخاه معاوية بالبيضاء فقال:
«تطاول بالبيضاء ليلي، فلم أنم، *** وقد نام قسّاها وصاح دجاجها»
«معاوي، كم من حاجة قد تركتها *** سلوبا، وقد كانت قريبا نتاجها! »
السلوب في النوق: التي ألقت ولدها لغير تمام.
والبيضاء أيضا: أرض ذات نخل ومياه دون ثاج والبحرين. والبيضاء أيضا: قريّات بالرملة في القطيف فيها نخل. والبيضاء: موضع بقرب حمى
الرّبذة، قال بعضهم:
«لقد مات، بالبيضاء من جانب الحمى، *** فتى كان زينا للمواكب والشّرب»
«تظلّ بنات العمّ والخال عنده *** صوادي، لا يروين بالبارد العذب»
«يهلن عليه بالأكفّ من الثرى، *** وما من قلى يحثى عليه من التّرب»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
23-معجم البلدان (زيلع)
زَيْلَعُ:بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وفتح اللام، وآخره عين مهملة: هم جيل من السودان في طرف أرض الحبشة، وهم مسلمون وأرضهم تعرف بالزيلع، وقال ابن الحائك: ومن جزائر اليمن جزيرة زيلع فيها سوق يجلب إليه المعزى من بلاد الحبشة فتشتري جلودها ويرمى بأكثر مسائحها في البحر. وزيلع، بالعين المهملة: قرية على ساحل البحر من ناحية الحبش، حدثني الشيخ وليد البصري وكان ممّن جال في البلدان أن البربر طائفة من السودان بين بلاد الزنج وبلاد الحبش، قال: ولهم سنّة عجيبة مع كونهم إلى الإبطاء منسوبين وفي أهله معدودين، وهم طوائف يسكنون البرية في بيوت يصنعونها من حشيش، قال: فإذا أحبّ أحدهم امرأة وأراد التزوّج بها ولم يكن كفؤا لها عمد إلى بقرة من بقر أبي تلك المرأة ولا تكون البقرة إلّا حبلى فيقطع من ذنبها شيئا من الشعر ويطلقها في السّرح ثم يهرب في طلب من يقطع ذكره من الناس، فإذا رجع الراعي وأخبر والد الجارية أو من يكون وليّا لها من أهلها فيخرجون في طلبه فإن ظفروا به قتلوه وكفوا أمره، وإن لم يظفروا به مضى على وجهه يلتمس من يقطع ذكره ويجيئهم به، فإن ولدت البقرة ولم يجيء بالذكر بطل أمره ولا يرجع أبدا إلى قومه بل يمضي هاجّا حيث لا يعرفون له خبرا، فإنّه إن رجع إليهم قتلوه، وإن قطع ذكر رجل وجاءهم به تملّك تلك الجارية ولا يسعهم أبدا أن يمنعوه ولو كانت من كانت، قال: وأكثر من ترى من هذه البلاد من الطائفة المعروفة بالزيلع السودان، إنّما هم من الذين التمسوا قطع الذكر فأعجزهم فإذا حصلوا في بلاد المغرب التمسوا القرآن والزهد كما تراهم، قال: وزيلع قرية على ساحل البحر من ناحية الحبش فيها طوائف منهم ومن غيرهم، قال: وأكثر معيشة البربر من الصيد، وعندهم نوع من الخشب يطبخونه ويستخرجون منه ماء ثمّ يعقدونه حتى يبقى كأنّه الزّفت، فإذا أكل الرجل منه لا يضره، فإن جرح موضعا بمقدار غرز الإبرة وترك فيه أهلك صاحبه، وذلك أن الدم يهرب من ذلك السم حتى يصل إلى القلب ويجتمع فيه فيفجره، فإذا أراد أحدهم اختباره جرح برأس الإبرة ساقه فإذا سال منه الدم قرّب
ذلك السمّ منه فإنّه يعود طالبا لموضعه، فإن لم يبادره بقطعه من أوّله وإلّا قتله، وهو من العجائب، وهم يجعلون منه قليلا في رأس السهم ويتوارون في بعض الأشجار فإذا مرّت بهم سباع الوحوش كالفيل والكركدن والزراف والنمر يرشقونه بذلك السهم، فإذا خالط دمه مات لوقته فيأخذون من الفيل أنيابه ومن الكركدن قرونه ومن الزراف والنمر جلده، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
24-معجم البلدان (وقش)
وَقَّشُ:بالفتح، وتشديد القاف، والشين معجمة:
مدينة بالأندلس من أعمال طليطلة، منها أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام الكناني الحافظ المعروف بالوقّشي الفقيه الجليل عالم الزمن، إمام عالم في كل فن، صاحب الرسالة المرشدة، ذكره القاضي عياض في مشيخة القاضي ابن فيروز فقال: هشام بن أحمد بن هشام بن سعيد بن خالد الكناني القاضي أبو الوليد الوقّشي حدث عن أبي محمد الشنتجالي وأبي عمر الطلمنكي إجازة وغيرهما، وكان غاية في الضبط والتقييد والإتقان والمعرفة بالنسب والأدب وله تنبيهات وردود على كبار أهل التصانيف التاريخية والأدبية يقضي ناظرها العجب تنبئ عن مطالعته وحفظه وإتقانه وناهيك من حسن كتابه في تهذيب الكنى لمسلم الذي سمّاه بعكس الرتبة، ومن تنبيهاته على أبي نصر الكلاباذي ومؤتلف الدارقطني ومشاهد ابن هشام وغيرها، ولكنه اتّهم برأي المعتزلة وظهر له تأليف في القدر والقرآن وغير ذلك من أقاويلهم وزهد فيه الناس وترك الحديث عنه جماعة من كبار مشايخ الأندلس، وكان الفقيه أبو بكر بن سفيان بن العاصم قد أخذ عنه وكان ينفي عنه الرأي الذي زنّ به والكتاب الذي نسب إليه وقد ظهر الكتاب وأخبر الثقة أنه رواه عليه سماع ثقة من أصحابه وخطه عليه، لقيه القاضي أبو علي ببلنسية واستجازه ولم يسمع منه وقال لم يعجبني سمته، ولا أعلم أن القاضي حدث عنه بشيء أكثر من أنه ذكر أنه استجازه روايته، ودخل العدوّ بلنسية وهو بها فالتزم قضاء المسلمين بها تلك المدة ثم خرج إلى دانية ومات بها، فيما قيل، سنة 488.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
25-معجم القواعد العربية (المتعدي)
المتعدّي:1 ـ تعريفه:
هو الذي يتعدّاه فعله إلى مفعول أو أكثر، وذلك قولك: «ضرب عبد الله زيدا».
2 ـ علامتاه:
للمتعدّي علامتان:
(الأولى) أن يتّصل به ضمير يعود على غير المصدر ك: «فهم» فتقول «الدّرس فهمته».
(الثانية) أن ببنى منه اسم مفعول تامّ، أي غير مقترن بظرف أو حرف جرّ ك «قتل» و «نصر» إذ يقال: «مقتول» و «منصور».
3 ـ حكم المتعدّي:
حكمه أنّه ينصب المفعول به واحدا أو أكثر.
4 ـ الأمور التي يتعدّى بها الفعل القاصر (اللازم). وهي سبعة:
(أحدها) همزة «أفعل» نحو: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا}.
فذهب ونبت فعلان لازمان تعدّيا إلى مفعول واحد بالهمزة وقد ينقل المتعدّي إلى واحد بهمزة التّعدية إلى اثنين نحو:
«ألبست محمدا قميصا». وأصلها: لبس محمد قميصه، فبالهمزة تعدّى لاثنين.
(الثاني) ألف المفاعلة تقول: «جالست القاضي» و «ماشيته».
(الثالث) وزن «فعلت» أفعل بالضم لإفادة الغلبة تقول: «كثرت أعدائي» أي غلبتهم بالكثرة، و «كرمت عمرا» غلبته بالكرم.
(الرابع) صوغه على «استفعل» للطّلب، أو النّسبة إلى الشيء نحو «استغفرت الله». و «استحسنت المعروف» و «استقبحت الظّلم» وقد تنقل هذه الصيغة من المفعول الواحد إلى مفعولين نحو «استكتبته الكتاب» أي طلبت منه كتابة الكتاب.
(الخامس) تضعيف العين، تقول في «فرح الطفل»: «فرّحت الطّفل» ومنه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها}، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ}.
(السادس) التّضمين (انظر التّضمين). فلذلك عدّي «رحب» لتضمّنه معنى وسع، ومن التضمين قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} لتضمّنها معنى أهلك وأمتهن ويختصّ التّضمين عن غيره من المتعدّيات بأنّه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة، ولذلك عدّي «ألوت» بمعنى قصّرت إلى مفعولين بعد أن كان قاصرا، وذلك في قولهم «لا آلوك نصحا» ومنه قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا}.
(السابع) إسقاط الجارّ توسّعا نحو: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي على سر ـ أي نكاح ـ ونحو: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي عن أمره.
5 ـ أقسامه:
المتعدّي أربعة أقسام:
(1) المتعدّي إلى مفعول واحد، وهو كثير، ك «كتب عامر الدرس»، و «فهم المسألة خالد».
(2) المتعدي إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، ولا يقتصر في هذا الباب على أحد المفعولين؛ يقول سيبويه: وإنّما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين ههنا أنّك أردت أن تبيّن ما استقرّ عندك من حال المفعول الأول، وفائدة هذه الأفعال ظنّ، أو يقين، أو كلاهما، أو تحويل، فهذه أربعة أنواع:
نوع مختصّ بالظن،
ونوع مختصّ باليقين،
ونوع صالح للظن واليقين،
ونوع للتّحويل.
فللأوّل وهو الظن:
«حجا يحجو» و «عدّ» لا للحسبان و «زعم» و «جعل» و «هب» بصيغة الأمر للمخاطب غير متصرّف.
وللثاني وهو اليقين:
«علم» لا لعلمة، وهي شقّ الشّفة العليا، و «وجد» و «ألفى» و «درى» و «تعلّم» بمعنى أعلم.
وللثالث وهو الظّن واليقين:
«ظنّ» و «حسب» و «خال» و «رأى» وهذه الأنواع الثلاثة تسمّى قلبية لقيام معانيها بالقلب.
وللرّابع وهو التّحويل:
«صيّر وأصار» و «جعل» و «وهب» و «ردّ» و «ترك» و «تخذ» و «اتّخذ».
(انظر في أبوابها).
وتنصب هذه الأفعال هي وما يتصرّف منها (إلّا: هب وتعلّم فإنّهما لا يتصرّفان) تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر.
6 ـ الإلغاء والتّعليق:
يعتري هذه الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أمران:
أوّلهما: الإلغاء، والثاني: التّعليق.
فالإلغاء إبطال تعدّيهما إلى مفعولين لفظا ومحلّا، إمّا بتقدّم العامل، أو بتوسّطه، أو بتأخّره.
فالأوّل نحو: «ظننت زيدا قائما» ويمتنع الرفع عند البصريين، ويقبح، ويجب عندهم نصب الجزأين: «زيد وقائم وهو الصحيح، ويجوز عند الكوفيين والأخفش ولكنّ الإعمال عندهم أحسن أمّا قول بعض بني فزارة:
«كذاك أدّبت حتى صار من خلقي *** إني وجدت ملاك الشيمة الأدب »
فالرّواية الصّحيحة نصب ملاك والأدب كما في الحماسة.
والثاني: ويجوز بلا قبح ولا ضعف في توسّط العامل نحو: «زيد ظننت قائم» ويجوز وهو الأصل «زيدا ظننت قائما» والإعمال أقوى، ومن توسّط العامل قول اللّعين المنقري أبو الأكيدر يهجو العجّاج:
«أبا الأراجيز يا بن اللّؤم توعدني *** وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور»
والأصل: اللؤم والخورا، والمفعول الثاني متعلّق وفي الأراجيز ومثله في تأخير العامل تقول: «عمرو آت ظننت «يجوز الإلغاء، والإعمال، ولكنّ الإلغاء هنا أقوى من إعماله، لأنّه ـ كما يقول سيبويه ـ إنما يجيء بالشّك، بعد ما يمضي كلامه على اليقين ومن التأخير قول أبي أسيدة الدّبيري:
«هما سيّدانا يزعمان وإنّما *** يسوداننا إن أيسرت غنماهما»
أمّا الثاني وهو التّعليق:
فإنّه إبطال العمل لفظا لا محلّا لمجيء ماله صدر الكلام، وذلك في عدّة أشياء:
(1) «لام الابتداء» نحو: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} فالجملة من لمن اشتراه سدّت مسدّ مفعولي علموا.
(2) «لام القسم» كقول لبيد:
«ولقد علمت لتأتينّ منيّتي *** إنّ المنايا لا تطيش سهامها»
(3) «ما» النّافية، نحو: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
(4 و 5) لا النّافية و «إن» النافية الواقعتان في جواب قسم ملفوظ به أو مقدّر، نحو «علمت والله لا عمرو في البلد ولا خالد» ومثال إن النافية «ولقد علمت إن عامر إلّا مثابر ومجدّ».
(6) الاستفهام وله حالتان:
(إحداهما) أن يعترض حرف الاستفهام بين العامل والجملة نحو: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ}.
(الثانية) أن يكون في الجملة اسم استفهام عمدة كأيّ نحو: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} أو فضلة، نحو: {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فأيّ هنا مفعول مطلق لينقلبون، والجملة بعد المعلّق سادّة مسدّ المفعولين، إن كان يتعدّى إليهما، ولم ينصب الأوّل، فإن نصبه سدّت الجملة مسدّ الثّاني نحو «علمت خالدا أبو من هو»، وإن لم يتعدّ إليهما فإن كان يتعدّى بحرف الجرّ فهي في موضع نصب بإسقاط الجارّ، نحو: «فكّرت أهذا صحيح أم لا «وإن كان يتعدّى إلى واحد سدّت مسدّه نحو «عرفت أيّهم محمد».
7 ـ تصاريف هذه الأفعال في الإعمال والإلغاء والتعليق:
لتصاريف هذه الأفعال ما للأفعال نفسها من الإعمال والإلغاء والتّعليق تقول في الإعمال للمضارع مثلا ولاسم الفاعل: «أظانّ أخوك أباه مسافرا» وتقول في الإلغاء للمضارع «جهدك أظانّ مثمر»، ومع اسم الفاعل في الإلغاء «خالد أنا ظانّ مسافر» وهكذا في الجميع، ويستثنى: هب وتعلّم فإنّهما لا يتصرفان، وكذلك المصدر قد يلغى كما يلغى الفعل، وذلك قولك «متى زيد ظنّك ذاهب» و «زيد ظني أخوك» و «زيد ذاهب ظنّي» فإذا ابتدأت فقلت: «ظني زيد ذاهب» كان قبيحا، لا يجوز البتة كما تقدّم، وضعّف: «أظنّ زيد ذاهب».
8 ـ حذف المفعولين لدليل:
يجوز بالإجماع حذف المفعولين لأفعال القلوب، أو أحدهما اختصارا ولدليل يدلّ عليها فمن الأوّل قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقال الكميت يمدح أهل البيت:
«بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة *** ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب »
فتقديره في الآية: تزعمونهم شركاء، وفي البيت: تحسبهم عارا عليّ.
ومن الثاني قول عنترة:
«ولقد نزلت فلا تظنّي غيره *** مني بمنزلة المحبّ المكرم »
التّقدير: فلا تظنّي غيره واقعا مني، أمّا حذفهما اختصارا لغير دليل فيجوز عند الأكثرين، كقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وتقديره: يعلم الأشياء كائنة، وقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى} أي يعلم، وتقديره: يرى ما نعتقده حقّا. وقوله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وقولهم في المثل: «من يسمع يخل» أي من يسمع خيرا يظنّ مسموعه صادقا.
ويمتنع حذف أحدهما اقتصارا لغير دليل بالإجماع.
(3) ما ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر وهي: «أعطى» نحو «أعطى عبد الله زيدا درهما» و «كسا» نحو «كسوت بشرا الثياب الجياد» و «منح» نحو «منحت خالدا كتابا» و «ألبست أحمد قميصا» و «اخترت الرّجال محمّدا» و «سمّيته عمرا» وكنّيت «عمر أبا حفص» و «دعوته زيدا» التي بمعنى سمّيته، و «أمرتك الخير» و «أستغفر الله ذنبا». وهذا وأمثاله يجوز فيه الاقتصار على المفعول الأول.
ويقول سيبويه في هذا الباب: الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين، فإن شئت اقتصرت على المفعول الأوّل، وإن شئت تعدّى إلى الثّاني، كما تعدّى إلى الأول.
وذلك قولك: «أعطى عبد الله زيدا درهما» و «كسوت بشرا الثّياب الجياد» ومن ذلك «اخترت الرّجال عبد الله». ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} وسمّيته زيدا، وكنّيت زيدا أبا عبد الله، ودعوته زيدا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سمّيته، وإن عنيت الدّعاء إلى أمر يجاوز مفعولا واحدا، ومنه قول الشّاعر:
«أستغفر الله ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه والعمل »
وقال عمرو بن معد يكرب الزّبيدي:
«أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نشب »
وإنما فصل هذا أنّها أفعال توصل بحروف الإضافة فتقول: اخترت فلانا من الرّجال وسمّيته بفلان، كما تقول:
عرّفته بهذه العلامة، وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلمّا حذفوا حرف الجرّ عمل الفعل، ومثل ذلك قول المتلمّس:
«آليت حبّ العراق الدهر أطعمه *** والحبّ يأكله في القرية السّوس »
يريد: على حبّ العراق... إلخ.
(4) المتعدّي إلى ثلاثة مفاعيل: وهو «أعلم» و «أرى» وقد أجمع عليهما، وزاد سيبويه: «نبّأ» و «أنبأ»، وزاد الفرّاء في معانيه «خبّر وأخبر» وزاد الكوفيون: حدّث (انظر في حروفها).
وللمتعدّي إلى ثلاثة مفاعيل حالتان:
الأولى: يجوز حذف المفعول الأوّل نحو «أعلمت كتابك قيّما» أي أعلمته، كما يجوز أن يقتصر عليه، ويمنع حذف المفعول لغير دليل.
الثّانية: يجوز فيه الإلغاء والتّعليق كما يجوز للمتعدّي إلى مفعولين فالإلغاء: أن تلغي مفاعيله، كأن يقع بين مبتدأ وخبر، وذلك كقول بعضهم «البركة ـ أعلمنا الله ـ مع الأكابر»، وقول الشاعر:
«وأنت ـ أراني الله ـ أمنع عاصم *** وأرأف مستكف وأسمح واهب »
ألغى ثلاثة مفاعيل ب «أعلمنا» و «أراني الله» في البيت.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
26-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاحتجاج النظري إلجام الخصم بالحجة)
الاحتجاج النّظريّ- إلجام الخصم بالحجة:احتج بالشيء اتخذه حجة، والحجة البرهان والدليل، وأحج خصمي أي أغلبه بالحجة.
والاحتجاج النظري لون من ألوان الكلام، وسماه بهذا الاسم جماعة منهم أبو حيان الاندلسي وابن قيّم الجوزية وابن النقيب، وسماه الزركشي «إلجام الخصم بالحجة»، ولكن البلاغيين يسمونه «المذهب الكلامي».
وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما ادعاه المتكلم وابطال ما أورده الخصم. وسمي المذهب الكلامي لأنّه «يسلك فيه مذهب أهل الكلام في استدلالهم على إبطال حجج خصومهم. والمراد بأهل الكلام علماء أصول الدين».
والمذهب الكلامي هو الفن الخامس من بديع ابن المعتز، قال: «وهو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي، وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا، وهو ينسب الى التكلف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» ولم يحدد هذا الفن، ولعله يريد به اصطناع أساليب الفلاسفة والمتكلمين في الجدل والاستدلال، ولذلك نفاه عن القرآن الكريم.
ولم نعثر في كتب الجاحظ المعروفة على هذا المصطلح، ولكنه يسخر أحيانا من الذين يتكلفون أداء الكلام تشبها بالمتكلمين.
والمذهب الكلامي عند المتأخرين هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام، وذلك أن يكون بعد تسليم المقدمات مقدمة مستلزمة للمطلوب، وهذا ما نجده في كتاب الله وكلام العرب الذي استشهد به البلاغيون. وقد ذكره العسكري وأشار الى أن ابن المعتز نسبه الى التكلف، وتحدث في أول كتاب الصناعتين عن وضوح الدلالة وقرع الحجة وهو مما يدخل في هذا الباب. قال: «ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. فهذه دلالة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها؛ لأنّ الاعادة ليست بأصعب في العقول من الابتداء، ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}، فزادها شرحا وقوة؛ لأنّ من يخرج النار من أجزاء الماء وهما ضدان ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه. ثم قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} فقوّاها أيضا وزاد في شرحها وبلغ بها غاية الايضاح والتوكيد لأنّ إعادة الخلق ليست بأصعب في العقول من خلق السماوات والأرض ابتداء». وهذا هو المذهب الكلامي عند المتأخرين، أما ما ذكره في فصل المذهب الكلامي فهو متابعة لابن المعتز في معنى هذا الفن وأمثلته.
وتحدث عنه ابن رشيق في باب التكرار ونقل كلام ابن المعتز وامثلته، وأقرّ بذلك النقل فقال: «وقد نقلت هذا الباب نقلا من كتاب عبد الله بن المعتز إلّا ما لاخفاء به عن أحد من أهل التمييز، واضطرني الى ذلك قلة الشواهد فيه إلا ما ناسب قول أبي نواس:
«سخنت من شدة البرودة حتى ***صرت عندي كأنك النار”
«لا يعجب السامعون من صفتي ***كذلك الثلج بارد حار»
فهذا مذهب كلامي فلسفي». ولكنه وجد أمثلة هي أولى بهذه التسمية مما ذكره المؤلفون كنحو قول ابراهيم بن المهدي يعتذر الى المأمون من وثوبه على الخلافة:
«البرّ منك وطاء العذر عندك لي ***فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم »
«وقام علمك بي فاحتج عندك لي ***مقام شاهد عدل غير متّهم »
وقول أبي عبد الرحمن العطوي:
«فوحق البيان يعضده البر***هان في مأقط ألدّ الخصام »
«ما رأينا سوى الحبيبة شيئا***جمع الحسن كلّه في نظام »
«هي تجري مجرى الاصابة في الرأ***ي ومجرى الأرواح في الأجسام »
وبدأ المذهب الكلامي يأخذ صورته الواضحة في كتب البلاغة، فالتبريزي علّق على أبيات النابغة الذبياني: ـ
«ولكنني كنت امرء لي جانب ***من الأرض فيه مستراد ومذهب »
«ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم ***أحكّم في أموالهم وأقرّب »
«كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ***فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا»
بقوله: «أي لا تلمني في مدحي آل جفنة وقد أحسنوا اليّ كما لو أحسنت الى قوم فشكروا لك ولم تر ذلك ذنبا. وهذه طريقة الجدل، وانما اتفق له بجودة القريحة وفضل التمييز».
وقال المصري: «المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه؛ لأنّه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية. وهو الذي نسبت تسميته الى الجاحظ وزعم ابن المعتز أنّه لا يوجد في الكتاب العزيز وهو محشو منه».
وبدأ هذا الفن يدخل في المحسنات المعنوية على يد أصحاب بلاغة السكاكي وقد عرّفه ابن مالك بقوله: «المذهب الكلامي أن تورد مع الحكم ردا لمنكره حجة على طريق المتكلمين أي صحيحة مسلّمة الاستلزام. وينقسم الى منطقي وجدلي، فالمنطقي ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام، والجدلي ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلا الرجحان. وأول من ذكر المذهب الكلامي الجاحظ وزعم أنّه ليس في القرآن منه شيء، ولعله انما عنى القسم المنطقي فان الجدلي في القرآن منه كثير».
وقال الحلبي: «هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام».
وقال ابن الأثير الحلبي: «وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما أدعاه المتكلم وإبطال ما أورده الخصم».
وسار القزويني وشراح تلخيصه على مذهب ابن مالك في إدخال هذا الفن في المحسنات المعنوية وقال عنه: «هو أن يورد المتكلم حجة لما يدعيه على طريقة أهل الكلام». وقال السبكي إنّ هذا ليس من البديع لأنّه تطبيق على مقتضى الحال فيكون من علم المعاني. والمذهب الكلامي نوعان:
الأول: الجدلي، وهو ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلّا الرجحان، وهذا النوع كثير في كتاب الله من ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. تقديره: والأهون أدخل في الامكان وقد أمكن البدء فالاعادة أدخل في الامكان من بدء الخلق. ومثله: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}. وقوله: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا}، وقوله {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ}. ومن هذا النوع أبيات النابغة الذبياني: «ولكنني كنت امرء...».
الثاني: المنطقي: وهو ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام، ولعل ابن المعتز عنى هذا النوع حينما نفاه من القرآن، ولكن المصري قال: «ومن هذا الباب نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين فانّ أهل هذا العلم قد ذكروا أنّ أول سورة الحج الى قوله: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات. فالمقدّمات من أول السورة الى قوله تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والنتائج من قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ} الى قوله: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: الله أخبر أنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحقّ، وأخبر عن المغيّب بالحق فهو حقّ، فالله هو الحق، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بأحياء الموتى ليدركوا ذلك. ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى. وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير، فالله على كل شيء قدير. وأخبر أنّ الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم، ولا بدّ من مجازاته، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية.
ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وإنّ الله ينزّل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور، وإن الله يبعث من في القبور».
وذكر المصري أنّ من هذا الباب جواب سؤال مقدر كقوله تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ} لأنّ التقدير انّ قائلا قال بعد قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، فقد استغفر ابراهيم لأبيه فأخبر بقوله: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ} والله أعلم.
فالمذهب الكلامي من أساليب القرآن الكريم وكلام العرب، وقد أوضح الحموي هذه المسألة ورفض ما ذكره ابن المعتز فقال: «وقيل: إنّ ابن المعتز قال: لا أعلم ذلك في القرآن، أعني المذهب الكلامي، وليس عدم علمه مانعا من علم غيره».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
27-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الانتقال)
الانتقال:النقل: تحويل الشيء من موضع الى موضع، يقال: نقله ينقله نقلا فانتقل. والتنقّل: التحوّل.
وكان المصري قد استخرج فنا جديدا سماه «الحيدة والانتقال» وقال عنه: «هو أن يجيب المسؤول بجواب لا يصلح أن يكون جوابا عما سئل عنه أو ينتقل المستدل الى استدلال غير الذي كان آخذا فيه، وانما يكون هذا بلاغة إذا أتى به المستدل بعد معارضة بما يدلّ على أنّ المعترض لم يفهم استدلاله فينتقل عنه الى استدلال يقطع به الخصم عند فهمه. وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك قوله تعالى حكاية عن الخليل عليهالسلام في قوله للجبّار: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فقال الجبار: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. ثم دعا بانسان فقتله ودعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه فلما علم الخليل أنّه لم يفهم معنى الاماتة والاحياء اللذين أرادهما انتقل الى استدلال آخر فقال: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ} فأتاه باستدلال لا يجد لاسمه اسما مشتركا معه فتعلق بظاهره على طريق المغالطة أو لأنّه لم يفهم إلا ذلك الوجه الذي تعلّق به فلا، جرم أنّ الجبار انقطع وأخبر الله ـ سبحانه ـ عنه بذلك حيث قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} (البقرة 258). وفيه نوع يحيد المسؤول عن خصوص الجواب الى عمومه لتفيد تلك الحيدة زيادة بيان لا تحصل بخصوص الجواب كقول عائشة ـ رضياللهعنها ـ وقد سألتها امرأة: أتدخل المرأة الحمام؟فقالت: «كل امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد عصت»، أو كما قالت. فانظر الى حيدتها عن الخصوص الى العموم لتفيد زيادة في البيان وتستوعب جميع أحكام الباب.. وأما ما يأتي بسبب صحة المعارضة على طريق المغالطة فما لا يحسن ذكره مثاله. وسماه ابن الاثير الحلبي والسيوطي «الانتقال»، وقال الأول: «هو أن يسأل المتكلم في بحث أو غيره فيجيب بجواب لا يصلح أن يكون جواب ذلك السؤال وانما يحمله على ذلك إما لأنّ حجته لم تنهض بالاستدلال عليه واما مغالطة عن أداء الجواب عما سئل عنه». ونقل مثال المصري. وقال السيوطي: «هو أن ينتقل المستدل الى استدلال غير الذي كان آخذا فيه لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الأول». ونقل مثال المصري أيضا.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
28-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الحيدة والانتقال)
الحيدة والانتقال:الحيد: حرف شاخص يخرج من الجبل، والحيد ما شخص من الجبل واعوجّ. وحاد عن الشيء يحيد: مال عنه وعدل. والحيدة: العقدة في قرن الوعل.
والنقل: تحويل الشي من موضع الى موضع، نقله ينقله نقلا فانتقل.
وهذا النوع من مستخرجات المصري، قال: «هو أن يجيب المسؤول بجواب لا يصلح أن يكون جوابا عما سئل عنه أو ينتقل المستدلّ الى استدلال غير الذي كان آخذا فيه وإنّما يكون هذا بلاغة إذا أتى به المستدلّ بعد معارضة بما يدل على أنّ المعترض لم يفهم استدلاله فينتقل عنه الى استدلال يقطع به الخصم عند فهمه»
ومنه قوله تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في قوله للجبار: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فقال الجبار: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ثم دعا بانسان فقتله ودعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه. فلما علم الخليل أنّه لم يفهم معنى الاماتة والإحياء اللذين أرادهما انتقل الى استدلال آخر فقال: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ} فأتاه باستدلال لا يجد لاسمه اسما مشتركا معه فتعلق بظاهره على طريق المغالطة، أو لانّه لم يفهم إلا ذلك الوجه الذي تعلق به، فلا جرم أنّ الجبار انقطع وأخبر الله سبحانه عنه بذلك حيث قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} وفيه نوع يحيد المسؤول عن خصوص الجواب الى عمومه لتفيد تلك الحيدة زيادة بيان لا تحصل بخصوص الجواب.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
29-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (مراعاة الحروف)
مراعاة الحروف:قال التنوخي: «ومن البيان مراعاة الحروف ومعانيها ومواقع اللبس فيها واشتباه بعضها ببعض وهذا مما يحتاج الى الطباع السليمة والتدرّب في معاني الشعر والخطب وما جاء من كلام العرب في مكاتباتهم الى غير ذلك مما استعملوه». ومن ذلك قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْبًا. وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ. فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}. قال التنوخي: لما زجر بـ {كَلَّا} وأخبر أنّ المرء لم يقض ما أمر به عقب الزجر بالأمر فأتى بالفاء مستأنفا للجملة الاخرى وتعقيبا للزجر بالأمر وتنبيها على أنّ غفلة الإنسان مما ينبغي له سبب لأن يوعظ.
فالفاء هنا دلّت على الاستئناف والتعقيب والتسبب.
وعطف شق الأرض على صبّ الماء بـ «ثم» إذ لا بدّ بينهما من مهلة وقال: {فَأَنْبَتْنا} إذ انشقاق الأرض بالنبات فلا مهلة بينهما، ثم عطف النبات بعضه على بعض بالواو لأنّ فيه ما ينبت بعضه مع بعض وما ينبت بعضه عقيب بعض وما يتقدم بعضه على بعض ويتأخّر من غير تعقيب. والواو تستعمل في هذه المواضع كلها إذ هي لمجرّد الاشتراك. ثم قال: {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} وليس وقت مجيئها عقيب ما قبلها فهي لتعقيب الوعظ بعضه ببعض إذ هو من توابع الزجر وليس في هذا العطف تعرض لتوالي الأوقات ثم قال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} فعطف بالواو لأنّه يفر من المفرور منه إذا لقيه ولقاؤه لهم قد يكون في وقت واحد وقد يكون في أوقات مختلفة، والواو هي الجامعة لذلك كله. وقدّم الأخ على الأم، والأم على الأب، والأب على الصاحبة والصاحبة على الابناء انتقالا من كل واحد الى من هو أعز منه وأشد حفاوة، والأب وإن كان كالأمّ أو مرجوحا من جهة البر فانه يرجى نصره أكثر من الأمّ والمحافظة على الرجال أشد منها على النساء. وأخر الصاحبة عنه وإن كانت لا يرجى نصرها لزيادة الانس والمودة التي جعل الله بينهما، وأخّر البنين عنها لأنّهم الغاية والنتيجة وزيادة حبهم بالطبع على كل أحد».
ومثل ذلك حروف الجر قال: التنوخي: «وانظر الى حروف الجر في مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. استعمل «على» بالنسبة الى «الهدى» و «في» بالنسبة الى الضلال مع أنّ كلّ واحد منهما يجوز أن يقال فيه «على» و «في» لأنّ الهدى من الله والله الهادي والدالّ على طريق الهدى، فكل من «هدى» و «دل» فهو على الهدى، ولا يوصف أحد بأنّه فيه إلّا لقربه وعلو مرتبته، وهذا لا يكون إلّا للآحاد ممن يشاء الله فاستعملت «على» لشمولها وأمّا الضلال فيوصف به من ضل عن الهدى. ومن لم يهتد بعد وهو مما ينسب الى الإنسان على سبيل الأدب مع الله فالضلال محيط بالضال بالطبع حتى يهديه الله فـ «في» هنا استعملت لأنّها أبلغ من «على»، وأيضا فانّ الترديد ههنا في الظاهر واما في نفس الأمر فالمشركون هم في الضلال منغمسون غاية الانغماس فتكون «في» أنسب. وكان ابن الأثير قد تحدث عن ذلك في «الحروف العاطفة والجارة» وقال: «إنّ أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أنّ يجر بـ «على» بـ «في”
في حروف الجر، وفي هذه الأشياء دقائق أذكرها لك».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
30-موسوعة الفقه الكويتية (اشتباه 1)
اشْتِبَاه -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاشْتِبَاهُ مَصْدَرُ: اشْتَبَهَ، يُقَالُ اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا: أَشْبَهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.وَالْمُشْتَبِهَاتُ مِنَ الْأُمُورِ: الْمُشْكِلَاتُ.وَالشُّبْهَةُ اسْمٌ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ الِالْتِبَاسُ.
وَالِاشْتِبَاهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا: مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً.وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الشُّبْهَةُ مَا جُهِلَ تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.وَيَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ لِتَحَقُّقِ الِاشْتِبَاهِ.الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الِالْتِبَاسُ:
2- الِالْتِبَاسُ هُوَ: الْإِشْكَالُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَعَهُ دَلِيلٌ (يُرَجِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ) وَالِالْتِبَاسُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ ب- الشُّبْهَةُ:
3- يُقَالُ: اشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتِ: الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَمِنْهُ اشْتَبَهَتِ الْقِبْلَةُ وَنَحْوُهَا، وَالْجَمْعُ فِيهَا شُبَهٌ وَشُبُهَاتٌ.وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ، فَجَعَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ نَوْعَيْنِ:
الْأَوَّلُ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَتُسَمَّى شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَوْ شُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، بِأَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلاً، كَمَا إِذَا ظَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ، فَمَعَ الظَّنِّ لَا يُحَدُّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ.
النَّوْعُ الثَّانِي: شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَتُسَمَّى شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ.وَهِيَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.وَتَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ عَامِلاً لِقِيَامِ الْمَانِعِ كَوَطْءِ أَمَةِ الِابْنِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»،، وَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا النَّوْعُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ، إِذِ الشُّبْهَةُ بِثُبُوتِ الدَّلِيلِ قَائِمَةٌ.وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
(1) شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ الْحَائِضِ أَوِ الصَّائِمَةِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالْإِيذَاءِ وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ.
(2) وَشُبْهَةٌ فِي الْفَاعِلِ، كَمَنْ يَجِدُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا، ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.
(3) وَشُبْهَةٌ فِي الْجِهَةِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ شُبْهَة.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الشُّبْهَةَ أَعَمُّ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتَجُ نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ، وَقَدْ تُنْتَجُ دُونَ اشْتِبَاهٍ.
ج- التَّعَارُضُ:
4- التَّعَارُضُ لُغَةً: الْمَنْعُ بِالِاعْتِرَاضِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ.وَاصْطِلَاحًا: تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تُوجِبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضِدَّ مَا تُوجِبُهُ الْأُخْرَى.وَسَيَأْتِي أَنَّ التَّعَارُضَ أَحَدُ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.
د- الشَّكُّ:
5- الشَّكُّ لُغَةً: خِلَافُ الْيَقِينِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ.
وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ فَالشَّكُّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.
هـ- الظَّنُّ:
6- الظَّنُّ خِلَافُ الْيَقِينِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا فِي، قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِحُدُوثِ الِاشْتِبَاهِ.-
و- الْوَهْمُ:
7- الْوَهْمُ: مَا سَبَقَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَوْ كَمَا قَالَ عَنْهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ فَهُوَ دُونَ كُلٍّ مِنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُوَ لَا يَرْتَقِي إِلَى تَكْوِينِ اشْتِبَاهٍ.
أَسْبَابُ الِاشْتِبَاهِ:
8- قَدْ يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ نَتِيجَةَ خَفَاءِ الدَّلِيلِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالْإِجْمَالِ فِي الْأَلْفَاظِ وَاحْتِمَالِهَا التَّأْوِيلَ، وَدَوَرَانِ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ، وَدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِيثِ، وَكَالِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، أَوِ التَّخْصِيصِ فِي عَامِّهِ، أَوِ التَّقْيِيدِ فِي مُطْلَقِهِ، كَمَا يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ مُرَجِّحٍ.كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ فِي دَلَالَتِهَا لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهَا مَا دَلَالَتُهُ عَلَى الْأَحْكَامِ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجْتَهِدُ الْفُقَهَاءُ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَقَدْ يَتَشَابَهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ نَتِيجَةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْكِيرِهِمْ، وَتَبَايُنُ وُجُهَاتِ نَظَرِهِمْ.
وَالِاشْتِبَاهُ النَّاشِئُ عَنْ خَفَاءٍ فِي الدَّلِيلِ يُعْذَرُ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ، بَعْدَ بَذْلِهِ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ، وَيَكُونُ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ رَأْيٍ قَدِ اتَّبَعَ الدَّلِيلَ الْمُرْشِدَ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِ الشَّارِعِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- اخْتِلَافُ الْمُخْبِرِينَ:
9- وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ بِطَهَارَتِهِ.فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا تَسَاقُطُهُمَا، وَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، إِذْ الشَّيْءُ مَتَى شُكَّ فِي حُكْمِهِ رُدَّ إِلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ، وَأَخْبَرَ عَدْلٌ آخَرُ أَنَّهُ ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَقَاءِ اللَّحْمِ عَلَى الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ.إِذْ حِلُّ الْأَكْلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحَقُّقِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِتَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِلُّ، فَبَقِيَتِ الذَّبِيحَةُ عَلَى الْحُرْمَةِ.
ب- الْإِخْبَارُ الْمُقْتَضِي لِلِاشْتِبَاهِ:
10- وَهُوَ الْإِخْبَارُ الَّذِي اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُوقِعُ فِي الِاشْتِبَاهِ.مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى امْرَأَةٍ، ثُمَّ تُزَفُّ إِلَيْهِ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَيَدْخُلُ بِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا.فَإِنْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلاً شَرْعِيًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِثْلَ هَذَا الْفَرْعِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ.
ج- تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ ظَاهِرًا:
11- لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.أَمَّا مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِظُرُوفِهِمَا وَشُرُوطِ تَطْبِيقِهِمَا، أَوْ بِمَا يُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ لِجَهْلِنَا بِزَمَنِ وُرُودِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّعَارُضُ.
فَمِنْ الِاشْتِبَاهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا إِذَا سَرَقَ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، إِذْ أَنَّ نُصُوصَ الْعِقَابِ عَلَى السَّرِقَةِ تَشْمَلُ فِي عُمُومِهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُفِيدُ حِلَّ مَالِ الِابْنِ لِأَبِيهِ.فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَقَوْلُهُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَوُجُودُ مِثْلِ هَذَا يُنْتِجُ اشْتِبَاهًا فِي الْحُكْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُلِ مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة).
وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاشِئِ عَنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحِمَارُ يُعْتَلَفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ» وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا»،، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ رِجْسٌ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ.فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّوَقُّفُ عَنْ إِعْطَاءِ حُكْمٍ قَاطِعٍ، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْأَصَحُّ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (أَيْ كَوْنُهُ مُطَهِّرًا، لَا فِي طَهَارَتِهِ فِي ذَاتِهِ) وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَسَبَبُهُ تَعَارُضُ الْأَخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَقَدِ اسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ فَتَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَيُصَارُ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ مُشْكِلاً، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ.
د- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:
12- مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَهُ.وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى بَابِ (حَدِّ الزِّنَى).
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إِذَا رَأَى سَرَابًا، وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَاءٌ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَاءً يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِلاَّ فَلَا.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَوَجَدَهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ.وَيَحْصُلُ هَذَا التَّوَهُّمُ بِرُؤْيَةِ سَرَابٍ.وَمَحَلُّ بُطْلَانِهِ بِالتَّوَهُّمِ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ لَوْ سَعَى فِيهِ إِلَى ذَلِكَ لأَمْكَنَهُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ.وَإِذَا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بُطْلَانُهُ بِالظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ أَوْلَى، سَوَاءٌ أَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ظَنِّهِ أَمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ، لِأَنَّ ظَنَّ وُجُودِ الْمَاءِ مُبْطِلٌ لِلتَّيَمُّمِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِذَا مَا طَلَبَ الْمَاءَ سَاغَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ كَانَ خَوْفُهُ بِسَبَبِ ظَنِّهِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ السَّبَبِ.مِثْلُ مَنْ رَأَى سَوَادًا بِاللَّيْلِ ظَنَّهُ عَدُوًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدْ لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى.وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلتَّيَمُّمِ.
هـ- الِاخْتِلَاطُ:
13- يُقْصَدُ بِهِ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ وَعُسْرُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتِ الْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ بِالْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ، بِأَنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ يَقِينًا، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ يَقِينًا، لَكِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَيُصَارُ إِلَى الْبَدَلِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَاءٌ).وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُطَهِّرُهُمَا بِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ يَتَحَرَّى بَيْنَهَا، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي وَيُصَلِّي فِي ثِيَابِ مِنْهَا بِعَدَدِ النَّجِسِ مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلَاةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَالْأَوَانِي.
وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ- إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ.وَإِذَا تَحَرَّى فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَلَّى فِي أَحَدِهِمَا.وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحَرِّي هُنَا قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا خُلْفَ لِلثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، بِخِلَافِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْأَوَانِي، لِأَنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ لَهُ خُلْفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ.
و- الشَّكُّ (بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ يَشْمَلُ أَيْضًا الظَّنَّ وَالْوَهْمَ):
14- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ مِنْ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، إِذِ الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ غَيْرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ شَكَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ هُنَا مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ.وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، وَيَرْجِعُ إِلَى الْيَقِينِ
وَقَالُوا: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَعْلَمْ الْأَخِيرُ مِنْهُمَا وَالْأَسْبَقُ فَيُعْمَلُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا.وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ، لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قَالُوهُ فِي الصَّائِمِ لَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ.وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَلاَّ يَأْكُلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ، وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ اللَّيْلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ.وَقِيلَ: وَفِي النَّفْلِ أَيْضًا.كَمَا قِيلَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَا الْحُرْمَةِ.وَمَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ حُصُولَ الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا حُرْمَةٍ.
ز- الْجَهْلُ:
15- وَمِنْ ذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ دُخُولَ رَمَضَانَ، وَأَرَادَ صَوْمَهُ، فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ.فَإِذَا كَانَ صَامَ قَبْلَ حُلُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِعْلاً لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الشَّهْرِ وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً آخَرَ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ وَوَقَفُوا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِيمَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ.وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي صَامَهُ كَانَ بَعْدَ رَمَضَانَ صَحَّ.
وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانَ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا صَامَ يَوْمًا، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْعَدَدِ، لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرايِينِيُّ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، فَصَامَ شَهْرًا نِقَاصًا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ.ثُمَّ قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا.فَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، سَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ.وَحَدُّ الْحَضْرَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ.فَإِذَا تَحَرَّى بِنَفْسِهِ وَصَلَّى دُونَ سُؤَالٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْقِبْلَةَ، أَعَادَ الصَّلَاةَ، لِعَدَمِ إِجْزَاءِ التَّحَرِّي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ، لِأَنَّ التَّحَرِّي دُونَ الِاسْتِخْبَارِ، إِذِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، بَيْنَمَا التَّحَرِّي مُلْزِمٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْأَدْنَى مَعَ إِمْكَانِ الْأَعْلَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ كَانَ وَسَأَلَهُ وَلَمْ يُجِبْهُ، أَوْ لَمْ يَدُلَّهُ ثُمَّ تَحَرَّى، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ- أَيْ قُبَالَتَهُ- فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}».
وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ قِبْلَةَ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ إِنْ تَحَرَّى ثُمَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَرِّي.
ح- النِّسْيَانُ:
16- وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا نَسِيَتْ عَادَةَ حَيْضِهَا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادَةِ، وَلَا مَكَانَ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهَا عَلَى طُهْرٍ تُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَيْضٍ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنْ تَرَدَّدَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ فَهِيَ الْمُحَيَّرَةُ، وَتُسَمَّى الْمُضَلَّلَةُ، لَا يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ تَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ كُلِّ زَمَانٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَائِضًا دَائِمًا لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا طَاهِرًا دَائِمًا لِقِيَامِ الدَّمِ، وَلَا التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلضَّرُورَةِ.وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَة).
ط- وُجُودُ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ:
17- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجَوَازِ، أَوْ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ فِي مَمَرِّ الدَّارِ، بِأَنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلَى الدَّارِ، أَوْ أَمْكَنَ فَتْحُ بَابٍ لَهَا إِلَى شَارِعٍ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَيَقْصُرُونَهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ فَقَطْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إِذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قُسِمَتِ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا».
وَمُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَصْلاً، لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْمَقْسُومِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولاً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ.
وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحَادِيثَ، فَإِنَّ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالاً.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثُ جَابِرٍ- السَّابِقُ ذِكْرُهُ- وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، وَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».فَإِنَّ فِيهَا مَقَالاً.عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ، فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا.فَكُلُّ هَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَجَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِذَا لَمْ يُثْبِتُوا الشُّفْعَةَ بِسَبَبِ الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَقَصَرُوهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ نَفْسِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاشْتِبَاهِ: لَوْ قَضَى قَاضٍ بِهَا لَا يُفْسَخُ قَضَاؤُهُ.
وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاجِمِ عَنْ وُجُودِ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ: مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ قَطْعِيُّهُ، فَيَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَعْنَاهُ.فَإِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَانَتِ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً.
بَيْنَمَا يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَنِّيَّةٌ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلاَّ وَخُصِّصَ.وَمَا دَامَ الْعَامُّ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ هَذَا يُورِثُ شُبْهَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الْقَوْلَ بِقَطْعِيَّتِهِ فِي إِفَادَةِ الشُّمُولِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَمْنَعُونَ تَخْصِيصَ عَامِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ابْتِدَاءً بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، إِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَمْ يُخَصِّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِحَدِيثِ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ»، لِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، بَيْنَمَا الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ أَكْلَهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا هُوَ ظَنِّيٌّ، وَإِنْ كَرِهُوا تَعَمُّدَ التَّرْكِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَذْكِيَة، وَتَسْمِيَة).
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي سَرِقَةِ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ، فَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ أَحْرَزَهُ، وَلَا شَرِكَةَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ «بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ».وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ، يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا مُبَاحٌ، هَلْ يَجِبُ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ فِي كُلِّ مُتَمَوَّلٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ فِيهِ، وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَعُمُومُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».
وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: وَيَجِبُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مُحَقَّرًا كَمَاءٍ وَحَطَبٍ، لِأَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا، وَلَوْ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ تُورِثُ شُبْهَةً بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحَرَّزُ عَادَةً، أَوْ لَا يُحَرَّزُ إِحْرَازَ الْخَطِيرِ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ إِبَاحَةِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّبَبَ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ.
ى- الْإِبْهَامُ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْبَيَانِ:
18- وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، دُونَ تَعْيِينِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَيَحْدُثُ الِاشْتِبَاهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَصِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَحُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمَ الْعِدَّةِ.فَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولاً بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً.وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ.مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً.فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ فَقَطْ، لِأَنَّ النِّصْفَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَتَنَصَّفُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ، أَيُّهُمَا أَطْوَلُ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالصَّدَاقِ.وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ.
وَلَهُمْ فِي الصَّدَاقِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَاق).
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُوقَفُ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ مَالِهِ نَصِيبُ زَوْجَةٍ إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِرْثُ إِحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَإِنْ قَالَ وَارِثُ الزَّوْجِ: أَنَا أَعْرِفُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَهُ فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ قَامَ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ إِسْقَاطُ وَارِثٍ مُشَارِكٍ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْوَارِثِ قَوْلاً وَاحِدًا، لِأَنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهِمَا لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ.
وَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ اعْتَدَّتَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ فِي الْحَمْلِ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ اعْتَدَّتَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ.وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَمْ نَجِدْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا.وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الْآدَمِيِّ فَتُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، كَالْعِتْقِ.وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ تَعَذَّرَ تَعَيُّنُ الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْقُرْعَةُ، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي السَّفَرِ.فَأَمَّا قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَفِيهِ إِعْطَاءُ مَنْ لَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْقَاضُ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي وَقْفِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِهِنَّ، وَحِرْمَانُ الْجَمِيعِ مَنْعُ الْحَقِّ عَنْ صَاحِبِهِ يَقِينًا.وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي مِيرَاثِ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِرْثِ تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ وَقْتَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى الَّذِينَ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ مَاتُوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِبَاهٌ عِنْدَ التَّوْرِيثِ، إِذْ لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، وَلِذَا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا تُوَزَّعُ تَرِكَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى وَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ دُونَ اعْتِبَارٍ لِمَنْ مَاتَ مَعَهُ، إِذْ لَا تَوَارُثَ بِالشَّكِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِمْ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَحْيَاءِ مُتَيَقَّنٌ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِرْثٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (اقتداء 2)
اقْتِدَاءٌ -2أَحْوَالُ الْمُقْتَدِي:
26- الْمُقْتَدِي إِمَّا مُدْرِكٌ، أَوْ مَسْبُوقٌ، أَوْ لَاحِقٌ، فَالْمُدْرِكُ: مَنْ صَلَّى الرَّكَعَاتِ كَامِلَةً مَعَ الْإِمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَأَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ، وَسَوَاءٌ أَسَلَّمَ مَعَهُ أَمْ قَبْلَهُ.
وَالْمُدْرِكُ يُتَابِعُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ.
27- وَالْمَسْبُوقُ: مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِكُلِّ الرَّكَعَاتِ بِأَنِ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ بَعْدَ رُكُوعِ الْأَخِيرَةِ، أَوْ بِبَعْضِ الرَّكَعَاتِ.وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَلَمْ يَسْتَعِذْ، وَمَا يَقْضِيهِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، يَسْتَفْتِحُ فِيهِ، وَيَتَعَوَّذُ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ كَالْمُنْفَرِدِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » وَالْمَقْضِيُّ هُوَ الْفَائِتُ، فَيَكُونُ عَلَى صِفَتِهِ، لَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ مَغْرِبٍ رَكْعَةً، تَشَهَّدَ عَقِبَ قَضَاءِ رَكْعَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ بِهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ عَقِبَ رَكْعَتَيْنِ لَزِمَ قَطْعُ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى وِتْرٍ، وَالثُّلَاثِيَّةِ شَفْعًا، وَمُرَاعَاةُ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ مُمْكِنَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَهُ فِي رَكْعَةِ الرُّبَاعِيِّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَأْتِي بِفَاتِحَةٍ خَاصَّةٍ، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي فَاتَتْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ آخِرُهَا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: « فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ، وَقَنَتَ الْإِمَامُ فِيهَا يُعِيدُ فِي الْبَاقِي الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الْإِمَامِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَآخِرَهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ، فَمُدْرِكُ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَجْرٍ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ وَتَشَهُّدٍ بَيْنَهُمَا، وَبِرَابِعَةِ الرُّبَاعِيِّ بِفَاتِحَةٍ فَقَطْ، وَلَا يَعْقِدُ قَبْلَهُمَا، فَهُوَ قَاضٍ فِي حَقِّ الْقَوْلِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ: « وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » لَكِنَّهُ بَانٍ عَلَى صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ: « وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » وَذَلِكَ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ الْأُصُولِيِّينَ: (إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ جُمِعَ) فَحَمَلْنَا رِوَايَةَ الْإِتْمَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَرِوَايَةَ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَقْوَالِ.
28- وَاللاَّحِقُ: هُوَ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ، كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْإِمَامِ بِرُكْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَحُكْمُ اللاَّحِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمُؤْتَمٍّ، لَا يَأْتِي بِقِرَاءَةٍ وَلَا سُجُودِ سَهْوٍ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ إِقَامَةٍ، وَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَغَ، عَكْسُ الْمَسْبُوقِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ بِعُذْرٍ، مِنْ نَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ، تَابَعَ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَالْمَسْبُوقِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ.وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا تَبْطُلُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ أَوْ رُكْنَيْنِ لِعُذْرٍ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَفْعَلُ مَا سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُهُ وَيُدْرِكُهُ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ تَبْطُلُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ فَيَتَدَارَكُهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (لَاحِق).
كَيْفِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ
أَوَّلًا- فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ:
29- الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَالْمُتَابَعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرِ وَاجِبٍ، مَا لَمْ يُعَارِضْهَا وَاجِبٌ آخَرُ، فَإِنْ عَارَضَهَا وَاجِبٌ آخَرُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ، بَلْ يَأْتِي بِهِ ثُمَّ يُتَابِعُهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ لَا يُفَوِّتُ الْمُتَابَعَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهَا، وَتَأْخِيرُ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مَا يُعَارِضُ الْمُتَابَعَةَ سُنَّةٌ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّنَّةَ وَيُتَابِعُ الْإِمَامَ بِلَا تَأْخِيرٍ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ التَّسْبِيحَاتِ الثَّلَاثَ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُ، وَكَذَا عَكْسُهُ.بِخِلَافِ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ قِيَامِهِ لِثَالِثَةٍ قَبْلَ إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ التَّشَهُّدَ، فَإِنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ، بَلْ يُتِمُّ التَّشَهُّدَ لِوُجُوبِهِ.
هَذَا، وَمُقْتَضَى الِاقْتِدَاءِ وَالْمُتَابَعَةِ أَلاَّ يَحْصُلَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقْتَدِي قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَبِّبُ فِيهَا سَبْقُ الْمَأْمُومِ فِعْلَ إِمَامِهِ أَوْ مُقَارَنَتُهُ لَهُ بُطْلَانَ الِاقْتِدَاءِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، فَقَالُوا: إِنْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ أَصْلًا، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ تَضُرُّ بِالِاقْتِدَاءِ وَتُبْطِلُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، لِحَدِيثِ: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا »
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَلَوْ بِحَرْفٍ صَحَّتْ، إِنْ خَتَمَ الْمُقْتَدِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، لَا قَبْلَهُ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- تَأَخُّرَ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ.
وَلَا تَضُرُّ مُقَارَنَةُ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى نُقِلَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ هِيَ السُّنَّةُ، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ سُنَنِ الْجَمَاعَةِ) أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ..لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ، وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ، إِذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي السَّلَامِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْمُقْتَدِي مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّسْلِيمِ.أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَأْمُومُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ الْإِمَامِ سَهْوًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَ قَبْلَ الْإِمَامِ عَمْدًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا مُقَارَنَةُ الْمُقْتَدِي لِلْإِمَامِ فِي السَّلَامِ فَلَا تَضُرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: مُسَاوَاتُهُ لِلْإِمَامِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
وَلَا تَضُرُّ مُقَارَنَةُ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ، كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ يَنْبَغِي الْبَقَاءُ فِيهِمَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْإِمَامُ، وَلَوْ رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سُجُودَيْنِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاة).
ثَانِيًا- الِاقْتِدَاءُ فِي أَقْوَالِ الصَّلَاةِ:
30- لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، كَالتَّشَهُّدِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ، فَيَجُوزُ فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُوَافَقَةُ.
اخْتِلَافُ صِفَةِ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:
أ- اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ:
31- يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ)، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ « عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ ».
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجَوَازِ كَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مَا بَقِيَ شَرْطُهُ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ الْفَرَائِضُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمْ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ اقْتِدَاءَ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ، كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِمَامَةَ الْمُتَوَضِّئِ أَوْلَى مِنْ إِمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، بَلْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمُتَيَمِّمٍ بِمُتَيَمِّمٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، أَمَّا الْمُتَيَمِّمُ الَّذِي لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى عَنْ طَهَارَتِهِ بِبَدَلٍ مُغْنٍ عَنِ الْإِعَادَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، لِلُزُومِ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ:
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ غَاسِلٍ بِمَاسِحٍ عَلَى خُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ، لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ يَرْفَعُهُ الْمَسْحُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلًا، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلِأَنَّ صَلَاتَهُ مُغْنِيَةٌ عَنِ الْإِعَادَةِ لِارْتِفَاعِ حَدَثِهِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا وَجَّهَهُ الْآخَرُونَ.
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ:
33- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ » وَلِقَوْلِهِ- عليه السلام-: « الْإِمَامُ Cضَامِنٌ » وَمُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ أَلاَّ يَكُونَ الْإِمَامُ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْمُقْتَدِي، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَا تُؤَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ بِشَرْطِ تَوَافُقِ نَظْمِ صَلَاتَيْهِمَا، لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: « أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِشَاءَ الْآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ ».
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ لِمُخَالِفَتِهِ النَّظْمَ وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ.
34- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ.وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنَ الصَّبِيِّ الْإِخْلَالُ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ الْحُرِّ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا، لِلِاعْتِدَادِ بِصَلَاتِهِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ « كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ.لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الِاقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
هَذَا فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَجَازَ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَفِي الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّغِيرِ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ، حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَلَا يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ:
35- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْمَأْمُومِ، فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي عَصْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي أَدَاءً بِمَنْ يُصَلِّي قَضَاءً، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَهَذَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ صَلَاتَيْهِمَا، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ الِاقْتِدَاءِ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَوَافَقَ نَظْمُ صَلَاتَيْهِمَا فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا Cآخَرَ مِنْهُمَا أَدَاءً وَقَضَاءً، مَعَ تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.
اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَعَكْسُهُ:
36- يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا أَتَمَّ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ صَلَاتَهُ يَقُولُ لِلْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ.فَيَقُومُ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ لِيُكْمِلَ صَلَاتَهُ.وَيُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَسْبُوقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَلَاتِهِ أَرْبَعًا مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ.أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ فِي حَقِّ قَعْدَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ بِاقْتِدَائِهِ فِي شَفْعٍ أَوَّلٍ أَوْ ثَانٍ.
اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ:
37- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ، وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ، وَكَذَا الْجُرْحُ السَّائِلُ، وَالرُّعَافُ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِلَ الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْمَعْذُورِ، وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي، وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِصَاحِبِ السَّلَسِ، وَالطَّاهِرَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ، لِصِحَّةِ صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ.
وَجَوَازُ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ هُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الْأَعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِلْأَصِحَّاءِ.
وَقَدْ نَقَلَ فِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ قَوْلَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلَا يَنْصَرِفُ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِمِثْلِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْعُذْرُ، أَوْ إِنْ اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر)..
اقْتِدَاءُ الْمُكْتَسِي بِالْعَارِي:
38- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ Cوَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) بِعَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُكْتَسِي (أَيْ مَسْتُورِ الْعَوْرَةِ) بِالْعَارِي، لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ، فَيَلْزَمُ اقْتِدَاءُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ.
وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ اقْتِدَاءَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ.
حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ وَجَدُوا ثَوْبًا صَلَّوْا بِهِ أَفْذَاذًا لَا يَؤُمُّهُمْ بِهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمَسْتُورِ بِالْعَارِي، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ.
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي فَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِنْ اجْتَمَعُوا بِظَلَامٍ، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا مُتَبَاعِدِينَ.
اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ:
39- لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ وَيَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْأُمِّيِّ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُمَا تَارِكَانِ لِشَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّ هُنَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ.
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ مُطْلَقًا.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ الْقَارِئِ إِذَا اقْتَدَى بِالْأُمِّيِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ بِنَاءِ صَلَاتِهِ عَلَى صَلَاةِ الْأُمِّيِّ، كَذَلِكَ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ الَّذِي أَمَّ الْقَارِئَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِفَقْدِ شَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: إِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا، فَإِنْ كَانَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَانَ الْأُمِّيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالْقَارِئُ عَنْ يَسَارِهِ صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْأُمِّيِّ الْمَأْمُومِ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ لِاقْتِدَائِهِ بِأُمِّيٍّ.وَإِنْ كَانَا خَلْفَهُ، أَوِ الْقَارِئُ وَحْدَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْأُمِّيُّ عَنْ يَسَارِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ لِاقْتِدَائِهِ بِالْأُمِّيِّ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ الْمَأْمُومِ لِكَوْنِهِ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ.
هَذَا، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِمِثْلِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
اقْتِدَاءُ الْقَادِرِ بِالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ:
40- لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى رُكْنٍ، كَالرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، بِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ Cوَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، وَلِعَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ كَمَا مَرَّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقْتَدِرُونَ وَرَاءَهُ جُلُوسًا أَوْ قِيَامًا عِنْدَهُمْ.
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَائِمٍ بِقَاعِدٍ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَاعِدُ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ ».
وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الْأَحْدَبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَلاَّ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ، وَيُمَيَّزُ قِيَامُهُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ أَوِ الرَّاكِعِ أَوِ السَّاجِدِ خَلْفَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمُضْطَجِعَ وَالْمُسْتَلْقِيَ عَلَى الْقَاعِدِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَا يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَكُونُ إِيمَاءُ الْمَأْمُومِ أَخْفَضَ مِنْ إِيمَاءِ الْإِمَامِ، وَقَدْ يَسْبِقُهُ الْمَأْمُومُ فِي الْإِيمَاءِ، وَهَذَا يَضُرُّ.
الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ:
41- الْفَاسِقُ: مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: « صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ » وَلِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ » كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ عَلَى ظُلْمِهِ.وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشُّرُوطِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ-: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ، كَزَانٍ وَسَارِقٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ وَنَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوِ اعْتِقَادٍ، كَخَارِجِيٍّ أَوْ رَافِضِيٍّ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا.لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًاCكَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: « لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ وَسَيْفَهُ ».
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْمُعْتَمَدَةِ بَيْنَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ كَزَانٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّقُ فِسْقُهُ بِالصَّلَاةِ، كَأَنْ يَقْصِدَ بِتَقَدُّمِهِ الْكِبْرَ، أَوْ يُخِلَّ بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، أَوْ سُنَّةٍ عَمْدًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَمَّا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ فَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، فَالْمَنْعُ مِنْهُمَا خَلْفَهُ يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِهِمَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
الِاقْتِدَاءُ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْأَخْرَسِ:
42- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، لِأَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ لَا يُخِلاَّنِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا بِشُرُوطِهَا.لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ الْأَعْمَى، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَفْضَلِيَّةِ إِمَامَةِ الْبَصِيرِ الْمُسَاوِي لِلْأَعْمَى فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَحَفُّظًا مِنَ النَّجَاسَاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ سَوَاءٌ لِتَعَارُضِ فَضْلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخَبَثَ فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَجَنُّبِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْأَعْمَى لَا يَتَبَذَّلُ، أَمَّا إِذَا تَبَذَّلَ أَيْ تَرَكَ الصِّيَانَةَ عَنِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، كَأَنْ لَبِسَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ، كَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْهُ.
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ مِنَ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ.حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَخْرَسِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَخْرَسَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأُمِّيِّ، لِقُدْرَةِ الْأُمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ دُونَ الْأَخْرَسِ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْأَخْرَسِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.
الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْفُرُوعِ:
43- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِإِمَامٍ يُخَالِفُ الْمُقْتَدِيَ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَتَحَامَى مَوَاضِعَ الْخِلَافِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنَ الْخَارِجِ النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْفَصْدِ مَثَلًا، وَلَا يَنْحَرِفُ عَنِ الْقِبْلَةِ انْحِرَافًا فَاحِشًا، وَيُرَاعِي الدَّلْكَ وَالْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلَاةِ.
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ مُخَالِفٍ فِي الْمَذْهَبِ Cإِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْمُقْتَدِي بِيَقِينٍ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَلْ بَعْضُهُمْ يَقْتَدِي بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي أَنَّ الْإِمَامَ أَتَى بِمَانِعٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مَانِعًا فِي مَذْهَبِهِ، كَتَرْكِ الدَّلْكِ وَالْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ تَرَكَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- بِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ لَا الْمَأْمُومِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَتْرُوكُ رُكْنًا دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُقْتَدِي تَرْكَ الْإِمَامِ مُرَاعَاةَ الْفُرُوضِ عِنْدَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ عَلِمَ تَرْكَهُ لِلْوَاجِبَاتِ فَقَطْ يُكْرَهُ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ مِنْهُ تَرْكَ السُّنَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَى تَرْكِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِرَأْيِ الْمُقْتَدِي- وَهُوَ الْأَصَحُّ- وَقِيلَ: لِرَأْيِ الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ.قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَعَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَحْتَاطُ. الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ
44- الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ- بِمَعْنَى التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعِ- يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ (بِحَسَبِ حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ)، وَالِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- الْجِبِلِّيَّةِ حُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمُجْتَهِدِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مَطْلُوبٌ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيِ (اتِّبَاع، وَتَأَسِّي).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (ثأر)
ثَأْرٌالتَّعْرِيفُ:
1- الثَّأْرُ: الدَّمُ، أَوْ الطَّلَبُ بِالدَّمِ، يُقَالُ: ثَأَرْتُ الْقَتِيلَ وَثَأَرْتُ بِهِ فَأَنَا ثَائِرٌ، أَيْ قَتَلْتُ قَاتِلَهُ
وَالثَّأْرُ: الذَّحْلُ، يُقَالُ: طَلَبَ بِذَحْلِهِ، أَيْ بِثَأْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ أَخَذَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ»
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الثَّانِي وَهُوَ طَلَبُ الدَّمِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِصَاصُ:
2- الْقِصَاصُ: الْقَوَدُ، وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ، أَوْ الْجَرْحُ بِالْجَرْحِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَتْلِ أَوْ الْجَرْحِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى الْمُغَالَاةِ لِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنِ انْتِشَارِ الْغَضَبِ، وَطَلَبِ الدَّمِ وَإِسَالَتِهِ.
الثَّأْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:
3- تَزْخَرُ كُتُبُ التَّارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسُّنَنِ بِذِكْرِ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الثَّأْرِ، وَكُلُّهَا تُؤَكِّدُ أَنَّ عَادَةَ الثَّأْرِ كَانَتْ مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الثَّأْرَ كَانَ شَائِعًا ذَائِعًا حَيْثُ كَانَ نِظَامُ الْقَبِيلَةِ يَقُومُ مَقَامَ الدَّوْلَةِ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ تُفَاخِرُ بِنَسَبِهَا وَحَسَبِهَا وَقُوَّتِهَا، وَتَعْتَبِرُ نَفْسَهَا أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْقَبَائِلِ خَاضِعَةً لِحُكْمِ الْقُوَّةِ، فَالْقُوَّةُ هِيَ الْقَانُونُ، وَالْحَقُّ لِلْقَوِيِّ وَلَوْ كَانَ مُعْتَدِيًا، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى أَحَدِ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ يُعْتَبَرُ اعْتِدَاءً عَلَى الْقَبِيلَةِ بِأَجْمَعِهَا، يَتَضَامَنُ أَفْرَادُهَا فِي الِانْتِقَامِ وَيُسْرِفُونَ فِي الثَّأْرِ، فَلَا تَكْتَفِي قَبِيلَةُ الْمَقْتُولِ بِقَتْلِ الْجَانِي، لِأَنَّهَا تَرَاهُ غَيْرَ كُفْءٍ لِمَنْ فَقَدُوهُ.وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي نُشُوبِ الْحُرُوبِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي اسْتَغْرَقَتِ الْأَعْوَامَ الطِّوَالَ.
4- وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَمْ يُؤْخَذْ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَرْقُو عِنْدَ قَبْرِهِ: وَتَقُولُ: اسْقُونِي، اسْقُونِي مِنْ دَمِ قَاتِلِي، فَإِذَا أُخِذَ بِثَأْرِهِ طَارَتْ.
وَهَذَا أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» كَمَا يَقُولُ الدَّمِيرِيُّ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ الْحَيَوَانِ)
وَكَانَ الْعَرَبُ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الثَّأْرِ وَإِسْرَافِهِمْ فِيهِ، وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَارِ إذَا تَرَكُوهُ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ، وَالْخَمْرَ حَتَّى يَنَالُوا ثَأْرَهُمْ، وَلَا يُغَيِّرُونَ ثِيَابَهُمْ وَلَا يَغْسِلُونَ رُءُوسَهُمْ، وَلَا يَأْكُلُونَ لَحْمًا حَتَّى يَشْفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الثَّأْرِ.
5- وَظَلَّ الْعَرَبُ مُتَأَثِّرِينَ بِهَذِهِ الْعَادَةِ حَتَّى بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، يَرْوِي الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الطَّوْلُ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْلَ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالثَّأْرِ:
6- أ- حَرَّمَ الْإِسْلَامُ قَتْلَ النَّفْسِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ حَقٍّ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وَبَيَّنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْحَقَّ الَّذِي يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَقَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ».
7- ب- أَبَاحَ الْإِسْلَامُ الْأَخْذَ بِالثَّأْرِ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ بِشُرُوطِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ وَجِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).
قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ» وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يُؤْخَذُ لَهُمْ بِثَأْرِهِمْ.
هَذَا وَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِدُونِ إِذْنِهِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، وَعُزِّرَ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ.
وَصَرَّحَ الزُّرْقَانِيُّ بِأَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ إِذَا عَلِمَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْتُلُ الْقَاتِلَ، فَلَا أَدَبَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ وَلَوْ غِيلَةً، وَلَكِنْ يُرَاعِي فِيهِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ وَالرَّذِيلَةِ.
8- ج- إِبَاحَةُ الْإِسْلَامِ لِلثَّأْرِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَمِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ فَلَا يُسْرِفِ الْوَلِيُّ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يُمَثِّلَ بِهِ، أَوْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» أَيْ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ عِنْدَ شَخْصٍ فَيَطْلُبُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْقِصَاصِ وَتَحْرِيمِ الثَّأْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
9- أ- الْقِصَاصُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي فَلَا يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّأْرَ لَا يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ أُسْرَتِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ
وَبِذَلِكَ يَتَعَرَّضُ الْأَبْرِيَاءُ لِلْقَتْلِ دُونَ ذَنْبٍ جَنَوْهُ.
10- ب- الْقِصَاصُ يَرْدَعُ الْقَاتِلَ عَنِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ بَيْنَمَا الثَّأْرُ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ.
يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِالْغَيْظِ حَتَّى يُؤْثِرُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَرْضَوْا بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، بَلْ يَقْتُلُونَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْقَاتِلِ كَسَيِّدِ الْقَبِيلَةِ وَمُقَدَّمِ الطَّائِفَةِ، فَيَكُونُ الْقَاتِلُ قَدِ اعْتَدَى فِي الِابْتِدَاءِ، وَتَعَدَّى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْخَارِجُونَ عَنِ الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَالْحَاضِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ يَسْتَعْظِمُونَ قَتْلَ الْقَاتِلِ لِكَوْنِهِ عَظِيمًا أَشْرَفَ مِنَ الْمَقْتُولِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَاتِلِ، وَرُبَّمَا حَالَفَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَوْمًا فَيُفْضِي إِلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ الْعَظِيمَةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ سَنَنِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، وَالْمُعَادَلَةُ فِي الْقَتْلَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ فِيهِ حَيَاةً فَإِنَّهُ يَحْقِنُ دَمَ غَيْرِ الْقَاتِلِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّجُلَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِذَا عَلِمَ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (حرم 2)
حَرَمٌ -2مَا اخْتُصَّ بِهِ الْحَرَمُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى:
أ- نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى الْحَرَمِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ:
18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إِتْيَانَهُ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا آخَرَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فَعَلَيْهِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ: (الْحَجُّ أَوِ الْعُمْرَةُ) لِأَنَّهُ قَدْ تُعُورِفَ إِيجَابُ النُّسُكِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ.
وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «أُخْتِ عُقْبَةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَمْشِيَ وَتَرْكَبَ».وَكَذَا إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ.
أَمَّا إِذَا نَذَرَ الْإِتْيَانَ أَوِ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ نَوَى بِبَيْتِ اللَّهِ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، أَوْ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِي الْتِزَامِ النُّسُكِ بِهِ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يَلْزَمُهُ النُّسُكُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْحَرَمِ وَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِالْإِحْرَامِ فَكَانَ بِذَلِكَ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ (بَيْتَ اللَّهِ) مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدًا غَيْرَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ النَّذْرُ إِنَّمَا يَجِبُ وَفَاؤُهُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، إِذِ الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهَا بِلَا إِحْرَامٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَلَوْ لِصَلَاةٍ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَلْزَمُ نَاذِرَ الْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ جُزْئِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ كَبَابِهِ، وَرُكْنِهِ، وَمُلْتَزَمِهِ، وَشَاذَرْوَانِهِ وَحِجْرِهِ.وَلَا يَلْزَمُ الْمَشْيُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ، كَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ كَعَرَفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إِتْيَانَهُ وَقَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، أَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْحَرَامِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِتْيَانِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَقُلِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَلَا نَوَاهُ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَنْوِ الْحَجَّ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ، لِأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى يَصْدُقُ عَلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِلَفْظٍ وَلَا نِيَّةٍ.
وَلَوْ نَذَرَ إِتْيَانَ مَكَانٍ مِنَ الْحَرَمِ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ، أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، أَوْ مِنًى، أَوْ مُزْدَلِفَةَ، لَزِمَهُ إِتْيَانُ الْحَرَمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ إِنَّمَا تَتِمُّ فِي إِتْيَانٍ بِنُسُكِهِ، وَالنَّذْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَاجِبِ.وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَنَحْوِهَا فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ؛ (نَذْرٌ) وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ).
ب- لُقَطَةُ الْحَرَمِ:
19- اللُّقَطَةُ هِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ.وَلَا فَرْقَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحَرَمِ وَالْحِلِّ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ الْأَخْذِ إِذَا خَافَ الضَّيَاعَ، وَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْآخِذِ (الْمُلْتَقِطِ) وَيُشْهِدُ عَلَى أَخْذِهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمُ، وَلَا يُغَيِّبُ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».
وَيَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ إِلَى سَنَةٍ أَوْ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا.وَتَخْتَلِفُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ نَوْعِيَّةِ اللُّقَطَةِ وَقِيمَتِهَا، وَهَلْ يَمْلِكُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ يَحْبِسُهَا فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ).
وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الْبَاجِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ لِلتَّمَلُّكِ بَلْ تُؤْخَذُ لِلْحِفْظِ وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا أَبَدًا، لِحَدِيثِ: «فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ، لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا» فَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَرَمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلاَّ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَمْ يُوَقِّتِ التَّعْرِيفَ بِسَنَةٍ كَغَيْرِهَا.فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْرِيفَ عَلَى الدَّوَامِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَرُبَّمَا يَعُودُ مَالِكُهَا أَوْ يَبْعَثُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ السَّنَةِ.
الْغُسْلُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ:
20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْغُسْلُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ اتِّفَاقًا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلاَّ بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَهُ».وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا.
الْمُؤَاخَذَةُ بِالْهَمِّ:
21- مِنِ اخْتِصَاصَاتِ الْحَرَمِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فِيهِ يُؤَاخِذُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَإِنَّهُ إِذَا هَمَّ الْإِنْسَانُ فِيهَا بِسَيِّئَةٍ لَا يُؤَاخَذُ بِهَمِّهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا.
وَوَجْهُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْهَمِّ فِي الْحَرَمِ قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- فِي الْآيَةِ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لأَذَاقَهُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا».
وَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ- وَكَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ.
الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ:
22- تُسْتَحَبُّ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الطَّوَافِ وَتَضْعِيفِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ كَرَاهَةُ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمِ خَوْفًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُرْمَتِهِ وَالتَّبَرُّمِ وَاعْتِيَادِ الْمَكَانِ.وَلِمَا يَحْصُلُ بِالْمُفَارَقَةِ مِنْ تَهْيِيجِ الشَّوْقِ وَانْبِعَاثِ دَاعِيَةِ الْعَوْدِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} أَيْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَعَلَّلَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ بِالْخَوْفِ مِنْ رُكُوبِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ فِيهِ.
تَضَاعُفُ الصَّلَاةِ وَالْحَسَنَاتِ فِي الْحَرَمِ:
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ أَحَادِيثَ: مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُضَاعَفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي الْخَبَرِ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الْإِقَامَةُ فِيهِ.وَقَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ: «إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْكَعْبَةَ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهَا: «إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ».
وَرَجَّحَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ الْحَرَمُ جَمِيعُهُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ: نَقُولُ بِمُوجِبِهِ إِنَّ حَسَنَةَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا بِمِائَةِ أَلْفٍ لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.وَلِهَذَا قَالَ: بِمِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي وَلَمْ يَقُلْ حَسَنَةً.
وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَلْفِ صَلَاةٍ، كُلُّ صَلَاةٍ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِعَشَرَةِ آلَافِ حَسَنَةٍ، وَتَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ إِمَّا مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَإِمَّا الْكَعْبَةُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي شِفَاءِ الْغَرَامِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
مُضَاعَفَةُ السَّيِّئَاتِ بِالْحَرَمِ:
24- ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ.وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مُقَامِهِ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَالِي وَلِبَلَدٍ تُضَاعَفُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ؟ فَحُمِلَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مُضَاعَفَةِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَرَمِ، ثُمَّ قِيلَ: تَضْعِيفُهَا كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَمِ.وَقِيلَ: بَلْ كَخَارِجِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْعُمُومَاتِ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمُضَاعَفَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}.
وَقَالَ الْفَاسِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّيِّئَةَ بِمَكَّةَ كَغَيْرِهَا.
لَا تَمَتُّعَ وَلَا قِرَانَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَمَتُّعَ وَلَا قِرَانَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَالْمَكِّيُّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا فَقَطْ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ.لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَنْ يُحْرِمَ بِالتَّمَتُّعِ أَوِ الْقِرَانِ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَمَتُّعٌ وَقِرَانٌ).
ذَبْحُ الْهَدْيِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْحَرَمِ:
26- الْهَدْيُ هُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَطَوُّعًا أَمْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ، أَمْ قِرَانٍ أَمْ جَزَاءَ صَيْدٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ ذَبْحَهُ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» «وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» وَالْأَفْضَلُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَذْبَحَ بِمِنًى، وَلِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ.وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ، أَمَّا الْمُحْصَرُ فَفِي ذَبْحِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ أَوْ دَاخِلَهُ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (إِحْصَارٌ).
وَأَمَّا مَا يُذْبَحُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَفِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ ذَبْحُهُ بِمَكَّةَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَحُكْمُ الطَّعَامِ كَحُكْمِ الْفِدْيَةِ فِي أَنَّهُ يُوَزَّعُ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (فِدْيَةٌ) (وَصِيَامٌ).
وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ وَوَقْتِ ذَبْحِهِ، وَمَنْ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَجٌّ، هَدْيٌ، فِدْيَةٌ، نَذْرٌ)، وَيُرَاجَعُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (إِحْصَارٌ ف 38، 39).
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْحَرَمِ:
27- يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ الَّتِي تُرْتَكَبُ فِي الْحَرَمِ، فَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِيمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْحَرَمِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا خِلَافٌ، تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).
هَذَا، وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى بَعْضُهَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَجَوَازِ قَصْدِهِ بِالزِّيَارَةِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَعَدَمِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَصَّلَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلَامِ السَّاجِدِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ).
ثَانِيًا: حَرَمُ الْمَدِينَةِ:
28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ حَرَمٌ، لَهُ حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ، تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ، كَمَا تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ» وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ حَرَمٌ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا.وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ بَقَاءَ زِينَتِهَا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ».
وَيَدُلُّ عَلَى حِلِّ صَيْدِهَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ أَحْسَبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» وَنُغَيْرٌ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ طَائِرٌ صَغِيرٌ كَانَ يُلْعَبُ بِهِ.
حُدُودُ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ:
29- يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ حَدَّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إِلَى عِيرٍ، لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «حَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إِلَى عِيرٍ».وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ الْحَرَمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ»، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ»، وَاللاَّبَةُ الْحَرَّةُ، وَهِيَ أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ.وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: «مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا».وَقَدْرُهُ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ أَيِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَرَمُ الْمَدَنِيُّ عَنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ:
30- يَخْتَلِفُ الْحَرَمُ الْمَدَنِيُّ عَنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُودِ حَرَمٍ لِلْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ- يَجُوزُ أَخْذُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ لِلرَّحْلِ، وَآلَةِ الْحَرْثِ، كَآلَةِ الدِّيَاسِ وَالْجُذَاذِ، وَالْحَصَادِ، وَالْعَارِضَةِ لِسَقْفِ الْمَحْمَلِ، وَالْمَسَانِدِ مِنَ الْقَائِمَتَيْنِ، وَالْعَارِضَةُ بَيْنَهُمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْحٍ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَرْضًا غَيْرَ أَرْضِنَا فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَالَ: الْقَائِمَتَانِ وَالْوِسَادَةُ وَالْعَارِضَةُ وَالْمُسْنَدُ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُعْضَدُ».
ب- يَجُوزُ أَخْذُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ حَشِيشِهَا لِلْعَلَفِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلاَّ أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ».
وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا مِنِ احْتِشَاشِهَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ، بِخِلَافِ حَرَمِ مَكَّةَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
ج- مَنْ أَدْخَلَ إِلَيْهَا صَيْدًا فَلَهُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ، وَخَصَّهُ الْمَالِكِيَّةُ بِسَاكِنِي الْمَدِينَةِ.
د- لَا جَزَاءَ فِيمَا حَرُمَ مِنْ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا وَحَشِيشِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ حَرَمِ مَكَّةَ.وَفِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْجَزَاءُ.
هـ- يَجُوزُ دُخُولُ الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ بِلَا خِلَافٍ.
- وَلَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مُؤَقَّتًا مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ حَرَمِ مَكَّةَ الْمَكْرُمَةِ.
ز- لَا يَخْتَصُّ حَرَمُ الْمَدِينَةِ بِالنُّسُكِ وَذَبْحِ الْهَدَايَا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
ح- لَيْسَ لِلُقَطَةِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ حُكْمٌ خَاصٌّ كَالْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مِنْ عَدَمِ تَمَلُّكِهَا وَوُجُوبِ تَعْرِيفِهَا لِلْأَبَدِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلَامِ السَّاجِدِ سَائِرَ خَصَائِصِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ وَأَحْكَامِهِ بِإِسْهَابٍ.وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَجَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ وَنَحْوِهِمَا.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ هُنَاكَ وَفِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) وَمُصْطَلَحِ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (خدمة)
خِدْمَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْخِدْمَةُ مَصْدَرُ خَدَمَ وَهِيَ الْمِهْنَةُ، وَقِيلَ: وَهِيَ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ.وَالْخَدَمُ وَالْخُدَّامُ جَمْعُ خَادِمٍ، وَالْخَادِمُ يَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ.وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ خَادِمَةٌ.
وَاسْتَخْدَمَهُ وَاخْتَدَمَهُ جَعَلَهُ خَادِمًا، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَخْدُمَهُ، وَأَخْدَمْتُ فُلَانًا: أَيْ أَعْطَيْتَهُ خَادِمًا يَخْدُمُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمِهْنَةُ:
2- الْمِهْنَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا- الْحِذْقُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ، وَمَهَنَ يَمْهُنُ مِهَنًا إِذَا عَمِلَ فِي صَنْعَةٍ، وَمَهَنَهُمْ خَدَمَهُمْ وَامْتَهَنْتُهُ أَيِ: اسْتَخْدَمْتَهُ وَابْتَذَلْتَهُ.
وَالْمَاهِنُ الْخَادِمُ، وَالْأُنْثَى مَاهِنَةٌ، وَالْجَمْعُ مُهَّانٌ، وَيُقَالُ: لِلْأُنْثَى بِالْخَرْقَاءِ لَا تُحْسِنُ الْمِهْنَةَ، أَيْ لَا تُحْسِنُ الْخِدْمَةَ.
وَالْمِهْنَةُ الْخِدْمَةُ وَالِابْتِذَالُ، وَالْمَهِينُ الضَّعِيفُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}
وَخَرَجَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهِ أَيْ: فِي ثِيَابِ خِدْمَتِهِ الَّتِي يَلْبَسُهَا فِي أَشْغَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.
فَالْمِهْنَةُ أَخَصُّ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْحِذْقَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصَّنْعَةِ.
ب- الْعَمَلُ:
3- وَالْعَمَلُ هُوَ الْمِهْنَةُ وَالْفِعْلُ، وَالْجَمْعُ أَعْمَالٌ.وَالْعَامِلُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ، أَوْ مِلْكِهِ، أَوْ عَمَلِهِ، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ.وَالْعُمْلَةُ وَالْعِمَالَةُ، أَجْرُ مَا عَمِلَ، أَوْ رِزْقُ الْعَامِلِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ عَلَى مَا قُلِّدَ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلَةُ هُمُ الْقَوْمُ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ ضُرُوبًا مِنَ الْعَمَلِ فِي طِينٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ أَنَّ الْعَمَلَ أَعَمُّ مِنَ الْخِدْمَةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِدْمَةِ: خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ وَعَكْسُهُ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الْأَعْزَبِ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ الْبَالِغَةَ لِلْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، مَأْمُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَذَلِكَ اتِّقَاءٌ لِلْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعْصِيَةٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ صَغِيرًا، أَوْ شَيْخًا هَرِمًا، أَوْ مَمْسُوحًا أَوْ مَجْبُوبًا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْخَادِمَةُ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى.
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ وَبَيْنَ الْأَمَةِ، وَلَا بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً يُؤْمَنُ مِنَ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ لَا تَحْرُمُ خِدْمَتُهَا لَهُ فِي بَيْتِهِ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَالْحُرْمَةُ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- إِذَا كَانَتِ الْخِدْمَةُ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ فَيَجُوزُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مَرِيضًا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدُمُهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الرَّجُلَ جَمِيلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ جَمِيلَةٍ مُتَجَالَّةً أَوْ غَيْرَ مُتَجَالَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ وَغَيْرِ الْمُتَجَالَّةِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الرَّجُلِ الْعَزَبِ الَّذِي لَا نِسَاءَ عِنْدَهُ مِنْ قَرَابَاتٍ وَزَوْجَاتٍ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَدَيْهِ زَوْجَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ.قَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَمَةَ وَالْحُرَّةَ لِلْخِدْمَةِ، وَلَكِنْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ لَيْسَتِ الْأَمَةُ مِثْلَ الْحُرَّةِ وَلَا يَخْلُو مَعَهَا فِي بَيْتٍ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً وَلَا إِلَى شَعْرِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً تَخْدُمُهُ وَهُوَ عَزَبٌ أَيَجُوزُ هَذَا أَمْ لَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ تُعَادِلُ الرَّجُلَ فِي الْمَحْمَلِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَالَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَهُوَ يَخْلُو مَعَهَا أَشَدُّ عِنْدِي كَرَاهِيَةً مِنَ الَّذِي تُعَادِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَحْمَلِ.
أَمَّا خَادِمُ الْمَرْأَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَبِيرًا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخَادِمُ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلْمَرْأَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكَهَا، أَوْ مَمْسُوحًا، أَوْ نَحْوَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْدُمَهَا.
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ، أَمَّا الْخِدْمَةُ الظَّاهِرَةُ مِثْلُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ.
قَالَ الْحَطَّابُ: وَسُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْعَزَبَةِ الْكَبِيرَةِ تَلْجَأُ إِلَى الرَّجُلِ، فَيَقُومُ لَهَا بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلُهَا الْحَاجَةَ، هَلْ تَرَى لَهُ ذَلِكَ جَائِزًا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَلْيَدْخُلْ مَعَهُ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ تَرَكَهَا النَّاسُ لَضَاعَتْ، وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إِنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُومَ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلَهَا الْحَاجَةَ إِذَا غَضَّ بَصَرَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، مِمَّا لَا يَظْهَرُ مِنْ زِينَتِهَا، لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وَذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُولِ عَلَيْهَا أَدْخَلَ غَيْرَهُ مَعَهُ لِيُبْعِدَ سُوءَ الظَّنِّ عَنْ نَفْسِهِ.
خِدْمَةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَنْ يَخْدُمَ الْكَافِرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وَلَا الْإِعَارَةُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُسْلِمِ وَإِذْلَالًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا لِلْكَافِرِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
وَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ قِصَارَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَتَضَمَّنُ إِذْلَالًا وَلَا اسْتِخْدَامًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ.وَكَذَا إِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ لِعَمَلٍ غَيْرِ الْخِدْمَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ أَيْضًا.
وَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقْتَضِي الْخِدْمَةَ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَا جَازَ مِنَ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ أَوْ حَمْلِ الْخَمْرِ.
خِدْمَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَعَكْسُهُ:
6- إِذَا قَامَ الْوَالِدُ بِنَفْسِهِ بِخِدْمَةِ وَلَدِهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْخِدْمَةُ أَوِ الْإِخْدَامُ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَرِيضِ، أَوِ الْعَاجِزِ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِخْدَامِ الْفَرْعِ لِأَصْلِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ وَالِاسْتِخْفَافِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَكَانَةِ الْأُبُوَّةِ.
وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَالِدَهُ لِلِاسْتِخْدَامِ وَإِنْ عَلَا، وَكَذَلِكَ وَالِدَتُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْوَالِدُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ وَالِدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الدِّينُ، وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَهَذَا الْأَمْرُ وَرَدَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الْآيَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْوَلَدِ تَنْزِيهًا اسْتِخْدَامُ أَحَدِ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلَا لِصِيَانَتِهِمْ عَنِ الْإِذْلَالِ.
أَمَّا خِدْمَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامُ الْأَبِ لِوَلَدِهِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا، وَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْوَلَدِ خِدْمَةُ أَوْ إِخْدَامُ وَالِدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ قَضَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَادِمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ- إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُ زَوْجَتِهِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا بِأَنْ كَانَتْ تُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا، أَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ، لِكَوْنِ هَذَا مِنْ حَقِّهَا فِي الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ كِفَايَتِهَا وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدَّوَامِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِخْدَامَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ، وَالْمُصَابَةِ بِعَاهَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهَا خِدْمَةَ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الْخِدْمَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا يَرَوْنَ وُجُوبَ إِخْدَامِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، لَكِنْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذَا سَعَةٍ وَهِيَ ذَاتُ قَدْرٍ لَيْسَ شَأْنَهَا الْخِدْمَةُ، أَوْ كَانَ هُوَ ذَا قَدْرٍ تَزْرِي خِدْمَةُ زَوْجَتِهِ بِهِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ، أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا دِيَانَةً وَلَوْ شَرِيفَةً، لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- « قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَالدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- » مَعَ أَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ.
ب- الْإِخْدَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْزَامِ الزَّوْجِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ خِدْمَتُهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالُهَا وَمَنْصِبُهَا يَقْتَضِي، خَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَر فَلَهَا ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ غَنِيَّةً وَزُفَّتْ إِلَيْهِ بِخَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْخَدَمِ مِمَّنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ الْخَادِمِ الْوَاحِدِ، أَوِ الِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَاصِلُ: أَنَّ الْمَذْهَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَالْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَ الْمَشَايِخِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَا يُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مَثَلًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْدَامُ، بَلْ يَلْزَمُهَا أَنْ تَقُومَ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا الْبَاطِنَةِ (أَيْ فِي دَاخِلِ الْمَنْزِلِ) مِنْ عَجْنٍ وَطَبْخٍ، وَكَنْسٍ، وَفَرْشٍ، وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ إِذَا كَانَ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا غَزْلٌ، وَلَا نَسْجٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِنَ السُّوقِ مَا تَحْتَاجُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَّامِ الْكِفَايَةِ.
ج- تَبْدِيلُ الْخَادِمِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَبْدِيلِ الزَّوْجِ خَادِمَهَا الَّذِي حَمَلَتْهُ مَعَهَا، أَوْ أَخْدَمَهَا إِيَّاهُ هُوَ (وَأَلِفَتْهُ).
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ لِتَضَرُّرِهَا بِقَطْعِ الْمَأْلُوفِ؛ وَلِأَنَّهَا قَدْ لَا تَتَهَيَّأُ لَهَا الْخِدْمَةُ بِالْخَادِمِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الزَّوْجُ بَدَلَ خَادِمِهَا إِلاَّ إِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ بِوُجُودِهِ.
أَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ يَخْتَلِسُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ أَوْ أَمْتِعَةِ بَيْتِهِ فَلَهُ الْإِبْدَالُ، وَالْإِتْيَانُ بِخَادِمٍ أَمِينٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى رِضَاهَا إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَسْتَبْدِلْ غَيْرَهُ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ إِبْدَالَ خَادِمٍ آخَرَ بِخَادِمِهَا إِذَا أَتَاهَا بِمَنْ يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْخَادِمِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ إِلَيْهَا.
د- إِخْرَاجُ الْخَادِمِ مِنَ الْبَيْتِ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّوْجِ لِخَدَمِ الْمَرْأَةِ الزَّائِدِ عَنِ الْوَاحِدِ، أَوِ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ مِنْ بَيْتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَهُ إِخْرَاجَ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ وَمَنْعَهُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.
هـ- إِخْدَامُ الْمُعْسِرِ:
11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِخْدَامِ عَلَى الْمُعْسِرِ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْخِدْمَةَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْإِخْدَامِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ فَقَطْ.أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْدَامُ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تَخْدُمَ نَفْسَهَا الْخِدْمَةَ الدَّاخِلِيَّةَ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَكْفِيَهَا الْأَعْمَالَ الْخَارِجِيَّةَ، لِمَا رُوِيَ « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَبَيْنَ فَاطِمَةَ- رضي الله عنهما-، فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- »
إِلاَّ أَنَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، يَرَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلزَّوْجَةِ خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وُجُوبَ الْإِخْدَامِ لِلزَّوْجَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُوسِرُ، وَالْمُتَوَسِّطُ، وَالْمُعْسِرُ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَلِأَنَّ الْخِدْمَةَ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَسَائِرِ الْمُؤَنِ. و- صِفَةُ الْخَادِمِ:
12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَادِمُ إِمَّا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلزَّوْجَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ مَمْسُوحًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَبِيرًا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ فَلَا يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ.
الْخَادِمَةُ الذِّمِّيَّةُ.
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ الذِّمِّيَّةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَادِمًا لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ عَدَاوَتُهَا الدِّينِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ نَظَرَ الذِّمِّيَّةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ حَرَامٌ، لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} إِلَى أَنْ قَالَ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ مَنَعَ الْكِتَابِيَّاتِ دُخُولَ الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَحْكِيهَا لِلْكَافِرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تَتَعَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يُجِيزُ أَنْ تَخْدُمَ الذِّمِّيَّةُ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ نَظَرَهَا إِلَى الْمُسْلِمَةِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا.
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ أَمَّا الظَّاهِرَةُ مِثْلُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرِّجَالُ وَغَيْرُهُمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَيَخْدُمُ الْمَرْأَةَ بِأُنْثَى أَوْ بِذَكَرٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ: أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِخْدَامَ الْمُسْلِمَةِ بِذِمِّيَّةٍ حَيْثُ أَطْلَقُوا الْأُنْثَى وَلَمْ يُقَيِّدُوهَا بِمُسْلِمَةٍ:
وَلَا سِيَّمَا وَأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ.
ز- نَفَقَةُ الْخَادِمِ:
14- نَفَقَةُ الْخَادِمِ تَشْمَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الطَّعَامَ وَالْمَسْكَنَ وَالْمَلْبَسَ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ كَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ بَلْ يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى أَنْ لَا تَبْلُغَ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ جِنْسَ طَعَامِ الْخَادِمِ هُوَ جِنْسُ طَعَامِ الْمَخْدُومَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْخَادِمَةِ كِسْوَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ، وَمُؤْنَتَهُ، وَكِسْوَتَهُ تَكُونُ مِثْلَ مَا لِامْرَأَةِ الْمُعْسِرِ.
ح- طَلَبُ الزَّوْجَةِ أُجْرَةَ الْخَادِمِ:
15- لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنَا أَخْدُمُ نَفْسِي وَطَلَبَتِ الْأُجْرَةَ أَوْ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِي إِخْدَامِهَا تَوْفِيرَهَا عَلَى حُقُوقِهِ وَتَرْفِيهَهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِخِدْمَتِهَا لِنَفْسِهَا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى خِدْمَتِهَا لِزَوْجِهَا أَوْ لِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتِ الْأُجْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لأَخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ.
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَخْدُمُكِ بِنَفْسِي لِيُسْقِطَ مُؤْنَةَ الْخَادِمِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ ذَلِكَ.
لِأَنَّ فِي هَذَا غَضَاضَةً عَلَيْهَا لِكَوْنِ زَوْجِهَا خَادِمًا لَهَا وَتُعَيَّرُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ بِنَفْسِهِ وَيُلْزِمَهَا الرِّضَا بِهِ، لِأَنَّ الْكِفَايَةَ تَحْصُلُ بِهَذَا.
وَيَرَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ الْقَفَّالُ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ فِيمَا لَا يَسْتَحِي مِنْهُ، كَغَسْلِ الثَّوْبِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ نَفْسِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمُسْتَحِمِّ وَنَحْوِهِمَا.
ط- إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمَةِ:
16- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا الصَّبْرُ عَنْهَا.
وَلَكِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَتَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْأَذْرَعِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِرُتْبَتِهَا وَقَدْرِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَدِ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِمَرَضِهَا وَنَحْوِهِ فَالْوَجْهُ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّفَقَةِ فِي الذِّمَّةِ وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَنِ الزَّوْجِ بِإِعْسَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} وَهَذَا مُعْسِرٌ لَمْ يُؤْتِهِ شَيْئًا فَلَا يُكَلَّفُ بِشَيْءٍ.
ي- زَكَاةُ فِطْرِ الْخَادِمِ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِامْرَأَتِهِ مَنْ يَخْدُمُهَا بِأُجْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَقْتَضِي النَّفَقَةَ، وَالْفِطْرَةُ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرِّ وَغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا لَهَا نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا بِخَادِمِهَا فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ إِلاَّ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى وُجُوبَهَا عَلَى الزَّوْجَةِ.
أَمَّا إِنْ أَخْدَمَهَا بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لَهُ لَا بِسَبَبِ خِدْمَتِهِ لِلزَّوْجَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيَّةِ فِي حُكْمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَحِبَتِ الزَّوْجَةَ لِتَخْدُمَهَا بِنَفَقَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ لُزُومِ فِطْرَتِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسْتَأْجَرَةِ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ فِطْرَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ.
خِدْمَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَعَكْسُهُ:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الزَّوْجَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا أَوْ مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْخِدْمَةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لَكِنَّ الْأَوْلَى لَهَا فِعْلُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا دِيَانَةً لَا قَضَاءً، لِأَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ- رضي الله عنهما-، فَجَعَلَ عَمَلَ الدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ، وَعَمَلَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ ».وَلِهَذَا فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ- عِنْدَهُمْ- أَنْ تَأْخُذَ مِنْ زَوْجِهَا أَجْرًا مِنْ أَجْلِ خِدْمَتِهَا لَهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، إِلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةَ زَوْجِهَا فِي الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا، لِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ- رضي الله عنها-، حَيْثُ « إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَعَلَى عَلِيٍّ بِمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنَ الْأَعْمَالِ » وَلِحَدِيثِ: « لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَلَ » قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ »
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ لَهَا طَاقَةٌ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خِدْمَةِ بَيْتِهَا فِي خَبْزٍ، أَوْ طَحْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ، إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّ مِثْلَهَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
19- وَبِالنِّسْبَةِ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ لِزَوْجَتِهِ وَلَهَا أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ اسْتِخْدَامُ زَوْجِهَا الْحُرِّ بِجَعْلِهِ خِدْمَتَهُ لَهَا مَهْرًا، أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَوْ يَزْرَعَ أَرْضَهَا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ صَحِيحَةٌ.
وَتَجُوزُ خِدْمَتُهُ لَهَا تَطَوُّعًا: وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوِ اسْتَأْجَرَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الْأَجِيرِ.
خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبِنَاءِ دَارٍ، وَزِرَاعَةِ أَرْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ.وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ فِي الذِّمَّةِ يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ الْعَمَلِ بِغَيْرِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، كَعَصْرِ الْخَمْرِ وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ اسْتِذْلَالٌ، فَكَانَ إِجَارَةُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إِذْلَالًا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ: أَنَّ إِجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ، وَمَحْظُورَةٌ، وَحَرَامٌ.فَالْجَائِزَةُ- هِيَ- أَنْ يَعْمَلَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ عَمَلًا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، كَالصَّانِعِ الَّذِي يَصْنَعُ لِلنَّاسِ.وَالْمَكْرُوهَةُ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْكَافِرُ بِجَمِيعِ عَمَلِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِضًا لَهُ، أَوْ مُسَاقِيًا، وَالْمَحْظُورَةُ: أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ تَحْتَ يَدِهِ كَأَجِيرِ الْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، وَإِجَارَةِ الْمَرْأَةِ لِتُرْضِعَ لَهُ ابْنَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ إِنْ عُثِرَ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَاتَتْ مَضَتْ، وَكَانَ لَهُ الْأُجْرَةُ.وَالْحَرَامُ: أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَحِلُّ مِنْ عَمَلِ الْخَمْرِ، أَوْ رَعْيِ الْخَنَازِيرِ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ، فَإِنْ فَاتَتْ تَصْدُقُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ خِدْمَةً مُبَاشِرَةً، كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَقْدِيمِ نَعْلٍ لَهُ، وَإِزَالَةِ قَاذُورَاتِهِ، أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ كَإِرْسَالِهِ فِي حَوَائِجِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
وَلِصِيَانَةِ الْمُسْلِمِ عَنِ الْإِذْلَالِ وَالِامْتِهَانِ.وَلَكِنْ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْمُسْلِمِ أَوْ إِجَارَتُهُ لِلْكَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَفِي إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ
وَقِيلَ: بِحُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى حُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ لِأَجْلِ الْخِدْمَةِ، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلَالَهُ لَهُ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجُوزُ ذَلِكَ قِيلَ: مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقِيلَ: بِدُونِهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (ذكر 1)
ذِكْرٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الذِّكْرُ لُغَةً مَصْدَرُ ذَكَرَ الشَّيْءَ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وَذُكْرًا، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ضِدُّ الْإِنْصَاتِ ذَالُهُ مَكْسُورَةٌ، وَبِالْقَلْبِ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَذَالُهُ مَضْمُومَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُمَا لُغَتَانِ.
وَهُوَ يَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ:
الْأَوَّلُ: الشَّيْءُ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ، أَيْ مَا يُنْطَقُ بِهِ، يُقَالُ: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ أَذْكُرُهُ ذُكْرًا وَذِكْرًا إِذَا نَطَقْتَ بِاسْمِهِ أَوْ تَحَدَّثْتَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}.
وَالثَّانِي: اسْتِحْضَارُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، ضِدُّ النِّسْيَانِ.قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّالشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي بَصَائِرِهِ: الذِّكْرُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ هَيْئَةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَحْفَظَ مَا يَقْتَنِيهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ كَالْحِفْظِ، إِلاَّ أَنَّ الْحِفْظَ يُقَالُ اعْتِبَارًا بِإِحْرَازِهِ، وَالذِّكْرُ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ اسْتِحْضَارِهِ، وَتَارَةً يُقَالُ لِحُضُورِ الشَّيْءِ الْقَلْبَ أَوِ الْقَوْلَ.وَلِذَلِكَ قِيلَ: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ: ذِكْرٌ بِالْقَلْبِ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ: ذِكْرٌ عَنْ نِسْيَانٍ، وَذِكْرٌ لَا عَنْ نِسْيَانٍ، بَلْ عَنْ إِدَامَةِ حِفْظٍ.وَكُلُّ قَوْلٍ يُقَالُ لَهُ ذِكْرٌ.وَمِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْآبَاءَكُمْ أَوْأَشَدَّ ذِكْرًا}.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَيُسْتَعْمَلُ الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءٌ بِالْإِخْبَارِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ أَوْ بِمَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ.وَيُسْتَعْمَلُ الذِّكْرُ اصْطِلَاحًا بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ بِمَا تَقَدَّمَ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي الْأُخْرَى الْمَذْكُورَةِ.وَيُشِيرُ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْأَخَصِّ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ».فَجَعَلَتِ الْآيَةُ الذِّكْرَ غَيْرَ الصَّلَاةِ عَلَى التَّفْسِيرِ بِأَنَّ نَهْيَ ذِكْرِ اللَّهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِ الصَّلَاةِ عَنْهُمَا، وَجَعَلَ الْحَدِيثُ الذِّكْرَ غَيْرَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ الدُّعَاءُ.وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ الْأَخَصُّ هُوَ الْأَكْثَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ عَلاَّنَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي مَجَازٌ.قَالَ: «أَصْلُ وَضْعِ الذِّكْرِ هُوَ مَا تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِلَفْظِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ الْحَقِّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ».
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْتَنَعَ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: جَوَابُ السَّلَامِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، أَيْ لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ.فَإِطْلَاقُ الذِّكْرِ عَلَيْهِ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ سَبَبُهُ- أَيْ عَلَاقَتُهُ- الْمُشَابَهَةُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الثَّوَابُ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عِدَّةِ أُمُورٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَفْسِهِ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وَقَالَ: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}.
وَأُطْلِقَ عَلَى التَّوْرَاةِ فِي قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ}.
وَأُطْلِقَ عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ.قَالَ الرَّاغِبُ: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أَيِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: كُلُّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ ذِكْرٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِآلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أَيْ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مَنْ مَعِي وَالْكِتَابُ الْآخَرُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالصُّحُفُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِأَنْ تَتَّخِذُوا إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ أَيْضًا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي قوله تعالى: {قَدْأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا}.فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا وَصْفٌ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا أَنَّ الْكَلِمَةَ وَصْفٌ لِعِيسَى- عليه السلام-، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بُشِّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبِمَعْنَى الشَّرَفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَهُمَا يُذْكَرُ بِهِمَا.وَقَدْ فُسِّرَ بِهِمَا قوله تعالى: {لَقَدْأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَعْظُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ((: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} قَالَ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى: أَنَرُدُّ عَنْكُمُ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ.وَقَدْ فُسِّرَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «وَكَتَبَ اللَّهُ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» أَيْ لِأَنَّ اللَّوْحَ مَحَلٌّ لِلذِّكْرِ كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ.
وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَلِي:
1- الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
2- وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّيْءِ.
3- وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ.
4- وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الشُّهْرَةِ وَالصِّيتِ وَالشَّرَفِ.
وَأَمَّا الذِّكْرُ بِسَائِرِ الْمَعَانِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى (ر: قُرْآن.تَوْرَاة.إِنْجِيل.وَعْظ.دُعَاء).
أَوَّلًا: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
حُكْمُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
2- الذِّكْرُ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مُرَغَّبٌ فِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، إِلاَّ فِي حَالٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِاسْتِثْنَائِهَا، كَحَالِ الْجُلُوسِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَالِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَلَّقَ الْفَلَاحَ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ وَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّهُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ، وَأَخْبَرَ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنِ الذِّكْرِ بِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ ذِكْرَهُ تَعَالَى لِأَهْلِهِ جَزَاءَ ذِكْرِهِمْ لَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَهُ قَرِينَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَجَعَلَهُ مُفْتَتَحَهَا وَمُخْتَتَمَهَا، فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ يَرِدُ بَعْضُهَا أَثْنَاءَ هَذَا الْبَحْثِ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا هُنَا.وَيَزْدَادُ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ فِي مَوَاضِعَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ بَعْضُ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ.فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَضَمَّنَ شِرْكًا كَتَلْبِيَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ يَتَضَمَّنَ نَقْصًا، مِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ» فَإِنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ هُوَ السَّلَامُ، فَالسَّلَامُ يُطْلَبُ مِنْهُ وَلَا يُطْلَبُ لَهُ، بَلْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ نَحْوُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ.
وَقَدْ يَحْرُمُ الذِّكْرُ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ كَالذِّكْرِ فِي حَالِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة الْجُمُعَةِ).
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ مَكْرُوهًا وَذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ يَرِدُ ذِكْرُهَا أَثْنَاءَ الْبَحْثِ.
فَضَائِلُ الذِّكْرِ وَفَوَائِدُهُ:
3- تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ بَيْنَ شَعَائِرِ الدِّينِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الذِّكْرَ بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِتِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِابْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ.وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ».
قَالَ صَاحِبُ نُزُلِ الْأَبْرَارِ: أَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ الذِّكْرَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ أَكْثَرُهَا نَمَاءً وَبَرَكَةً وَأَرْفَعُهَا دَرَجَةً.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً» وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَفْضِيلَ الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ وُرُودِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَجَمَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَمَنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْجِهَادِ قَوِيَّ الْأَثَرِ فِيهِ فَأَفْضَلُ أَعْمَالِهِ الْجِهَادُ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَفْضَلُ أَعْمَالِهِ الصَّدَقَةُ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِ الذِّكْرُ وَالصَّلَاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَكِنْ يَدْفَعُ هَذَا تَصْرِيحُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِأَفْضَلِيَّةِ الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَجَمَعَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ، الذِّكْرُ الْكَامِلُ الْجَامِعُ بَيْنَ ذِكْرِ اللِّسَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاسْتِحْضَارِ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارٍ لِذَلِكَ، وَأَفْضَلِيَّةُ الْجِهَادِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الْمُجَرَّدِ.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ أَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِلاَّ وَالذِّكْرُ مُشْتَرَطٌ فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَلَيْسَ عَمَلُهُ كَامِلًا، فَصَارَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
وَأَفْضَلُ أَهْلِ كُلِّ عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَفْضَلُ الْمُصَلِّينَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَأَفْضَلُ الصَّائِمِينَ أَكْثَرُهُمْ فِي صَوْمِهِمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَكَذَا الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا وَمَنِ الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ فِي صَلَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا}.
الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسَاجِدِ «إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الذَّاكِرِينَ بِالْقُرْبِ وَالْوِلَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَأَنَّهُ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ نَسِيَهُ وَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.وَقَالَ: {نَسُوا اللَّهَفَنَسِيَهُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ». الرَّابِعُ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَصِّنُ الذَّاكِرَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ أَذَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَامَسَّهُمْطَائِفٌ مِنْالشَّيْطَانِ تَذَّكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا عَقَلَ فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ.
الْخَامِسُ: مَا فِي الذِّكْرِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ».
السَّادِسُ: أَنَّ الذِّكْرَ يَكْسُو الذَّاكِرِينَ الْجَلَالَةَ وَالْمَهَابَةَ وَيُورِثُهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ، وَيُحْيِي عِنْدَهُمْ الْمُرَاقَبَةَ لَهُ وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ وَالْهَيْبَةَ لَهُ وَتَتَنَزَّلُ السَّكِينَةُ.
وَفِي الذِّكْرِ حَيَاةُ قَلْبِ الذَّاكِرِ وَلِينُهُ، وَزَوَالُ قَسْوَتِهِ، وَفِيهِ شِفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ أَدْوَاءِ الْغَفْلَةِ وَحُبِّ الْمَعَاصِي، وَيُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَيُيَسِّرُ أَمْرَهَا، فَإِنَّهُ يُحَبِّبُهَا إِلَى الْإِنْسَانِ وَيُلِذُّهَا لَهُ، فَلَا يَجِدُ لَهَا مِنَ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ مَا يَجِدُهُ الْغَافِلُ.
وَفِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ».
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّارِكَ لِلذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِي حَيَاةٍ ذَاتِيَّةٍ فَلَيْسَ لِحَيَاتِهِ اعْتِبَارٌ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَمْوَاتِ حِسًّا الَّذِينَ أَجْسَادُهُمْ عُرْضَةٌ لِلْهَوَامِّ، وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَعَطِّلَةٌ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ.
السَّابِعُ: أَنَّ الذِّكْرَ أَيْسَرُ الْعِبَادَاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَجَلَّهَا وَأَفْضَلَهَا وَأَكْرَمَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ أَخَفُّ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ، فِيهِ يَحْصُلُ الْفَضْلُ لِلذَّاكِرِ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وَفِي حَالِ صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفِي حَالِ نَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ وَمَعَاشِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَاضْطِجَاعِهِ وَسَفَرِهِ، وَإِقَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَعُمُّ الْأَوْقَاتَ وَالْأَحْوَالَ مِثْلَهُ.
هَذَا وَيَأْتِي قَرِيبًا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ الْفَضْلِ نَوْعًا نَوْعًا.
مَا يَكُونُ بِهِ الذِّكْرُ:
4- الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ.وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِهِ اللِّسَانُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ عَلَى الْأَقَلِّ إِنْ كَانَ ذَا سَمْعٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَغَطٌ يَمْنَعُ السَّمَاعَ.
وَذِكْرُ اللِّسَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ يَتَأَدَّى بِهِ الذِّكْرُ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِمْرَارِ الذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْقَلْبِ.
قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ قَالَ كَذَا فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَذَا.فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ جَمِيعًا أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ دُونَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ أَيْ مَعَ عَدَمِ إِجْرَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ تَسْبِيحًا كَانَ أَوْ تَهْلِيلًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَأَفْضَلُ مِنْ إِمْرَارِ الذِّكْرِ عَلَى الْقَلْبِ دُونَ نُطْقٍ بِاللِّسَانِ.أَمَّا فِي حَالِ انْفِرَادِ أَحَدِ الذِّكْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ. فَقِيلَ: ذِكْرُ الْقَلْبِ أَفْضَلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، وَقِيلَ: لَا ثَوَابَ فِي الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ نَقَلَهُ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ عِيَاضٍ وَالْبُلْقِينِيِّ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللِّسَانِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ اللِّسَانِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الذِّكْرُ؛ لِأَنَّ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، بِخِلَافِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الِامْتِثَالُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ بِالْمَعْنَى الْمُبَيَّنِ، أَمَّا الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ بِمَعْنَى تَذَكُّرِ عَظَمَةِ اللَّهِ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِرَادَةِ الْفِعْلِ الَّذِي فِيهِ رِضَاهُ فَيَفْعَلُهُ، أَوِ الَّذِي فِيهِ سُخْطُهُ فَيَتْرُكُهُ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِهِ وَآيَاتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ فَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا النَّوْعُ لَا يُقَارِبُهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ، فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ.وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ». صِيَغُ الذِّكْرِ:
5- الْأَذْكَارُ الْقَوْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ، وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَعْلِيمُهَا وَالْأَمْرُ بِهَا، أَوْ وَرَدَ عَنْهُ قَوْلُهَا فِي مُنَاسَبَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ، وَمِنْ قَبِيلِ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ الْأَذْكَارُ الْقُرْآنِيَّةُ كَذِكْرِ رُكُوبِ الدَّابَّةِ فِي قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَذْكَارُ الْمَأْثُورَةُ:
6- الْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ أَفْرَدَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرُهُمَا.وَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ ذِكْرًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ لِلذِّكْرِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ- وَهُوَ الذِّكْرُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ- الشَّيْءُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ.وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ جُمَلًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان فِي بَابِ الدَّعَوَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ كِتَابِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى لَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. وَأَمَّا الْمَأْثُورَاتُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكَثِيرَةٌ وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ جُمْلَةٌ مِنْهَا.
ثُمَّ الْمَأْثُورَاتُ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، فَيُتَّبَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَاتِ أَنْوَاعٌ خُصَّتْ بِمَزِيدِ تَوْكِيدٍ:
التَّهْلِيلُ
7- وَهُوَ قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَمَعْنَاهَا نَفْيُ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلِّ أَحَدٍ، وَإِثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا يُعْبَدُ سِوَاهُ.
وَتُسَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.وَتُسَمَّى أَيْضًا كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ.
وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ خُلَاصَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَاأَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّنُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ لِلْقَادِرِ إِلاَّ بِالنُّطْقِ بِهَا مَعَ التَّصْدِيقِ بِمَعْنَاهَا بِالْجَنَانِ، وَقِيلَ: يَحْصُلُ بِالتَّصْدِيقِ بِهَا وَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ اللَّفْظِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَمَنْ شَهِدَ بِهَا وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ حُكْمًا (ر: إِسْلَام)، وَقَدْ جُعِلَتِ الشَّهَادَتَانِ جُزْءًا مِنَ الْأَذَانِ، وَهُمَا ذِكْرٌ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ (ر: أَذَان، وَتَشَهُّد).
وَفَضْلُ التَّهْلِيلِ عَظِيمٌ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
وَالتَّهْلِيلُ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ، وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْأَمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
عِنْدَ دُخُولِ السُّوقِ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ». وَمِنْهَا إِذَا أَصْبَحَ الْإِنْسَانُ وَإِذَا أَمْسَى، بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا إِذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
التَّسْبِيحُ:
8- وَهُوَ قَوْلُ «سُبْحَانَ اللَّهِ».وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَائِلَ يُنَزِّهُ اللَّهَ تَعَالَى تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ النَّقْصِ.وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلًا «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ- فِي قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ-: تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ».
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا كَمَا فِي: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَقَوْلِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}.
وَالْأَكْثَرُ قَرْنُ التَّسْبِيحِ بِاسْمٍ دَالٍّ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَوْ بِالْحَمْدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ وَتَخْلِيَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِيجَابِ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَالَ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} وَقَالَ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
وَفَضْلُ التَّسْبِيحِ عَظِيمٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ».
وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الْقُرْآنِ {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَ {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}.
وَفِي السُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» إِلَخْ.
وَالْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي السُّجُودِ «بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِفِعْلِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَجُعِلَ التَّسْبِيحُ لِمَنْ فِي الصَّلَاةِ إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ تَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ.
وَكَذَا إِنْ حَكَى نِسْبَةَ مَا فِيهِ نَقْصٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوااتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} أَوْ سَمِعَ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا وَرَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَانْخَنَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ».
وَفِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْبِيح).
التَّحْمِيدُ:
9- وَيُسَمَّى أَيْضًا الْحَمْدَلَةَ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نُطْقًا.وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَمْدِ لِلَّهِ: أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ أَوْ حَقِيقَةَ الْحَمْدِ أَوِ الْحَمْدَ الْمَعْهُودَ أَيِ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لَهُ، فَحَمْدُ غَيْرِهِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ النِّعَمِ مِنْهُ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ».وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَحَقِيقَةُ الْحَمْدِ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّبْجِيلِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَدْحَ، فَإِنَّ الْمَدْحَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ.وَقِيلَ الْحَمْدُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِقَصْدِ الثَّنَاءِ وَهَذَا أَصَحُّ.وَقِيلَ الْحَمْدُ فِي الْعُرْفِ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ أَيْضًا.
وَمَعْنَى الشُّكْرِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَمُّ مَوْرِدًا، أَيْ لِأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْحَمْدُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مُتَعَلَّقًا؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ وَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْجَمِيلِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّمْجِيدُ أَخَصُّ مِنَ التَّحْمِيدِ، فَإِنَّ التَّمْجِيدَ: الْمَدْحُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْمُلْكِ وَالسُّؤْدُدِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ.
وَالذِّكْرُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَشُكْرِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَضْلُهُ كَبِيرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} وَقَالَ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} «وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ: إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ» وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ».
وَتُسَنُّ الْحَمْدَلَةُ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ عَمَلٍ ذِي بَالٍ، فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَالْخُطْبَةِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَفِي التَّدْرِيسِ، وَالتَّصْنِيفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ وَعِنْدَ الْعُطَاسِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَاءِ، وَفِي افْتِتَاحِ الدُّعَاءِ وَاخْتِتَامِهِ وَعِنْدَ حُصُولِ النِّعَمِ أَوِ انْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ وَيُسَنُّ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ أَنْ يَقُولَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ).وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحْمِيد).
التَّكْبِيرُ:
10- وَهُوَ لُغَةً التَّعْظِيمُ، وَشَرْعًا قَوْلُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ).
وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقًا فِي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَقَوْلِهِ: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} وَقَوْلِهِ {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَفِي السُّنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ».
وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَمِنْهَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ وَتَكْبِيرَاتُ الِانْتِقَالِ فِيهَا، وَالتَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُكَبَّرُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ.
وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ طَوَافِهِ، وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ سَعْيِهِ، وَفِي أَثْنَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.وَيُكَبِّرُ الذَّابِحُ وَالصَّائِدُ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَسُنَّ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَيُسَنُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِير).
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ فَذَكَرَ مِنْهُنَّ التَّكْبِيرَ». الْحَوْقَلَةُ:
11- هِيَ قَوْلُ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».وَمَعْنَاهَا عَلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا تَحْوِيلَ لِلْعَبْدِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَفِي الْفُتُوحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَفِي لَفْظِهِ: بِعَوْنِ اللَّهِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ اسْتِسْلَامٌ وَتَفْوِيضٌ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ نَفْعٍ، إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».
وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهَا فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِهَا فِي قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}.وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَوْقَلَة).
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ:
12- هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْخَمْسَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ وَرَدَ تَسْمِيَتُهَا «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه-، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ.قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَهُنَّ يَحْطُطْنَ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ».وَفِي لَفْظٍ «خُذْهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ».
وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ مِنْهُنَّ أَحَادِيثُ جَامِعَةٌ، مِنْهَا أَنَّهُنَّ «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ
وَمِنْهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا» هُنَّ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ وَأَنَّهُنَّ «أَحَبُّ إِلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» وَأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ أَرْبَعًا فَذَكَرَهُنَّ.
وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِنَّ بَعْدَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي صِيغَةُ ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (ذكر 4)
ذِكْرٌ -4الْحِرْصُ عَلَى جَوَامِعِ الذِّكْرِ:
49- الْمُرَادُ بِجَوَامِعِ الذِّكْرِ مَا يُقَيِّدُ فِيهِ الذَّاكِرُ لَفْظَ الذِّكْرِ بِعَدَدٍ كَبِيرٍ أَوْ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَمَا أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: مَا زِلْتُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».
وَنَحْوُ مَا وَرَدَ «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ».وَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى».
قَالَ الْأَبِيُّ: يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْجَامِعَ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ.وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ.ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ لَا أَنَّهَا مِثْلُ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: عَدَدَ كَذَا، وَزِنَةَ كَذَا كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَفَضْلُ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.قَالَ: وَلَا يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قَالَ هَذَا أَخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرًا لِأُجُورِهِمْ دُونَ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النُّوَيْرِيِّ قَوْلَهُ: قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ، لَكِنْ لَوْ نَذَرَ إِنْسَانٌ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ هُنَا مَقْصُودٌ.وَجَعَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَظِيرَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَلْفَ صَلَاةٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَلَاةً وَاحِدَةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ.
كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ:
50- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجَسٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ نَجَسٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا لِلْإِهَانَةِ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ رِدَّةٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
وَحَيْثُ كُتِبَ بِنَجَسٍ وَجَبَ غَسْلُهُ بِطَاهِرٍ أَوْ حَرْقُهُ لِصِيَانَتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَتَنَجَّسَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَاءٌ نَجَسٌ أَوْ نَارٌ نَجِسَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْغَسْلُ وَالتَّحْرِيقُ بِهِمَا وَيُعْدَلُ إِلَى دَفْنِ الذِّكْرِ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لَا تَطَؤُهُ الْأَقْدَامُ.وَلَا تُكْرَهُ فِي الذِّكْرِ كِتَابَتُهُ فِي السُّتُورِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَسْجِدٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ تُدَاسُ، فَإِنْ كَانَتْ تُدَاسُ كُرِهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَيَحْرُمُ دَوْسُ الذِّكْرِ.قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرٌ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّي.
وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شِرَاءَ ثَوْبٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ وَكَرِهَ بَيْعَ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ.وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ مَسُّ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَجَسٍ.وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الذِّكْرُ أَوْ مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ لَوْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَفِي تَعْلِيقِ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ خِلَافٌ. (ر: تَعْوِيذ ف 23).
الْأَذْكَارُ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ:
51- رَتَّبَ الشَّارِعُ كَثِيرًا مِنَ الْأَذْكَارِ، فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ كَأَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالظَّهِيرَةِ وَدُخُولِ الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ بِحَسَبِ الْمَكَانِ.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ فِي الْعِبَادَاتِ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَأَذْكَارُ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ مِنْهُ وَالْحَجِّ.وَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ، كَأَذْكَارِ النَّوْمِ وَالِاسْتِيقَاظِ مِنْهُ، وَأَذْكَارِ الْمَلْبَسِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ.وَأَذْكَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَأَذْكَارِ الْعُطَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَأَذْكَارٍ تُقَالُ عِنْدَ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَعِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَعِنْدَ السَّفَرِ وَالنُّزُولِ، وَالرُّكُوبِ وَالْعَوْدَةِ، وَأَذْكَارِ الْمَجَالِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَقَدْ أَلَّفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ تَآلِيفَ مَشْهُورَةً.وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوَاضِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ أَوْ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْأَذْكَارِ.
أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الذِّكْرِ:
52- مَا كَانَ مِنَ الْأَذْكَارِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَا كَانَ عَلَى مَسْنُونٍ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ الْقُرْآنِ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ حَيْثُ كَانَ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ.
ثَانِيًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ:
53- وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ أَوِ الْحِكَايَةِ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ أَوِ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ، وَبِحَسَبِ مَا يَقُولُهُ عَنْهُ.وَالْأَصْلُ أَنَّ الذِّكْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَاحٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ الْأُخْرَى: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَاجِبًا كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِحَقٍّ.فَإِنَّهَا ذِكْرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَذِكْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ، كَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَكَذِكْرِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِمَا فِيهِ لِيُعْرَفَ، وَذِكْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِمْ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَالنُّطْقِ بِأَمْرٍ فِيهِ شُبْهَةُ التَّحْرِيمِ أَوِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْغِيبَةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» وَقَدْ يَكُونُ مُكَفِّرًا كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ كِتَابَهُ بِاسْتِهْزَاءٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ فَيَسْتَحِقُّ قَائِلُهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا.وَانْظُرْ: (غِيبَة، رِدَّة، اسْتِخْفَاف).
ثَالِثًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ:
54- وَهُوَ يُقَابِلُ النِّسْيَانَ.وَالذَّاكِرُ فِي حَالِ الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِثْمِ، وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
أَمَّا النِّسْيَانُ فَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاسْتِحْضَارِ وَقْتَ الْحَاجَةِ.قَالَ شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ مُذَكِّرٍ فَلَا عُذْرَ، كَأَكْلِ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إِذْ هَيْئَاتُهَا مُذَكِّرَةٌ، وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا إِذِ الْإِحْرَامُ مُذَكِّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُذَكِّرٌ فَيَكُونُ عُذْرًا، كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، وَسَلَامِ الْمُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى نَاسِيًا وَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَاسِيًا.
وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِسْيَان).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّذَكُّرِ:
55- الذِّكْرُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يَطْرَأُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْإِنْسَانِ دُونَ إِرَادَتِهِ، لَكِنْ قَدْ يَتَكَلَّفُ التَّذَكُّرَ فَيَتَذَكَّرُ، وَمِنْ هُنَا فَقَدْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَذَكُّرِ نِعَمِهِ لِيُشْكَرَ وَلِيَعْرِفَ الْإِنْسَانُ حَقَّ رَبِّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَأَمَرَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْهَوْلِ وَالْحِسَابِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمَصَارِعِ الظَّالِمِينَ مِمَّنْ سَاقَ ذِكْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ».
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ».وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَرِيضًا ذِكْرُ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نَصْبَ عَيْنَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَأَدْعَى لِلطَّاعَةِ.
رَابِعًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ:
56- امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ.وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَخُلْدُ الْمَكَانَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ.وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ فَكُلُّ أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ هُنَا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا، وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَثَنَاءً حَسَنًا.فَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} عَلَى اسْتِحْبَابِ اكْتِسَابِ مَا يُورِثُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُثْنِي عَلَى مَنْ تَمَيَّزَ بِفِعْلٍ أَوْ فَضْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمَدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ سُرُورَهُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: «إِنِّي أَكِلُ قَوْمًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حُمْرَ النَّعَمِ».«وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ».
لَكِنْ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أُمُورًا:
الْأَوَّلُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ بِمَا لَيْسَ حَقًّا وَمَا لَمْ يَفْعَلْ، بِأَنْ يُرَائِيَ فَيُظْهِرَ لِلنَّاسِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَوْ يَدَّعِيَ بِأَفْعَالِ خَيْرٍ لَمْ يَفْعَلْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَلِ مُجَرَّدَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، بَلْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسُرُّهُ أَنْ يَظْهَرَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، أَوْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ مِنَ الْفَضْلِ سُرُورًا بِالْخَيْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ الْمَجْدَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ السُّوءَ.فَأَمَّا رَبِيعَةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إِلاَّ هَذَا؟ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يَمْلِكُهُ، هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ الْعَمَلَ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْهُ فِيهَا فَيَشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ: أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا لِلْأَكْلِ.وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَ بِالْعِبَادَةِ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِهِ وَالْخَلَاصِ مِنْ نَارِهِ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُنَافِيًا لِلْإِخْلَاصِ.
فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُجَرَّدَ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُحْبِطًا لِأَجْرِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا وَفِيهِ «فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا فَعَلَ الْعِبَادَةَ لِطَلَبِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةً، وَبَيْنَ مَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةً، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (سلس)
سَلَسالتَّعْرِيفُ:
1- السَّلَسُ فِي اللُّغَةِ: السُّهُولَةُ وَاللُّيُونَةُ وَالِانْقِيَادُ وَالِاسْتِرْسَالُ وَعَدَمُ الِاسْتِمْسَاكِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: سَلِسَ سَلَسًا، مِنْ بَابِ تَعِبَ: سَهُلَ وَلَانَ فَهُوَ سَلِسٌ، وَرَجُلٌ سَلِسٌ بِالْكَسْرِ: بَيِّنُ السَّلَسِ بِالْفَتْحِ، وَالسَّلَاسَةُ أَيْضًا: سُهُولَةُ الْخُلُقِ، وَسَلَسُ الْبَوْلِ: اسْتِرْسَالُهُ وَعَدَمُ اسْتِمْسَاكِهِ؛ لِحُدُوثِ مَرَضٍ بِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ سَلِسٌ، بِالْكَسْرِ.
وَالسَّلَسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِرْسَالُ الْخَارِجِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ أَوْ وَدْيٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ وَقَدْ يُطْلَقُ السَّلَسُ عَلَى الْخَارِجِ نَفْسِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ- الِاسْتِحَاضَةُ:
2- الِاسْتِحَاضَةُ: هِيَ سَيَلَانُ الدَّمِ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَهُوَ دَمُ فَسَادٍ.
ب- الْمَرَضُ:
3- الْمَرَضُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ.
ج- النَّجَاسَةُ:
4- النَّجَاسَةُ: إِمَّا عَيْنِيَّةٌ، وَهِيَ: مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ، أَوْ حُكْمِيَّةٌ، وَهِيَ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْمَحَلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
1- الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ مِمَّنْ بِهِ سَلَسٌ:
5- السَّلَسُ: حَدَثٌ دَائِمٌ، صَاحِبُهُ مَعْذُورٌ، فَيُعَامَلُ فِي وُضُوئِهِ وَعِبَادَتِهِ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَخْتَلِفُ عَنْ مُعَامَلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَصِحَّاءِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، أَوِ اسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ، أَوِ انْفِلَاتُ الرِّيحِ، أَوْ رُعَافٌ دَائِمٌ، أَوْ جُرْحٌ لَا يَرْقَأُ، يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ»
وَيُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَيُصَلُّونَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءُوا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ عَلَى السَّيَلَانِ وَصَلَّى عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَتَمَّ الِانْقِطَاعُ بِاسْتِيعَابِ الْوَقْتِ الثَّانِي أَعَادَ، وَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَتَمَّ الِانْقِطَاعُ.
وَيَبْطُلُ الْوُضُوءُ عِنْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْمَفْرُوضَةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبْطُلُ بِهِمَا.
وَيَبْقَى الْوُضُوءُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بِشَرْطَيْنِ: -
أَنْ يَتَوَضَّأَ لِعُذْرِهِ وَأَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ حَدَثٌ آخَرُ كَخُرُوجِ رِيحٍ أَوْ سَيَلَانِ دَمٍ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّلَسَ إِنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَانِ وَلَازَمَ أَقَلَّهُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَإِنْ لَازَمَ النِّصْفَ- وَأَوْلَى الْجُلَّ- أَوِ الْكُلَّ فَلَا يَنْقُضُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ مُطْلَقًا كَسَلَسِ مَذْيٍ لِطُولِ عُزُوبَةٍ أَوْ مَرَضٍ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَمْكَنَهُ رَفْعُهُ بِتَدَاوٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ تَزَوُّجٍ، وَيُغْتَفَرُ لَهُ زَمَنَ التَّدَاوِي وَالتَّزَوُّجِ، وَنُدِبَ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِنْ لَازَمَ السَّلَسُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ وَأَوْلَى نِصْفَهُ، لَا إِنْ عَمَّهُ فَلَا يُنْدَبُ، وَمَحَلُّ النَّدْبِ فِي مُلَازَمَةِ الْأَكْثَرِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ، لَا إِنْ شَقَّ الْوُضُوءُ بِبَرْدٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يُنْدَبُ، وَقَدْ تَرَدَّدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُلَازَمَةِ مِنْ دَوَامٍ وَكَثْرَةٍ وَمُسَاوَاةٍ وَقِلَّةٍ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً وَهُوَ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، أَوِ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا لَا بِقَيْدِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُعْتَبَرُ حَتَّى مِنَ الطُّلُوعِ إِلَى الزَّوَالِ، وَفِي قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَنْقُضُ السَّلَسُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ يُنْدَبُ الْوُضُوءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُلَازِمْ كُلَّ الزَّمَانِ فَلَا يُنْدَبُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةَ شُرُوطٍ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَهِيَ: الشَّدُّ، وَالْعَصْبُ، وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَتُجْزِئُ قَبْلَهُ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ، وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْأَصَحِّ.
فَلَوْ أَخَّرَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي قِبْلَتِهِ وَالذَّهَابِ إِلَى مَسْجِدٍ وَتَحْصِيلِ السُّتْرَةِ، لَمْ يَضُرَّ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ بِذَلِكَ مُقَصِّرًا، وَيَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَلَوْ مَنْذُورًا كَالْمُتَيَمِّمِ؛ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ فَقَطْ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَهَا حُكْمُ النَّافِلَةِ، وَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ وَقْتًا يَسَعُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ كَانْقِطَاعِ الدَّمِ مَثَلًا وَجَبَ الْوُضُوءُ وَإِزَالَةُ مَا عَلَى الْفَرْجِ مِنَ الدَّمِ وَنَحْوِهِ.
وَمَنْ أَصَابَهُ سَلَسُ مَنِيٍّ يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ لِكُلِّ فَرْضٍ، وَلَوِ اسْتَمْسَكَ الْحَدَثُ بِالْجُلُوسِ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ بِلَا إِعَادَةٍ، وَيَنْوِي الْمَعْذُورُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ لَا رَفْعَ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ دَائِمُ الْحَدَثِ لَا يَرْفَعُهُ وُضُوءُهُ وَإِنَّمَا يُبِيحُ لَهُ الْعِبَادَةَ.
وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ فَرْضٍ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْفُقَهَاءُ سِوَى الْمَالِكِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِلْمَعْذُورِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِهِ كَمَا سَبَقَ، وَالْوُضُوءُ يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ.
إِمَامَةُ مَنْ بِهِ سَلَسٌ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ كَذَلِكَ فَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ سَلِيمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَرِيضِ لِصَلَاةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَصِحَّاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْجَوَازِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِلَ الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الْأَدَاءِ، فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْمَعْذُورِ وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ: الْجَوَازُ لِصِحَّةِ صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الْأَعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلَا يَنْصَرِفُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِلْأَصِحَّاءِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (شؤم)
شُؤْمالتَّعْرِيفُ:
1- الشُّؤْمُ لُغَةً: الشَّرُّ، وَرَجُلٌ مَشْئُومٌ: غَيْرُ مُبَارَكٍ، وَتَشَاءَمَ الْقَوْمُ بِهِ مِثْلَ تَطَيَّرُوا بِهِ، وَالتَّشَاؤُمُ تَوَقُّعُ الشَّرِّ.فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ تَطَيَّرَتْ بِأَنْ مَرَّتْ بِجَاثِمِ الطَّيْرِ، فَتُثِيرُهَا لِتَسْتَفِيدَ: هَلْ تَمْضِي أَوْ تَرْجِعُ؟ فَإِنْ ذَهَبَ الطَّيْرُ شِمَالًا تَشَاءَمُوا فَرَجَعُوا وَإِنْ ذَهَبَ يَمِينًا تَيَامَنُوا فَمَضَوْا.فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «لَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَّةَ» وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَأْلُ:
2- الْفَأْلُ: قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُسْتَبْشَرُ بِهِ.
يُقَالُ: تَفَاءَلَ بِالشَّيْءِ تَفَاؤُلًا وَفَأْلًا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُكْرَهُ، يُقَالُ: لَا فَأْلَ عَلَيْكَ؛ أَيْ: لَا ضَيْرَ عَلَيْكَ.وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ» وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ فَيَتَيَمَّنَ بِهَا، وَهُوَ ضِدُّ الطِّيَرَةِ، كَأَنْ يَسْمَعَ مَرِيضٌ: يَا سَالِمُ، أَوْ طَالِبٌ: يَا وَاجِدُ.«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ».
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ دُونَ الْفَأْلِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَرْضًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا رُئِيَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ رَجُلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الِاسْمِ رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ».
وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ».وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: إِنَّهُ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ: الْأَوْلَى الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّشَاؤُمَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمَ اعْتِقَادُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا.وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلَا مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلاَّ تَطَيَّرَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ».قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَتْ تَصُدُّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَنَفَى الشَّرْعُ ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ بِنَفْعٍ وَلَا بِضُرٍّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا طِيَرَةَ».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» أَيْ: اعْتِقَادُ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ إِذَا عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا مُعْتَقِدِينَ تَأْثِيرَهَا فَهُوَ شِرْكٌ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا أَثَرًا فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ، وَأَمَّا الْفَأْلُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْكَلِمَةِ الصَّالِحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالطَّيِّبَةِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَكُونُ الْفَأْلُ فِيمَا يَسُرُّ وَفِيمَا يَسُوءُ، وَالْغَالِبُ فِي السُّرُورِ، وَالطِّيَرَةُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَسُوءُ.قَالُوا: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي السُّرُورِ يُقَالُ: تَفَاءَلْتُ بِكَذَا، بِالتَّخْفِيفِ، وَتَفَأَّلْت بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أُحِبُّ الْفَأْلَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَّلَ فَائِدَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلَهُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ أَوْ ضَعِيفٍ، فَهُوَ عَلَى خَيْرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ غَلَطَ فِي جِهَةِ الرَّجَاءِ، فَالرَّجَاءُ لَهُ خَيْرٌ، وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ رَجَاءَهُ وَأَمَلَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ شَرٌّ لَهُ، وَالطِّيَرَةُ فِيهَا سُوءُ الظَّنِّ، وَتَوَقُّعُ الْبَلَاءِ.وَانْظُرْ أَيْضًا: (تَطَيُّر.تَفَاؤُل).
شُؤْمُ الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ:
4- قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ».وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ» حَمَلَ مَالِكٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَجْهُهُ أَنَّ «أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَعْلَمَهُمْ أَنْ لَا طِيَرَةَ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا بَقِيَتِ الطِّيَرَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ»: فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «إِنَّمَا عَنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ أَكْثَرُ مَا يَتَطَيَّرُ بِهِ النَّاسُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ شُؤْمَ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَلُودٍ، وَشُؤْمَ الْفَرَسِ إِذَا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتْ ضَرُوبًا، وَشُؤْمَ الدَّارِ جَارُ السُّوءِ أَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَنْكَرَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- عِنْدَمَا سَمِعَتْهُ وَاعْتَبَرَتْهُ مِنْ أَوْهَامِ رَاوِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي رِوَايَتِهِ.فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: «الطِّيَرَةُ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ» فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَتْ: «مَا قَالَهُ».وَإِنَّمَا قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ».
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ مُوَافَقَةِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ.وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُبْعَثْ لِيُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاصِلَةِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ.
التَّسْمِيَةُ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِهِ:
5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِنَفْيِهِ أَوْ إِثْبَاتِهِ، كَبَرَكَةٍ وَغَنِيمَةٍ، وَنَافِعٍ، وَيَسَارٍ، وَحَرْبٍ، وَقُرَّةٍ، وَشِهَابٍ وَحِمَارٍ؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا، وَلَا أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ، فَلَا يَكُونُ.فَتَقُولُ: لَا».
فَرُبَّمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى التَّشَاؤُمِ وَالتَّطَيُّرِ، فَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ مَا يَطْرُقُ إِلَى الطِّيَرَةِ إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: «أَنَّ الْآذِنَ عَلَى مَشْرَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَبْدٌ يُقَالُ لَهُ: رَبَاحٌ».وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (تَسْمِيَة ف 12).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (شك 2)
شَكٌّ -2الشَّكُّ فِي الْحَجِّ:
أ- الشَّكُّ فِي نَوْعِ الْإِحْرَامِ:
26- إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْإِفْرَادِ أَوْ بِالتَّمَتُّعِ أَوْ بِالْقِرَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّوَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْقِرَانِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْرَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ جَعْلُهُ عُمْرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَتَحَرَّى فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْعِبَادَةِ فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَوَاقِفُ الْأَئِمَّةِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا إِنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِنَّ صَرْفَهُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ مَعَ رَكْعَتَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
ب- الشَّكُّ فِي دُخُولِ ذِي الْحِجَّةِ:
27- لَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ إِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ لَيْلَةَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنْ يَوْمَ وُقُوفِهِمْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ».
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ الْمُتَمَثِّلَ فِي صِحَّةِ الْوُقُوفِ كَانَ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا.أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَلَا يُجْزِيهِمْ وُقُوفُهُمْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ: أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِ الَّذِينَ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَقَبُولِهِمْ شَهَادَةَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ.
ج- الشَّكُّ فِي الطَّوَافِ:
28- إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلَاةِ.وَلِأَنَّ الشَّكَّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بَعْدَ طَوَافِهِ رَجَعَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَفِي الْمُوَطَّأِ: مَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَ مَا رَكَعَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَلْيُعِدْ لِيَتِمَّ طَوَافُهُ عَلَى الْيَقِينِ ثُمَّ لِيُعِدَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لِطَوَافٍ إِلاَّ بَعْدَ إِكْمَالِ السَّبْعِ.وَإِذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ.
الشَّكُّ فِي الذَّبَائِحِ:
29- مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا لِحُصُولِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ.وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْمُسْلِمُ طَرِيدَةً بِآلَةِ صَيْدٍ فَسَقَطَتْ فِي مَاءٍ وَمَاتَتْ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، فَلَا تُؤْكَلُ لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ.وَلَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَمَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَابِحِهَا لَا تَحِلُّ إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ.
الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ:
30- شَكُّ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ أَصْلِ التَّطْلِيقِ، أَيْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ- مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ- هَلْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ لَمْ تَحِلَّ لَهُ- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ- إِلاَّ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ثَلَاثًا.عَمَلًا بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَيُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ لَهُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ كَأَنْ يَتَرَدَّدَ مَثَلًا فِي كَوْنِهَا بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا بِهَا.
وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ- فِي هَذَا الْمَعْنَى- أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ طَلَاقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ طَلَاقٍ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ، وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ، وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَائِنُ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ بَائِنًا.
الشَّكُّ فِي الرَّضَاعِ:
31- الِاحْتِيَاطُ لِنَفْيِ الرِّيبَةِ فِي الْأَبْضَاعِ مُتَأَكِّدٌ وَيَزْدَادُ الْأَمْرُ تَأْكِيدًا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَحَارِمِ.
فَلَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ أَوْ فِي عَدَدِهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّضَاعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَعَدَمُ حُصُولِ الْمِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكُهَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».
وَيَرَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَمَا نَاظَرَهُ قَدْ يُعَدُّ- فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، مِنْ ذَلِكَ مَثَلًا مَا لَوْ شَكَّ الرَّجُلُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا عَلَيْهِ مَعًا.
الشَّكُّ فِي الْيَمِينِ
32- إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَصْلِ الْيَمِينِ هَلْ وَقَعَتْ أَوْ لَا: كَشَكِّهِ فِي وُقُوعِ الْحَلِفِ أَوِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الشَّاكِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا إِذَا حَلَفَ وَحَنِثَ، وَشَكَّ هَلْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صَدَقَةٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- طَلَاقُ نِسَائِهِ وَعِتْقُ رَقِيقِهِ وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْتَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ إِذِ الْحَالِفُ- فِي رَأْيِهِمْ- يُؤْمَرُ بِإِنْفَاذِ الْأَيْمَانِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الشَّاكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا يَقَعَانِ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لَا تَجِبُ مَعَ الشَّكِّ أَيْضًا إِذِ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَيُضِيفُونَ إِلَى هَذَا الْحَلِفَ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ مَعْلُومٍ مَعَ الشَّكِّ فِي الْقَسَمِ هَلْ كَانَ بِاللَّهِ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَكَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ الْمَحْظُورِ.
الشَّكُّ فِي النَّذْرِ:
33- لَوْ شَكَّ النَّاذِرُ فِي نَوْعِ الْمَنْذُورِ هَلْ هُوَ صَلَاةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ عِتْقٌ؟ تَلْزَمُهُ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ- كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَنْذُورِ كَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ.
الشَّكُّ فِي الْوَصِيَّةِ:
34- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى وَأَخْبَرَ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ مَثَلًا فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ-: إِنَّ لَهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا خَطَأٌ.وَالْخَطَأُ لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِيهَا، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذَا الرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ حَيْثُ إِنَّ صِحَّتَهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ.
الشَّكُّ فِي الدَّعْوَى، أَوْ مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَلِّ الشَّهَادَةِ:
35- أ- لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَشَكَّ الْمَدِينُ فِي قَدْرِهِ يَنْبَغِي لُزُومُ إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ.قَالَ الْحَمَوِيُّ: قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَرُّعِ وَالْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا- هُوَ أَكْثَرُ الْمَبْلَغَيْنِ: فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ دَائِرًا بَيْنَ عَشَرَةٍ وَخَمْسَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ الْعَشَرَةُ لِدُخُولِ الْخَمْسَةِ فِيهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْأَكْثَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقَلِّ مُتَيَقَّنًا دَائِمًا رَغْمَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِمَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَدِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ وَلَا يَحْلِفَ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ أَصَرَّ خَصْمُهُ عَلَى إِحْلَافِهِ حَلَفَ إِنْ كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، أَمَّا إِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّعْوَى مُحِقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ.
ب- لَوِ اشْتَرَى أَحَدٌ حَيَوَانًا أَوْ مَتَاعًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ رَدَّهُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَيْبٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ لِأَنَّ السَّلَامَةَ هِيَ الْأَصْلُ الْمُتَيَقَّنُ فَلَا يَثْبُتُ الْعَيْبُ بِالشَّكِّ.
ج- لَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَدَمَ وُصُولِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ الْمُقَرَّرَتَيْنِ لَهَا فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْقَوْلُ لَهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَيَقَّنُ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَأَمَّا دَعْوَاهُ فَمَشْكُوكٌ فِيهَا وَلَا يَزُولُ يَقِينٌ بِشَكٍّ.
د- إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ يَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا مَدِينٌ لِعُمَرَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَلِيٍّ، وَإِنْ خَامَرَهُ الشَّكُّ فِي وَفَائِهَا أَوْ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهَا إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالشَّكِّ فِي جَانِبِ الْيَقِينِ السَّابِقِ.
الشَّكُّ فِي الشَّهَادَةِ:
36- لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِينَارٍ- مَثَلًا- فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِيمَا أَظُنُّ، أَوْ حَسَبَ ظَنِّي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِلشَّكِّ الَّذِي دَاخَلَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى لَفْظِهَا؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّهَادَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ لَا غَيْرُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالْقَسَمُ وَالْإِخْبَارُ لِلْحَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَا أُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَعَيَّنَ لَفْظُ أَشْهَدُ.
وَقَدْ بَيَّنَ سَحْنُونٌ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَسَأَلَ الْخَصْمُ إِدْخَالَهَا فِي نِسَاءٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِهِنَّ فَقَالُوا: شَهِدْنَا عَلَيْهَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا وَلَا نَدْرِي هَلْ نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهَا فَلَا نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ- مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَيْهَا وَإِلاَّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلشَّكِّ، أَمَّا لَوْ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ تَكُونَ تَغَيَّرَتْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: إِنْ شَكَكْتُمْ وَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّهَا ابْنَةُ فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ هَذَا إِلاَّ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حِينِ شَهِدُوا عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- وَقُبِلَتْ.
وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الشَّكِّ تَسْلُبُ صِفَةَ الْعَدَالَةِ لِلشَّاهِدِ.وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ أَكَّدَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ.وَوَضَعُوا قُيُودًا لِقَبُولِ شَهَادَةِ السَّمَاعِ لِلشَّكِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُدَاخِلَهَا.
الشَّكُّ فِي النَّسَبِ:
37- أ- كُلُّ مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ مِنَ الزَّوْجِ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ زَائِلًا بِيَقِينٍ وَمَا زَالَ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَالِ الْفِرَاشِ وَإِنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ.فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلًا بِيَقِينٍ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ.
ب- إِذَا ادَّعَى إِنْسَانٌ نَسَبَ لَقِيطٍ أُلْحِقَ بِهِ؛ لِانْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى، فَإِذَا جَاءَ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَاهُ فَلَمْ يَزُلْ نَسَبُهُ عَنِ الْأَوَّلِ- رَغْمَ الشَّكِّ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ دَعْوَى الثَّانِي- لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ فَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِلاَّ إِذَا شَهِدَ الْقَائِفُونَ بِأَنَّهُ لِلثَّانِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ الْقِيَافَةَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةً فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ.وَإِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ اثْنَانِ فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُونَ بِهِمَا صَحَّ ذَلِكَ شَرْعًا وَكَانَ ابْنَهُمَا يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلْآثَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
الشَّكُّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ:
38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: تُدْرَأُ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها- قَالَتْ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُوجِبُ أَوَّلًا: اعْتِمَادَ الْيَقِينِ- مَا أَمْكَنَ- فِي نِسْبَةِ الْجَرِيمَةِ إِلَى الْمُتَّهَمِ، وَثَانِيًا: أَنَّ الشَّكَّ- مَهْمَا كَانَتْ نِسْبَتُهُ وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّهُ وَمَهْمَا كَانَ طَرِيقُهُ- يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ- هُنَاكَ- مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَتْهُ شُبْهَةٌ وَإِنْ ضَعُفَتْ- غَلَبَ- حُكْمُهَا وَدَخَلَ صَاحِبُهَا فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ.
وَثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْعَفْوِ أَفْضَلُ شَرْعًا مِنَ الْخَطَأِ فِي الْعُقُوبَةِ حَيْثُ إِنَّ تَبْرِئَةَ الْمُجْرِمِ فِعْلًا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُعَاقَبَةِ الْبَرِيءِ.وَهَذَا الْمَبْدَأُ نَجِدُ تَطْبِيقَاتِهِ مَبْثُوثَةً فِي أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَأَقْضِيَةِ التَّابِعِينَ وَفَتَاوَى الْمُجْتَهِدِينَ، مِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَالِي الْبَصْرَةِ الَّذِي اتُّهِمَ بِالزِّنَا مَعَ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْوَالِيَ وَشُهُودَ التُّهْمَةِ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِرُؤْيَةِ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ الرَّابِعَ الَّذِي يَكْتَمِلُ بِهِ النِّصَابُ قَالَ: لَمْ أَرَ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ بَلْ رَأَيْتُ رِيبَةً وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلَا أَعْرِفُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَأَسْقَطَ عُمَرُ التُّهْمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَحَفِظَ لَهُ بَرَاءَتَهُ وَطَهَارَتَهُ، وَعَاقَبَ الشُّهُودَ الثَّلَاثَةَ عُقُوبَةَ الْقَذْفِ.
وَعُمَرُ نَفْسُهُ لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ عَامَ الرَّمَادَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْمَجَاعَةِ الْعَامَّةِ قَرِينَةً عَلَى الِاضْطِرَارِ، وَالِاضْطِرَارُ شُبْهَةٌ فِي السَّرِقَةِ تَمْنَعُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ بَلْ تُبِيحُ لَهُ السَّرِقَةَ فِي حُدُودِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ أَبِيهِ خُفْيَةً ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ جَامَعَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا، فَلَا حَدَّ- فِي رَأْيِهِ- عَلَى مَنْ وَطِئَ مُحَرَّمَةً بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ: كَوَطْءِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ مَثَلًا، وَفِي رَأْيِ الصَّاحِبِينَ عَلَيْهِ الْحَدُّ- إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
الشَّكُّ لَا تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ: أَوِ الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالشَّكِّ:
39- هُوَ لَفْظُ قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فَرَّعُوا عَلَيْهَا الْفُرُوعَ التَّالِيَةَ:
أ- وُجُوبُ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
ب- مَنْ شَكَّ فِي غَسْلِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ- مَعَ ذَلِكَ- لَا يُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا.
ج- وُجُوبُ الْإِتْمَامِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ.وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (صيغة)
صِيغَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّيغَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ الشَّيْءَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً، وَصُغْتُهُ أَصُوغُهُ صِيَاغَةً وَصِيغَةً، وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنُ الصِّيغَةِ، أَيْ حَسَنُ الْعَمَلِ.وَصِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا.وَصِيغَةُ الْكَلِمَةِ: هَيْئَتُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ تَرْتِيبِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا، وَالْجَمْعُ صِيَغٌ، قَالُوا: اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْكَلَامِ، أَيْ: تَرَاكِيبُهُ وَعِبَارَاتُهُ.
وَاصْطِلَاحًا: لَمْ نَعْرِفْ لِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفًا جَامِعًا لِلصِّيغَةِ يَشْمَلُ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي تُعْرِبُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ تَصَرُّفِهِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِبَارَةُ:
2- فِي اللُّغَةِ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَالِاسْمُ الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ أَيْ يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ أَيِ الْبَيَانِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عِبَارَةٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
ب- اللَّفْظُ:
3- فِي اللُّغَةِ: اللَّفْظُ أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، وَلَفَظَ بِالشَّيْءِ يَلْفِظُ: تَكَلَّمَ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- الصِّيغَةُ: رُكْنٌ فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا فِي إِنْشَائِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ أَحْكَامِ
تَنَوُّعِ الصِّيغَةِ بِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ
5- لَمَّا كَانَتِ الصِّيغَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى نَوْعِ الِالْتِزَامِ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الِالْتِزَامَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- بَعْضُ الِالْتِزَامَاتِ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِثْبَات 10) مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة).
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا صِيَغُ الْأَيْمَانِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان)، وَمُصْطَلَحَ: (لِعَان).
وَمِنْ ذَلِكَ صِيغَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ السَّلَمَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إِلاَّ شَيْئَيْنِ: النِّكَاحَ وَالسَّلَمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَوَاج (نِكَاح) (وَسَلَم).
6- ب- هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِعَارَةِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ- غَيْرُ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ- لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْتِزَامِ الدَّيْنِ ضَمَانٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَقْلِهِ حَوَالَةٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُلِ عَنْهُ إِبْرَاءٌ وَهَكَذَا.
وَمِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَابِ الْبَيْعِ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: رَضِيتُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ أَوْ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِثَوْبِكَ هَذَا، فَرَضِيَ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْحَطَّابِ: لَيْسَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ بَلْ هِيَ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ.
دَلَالَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لَكِنْ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ، فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ- هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْحَطَّابِ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ وَعْدًا.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِدَلَالَةِ (بِعْنِي) عَلَى الرِّضَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ إِيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُولُ: إِنْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الطَّلَبِ فَقَالَ بِعْنِي ثَوْبَكَ فَقَالَ بِعْتُكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ.
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد).
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ:
8- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ
وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَقْد).
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
9- أ- أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ، إِذْ مِنَ Cالْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ..وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
وَيَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَصِحُّ إِيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اللَّفْظُ، إِذِ الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لَاغٍ، وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ.
وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ خِلَافًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ.
أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِلِ وَاللاَّعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقٍ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا فَإِنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ Cوَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ إِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ.
أَمَّا عُقُودُ الْهَازِلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِلِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (عَقْد- هَزْل).
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَيَنْزِلُ كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ، عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الرِّدَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى Cنَفْسِهِ.وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إِسْلَامِهِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ، فَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ وَالْعُقُودُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
أَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ أَوِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَقْد- سُكْر).
ج- أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى Cإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ
10- حِينَ تُطْلَقُ الصِّيغَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَمَّا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ، إِذْ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَلِي:
أ- الْكِتَابَةُ:
11- الْكِتَابَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ هِيَ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْكِتَابَةُ الَّتِي لَا تُقْرَأُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ تَصَرُّفٍ.
وَإِنَّمَا تَصِحُّ التَّصَرُّفَاتُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ لِأَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فَنَزَلَتِ الْكِتَابَةُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّC- صلى الله عليه وسلم- بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِتَابَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ مُطْلَقًا، قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّكَاحَ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (تَعْبِير، وَخَرَس).
ب- الْإِشَارَةُ:
12- مِمَّا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْإِشَارَةُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالدَّعَاوَى وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ، قَالَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي (الْأَسَالِيبِ) وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعُ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ أَشَارَ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا خَرِسَ اعْتَدَّ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ الضَّرُورَةُ، وَأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ وَهَلْ تُقْبَلُ كَنُطْقِهِ أَمْ لَا؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ (إِشَارَة- ف 5) Cجـ- الْفِعْلُ:
13- قَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعَاطِي فِي الْعُقُودِ فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْإِقَالَةَ وَالْإِجَارَةَ بِالتَّعَاطِي.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَعَاطِي- ف 3.)
أَثَرُ الْعُرْفِ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ:
14- لِلْعُرْفِ أَثَرٌ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَمُرَاعَاةُ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى الْعُرْفِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَالَّتِي بُنِيَتْ أَسَاسًا عَلَى الْأَعْرَافِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، مِثْلُ: مُوجَبَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَلَفَ: لَا رَكِبْتُ دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسُ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ، وَيُفْتَى كُلُّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ رَأْسًا فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا.وَإِذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْلِ الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِلَ مِنْهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَصْلًا كَامِلًا فِي كِتَابِهِ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ تَحْتَ عِنْوَانٍ: «فَصْلٌ فِي تَنْزِيلِ دَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا»، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، وَافَقَتْ لُغَةَ Cالْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لَا
وَيَقُولُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: «.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَعَادَةُ النَّاسِ تُؤَثِّرُ فِي تَعْرِيفِ مُرَادِهِمْ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ».
وَنَظِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ.
أَثَرُ الصِّيغَةِ:
15- أَثَرُ الصِّيغَةِ: هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلصِّيغَةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الصِّيغَةِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعَ الْغَيْرِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَصُلْحٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ ارْتِبَاطٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ كَالنَّذْرِ وَالذِّكْرِ، أَوِ التَّعْبِيرِ عَمَّا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لَدَى الْغَيْرِ مِنْ حُقُوقٍ كَالْإِقْرَارَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصِّيغَةُ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ لِلْحَالِّ مَعَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ.
وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ.وَفِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.وَفِي النِّكَاحِ يَثْبُتُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ وَحِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ.
كَمَا يَجِبُ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الْوَفَاءُ وَالْبِرُّ..وَهَكَذَا.
وَالصِّيغَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا كَانَتْ هِيَ الْأَسَاسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي صُدُورِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ لَمَّا وَضَعَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يَعْنِي: لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلاَّ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لِشَرِيكِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا»
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، مِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْحَاكِمُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، وَلَا يَنْقُلُ الْبَاطِنَ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حِلِّ عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ، كُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ».فَلَا يُحِلُّ مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلَطَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ Cلِأَنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا التَّفْصِيلَ.
وَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
16- أَنْ تَظْهَرَ مُطَابَقَةُ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَالِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..
الْقِسْمُ الثَّانِي:
17- مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، هَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَالسَّكْرَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنًى يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
18- مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ غَيْرِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا.
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: إِذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلَامَهُ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلَا يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِلِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي Cوَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَلِ الِاعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلَافِهَا؟ أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلَالًا تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً أُخْرَى بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ، وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً، وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتَحْرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَنْوِيَ أَنَّهَا لَهُ فَتَحِلَّ لَهُ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُوَضِّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ الْقَصْدُ دُونَ اللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ يَقُولُ:
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلاَّ لَمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلَا تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِنْ كَانَ هَازِلًا، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ، وَلِهَذَا يُصَارُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 7)
ضَمَانٌ -7تَضْمِينُ السُّعَاةِ:
144- إِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ لِدَفْعِ أَذَاهُ عَنْهُ، وَلَا يَرْتَفِعُ أَذَاهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، أَوْ سَعَى بِمَنْ يُبَاشِرُ الْفِسْقَ وَلَا يَمْتَنِعُ بِنَهْيِهِ فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ، وَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا وَجَدَ كَنْزًا، فَغَرَّمَهُ السُّلْطَانُ، فَظَهَرَ كَذِبُهُ، ضَمِنَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ عَدْلًا، أَوْ قَدْ يَغْرَمُ أَوْ لَا يَغْرَمُ، لَكِنَّ الْفَتْوَى الْيَوْمَ- كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمِنَحِ- بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى السَّاعِي مُطْلَقًا.
وَالسِّعَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَذِبٍ يَكُونُ سَبَبًا لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ شَخْصٍ، أَوْ كَانَ صَادِقًا لَكِنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ إِقَامَةَ الْحِسْبَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَجَدَ مَالًا وَقَدْ وُجِدَ الْمَالَ، فَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَالَ بِهَذَا السَّبَبِ.
وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ يَغْرَمُ أَلْبَتَّةَ بِمِثْلِ هَذِهِ السِّعَايَةِ، ضَمِنَ.
وَكَذَا يَضْمَنُ لَوْ سَعَى بِغَيْرِ حَقٍّ- عِنْدَ مُحَمَّدٍ- زَجْرًا لِلسَّاعِي، وَبِهِ يُفْتَى وَيُعَزَّرُ وَلَوْ مَاتَ السَّاعِي فَلِلْمُسْعَى بِهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْخُسْرَانِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَزَجْرًا لِلسَّاعِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ، فَإِنَّ السَّعْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ لِإِهْلَاكِ الْمَالِ، وَالسُّلْطَانُ يُغَرِّمُهُ اخْتِيَارًا لَا طَبْعًا.
وَنَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقِنْيَةِ: شَكَا عِنْدَ الْوَالِي بِغَيْرِ حَقٍّ، فَضَرَبَ الْمَشْكُوَّ عَلَيْهِ، فَكَسَرَ سِنَّهُ أَوْ يَدَهُ، يَضْمَنُ الشَّاكِي أَرْشَهُ، كَالْمَالِ.
وَتَعَرَّضَ الْمَالِكِيَّةُ لِمَسْأَلَةِ الشَّاكِي لِلْحَاكِمِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، كَالْغَاصِبِ وَقَالُوا: إِذَا شَكَاهُ إِلَى حَاكِمٍ ظَالِمٍ، مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مُنْصِفٍ، فَغَرَّمَهُ الْحَاكِمُ زَائِدًا عَمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا، بِأَنْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ، قَالُوا: يَغْرَمُ.
وَفِي فَتْوَى: أَنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاكِي جَمِيعَ مَا غَرَّمَهُ السُّلْطَانُ الظَّالِمُ لِلْمَشْكُوِّ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الشَّاكِي شَيْئًا مُطْلَقًا، وَإِنْ ظَلَمَ فِي شَكْوَاهُ، وَإِنْ أَثِمَ وَأُدِّبَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَرِمَ إِنْسَانٌ، بِسَبَبِ كَذِبٍ عَلَيْهِ عِنْدَ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَلِلْغَارِمِ تَغْرِيمُ الْكَاذِبِ عَلَيْهِ لِتَسَبُّبِهِ فِي ظُلْمِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْآخِذِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.
إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنَ السَّفِينَةِ:
145- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ، فَأَلْقَى بَعْضُهُمْ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى خَفَّتْ السَّفِينَةُ، يَضْمَنُ قِيمَتَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، أَيْ مُشْرِفَةً عَلَى الْغَرَقِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَائِبِ الَّذِي لَهُ مَالٌ فِيهَا، وَلَمْ يَأْذَنْ بِالْإِلْقَاءِ، فَلَوْ أَذِنَ بِالْإِلْقَاءِ، بِأَنْ قَالَ: إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْحَالُ فَأَلْقُوا، اعْتُبِرَ إِذْنُهُ.
وَقَالُوا: إِذَا خَشَى عَلَى الْأَنْفُسِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِلْقَاءِ الْأَمْتِعَةِ فَالْغُرْمُ بِعَدَدِ الرُّءُوسِ إِذَا قَصَدَ حِفْظَ الْأَنْفُسِ خَاصَّةً- كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ- لِأَنَّهَا لِحِفْظِ الْأَنْفُسِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَصْكَفِيِّ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى الْأَمْلَاكِ مُطْلَقًا، ثَالِثُهَا عَكْسُهُ.
وَلَوْ خَشَى عَلَى الْأَمْتِعَةِ فَقَطْ- بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَنْفُسُ- فَهِيَ عَلَى قَدْرِ الْأَمْوَالِ، وَإِذَا خَشَى عَلَيْهِمَا، فَهِيَ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَمَنْ كَانَ غَائِبًا، وَأَذِنَ بِالْإِلْقَاءِ، اعْتُبِرَ مَالُهُ، لَا نَفْسُهُ.
وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا بِمَالِهِ اعْتُبِرَ مَالُهُ وَنَفْسُهُ فَقَطْ.
وَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ فَقَطِ اعْتُبِرَ نَفْسُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خِيفَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَرَقُ، جَازَ طَرْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ، أَذِنَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا، إِذَا رَجَا بِذَلِكَ نَجَاتَهُ،
وَكَانَ الْمَطْرُوحُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا غُرْمَ عَلَى مَنْ طَرَحَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ فِيهَا مَتَاعٌ وَرِكَابٌ عَلَى غَرَقٍ، وَخِيفَ هَلَاكُ الرُّكَّابِ، جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ، لِسَلَامَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ: أَيْ لِرَجَائِهَا، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: بِشَرْطِ إِذْنِ الْمَالِكِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَجِبُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ.
وَقَالُوا- أَيْضًا- وَيَجِبُ إِلْقَاؤُهُ- وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ- إِذَا خِيفَ الْهَلَاكُ لِسَلَامَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ، كَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ.وَيَجِبُ بِإِلْقَاءِ حَيَوَانٍ، وَلَوْ مُحْتَرَمًا، لِسَلَامَةِ آدَمِيٍّ مُحْتَرَمٍ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ إِلْقَائِهِ.
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ فِي الْإِلْقَاءِ تَقْدِيمَ الْأَخَسِّ فَالْأَخَسِّ قِيمَةً مِنَ الْمَتَاعِ إِنْ أَمْكَنَ، حِفْظًا لِلْمَالِ مَا أَمْكَنَ، قَالُوا: وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُلْقِي غَيْرَ الْمَالِكِ.
وَقَالُوا: يَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي رُوحٍ، وَإِلْقَاءُ الدَّوَابِّ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّينَ.وَإِذَا انْدَفَعَ الْغَرَقُ بِطَرْحِ بَعْضِ الْمَتَاعِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ: فَإِنْ طَرَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ ضَمِنَهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ عَلَيَّ ضَمَانُهُ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ضَمِنَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى: أَلْقِ، فَلَا، عَلَى الْمَذْهَبِ- لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ-
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِهَذِهِ الْفُرُوعِ:
أ- إِذَا أَلْقَى بَعْضُ الرُّكْبَانِ مَتَاعَهُ، لِتَخِفَّ السَّفِينَةُ وَتَسْلَمَ مِنَ الْغَرَقِ، لَمْ يُضَمِّنْهُ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَتَاعَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، لِصَلَاحِهِ وَصَلَاحِ غَيْرِهِ.
ب- وَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضَمِنَهُ وَحْدَهُ.
ج- وَإِنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فَقَبِلَ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ.
د- وَإِنْ قَالَ: أَلْقِ وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، أَوْ: وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِعِوَضٍ لِمَصْلَحَتِهِ، فَوَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ.
هـ- وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ وَعَلَيَّ وَعَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ضَمَانَهُ جَمِيعَهُ، فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُ قِسْطِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ حِصَّتَهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْبَاقِينَ بِالضَّمَانِ، فَسَكَتُوا وَسُكُوتُهُمْ لَيْسَ بِضَمَانٍ.وَإِنِ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْجَمِيعِ، وَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْكُلِّ.
مَنْعُ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ:
146- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ، وَإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنْ أَمْوَالِهِ حَتَّى هَلَكَتْ، يَأْثَمُ، وَلَا يَضْمَنُ.
نَقَلَ هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَحْصُلْ بِنَفْسِ فِعْلِهِ، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْقَفَصَ فَطَارَ الْعُصْفُورُ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الطَّيَرَانَ بِفِعْلِ الْعُصْفُورِ، لَا بِنَفْسِ فَتْحِ الْبَابِ.وَالْمَنْصُوصُ فِي مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْقَفَصِ، أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ.وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ الْبَحْرِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِثْمِ الضَّمَانُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَبَسَ الْمَالِكَ عَنِ الْمَاشِيَةِ لَا ضَمَانَ فِيهِ وَكَذَا لَوْ مَنَعَ مَالِكَ زَرْعٍ أَوْ دَابَّةٍ مِنَ السَّقْيِ، فَهَلَكَ لَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ.
وَيَبْدُو أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ الْمَالِكِ، هُوَ الضَّمَانُ، لِلتَّسَبُّبِ فِي الْإِتْلَافِ.
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ عَلَّلُوا الضَّمَانَ بِأَنَّهُ لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ.
وَمِنْ فُرُوعِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ أَزَالَ يَدَ إِنْسَانٍ عَنْ حَيَوَانٍ فَهَرَبَ يَضْمَنُهُ، لِتَسَبُّبِهِ فِي فَوَاتِهِ، أَوْ أَزَالَ يَدَهُ الْحَافِظَةَ لِمَتَاعِهِ حَتَّى نَهَبَهُ النَّاسُ، أَوْ أَفْسَدَتْهُ النَّارُ، أَوِ الْمَاءُ، يَضْمَنُهُ.
وَقَالُوا: لِرَبِّ الْمَالِ تَضْمِينُ فَاتِحِ الْبَابِ
لِتَسَبُّبِهِ فِي الْإِضَاعَةِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْآخِذِ لِمُبَاشَرَتِهِ.
فَإِنْ ضَمَّنَ رَبُّ الْمَالِ الْآخِذَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْفَاتِحَ رَجَعَ عَلَى الْآخِذِ.
تَضْمِينُ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُفْتِي:
147- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا شَيْءَ عَلَى مُجْتَهِدٍ أَتْلَفَ شَيْئًا بِفَتْوَاهُ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، فَيَضْمَنُ إِنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْفَتْوَى، لِأَنَّهَا كَوَظِيفَةِ عَمَلٍ قَصَّرَ فِيهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا لِلْفَتْوَى، وَهُوَ مُقَلِّدٌ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْغُرُورِ الْقَوْلِيِّ: هَلْ يُوجِبُ الضَّمَانَ، أَوْ لَا؟ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الضَّمَانِ.
وَالظَّاهِرُ- كَمَا نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ- أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ فِي مُرَاجَعَةِ النُّقُولِ، ضَمِنَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَلَوْ صَادَفَ خَطَؤُهُ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَقْدُورَهُ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ الضَّمَانِ بِالْغُرُورِ الْقَوْلِيِّ.
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي إِنْسَانًا بِإِتْلَافٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُفْتِي.
تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الْإِنْسَانِ وَتَعْطِيلُهَا:
148- تَعْطِيلُ الْمَنْفَعَةِ: إِمْسَاكُهَا بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ، أَمَّا اسْتِيفَاؤُهَا فَيَكُونُ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالتَّفْوِيتُ تَعْطِيلٌ، وَيُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْإِنْسَانِ، وَبَيْنَ تَفْوِيتِهَا، بِوَجْهٍ عَامٍّ فِي تَفْصِيلٍ:
فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ مَنَافِعِ الْإِنْسَانِ وَتَفْوِيتَهَا، لَا ضَمَانَ فِيهِ، كَمَا لَوْ حَبَسَ امْرَأَةً حَتَّى مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوِ الْحَمْلِ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ حَبَسَ الْحُرَّ حَتَّى فَاتَهُ عَمَلٌ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، كَمَا لَوْ وَطِئَ الْبُضْعَ أَوِ اسْتَخْدَمَ الْحُرَّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ مَا نَقَصَهَا وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّفْوِيتِ بِالْوَطْءِ، وَتُضْمَنُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا تُضْمَنُ بِفَوَاتٍ، لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا، إِذِ الْيَدُ فِي بُضْعِ الْمَرْأَةِ لَهَا، وَكَذَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْحُرِّ لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ فِي الْأَصَحِّ، كَأَنْ قَهَرَهُ عَلَى عَمَلٍ.وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُمْ: تُضْمَنُ بِالْفَوَاتِ أَيْضًا، لِأَنَّهَا لِتَقَوِّيهَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ تُشْبِهُ مَنْفَعَةَ الْمَالِ.
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ، فَمَنْفَعَتُهُ تَفُوتُ تَحْتَ يَدِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَيَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، فَلَوْ أَخَذَ حُرًّا فَحَبَسَهُ، فَمَاتَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، وَهِيَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَلَوْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ، وَهِيَ مَالٌ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يَصِحُّ غَصْبُهُ.
وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ وَجْهًا وَاحِدًا. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ بِتَفْوِيتِ مَنَافِعِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ، فَلَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا تُضْمَنُ مَنَافِعُ بَدَنِهِ.
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
42-موسوعة الفقه الكويتية (عدة 2)
عِدَّةٌ -2ج- التَّرَبُّصُ:
4- التَّرَبُّصُ لُغَةً: الِانْتِظَارُ، يُقَالُ: تَرَبَّصْتُ الْأَمْرَ تَرَبُّصًا انْتَظَرْتُهُ، وَتَرَبَّصْتُ الْأَمْرَ بِفُلَانٍ تَوَقَّعْتُ نُزُولَهُ بِهِ.
وَاصْطِلَاحًا هُوَ التَّثَبُّتُ وَالِانْتِظَارُ قَالَ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ التَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ أَنَّ التَّرَبُّصَ ظَرْفٌ لِلْعِدَّةِ فَإِذَا انْتَهَتِ الْعِدَّةُ انْتَهَى التَّرَبُّصُ، وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْعِدَّةِ وَفِي غَيْرِهَا كَالْآجَالِ فِي بَابِ الدُّيُونِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِدَّةِ، فَكُلُّ عِدَّةٍ تَرَبُّصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَرَبُّصٍ عِدَّةٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أ- أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله تعالى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
ب- وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تَحُدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».وَمَا وَرَدَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ».
ج- الْإِجْمَاعُ- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.
سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ:
6- تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِسَبَبِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ اللِّعَانِ، كَمَا تَجِبُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلَا تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُولِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ.
وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ: بُطْلَان ف 30 وَخَلْوَة ف 19.
انْتِظَارُ الرَّجُلِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ:
7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا دُونَ انْتِظَارِ مُضِيِّ مُدَّةِ عِدَّتِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَ الزَّوَاجَ بِعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ طَلَّقَ رَابِعَةً وَيُرِيدُ الزَّوَاجَ بِأُخْرَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِالِاتِّفَاقِ، أَوِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ.
وَمَنْعُ الرَّجُلِ مِنَ الزَّوَاجِ هُنَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ، لَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلَا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَإِنْ كَانَ يُحْمَلُ مَعْنَى الْعِدَّةِ، قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِدَّةِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ مُدَّةَ مَنْعِ مَنْ طَلَّقَ رَابِعَةً مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا لَا يُقَالُ لَهُ عِدَّةٌ، لَا لُغَةً، وَلَا شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، كَزَمَنِ الْإِحْرَامِ أَوِ الْمَرَضِ وَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مُعْتَدٌّ حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْعِدَّةِ:
8- شُرِعَتِ الْعِدَّةُ لَمَعَانٍ وَحِكَمٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ مِنْهَا: الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ الْوَاطِئَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِطُ الْأَنْسَابُ وَتَفْسُدُ، وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ خَطَرِ الزَّوَاجِ وَرَفْعُ قَدْرِهِ وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ، وَمِنْهَا: تَطْوِيلُ زَمَانِ الرَّجْعَةِ لِلْمُطَلِّقِ لَعَلَّهُ يَنْدَمُ وَيَفِيءُ فَيُصَادِفُ زَمَنًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الرَّجْعَةِ، وَمِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ وَإِظْهَارُ تَأْثِيرِ فَقْدِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ الْإِحْدَادُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمِنْهَا: الِاحْتِيَاطُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَمَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ، وَحَقِّ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، فَفِي الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّارِعُ الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِدَّةِ مُجَرَّدَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ مَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا.
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ:
9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْعِدَدِ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ: أ- عِدَّةُ الْقُرُوءِ.
ب- عِدَّةُ الْأَشْهُرِ.
ج- عِدَّةُ وَضْعِ الْحَمْلِ.
أَوَّلًا- الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ.
10- قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْقُرْءُ فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْحُ وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ، مِثْلُ فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَأَفْلُسٌ، وَالضَّمُّ وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ.
11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ اصْطِلَاحًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ((، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ: الْأَطْهَارُ،
وَالطُّهْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحْتَوَشُ بَيْنَ دَمَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَا مُجَرَّدُ الِانْتِقَالِ إِلَى الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمَا يَلِي:
أ- بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ أَوْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ، فَاللاَّمُ بِمَعْنَى فِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، لَا فِي الْحَيْضِ لِحُرْمَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيُصْرَفُ الْإِذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّةً، وَتَطْلُقُ فِيهِ النِّسَاءُ.
ب- وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».
فَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَشَارَ إِلَى الطُّهْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ، فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ.
كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فَرْضًا إِثْرَ الطَّلَاقِ بِلَا مُهْلَةٍ فَصَحَّ أَنَّهَا الطُّهْرُ الْمُتَّصِلُ بِالطَّلَاقِ لَا الْحَيْضُ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الْحَيْضُ لَوَجَبَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِيمَنْ طَلَّقَ حَائِضًا أَنْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، وَلَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِهَا.
ج- وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: إِنَّمَا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ.
د- وَلِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: قَرَأْتُ كَذَا فِي كَذَا إِذَا جَمَعْتَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ خُرُوجُهُ مِنْهُ، وَمَا وَافَقَ الِاشْتِقَاقَ كَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ وَقُرُوءٍ وَأَقْرُؤٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْقُرْءِ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم- وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَيْثُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ، وَأَنَا الْيَوْمُ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى هَذَا، وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ سِوَاهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أ- أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثٍ حِيَضٍ كَوَامِلَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
ب- وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الِانْقِضَاءُ، إِذِ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ الْعِدَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ.
ج- وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» «وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: انْظُرِي إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ.
د- وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ.
عِدَّةُ الْحُرَّةِ ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ:
12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ مَنْ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَإِنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَالَ طُهْرُهَا لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوِ الْفَاسِدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ. (ر: خَلْوَة)
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الطُّهْرُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّهُ الْحَيْضُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اخْتِلَافٌ فِي حِسَابِ الْعِدَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: أ- الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلُقَتْ طَاهِرًا، وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَلَّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَى مُعْظَمِ الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} مَعَ أَنَّهُ فِي شَهْرَيْنِ وَعَشْرِ لَيَالٍ، وَلِذَلِكَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ- بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ- لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ دَمِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ وَاغْتِسَالِهَا فِي الْمُعْتَمَدِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْغُسْلُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بَلْ يَكْفِي انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- إِلاَّ الزُّهْرِيُّ حَيْثُ قَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِبَقِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ حَرُمَ فِيهِ الطَّلَاقُ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ كَزَمَنِ الْحَيْضِ.
وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي ثَوْرٍ لِئَلاَّ تَزِيدَ الْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
ب- الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ:
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي مَا لَمْ تَحِضِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ حِيَضٍ كَوَامِلَ تَالِيَةٍ لِلطَّلَاقِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ فَلَا يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضِهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِحُرْمَةِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلَا تَعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا.
يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ.
15- وَلَكِنْ هَلِ الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، أَمْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْهَا..؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ اغْتِسَالٍ، إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرَةً، لِانْقِطَاعِ الدَّمِ بِيَقِينٍ، إِذْ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ حَيْضًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِعَدَمِ احْتِمَالِ عَوْدِ دَمِ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَزُولُ الْحَيْضُ ضَرُورَةً وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا، بِشَرْطِ أَنْ تَجِدَ مَاءً فَلَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إِلَيْهَا:
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَغْتَسِلْنَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ».وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ ((عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْلِ شَرْطًا لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَيْثُ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُولَ مَا كَانَ، إِنَّهُ طَلَّقَنِي وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْتُ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْتُ بَابِي، وَوَضَعْتُ غُسْلِي، وَخَلَعْتُ ثِيَابِي، فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: قُلْ فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، فَقُلْتُ: أَرَى الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيَّ- رضي الله عنهم- كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْلِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ تَسْتَيْقِنْ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ، لِاحْتِمَالِ الْمُعَاوَدَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، إِذِ الدَّمُ لَا يَدِرُّ دَرًّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَدِرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَكَانَ احْتِمَالُ الْعَوْدِ قَائِمًا، وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ إِلَى الْعَشَرَةِ، فَلَمْ يُوجَدِ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِيَقِينٍ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا اغْتَسَلَتِ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، إِذْ لَا يُبَاحُ أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ، فَتَقَرَّرَ الِانْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الِاغْتِسَالِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِانْتِهَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ تَغْتَسِلْ، لَكِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ، بِأَنْ كَانَتْ مُسَافِرَةً فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ.
أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ فَهَلْ تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؟
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً.
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِبَاحَةِ الْمُعْتَدَّةِ لِلْأَزْوَاجِ بِالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ فَأَشْبَهَتِ الْحَائِضَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَقَدْ كَمُلَتِ الْقُرُوءُ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفِعْلِ الصِّيَامِ وَصِحَّتِهِ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا وَاللِّعَانِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ الْقَاضِي: إِذَا شَرَطْنَا الْغُسْلَ أَفَادَ عَدَمُهُ إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا. عِدَّةُ الْأَمَةِ:
16- عِدَّةُ الْأَمَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْفُرْقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهَا، وَبِاخْتِلَافِ حَالِهَا بِاعْتِبَارِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ أَوِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ ف 99)
ثَانِيًا: الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ:
17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ تَجِبُ فِي حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةُ الْأُولَى:
وَهِيَ مَا تَجِبُ بَدَلًا عَنِ الْحَيْضِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا الَّتِي لَمْ تَرَ دَمًا لِيَأْسٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، أَوْ جَاوَزَتْهُ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لقوله تعالى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} أَيْ فَعِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ هُنَا بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ أَنْ تَكُونَ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، وَفِي الْكَبِيرَةِ الْآيِسَةِ مِنَ الْمَحِيضِ أَنْ تَكُونَ قَدْ جَاوَزَتِ السَّبْعِينَ سَنَةً.
وَسِنُّ الْيَأْسِ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيَاس ف 6).
وَإِذِ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ فَرَاغِهَا فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَلَا تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ.
وَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَلَا يُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ- كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ أَثْنَاءَ تَيَمُّمِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
عِدَّةُ الْوَفَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ بَعْدَ زَوَاجٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَمْ لَا، بِشَرْطِ أَلاَّ تَكُونَ حَامِلًا وَمُدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
وَقُدِّرَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَمْلُ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دُونَ النِّكَاحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ كَخَامِسَةٍ فَلَا عِدَّةَ إِلاَّ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُطِيقَةٌ فَتَعْتَدُّ كَالْمُطَلَّقَةِ.
كَيْفِيَّةُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
18- إِنَّ حِسَابَ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ الْوَفَاةِ يَكُونُ بِالشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ لَا الشَّمْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ أَوِ الْوَفَاةُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ اعْتُبِرَتِ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} حَتَّى وَلَوْ نَقَصَ عَدَدُ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ، وَلِمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ أَوْ حَدَثَتِ الْوَفَاةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ أَوَّلِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ مِنْهُ اعْتُبِرَ شَهْرَانِ بِالْهِلَالِ، وَيَكْمُلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ نَاقِصًا.
وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ الْمُنْكَسِرِ بِالْأَيَّامِ وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ، وَيَكْمُلُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ، وَالْأَشْهُرُ اسْمُ الْأَهِلَّةِ، فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِدَادِ هُوَ الْأَهِلَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جَعَلَ الْهِلَالَ لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ إِلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْهِلَالِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَدَلْنَا عَنْهُ إِلَى الْأَيَّامِ، وَلَا تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَهِلَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُحْتَسَبُ بِالْأَيَّامِ، فَتَعْتَدُّ مِنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَمِنَ الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ انْكَسَرَ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ، قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ.
وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الِاحْتِيَاطُ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الْأَيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا بِالْأَهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنِ الْأَيَّامِ، فَكَانَ إِيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا.
بَدْءُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَشْهُرِ تَبْدَأُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِيهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ ابْتُدِئَ حِسَابُ الشَّهْرِ مِنْ حِينَئِذٍ، وَاعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ: إِمَّا يَقِينًا وَإِمَّا اسْتِظْهَارًا، فَلَا وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُحْسَبُ يَوْمُ الطَّلَاقِ إِنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فَجْرِهِ، وَلَا يَوْمُ الْوَفَاةِ. الْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ:
20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَشْرَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَتَجِبُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ مَعَ اللَّيْلِ، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَالْعَرَبُ تُغَلِّبُ صِيغَةَ التَّأْنِيثِ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً عَلَى الْمُذَكَّرِ فَتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيَالِي وَتُرِيدُ اللَّيَالِيَ بِأَيَّامِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا زَكَرِيَّا- عليه السلام- {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} يُرِيدُ بِأَيَّامِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} يُرِيدُ بِلَيَالِيِهَا وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ وَالْأَصَمِّ اللَّذَيْنِ قَالَا: تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْأَيَّامُ اللاَّتِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيَالِي تَبَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ، أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ (الْعَشْرِ) فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْدُودِ اللَّيَالِي وَإِلاَّ لأَنَّثَهُ.
ثَالِثًا: الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ:
21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنْ طَلَاقٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، قَلَّتِ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ، حَتَّى وَلَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَقَدْ جَاءَتْ عَامَّةً فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِنَّ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَكَانَتْ حَامِلًا.
وَالْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ «أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نَفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ وَقِيلَ: إِنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً»، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، بَلْ وَلَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِسَاعَةٍ، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنَ الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ.
وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- رضي الله عنهم-...وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: وَضْعُ الْحَمْلِ أَوْ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ (Tab.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا عَامَّةٌ تَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَخَاصَّةً فِي الْمُدَّةِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ أَيْضًا، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَغَيْرَهَا وَخَاصَّةً فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْعَمَلِ بِهِمَا أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ تَرَكَتِ الْعَمَلَ بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَإِعْمَالُ النَّصَّيْنِ مَعًا خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِ أَحَدِهِمَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
43-موسوعة الفقه الكويتية (عمامة)
عِمَامَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْعِمَامَةُ لُغَةً: اللِّبَاسُ الَّذِي يُلَاثُ (يُلَفُّ) عَلَى الرَّأْسِ تَكْوِيرًا، وَتَعَمَّمَ الرَّجُلُ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْجَمْعُ عَمَائِمُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَذَبَةُ:
2- الْعَذَبَةُ: طَرَفُ الشَّيْءِ كَعَذَبَةِ الصَّوْتِ وَاللِّسَانِ أَيْ: طَرَفُهُمَا، وَالطَّرَفُ الْأَعْلَى لِلْعِمَامَةِ يُسَمَّى عَذَبَةً وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلِاصْطِلَاحِ الْعُرْفِيِّ.
ب- الذُّؤَابَةُ:
3- الذُّؤَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً كَمَا تُطْلَقُ عَلَى طَرَفِ الْعِمَامَةِ، وَالْجَمْعُ ذَوَائِبُ وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
فَالْعَذَبَةُ وَالذُّؤَابَةُ جُزْءٌ مِنَ الْعِمَامَةِ.
وَلَا يُفَرِّقُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْعَذَبَةِ وَالذُّؤَابَةِ.
ج- الْعِصَابَةُ:
4- لِلْعِصَابَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ عِدَّةُ مَعَانٍ مُتَشَابِهَةٍ: الْعِصَابَةُ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ، فَهِيَ مُرَادِفَةٌ لَهَا.
قَالَ الْجَاحِظُ: وَالْعِصَابَةُ وَالْعِمَامَةُ سَوَاءٌ.
فَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلْعِمَامَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ»، وَفُسِّرَتِ الْعَصَائِبُ هُنَا بِالْعَمَائِمِ.
وَتُطْلَقُ الْعِصَابَةُ عَلَى مَا يُشَدُّ بِهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ، فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الْعِمَامَةِ.
د- الْمِعْجَرُ:
5- الْمِعْجَرُ: ثَوْبٌ أَصْغَرُ مِنَ الرِّدَاءِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْمِقْنَعَةِ تَعْتَجِرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فَتَلُفَّهُ عَلَى اسْتِدَارَةِ رَأْسِهَا ثُمَّ تَجَلْبَبُ فَوْقَهُ بِجِلْبَابِهَا، وَالْجَمْعُ الْمَعَاجِرُ.
وَيَكُونُ الِاعْتِجَارُ بِالْمِعْجَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ وَبِالْعِمَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَهُوَ لَيُّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ إِدَارَةٍ تَحْتَ الْحَنَكِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ لَفُّ الْعِمَامَةَ دُونَ التَّلَحِّي.
وَالِاعْتِجَارُ بِالْعِمَامَةِ أَنْ يَلُفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ وَيَرُدَّ طَرَفَهَا عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَعْمَلُ مِنْهَا شَيْئًا تَحْتَ ذَقَنِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِعْجَرِ وَالْعِمَامَةِ أَنَّ الْمِعْجَرَ وَالْعِمَامَةَ كِلَيْهِمَا يُلَفُّ بِهِ الرَّأْسُ غَيْرَ أَنَّ الْمِعْجَرَ لِلْمَرْأَةِ وَالْعِمَامَةَ لِلرَّجُلِ.
هـ- الْقِنَاعُ:
6- يُطْلَقُ الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعُ وَالْمِقْنَعَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْقُمَاشِ يَضَعُهُ الْجِنْسَانِ عَلَى الرَّأْسِ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْخِمَارِ الَّذِي تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْقِنَاعَ بِمَا يُفِيدُ خُصُوصِيَّتَهُ بِالْمَرْأَةِ فَقَالَا: «الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعَةُ: مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ يُغَطِّي رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا».
وَوَصَفَ الْبَعْضُ الرَّجُلَ بِالتَّقَنُّعِ فَقَالَ: رَجُلٌ مُقَنَّعٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَمِغْفَرٌ فَالْقِنَاعُ يُسْتَعْمَلُ لِلنِّسَاءِ، وَالْعِمَامَةُ لِلرِّجَالِ.
و- الْقَلَنْسُوَةُ:
7- الْقَلَنْسُوَةُ لُغَةً مِنْ مَلَابِسِ الرُّءُوسِ وَتُجْمَعُ عَلَى قَلَانِسَ، وَالتَّقْلِيسُ لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ.
وَاصْطِلَاحًا- مَا يُلْبَسُ عَلَى الرَّأْسِ وَيُتَعَمَّمُ فَوْقَهُ أَوْ هِيَ الطَّاقِيَّةُ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْعِمَامَةَ تُلَفُّ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ غَالِبًا.
أَشْكَالُ الْعِمَامَةِ:
8- لِلْعِمَامَةِ عِدَّةُ أَشْكَالٍ مِنْهَا:
أَنْ يَلُفَّ الشَّخْصُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَسْدُلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ، وَتُسَمَّى بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ «الْقِعَاطَةَ».
أَنْ تُلَفَّ عَلَى الرَّأْسِ دُونَ التَّلَحِّي بِهَا، وَتُسَمَّى الِاعْتِجَارُ.
أَنْ يُرْخَى طَرَفَاهَا مِنْ نَاحِيَتَيِ الرَّأْسِ وَتُسَمَّى «الزَّوْقَلَةُ».
أَنْ تُلَاثَ عَلَى الرَّأْسِ وَلَا تُسْدَلَ عَلَى الظَّهْرِ وَلَا تُرَدَّ تَحْتَ الْحَنَكِ وَتُسَمَّى «الْقَفْدَاءُ» صِفَةُ عَمَائِمِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
9- رَوَى الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- أَخْبَارًا تَتَعَلَّقُ بِعِمَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَصَّتْ عَلَى لَوْنِهَا وَشَكْلِهَا وَنَوْعِهَا.
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ».
وَالْعِمَامَةُ بِهَذَا اللَّوْنِ اسْتَعْمَلَهَا- صلى الله عليه وسلم- حِينَ الْخَطَابَةِ، فَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ».
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِزَعْفَرَانٍ رِدَاءً وَعِمَامَةً».
«وَكَانَتْ لِعِمَامَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَذَبَةٌ وَكَانَ يُسْدِلُهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ»، فَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا.بَيْنَ كَتِفَيْهِ».
تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى لَوْنِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْإِخْبَارَ بِإِرْخَائِهِ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
وَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- بِذَلِكَ فَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ».
وَثَبَتَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَعَمَّمَ بِعِمَامَةٍ قَطَرِيَّةٍ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَطَرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ» وَفُسِّرَتِ الْعِمَامَةُ الْقَطَرِيَّةُ بِتَفْسِيرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قِيلَ هِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ وَلَهَا أَعْلَامٌ وَفِيهَا بَعْضُ الْخُشُونَةِ.
الثَّانِي: قِيلَ هِيَ حُلَلٌ جِيَادٌ تُحْمَلُ مِنْ قَرْيَةٍ فِي الْبَحْرَيْنِ يُقَالُ لَهَا قَطَرٌ.
وَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَقَدْ لَاحَظَ السُّيُوطِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَدِيثٌ فِي مِقْدَارِ عِمَامَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَاسْتَنْتَجَ مِنْ حَدِيثٍ نَسَبَهُ إِلَى الْبَيْهَقِيِّ يَصِفُ تَعَمُّمَهُ- عليه الصلاة والسلام- بِأَنَّهَا عِدَّةُ أَذْرُعٍ، ثُمَّ قَالَ «وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ نَحْوَ الْعَشَرَةِ أَذْرُعٍ أَوْ فَوْقَهَا بِيَسِيرٍ».
وَمِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا: سَدْلُ الْعِمَامَةِ.
«وَصَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنه- عِمَامَتَهُ فَقَالَ: عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي».
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُسْدِلُ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
وَثَبَتَ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ جَعَلَ فِي عِمَامَتِهِ عَلَامَةً لِيُعْرَفَ بِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ الْعِمَامَةَ نَفْسَهَا سِمَةً فَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ يَوْمَ بَدْرٍ مُعَلَّمًا بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ حَمْرَاءَ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ مُعَلَّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ
.صِفَةُ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:
10- لَبِسَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ الْمُلَوَّنَةَ تَمْيِيزًا لَهُمْ فَكَانَتْ عَمَائِمُ الْمَسِيحِيِّينَ زَرْقَاءَ وَعَمَائِمُ الْيَهُودِ صَفْرَاءَ وَيُذْكَرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ.
بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ لَمْ تُطَبَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَمَّمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَائِمِ الْمُلَوَّنَةِ، وَمِنْ صِفَاتِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَذَبَةِ، عَدَمُ إِدَارَتِهَا تَحْتَ الْحَنَكِ عِنْدَ التَّعَمُّمِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «..وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا لَهَا ذُؤَابَةٌ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ» الصَّلَاةُ بِالْعِمَامَةِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الرَّأْسِ فِي الصَّلَاةِ لِلرَّجُلِ بِعِمَامَةٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُصَلِّي بِالْعِمَامَةِ».
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَوَاجِبٌ سَتْرُ رَأْسِهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ الرَّجُلِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ إِذَا كَانَ تَكَاسُلًا لِتَرْكِ الْوَقَارِ، لَا لِلتَّذَلُّلِ وَالتَّضَرُّعِ
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَأْس ف 5)
السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ» وَرُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَمُبَاشَرَتِهَا بِالْمُصَلَّى، وَعَدَمِ جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَيَدِهِ وَكَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَيَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الْأَرْضِ» الْحَدِيثَ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَمَا أَشْكَانَا».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَرْضٌ، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ إِنْ كَانَ لَفَّتَيْنِ مِنْ شَالٍ رَقِيقٍ كَشَاشٍ وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ لَفَّتَيْنِ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الْجَبْهَةُ فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتِ الْعِمَامَةُ مَشْدُودَةً عَلَى الرَّأْسِ وَسَجَدَ عَلَى كَوْرِهَا وَلَمْ تَمَسَّ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ يُعِيدُهَا أَبَدًا وُجُوبًا.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُود ف 7)، وَمُصْطَلَحِ: (صَلَاة ف 101).
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ:
13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي نَزْعِهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إِنْ خِيفَ ضَرَرٌ بِسَبَبِ نَزْعِهَا مِنَ الرَّأْسِ وَلَمْ يُمْكِنْ حَلُّهَا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ مُبَاشَرَةً مَسَحَهُ وَكَمَّلَ عَلَى عِمَامَتِهِ وُجُوبًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ سَوَاءٌ عَسِرَ عَلَيْهِ تَنْحِيَتُهَا أَمْ لَا، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى الْعِمَامَةِ بَلْ يَمْسَحُ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنَ النَّاصِيَةِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَأَنَسُ وَأَبُو أُمَامَةَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه-.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ»
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْح، وَوُضُوء).
الْعِمَامَةُ لِلْمَيِّتِ:
14- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ اشْتِمَالِ الْكَفَنِ عَلَى قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ، وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَفَّنَ ابْنَهُ وَاقِدًا فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَثَلَاثِ لَفَائِفَ وَأَدَارَ الْعِمَامَةَ إِلَى تَحْتِ حَنَكِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالرَّجُلُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعَمَّمَ.قَالَ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَيِّتِ عِنْدَنَا أَنْ يُعَمَّمَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لُبْسُ الْعِمَامَةِ فِي الْإِحْرَامِ:
15- الْعِمَامَةُ مِنَ اللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ فِي الْإِحْرَامِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثٍ بَيَّنَ فِيهِ مَا يُمْنَعُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى الْعِصَابَةِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا لِشَجَّةٍ أَوْ صُدَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا شَدَّهَا، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ
التَّعْزِيرُ بِخَلْعِ الْعِمَامَةِ:
16- التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ فِيمَا لَا حَدَّ وَلَا كَفَّارَةَ، يَجْتَهِدُ الْقَاضِي فِي تَقْدِيرِهَا.
وَمِمَّا يُعَزَّرُ بِهِ خَلْعُ الْعِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ كَانُوا يُعَاقِبُونَ الرَّجُلَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلُّ إِزَارُهُ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
44-موسوعة الفقه الكويتية (كفر 2)
كُفْر -2وَصِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
25- إِسْلَامُ الْمُوصِي لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ بِالْمَالِ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ.
وَكَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ).
الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ مِنَ الْكَافِرِ:
26- قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِسْلَامُ الْعَاقِدِ فِي الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا، فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 98).
27- أَمَّا اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَقِصَارَتِهِ جَازَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ.
أَمَّا إِجَارَتُهُ لِخِدْمَتِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلَالَهُ لَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 104).
الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ:
28- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْجَوَازِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (شَرِكَةٌ ف 41).
الِاسْتِعَانَةُ بِالْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ:
29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْكَفَّارِ فِي الْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بَحْرَةُ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: جِئْتُ لِأَتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَانْطَلِقْ».
وَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (اسْتِعَانَةٌ ف 5، أَهْلُ الْكِتَابِ ف 11، جِهَادٌ ف 26).
الْوَقْفُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَهُ:
30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ.
كَمَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
45-موسوعة الفقه الكويتية (كفارة 1)
كَفَّارَة -1التَّعْرِيفُ:
1- الكفارة فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ، لِأَنَّهَا تُغَطِّي الذَّنْبَ وَتَسْتُرُهُ، فَهِيَ اسْمٌ مَنْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ الذَّنْبَ، أَيْ مَحَاهُ لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، وَكَأَنَّهُ غَطَّى عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ.وَفِي التَّهْذِيب: سُمِّيَتِ الْكَفَّارَاتُ كَفَّارَاتٍ، لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، أَيْ تَسْتُرُهَا مِثْلُ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَمَرَ بِهَا عِبَادَهُ.وَالْكَفَّارَةُ: مَا كَفَّرَ بِهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَتَكْفِيرُ الْيَمِينِ فِعْلُ مَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَالتَّكْفِيرُ فِي الْمَعَاصِي: كَالْإِحْبَاطِ فِي الثَّوَابِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الْكَفَّارَةُ مِنَ الْكَفْرِ- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَهُوَ السَّتْرُ لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الذَّنْبَ وَتُذْهِبُهُ، هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ أَوِ انْتِهَاكٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ كَالْقَتْلِ خَطَأً وَغَيْرَهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الاستغفار
2- الِاسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ.وَشَرْعًا: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزُ بِهَا عَنِ الذَّنْبِ وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ.وَقَدْ يَأْتِي الِاسْتِغْفَارُ بِمَعَانٍ أُخْرَى، فَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.يَقُولُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: أَيْ يُسْلِمُونَ.كَمَا يَأْتِي بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ، هَكَذَا يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ.وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ يَكُونُ- بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى- سَبَبًا لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ.
ب- التَّوْبَةُ:
3- التوبة فِي اللُّغَةِ: الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.يُقَالُ: تَابَ عَنْ ذَنْبِهِ، إِذَا رَجَعَ عَنْهُ وَأَقْلَعَ، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ.وَشَرْعًا: هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا إِذَا قَدَرَ.وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا- بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى- سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ.
ج- الْعُقُوبَةُ:
4- العقوبة فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَقِبِ، وَهُوَ الْجَرْيُ بَعْدَ الْجَرْيِ وَالْوَلَدُ بَعْدَ الْوَلَدِ.وَالْعُقْبَةُ بِالضَّمِّ: النَّوْبَةُ وَالْبَدَلُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لِأَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ: زَوَاجِرُ شَرَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرَّدْعِ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَظَرَ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ، لِيَرْدَعَ بِهَا ذَوِي الْجَهَالَةِ حَذَرًا مِنْ أَلَمِ الْعُقُوبَةِ.وَهَذِهِ الزَّوَاجِرُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً، فَتُسَمَّى حَدًّا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ فَتُسَمَّى تَعْزِيرًا.وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالْعُقُوبَةِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَيْسَتِ الْعُقُوبَةُ كَذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الكفارة مَشْرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ جَبْرًا لِبَعْضِ الذُّنُوبِ وَالْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ.
الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ لِلْكَفَّارَةِ
6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ.قَالَ ابن نُجَيْمٍ: وَأَمَّا صِفَتُهَا أَيِ الْكَفَّارَةِ مُطْلَقًا فَهِيَ عُقُوبَةٌ وُجُوبًا، لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ أَجْزِيَةً لِأَفْعَالٍ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ، عِبَادَةُ أَدَاءٍ، لِكَوْنِهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَالْإِعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ وَهِيَ قُرَبٌ، وَالْغَالِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، إِلاَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ، وَلَا تَجِبُ مَعَ الْخَطَأِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِوُجُوبِهَا مَعَ الْخَطَأِ، وَكَذَا كَفَّارَةُ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبٌ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَلِ الْكَفَّارَاتُ بِسَبَبِ حَرَامٍ زَوَاجِرُ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ؟ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَلِيٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّاتِ، وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زَجْرًا، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ.
أَسْبَابُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَسْبَابٌ عِدَّةٌ: أَوَّلًا: الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ:
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ إِلاَّ بِالْحِنْثِ فِيهِ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْحِنْثِ هُوَ الْمُخَالَفَةُ لِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ، أَوْ تَرَكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَرَاخَى عَنْ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، إِلَى وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ فِعْلُهُ.وَلَا خِلَافَ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا.كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ، نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا.وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ كَاذِبَةٌ يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ.
وَفِي وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَفِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَاتِ بِتَعَدُّدِ الْأَيْمَانِ، وَفِي رَفْعِ الْكَفَّارَةِ الْحِنْثُ.
الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَكَمُ وَعَطَاءٌ وَمَعْمَرٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَفَّارَةٌ لِكَوْنِهَا مِنَ الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ.
وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مِنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوَجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»،، يُوجِبُ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَدِلَّةٍ تُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
فَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا جَزَاءَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَهَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ وَجَبَتْ إِنَّمَا تَجِبُ لِرَفْعِ هَذَا الْوَعِيدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ فَيَسْقُطُ جُرْمُهُ، وَيَلْقَى اللَّهَ- تَعَالَى- وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ.
قَالَ القرطبي: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِفُ: الْكَذِبَ، وَاسْتِحْلَالَ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ- تَعَالَى- وَالتَّهَاوُنَ بِهَا وَتَعْظِيمَ الدُّنْيَا؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّهُ، وَحَسْبُكَ.وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَمِينُ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ.
وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: فَهَذِهِ الْيَمِينُ فِي الْكَذِبِ وَاقْتِطَاعِ الْحُقُوقِ، فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَةٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى- رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يُعْطَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبُهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ».وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ».فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- عَدَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْكَبَائِرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهَا التَّوْبَةُ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذُكِرَتْ مَعَهُ.وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، فَقَدْ رَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي مُسْنَدِ شُعْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ، أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى مَالِ أَخِيهِ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَهُ قَالَ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْغَمُوسَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ، كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ.
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} مَعَ قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ الْيَمِينِ اللَّغْوِ، وَهِيَ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَأَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ لِلْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ بِقَوْلِهِ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} أَيْ قَصَدْتُمْ وَصَمَّمْتُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مَقْصُودَةٌ فَتَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ.
وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ».وَقَالُوا: إِنَّ الْحَالِفَ كَذِبًا أَحْوَجُ لِلْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَزِيدُهُ إِلاَّ خَيْرًا، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَكَفَّرَ، فَالْكَفَّارَةُ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ التَّعَدِّي بَلْ تَنْفَعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ- نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا- عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا لَغْوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبِهِ قَالَ ربيعة ومكحول وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ.وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ ( (، وَعَنِ الْقَاسِمِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا كَفَّارَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا.
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: مِثَالُ الْمَاضِي: وَاللَّهِ مَا جَاءَ زَيْدٌ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، وَمِثَالُ الْمُسْتَقْبَلِ: وَاللَّهِ مَا يَأْتِي غَدًا وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ.وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: اللَّغْوُ وَالْغَمُوسُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا إِنْ تَعَلَّقَا بِمَاضٍ، وَفِيهِمَا الْكَفَّارَةُ إِنْ تَعَلَّقَا بِالْمُسْتَقْبَلِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ، وَالْيَمِينُ الْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَكَانَتِ الْيَمِينُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ مُطْلَقًا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ لَغْوًا وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ عَنْهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}.وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}.وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ: هِيَ الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْحِفْظَ عَنِ الْحِنْثِ وَهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَمْ لَا، وَوُجُوبُ الْحِفْظِ يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ.كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخَذُوا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَأَبَاهُ- رضي الله عنه- وَاسْتَحْلَفُوهُمَا أَنْ لَا يَنْصُرَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ».وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ حُذَيْفَةَ بِالْوَفَاءِ رَغْمَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ غَيْرُ قَاصِدٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَقَالُوا كَذَلِكَ: اللَّغْوُ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ عَنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ فَكَانَ لَغْوًا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجِدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ.
تَعَدُّدُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَنْ آكُلَ وَلَنْ أَشْرَبَ وَلَنْ أَلْبَسَ، فَحَنِثَ فِي الْجَمِيعِ فَكَفَّارَتُهُ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ وَالْحِنْثَ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ حَلَفَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى عَلَى أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ.
أ- الْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً:
11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً كَأَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ يَجِبُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ.فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ: (قُلْتُ) أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، أَيَكُونُ عَلَى هَذَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ (قُلْتُ) أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ فُلَانٍ، ثُمَّ يَحْلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ لِتِلْكَ الدَّارَ بِعَيْنِهَا الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَأَمَانَتُهُ وَكَفَالَتُهُ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ فِيهَا إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَنْ كَرَّرَ يَمِينًا مُوجِبُهَا وَاحِدٌ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ وَاللَّهِ لَا آكُلُ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّأْكِيدَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَرَّرَ الْمُقْسَمَ بِهِ- وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى- وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَقُولُ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَبَيْنَ مَا إِذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَعَادَهُمَا جَمِيعًا، كَأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا.وَفِي الْحَالَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ بِدُونِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَمْثِلَةِ.
فَإِذَا كَانَ تَكْرَارُ الْمُقْسَمِ بِهِ بِدُونِ حَرْفِ عَطْفٍ- كَمَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ- كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مُتَّفِقًا كَمَا ذُكِرَ أَوْ مُخْتَلِفًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا.أَمَّا إِذَا دَخَلَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ حَرْفُ عَطْفٍ- كَمَا فِي الْمِثَالِ الثَّانِي- فَهُمَا يَمِينَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.وَإِذَا كَانَ تَكْرَارُهُمَا جَمِيعًا، كَمَا إِذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَهُمَا يَمِينَانِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ بِدُونِهِ، كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ.
الْأَدِلَّةُ:
أَوَّلًا: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ وَاحِدٌ، فَتَلْزَمُ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَا تُفِيدُ إِلاَّ مَا أَفَادَتْهُ الْأُولَى، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثَانِيًا: وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ وَالِاسْمُ مُخْتَلِفٌ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ الِاسْمَ الثَّانِي يَصْلُحُ صِفَةً لِلْأَوَّلِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ الصِّفَةَ، فَيَكُونُ حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ، لَا بِاسْمِ الذَّاتِ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا بِاسْمِ الصِّفَةِ عَلَى حِدَةٍ.أَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْمُ مُتَّفِقًا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَإِنَّ الثَّانِيَ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ، إِنَّمَا يَصْلُحُ تَأْكِيدًا لَهُ، فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ يَمِينَيْنِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اللَّهِ ابْتِدَاءُ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَهُوَ قَسَمٌ صَحِيحٌ.وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ حَرْفَ الْعَطْفِ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ بِأَنْ قَالَ: وَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا يَمِينَانِ بِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ أَحَدَ الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى حِدَةٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْطِفْ، أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجْعَلُ الثَّانِيَ صِفَةً لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً، لِأَنَّ الِاسْمَ يَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَّاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.أَمَّا إِذَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْمِ الثَّانِي، عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا أُخْرَى، إِذْ لَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ أَوِ التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ.
ب- الْحَلِفُ بِأَيْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ بِأَيْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ، وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَرِوَايَةُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ الْكَفَّارَاتِ بِأَنَّهُنَّ أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إِحْدَاهُنَّ بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَمْ تُتَكَفَّرْ إِحْدَاهَا بِكَفَّارَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ إِحْدَاهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، وَكَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ مَتَى حَنِثَ فِي إِحْدَاهَا كَانَ حَانِثًا فِي الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ وَاحِدًا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاحِدَةً، وَهَاهُنَا تَعَدَّدَ الْحِنْثُ، فَتَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَاتُ.وَفَارَقَ الْحُدُودَ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهَا رُبَّمَا أَفْضَتْ إِلَى التَّلَفِ فَاجْتُزِئَ بِإِحْدَاهَا، وَهَاهُنَا الْوَاجِبُ إِخْرَاجُ مَالٍ يَسِيرٍ أَوْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَلَا يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ.
بَيْنَمَا اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهَا كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ فَتَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَالُّهَا بِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ يَزْنِيَ بِنِسَاءٍ.
تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ
13- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ.
كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ- أَيْضًا- فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنهم-.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ رَأْيُ رَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ: أَنَّ عِدَّةَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَا إِذَا كَفَّرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَلَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ التَّكْفِيرُ عِنْدَ الْحِنْثِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ عَدَمَ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، إِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تُجْزِئُ قَبْلَ الْحِنْثِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِإِرَادَةِ الْحِنْثِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِذَا حَلَفْتُمْ فَأَرَدْتُمُ الْحِنْثَ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يُفِيدُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْيَمِينِ فَيَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ، لِتَكُونَ الْكَفَّارَةُ مُحَلِّلَةً لِلْيَمِينِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، حَيْثُ أَمَرَ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّكْفِيرِ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ عَطَفَ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، فَدَلَّ هَذَا دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى إِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَكَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْعَوْدِ، وَالْقَتْلُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ، لِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ سَبَبِهِ فَجَازَ.
وَبِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمَّا كَانَ يُحِلُّهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ كَلَامٌ، فَلِأَنْ تُحِلَّهُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ فِعْلٌ مَالِيٌّ أَوْ بَدَنِيٌّ أَوْلَى.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} مَعَ قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْحِنْثِ وَلَيْسَتْ لِلْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: تَصْوِيرُهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ نَفْيُ مُؤَاخَذَتِنَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُؤَاخِذُنَا بِمَا عَقَّدْنَا مِنَ الْأَيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كَذَا.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} تَقْدِيرُهُ: أَيْ فَتَرَكْتُمُ الْمُحَافَظَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ الْحِنْثِ، أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ، وَكَذَا فِي قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، كَمَا فِي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ عَامِدًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ.وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} مَعْنَاهُ: فَتَحَلَّلْ.وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا لَا تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّكْفِيرِ، فَيَجِبُ إِضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنِّي وَاللَّهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيَّنَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ» مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَأَلْزَمَ الْحِنْثَ إِذَا كَانَ خَيْرًا ثُمَّ التَّكْفِيرَ.فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنَ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ، عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ.
وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَالِ أَوْ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ، وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ، لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنَ الْحِنْثِ غَيْرُ مُفْضِيَةٍ بِخِلَافِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ مَفْضِيٌّ.
ثَانِيًا: الْقَتْلُ:
14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْقَتْلِ بِسَبَبٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
46-موسوعة الفقه الكويتية (محاسبة)
مُحَاسَبَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُحَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَاسَبَ يُقَالُ: حَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً، وَحِسَابًا: نَاقَشَهُ الْحِسَابَ وَجَازَاهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُسَاءَلَةُ:
2- الْمُسَاءَلَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَاءَلَ يُقَالُ سَاءَلَهُ أَيْ سَأَلَهُ، وَيُقَالُ تَسَاءَلُوا: سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ السُّؤَالُ اسْتِدْعَاءُ مَعْرِفَةٍ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَاسْتِدْعَاءُ مَالٍ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَالِ.
وَالْمُسَاءَلَةُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الْمُحَاسَبَةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُحَاسَبَةِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُحَاسَبَةِ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلًا: مُحَاسَبَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ
3- يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ حِسَابُهُ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: (حَاسِبُوا أَنَفْسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا)، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: (حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ).
وَالْمُحَاسَبَةُ تَارَةً تَكُونُ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَتَارَةً تَكُونُ بَعْدَ الْعَمَلِ، وَتَارَةً قَبْلَهُ، لِلتَّحْذِيرِ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}.
ثَانِيًا: مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَلْزَمُ مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ فِي كُلِّ عَامٍ وَيَكْتَفِي الْقَاضِي مِنْهُ بِالْإِجْمَالِ لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ، فَلَوْ كَانَ مُتَّهَمًا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّعْيِينِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَا يَحْبِسُهُ بَلْ يُهَدِّدُهُ، وَلَوِ اتَّهَمَهُ يُحَلِّفُهُ.
وَإِذَا تَحَاسَبَ نَاظِرُ الْوَقْفِ مَعَ الْمُسْتَحِقِّينَ عَلَى مَا قَبَضَهُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ فِي سَنَةٍ مَعْلُومَةٍ وَمَا صَرَفَهُ مِنْ مَصَارِفِ الْوَقْفِ الضَّرُورِيَّةِ وَمَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ فَاضِلِ الْغَلَّةِ، وَصَدَّقَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَتَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ وُصُولًا بِذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ وَالصَّرْفِ وَالتَّصْدِيقِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ شَرْعًا وَلَيْسَ لَهُمْ نَقْضُ الْمُحَاسَبَةِ بِدُونِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ.
وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي عَلَى وَقْفِ بِرٍّ يَكْتُبُ مَقْبُوضَهُ وَمَصْرُوفَهُ كُلَّ سَنَةٍ بِمَعْرِفَةِ الْقَاضِي بِمُوجِبِ دَفْتَرٍ مَمْضِيٍّ بِإِمْضَائِهِ فَيَعْمَلُ بِدَفَاتِرِ الْمُحَاسَبَةِ الْمُمْضَاةِ بِإِمْضَاءِ الْقُضَاةِ وَلَا يُكَلَّفُ الْمُحَاسَبَةَ ثَانِيًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ وَعُدِمَ كِتَابُ الْوَقْفِ، قُبِلَ قَوْلُ النَّاظِرِ إِنْ كَانَ أَمِينًا، وَإِذَا ادَّعَى النَّاظِرُ أَنَّهُ صَرَفَ الْغَلَّةَ صُدِّقَ إِنْ كَانَ أَمِينًا أَيْضًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شُهُودٌ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ لَا يُصْرَفُ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ صَرَفَ عَلَى الْوَقْفِ مَالًا مِنْ مَالِهِ صُدِّقَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا فَيَحْلِفُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ صَرْفَ الرِّيعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَلَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ فَهَلْ لِلْإِمَامِ مُطَالَبَتُهُ لِلْحِسَابِ أَوْ لَا؟ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا شُرَيْحٌ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ، وَيُصَدَّقُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَهُ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي حَلَّفَهُ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إِنْفَاقُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَادَةِ وَفِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ، بِخِلَافِ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا لِحِسَابِ أَمْوَالِ الْأَوْقَافِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّاظِرَ عَلَى الْوَقْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ، فَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ مُتَبَرِّعًا فِي نَظَرِهِ عَلَى الْوَقْفِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَا يُكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ ذَلِكَ.
ثَالِثًا: مُحَاسَبَةُ الْإِمَامِ لِلْجُبَاةِ
5- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي (جِبَايَةٌ ف 22).
رَابِعًا: مُحَاسَبَةُ الْعُمَّالِ:
6- يَجِبُ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ رَفْعُ الْحِسَابِ إِلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ وَعَلَيْهِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، أَمَّا عُمَّالُ الْعُشْرِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ وَلَا يَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسِبَتُهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمْ صَدَقَةٌ لَا يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَهْلُهَا بِمَصْرِفِهَا أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ، وَإِذَا حُوسِبَ مَنْ وَجَبَتْ مُحَاسَبَتُهُ مِنَ الْعُمَّالِ نَظَرَ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ الْعَامِلِ وَكَاتِبِ الدِّيوَانِ حَلِفٌ كَانَ كَاتِبُ الدِّيوَانِ مُصَدَّقًا فِي بَقَايَا الْحِسَابِ، فَإِنِ اسْتَرَابَ بِهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ كَلَّفَهُ إِحْضَارَ شَوَاهِدِهِ فَإِنْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَزُلِ الرِّيبَةُ وَأَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْإِحْلَافَ عَلَى ذَلِكَ أَحْلَفَ الْعَامِلَ دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْعَامِلِ دُونَ الْكَاتِبِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحِسَابِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي دَخْلٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي خَرَاجٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْكَاتِبِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ.
وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِسَاحَةٍ يُمْكِنُ إِعَادَتُهَا اعْتُبِرَتْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ وَعُمِلَ فِيهَا عَلَى مَا يَخْرُجُ بِصَحِيحِ الِاعْتِبَارِ.
خَامِسًا: مُحَاسَبَةُ الْأُمَنَاءِ
7- قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الْأُمَنَاءِ وَيُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَا هُمْ مُبَاشِرُوهُ.
وَقَالَ السِّمْنَانِيُّ: إِذَا حُوسِبَ الْأُمَنَاءُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَمَنْ كَانَ الْقَاضِي أَقَامَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَصِيِّ، وَمَنْ لَمْ يُقِمْهُ الْقَاضِي وَصِيًّا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي الضَّيْعَةِ وَقَابِضًا وَأَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْيَتِيمِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الضَّيْعَةِ إِذَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ يُنْفَقُ فِي الْمُدَّةِ، وَفِيمَا صَارَ فِي يَدِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْأَثْمَانِ، وَإِنِ اتُّهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمُ اسْتُحْلِفَ.
سَادِسًا: مُحَاسَبَةُ الْوَصِيِّ وَإِجْبَارُهُ عَلَى تَقْدِيمِ بَيَانٍ
8- إِذَا عُرِفَ الْوَصِيُّ بِالْأَمَانَةِ وَكَبِرَ الْوَرَثَةُ وَأَخْبَرَ وَصِيُّهُمْ بِأَنَّهُ أَنْفَقَ كُلَّ مَا خَلَّفَهُ أَبُوهُمْ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى ضِيَاعِهِمْ، أَوْ قَالَ لَهُمْ مَا بَقِيَ عِنْدِي مِنْهُ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ، وَلَمْ يُفَسِّرِ الْحَالَ فَأَرَادُوا مُحَاسَبَتَهُ وَبَيَانَ مَصْرِفِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَلْ أَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ، وَطَلَبُوا مِنَ الْحَاكِمِ الْمُحَاسَبَةَ، أَوْ طَلَبَ الْحَاكِمُ نَفْسُهُ ذَلِكَ فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَا لِلْحَاكِمِ لَكِنْ لَوِ امْتَنَعَ عَنْ إِعْطَائِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَصِيِّ فِيمَا أَنْفَقَ فِي الصَّرْفِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَمِينُهُمْ أَوْ أَمِينُ الْحَاكِمِ فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِيمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا أُجْبِرَ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ أَنْ يُحْضِرَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَيُخَوِّفَهُ فَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ لَمْ يَحْبِسْهُ بَلْ يَكْتَفِي بِيَمِينِهِ.
سَابِعًا: مُحَاسَبَةُ مَنْ بِيَدِهِ التَّرِكَةُ مِنَ الْوَرَثَةِ
9- إِذَا كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يَحُوزُونَ التَّرِكَةَ أَوْ بَعْضًا مِنْهَا جَازَ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى مَا فِي يَدِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ وَنَمَائِهَا وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
47-موسوعة الفقه الكويتية (ملتزم)
مُلْتَزَمٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُلْتَزَمُ بِفَتْحِ الزَّايِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْلِ الْتَزَمَ، يُقَالُ: الْتَزَمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: اعْتَنَقْتُهُ فَهُوَ مُلْتَزَمٌ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَا بَيْنَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: الْمُلْتَزَمُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَنِقُونَهُ، أَيْ: يَضُمُّونَهُ إِلَى صُدُورِهِمْ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي بِهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ مِنْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَعَرْضُهُ عُلُوُّ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: مِسَاحَتُهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ بِذِرَاعِ الْيَدِ.
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- الْتَزَمَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا يُؤَمِّنُ عَلَى الدُّعَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّائِفُ الْمُلْتَزَمَ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ: فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلَا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ».
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَيْضًا.
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ الطَّوَافِ مُطْلَقًا.
كَيْفِيَّةُ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ وَالدُّعَاءِ فِيهِ
3- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ أَنْ يُلْصِقَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِجِدَارِ الْبَيْتِ، وَيَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ، وَيَبْسُطَ ذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى الْبَابِ وَالْيُسْرَى إِلَى الرُّكْنِ، وَيَتَعَلَّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ عَبْدٌ ذَلِيلٌ بِطَرْفِ ثَوْبٍ لِمَوْلَى جَلِيلٍ كَالْمُتَشَفِّعِ بِهَا، وَدَعَا حَالَ تَثَبُّتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْأَسْتَارِ مُجْتَهِدًا مُتَضَرِّعًا، مُتَخَشِّعًا، مُكَبِّرًا، مُهَلِّلًا، مُصَلِّيًا عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَبْكِي أَوْ يَتَبَاكَى، وَلَوْ لَمْ يَنَلِ الْأَسْتَارَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى الْجِدَارِ قَائِمَتَيْنِ، وَالْتَصَقَ بِالْجِدَارِ، وَدَعَا بِمَا شَاءَ وَبِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ وَأَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ، وَسَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِكَ حَتَّى بَلَّغَتْنِي بِنِعْمَتِكَ إِلَى بَيْتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلاَّ فَمِنَ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، فَهَذَا أَوَانُ الْفِرَاقِ إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ، وَلَا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلَا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ أَبَدًا مَا أَبْقَيْتَنِي، وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.وَإِنْ أَحَبَّ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَقْتُ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَشْهُورِ مِنَ الرِّوَايَاتِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّفَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ يَلْتَزِمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَفْضَلُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
48-موسوعة الفقه الكويتية (نصيحة)
نَصِيحَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: قَوْلٌ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَى صَلَاحٍ وَنَهْيٌ عَنْ فَسَادٍ، وَالْجَمْعُ: نَصَائِحُ، وَهِيَ اسْمٌ مِنْ مَصْدَرِ الْفِعْلِ نَصَحَ، يُقَالُ: نَصَحَ الشَّيْءَ نُصْحًا وَنَصُوحًا وَنَصَاحَةً: خَلَصَ.
وَنَصَحَتْ تَوْبَتُهُ: خَلَصَتْ مِنْ شَوَائِبِ الْعَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَنَصَحَ قَلْبُهُ: خَلَا مِنَ الْغِشِّ، وَنَصَحَ الشَّيْءَ: أَخْلَصَهُ، وَيُقَالُ: نَصَحَ فُلَانًا وَلَهُ وَهُوَ بِاللاَّمِ أَفْصَحُ-: أَرْشَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُ.
وَنَاصَحَ فُلَانًا: نَصَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَنَاصَحَ فُلَانٌ نَفْسَهُ فِي التَّوْبَةِ: أَخْلَصَهَا.
وَانْتَصَحَ فُلَانٌ: قَبِلَ النَّصِيحَةَ، وَانْتَصَحَ فُلَانًا: اتَّخَذَهُ نَاصِحًا وَاعْتَدَّهُ نَاصِحًا.
وَالنَّصْحُ وَالنُّصْحُ: إِخْلَاصُ الْمَشُورَةِ، وَالنَّصُوحُ: مُبَالَغَةٌ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا.
وَالنَّصِيحَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِخْلَاصُ الرَّأْيِ مِنَ الْغِشِّ لِلْمَنْصُوحِ، أَوْ هِيَ: الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيُّ قَوْلَهُ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَيُقَالُ: وَهِيَ مِنْ وَجِيزِ الْأَسْمَاءِ وَمُخْتَصَرِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخَدِيعَةُ:
2- الْخَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْخَدْعِ، يُقَالُ: خَدَعَهُ خَدْعًا- وَيُكْسَرُ-: خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، كَاخْتَدَعَهُ فَانْخَدَعَ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ- مُثَلَّثَةٌ- وَكَهُمَزَةٍ: أَيْ تَنْقَضِي بِخُدْعَةِ، وَالْخُدَعَةُ أَيْضًا: الْكَثِيرُ الْخِدَاعِ، وَالْخُدْعَةُ: مَنْ يَخْدَعُهُ النَّاسُ كَثِيرًا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْخَدِيعَةِ التَّضَادُّ.
ب- الْغِشُّ:
3- الْغِشُّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- اسْمٌ مِنَ الْغَشِّ- بِفَتْحِهَا- يُقَالُ: غَشَّهُ غِشًّا: لَمْ يَنْصَحْهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ لَمْ يُمَحِّصْهُ النُّصْحُ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَهُ، أَوْ هُوَ الْغِلُّ وَالْحِقْدُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْغِشِّ التَّضَادُّ.
ج- التَّوْبِيخُ:
4- التَّوْبِيخُ مَصْدَرُ وَبَّخَ، يُقَالُ: وَبَّخْتُهُ تَوْبِيخًا: لُمْتُهُ، وَعَذَلْتُهُ، وَأَنَّبْتُهُ، وَهَدَّدْتُهُ، وَعَنَّفْتُهُ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ: عَيَّرْتُهُ.
وَالتَّوْبِيخُ فِي الِاصْطِلَاحِ: التَّعْيِيرُ وَاللَّوْمُ وَالْعَذَلُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالتَّوْبِيخِ الْإِسْرَارُ وَالْإِعْلَانُ بِمَعْنَى أَنَّ النَّصِيحَةَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِسْرَارُ بِهَا، وَالتَّوْبِيخُ يَكُونُ عَلَانِيَةً.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا لِخَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: عَظَّمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمْرَ النُّصْحِ فَقَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ النُّصْحَ وَاجِبٌ لِكَافَّةِ النَّاسِ بِأَنْ تَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: النَّصِيحَةُ فَرْضُ عَيْنٍ سَوَاءٌ طُلِبَتَ أَوْ لَمْ تُطْلَبْ إِذَا ظَنَّ الْإِفَادَةَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ النَّصِيحَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُجْزَى فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَهِيَ لَازِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ أَوِ الطَّاقَةِ إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ نُصْحُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وُجُوبُ النُّصْحِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الْمَنْصُوحِ.
وَلَا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالنَّصِيحَةِ عَنِ الْمُسْلِمِ مَادَامَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: قَدْ تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلَا غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِيَ إِنْ صَحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلاَّ كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ.
مَكَانَةُ النَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ:
6- رَوَى تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَصْرِ الدِّينِ فِي النَّصِيحَةِ- الَّذِي وَرَدَ بِالْحَدِيثِ- هَلْ هُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ أَمْ حَقِيقِيٌّ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمُنَاوِيِّ وَابْنِ عَلاَّنٍ: حَدِيثُ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» أَيْ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» فَهُوَ مِنَ الْحَصْرِ الْمَجَازِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ أَنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي مَدْحِ النَّصِيحَةِ حَتَّى جُعِلَتْ كُلَّ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ الدِّينُ مُشْتَمِلًا عَلَى خِصَالٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَابْنِ رَجَبٍ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَكْمُلُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ عَامِلُهُ الْإِخْلَاصَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ.
مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّصِيحَةُ وَمَا تَكُونُ بِهِ:
7- وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَلَامًا نَفِيسًا، أَنَا أَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، قَالُوا:
أَمَّا النَّصِيحَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْإِلْحَادِ فِي صِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ كُلِّهَا، وَتَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ، وَالْبُغْضِ فِيهِ، وَمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَجِهَادِ مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ، وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا، وَالْإِخْلَاصِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفِ بِالنَّاسِ أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عِلْمُهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَبْدِ فِي نُصْحِهِ نَفْسَهُ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِحِ.
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتَكُونُ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيلُهُ، لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْخَلْقِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَعْظِيمُهُ وَتِلَاوَتُهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوعُ عِنْدَهَا، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَالذَّبُّ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّضِ الطَّاغِينَ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَا فِيهِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ أَحْكَامِهِ، وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِمُتَشَابِهِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَنَشْرُ عُلُومِهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَتِهِ.
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَصْدِيقُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَنُصْرَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ، وَإِعْظَامُ حَقِّهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَبَثُّ دَعْوَتِهِ، وَنَشْرُ شَرِيعَتِهِ، وَنَفْيُ التُّهْمَةِ عَنْهَا، وَاسْتِثَارَةُ عُلُومِهَا، وَالتَّفَقُّهُ فِي مَعَانِيهَا، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفُ فِي تَعَلُّمِهَا وَتَعْلِيمِهَا، وَإِعْظَامُهَا وَإِجْلَالُهَا، وَالتَّأَدُّبُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِجْلَالُ أَهْلِهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي سُنَّتِهِ أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ بِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ فِيهِ، وَأَمْرِهِمْ بِهِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمِنَ النَّصِيحَةِ لَهُمُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ، وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ، وَأَدَاءُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَةٍ، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُتَأَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتِهِمْ قَبُولَ مَا رَوَوْهُ وَتَقْلِيدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَإِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِمْ.
وَأَمَّا نَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ- وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاةِ الْأَمْرِ- فَإِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ، فَيُعَلِّمُهُمْ مَا يَجْهَلُونَ مِنْ دِينِهِمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدِّ خَلاَّتِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ، وَرَحْمَةِ صَغِيرِهِمْ، وَتَخَوُّلِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَتَرْكِ غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَالذَّبِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّخَلُّقِ وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصِيحَةِ، وَتَنْشِيطِ هِمَمِهِمْ إِلَى الطَّاعَاتِ.
الْحَاجَةُ إِلَى النَّصِيحَةِ:
8- الْمُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى نُصْحِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِأَنَّهُ يَرَى مِنْهُ مَا لَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ، فَيَسْتَفِيدُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَمْ يَسْتَفِدْ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِالْمِرْآةِ الْوُقُوفَ عَلَى عُيُوبِ صُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ».
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يَسْتَهْدِي ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَى أَخِيهِ عُيُوبَهُ، وَقَالَ لِسَلْمَانَ- رضي الله عنه- وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ: مَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي مِمَّا تَكْرَهُ؟ فَاسْتَعْفَى، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ لَكَ حُلَّتَيْنِ تَلْبِسُ إِحْدَاهُمَا بِالنَّهَارِ وَالْأُخْرَى بِاللَّيْلِ، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ بَيْنَ إِدَامَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ كَفَيْتُهُمَا فَهَلْ بَلَغَكَ غَيْرُهُمَا؟ فَقَالَ: لَا.
وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ: مَنْ قَبِلَ النَّصِيحَةَ أَمِنَ الْفَضِيحَةَ وَمَنْ يَأْبَى فَلَا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَاذِبِينَ بِبُغْضِهِمْ لِلنَّاصِحِينَ إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
الْإِسْرَارُ بِالنَّصِيحَةِ:
9- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النَّصِيحَةُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، بِأَنْ يَنْصَحَ النَّاصِحُ لِلْمَنْصُوحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَا يُطْلِعَ عَلَى عَيْبِهِ أَحَدًا، لِأَنَّ نَصَائِحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي آذَانِهِمْ، وَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى يُعَاتِبُ الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ كَنَفِهِ فِي ظِلِّ سَتْرِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى ذُنُوبِهِ سِرًّا، وَقَدْ يُدْفَعُ كِتَابُ عَمَلِهِ مَخْتُومًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحِفُّونَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَارَبُوا بَابَ الْجَنَّةِ أَعْطَوْهُ الْكِتَابَ مَخْتُومًا لِيَقْرَأَهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَقْتِ فَيُنَادَوْنَ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ وَتُسْتَنْطَقُ جَوَارِحُهُمْ بِفَضَائِحِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خِزْيًا وَافْتِضَاحًا.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ وَعَظُوهُ سِرًّا، بَلْ إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ إِذَا سَمِعَ مَا يَكْرَهُ عَنْ أَخِيهِ ذَبَّ عَنْ عِرْضِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ وَنَصَحَهُ، نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِلْفُضَيْلِ: إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِلَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، فَقَالَ: مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ دُونَ حَقِّهِ، ثُمَّ خَلَا بِهِ وَحَدَّثَهُ فِي ذَلِكَ بِالرِّفْقِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ إِنْ لَمْ نَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ.
بَلْ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّتْرَ وَالنُّصْحَ مِنْ خِلَالِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.
الْإِخْلَاصُ فِي النَّصِيحَةِ:
10- نَقَلَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَزْدَادُ فِي صِحَّةِ رَأْيِهِ مَا نَصَحَ لِمُسْتَشِيرِهِ، فَإِذَا غَشَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ نُصْحَهُ وَرَأْيَهُ، وَلَا يَلْتَفِتَنَّ إِلَى مَنْ قَالَ: إِذَا نَصَحْتَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِغِشِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ بِغِشِّهِ السُّكُوتَ عَنْهُ، فَقَدْ قِيلَ: كَثْرَةُ النَّصِيحَةِ تُورِثُ الظِّنَّةُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَوَّلُ النُّصْحِ أَنْ يَنْصَحَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَمَنْ غَشَّهَا فَقَلَّمَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ.
وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: وَيَنْبَغِي لِمَنِ اسْتَنْصَحَ أَنْ يُخْلِصَ النَّصِيحَةَ، لِأَنَّهُ مُسْتَشَارٌ يُوَجِّهُ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ.
عُدَّةُ النَّاصِحِ:
11- نَقَلَ الْمَنَاوِيُّ أَنَّ النَّاصِحَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَبِيرٍ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَوَّلًا إِلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْعِلْمُ الْعَامُّ الْمُتَضَمِّنُ لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَعِلْمِ الزَّمَانِ، وَعِلْمِ الْمَكَانِ، وَعِلْمِ التَّرْجِيحِ إِذَا تَقَابَلَتِ الْأُمُورُ فَيَفْعَلُ بِحَسَبِ الْأَرْجَحِ عِنْدَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى عِلْمَ السِّيَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَسُوسُ بِذَلِكَ النُّفُوسَ الْجَمُوحَةَ الشَّارِدَةَ عَنْ طَرِيقِ مَصَالِحِهَا، فَلِذَلِكَ قَالُوا: يَحْتَاجُ النَّاصِحُ إِلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرُؤْيَةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَأَنٍّ، فَإِنْ لَمْ تُجْمَعْ هَذِهِ الْخِصَالُ فَخَطَؤُهُ أَسْرَعُ مِنْ إِصَابَتِهِ فَلَا يَنْصَحُ.
النَّصِيحَةُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ:
12- قَالَ الْمَنَاوِيُّ: بِالنَّصِيحَةِ يَحْصُلُ التَّحَابُبُ وَالِائْتِلَافُ، وَبِضِدِّهَا يَكُونُ التَّبَاغُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَأَقْصَى مُوجِبَاتِ التَّحَابُبِ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ لِأَخِيهِ مَا يَرَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: مَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَدَقُّ وَلَا أَخْفَى وَلَا أَعْظَمُ مِنَ النَّصِيحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ: مَا فَاقَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ: الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ شِئْتُمْ لأَُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ...الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ، وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ.
النَّصِيحَةُ لِلْغَائِبِ:
13- لَا يُقَصَّرُ حَقُّ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ عَلَى حُضُورِهِ، بَلْ إِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ يَمْتَدُّ إِلَى غِيَابِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ»...وَذَكَرَ مِنْهَا: «يَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ».قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي غَيْبِهِ بِالسُّوءِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَرُدَّ عَنْهُ، وَإِذَا رَأَى مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ فِي غَيْبِهِ كَفَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النُّصْحِ.
النُّصْحُ لِلذِّمِّيِّ وَالْكَافِرِ:
14- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصَحَ الْكَافِرَ أَوِ الذِّمِّيَّ لِحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ؟ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ، وَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ، وَلَا حُرْمَتُهُ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ».
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ- أَيْ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ- رضي الله عنه- وَفِيهِ «فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».لِلْأَغْلَبِ، وَإِلاَّ فَالنُّصْحُ لِلْكَافِرِ مُعْتَبَرٌ، بِأَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُشَارَ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ إِذَا اسْتَشَارَ.
الْمُسْلِمُ يَنْصَحُ حَيًّا وَمَيِّتًا:
15- مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّصْحِ فِي كُلِّ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ، حَتَّى وَهُوَ يَسْتَقْبِلُ الْمَوْتَ، فَقَدْ أَثْنَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَدَعَا لَهُ بِالرَّحْمَةِ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ- رضي الله عنه- اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمَّا الْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى وُجِدَ وَهُوَ حَيٌّ، فَقَالَ لِمُلْتَمِسِهِ- وَهُوَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ- رضي الله عنه- مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لآِتِيَهُ بِخَبَرِكَ، قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ؟..وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَحَدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ، قُلْ لِقَوْمِكَ: يَقُولُ لَكُمْ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: اللَّهَ اللَّهَ وَمَا عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ لِمَجِيءِ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ، فَوَاللَّهِ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ إِنْ خُلِصَ إِلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، قَالَ أُبَيٌّ: فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: - رحمه الله-، نَصَحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
49-موسوعة الفقه الكويتية (نفاق)
نِفَاقٌالتَّعْرِيفُ:
1- النِّفَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَافَقَ، يُقَالُ: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ إِذَا دَخَلَ فِي نَافِقَائِهِ، وَمِنْهُ قِيلُ: نَافَقَ الرَّجُلُ: إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَهْلِهِ وَأَضْمَرَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَأَتَاهُ مَعَ أَهْلِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِمَعْنَاهَا الِاصْطِلَاحِيِّ هَذَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلَامَهُ.
عَلَى أَنَّ النِّفَاقَ يُطْلَقُ تَجَوُّزًا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الْآتِي ذِكْرُهَا، كَالْكَذِبِ وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ، أَوْ يُقَالُ: هَذَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَ اعْتِقَادِيًّا حَقِيقِيًّا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْكُفْرُ:
2- الْكُفْرُ لُغَةً هُوَ: السَّتْرُ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب- التَّقِيَّةُ:
3- التَّقِيَّةُ وَالتُّقَاةُ اسْمَا مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ السَّرَخْسِيُّ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ التَّقِيَّةِ وَالنِّفَاقِ فِيهِمَا إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَقِيَّةٌ ف 1، 4).
ج- الرِّيَاءُ:
4- أَصْلُ الرِّيَاءِ الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي.وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: الْمُرَاءَاةُ، أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ.
فَالرِّيَاءُ أَمْرٌ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا، كَمَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ.
أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:
5- قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيُبْطِنُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ.وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ، أَوْ نِفَاقُ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ عَلَانِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمُ اعْتِقَادِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ.وَحَيْثُ قُرِنَ الْكُفَّارُ بِالْمُنَافِقِينَ فِي وَعِيدٍ، يُرَادُ بِالْكُفَّارِ مَنْ كَانَ كُفْرُهُمْ مُعْلَنًا ظَاهِرًا، وَبِالْمُنَافِقِينَ أَهْلُ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ.
أَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ- الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِفَاقُ اعْتِقَادٍ- فَلَا يَدْخُلُونَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عُصَاةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ.وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ النِّفَاقِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الْآتِي بَيَانُهَا.
اجْتِمَاعُ النِّفَاقِ وَالْإِيمَانِ:
6- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَنَقَلَ عَنْ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا «وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: » النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَلَ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَقَالَ: بَلْ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَان} قَالَ: وَلِلنِّفَاقِ شُعَبٌ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ شُعَبِ النِّفَاقِ شُعَبٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ.قَالَ: وَضَعْفُ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ فِي الْمَعَاصِي، أَمَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهُ يُعْصَمُ مِنْهَا.
عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
7- حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مُكَفِّرٌ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَتُبْ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَالَ: فَحَيْثُمَا كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ ظُهُورٌ، وَتُخَافُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ بَقَائِهِ- عَمِلْنَا بِآيَةِ {وَدَعْ أَذَاهُمْ} وَحَيْثُمَا حَصَلَ لَنَا الْقُوَّةُ وَالْعِزُّ خُوطِبْنَا بِقَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَتَوَجَّهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَتَرْكُهُ، لِمُعَارِضٍ.
مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
8- لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ.
تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ:
9- الْمُنَافِقُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ تَابَ تَوْبَةً صَادِقَةً مِنْ قَلْبِهِ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَتَحَتْ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَحُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلْإِسْلَامِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، تَفْصِيلُهُ فِي (زَنْدَقَةٌ ف 5، وَتَوْبَةٌ ف 12- 13).
الْمَعْصِيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النِّفَاقِ:
10- لَيْسَتْ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَصْدُرُ عَنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ وُجُودِ الشُّبْهَةِ، أَوِ التَّأَوُّلِ، أَوِ اسْتِعْجَالِ الْحُصُولِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَنْهُ، مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ.وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِفَاعِلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحُبٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِنُعَيْمَانَ، وَقَدْ جُلِدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
إِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
11- يُجْرَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ، مَا دَامَ كُفْرُهمْ مَخْفِيًّا غَيْرَ مُعْلَنٍ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.
أَمَّا مَنْ يُعْلَمُ نِفَاقُهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِ الْمُرْتَدِّ، فَمِنْ ذَلِكَ:
أ- الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُنَافِقِ:
12- يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ كَانَ نِفَاقُهُ غَيْرَ مُعْلَنٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ بِهِ، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ثُمَّ عَلِمَ نِفَاقَهُ، فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ مُطْلَقًا وَلَوْ طَالَتْ إِمَامَتُهُ بِالنَّاسِ.
وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ فِي حَالِ الطُّولِ، لِلْمَشَقَّةِ.
ب- صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
13- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ».وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ- لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَ الْمُنَافِقِينَ.
فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ.يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ.
ج- الْجِهَادُ:
1- كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَغَازِي، كَمَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَتَخَلَّفَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ.وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ حُذَيْفَةُ بِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْمُحَاوَلَةِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي الظَّاهِرِ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
د- الْحَذَرُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي شُئُونِ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ:
15- يَجِبُ أَخْذُ الْحَذَرِ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي شُئُونِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ يَبْغُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ الْمَهَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَالْبِطَانَةُ: مَنْ يَسْتَبْطِنُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطَّلِعُ عَلَى دَخَائِلِ أُمُورِهِمْ.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا سَارَ بِالْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ الْمُخَذِّلِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْمُرْجِفِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ بِقُوَّةِ الْكُفَّارِ وَضَعْفِنَا، وَمَنْ يُكَاتِبُ بِأَخْبَارِنَا، وَمَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَةٍ.
وَأَمَّا الْإِدَارَةُ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَالْعَدَالَةَ مُشْتَرَطَةٌ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ، وَلَيْسَ الْمُنَافِقُ مِنْ أَهْلِهَا.
هـ- الْمِيرَاثُ:
16- يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَتْ زَنْدَقَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ تَابَ فِي الْحَيَاةِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ تَوْبَتِهِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا مِنْهُ، يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، أَمَّا إِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ مَالَهُ لَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.حَيْثُ قَالُوا: الزِّنْدِيقُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى مُنَافِقًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُورَثُ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
50-موسوعة الفقه الكويتية (هذيان)
هَذَيَانٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْهَذَيَانُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: هَذَى يَهْذِي هَذْيًا وَهَذَيَانًا: تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فِي مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، مِثْلِ كَلَامِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَعْتُوهِ.
وَاصْطِلَاحًا: التَّكَلُّمُ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- اللَّغْوُ:
2- اللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ مِنْهَا: السَّقْطُ وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَلَى فَائِدَةٍ وَلَا نَفْعٍ.
وَاصْطِلَاحًا: ضَمُّ الْكَلَامِ بِمَا هُوَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ فِي حُقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ.وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَذَيَانِ وَاللَّغْوِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ.
ب- اللَّغَطُ:
3- اللَّغَطُ هُوَ: كَلَامٌ فِيهِ جَلَبَةٌ وَاخْتِلَاطٌ، وَلَا يُتَبَيَّنُ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الْأَصْوَاتُ الْمُرْتَفِعَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْقِرَاءَةِ أَوِ الذِّكْرِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْهَذَيَانِ وَاللَّغَطِ: أَنَّ الْهَذَيَانَ لَا يُقْصَدُ مَعْنَاهُ، وَاللَّغَطَ يُقْصَدُ مَعْنَاهُ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَذَيَانِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهَذَيَانِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
طَلَاقُ الْهَاذِي وَتَصَرُّفَاتُهُ:
4- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زَائِلَ الْعَقْلِ بِغَيْرِ سُكْرٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذَى أَوْ غَلَبَ عَلَى كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ وَاخْتِلَاطُ الْجِدِّ بِالْهَزْلِ وَلَا تَجْرِي أَقْوَالُهُ عَلَى نَهْجِهِ الْمُعْتَادِ إِلاَّ نَادِرًا لَمْ يُعْتَدَّ بِعِبَارَاتِهِ: كَالْمَجْنُونِ، وَالْمَدْهُوشِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمُبَرْسَمِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَنِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ مُصِيبَةٍ فَاجَأَتْهُ، وَكُلُّ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى أَقْوَالِهِ الْخَلَلُ وَعَدَمُ الِانْتِظَامِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَيُرِيدُهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ وَالْمَعْرِفَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْهَذَيَانَ هُوَ: الْكَلَامُ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ لِمَرَضٍ أَصَابَهُ، فَإِذَا هَذَى فَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ وَقَعَ مِنِّي فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ لِقَرِينَةٍ، أَوْ قَالَ: وَقَعَ مِنِّي شَيْءٌ وَلَمْ أَعْقِلْهُ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ شُعُورَهُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَقَلَهُ، قَالَهُ ابْنُ نَاجِي، وَسَلَّمُوهُ لَهُ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ كَثِيرًا مَا يَتَخَيَّلُ الْمَرِيضُ خَيَالَاتٍ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى مُقْتَضَاهَا بِكَلَامٍ خَارِجٍ عَنْ قَانُونِ الْعُقَلَاءِ فَإِذَا أَفَاقَ اسْتَشْعَرَ أَصْلَهُ وَأَخْبَرَ عَنِ الْخَيَالَاتِ الْوَهْمِيَّةِ كَالنَّائِمِ.
أَثَرُ الْهَذَيَانِ عَلَى الْعَدَالَةِ:
5- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ أَنْ يَكُونَ صَدُوقَ اللِّسَانِ قَلِيلَ اللَّغْوِ وَالْهَذَيَانِ حَتَّى إِذَا اعْتَادَ الْكَذِبَ وَتَعَوَّدَ الْهَذْيَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
51-موسوعة الفقه الكويتية (ورع)
وَرَعٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَرَعُ لُغَةً: الْكَفُّ، مِنْ وَرِعَ يَرِعُ وَرْعًا وَوَرَعًا وَرِعَةً: تَحَرَّجَ وَتَوَقَّى عَنِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ الْحَلَالِ الْمُبَاحِ، فَهُوَ وَرِعٌ.
وَالْوَرَعُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَرَعُ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ، وَقَالَ مِثْلَهُ النَّوَوِيُّ.وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: الْأَوْرَعُ: التَّارِكُ لِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَالْوَرِعُ: التَّارِكُ لِلشُّبُهَاتِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَدْخَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقَيِّمِ، فِي الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِلْوَرَعِ: تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومِ تَحْرِيمُهَا، خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لَهُ.
وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْوَرَعُ تَرْكُ مَا يُرِيبُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُهُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ مَدْلُولَ الْوَرَعِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْفِعْلَ إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ.وَقَالَ: الْوَرَعُ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّقْوَى:
2- التَّقْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الِاحْتِرَازُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَالتَّقْوَى فِي الطَّاعَةِ يُرَادُ بِهَا الْإِخْلَاصُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ يُرَادُ بِهَا التَّرْكُ وَالْحَذَرُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى: أَنَّ الْوَرَعَ أَخَصُّ مِنَ التَّقْوَى.وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَلْزَمُ مِنَ الْوَرَعِ التَّقْوَى، بِلَا عَكْسٍ.
ب- الزُّهْدُ:
3- الزُّهْدُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَهِدَ فِي الشَّيْءِ، وَزَهِدَ عَنْهُ: أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ لِاحْتِقَارِهِ أَوْ لِتَحَرُّجِهِ مِنْهُ، أَوْ لِقِلَّتِهِ، وَيُقَالُ: زَهِدَ فِي الدُّنْيَا: تَرَكَ حَلَالَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَتَرَكَ حَرَامَهَا مَخَافَةَ عِقَابِهِ.
وَاصْطِلَاحًا: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الزُّهْدُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْحَلَالِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْوَرَعِ، إِذْ هُوَ فِي الْحَلَالِ، وَالْوَرَعُ فِي الشُّبْهَةِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الزُّهْدُ عَدَمُ احْتِفَالِ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْيَدِ، فَقَدْ يَكُونُ الْغَنِيُّ زَاهِدًا وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ غَيْرَ زَاهِدٍ.وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَعِ بِأَنَّ الزُّهْدَ فِي الْقَلْبِ، وَالْوَرَعَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ.
ج- الِاحْتِيَاطُ
4- الِاحْتِيَاطُ: فِي اللُّغَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَوْثَقِ وَالْأَحْزَمِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حِفْظُ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ.
وَالِاحْتِيَاطُ أَعَمُّ مِنَ الْوَرَعِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوَرَعِ:
5- قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ».
مَوَاقِعُ الْوَرَعِ:
6- يَكُونُ الْوَرَعُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي حُكْمِ الشَّيْءِ مِنْ حِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ:
- إِمَّا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا.
- وَإِمَّا لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ أَوِ الْمُحَلِّلِ.
- وَإِمَّا لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ.
أ- التَّوَرُّعُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ:
7- الْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا لِاشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ، فَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ هُوَ الَّذِي شُرِعَ لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ».
وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ أَيْ مِنَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْمُشْتَبِهَ الَّذِي يَشُكُّ فِي كَوْنِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَجَاسَرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّسَامُحِ عَلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ، فَيَقَعُ فِيهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، وَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ.فَشُرِعَ لَهُ تَرْكُ الْمُشْتَبِهِ تَحَرُّزًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَأْثَمِ الْمُحْتَمَلِ.
وَمِثَالُ التَّوَرُّعِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ الْحَاصِلِ مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ: التَّوَرُّعُ عَنْ أَكْلِ طَعَامِ الصَّدِيقِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِتَعَارُضِ حَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ مِنْ طِيبِ نَفْسٍ» مَعَ ظَاهِرِ الْآيَةِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
ب- التَّوَرُّعُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ:
8- مِنْ أَمْثِلَةِ التَّوَرُّعِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ حَدِيثُ «عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ فَنَهَاهُ عَنْهَا».حَمَلَ الْحَنَابِلَةُ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُهُ: «دَعْهَا عَنْكَ» إِشَارَةٌ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْكَفِّ عَنْهَا عَنْ طَرِيقِ الْوَرَعِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي هَذَا.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ كَانَ لِلتَّوَرُّعِ، لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْإِخْبَارِ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ لأَجَابَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إِذِ الْإِعْرَاضُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّائِلِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا عَلَى الْمُحَرَّمِ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: فَرِّقْ بَيْنَهُمَا إِنْ جَاءَتْ بَيِّنَةٌ، وَإِلاَّ فَخَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَتَنَزَّهَا، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمْ تَشَأِ امْرَأَةٌ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ فَعَلَتْ فَقَوْلُهُ: «إِلاَّ أَنْ يَتَنَزَّهَا» هُوَ مَعْنَى التَّوَرُّعِ.
وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّكِّ سَوَاءٌ طَرَأَ الشَّكُّ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ، أَمْ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّكُّ مُجْمَعًا عَلَى اعْتِبَارِهِ، أَمْ مُجْمَعًا عَلَى إِلْغَائِهِ، أَمْ مُخْتَلَفًا فِي اعْتِبَارِهِ وَإِلْغَائِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الشَّكُّ فِي الرُّكْنِ أَمْ فِي السَّبَبِ أَمْ فِي الشَّرْطِ أَمْ فِي الْمَانِعِ فِي مُصْطَلَحِ (شَكّ).
ج- التَّوَرُّعُ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ:
9- قَالَ الْقَرَافِيُّ: مِنَ الْوَرَعِ الْخُرُوجِ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ، حَذَرًا مِنَ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَمَالِكٌ يَقُولُ: لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَوَاجِبَةٌ، فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إِثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ: هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ، فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ.
فَإِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا وَرَعَ إِلاَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ إِذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ، لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ، فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَاهُنَا، فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ، وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ.
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الْأَدِلَّةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنِ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً.
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: إِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ وَرَعًا، لِأَنَّ الْوَرَعَ إِنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ الْعِقَابِ وَتَوَقُّعِهِ.قَالَ: وَأَيُّ عِقَابٍ فِي ذَلِكَ؟ سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا، أَوْ قُلْنَا بِتَخْطِئَةِ أَحَدِهِمَا، فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ، وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ نَظَرِهِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ نَظَرِ مُقَلَّدِهِ.
وَاسْتَشْكَلَ الشَّاطِبِيُّ أَيْضًا جَعْلَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ وَرَعًا.قَالَ: لِأَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَيُؤَوَّلُ إِلَى أَنْ تَكُونَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْوَرَعُ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَجِ، إِذْ لَا تَخْلُو لِأَحَدٍ عِبَادَةٌ أَوْ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ التَّكْلِيفِ مِنْ خِلَافٍ يُطْلَبُ الْخُرُوجُ مِنْهُ.قَالَ: وَفِي هَذَا مَا فِيهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اخْتِلَاف ف 21- 25).
مَدَاخِلُ الْغَلَطِ فِي الْوَرَعِ:
10- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْوَرَعِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْأُولَى: اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي تَرْكِ الْحَرَامِ، لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْكَلِمَةِ الْكَاذِبَةِ، وَعَنِ الدِّرْهَمِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَمَعَ هَذَا يَتْرُكُ أُمُورًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَحَقِّ جَارٍ وَمِسْكِينٍ وَابْنِ سَبِيلٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، قَالَ: وَهَذَا الْوَرَعُ قَدْ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا، وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ: يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «هُمَا- أَيِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ- رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا».
الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَنْفِرُ نَفْسُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، لِعَادَةٍ وَنَحْوِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي تَحْرِيمَهَا فِي نَظَرِهِ وَاشْتِبَاهَهَا عِنْدَهُ، وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ فِي أَوْهَامٍ وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، مَبْنَاهَا عَلَى الْوَرَعِ الْفَاسِدِ، كَحَالِ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ فِي النَّجَاسَاتِ، وَوَرَعِ قَوْمٍ يَعُدُّونَ غَالِبَ أَمْوَالِ النَّاسِ أَوْ كُلَّهَا مُحَرَّمَةً أَوْ مُشْتَبِهَةً، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمُتَدَيِّنُ الْمُتَوَرِّعُ إِلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَإِلاَّ فَقَدْ يُفْسِدُ تَوَرُّعُهُ الْفَاسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ.
الثَّالِثَةُ: جِهَةُ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ جِهَةُ فَسَادِهِ يَقْتَضِي تَرْكَهُ فَيَلْحَظُهُ الْمُتَوَرِّعُ، وَلَا يَلْحَظُ مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الصَّلَاحِ الرَّاجِحِ، وَبِالْعَكْسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْوَرَعَ التَّرْكَ فَقَطْ، وَأَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَرَعِ أَفْعَالَ قَوْمٍ ذَوِي مَقَاصِدَ صَالِحَةٍ بِلَا بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِمْ، وَأَعْرَضَ عَمَّا فَوَّتُوهُ بِوَرَعِهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ، فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِمَّا أَدْرَكَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعِيبُ أَقْوَامًا هُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ أَقْرَبُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَنْفَعَتُهَا لِهَذَا الضَّرْبِ وَأَمْثَالِهِ كَثِيرَةٌ: فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا أَهْلُ الْوَرَعِ النَّاقِصِ أَوِ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الزُّهْدِ النَّاقِصِ أَوِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الزُّهْدَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي بِهِ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ عَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ مِنْ فُضُولِ الْمُبَاحِ، فَتَرْكُ فُضُولِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ زُهْدٌ وَلَيْسَ بِوَرَعٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ مُضِرٌّ، كَمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».فَذَمَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ، وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الدِّينَ مِثْلَ أَوْ فَوْقَ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِرْصَ إِنَّمَا ذُمَّ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الدِّينَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَكَانَ تَرْكُ هَذَا الْحِرْصِ لِصَالِحِ الْعَمَلِ.وَهَذَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وَهُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَرَ عُلُوَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالشَّرَفُ وَالسُّلْطَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهَا قَارُونَ وَمَا أُوتِيَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَذَكَرَ عَاقِبَةَ سُلْطَانِ هَذَا وَعَاقِبَةَ مَالِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كَحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ، فَإِنَّ جَمْعَ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ إِنْفَاقِهَا فِي مَوَاضِعِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا، وَأَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الْفَسَادِ.
وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا اخْتَارَ السُّلْطَانَ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِفَسَادٍ وَظُلْمٍ، وَأَمَّا نَفْسُ وُجُودِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يَفْتُرُ الْقَلْبُ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ.
دَرَجَاتُ الْوَرَعِ:
11- قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْوَرَعُ لَهُ أَوَّلٌ وَغَايَةٌ، وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ فِي الِاحْتِيَاطِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَشَدَّ وَرَعًا كَانَ أَسْرَعَ جَوَازًا عَلَى الصِّرَاطِ، وَأَخَفَّ ظَهْرًا.
وَذَكَرَ الدَّرَجَاتِ الْأَرْبَعَ التَّالِيَةَ:
الْأُولَى: وَرَعُ الْعُدُولِ، وَهُوَ التَّوَرُّعُ عَمَّا تُحَرِّمُهُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِيَةُ: وَرَعُ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي بِالرُّخْصَةِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ شُبْهَةٍ يُسْتَحَبُّ اجْتِنَابُهَا وَلَا يَجِبُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَنَحْمِلُهُ عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ.
الثَّالِثَةُ: وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ مَا لَا تُحَرِّمُهُ الْفَتْوَى، وَلَا شُبْهَةَ فِي حِلِّهِ، وَلَكِنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَرَامٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ» وَمِنْهُ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَخَافُ مِنْهَا أَنْ تَدْعُوَ إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الزِّينَةُ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا، وَأَكْثَرُ الْمُبَاحَاتِ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَحْظُورَاتِ.
وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي الْحَرَامِ.
الرَّابِعَةُ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ: فَالْحَلَالُ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَا لَا يَتَقَدَّمُ فِي أَسْبَابِهِ مَعْصِيَةٌ وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ قَضَاءُ وَطَرٍ، بَلْ يُتَنَاوَلُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَلِلتَّقَوِّي عَلَى طَاعَتِهِ، وَاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لِأَجْلِهِ.وَيَرَوْنَ كُلَّ مَا لَيْسَ لِلَّهِ حَرَامًا امْتِثَالًا لقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}
تَنَاوُلُ الْوَرَعِ لِلْمُبَاحَاتِ:
12- قَالَ الْقَرَافِيُّ: هَلْ يَدْخُلُ الْوَرَعُ وَالزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا؟ فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ.فَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ: لَا يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ: يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} وَغَيْرُهُ مِنَ النُّصُوصِ.
وكُلٌّ مِنَ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، إِذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلَامِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا زُهْدَ فِيهَا وَلَا وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تُفْضِي إِلَى بَطَرِ النُّفُوسِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَالْخَوَلِ وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ اللَّيِّنَةِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْلُ الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، لِأَنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا، وَالْأَغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ، فَكَانَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ، وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى.أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إِلَى مُنَازَعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ أَوِ الْإِمَاتَةَ، وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- بِالنِّيرَانِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ.وَكَذَلِكَ قوله تعالى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُبَادِرِينَ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ إِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، وَأَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَانِدُوهُمْ هُمُ الْأَغْنِيَاءُ، لقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} وَلَمْ يَقُلْ: إِلاَّ قَالَ فُقَرَاؤُهَا.فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمُ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَالْأَقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمُ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
تَقْدِيمُ الْأَوْرَعِ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ:
13- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْوَرَعَ رُتْبَةٌ تَسْتَتْبِعُ اسْتِحْقَاقَ التَّقْدِيمِ لِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ عِنْدَهُمُ الْأَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْأَحْسَنُ تِلَاوَةً لِلْقِرَاءَةِ، ثُمَّ الْأَوْرَعُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَقْدِيمُ الْأَوْرَعِ بَعْدَ السُّلْطَانِ وَرَبِّ الْبَيْتِ وَزَائِدِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي تَقْدِيمِ الْأَوْرَعِ عَلَى الْأَفْقَهِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْأَفْقَهَ مُقَدَّمٌ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَوْرَعَ أَوْلَى، لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ وَرَجَاءُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَالْأَوْرَعُ أَقْرَبُ لِذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَلِحَدِيثِ: «مِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ».
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ بَعْدَ السُّلْطَانِ وَرَبِّ الْبَيْتِ وَإِمَامِ الْمَسْجِدِ الرَّاتِبِ وَالْأَقْرَأِ وَالْأَفْقَهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِمَامَة الصَّلَاةِ ف 14- 17)
الْوَرَعُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْوِلَايَاتِ:
14- يُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْوِلَايَاتِ أَنْ يَكُونَ وَرِعًا بَعِيدًا عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَمِيلَ مَعَ الْهَوَى أَوْ تَمْتَدَّ يَدُهُ إِلَى الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمُشْتَبِهَةِ.
وَمِنْ هُنَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ.
وَنَصَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْأَعْلَمُ الْأَوْرَعُ الْأَكْفَأُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالْآخَرُ أَوْرَعَ قُدِّمَ فِيمَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الْهَوَى الْأَوْرَعُ، وَيُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ فِيمَا يَدِقُّ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ هُجُومِ الشَّهَوَاتِ».
وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الْأَكْفَأِ إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُؤَيَّدًا تَأْيِيدًا تَامًّا مِنْ جِهَةِ وَالِي الْحَرْبِ أَوِ الْعَامَّةِ، وَيُقَدَّمُ الْأَكْفَأُ إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةٍ وَإِعَانَةٍ لِلْقَاضِي أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْمُطْلَقَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا قَادِرًا، بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَيُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقَصَتْ ظَهَرَ الْخَلَلُ بِسَبَبِهِ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ آدَابَ الْمُحْتَسِبِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثِ صِفَاتٍ، إِحْدَاهَا الْوَرَعُ، لِيَرْدَعَهُ عَنْ مُخَالَفَةِ مَا يَعْلَمُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَعَنِ السَّرَفِ فِي الْحِسْبَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ نَفْسِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي ظَاهِرَ الْوَرَعِ مَشْهُورًا بِالدِّيَانَةِ الظَّاهِرَةِ وَالصِّيَانَةِ الْبَاهِرَةِ، وَكَانَ مَالِكٌ- رحمه الله- يَعْمَلُ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاسُ، وَيَقُولُ: لَا يَكُونُ عَالِمًا حَتَّى يَعْمَلَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاسُ مِمَّا لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَكَانَ يَحْكِي نَحْوَهُ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
52-الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (إن كان)
868 - قوله: (إنْ كان): أي إنْ كان موجودًا، لأنه ذُهِبَ به في زمن القرامطة ثم عاد , وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الكَعْبة تُهدَّم وتنقل حجارَتُها فترمى في البحر، فلهذا قال: (إنْ كان).الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي-جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بـ «ابن المبرد»-توفي: 909هـ/1503م
53-الغريبين في القرآن والحديث (ب ج ل)
(ب ج ل)في حديث لقمان بن عاد: (خذي مني أخي ذا البجل) قال أبو عبيد: معنى البجل: الحسب، قال: ووجهه أنه ذم أخاه وأخبر أنه قصير الهمة وهو راض بأن يكفي الأمور ويكون كلًا على غيره، ويقول: حسبي ما أنا فيه قال: وأما قوله في الأخ الآخر: (خذي مني أخي ذا البجلة) فإنه مدح.
يقال: رجل ذو بجلة وذو بجالة، وهو الرواء والحسن والنبل.
وقيل: هذه كانت ألقابًا لهم.
وقال شمر: البجال: الرجل يبجله أصحابه، وإنه لذو بجلة: أي ذو شارة حسنة.
وفي الحديث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى القبور فقال: السلام عليكم: أصبتم خيرًا بجيلًا) كأنه أراد: واسعًا كثيرًا، يقال: رجل بجال وبجيل: إذا كان يبجله الناس.
وقال القتيبي، عن الأصمعي رواية: رجل بجيل وبجال: إذا كان ضخمًا.
وفي الحديث: (فألقى ثمرات كن في يده وقال: بجلي من الدنيا) معناه: حسبي.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
54-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين قولك اختلق وقولك افترى)
الْفرق بَين قَوْلك اختلق وقولك افترىأَن افترى قطع على كذب وَأخْبر بِهِ وَاخْتلف قدر كذبا وَأخْبر بِهِ لِأَن أصل افترى قطع وأصل اخْتلف قدر على مَا ذكرنَا وَمِمَّا يُخَالف الْكَذِب الصدْق.
الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م
55-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين ما يخالف الغنى)
الْفرق بَين مَا يُخَالف الْغنىالْفرق بَين الْفقر والمسكنة أَن الْفقر فِي مَا قَالَ الْأَزْهَرِي فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين) الْفَقِير الَّذِي لَا يسْأَل والمسكين الَّذِي يسْأَل وَمثله عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَجَابِر بن زيد وَمُجاهد وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَهَذَا يدل على أَنه رأى الْمِسْكِين اضعف حَالا وأبلغ فِي جِهَة الْفقر وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله) إِلَى قَوْله تَعَالَى _ يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف) فوصفهم بالفقر وَأخْبر مَعَ ذَلِك عَنْهُم بالتعفف حَتَّى يَحْسبهُم الحاهل بحالهم أَغْنِيَاء من التعفف وَلَا يَحْسبهُم أَغْنِيَاء إِلَّا وَلَهُم ظَاهر جميل وَعَلَيْهِم برة حَسَنَة وَقيل لأعرابي أفقير أَنْت فَقَالَ بل مِسْكين وَأنْشد من الْبَسِيط
«أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته *** وفْق فَلم يتْرك لَهُ سبد» فَجعل للْفَقِير حلوبة الْمِسْكِين الَّذِي لَا شَيْء لَهُ فَأَما قَوْله تَعَالَى (فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر) فَأثْبت لَهُم ملك سفينة وَسَمَّاهُمْ مَسَاكِين فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنهم كَانُوا أجراء فِيهَا ونسبها إِلَيْهِم لتصرفهم فِيهَا والكون فِيهَا كَمَا قَالَ تعال (لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي) ثمَّ قَالَ (وَقرن فِي بيوتكن) وَعَن أبي حنيفَة فِي من قَالَ مَالِي للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين أَنَّهُمَا صنفان وَعَن أبي يُوسُف أَن نصف المَال لفلن وَنصفه للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَهَذَا يدل على أَنه جَعلهمَا صنفا وَاحِدًا وَالْقَوْل قَول أبي حنيفَة وَيجوز أَن يُقَال الْمِسْكِين هُوَ الَّذِي يرق لَهُ الْإِنْسَان إِذا تَأمل حَاله وكل من يرق لَهُ الْإِنْسَان يُسَمِّيه مِسْكينا.
الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م
56-المغرب في ترتيب المعرب (قدم-قدم وتقدم)
(قدم) (قَدَّمَ وَتَقَدَّمَ) بِمَعْنَى (وَمِنْهُ) مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ (وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ) بِالْكَسْرِ وَأَقْدَمَ مِثْلُهُ (وَمِنْهُ) الْإِقْدَامُ فِي الْحَرْب (وَمُقَدِّمُ الْعَيْنِ) مَا يَلِي الْأَنْف خِلَاف مُؤَخِّرِهَا وَقَدَم مِثْله قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (وَمِنْهُ) قَادِمَةُ الرَّحْلِ خِلَاف آخِرَتِهِ (وَقَدِمَ الْبَلَدَ) أَتَاهُ مِنْ بَابِ لَبِسَ (وَمِنْهُ) رَجُلٌ يَقْدَمُ بِتِجَارَةٍ وَقَدُمَ مِنْ بَاب قَرُبَ وَخِلَافُهُ حَدَثَ مِنْ بَابِ طَلَبَ (وَقَوْلُهُمْ) أَخَذَهُ مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ إنَّمَا ضُمَّ لِلِازْدِوَاجِ وَمَعْنَاهُ عَاوَدَهُ قَدِيمُ الْأَحْزَان وَحَدِيثُهَا (وَمِثْلُهُ) أَخَذَهُ مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ وَأَخَذَهُ الْمُقِيمُ وَالْمُقْعِدُ أَيْ الْهَمُّ الْقَرِيب وَالْبَعِيد الَّذِي يُقْلِق صَاحِبَهُ فَلَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَقُومُ وَيَقْعُدُ بِسَبَبِهِ (وَمِنْهُ) قَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ مَنْ يَأْتِ سُدَدَ السُّلْطَانِ يَقُمْ وَيَقْعُدْ وَهَذِهِ كُلّهَا كَلِمَاتٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ يَتَبَالَغُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ وَيُقَالُ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ بِكَذَا أَوْ فِي كَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ (وَمِنْهُ) قَوْلُهُ وَإِنْ عَصَاهُ عَاصٍ فَلْيَتَقَدَّمْ إلَيْهِ الْأَمِيرُ أَيْ فَلْيَأْمُرْهُ وَلْيُنْذِرْهُ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ عَصَاهُ عَاصٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا أَحْسَن تَأْدِيبَهُ أَيْ لَمْ يُحْسِنْ تَأْدِيبَهُ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي زَجْرِهِ حَتَّى لَا يَعْصِيَهُ ثَانِيًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَعَجُّبًا مِنْ عِصْيَانِ الْمَأْمُورِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْءِ وَالسُّخْرِيَة وَمَنْ قَالَ هُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ الْأَمْرِ وَأَنَّ الْمَعْنَى مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ أَدَّبَهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْ الصَّوَاب (وَفِي حَدِيثِ) عُمَرَ لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِي الْمُتْعَة لَرَجَمْتُ أَيْ لَوْ سَبَقَ أَمْرٌ مِنِّي إلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْمُتْعَة ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَيْهَا وَفَعَلُوهَا لَرَجَمْتُهُمْ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى التَّحْدِيد وَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ (وَقَوْلُهُ) إذَا تَقَدَّمَ إلَيَّ الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ فِي حَائِطٍ مِنْهَا مَائِل أَيْ أُذِنَ وَأُخْبِرَ أَنَّ هَذَا قَدْ مَالَ (وَالْقَدَمُ) مِنْ الرِّجْلِ مَا يَطَأُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ لَدُنْ الرُّسْغِ إلَى مَا دُون ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ هَذَا تَحْتَ قَدَمَيَّ عِبَارَة عَنْ الْإِبْطَال وَالْإِهْدَار (وَقَدُّومٌ) بَلْدَةٌ بِالشَّامِ (وَأَمَّا الْقَدُومُ) مِنْ آلَاتِ النَّجَّار فَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لُغَةٌ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
57-معجم الرائد (دَاحَلَ)
دَاحَلَ مُدَاحَلَةً ودحالا:1- دَاحَلَهُ: خدعه.
2- دَاحَلَ: أخفى ما علمه وأخبر بغيره.
الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م
58-معجم الرائد (ماش)
ماش يميش ميشا:1- ماش الشيء بالشيء: خلطه به «ماش الصوف بالشعر».
2- ماش الناقة: حلب نصف ما في ضرعها.
3- ماش الخبر: كتم بعضه وأخبر ببعضه الآخر.
4- ماش الأرض: مر بها.
الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م
59-تاج العروس (نبأ)
[نبأ]: النَّبَأُ مُحَرَّكَةً الخَبَرُ وهما مترادفانِ، وفرَّق بينهما بعضٌ، وقال الراغبُ: النَّبأُ: خَبَرٌ ذُو فائدةٍ عظيمةٍ، يَحْصُل بهِ عِلْمٌ أَو غَلَبَةُ ظَنُّ، ولا يُقال للخَبَر في الأَصْلِ نَبَأٌ حتى يَتَضَمَّنَ هذه الأَشياءَ الثلاثةَ [ويَكونَ صادِقًا]، وحقُّه أَنْ يَتَعرَّى عن الكَذِب، كالمُتَواتِر وخَبَرِ اللهِ وخَبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولتَضَمُّنِه معنى الخَبَرِ يقال: أَنْبَأتُه بِكذا، ولتَضَمنُّه معنى العِلْمِ يقال: أَنْبَأْتُه كذا. قال: وقوله تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآية، فيه تَنْبِيه على أَنّ الخَبرَ إِذا كان شَيئًا عَظيمًا فحقُّه أَن يُتَوَقَّفَ فيه، وإِن عُلِمَ وغَلَبَ على صِحَّته الظنُّ حتى يُعادَ النَّظَرُ فيه ويَتَبَيَّن الجمع: أَنباءٌ كخَبَرٍ وأَخبارٍ، وقد أَنْبَأه إِيَّاه إِذا تضمَّن مَعْنَى العِلْم، وأَنبأَ بِه إِذا تَضَمَّن معنى الخَبَر؛ أَي أَخْبَره، كنَبَّأَهُ مشدَّدًا، وحَكى سيبويهِ: أَنا أَنْبُؤُك، على الإِتباع. ونقل شيخُنا عن السَّمِين في إِعرابه قال: أَنْبَأَ ونَبَّأَ وأَخْبَرَ، متى ضُمِّنَتْ معنى العِلْم عُدِّيَت لِثَلاثةٍ وهي نِهايَةُ التَّعَدِّي، وأَعلمته بكذا مُضَمَّنٌ معنى الإِحاطة، قيل: نَبَّأْتُه أَبلَغُ من أَنْبَأْتُه، قال تعالى: {مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} لم يقل أَنْبَأَني، بل عَدَل إِلى نَبَّأَ الذي هو أَبلغُ، تَنْبِيهًا على تَحْقيقِه وكَوْنِه مِن قِبَلِ الله تعالى. قاله الراغب. واسْتَنْبَأَ النَّبأَ: بَحَثَ عنه، ونَابَأَه ونَابَأْتُه أَنبؤة وأَنْبَأَته أَي أَنْبَأَ كُلٌّ منهما صاحِبَه قال ذو الرّمَّة يهجو قومًا:زُرْقُ العُيُونِ إِذَا جَاوَرْتَهُمْ سَرَقُوا *** مَا يَسْرِقُ العَبْدُ أَوْ نَابَأْتَهُمْ كَذَبُوا
والنَّبِيءُ بالهمز مكِّيَّة، فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِل، كذا قاله ابنُ بَرِّيّ، هو المُخْبِرُ عن اللهِ تعالى فإِن الله تعالى أَخبره بتوحيده، وأَطْلَعَه على غَيْبه وأَعلمه أَنه نبيُّه. وقال الشيخ السنوسي في شَرْحِ كُبْرَاه: النَّبِيءُ، بالهمز، من النَّبَإِ؛ أَي الخبر لأَنه أَنبأَ عَن الله أَي أَخبر، قال: ويجوز فيه تحقيق الهمز وتَخْفيفه، يقال نَبَأَ ونَبَّأَ وأَنْبَأَ. قال سيبويه: ليس أَحدٌ من العرب إِلا ويقول تَنَبَّأَ مُسَيْلمَةُ، بالهمز، غير أَنهم ترَكُوا في الهمز النَّبِيّ كما تَرَكوه في الذُّرِّيَّة واليَرِية والخَابِيَة، إِلا أَهل مَكَّة فإِنهم يهمزون هذه الأَحرف، ولا يَهْمزون في غيرها، ويُخالفون العَربَ في ذلك، قال: والهمز في النبيّ لغةٌ رَديئة؛ أَي لقلَّة استعمالها، لا لِكَوْنِ القياسِ يَمنع ذلك وتَرْكُ الهَمْزِ هو المُخْتارُ عند العرب سوى أَهلِ مكة، ومن ذلك حديثُ البَرَاء: قلتُ: ورسُولِك الذي أَرسَلْتَ، فردَّ عليّ وقال «وَنبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ، قال ابنُ الأَثير: وإِنما رَدَّ عليه ليختلفَ اللفظانِ، وَيَجْمَع له الثَّناءَ بين معنى النُّبُوَّة والرِّسالة، ويكون تَعْدِيدًا للنِّعْمَة في الحالَيْنِ، وتعظيمًا للمِنَّة على الوَجْهَيْنِ. والرسولُ أَخصُّ من النَّبِيّ، لأَن كلَّ رسولٍ نَبِيٌّ وليس كُلُّ نَبِيٍّ رسولًا الجمع: أَنْبِيَاءُ قال الجوهري: لأَن الهمز لما أَبْدِل وأُلْزِم الإِبدالَ جُمِعَ جَمْعَ ما أَصْلُ لامِه حَرْفُ العِلّة، كَعِيدٍ وأَعْيادٍ، كما يأْتي في المعتلّ ونُبَآءُ ككُرَماءَ، وأَنشد الجوهريُّ للعَبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه:
يا خَاتَم النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ *** بِالْخَيْرِ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إنَّ الإِلهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً *** فِي خَلْقِه ومُحَمَّدًا سَمَّاكَا
وأَنْبَاء كَشهِيدٍ وأَشْهَادٍ، قال شيخنا وخُرِّجتْ عليه آياتٌ مَبْحُوثٌ فيها، والنَّبِيئونَ جمعُ سَلامةٍ، قال الزجَّاجُ القِراءَةُ المُجْمَع عليها في النَّبِيِّينَ والأَنْبِياءِ طَرْحُ الهَمْزِ، وقد همز جَماعةٌ من أَهل المدينة جميعَ ما في القرآن من هذا، واشتقاقُه من نَبأَ وأَنبأَ؛ أَي أَخبر، قال: والأُجودُ تَرْكُ الهمز، انتهى. والاسمُ النُّبُوءَةُ بالهمز، وقد يُسَهَّل، وقد يُبْدَل وَاوًا ويُدْغم فيها، قال الراغب: النُّبُوَّةُ: سِفارَةٌ بين اللهِ عزّ وجلّ وبين ذَوِي العُقولِ الزَّكِيَّة [من عباده] لإِزَاحَةِ عِلَلِهَا.
وَتَنَبَّأَ بالهمز على الاتفاق، ويقال تَبَنَّى، إِذا ادَّعَاها أَي النُّبُوَّةَ، كما تَنَبَّى مُسَيْلِمَةُ الكَذَّاب وغيرُه من الدجَّالين، قال الراغب: وكان من حَقّ لفظه في وضْع اللغةِ أَن يَصِحّ استعمالُه في النَّبِيءِ إِذا هو مُطَاوع نَبَّأَ كقوله زَيَّنَه فتَزَيَّنَ وحَلَّاه فَتَحلَّى لكن لمَّا تُعُورفَ فيمن يَدَّعي النُبوَّة كَذِبًا جُنِّبَ استعْمَالُه في المُحِقّ ولم يُسْتَعْمَل إِلَّا في المُتَقَوِّل في دَعْوَاهُ. ومنه المُتَنَبِّئُ أَبو الطَّيِّبِ الشاعرُ أَحمدُ بنُ الحُسين بن عبد الصمد الجُعْفِيّ الكِنْدِيّ، وقيل مَوْلَاهم، أَصلُه من الكُوفة خَرَج إِلى بَني كَلْب ابن وَبرَة من قُضَاعة بأَرض السَّمَاوَة، وتَبِعه خلْقٌ كثيرٌ، ووضع لهم أَكاذيبَ وادَّعَى أَوَّلًا أَنَّه حَسَنِيّ النسب ثم ادَّعَى النُّبُوَّةَ فشُهِدَ بالضم عليه بالشأْم يعني دِمَشْقَ وحُبِسَ دَهْرًا بِحِمْصَ حين أَسرَه الأَميرُ لُؤْلُؤٌ نائب الإِخشيد بها، وفَرَّق أَصحابَه، وادَّعى عليه بما زَعمه فأَنكر ثُمَّ اسْتُتِيبَ وكَذَّب نَفْسه وأُطْلِقَ من الحَبْس وطَلَب الشِّعْرَ فقاله وأجاد، وفاقَ أَهلَ عَصْرِه، واتصلَ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بنِ حَمْدَانَ، فمدَحه، وسار إِلى عَضُد الدَّوْلَة بفارِس، فمدحه، ثم عاد إِلى بغدادَ فقُتِل في الطّريق بقُرْبِ النَّعْمَانية سنة 354 في قِصّةٍ طويلةٍ مَذكورة في مَحلّها، وقيل: إِنما لُقِّب بهِ لِقُوَّة فَصاحَته، وشِدَّةِ بلاغته، وكَمَالِ مَعرفته، ولذا قيل:
لَمْ يَرَ النَّاسُ ثَانِيَ المُتَنَبِّي *** أَيُّ ثَانٍ يُرَى لِبِكْر الزَّمَانِ
هُوَ فِي شِعْرِه نَبِيٌّ ولكِنْ *** ظَهَرَتْ مُعْجِزَاتُه فِي المَعَانِي
وكانوا يُسمُّونه حَكيمَ الشعراءِ، والذي قَرَأْتُ في شَرْحِ الواحدي نقلًا عن ابنِ جِنّي أَنه إِنما لُقِّب بقوله:
أَنا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَها اللهُ *** غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودِ
ونَبَأَ كمنَع نَبْأً ونُبُوءًا: ارتفع قال الفَرَّاء: النَّبِيُّ هو من أَنْبأَ عن الله، فتُرِك همزُه، قال: وإِن أُخِذَت من النُّبُوَّة والنَّبَاوَة وهي الارتفاع أَي أَنه أَشرف على سائر الخَلْق فأَصله غير الهمز.
ونَبَأَ عليهم يَنْبَأُ نَبْأً ونُبُوءًا: هَجَم وطَلَعَ وكذلك نَبَهَ ونَبَعَ، كلاهما على البدل، ونَبَأْتُ على القوم نَبْأً إِذا اطَّلَعْت عليهم، ويقال: نَبَأَ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْض أُخْرَى أَي خرَج مِنْها إِليها. والنَّابِئُ: الثورُ الذي يَنْبَأُ من أَرضٍ إِلى أَرْض؛ أَي يَخْرُج، قال عَدِيُّ بنُ زيْدٍ يَصِفُ فَرَسًا:
وَلَهُ النَّعْجَةُ المرِيُّ تُجَاهَ الرّ *** كْبِ عِدْلًا بِالنَّابِئ المِحْرَاقِ
أَراد بالنابئ ثَوْرًا خَرَج من بَلدٍ إِلى بلد، يقال: نَبَأَ وطَرَأَ ونَشِطَ، إِذا خرَج من بَلدٍ إِلى بلدٍ، وسَيْلٌ نَابِئ: جاءَ من بلدٍ آخَرَ، ورجلٌ نابِئ؛ أَي طارئ من حيث لا يُدْرَى، كذا في الأَساس، قال الأَخطل:
أَلَا فَاسْقِيَانِي وَانْفِيَا عَنِّيَ القَذَى *** فَلَيْسَ القَذَى بِالعُودِ يَسْقُطُ في الخَمْرِ
وَلَيْسَ قَذَاهَا بِالَّذِي قَدْ يَرِيبُهَا *** وَلَا بذِبَابٍ نَزْعُهُ أَيْسَرُ الأَمْرِ
وَلكِنْ قَذَاهَا كُلُّ أَشْعَثَ نَابِئ *** أَتَتْنَا بِهِ الأَقْدَارُ مِنْ حَيْثُ لا نَدْرِي
ومِن هنا ما جاءَ في حَدِيثٍ أَخرَجه الحاكمُ في المُستَدرك، عن أَبي الأَسود، عن أَبي ذَرٍّ وقال إِنه صحيح على شَرْط الشيخين قولُ الأَعرابيّ له صلى الله عليه وسلم يا نَبِيءَ الله، بالهمز؛ أَي الخارِجَ من مَكَّة إِلى المدينة فحينئذ أَنكَره أَي الهمز عليه على الأعرابيّ، لأَنه ليس من لُغة قُرَيْش، وقيل: إِن في رُوَاته حسينًا الجُعْفيّ وليس من شرطهما، ولذا ضَعَّفه جماعَةٌ من القُرَّاءِ والمُحَدِّثين، وله طَرِيق آخرُ مُنقطِع، رواه أَبو عُبَيد: حَدَّثنا مُحمدُ بن سَعْدٍ عن حَمْزَة الزَّياتِ عن حُمْران بن أَعْيَنَ أَن رجلًا فذكره، وبه استدَلَّ الزركشيُّ أَن المختارَ في النَّبِيّ تَرْكُ الهمزِ مُطلقًا، والذي صرَّح به الجوهريُّ والصاغاني، بأَن النبي صلى الله عليه وسلم إِنما أَنكره لأَنه أَراد يا مَنْ خَرَج من مكة إِلى المدينة، لا لكونه لم يكن من لُغته، كما توهَّموا، ويؤيده قوله تعالى: {لا تَقُولُوا راعِنا} فإِنهم إِنما نُهُوا عن ذلك لأَن اليهودَ كانوا يَقْصِدون استعمالَه مِن الرُّعونة، لا من الرِّعاية، قاله شيخُنا، وقال سيبويه: الهمزُ في النبيِّ لغةٌ رديئة، يعني لِقِلّة استعمالها، لا لأَنّ القِياس يمنع من ذلك، أَلَا تَرَى إِلى قول سيِّدنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا نَبِيءَ اللهَ فقالَ له: «إِنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لا نَنْبِرُ، ويروى: لا تَنْبزْ باسمي كذا في النُّسخ الموجودة، من النَّبَزِ وهو اللَّقَب؛ أَي لا تَجْعَل لاسمي لَقَبًا تَقْصِدُ به غيرَ الظاهر. والصواب: لا تَنْبِرْ، بالراءِ أَي لا تَهْمِزْ، كما سيأْتي فإِنّما أَنَا نبيُّ اللهِ؛ أَي بغير همزٍ وفي رواية فقال: «لَسْتُ بِنَبِيءِ الله ولكن نبِيُّ الله، وذلك أَنه عليه الصلاة والسلام أَنكر الهمز في اسمه، فرَدَّه على قائله، لأَنه لم يَدْرِ بما سمَّاه، فأَشفق أَن يُمْسكَ على ذلك، وفيه شيء يتعلَّق بالشرْع، فيكون بالإِمساك عنه مُبِيحَ مَحْظورٍ أَو حاظِرَ مُباحٍ. كذا في اللسان، قال أَبو عليّ الفارسيّ: وينبغي أَن تكون روايةُ إِنكارِه غيرَ صحيحةِ عنه عليهالسلام، لأَن بعض شُعرائه وهو العبَّاسُ بنُ مِرْداسٍ السُّلَمِيُّ قال: «يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ» ولم يَرِدْ عنه إِنكارُه لذلك، فتأَمَّل.
والنَّبِيءُ على فَعِيل: الطريقُ الواضِحُ يُهمز ولا يُهمز، وقد ذكره المصنف أَيضًا في المعتلّ، كما سيأْتي، قال شيخنا: قيل: ومنه أُخذ الرَّسُول، لأَنه الطريقُ المُوَضِّحُ المُوَصِّلُ إِلى الله تعالى، كما قالوا في: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الشِّفَا وشُرُوحه. قلت: وهو مفهومُ كلامِ الكِسائيّ» فإِنه قال: النَّبِيءُ: الطريقُ، والأَنْبِياءُ: طُرُق الهُدى. والنبيءُ: المكانُ المرتفِعُ الناشِزُ المُحْدَوْدِبُ يُهمَزُ ولا يُهْمَز كالنَّابئ وذكره ابنُ الأَثير في المُعتلّ، وفي لسان العرب نَبَأَ نَبْأً ونُبُوءًا إِذا ارتفع ومنه ما وَردَ في بعض الأَخبار وهي من الأَحاديث التي لا طُرُقَ لها لا تُصَلُّوا عَلَى النَّبِيءِ بالهمز؛ أَي المكانِ المُرْتَفع المُحْدَوْدِب، ومما يُحَاجَى به: صَلُّوا على النَّبِي، ولا تُصَلُّوا على النَّبِيء، وغلط المُلَّا عليّ في ناموسه، إِذ وَهَّم المَجْدَ في ذِكْرِه في المهموز، اغترَارًا بابنِ الأَثير، وظَنًّا أَنه من النَّبْوة بمعنى الارتفاع، وقد نبَّه على ذلك شيخُنا في شرحه والنَّبْأَةُ: النَّشْزُ في الأَرض، و: الصَّوْتُ الخَفِيُّ أَو الخَفِيف، قال ذو الرُّمَّة:
وقدْ تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ *** بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ
الرِّكْزُ: الصَّوْتُ، والمُقْفِرُ: أَخو القَفْرَةِ، يريد الصائد. والنَّدُسُ: الفَطِنُ وفي التهذيب: النَّبْأَةُ: الصوت ليس بالشديد، قال الشاعر:
آنَسَتْ نَبَأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ *** اصُ قَصْرًا وَقَدْ دَنَا الإِمْسَاءُ
أَرادَ صَاحِبَ نَبْأَةٍ أَو النَّبْأَة صَوْتُ الكِلابِ قال الحَرِيرِيّ في مقاماته: فسمِعنا نَبْأَة مُسْتَنْبِح، ثم تَلَتْهَا صَكَّةُ مُسْتَفْتِح، وقيل: هي الجَرْسُ أَيًّا كان، وقد نَبَأَ الكلب كمَنَعَ نَبْأً.
ونُبَيْئَةُ بالضم كجُهَيْنَةَ بنُ الأَسْوَدِ العُذْرِيّ وضبطه الحافظ هكذا، وقال: هو زَوْج بُثَيْنَة العُذْرِيَّة صاحِبةِ جَمِيلِ بن مَعْمَرٍ، وابنُه سَعِيدُ بنُ نُبَيْئَةَ، جاءَت عنه حِكاياتٌ، وتَصغير النَّبِيءِ نُبَيِّئ مِثال نُبَيِّع ويقولون في التصغير كانت نُبَيِّئَةُ مُسَيْلِمَةَ مِثال نُبَيْعَة، نُبَيِّئَةَ سَوْءٍ تصغيرُ النُّبُوءَةِ وكان نُبَيِّئَ سَوْءٍ بالفتح، وهو تَصْغِير نَبِئٍ بالهمز، قال ابن بَرِّيّ: الذي ذكره سيبويهِ: كان مُسَيْلِمَة نُبُوَّتُه نُبَيِّئَةَ سَوْءٍ، فذكر الأَوَّل غيرَ مُصَغَّرٍ ولا مهموز، لِيُبَيِّن أَنهم قد همزوه في التصغير وإِن لم يكن مهموزًا في التكبير، قال ابنُ بَرّيّ: ذكر الجَوْهرِيُّ في تصغير النَّبِيءِ نُبَيِّئ، بالهمز على القطع بذلك، قال: وليس الأَمر كما ذَكر، لأَن سيبويهِ قال هذا فيمن يَجْمَعُهُ أَي نَبِيئًا على نُبَآءَ كَكُرماء؛ أَي فيصغره بالهمز وأَمَّا مَنْ يَجمعُه على أَنْبِياءَ فَيُصَغِّرُه على نُبَيٍّ بغير همزٍ، يريد: مَنْ لَزِم الهَمْزَ في الجمع لَزِمه في التصغير، ومن ترك الهَمْز في الجمع تركه في التصغير، كذا في لسان العرب وأَخطأَ الجَوهرِيُّ في الإِطلاق حَسْبَمَا ذكرنا، وهو إِيرادُ ابنِ بَرِّيّ، ولكن ما أَحلَى تَعبيره بقوله: وليس الأَمْرُ كذلك، فانظر أَين هذا من قوله أَخْطأَ، على أَنه لا خطأَ، فإِنه إِنما تَعرَّض لتصغير المهموز فقط، وهو كما قال، وهناك جوابٌ آخرُ قَرَّره شيخنا.
ويقال: رَمَى فلانٌ فَأَنْبَأَ؛ أَي لم يَشْرِمْ ولم يَخْدِشْ، أَو أَنه لم يُنْفِذْ نقله الصاغاني، وسيأْتي في المعتل أَيضًا.
ونَابَأَهُمْ مُنَابَأَةً: تَرَكَ جِوَارَهم وتَبَاعَدَ عنهم قال ذُو الرُّمَّة يهجو قومًا:
زُرْقُ العُيُونِ إِذَا جَاوَرْتَهُمْ سَرَقُوا *** مَا يَسْرِقُ العَبْدُ أَوْ نَابَأْتَهُمْ كَذَبُوا
ويُرْوَى نَاوَأْتَهُم، كما سيأْتي.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
نَبَأَتْ به الأَرضُ: جاءَتْ به، قال حَنَشُ بنُ مالك:
فَنَفْسَكَ أَحْرِزْ فَإِنَّ الحُتُو *** فَ يَنْبَأْنَ بالمَرْءِ في كُلِّ وَادِ
ونُبَاءٌ كَغُرَاب: موضِعٌ بالطائف.
ويقال: هل عندكم مِن نَابِئَة خَبَر.
والنُّبَاءَةَ كَثُمَامَة: موضع بالطائف وقَعَ في الحَديث هكذا بالشكّ: خَطَبنا بالنُّبَاءَة، أَو بالنُّبَاوَة وأَبو نُبَيْئَة الهُذَلِيُّ شاعرٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
60-تاج العروس (دهر)
[دهر]: الدَّهْرُ قد يُعدُّ في الأَسماءِ الحُسْنَى، لِمَا وَرَدَ في الحَدِيث الصَّحِيح الذي رَواه أَبو هُرَيْرَةَ يَرْفَعه. قال الله تعالى: «يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وإِنَّمَا أَنَا الدّهْرُ، أُقِلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ». كما في الصَّحِيحَين وغَيْرِهما. وفي حديثٍ آخرَ: «لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإِنَّ الله هو الدَّهْرُ» وفي رواية أُخْرَى: «فإِنّ الدَّهْرَ هو الله تعالى». قال شيخنا: وعَدُّه في الأَسماءِ الحُسْنَى من الغَرَابة بمَكَانٍ مَكِينٍ، وقد رَدَّه الحافِظ ابنُ حَجَر، وتَعَقَّبَه في مَواضِعَ من فَتْحِ البَارِي، وبسَطَه في التفسير وفي الأَدب وفي التوحيد، وأَجاد الكلَام فيه شُرَّاحُ مُسْلِم أَيضًا عِياضٌ والنَّوَوِيّ والقُرْطُبِيُّ وغيرُهُم، وجَمَع كَلامَهم الآبِي في الإِكمال. وقال عِياضٌ: القَوْلُ بأَنَّه من أَسماءِ الله مَرْدُودٌ غَلَطٌ لا يَصِحّ، بل هُو مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنْيَا، انتهى.وقال الجوهريّ في مَعنَى: لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ أَي ما أَصابَك من الدَّهْر فالله فاعِلُه لَيْس الدَّهْر، فإِذا شتَمْت به الدَّهْرَ فكأَنَّك أَردْتَ به الله؛ لأنهم كانوا يُضِيفون النَّوَازِلَ إِلى الدَّهْرِ، فقيل لهم: لا تَسُبُّوا فاعِلَ ذلك بكم، فإِن ذلِك هُو الله تعالى.
ونقَلَ الأَزهرِيّ عن أَبي عُبَيْد في قوله: «فإِن الله هو الدَّهْر» مِمَّا لا يَنْبَغِي لأَحَد من أَهْلِ الإِسْلام أَن يَجْهَل وَجْهَه، وذلك أَن المُعَطِّلة يَحْتَجُّون به على المُسْلِمِين، قال: ورأَيتُ بعضَ مَنْ يُتَّهم بالزَّنْدَقة والدَّهْرِيّة يَحْتَجُّ بهذا الحديث ويقول: أَلَا تَراه يقول «فإِنَّ الله هُوَ الدَّهْر». قال: فقُلْت: وهل كان أَحَدٌ يَسُبّ الله في آبادِ الدَّهْر. وقد قال الأَعْشى في الجَاهِليّة:
اسْتَأْثَر الله بالوفاءِ وبِالْ *** حَمْد ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلَا
قال: وتأْوِيلُه عندي أَنَّ العَرَب كانَ شأْنُها أَن تَذُمَّ الدّهْرَ وتَسُبَّه عند الحوادِثِ والنوازِلِ تَنْزِلُ بهم، من مَوْتٍ أَوْ هَرَمٍ، فيقولون أَصابَتْهُم قَوَارِعُ الدَّهْرِ وحَوادِثُه، وأَبادَهم الدَّهْرُ، فيَجْعَلُون الدَّهْرَ الذي يَفعل ذلك فيَذُمُّونه، وقد ذَكَروا ذلك في أَشْعَارهم، وأَخْبَر الله تعالَى عنهم بذلك في كِتابِه العَزِيز، فنهاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا تَسُبُّوا الدّهرَ...» على تأَوِيل لا تَسُبّوا [الدهر] الَّذِي يَفْعَلُ بكُم هذِه الأَشْيَاءَ، فإِنَّكُم إِذا سَبَبْتم فاعِلَهَا فإِنَّمَا يَقَع السَّبُّ على الله، لأَنّه الفاعلُ لها لا الدَّهْر. فَهذا وَجْهُ الحَدِيثِ.
قال الأَزْهَرِيّ: وقد فَسَّر الشَّافِعِيُّ هذا الحديثَ بنَحْوِ ما فَسَّرَه أَبو عُبَيْد، فظَنَنْت أَنَّ أَبَا عُبَيْد حَكَى كلامَه.
وقال المُصَنِّف في البَصَائر: والذي يُحَقِّق هذا الموضِع ويَفْصِل بين الرِّوايَتَيْن هو قوله: «فإِنَّ الدَّهْرَ هو الله»، حَقِيقَتُه: فإِنَّ جالبَ الحوادثِ هُوَ الله لا غَيْرُ، فوضَعَ الدَّهْرَ مَوْضِعَ جالِبِ الحوادثِ، كما تقول: إِنَّ أَبا حَنِيفَة أَبُو يُوسفَ، تُرِيد أَن النِّهَايَة في الفِقْه هو أَبُو يُوسفَ لا غيره.
فتضع أَبا حَنِيفَة مَوْضعَ ذلِك لشُهْرَتِه بالتَّناهِي في فِقْهِ، كما شُهِرَ عندَهم الدَّهْرُ بجَلْبِ الحوادثِ.
ومعنَى الروايَةِ الثانيةِ «إِنَّ الله هُو الدَّهْر»، فإِنَّ اللهَ هو الجالِبُ للحوادثِ لا غَيْرُ، رَدًّا لاعتقادِهِم أَنّ جالبَها الدَّهْرُ، كما إِذا قلتَ: إِنَّ أَبا يُوسفَ أَبو حَنِيفَةَ، كان المعنَى أَنَّه النِّهَايَة في الفِقْه. وقال بعضُهُم: الدَّهْر الثانِي في الحَدِيث غيرُ الأَوّل، وإِنما هو مَصْدَرٌ بمعنَى الفاعلِ، ومَعْنَاه إِنَّ الله هو الدَّهْر؛ أَي المُصرِّف المُدَبِّر المُفِيض لِمَا يَحْدُث، انتهى.
قلتُ: وما ذَكَره من التَّفْصِيل وتأْوِيلِ الرِّوايَتَيْن فهو بعَيْنه نَصُّ كلام الأَزْهَرِيّ في التهذيب، ما عَدا التَّمْثِيل بأَبي يُوسفَ وأَبِي حنيفة. وأَما القَوْلُ الأَخِيرُ الذي عَزَاه لبَعْضهم فقد صَرّحوا به، واستَدَلُّوا بالآيةِ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ}، ونسبُوه للراغِب.
وقد عَدَّ المُدَبِّرَ في الأَسماءِ الحسنى الحَاكِمُ والفِرْيَابِيّ مِن رِوَاية عبد العزيز بن الحُصَيْن، كما نقله شيخُنَا عن الفَتْح، ولكن يخالِفُه ما في المُفْردات له بَعْد ذِكْرِ مَعْنَى الدَّهْر تَأْوِيل الحديث بنَحْوٍ من كلامِ الشافعيّ وأَبي عُبَيْد، فليُتَأَمَّل ذلك.
قال شيخُنَا: وكأَنّ المُصَنِّفَ رَحِمه الله قَلَّد في ذلِك الشَّيْخَ مُحْيِىَ الدِّينِ بن عَربِيّ قُدِّسَ سِرُّه، فإِنَّه قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: الدَّهُر من الأَسماءِ الحُسْنَى، كما ورَدَ في الصّحِيح، ولا يُتَوَهَّم من هذا القولِ الزَّمَانُ المعرُوفُ الذي نَعُدُّه من حَرَكَاتِ الأَفْلاكِ ونَتَخَيَّل من ذلِك دَرَجَاتِ الفَلَك التي تَقطَعها الكواكبُ، ذلِك هو الزَّمَان، وكلامُنا إِنَّمَا هو في الاسمِ: الدَّهْرِ، ومَقَاماتِه التي ظهر عنها الزمانُ، انتهى.
ونَقَلَه الشيخُ إِبراهِيم الكُورانيّ شَيْخُ مَشايخنا، ومالَ إِلى تَصْحيحه. قال: فالمحقِّقون من أَهل الكَشْف عَدُّوه من أَسماءِ الله بهذا المَعْنَى، ولا إِشكالَ فيه. وتَغْلِيطُ عِيَاض القائل بأَنه من أَسماءِ الله مَبْنِيٌّ على ما فَسَّرَه به من كَوْنِه مُدَّةَ زَمانِ الدُّنْيَا، ولا شكّ أَنه بهذا المعنَى يُغْلَّط صاحبُه. أَما بالمعنَى اللائقِ كما فَسَّره الشيخُ الأَكبرُ، أَو المُدَبِّر المُصْرِّف، كما فسَّره الراغبُ، فلا إِشكالَ فيه، فالتغليط ليس على إطلاقه.
قال شيخُنَا: وكان الأَشْياخُ يَتوقَّفُون في هذا الكلام بَعْضَ التَّوَقُّفِ لَمَّا عَرَضْته عليهم ويقولون: الإِشارات الكَشْفِيّة لا يُطلَق القَولُ بها في تَفْسِير الأَحادِيثِ الصَّحِيحَة المَشْهُورَة، ولا يُخَالَفُ لأَجلها أَقوالُ أَئِمَّةِ الحديثِ المَشَاهِيرِ، والله أَعلم.
وقيل الدَّهْر: الزّمانُ قَلَّ أَو كَثُر، وهما وَاحدٌ، قاله شَمِرٌ، وأَنشد:
إِنَّ دَهْرًا يَلُفُّ حَبْلِي بجُمْلٍ *** لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسَانِ
وقد عَارَضَه خالِدُ بنُ يَزِيدَ وخَطَّأَه في قَوْلِه: الزّمانُ والدَّهْر واحد، وقال: يَكون الزمانُ شهرَيْن إِلى سِتَّة أَشهُرٍ، والدَّهْرُ لا يَنْقَطع، فهما يَفْتَرِقَانِ، ومثله قال الأَزهريّ.
وقيل: الدَّهْرُ هو الزّمانُ الطَّوِيلُ، قاله الزَّمَخْشَرِيّ.
وإِطلاقُه على القَلِيل مَجازٌ واتِّسَاعٌ، قاله الأَزهريّ.
وفي المصباح: الدَّهْر: يُطلقُ على الأَمَد، هكذا بالمِيمِ في النسخ، وفي الأُصول الصّحيحة الأَبَد بالمُوحَّدَة، ومِثْله في البَصَائر والمِصْباح والمُحْكَم، وزاد في المحكم المَمْدُود، وفي البصائر: لا يَنقطع. وقيل: الدَّهْر: أَلفُ سَنَة. وقال الأَزْهَرِيُّ: الدَّهرُ عند العَرَب يَقَع على بَعْض الدَّهْرِ الأَطْوَلِ، وَيَقَع على مُدَّةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا.
وفي المفردات للراغب: الدَّهْرُ في الأَصْل اسمٌ لمُدَّة العَالَمِ من ابتداءِ وُجُوده إِلى إنقضائه، وعلى ذلك قولُه تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} يُعبَّر به عن كُلِّ مدّة كَبِيرَة، بخلاف الزَّمَانِ، فإِنه يَقَعُ على المُدَّةِ القليلة والكَثِيرة.
ونقل الأَزْهَرِيّ عن الشّافعيّ: الحِينُ يَقَع على مُدَّةِ الدُّنْيَا ويَوْم، قال: ونحن لا نَعْلَم للحِين غَايَةً، وكذلك زَمَانٌ ودَهْرٌ وأَحقابٌ. ذُكِر هذا في كتاب الأَيمان، حَكاه المُزَنيّ في مُخْتَصَره عنه. وتُفْتَح الهاءُ، قال ابنُ سِيدَه: وقد حُكِيَ ذلِك، فإِما أَن يكونَا لُغَتَيْن، كما ذَهَب إِليه البَصْرِيّون في هذا النَّحْو، فيُقْتَصَر على ما سُمِعَ منه، وإِمّا أَن يكون ذلك لمكانِ حَرْف الحَلْق، فيطَّرِد في كُلّ شيءٍ، كما ذَهَبَ إِليه الكُوفِيُّون. قال أَبو النَّجْم:
وَجَبَلًا طَالَ مَعَدًّا فاشْمَخَرّ *** أَشَمَّ لا يَسْطِيعُه النَّاسُ الدَّهَرْ
قال ابنُ سِيدَه: والجمع: الدَّهْر أَدْهُرٌ ودُهورٌ، وكذلك جَمْع الدَّهَر، لأَنّا لم نَسمع أَدْهَارًا ولا سمِعْنا فيه جَمْعًا إِلَّا ما قَدَّمناه من جَمْع دَهْر. والدّهْر: النّازِلَةُ، وهذَا على اعتقادِهم على أَنَّه هو الطَّارِقُ بها، كما صَرَّحَ به الزَّمَخْشَرِيّ، ونَقَله عنه المُصَنِّف في البَصَائِر. قال: ولذلِك اشتَقُّوا من اسمه دَهَرَ فُلانًا خَطْبٌ، كما سيأْتي قريبًا.
والدَّهْر: الهِمَّةُ والإِرادَة والغَايَةُ، تقول: ما دَهْرِي بكذا، وما دَهْرِي كذا؛ أَي ما هَمِّي وغايَتِي وإِرادَتِي. وفي حديث أُمِّ سُلَيْم: «مَا ذَاكِ دَهْرُكِ» وقال مُتَمِّمُ بنُ نُوَيْرةَ:
لعَمْرِي وما دَهْرِي بتَأْبِين هالِكٍ *** ولا جَزِعًا مِمَّا أَصابَ فَأَوْجَعَا
ومن المَجاز: الدَّهْر: العَادَةُ الباقِيَة مُدَّةَ الحَيَاةِ: تقول: ما دَهْرِي بكذا وما ذَاكَ بدَهْرِي. ذكرَهَ الزَّمَخْشَرِيّ في الأَساس والمُصَنِّف في البَصَائِر.
والدَّهْر: الغَلَبَةُ والدّولَة، ذكرَه المصنِّف في البَصَائر.
والدّهارِيرُ: أَوّلُ الدّهرِ في الزَّمن الماضِي، بلا واحدٍ، كالعَبَادِيد، قاله الأَزهريّ.
والدَّهَارِيرُ: السَّالِفُ، ويقال: كان ذلِك في دَهْر الدَّهارِير.
وفي الأَساس: يقال: كان ذلِك دَهْرَ النَّجْمِ: حينَ خلقَ الله النُّجُومَ، يريد أَوّلَ الزَّمَان وفي القديمِ.
ودُهُورٌ دَهَارِيرُ: مُخْتَلِفَةٌ، على المبالغة.
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: الدَّهَارِيرُ: تَصَارِيفُ الدَّهْرِ ونَوَائِبُه.
مُشْتَقٌّ من لَفْظِ الدَّهْرِ، ليس له وَاحِدٌ من لَفْظِه، كعَبَابِيدَ، انتهى.
وأَنشد أَبُو عَمْرِو بنُ العَلاءِ لرَجُل من أَهْل نَجْد. وقال ابنُ بَرِّيّ، هو لعِثْيَرِ بنِ عَبِيدٍ العُذْرِيّ. وقيل: هو لحُرَيْث بن جَبَلَةَ العُذْرِيّ.
قلت: وفي البصائر للمُصنّفِ: لأَبي عُيَيْنة المُهَلَّبيّ:
فاستَقْدِرِ الله خَيْرًا وارْضَيَنَّ به *** فبَيْنَمَا العُسْرُ إِذا دَارَتْ مَيَاسِيرُ
وبَيْنَمَا المَرْءُ في الأَحياءِ مُغْتَبِطُ *** إِذَا هو الرَّمْسُ تَعْفُوه الأَعَاصِيرُ
يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ *** وذُو قَرَابَتِهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
حتّى كأَنْ لمْ يَكُنْ إِلّا تَذَكُّرُهُ *** والدَّهْرُ أَيَّتَمَا حِينٍ دَهَارِيرُ
قال: وواحِدُ الدَّهارِير: دَهْر، على غَيْر قياس. كما قالوا: ذَكَرٌ ومَذاكير، وشبْه ومَشَابِيه وقيل: جَمْع دُهْرورٍ أَو دَهْرَات. وقيل: دِهْرِير. وفي حديث سَطِيح:
فإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوارًا دَهَارِيرُ
ويقال: دَهْرٌ دَهَارِيرُ؛ أَي شَدِيدٌ، كقولهم: لَيْلَةٌ لَيْلاءُ، ونَهَارٌ أَنْهَرُ، ويَومٌ أَيْوَمُ، وساعَةٌ سَوْعَاءُ.
وكذا دَهْرٌ دَهِيرٌ، ودَهْر داهِرٌ، مُبَالغَةٌ؛ أَي شَدِيدٌ، كقولهم أَبَدٌ آبِدٌ، وأَبَدٌ أَبِيدٌ.
ودَهَرَهُم أَمرٌ، ودَهَرَ بهم، كمَنَع: نَزَلَ بهم مَكْرُوهٌ، وقال الزَّمَخْشَرِيّ: أَصابَهم به الدَّهْرُ. وفي حديث مَوْتِ أَبي طالب: «لولا أَنَّ قُرَيْشًا تَقول دَهَرَه الجَزعُ لفَعَلْتُ» وهم مَدْهورٌ بهم ومَدْهُورُون، إِذا نَزَل بهم وأَصابَهُم.
والدَّهْرِيّ بالفتح ويُضمُّ: المُلحِدُ الذي لا يُؤْمن بالآخِرة القَائِلُ بِبقَاءِ الدَّهْرِ. وهو مُوَلَّد.
قال ثَعْلبٌ: وهما جَمِيعًا مَنْسُوبانِ إِلى الدَّهْرِ، وهم رُبَّمَا غَيَّرُوا في النَّسَب، كما قالوا سُهْلِيّ للمَنْسُوب إِلى الأَرضِ السَّهْلَة، واقْتَصَر الزَّمَخْشَرِيّ على الفَتْح، كما سيأْتي.
وعَامَلَه مُدَاهرَةً ودِهَارًا، كمُشَاهَرَة الأَخِيرَة عن اللِّحْيَانيّ، وكذلِك استَأْجَرَه مُدَاهَرةً ودِهَارًا، عنه.
ودَهْوَرَهُ دَهْوَرَةً: جَمَعَه وقَذَفَه به في مَهْواةٍ، وقال مُجَاهِد في قَوْلِه تَعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قال: دُهْوِرَت.
وقال الرَّبِيع بنُ خيثم رَمَى بها. ويقال: طَعَنَه فكَوَّرهَ، إِذَا أَلْقاه. وقال بعضُ أَهلِ اللُّغَة في تَفْسِير قولِهِ تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ} أَي دُهْوِرُوا. وقال الزَّجّاج أَي طُرِحَ بعضُهم على بَعْض.
وفي مجمع الأَمثال للمَيْدَانِيّ: يقال: «دَهَوْرَ الكَلْبُ» إِذا فَرِقَ من الأَسَدَ فنَبَحَ وضَرِطَ وسَلَحَ.
ودَهْوَرَ الكلام: فخّمَ بعضَه في إِثْر بَعْضٍ.
ودَهْوَرَ الحائِطَ: دَفَعَه فَسَقَطَ، وتدَهْوَرَ اللَّيْلُ: أَدْبَرَ ووَلَّى.
والدَّهْوَرِيُّ: الرّجلُ الصُّلْبُ الضَّرْبُ. وقال اللّيث: رَجُلٌ دَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ، وهو الصُّلْب.
قال الأَزهَرِيّ: أَظُنُّ هذا خَطَأً، والصواب جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ؛ أَي رَفِيعُ الصَّوتِ.
ودَهْرٌ، بفَتْح فَسُكون: وادٍ دُونَ حَضْرَموْتَ. قال لَبِيد بنُ رَبِيعة:
وأَصْبَحَ راسِيًا برُضَامِ دَهْرٍ *** وسَالَ به الخَمائِلُ في الرِّهَامِ
ودَهْرُ بنُ وَدِيعةَ بنِ لُكَيْزٍ أَبُو قَبِيلَة، من عامِرٍ. والدُّهْرِيّ، بالضَّمّ، نسْبَةٌ إِليها على غيرِ قِياس، من تَغيرات النَّسب.
وهو كَثِيرٌ، كسُهْلِيّ إِلى الأَرْض السَّهْلَة، كما تقدّم عن ثَعْلَب. قال ابنُ الأَنبارِيّ: يقال في النّسبة إِلى الرجل القَدِيم: دَهْريّ. قال وإِن كان من بني دَهْرٍ من بني عامرٍ قُلْتَ: دُهْرِيّ لا غَيْرُ، بضمّ الدالِ، وقد تقدَّم عن ثَعْلَبِ ما يخالفه. وقال سيبويه: فإِن سَمَّيت بدَهْر لم تَقُلْ إِلا دَهْرِيّ، على القِيَاسِ.
وقال الزَّمخْشَرِيّ في الأَسَاس والدُّهْرِيّ، بالضَّمّ: الرَّجلُ المُسِنّ القدِيم، لكِبَرِه. يقال: رَجُلٌ دُهْرِيٌّ؛ أَي قديمٌ مُسِنٌّ نُسِب إِلى الدَّهْر، وهو نَادِرٌ، وبالفَتْح: المُلْحِدُ. وقال بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَة: والدُّهرِيّ أَيضًا بالضَّمّ: الحاذِقُ.
والمصنّف مَشَى على قَول ابنِ الأَنباريّ، وهُنا وفي الأَوّل على قول ثَعْلَب، وفاتَه معنَى الحاذِقِ، فتأَمَّلْ.
ودَاهِرٌ، ودَهِيرٌ، كأَمِير. من الأَعلام. ويقال: إِنّه لدَاهِرَةُ الطُّول: طويلُهُ جَدًّا.
ودَاهَرُ كهَاجَر: مَلِك للدَّيْبُلِ قَصَبة السِّنْد، قَتَلَه مُحَمَّدُ بنُ القاسِم الثَّقَفِيّ ابن عمّ الحَجّاجِ بن يُوسفَ، واستباح الدَّيْبُل إِلى مُولَتَانَ وهو غَيْر مُنْصرِف للعلميّة والعُجْمَة، ذَكَرَه جَرير فقال:
وأَرضَ هِرَقْلٍ قد ذَكَرْتُ ودَاهَرًا *** ويَسْعَى لَكُم من آلِ كِسْرَى النَّواصِفُ
وفي الصّحاح: لا آتِيهِ دَهْرَ الدَّاهِرينَ؛ أَي أَبدًا، كقولهم: أَبدَ الآبِدِين.
وأَبو بكرٍ عبدُ الله بنُ حَكِيم الدَّاهِرِيُّ، ضعِيفٌ. وقال الذَّهَبِيّ: اتَّهموه بالوَضْع. وقال ابنُ أَبي حاتِم عن أَبِيه قال: تَركَ أَبو زُرْعَةَ حَدِيثَهُ وقال: ضَعِيف، وقال مَرَّةً: ذاهِبُ الحديثِ.
وعبدُ السّلام بنُ بكرَانَ الدَّاهِرِيُّ، حدَّثَ. والدَّاهِرُ: بَطْنٌ من مَهْرَةَ من قُضَاعَةَ قاله الهَمْدَانيّ.
وجُنَيْد بنُ العَلَاءِ بن أَبي دَهْرةَ، روى عنه محمّد بنُ بِشْر وغيرُه. ودُهَيْرٌ الأَقْطَعُ، كزُبَيْر عن ابن سِيرِين.
وكأَمِيرٍ دَهِيرُ بنُ لُؤَيّ بن ثَعْلَبَة، من أَجداد المِقْدَادِ بنِ الأَسودِ.
* ومما يُسْتَدْرَك عليه:
دَهْرٌ دَهَارِيرُ؛ أَي ذُو حَالَيْن من بُؤْس ونُعْم. والدَّهَارِيرُ. تَصَارِيفُ الدَّهْرِ ونَوَائِبُه. ووَقَعَ في الدَّهَارِير: الدَّوَاهِي.
والدَّهْوَرَةُ: الضَّيْعَة وتَرْكُ التَّحَفُّظِ والتَّعَهُّدِ. ومنهحَدِيثُ النَّجَاشيّ: «ولا دهْورَةَ اليَومَ على حِزْبِ إِبراهِيم».
ودَهْوَرَ اللُّقْمَةَ: كَبَّرَها. وقال الأَزهرِيُّ. دَهْوَرَ الرَّجلُ لُقْمَةً، إِذا أَدارَهَا ثمّ الْتَهَمَهَا.
وفي الأَسَاس: رأَيتُه يُدَهْوِرُ اللُّقَمَ؛ أَي يُعظِّمها ويَتَلَقَّمُها.
وفي نوادِر الأَعْرَابِ: ما عِنْدي في هذَا الأَمرِ دَهْوَرِيَّةٌ ولا هَوْدَاءُ ولا هَيْدَاءُ ولا رَخْوَدِيَّةٌ؛ أَي ليس عِنْدَه فيه رِفْقٌ ولا مُهَاوَدَةٌ ولا رُوَيْدِيّة.
والدَّوَاهِر: رَكَايَا مَعْرُوفةٌ. قال الْفَرَزْدَق:
إِذًا لأَتَى الدَّواهِرَ عن قَرِيبٍ *** بخِزْيٍ غَيْرِ مَصْرُوفِ العِقَالِ
ودَهْرَانُ، كسَحْبَان: قَرية باليمن، منها أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحمَّد المُقْريءِ، حدّثَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
61-تاج العروس (طير)
[طير]: الطَّيَرَانُ، محرَّكَةً: حَرَكَةُ ذِي الجَنَاح في الهَوَاءِ بجَنَاحَيْهِ، وفي بعضِ الأمّهاتِ «بجَناحِهِ»، كالطَّيْرِ مثل البَيْع، من باع يَبِيع والطَّيْرُورَةِ، مثل الصَّيْرُورَة مِن صارَ يَصِيرُ، وهذِه عن اللِّحْيَانِيّ وكُرَاع وابنِ قُتَيْبَة، طَارَ يَطِيرُ طَيْرًا وطَيَرَانًا وطَيْرُورَةً.وأَطَارَه، وطَيَّرَهُ، وطَيَّرَ بِهِ وطَارَ به، يُعَدَّى بالهَمزةِ وبالتّضْعِيفِ، وبحرفِ الجرّ.
وفي الصّحاح: وأَطارَهُ غيرُه وطَيَّرَهُ وطايَرَهُ بمعنًى.
والطَّيْرُ معروف: اسمٌ لجماعَةِ ما يَطِير، مُؤنّث جمعُ طائِرٍ، كصَاحِب وصَحْب والأُنثى طائِرَةٌ، وهي قليلةٌ، قالَه الأَزهريّ.
وقيل: إِنّ الطَّيْرَ أَصلُه مصدر طَار، أَو صِفَةٌ، فخُفِّف من طَيِّرٍ، كسَيِّد، أَو هو جَمْعٌ حَقِيقة، وفيه نَظرٌ، أَو اسمُ جمْع، وهو الأَصحُّ الأَقربُ إِلى كلامهم، قاله شيخنا.
قلْت: ويجوز أَن يكون الطّائرُ أَيضًا اسمًا للجَمْع كالجَامِلِ والبَاقِرِ.
وقَدْ يَقَعُ على الواحِدِ، كذا زَعَمَه قُطْرُب، قال ابن سِيدَه: ولا أَدرِي كيف ذلك إِلّا أَنْ يَعْنِيَ به المصدرَ وقُرِئَ: {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ}.
وقال ثعلب: النّاسُ كلُّهم يقولون للواحدِ: طائِرٌ، وأَبو عُبَيْدَةَ معهم، ثم انفَرَدَ فأَجَازَ أَن يُقَال طَيْر للواحد، والجمع: أَي جمعه على طُيُور قال الأَزْهَرِيّ: وهو ثِقَةٌ، وجمع الطّائِر أَطْيارٌ، وهو أَحدُ ما كُسِّرَ على ما يُكَسَّرُ عليه مثلُه، ويَجُوز أَن يَكُون الطُّيُورُ جمعَ طائِرٍ كسَاجِدٍ وسُجُودٍ.
وقال الجَوْهَرِيّ: الطّائِرُ: جمْعه طَيْرٌ، مثل صَاحِبٍ وصَحْبٍ، وجمع الطَّيْرِ طُيُورٌ وأَطْيَارٌ، مثل فَرْخِ وأَفْرَاخ، ثم قوله: {بِجَناحَيْهِ} إِمّا للتّأْكِيدِ؛ لأَنّه قد عُلِم أَن الطَّيَرَانَ لا يكون إِلّا بالجَنَاحَيْنِ، وإِمّا أَنْ يكونَ للتَّقْيِيدِ، وذلك لأَنّهم قد يَستعملونَ الطَّيَرانَ في غَيْر ذي الجَنَاحِ، كقول العَنْبَرِيّ:
طارُوا إِليه زَرَافاتٍ ووُحْدَانَا
ومن أَبيات الكِتَاب:
وطِرْتُ بمُنْصُلِي في يَعْمَلَات
وتَطَايَرَ الشَّيْءُ: تَفَرَّقَ وذَهَبَ وطَارَ، ومنهحديث عُرْوَةَ: «حتى تَطايَرَتْ شُئُونُ رَأْسِه» أَي تَفرَّقت فصارت قِطَعًا، كاسْتَطَارَ وطَارَ، شاهد الأَوّلِ حديثُ ابنِ مَسْعُودٍ: «فقَدْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقُلْنَا اغْتِيلَ أَو اسْتُطيرَ» أَي ذُهِبَ به بسُرْعَة، كأَنَّ الطَّيْر حَمَلَتْه أَو اغْتَالَه أَحدٌ، وشاهِدُ الثاني حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: «سَمِعَتْ من يقولُ إِنَّ الشُّؤْمَ في الدّارِ والمَرْأَةِ، فطارَتْ شِقَّةٌ منها في السّمَاءِ وشِقَّةٌ في الأَرْضِ» أَي كأَنَّهَا تَفرَّقَت وتَقَطَّعَتْ قِطَعًا من شِدَّة الغَضَبِ.
وتَطَايَرَ الشيْءُ: طالَ، ومنهالحديث «خُذْ ما تَطَايَرَ من شَعرِكَ» وفي رواية «من شَعْرِ رأْسِك» أَي طالَ وتَفرّق، كطَارَ، يقال: طارَ الشَّعْرُ، إِذَا طَالَ، وكذَا السَّنَامُ، وهو مَجَاز، وأَنشدَ الصاغانيّ لأَبي النَّجْمِ:
وقد حَمَلْنَ الشَّحْمَ كُلَّ مَحْمِلِ *** وطَارَ جِنِّيُّ السَّنَامِ الأَمْيَلِ
ويروى «وقام».
وتَطَايَرَ السَّحَابُ في السَّمَاءِ، إِذا عَمَّهَا وتَفَرَّقَ في نَوَاحِيها وانْتَشَرَ.
ومن المَجَاز: هُو ساكِنُ الطّائِرِ؛ أَي وَقُورٌ، لا حَرَكةَ له حَتَّى كأَنَّه لو وَقَعَ عليه طائِرٌ لسَكَنَ ذلك الطّائِرُ؛ وذلِك لأَنّ الإِنْسَانَ لو وَقَعَ عليه طائِرٌ فتحَرَّكَ أَدْنَى حَرَكةٍ لفَرّ ذلِك الطائرُ ولم يَسْكُنْ، ومنهقولُ بعضِ الصَّحابةِ: «إِنا كُنّا مع النّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وكَأَنَّ الطَّيْرَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا»؛ أَي كأَنّ الطَّيْرَ وَقعَتْ فوقَ رُؤُسِنا، فنحنُ نَسْكُن ولا نَتَحَرّك خَشْيةً من نِفَارِ ذلك الطَّيرِ. كذا في اللسان.
قلْت: وكذا قولُهم رُزِق فُلانٌ سُكُونَ الطَّائِرِ، وخَفْضَ الجَنَاجِ.
وطُيُورُهُم سَواكِنُ، إِذا كانُوا قَارِّينَ، وعَكْسُه: شَالَتْ نَعامَتُهم، كذا في الأَساس.
والطّائِرُ: الدِّمَاغُ، أَنشد الفارسيّ:
هُمُ أَنْشَبُوا صُمَّ القَنَا فِي نُحورِهِمْ *** وبِيضًا تَقِيضُ البَيْضَ مِن حَيْثُ طائِرُ
عَنَى بالطّائِرِ الدِّمَاغَ، وذلك من حيثُ قِيلَ له فَرْخٌ، قال:
ونَحْنُ كَشَفْنا عن مُعَاوِيَةَ الَّتِي *** هِيَ الأُمُّ تَغْشَى كلَّ فَرْخٍ مُنَقْنِقِ
عَنَى بالفَرْخِ الدِّمَاغَ، وقد تقدّم.
ومن المَجَاز: الطَّائِرُ: مَا تَيَمَّنْتَ به، أَو تَشَاءَمْتَ، وأَصلُه في ذِي الجَنَاحِ، وقالُوا للشَّيْءِ يُتَطَيَّرُ به من الإِنسانِ وغيرِه: طائِر الله لا طائِركَ. قال ابنُ الأَنْبَارِيّ: معناه فِعْلُ اللهِ وحُكْمُه لا فِعْلُك وما تَتَخَوَّفُه. بالرَّفْع والنَّصْب.
وَجَرَى له الطّائِرُ بأَمْرِ كذا. وجاءَ في الشَّرّ، قال الله عزّ وجلّ: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}؛ أَي الشّؤْمُ الذي يَلَحَقُهم هو الذي وُعِدُوا به في الآخرةِ لا ما يَنالُهم في الدُّنْيَا.
وقال أَبو عبيدٍ: الطّائِرُ عندَ العَرَبِ: لحَظُّ، وهو الذي تُسمِّيه العَرَبُ البَخْت، إِنما قيل للحَظّ من الخَيْرِ والشَّرِّ طائِرٌ، لقَوْل العَرَبِ: جَرَى له الطَّائِرُ بكَذَا من الشَّرِّ، على طريق الفأَلِ والطِّيَرَةِ، على مَذْهَبِهم في تسميةِ الشيْءِ بما كان له سَبَبًا. وقيل: الطَّائِرُ: عمل الإِنْسَانِ الَّذِي قُلِّدَهُ خَيْره وشَرّه.
وقيل: رِزْقُه، وقيل: شَقَاوَتُه وسَعادَتُه، وبكُلٍّ منها فُسِّر قولُه تعالى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}.
قال أَبو مَنْصُور: والأَصْل في هذا كلِّه أَن الله تعالى لمّا خَلَقَ آدَمَ عَلِمَ قَبْلَ خَلْقِه ذُرِّيَتَه أَنّه يأْمُرُهُم بتوحِيدِه وطاعَتِه، ويَنْهَاهُمْ عن مَعْصيِتَه وعَلِمَ المُطِيعَ منهم والعاصِيَ الظالِمَ لنفسِه، فكَتَبَ ما عَلِمَه منهم أَجمعينَ وقَضَى بسَعَادَةِ مَن عَلِمَه مُطِيعًا، وشَقَاوَةِ مَنْ عَلِمَه عاصِيًا، فصارَ لكُلِّ مَن عَلِمَه ما هو صائِرٌ إِليه عندَ حِسابِه، فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}.
والطَيَرَةُ، بكسر ففتح، والطِّيرَةُ بكسر الياءِ، لغة في الذي قَبْلَه والطّورَةَ، مثل الأَوّل، عن ابن دُرَيْد، وهو فى بعض اللغات، كذا نقلَه الصاغانيّ: ما يَتشاءَمُ بهِ من الفَأْلِ الرّدِيءِ، وفي الحديث: «أَنّه كانَ يُحِبُّ الفَأْلَ ويَكْرَهُ الطِّيَرَةَ» وفي آخَرَ: «ثَلَاثَةٌ لا يَسْلَمُ منها أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ والحَسَدُ والظَّنُّ، قيل: فما نَصْنَعُ؟ قال: إِذا تَطَيَّرْتَ فامْضِ، وإِذا حَسَدْتَ فلا تَبْغِ، وإِذَا ظَنَنْتَ فلا تُصَحِّحْ». وقد تَطَيَّرَ بهِ ومِنهُ، وفي الصّحّاح: تَطَيَّرْتُ من الشّيْءِ وبالشّيْءِ، والاسمُ منه الطِّيَرَةُ، مثال العِنَبَةِ، وقد تُسَكَّنُ الياءُ، انتهى.
وقيل: اطَّيَّرَ، معناه: تَشَاءَمَ، وأَصْلُه تَطَيَّرَ.
وقيل للشُّؤْمِ: طائِرٌ، وطَيْرٌ، وطِيَرَةٌ؛ لأَنّ العَرَبَ كان من شَأْنِها عِيَافَةُ الطّيْرِ وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ ببَارِحِها، ونَعِيقِ غُرَابِها، وأَخْذِها ذَاتَ اليَسَارِ إِذَا أَثارُوهَا، فَسَمَّوُا الشُّؤْمَ طَيْرًا وطائِرًا وطِيَرَةً، لتَشَاؤُمِهِم بها، ثم أَعْلَم الله عزّ وجَلّ عَلى لِسَانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم أَنَّ طِيَرَتَهُم بها باطِلَةٌ، وقال: «لا عَدْوَى ولا طِيرَةَ ولا هَامَةَ» وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ، وأَصلُ الفأْلِ الكلمةُ الحَسَنَةُ يَسمَعُها عَلِيلٌ، فيتَأَوَّلُ منها ما يَدُلُّ على بُرْئِهِ، كأَنْ سَمِعَ منادِيًا نَادَى رَجُلًا اسمُه سالِمٌ وهو عَليلٌ، فأَوْهَمَه سَلامَتَه مِن عِلَّتِه، وكذلِك المُضِلُّ يَسْمَعُ رَجُلًا يقول: يا واجِدُ، فَيَجِدُ ضالَّتَه، والطِّيَرَةُ مُضَادَّةٌ للفَأْلِ، وكانَت العَرَبُ مَذْهَبُهَا في الفَأْلِ والطِّيَرَةِ واحِدٌ، فأَثْبَتَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الفَأْلَ واسْتَحْسَنَه، وأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ ونَهَى عنها.
وقال ابنُ الأَثِيرِ: [وهو مصدر] تَطَيَّرَ طِيَرَةً، وتَخَيَّرَ خِيَرَةً، [و] لم يجئ من المصادِرِ هكذا غَيرُهما، قال: وأَصلُه فيما يقال: التَّطَيُّرُ بالسَّوانِحِ والبَوَارِحِ من الظِّباءِ والطَّيْرِ وغيرِهما، وكا ذلك يَصُدُّهم عن مَقَاصِدِهم، فنفَاه الشَّرْعُ وأَبطَلَه، ونَهَى عنه، وأَخبَرَ أَنّه ليس له تَأْثيرٌ في جَلْبِ نَفْعٍ، ولا دَفْع ضَرَرٍ.
وأَرْضٌ مَطَارَةٌ، بالفَتْح: كَثيرةُ الطَّيْرِ، وأَطارَت أَرْضُنا.
وبِئْرٌ مَطَارَةٌ: واسِعَةُ الفَمِ، قال الشاعر:
كَأَن خَفِيفَها إِذْ بَرَّكُوهَا *** هُوِيُّ الرِّيحِ في حَفَرٍ مَطَارِ
ويقال: هُوَ طَيُّورٌ فَيُّورٌ؛ أَي حَدِيدٌ سرِيعُ الفَيْئَةِ.
ومن المجاز: يُقَال: فَرَسٌ مُطَارٌ، وطَيّارٌ؛ أَي حَدِيدُ الفُؤادِ ماض، كاد أَن يُسْتَطارَ من شِدَّةِ عَدْوِه.
المُسْتَطِيرُ: السّاطِعُ المُنْتَشِرُ يقال: صُبْحٌ مُسْتَطِيرٌ؛ أَي ساطِعٌ مُنْتَشِرٌ.
واسْتَطارَ الغُبَارُ، إِذا انْتَشَرَ في الهَواءِ، وغُبَارٌ مُسْتَطِيرٌ: مُنْتَشِرٌ، وفي حديث بني قُرَيْظَة:
وهَانَ على سَرَاةِ بني لُؤَيٍّ *** حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
أَي مُنْتَشِرٌ مُتَفَرِّق، كأَنَّه طارَ في نَوَاحِيها.
والمُسْتَطِيرُ: الهَائِجُ من الكِلَابِ ومِنَ الإِبِلِ، يقال: أَجْعَلَت الكَلْبَةُ. واسْتَطارَتْ، إِذا أَرادَت الفَحْلَ، وخالَفَه اللَّيْثُ، فقال: يُقَال للفَحْلِ من الإِبِلِ: هائج، وللكلبِ مُسْتَطِيرٌ.
ومن المَجَاز: اسْتَطَارَ الفَجْرُ وغيرُه، إِذَا انْتَشَرَ في الأُفُقِ ضَوْءُه فهو مُسْتَطِيرٌ، وهو الصُّبْحُ الصادقُ البَيِّنُ الذي يُحَرِّمُ على الصَّائِمِ الأَكْلَ والشُّرْبَ والجِمَاعَ، وبه تَحِلُّ صلاةُ الفَجْرِ، وهو الخَيْطُ الأَبْيَضُ، وأَمّا المُسْتَطِيلُ، بلام، فهو المُسْتَدِقُّ الذي يُشَبَّهُ بذَنَبِ السِّرْحانِ، وهو الخَيْظُ الأَسودُ، ولا يُحرِّمُ على الصائمِ شيئًا.
ومن المَجَاز: اسْتَطارَ لسُّوقُ، هكذا في النُّسخ، والصَّوابُ الشَّقّ؛ أَي واسْتَطارَ الشَّقُّ، وعبّر في الأَساس بالصَّدْعِ؛ أَي في الحائِطِ: ارْتَفَعَ وظَهَرَ.
واسْتَطارَ لحائِطُ: انْصَدَعَ، مِن أَوّله إِلى آخِرِه، وهو مَجَاز.
واستَطَارَ لسَّيْفَ: سَلَّهُ وانتَزَعَه من غِمْدِه مُسْرِعًا، قال رُؤْبَةُ:
إِذَا اسْتُطيرَتْ من جُفُونِ الأَغْمَادْ *** فَقَأْنَ بالصَّقْعِ يَرَابِيعَ الصَّادْ
ويروَى «إِذَا اسْتُعِيرَتْ».
واسْتَطَارَت الكَلْبَةُ وأَجْعَلَتْ: أَرادَت الفَحْلَ، وقد تَقَدَّم قريبًا.
واسْتُطِيرَ الشيْءُ: طُيِّرَ، قال الراجز:
إِذَا الغُبَارُ المُسْتَطَارُ انْعَقَّا
واسْتُطِيرَ فُلانٌ يُسْتَطار اسْتِطَارَةً، إِذا ذُعِرَ، قال عَنْتَرَةُ يخاطب عُمَارَة بن زِيَاد:
مَتَى ما تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ *** رَوَانِفُ أَلْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا
واسْتُطِيرَ لفَرَسُ استِطَارَةً، إِذَا أُسْرَعَ في الجَرْيَ، هكذا في النُّسخ، والذي في اللِّسَان والتَّكْمِلَة: أَسْرَعَ الجَرْيَ، فهو مُسْتَطارٌ، وقول عَدِيّ:
كأَنَّ رَيِّقَهُ شُؤْبُوبُ غَادِيَةٍ *** لمّا تَقَفَّى رَقِيبَ النَّقْعِ مُسْطارَا
أَراد مُسْتَطارًا، فحَذَفَ التَّاءَ، كما قالوا اسْطَعْتَ واسْتَطَعْتَ، ورُوِيَ «مُصْطارا» بالصاد.
والمُطَيَّرُ، كمُعَظَّمٍ: العُودُ، قاله ابنُ جِنِّي، وأَنشدَ ثَعْلَبٌ للعُجَيْرِ السَّلُولِيّ، أَو للعُدَيْلِ بنِ الفَرْخِ:
إِذَا ما مَشَتْ نَادَى بما فِي ثِيَابِهَا *** ذَكِيُّ الشَّذَى والمَنْدَلِيُّ المُطَيَّرُ
فإِذا كانَ كذلك كان المُطَيَّرُ بَدَلًا من المَنْدَلِيّ؛ لأَنّ المَنْدَلِيَّ العُودُ الهِنْدِيّ أَيضًا، وقيل: المُطَيَّرُ ضَرْبٌ من صَنْعَتِه، قاله أَبو حَنِيفَةَ.
أَو المُطَيَّرُ: هو المُطَرَّى مِنْهُ، مقلوبٌ، قال ابنُ سِيدَه: ولا يُعْجِبُنَي وقال ثَعْلَبٌ: هو المَشْقُوقُ المَكْسُورُ منه، وبه فُسِّرَ البيتُ السابقُ.
والمُطَيَّرُ ـ وفي التكملة: المُطَيَّرَةُ ـ: ضَرْبٌ من البُرُودِ.
والانْطِيارُ: الانْشِقاق والانْصداعُ.
وفي المَثل: يُقَالُ للرَّجُلِ: طارَ طائِرُهُ، وثارَ ثائِرُه، وفارَ فائِرُه، إِذَا غَضِبَ.
والمَطِيرَةُ، كمَدِينَةٍ: د، قُرْبَ سُرَّ مَنْ رَأَى.
وطِيرَةُ بالكَسْرِ: قرية، بِدِمَشْقَ، منها الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الطِّيرِيّ، رَوَى عَنْ أَبِي الجَهْمِ أَحْمَدَ بنِ [الحسين بن] طَلّاب المَشغَرَانيّ، كذا في التَّبْصِيرِ، وعنه محمّدُ بنُ حَمْزَةَ التَّمِيمِيّ الثَّقَفِيّ.
وطِيرٌ، بلا هاءٍ: موضع كانتْ فيهِ وَقْعَةٌ.
وطِيرَى، كضِيزَى: قرية، بأَصْفَهَانَ، وهو طِيرَانِيّ، على غيرِ قياسٍ، منها: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله الأَنْصَارِيّ، والخَطِيبُ أَبو محمّدٍ عبدُ الله بنُ محمّد الماسِحُ الأَصْبَهَانِيّ، تَلَا عليه الهُذَلِيّ ومُحَمّدُ بنُ عبدِ الله شيخٌ لإِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيّ، وعبدُ العزيزِ بنُ أَحمدَ، وأَبو محمَّد أَحْمَدُ بنُ محمّدِ بنِ عليٍّ، الطِّيرانِيُّونَ المُحَدِّثُونَ.
وأَطَارَ المالَ وطَيَّرَهُ بينَ القَوْمِ: قَسَمَه، فَطَارَ لكُلٍّ منهم سَهْمُه؛ أَي صارَ له، وخَرَجَ له به سَهْمُه، ومنه قولُ لَبِيد يَذْكُرُ ميرَاثَ أَخِيهِ بينَ وَرَثَتِه، وحِيَازَةَ كلِّ ذي سَهْمٍ منه سَهْمَه:
تَطِيرُ عَدائِدُ الأَشْرَاكِ شَفْعًا *** ووِتْرًا والزَّعامَةُ للْغُلامِ
والأَشْرَاكُ: الأَنْصِبَاءُ.
وفي حديث عليٍّ رضي الله عَنْه: «فَأَطَرْتُ الحُلَّةَ بينَ نِسَائي»؛ أَي فَرَّقْتُها بينهُنّ وقَسَمْتُهَا فيهِنّ، قال ابنُ الأَثِيرِ: وقيل: الهَمْزَةُ أَصليّة، وقد تَقَدّم.
والطّائِرُ: فَرَسُ قَتَادَةَ بنِ جَرِير بنِ إِساف السَّدُوسِيّ.
والطَّيّارُ: فَرَسُ أَبِي رَيْسَانَ الخَوْلانِيّ، ثم الشِّهابِيّ، وله يقولُ:
لقَدْ فَضَّلَ الطَّيَّارَ في الخَيْلِ أَنَّه *** يَكِرّ إِذا خَاسَتْ خُيُولٌ ويَحْمِلُ
ويَمْضِي على المُرّانِ والعَضْبِ مُقْدِمًا *** ويَحْمِي ويَحْمِيهِ الشِّهَابِيُّ مِنْ عَلُ
كذا قرأْتُ في كتابِ ابنِ الكَلْبِيّ.
وطَيَّرَ الفَحْلُ الإِبِلَ: أَلْقَحَها كلَّهَا، وقيل: إِنّمَا ذلِك إِذا أَعْجَلَت اللّقَحَ، وقد طَيَّرَت هي لَقَحًا ولَقَاحًا كذلك، إِذا عَجِلَتْ باللّقَاحِ وأَنشد:
طَيَّرَهَا تَعَلُّقُ الإِلْقَاحِ *** في الهَيْجِ قَبْلَ كَلَبِ الرِّيَاحِ
ومن المَجَازِ فِيهِ طَيْرَةٌ، بفتح فسكون، وطَيْرُورَةٌ، مثل صَيْرُورَة؛ أَي خِفَّةٌ وطَيْشٌ، قال الكُمَيْتُ:
وحِلْمُكَ عِزٌّ إِذَا ما حَلُمْ *** تَ وطَيْرَتُكَ الصَّابُ والحَنْظَلُ
ومنه قولُهُم: ازْجُرْ أَحْنَاءَ طَيْرِكَ؛ أَي جَوانبَ خفَّتكَ وطَيْشِك، وفي صِفَةِ الصَّحابَةِ رضوان الله عليهم: كَأَنَّ عَلَى رؤُوسِهِمُ الطَّيْرُ؛ أَي ساكِنُونَ هَيْبَةً، وَصَفهم بالسُّكُونِ والوَقَارِ، وأَنَّهُم لم يَكُنْ فيهم خِفَّةٌ وطَيْشٌ، ويُقَالُ للقَوْم إِذا كانوا هادِئينَ ساكِنِينَ: كَأَنَّمَا على رُؤُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وأَصْلُه أَنّ الطَّيْرَ لا يَقَعُ إِلّا على شيْءٍ ساكِنٍ من المَوَاتِ، فضُرِبَ مثلًا للإِنْسَانِ ووَقَارِه وسُكُونهِ. وقال الجَوْهَرِيّ: أَصلُه أَنَّ الغُرَابَ يَقَعُ عَلَى رأْسِ البَعِيرِ، فيَلْقُطُ مِنْهُ الحَلَمَةَ والحَمْنانَةَ؛ أَي القُرادَ، فلا يَتَحَرَّكُ البَعِيرُ؛ أَي لا يُحَرِّكُ رأْسه لِئَلّا يَنْفِرَ عنه الغُرَابُ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
«الرّؤْيَا على رِجْلِ طائِرٍ ما لم تُعْبَرْ» كما في الحدِيث؛ أَي لا يَسْتَقِرّ تَأْوِيلُها حتّى تُعْبَر، يريدُ أَنَّهَا سَرِيعَةُ السُّقُوطِ إِذَا عُبِرَت.
ومُطْعِمُ طَيرِ السّماءِ: لَقَبُ شَيْبَةِ الحَمْد؛ نَحَرَ مائَةَ بَعِير فَرَّقَهَا على رُؤُسِ الجِبَالِ. فأَكَلَتْهَا الطَّيْرُ.
ومِنْ أَمثالِهِمْ في الخِصْبِ وكَثْرِة الخَيْرِ، قولهم: «هُمْ في شَيْءٍ لا يَطِيرُ غُرَابُه».
ويقال أُطِيرَ الغُرَابُ، فهو مُطَارٌ، قال النّابِغَةُ:
ولرَهْطِ حَرّاب وقَدٍّ سَوْرَةٌ *** في المَجْدِ ليسَ غُرَابُها بمُطَارِ
والطَّيْرُ: الاسمُ من التَّطَيُّرِ، ومنه قولُهُم: لا طَيْرَ إِلّا طَيْرُ الله، كما يقال: لا أَمْرَ إِلا أَمْرُ الله، وأَنشد الأَصمَعِيّ، قال: أَنْشَدَناهُ الأَحْمَرُ:
تَعَلَّمْ أَنَّهُ لا طَيْرَ إِلّا *** عَلَى مُتَطَيِّر وهوَ الثُّبُورُ
بَلَى شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ *** أَحايِينًا وباطِلُه كَثِيرُ
والطَّيْرُ: الحَظُّ، وطارَ لنا: حَصَلَ نَصِيبُنَا مِنْهُ.
والطَّيْرُ: الشُّؤْمُ.
وفي الحَدِيثِ: «إِيّاكَ وطِيَرَاتِ الشَّبابِ؛ أَي زَلّاتِهم، جمعُ طِيَرَة.
وغُبَارٌ طَيّارٌ: مُنْتَشِر.
واسْتَطارَ البِلَى في الثَّوْبِ، والصَّدْعُ في الزُّجَاجَة: تَبَيَّنَ في أَجزائِهِما.
واسْتَطَارَت الزُّجَاجَةُ: تَبَيَّنَ فيها الانْصِداعُ من أَوّلِها إِلى آخرِها.
واسْتَطَارَ الشَّرُّ: انْتَشَرَ. واسْتَطارَ البَرْقُ: انْتَشَرَ في أَفُق السَّمَاءِ.
وطَارَت الإِبلُ بآذَانِهَا، وفي التكملة: بأَذْنَابِهَا؛ إِذَا لَقِحَتْ.
وطَارُوا سِرَاعًا: ذَهَبُوا.
ومَطَارِ، ومَطَارُ بالضّمّ والفَتْح: موضعان، واختار ابنُ حَمَزَةَ ضمَّ الميم، وهكذا أَنشد:
حتّى إِذَا كانَ على مُطَارِ
والرّوايَتان صحيحَتانِ، وسيذكر في «مَطَر».
وقال أَبو حَنِيفَةَ: مُطَارٌ: وَادٍ ما بَيْن السَّراةِ والطّائِف.
والمُسْطَارُ من الخَمْرِ: أَصلُه مُسْتَطَارٌ، في قول بعضِهِم، وأَنْشَد ابنُ الأَعْرَابِيّ:
طِيرِي بمِخْرَاقٍ أَشَمَّ كَأَنَّهُ *** سَلِيمُ رِمَاحٍ لم تَنَلْهُ الزّعانِفُ
فسَرَه فقال: طِيرِي؛ أَي اعلَقِي به.
وذو المَطَارَةِ، جَبَلٌ.
وفى الحدِيث «رَجُلٌ مُمْسِكٌ بعِنَانِ فَرَسِه في سَبِيلِ الله يَطِيرُ على مَتْنِهِ» أَي يُجْرِيه في الجِهَادِ، فاستَعَارَ له الطَّيَرَانَ.
وفي حديثَ وَابِصَةَ: «فَلَمّا قُتِلَ عُثْمَانُ طَارَ قَلْبِي مَطَارَه» أَي مَالَ إِلى جَهَة يَهْوَاهَا، وتعلّقَ بها.
والمَطَارُ: موضعُ الطَّيَرَانِ.
وإِذَا دُعِيَت الشَّاةُ قيل: طَيْرْ طَيْرْ، وهذه عن الصّاغانيّ.
والطّيّارُ: لَقَبُ جَعْفَر بنِ أَبي طالِبٍ.
والطّيّارُ بنُ الذّيّالِ: في نَسَب نُبَيْشَةَ الهُذَلِيّ الصّحَابِيّ.
وأَبو الفَرَجِ محمّدُ بنُ محمّدِ بنِ أَحمدَ بنِ الطَّيْرِيّ القَصِيرِيّ الضَّرِير، سمع ابنَ البَطِرِ، وتُوُفِّيَ في الأَربعين وخَمْسِمَائَة.
وإِسماعِيلُ بنُ الطَّيْرِ المُقْرِي بحَلَب، قرأَ عليه الهُذَلِيّ.
والطّائِرُ: ماءٌ لكَعْبِ بنِ كِلاب.
فَصْل الظَّاءِ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
62-تاج العروس (عبر)
[عبر]: عَبَرَ الرُّؤْيَا يَعْبُرُها عَبْرًا، بالفَتْح، وعِبَارَةً، بالكسر، وعَبَّرَها تَعْبِيرًا: فَسَّرَهَا وأَخْبَرَ بما يَؤُول، كذا في المحكم وغيره، وفي الأَساس: بآخرِ ما يَؤُول إِليهِ أَمْرُهَا.وفي البصائِرِ للمصنِّف: والتَّعْبِيرُ أَخَصُّ من التّأْوِيلِ، وفي التنزيل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} أَي إِن كُنْتُم تَعْبُرُونَ الرُّؤْيا، فعدّاها باللام والمعنى إِن كُنْتُم تَعْبُرُون، وعابِرِينَ وتُسَمَّى هذِهِ [اللَّامُ] لَامَ التَّعْقِيب؛ لأَنّهَا عَقَّبَت الإِضافَة، قال الجَوْهَرِيّ: أَوْصَلَ الفِعْلَ بلام كما يُقَال: إِن كنتَ للمالِ جامِعًا.
والعابِرُ: الذي يَنْظُرُ في الكِتَابِ فَيَعْبُرُه؛ أَي يَعْتَبِرُ بعضَهُ ببعض حتَّى يَقَعَ فَهمُه عليه، ولذلك قيل: عَبَرَ الرُّؤْيا، واعْتَبَرَ فلانٌ كذَا. وقيل: أُخِذَ هذا كلُّه من العِبْرِ، وهو جانِبُ النَّهْرِ، وهما عِبْرَانِ؛ لأَنّ عابِرَ الرُّؤْيَا يَتَأَمّلُ ناحِيَتَيِ الرُّؤْيَا، فيَتَفَكَّرُ في أَطرافِها، ويَتَدَبَّرُ كلّ شَيْءٍ منها، ويَمْضِي بفِكْره فيها مِن أَوّلِ ما رَأَى النائِمُ إِلى آخرِ ما رَأَى.
ورُوِي عن أَبي رَزِينٍ العُقَيْلِيّ أَنّه سمِعَ النَّبِيَّ صلَّى الله تَعالى عليه وسَلَّم يقول: «الرُّؤْيَا على رِجْلِ طائِرٍ، فإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، فلا تَقُصَّها إِلَّا على وَادٍّ، أَو ذِي رَأْي»، لأَنّ الوادَّ لا يُحِبُّ أَن يَسْتَقْبِلَك في تَفْسِيرِهَا إِلّا بما تُحِبّ، وإِن لم يكن عالِمًا بالعِبَارَةِ لم يَعْجَلْ لكَ بما يَغُمُّكَ؛ لأَنّ تعْبِيرَه يُزِيلُهَا عمّا جَعلَها الله عليه، وأَمّا ذُو الرّأْيِ فمعناه ذُو العِلْمِ بعِبارَتِهَا، فهو يُخْبِرُك بحقيقةِ تَفْسِيرِهَا، أَو بأَقْرَبِ ما يَعْلَمُه منها، ولعلّه أَن يكونَ في تَفْسِيرِهَا مَوعِظَةٌ تَرْدَعُكَ عن قَبِيح أَنتَ عليه، أَو يكون فيها بُشْرَى فتَحْمَد الله تعالى على النِّعْمَةِ فيها. وفي الحديثِ: «الرُّؤْيَا لأَوَّلِ عابِرِ» وفي الحديث «للرُّؤْيا كُنًى وأَسْمَاءٌ، فكَنُّوهَا بكُناهَا، واعتَبِرُوهَا بأَسْمَائِهَا». وفي حديثِ ابنِ سِيرِينَ كان يَقُولُ: «إِني أَعْتَبِرُ الحَدِيثَ» أَي أُعَبِّر الرُّؤْيَا بالحَدِيثِ وأَعْتَبِرُ به، كما أَعْتَبِرُها بالقُرْآنِ في تَأْوِيلِهَا، مثل أَن يُعَبِّرَ الغُرَابَ بالرَّجلِ الفاسِقِ، والضِّلَع بالمرأَةِ؛ لأَنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الغُرَابَ فاسِقًا، وجعلَ المرأَةَ كالضِّلَعِ، ونحو ذلك من الكُنَى والأَسماءِ.
واسْتَعْبَرَه إِيّاهَا: سَأَلَه عَبْرَها وتَفْسيرَها.
وعَبَّرَ عمّا في نَفْسِه تَعْبِيرًا: أَعْرَبَ وبَيَّنَ.
وعَبَّرَ عنه غَيْرُه: عَيِيَ فَأَعْرَبَ عَنْهُ وتَكَلَّمَ، واللِّسَانُ يُعَبِّرُ عمّا في الضَّمِيرِ.
والاسْمُ منه العَبْرَةُ، بالفَتْح، كذا هو مضبوطٌ في بعضِ النُسخِ، وفي بعضِها بالكسر، والعِبَارَةُ، بكسرِ العينِ وفتْحِهَا.
وعِبْرُ الوَادِي، بالكسر ويُفْتَحُ عن كُرَاع: شاطِئُه وناحِيَتُه، وهما عِبْرَانِ، قال النابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يمدح النُّعْمَانَ:
ومَا الفُرَاتُ إِذَا جَاشَتْ غَوَارِبُه *** تَرْمِي أَوَاذِيُّه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
يَومًا بأَطْيَبَ منه سَيْبَ نافِلَةٍ *** ولا يَحُولُ عَطَاءُ اليَوْمِ دُونَ غَدِ
وعَبَرَهُ؛ أَي النّهْرَ والوَادِيَ، وكذلك الطَّرِيقَ، عَبْرًا، بالفَتْح. وعُبُورًا، بالضَّمّ: قَطَعَهُ من عِبْرِهِ إِلى عِبْرِهِ، ويُقَالُ: فُلانٌ في ذلك العِبْرِ؛ أَي في ذلك الجانبِ.
ومن المَجَاز عَبَرَ القَوْمُ: ماتُوا، وهو عابِرٌ، كأَنَّه عَبَرَ سَبِيلَ الحياةِ، وفي البصائِرِ للمصنّف: كأَنَّه عَبَرَ قَنْطَرَةَ الدُّنْيَا، قال الشاعِر:
فإِنْ تَعْبُرْ فإِنّ لنَا لُمَاتٍ *** وإِن نَغْبُرْ فَنَحْنُ على نُذورِ
يقول: إِنْ مِتْنَا فَلَنَا أَقْرَانٌ، وإِنْ بَقِينَا فنَحْنُ ننتَظِرُ ما لا بُدَّ منه، كأَنَّ لنا في إِتْيَانِه نَذْرًا.
وعَبَرَ السَّبِيلَ يَعْبُرُهَا عُبُورًا: شَقَّها، ورَجُلٌ عَابِرٌ سَبِيلٍ؛ أَي مارُّ الطّرِيقِ، وهم عابِرْو سَبِيل، وعُبَّارُ سَبِيلٍ.
وقَوْلُه تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ} قيل: معناه أَن تكونَ له حاجَةٌ في المسجِدِ وبَيْتُه بالبُعْدِ، فيدخل المسجِدَ، ويَخْرُج مُسْرِعًا، وقال الأَزْهَرِيّ: إِلّا مُسَافِرِينَ؛ لأَنّ المُسَافِرَ [قد] يُعْوِزُهُ الماءُ، وقيل: إِلّا مارِّينَ في المَسْجِدِ غيرَ مُرِيدِينَ للصّلاةِ.
وعَبَرَ بهِ الماءَ عَبْرًا وعَبَّرَهُ به تعْبِيرًا: جَازَ، عن اللِّحْيَانِيّ.
وعَبَرَ الكِتَابَ يَعْبُرُه عَبْرًا، بالفَتْح: تَدَبَّرَه في نَفْسِه ولم يَرْفَعْ صَوْتَه بقِرَاءَتِه.
وعَبَرَ المَتَاعَ والدَّرَاهِمَ يَعْبُرُها عَبْرًا: نَظَر: كَمْ وَزْنُهَا؟
وما هِيَ؟.
وقال اللّحْيَانِيّ: عَبَرَ الكَبْشَ يَعْبُرُه عَبْرًا: تَرَكَ صُوفَه عليهِ سَنَةٌ، وأَكْبُشٌ عُبْرٌ، بضمّ فسكون، إِذا تُركَ صُوفُها عليها، قال الأَزهريّ: ولا أَدْرِي كيف هذا الجَمْعُ؟.
وعَبَرَ الطَّيْرَ: زَجَرَهَا، يَعْبُرُهُ، بالضَّمّ، ويَعْبِرُهُ، بالكَسْر، عَبْرًا، فيهما.
والمِعْبَرُ، بالكسرِ: ما عُبِرَ بِهِ النَّهْرُ من فُلْكٍ أَو قَنْطَرَةٍ أَو غَيْرِه.
والمَعْبَرُ، بالفتحِ: الشَّطُّ المُهَيَّأُ للعُبُورِ.
وبه سُمِّيَ المَعْبَرُ الذي هو: د، بساحِلِ بَحْرِ الهِنْدِ.
ونَاقَةٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَر، مُثَلَّثَةً: قَوِيَّةٌ على السَفَرِ تَشُقُّ ما مَرَّتْ بهِ وتُقْطَعُ الأَسْفَارُ عَلَيْهَا، وكذا رَجُلٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَرٍ: جَرِيءٌ عليها ماضٍ فيها قَوِيٌّ عليها، وكذا جَمَلٌ عبْرُ أَسفارٍ وجِمَالٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، للوَاحِدِ والجَمْعِ والمُؤَنّث، مثْل الفُلْكِ الذي لا يزال يُسَافَرُ عليها.
وجَمَلٌ عَبَّارٌ، ككَتّان، كذلك؛ أَي قَوِيٌّ على السَّيْرِ.
وعَبَّرَ الذَّهَبَ تَعْبِيرًا: وَزَنَه دِينَارًا دِينَارًا.
وقيل: عَبَّرَ الشَّيْءَ، إِذا لم يُبَالِغْ في وَزْنِهِ أَو كَيْلهِ، وتَعْبِيرُ الدَّراهِم: وَزْنُهَا جُمْلَةً بعد التَّفَارِيقِ.
والعِبْرَةُ، بالكِسْرِ: العَجَبُ، جمْعُه عِبَرٌ.
والعِبْرَةُ أَيضًا: الاعْتِبَارُ بما مَضَى، وقيل: هو الاسمُ من الاعْتِبَارِ.
واعْتَبَرَ منه: تَعَجَّبَ، وفي حديث أَبي ذَرٍّ: «فَمَا كانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قال: كانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا» وهي كالمَوْعِظَةِ ممّا يَتَّعِظُ به الإِنْسَانُ ويَعمَلُ بهِ ويَعْتَبِرُ: ليستَدِلَّ بهِ على غَيْرِه.
والعَبْرَةُ، بالفَتْحِ: الدَّمْعَةُ، وقيل: هو أَن يَنْهَمِلَ الدَّمْعُ ولا يُسْمَعُ البُكاءُ، وقيل: هي الدَّمْعَةُ قبلَ أَنْ تَفِيضَ، أَو هي تَرَدُّدُ البُكَاءِ في الصَّدْرِ، أَوْ هِيَ الحُزْنُ بلا بُكَاءٍ، والصحيح الأَوّل، ومنه قوله:
وإِنّ شِفَائِي عَبْرَةٌ لوْ سَفَحْتُهَا
ومن الأَخِيرَةِ قولُهُم في عِنَايَة الرَّجُلِ بأَخِيه، وإِيثَارِه إِيّاهُ على نفسِه: «لكَ ما أَبْكِي ولا عَبْرَةَ بِي» ويُرْوَى «ولا عَبْرَةَ لِي» أَي أَبْكِي من أَجْلِكَ، ولا حُزْنَ بِي في خاصَّةِ نَفْسِي. قالَه الأَصْمَعِيّ.
الجمع: عَبَرَاتٌ، مُحَرَّكةً، وعِبَرٌ، الأَخِيرَة عن ابنِ جِنِّي.
وعَبَرَ الرَّجلُ عَبْرًا، بالفَتْح، واسْتَعْبَرَ: جَرَتْ عَبْرَتُه وحَزِنَ. وفي حديث أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنه: «أَنّه ذكَرَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم اسْتَعْبَرَ فَبَكَى» أَي تَحَلَّبَ الدّمعُ.
وحَكَى الأَزْهَرِيُّ عن أَبي زَيْد: عَبِرَ الرَّجلُ يَعْبَرُ عَبَرًا، إِذا حَزِنَ.
وامرأَةٌ عابِرٌ، وعَبْرَى، كسَكْرَى، وعَبِرَةٌ، كفَرِحَةٍ: حَزِينَةٌ، ج: عَبَارَى، كسَكَارَى، قال الحارِثُ بنُ وَعْلَةَ الجَرْمِيُّ:
يَقُولُ ليَ النَّهْدِيُّ هل أَنْتَ مُرْدِفِي *** وكَيْفَ رِدَافُ الغَرِّ أُمُّكَ عَابِرُ
أَي ثاكِلٌ.
وعَيْنٌ عَبْرَى: باكِيَةٌ، ورَجُلٌ عَبْرانُ وعَبِرٌ، ككَتِفٍ: حَزِينٌ باكٍ.
والعُبْرُ، بالضَّمّ: سُخْنَةُ العَيْنِ، كأَنّه يَبْكي لمَا بهِ. ويُحَرَّكُ..
والعُبْرُ: الكَثِيرُ من كُلِّ شَيْءٍ، وقد غَلَب على الجَمَاعَة من النّاسِ. وقال كُرَاع: العُبْرُ: جماعةُ القومِ، هُذَلِيَّة.
وعَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا: أَراهُ عُبْرَ عَيْنِه، ومعْنَى أَراه عُبْرَ عَيْنِه؛ أَي ما يُبْكِيهَا أَو يُسْخِنُهَا، قال ذُو الرُّمَّةِ:
ومِنْ أَزْمَةٍ حَصّاءَ تَطْرَحُ أَهْلَهَا *** علَى مَلَقِيَّاتٍ يُعَبَّرْنَ بالغُفْرِ
وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «وعُبْرُ جارَتِها» أَي أَنَّ ضَرَّتَهَا تَرَى من عِفَّتِها وجَمَالِهَا ما يُعَبِّرُ عَيْنَها؛ أَي يُبْكِيها.
وفي الأَساس: وإِنّه ليَنْظُر إِلى عُبْرِ عَيْنَيْه؛ أَي ما يَكرهه ويَبْكِي منه، كما قيل:
إِذَا ابْتَزَّ عَنْ أَوْصالِهِ الثَّوْبَ عِنْدَهَا *** رَأَى عُبْرَ عَيْنَيْهَا وما عَنْه مَخْنِسُ
أَي لا تَسْتَطِيع أَن تَخْنِس عنه.
وامْرَأَةٌ مُسْتَعْبِرَةٌ، وتُفْتَح الباءُ؛ أَي غيرُ حَظِيَّةٍ، قال القُطَامِيُّ:
لهَا رَوْضَةٌ في القَلْبِ لم تَرْعَ مِثْلَهَا *** فَرُوكٌ ولا المُسْتَعْبِراتُ الصَّلائِفُ
ومَجْلِسٌ عِبْرٌ، بالكسر والفتح: كَثِيرُ الأَهْلِ، واقتصر ابنُ دُرَيْدٍ على الفَتْح.
وقَوْمٌ عَبِيرٌ: كَثِيرٌ.
وقال الكِسَائِيُّ: أَعْبَرَ الشّاةَ إِعْبَارًا: وَفَّرَ صُوفَهَا، وذلك إِذا تَرَكَهَا عامًا لا يَجُزُّهَا، فهي مُعْبَرَةٌ، وتَيْسٌ مُعْبَرٌ: غير مَجزوزٍ، قال بِشْرُ بنُ أَبي خَازِمٍ يصف كَبْشًا:
جَزِيزُ القَفَا شَبْعانُ يَرْبِضُ حَجْرَةً *** حَدِيثُ الخِصاءِ وَارِمُ العَفْلِ مُعْبَرُ
وجَمَلٌ مُعْبَرٌ: كَثِيرُ الوَبَرِ، كأَنّ وَبَرَه وُفِّرَ عليهِ. ولا تَقُلْ أَعْبَرْتُه، قال:
أَو مُعْبَر الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلِيَّته *** ما حَجَّ رَبَّه في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَا
ومن المَجَاز: سَهْمٌ مُعْبَرٌ، وعَبِيرٌ، هكذا في النُّسخ كأَمِير، والصّوابُ عَبِرٌ، ككَتِفٍ: مَوْفُورُ الرِّيشِ كالمُعْبَرِ من الشّاءِ والإِبِلِ.
وغُلامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ بَعْدُ، وكذلِك الجارِيَةُ ـ زادَه الزَّمَخْشَرِيُّ ـ قال:
فَهُوَ يُلَوِّي باللِّحَاءِ الأَقْشَرِ *** تَلْوِيَةَ الخَاتِنِ زُبَّ المُعْبَرِ
وقيل: هو الذي لم يُخْتَنْ، قارَبَ الاحْتِلامَ أَو لم يُقَارِبْ. وقال الأَزْهَرِيُّ: غُلامٌ مُعْبَرٌ، إِذا كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ، وقالوا: يَا ابنَ المُعْبَرَةِ، وهو شَتْمٌ؛ أَي العَفْلاءِ، وهو من ذلِك، زادَ الزَّمَخْشَريّ كيا ابْنَ البَظْرَاءِ.
والعُبْرُ، بالضَّمّ: قَبِيلَةٌ.
والعُبْرُ: الثَّكْلَى، كأَنَّه جَمْعُ عابِرٍ، وقد تقَدَّم.
والعُبْرُ: السَّحَائِبُ التي تَعْبُر عُبُورًا؛ أَي تَسِيرُ سَيْرًا شَدِيدًا.
والعُبْرُ: العُقَابُ، وقد قيل: إِنه العُثْرُ، بالثّاءِ المثَلَّثَة، وسيُذْكَر في موضِعِه إِنْ شَاءَ الله تعالَى.
والعِبْرُ، بالكَسْر: ما أَخَذَ على غَرْبِيّ الفُراتِ إِلى بَرِّيَّةِ العَرَبِ، نقله الصّاغانيُّ.
وبَنُو العِبْرِ: قَبِيلَةٌ، وهي غيرُ الأُولَى.
وبَناتُ عِبْرٍ، بالكسر: الكَذِبُ والباطِلُ، قال:
إِذا ما جِئْتَ جَاءَ بَناتُ عِبْرٍ *** وإِنْ وَلَّيْتَ أَسْرَعْنَ الذَّهَابَا
وأَبو بَنَاتِ عِبْر: الكَذّابُ.
والعِبْرِيُّ والعِبْرانِيُّ، بالكسر فيهما: لُغَةُ اليَهُود، وهي العِبْرانِيَّةُ.
وقالَ الفَرّاءُ: العَبَرُ، بالتَّحْرِيكِ الاعْتِبَارُ، والاسمُ منه العِبْرَةُ، بالكَسْر، قال: ومِنْهُ قَوْلُ العَرَبِ، هكذا نقله ابنُ منظُور والصّاغانِيّ: اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيَا ولا يَعْمُرُهَا. وفي الأَسَاس: ومنهحديث: «اعْبُرُوا الدُّنْيَا ولا تَعْمُرُوهَا» ثم الذي ذَكَرَه المُصَنّفُ «يَعْبُر» بالباءِ «ولا يَعْمُر» بالميم هو الذي وُجدَ في سائر النُّسخ، والأُصولِ الموجودةِ بين أَيدينا. وضَبَطَه الصّاغانِيّ وجَوَّدَه فقال: ممّن يَعْبَرُ الدُّنْيَا، بفتح الموحّدَة ولا يَعْبُرها، بضمّ الموحّدَة، وهكذا في اللّسَان أَيضًا، وذَكَرَا في مَعْنَاه: أَي ممن يَعْتَبِرُ بها ولا يَمُوتُ سَرِيعًا حتَّى يُرْضِيَكَ بالطَّاعَةِ، ونقله شيخُنَا أَيضًا، وصَوّبَ ما ضَبَطَه الصّاغانِيُّ.
وأَبُو عَبَرَةَ، أَو أَبو العَبَرِ، بالتَّحْرِيك فيهما، وعلى الثّاني اقتصر الصّاغانِيُّ والحَافِظُ. وقال الأَخِيرُ: كذَا ضَبَطَهَ الأَمِيرُ، وفي حِفْظِي أَنه بكَسْرِ العَيْنِ، واسمه أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّد بنِ عبدِ الله بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بن عَليِّ بنِ عبدِ الله بنِ عبّاسٍ الهاشِمِيّ: هازِلٌ خَلِيعٌ، قال الصّاغانِيّ: كان يَكْتَسِب بالمُجُونِ والخَلاعَةِ، وقال الحافِظ: هو صاحِبُ النّوَادِرِ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ المُجَّانِ.
والعَبِيرُ: الزَّعْفَرَانُ وَحْدَه. عند أَهلِ الجاهِلِيَّة، قال الأَعْشَى:
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِدَاءِ العَرُو *** سِ في الصَّيْفِ رَقْرَقْتَ فيهِ العَبِيرَا
وقال أَبُو ذُؤَيْب:
وسِرْبٍ تَطَلَّى بالعَبِيرِ كأَنَّه *** دِمَاءُ ظِبَاءٍ بالنُّحُورِ ذَبِيحُ
أَو العَبِيرُ: أَخْلاطٌ من الطِّيبِ يُجْمَعُ بالزَّعْفَرَانِ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: العَبِيرُ: نَوْعٌ من الطِّيبِ ذُو لَوْنٍ يُجْمَع من أَخْلاطٍ.
قلت: وفي الحديث أَتَعْجَزُ إِحْدَاكُنّ أَن تَتَّخِذَ تُومَتَيْنِ ثم تَلْطَخَهُما بعَبِيرٍ أَو زَعْفَرَانٍ» ففي هذا الحديثِ بيانُ أَنَّ العَبِيرَ غيرُ الزَّعْفَرَانِ.
والعَبُورُ، كصَبُور: الجَذَعَةُ من الغَنَمِ أَو أَصْغَرُ. وقالَ اللِّحْيَانِيّ: العَبُورُ من الغَنَمِ: فَوْقَ الفَطِيمِ من إِناث الغَنَمِ.
وقيل: هي أَيضًا التي لم تُجَزَّ عَامَها.
الجمع: عَبَائِرُ، وحُكِيَ عن اللِّحْيَانِيّ: لي نَعْجَتانِ وثَلَاثُ عَبَائِرَ.
والعَبُورُ: الأَقْلَفُ، وهو الذي لم يُخْتَنْ، الجمع: عُبْرٌ، بالضَّمّ، قاله ابنُ الأَعرابِيّ.
والعُبَيْرَاءُ، بالضّمّ مُصَغَّرًا ممدودًا: نَبْتٌ، عن كُرَاع، حكاه مع الغُبَيْرَاءِ.
والعَوْبَرُ، كجَوْهَر: جِرْوُ الفَهْدِ، عن كُرَاع أَيضًا.
والمَعَابِيرُ: خُشُبٌ بضمتين، في السَّفِينَةِ مَنْصُوبَة يُشَدُّ إِليها الهَوْجَلُ، وهو أَصغَرُ من الأَنْجَرِ، تُحْبَس السَّفِينَةُ به، قاله الصّاغانيّ. وعابَرُ كهَاجَرَ: ابنُ أَرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نُوحٍ عليهِ السّلامُ، إِليه اجتماعُ نِسبَةِ العَرَبِ وبَنِي إِسرائِيل، ومَن شارَكَهُم في نَسَبِهم، قاله الصّاغانِيُّ ويأْتي في «قحط» أَنَّ عَابَرَ هو ابنُ شالخ بنِ أَرْفَخْشَذ. قلْت: ويقال فيه عَيْبَرُ أَيضًا، وهو الذِي قُسِمَتْ في أَيّامِه الأَرْضُ بينَ أَوْلَادِ نُوح، ويقال: هو هُودٌ النَّبيّ عليهالسلام، وبَيْنَه وبين صالِح النَّبِيِّ عليهالسلام خَمْسمائة عام، وكان عُمْرُه مائَتَيْنِ وثَمَانِينَ سنةً، ودُفِن بِمكة، وهو أَبو قَحْطَان وفَالغ وكابر.
وعَبَّرَ بهِ، هذا الأَمْرُ تَعْبِيرًا: اشْتَدَّ عليهِ، قال أُسامَةُ بنُ الحارِثِ الهُذَلِيّ:
ومَا أَنَا والسَّيْرَ في متْلَفِ *** يُعَبِّرُ بالذَّكَرِ الضّابِطِ
ويروى «يُبَرِّحُ».
وعَبَّرْتُ به تَعْبِيرًا: أَهْلَكْتُه. كأَنّي أَرَيْتُه عُبْرَ عَيْنَيْه، وقد تقَدّم.
ومنه قيل: مُعَبَّر، كمُعَظَّمٍ: جَبَلٌ بالدَّهْنَاءِ بأَرْضِ تَمِيمٍ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ به لأَنّه يُعَبِّرُ بسَالِكِه. أَي يُهْلِكُ.
وفي التَّكْمِلَة: حَبْلٌ من حِبَالِ الدَّهْنَاءِ، وضَبَطَه هكذا بالحاءِ المهملة مُجَوَّدًا، ولعلَّه الصواب، وضَبَطَه بعضُ أَئمّة النَّسَب كمُحَدِّثٍ، وأُراه مُنَاسِبًا لمَا ذَهَبَ إِليه الزَّمَخْشَرِيّ.
وقَوْسٌ مُعَبَّرَةٌ: تامَّةٌ، نقلَه الصاغانيّ.
والمُعْبَرَةُ، بالتَّخْفِيفِ؛ أَي مع ضَمّ الميمِ: النّاقَةُ التي لم تُنْتَجْ ثَلاثَ سِنِينَ، فيَكُونُ أَصْلَبَ لَهَا، نقله الصّاغانِيّ.
والعَبْرَانُ، كسَكْرَانَ: موضع، نقله الصّاغانِيُّ.
وعَبَرْتَى، بفتح الأَوّل والثّاني وسكون الثّالث وزيادة مُثَنّاة: قرية قُرْبَ النَّهْرَوَانِ، منها عبدُ السّلامِ بنُ يُوسُفَ العَبَرْتِيُّ، حَدَّثَ عن ابنِ ناصِرٍ السلاميّ وغيرِه، مات سنة 623.
والعُبْرَةُ، بالضَّمّ: خَرَزَةٌ كان يَلْبَسُهَا رَبِيعَةُ بنُ الحَرِيشِ، بمنزلة التَّاجِ، فلُقِّبِ لذلِك ذا العُبْرَةِ، نقله الصّاغانِيُّ.
ويَوْمُ العَبَراتِ، مُحَرَّكَةً: من أَيّامِهِم، م، معرُوف.
ولُغَةٌ عابِرَةٌ: جائِزَةٌ، من عَبَرَ به النَّهْرَ: جازَ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
العابِرُ: الناظِرُ في الشيْءِ.
والمُعْتَبِرُ: المُسْتَدِلُّ بالشَّيْءِ على الشَّيْءِ.
والمِعْبَرَةُ، بالكسر: سفِينَةٌ يُعْبَرُ عليها النَّهْرُ. قَاله الأَزْهَرِيُّ.
وقال ابنُ شُمَيْل: عَبَرْتُ مَتَاعِي: باعَدْتُه، والوادِي يَعْبُر السَّيْلَ عنّا؛ أَي يُبَاعِدُه.
والعُبْرِيُّ، بالضّمّ، من السِّدْرِ: ما نَبَتَ على عِبْرِ النَّهْرِ وعَظُمَ، منسوبٌ إِليه، نادِرٌ. وقيل: هو ما لَا ساقَ له منه، وإِنّما يكون ذلك فيما قارَبَ العِبْرَ. وقال يَعْقوب: العُبْريُّ والعُمْرِيُّ منه: ما شَرِبَ الماءَ، وأَنشد:
لاثٍ به الأَشَاءُ والعُبْرِيُّ
قال: والذي لا يشرب الماءَ يكونُ بَرِّيًّا، وهو الضَّالُ.
وقال أَبو زَيْدٍ: يقال للسِّدْرِ وما عَظُمَ من العَوْسَجِ: العُبْرِيُّ، والعُمْرِيُّ: القَدِيمُ من السِّدْرِ، وأَنشد قولَ ذِي الرُّمَّةِ:
قَطَعْتُ إِذَا تَجَوَّفَتِ العَوَاطِي *** ضُرُوبَ السِّدْرِ عُبْرِيًّا وضَالا
وعَبَرَ السَّفَرَ يَعْبُرُه عَبْرًا: شَقَّه، عن اللِّحْيَانِيّ.
والشِّعْرَى العَبُورُ: كَوكَبٌ نِيِّرٌ مع الجَوْزَاءِ، وقد تَقدّم في ش موضع ر، وإِنما سُمِّيَتْ عَبُورًا لأَنَّها عَبَرَت المَجَرَّةَ، وهي شامِيّةٌ، وهذا مَحَلُّ ذِكْرِهَا.
والعِبَارُ، بالكَسْر: الإِبِلُ القَوِيَّةُ على السَّيْرِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: يقال: لقد أَسْرَعْتَ اسْتِعْبَارَكَ الدّراهِمَ؛ أَي استخْرَاجَك إِيّاها.
والعِبْرَةُ: الاعْتِبارُ بما مَضَى.
والاعْتِبَارُ: هو التَّدَبُّرُ والنَّظَرُ، وفي البصائِرِ للمصنّف: العِبْرَةُ والاعْتِبَارُ: الحالَةُ التي يُتَوَصَّلُ بها من معرفَةِ المُشَاهَد إِلى ما ليس بمُشَاهَدٍ.
وعَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُهُ.
وعَبَرَتْ عَيْنُه، واسْتَعْبَرَتْ: دَمَعَتْ.
وحكَى الأَزْهَرِيّ عن أَبي زيد: عَبِرَ، كفَرِحَ، إِذا حَزِنَ، ومن دُعَاءِ العَرَبِ على الإِنْسَانِ: ماله سَهِرَ وعَبِرَ.
والعُبْر، بالضَّمّ: البُكَاءُ بالحُزْنِ، يقال: لأُمِّه العُبْرُ والعَبْرُ والعَبِرُ.
وجارِيَةٌ مُعْبَرَةٌ: لم تُخْفَضْ.
وعَوْبَرٌ، كجَوْهَر: مَوْضع.
والعَبْرُ، بالفَتْح: بلدٌ باليَمَن بين زَبِيدَ وعَدَنَ، قَرِيب من الساحِلِ الذي يُجْلَبُ إِليه الحَبَش.
وفي الأَزْدِ عُبْرَةُ، بالضَّمّ، وهو عَوْفُ بنُ مُنْهِبٍ. وفيها أَيضًا عُبْرَةُ بنُ زَهْرَانَ بن كَعْبٍ، ذَكرهما الصّاغانِيّ. قلتُ: والأَخيرُ جاهِلِيٌّ، ومُنْهِبٌ الذي ذكرَه هو ابنُ دَوْسٍ.
وعُبْرَةُ بنُ هَدَاد، ضَبطه الحَافِظُ.
والسَّيِّد العِبْرِيّ بالكسر، هو العَلّامَةُ بُرْهَانُ الدّينِ عُبَيْدُ الله بنُ الإِمَامِ شمْسِ الدّين مُحَمَّدِ بنِ غانِمٍ الحُسَيْنِيّ قاضِي تَبْرِيزَ، له تَصَانِيفُ تُوُفِّي بها سنة 743.
وفي الأَساسِ والبَصَائِرِ: وبنو فُلان يُعْبِرُونَ النّسَاءَ، ويَبِيعونَ الماءَ، ويَعْتَصِرُونَ العَطَاءَ. وأَحْصَى قاضِي البَدْوِ المَخْفُوضاتِ والبُظْرَ، فقال: وَجَدْتُ أَكْثَرَ العَفائِفِ مُوعَبَاتٍ، وأَكْثَرَ الفَوَاجِرِ مُعْبَرَات.
والعِبَارَةُ، بالكَسْر: الكَلامُ العَابِرُ من لِسَانِ المتكَلّم إِلى سَمْعِ السّامِع.
والعَبَّارُ، ككَتّانٍ: مُفَسِّرُ الأَحلامِ، وأَنشدَ المُبَرِّدُ في الكامِلِ:
رأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُها *** وكُنْتُ للأَحْلَامِ عَبّارَا
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
63-تاج العروس (عور)
[عور]: العَوَرُ ـ أَطْلَقَهُ المصنّفِ، فأَوْهَم أَنّه بالفتح، وهو مُحرَّك، وكأَنَّه اعتمد على الشُّهْرَة؛ قاله شَيْخُنا ـ: ذَهابُ حِسِّ إِحْدَى العَيْنَيْنِ.وقد عَوِرَ، كفرِحَ، عَوَرًا، وإِنّمَا صَحَّت العَيْنُ في «عَوِر» لأَنّه في معنَى ما لا بُدَّ من صِحَّتِه. وعارَ يَعارُ وعَارَتْ هي تَعَارُ وتِعَارُ، الأَخِيرُ ذَكَرَه ابنُ القَطاع، واعْوَرَّ واعْوارَّ، كاحْمَرَّ واحْمارَّ، الأَخيرَةُ نَقَلَها الصاغانيّ، فهو أَعْوَرُ بَيِّن العَوَرِ. وفي الصّحاح عَوِرَتْ عَيْنُه واعْوَرَّت، إِذا ذَهَبَ بَصَرُها، وإِنّمَا صَحَّت الواو فيه لِصِحَّتها في أَصْله، وهو اعْوَرَّت لِسُكُون ما قَبْلَهَا ثم حُذِفَت الزَّوَائِدُ: الأَلِفُ والتَّشْدِيد، فبَقِيَ عَوِرَ يَدُلّ على أَنّ ذلك أَصلُه مَجيءُ أَخواتِه على هذا: اسْوَدَّ يَسْوَدّ، واحْمَرَّ يَحْمَرّ، ولا يقال في الأَلْوَان غَيْرُه. قال: وكذلك قِياسُه في العُيُوب: اعْرَجَّ واعْمَيَّ، في عَرِجَ وعَمِيَ، وإِنْ لم يُسْمَعْ، الجمع: عُورٌ وعِيرَان وعُورَانٌ.
وقال الأَزهريّ: عَارَتْ عَيْنُه تَعارُ، وعَوِرَتْ تَعْوَرُ، واعْوَرَّت تَعْوَرّ، واعْوَارّت تَعْوَارّ: بمعنًى واحد.
وعارَهُ يَعُورُهُ، وأَعْوَرَهُ إِعْوَارًا وعَوَّرَهُ تَعْوِيرًا: صَيَّرَهُ أَعْوَرَ. وفي المحكم: وأَعْوَرَ الله عَيْنَ فُلان وعَوَّرها. ورُبّمَا قالوا: عُرْتُ عَينَه. وفي تَهْذِيبِ ابن القَطّاع: وعَارَ عَيْنَ الرَّجُلِ عَوْرًا، وأَعْوَرَهَا: فَقَأَها، وعَارَتْ هي، وعَوَّرتُها أَنا، وعَوِرَتْ هي عَوَرًا، وأَعْوَرَتْ: يَبِسَتْ. وفي الخَبرَ: «الهَدِيَّةُ تَعُورُ عَيْنَ السُّلْطَانِ». ثمّ قال: وأَعْوَرْتُ عينَه لغة، انتَهى.
وأَنشد الأَزهريّ قولَ الشاعر:
فجاءَ إِلَيْهَا كاسِرًا جَفْنَ عَيْنِه *** فقُلْتُ له: مَنْ عارَ عَيْنَكَ عَنْتَرَهْ؟
يقولُ: مَنْ أَصابَها بعُوّار؟
ويقال: عُرْتُ عَيْنَه أَعُورها، وأَعارُها، من العائر.
والأَعْوَرُ: الغُرابُ، على التَّشاؤُم به، لأَنَّ الأَعْوَر عندهم مَشْؤُومٌ. وقِيل: لِخِلافِ حالِه، لأَنّهم يقولونَ: أَبْصَرُ من غُراب. وقالُوا: إِنّما سُمِّيَ الغُرابُ أَعْوَرَ لِحدَّةِ بَصَرِه كما يُقَال للأَعْمَى أَبو بَصِيرٍ وللحَبَشِيّ أَبو البَيْضَاءِ ويُقَال للأَعْمَى: بَصيرٌ، وللأَعْوَرِ: الأَحْولُ وفي التكملةِ ويُقال سُمِّيَ الغُرَاب أَعْوَرَ لأَنّه إِذا أَرادَ أَنْ يَصيحَ يُغمِّضُ عَيْنَيْه، كالعُوَيْرِ، على تَرْخِيم التَّصْغِير. قال الأَزهريّ: سُمِّيَ الغُرَابُ أَعْوَر، ويُصاحُ به فيُقَال: عُوَيْرُ، وأَنشد:
وصِحاحُ العُيُونِ يُدْعَوْنَ عُورَا
وقِيلَ: الأَعْوَرُ: الرَّدِيءُ مِنْ كلِّ شَيْءٍ من الأُمورِ والأَخْلاقِ، وهي عَوْرَاءُ. والأَعْوَر أَيضًا: الضَّعِيفُ الجَبَانُ البَلِيدُ الَّذي لا يَدُلّ على الخَيْرِ ولا يَنْدَلُّ ولا خَيْرَ فيه، قاله ابنُ الأَعرابيّ، وأَنْشد:
إِذا هَابَ جُثْمَانَه الأَعْوَرُ
يَعْنِي بالجُثْمَان سَوادَ الليل ومُنْتَصَفَه. وقيل: هو الدَّلِيلُ السَّيِئُ الدَّلالةِ الذي لا يُحْسِنُ يَدُلّ ولا يَنْدَلّ؛ قاله ابنُ الأَعْرَابِيّ أَيضًا، وأَنْشَد:
ما لَكَ يا أَعْوَرُ لا تَنْدَلُّ *** وكَيْفَ يَنْدَلُّ امْرُؤُ عِثْوَلُّ
والأَعْوَرُ من الكُتُبِ: الدارِسُ، كأَنَّه من العَوَر، وهو الخَلَلُ والعَيْبُ. ومن المَجَاز: الأَعْوَرُ: مَنْ لا سَوْطَ مَعَهُ، والجَمْع عُورٌ؛ قاله الصاغانيّ. والأَعْوَرُ: مَنْ لَيْسَ له أَخٌ من أَبَوَيْه وبه فُسِّر ما جاءَ في الحَدِيث لَمَّا اعْتَرَضَ أَبو لَهَب على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند إِظهارِ الدَّعْوَةِ، قال له أَبو طالِب: «يا أَعْوَرُ، ما أَنتَ وهذا؟» لم يَكُنْ أَبو لَهَب أَعْوَرَ، ولكنّ العَرَب تقولُ لِلَّذِي لَيْسَ له أَخٌ من أُمّه وأَبِيه: أَعْوَرُ. ومن المَجَاز: الأَعْوَرُ: الَّذِي عُوِّرَ؛ أَي قُبِّحَ أَمْرُه ورُدَّ ولم تُقْضَ حاجَتُه ولم يُصِبْ ما طَلَب، ولَيْسَ مِنْ عَوَرِ العَيْن؛ قاله ابن الأَعرابيّ، وأَنْشَد للعَجّاج:
وعَوَّرَ الرَّحْمنُ مَنْ وَلَّى العَوَرْ
ويُقَال: معناه: أَفْسَدَ من وَلَّاه وجَعَلَه وَليًّا لِلْعَوَر، وهو قُبْحُ الأَمْرِ وفَسَادُه. والأَعْوَرُ: الصُّؤابُ في الرَأْس، الجمع: أَعاوِرُ، نقله الصاغانيّ. وفي الأَساس: رأْسه يَنْتَغِشُ أَعاوِرَ؛ أَي صِئْبانًا، الواحِدُ أَعْوَرُ. ومن المَجَازِ: الأَعْوَرُ، من الطَّرِيق: الَّذِي لا عَلَمَ فيه، يقال: طَرِيقٌ أَعْوَرُ، كأَنَّ ذلك العَلَم عَيْنُه، وهو مَثَلٌ. وفي بعض النُّسخ: من الّطُرق.
والعائِر: كلُّ ما أَعَلَّ العَيْنَ فعَقَرَ، سُمِّيَ بذلك لأَنَّ العَيْنَ تُغْمَضُ له ولا يَتَمَكَّنُ صاحبُها من النَّظَر، لأَنَّ العَيْن كأَنّها تَعْوَرُ، وقيل: العَائِرُ: الرَّمَدُ. وقيل: هو القَذَى في العَيْنِ، اسمٌ كالكاهِل والغارِب، كالعُوّارِ، كرُمّانٍ، وهو الرَّمَصُ الَّذِي في الحَدَقَةِ. ويقالُ: بِعَيْنِه عُوّارٌ؛ أَي قَذًى. وجَمْعُ العُوّارِ عَوَاوِيرُ، وقد جاءَ في قَوْل الشاعِرِ بَحذْفِ الياءِ ضَرُورَةً:
وكَحَّلَ العْنَيْنِ بالعَوَاوِرِ
ورَوَى الأَزهرِيُّ عن اليَزِيدِيّ: بَعِيْنِه ساهِكٌ وعائِرٌ، وهُمَا من الرَّمَدِ. وقال اللَّيْث: العائرُ: غَمَصَة تَمُضُّ العَيْنَ كأَنَّمَا وَقَع فيها قَذًى، وهو العُوّارُ. قال: وعَيْنٌ عائِرَةٌ: ذاتُ عُوّارٍ، ولا يُقَال في هذا المعنَى: عارَتْ، إِنّمَا يُقَال: عارَتْ إِذا عَوِرَتْ وقِيل: العائرُ: بَثْرٌ يكون في الجَفْنِ الأَسْفَلِ من العَيْنِ، وهو اسمٌ لا مَصْدَر، بمَنْزِلَة الفالِج والناعر والباطِل، وليس اسمَ فاعلِ ولا جارِيًا على مُعْتَلٍّ، وهو كما تِاه مُعْتَلّ. والعائِرُ من السِّهام: ما لا يُدْرَى رامِيهِ وكذا من الحَجَارَة. ومن ذلك الحدِيث: «أَنَّ رَجُلًا أصابَهُ سَهْمٌ عائِرٌ فقَتَلَه» والجمع العَوَائِرُ، وأَنشد أبو عُبَيْدٍ:
أَخْشَى عَلَى وَجْهِكَ يا أَمِيرُ *** عَوائِرًا من جَنْدَلٍ تَعِيرُ
وفي التَّهْذِيب في ترجمة «نسأ»: وأَنشد لمالِكِ بن زُغْبَةَ الباهِلِيّ:
إِذا انْتَسَؤُوا فَوْتَ الرَّمَاحِ أَتَتْهُمُ *** عَوَائِرُ نَبْلٍ كالجَرادِ نُطِيرُها
قال ابنُ برّيّ: عَوائرُ نَبْلٍ؛ أَي جَماعَةُ سِهامٍ مُتَفَرِّقَة لا يُدْرَى من أَيْنَ أَتَتْ.
وعائِرُ العَيْنِ: ما يَمْلَؤُها من المالِ حتَّى يَكادَ يَعُورُها.
يُقَال: عَلَيْه من المالِ عائِرَةُ عَيْنِيْنِ، وعَيِّرةُ عَيْنَيْن، بتَشْدِيدِ.
الياءِ المَكْسُورة، كِلاهُما عن اللّحْيَانيّ؛ أَي كَثْرةٌ تَمْلَأُ بَصَرَهُ. قال مرّة: أَي ما يَكادُ مِنْ كَثْرَتِه يَفْقأُ عَيْنَيْهِ. وقال الزمخشريّ: أَي بما يَملَؤُهما ويَكادُ يُعَوَّرهُما. وقال أَبو عُبَيْد: يُقَال للرَّجُل إِذا كَثُرَ مالُه: تَرِدُ على فُلان عائِرَةُ عَيْنٍ، وعائِرَةُ عَيْنَيْن؛ أَي تَرِد عليه إِبِلٌ كثيرةٌ كأَنّهَا من كثْرتها تَمْلأُ العَيْنَيْن حتَّى تكادَ تَعُورُها؛ أَي تَفْقَؤُها. وقال أَبو العبّاس: معناه أَنّه مِنْ كَثْرَتها تَعِير فيها العَيْن. وقال الأَصمعيّ: أَصْلُ ذلك أَنّ الرَّجلَ من العَرَبِ في الجاهلية كان إِذا بَلَغ إِبلُه أَلْفًا عارَ عَيْنَ بَعِير منها، فأَرادُوا بعائرَةِ العَيْنِ أَلْفًا من الإِبِل تُعَوَّرُ عَيْنُ واحِدٍ منها. قال الجَوْهَرِيّ: وعنده من المالِ عائِرَةُ عَيْنٍ؛ أَي يَحارُ فيه البَصَر من كَثْرِتِه كأَنّه يَمْلأُ العَيْن فيَعُورُها. وفي الأَساسِ مِثْلُ ما قاله الأَصمعيّ.
والعُوَارُ، مُثلَّثَةً، الفَتْحُ والضَّمُّ ذَكَرَهُما ابنُ الأَثير: العَيْبُ يقال سِلْعَةٌ ذاتُ عَوَار؛ أَي عَيْبٍ، وبه فُسِّر حَدِيثُ الزَّكاة: «لا يُؤْخَذُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذاتُ عَوَارٍ».
والعَوَار أَيضًا: الخَرْقُ والشَّقُّ في الثَّوْبِ والبَيْتِ ونَحْوِهما. وقيل: هو عَيْبٌ فِيهِ ـ فلم يُعَيِّنْ ذلك ـ قال ذو الرُّمةِ:
تُبَيِّنُ نِسْبَةَ المَرَئِيّ لُؤْمًا *** كما بَيَّنْتَ في الأَدَمِ العَوَارَا
والعُوّارُ، كرُمّانٍ: ضَرْبٌ من الخَطاطِيفِ أَسْوَدُ طَوِيلُ الجَنَاحَيْن. وعَمَّ الجَوْهَرِيُّ فقال: هو الخُطّافُ، ويُنْشَد:
كما انْقَضَّ تَحْتَ الصِّيقِ عُوّارُ
الصِّيقُ: الغُبَار.
والعُوّار: اللَّحْم الذي يُنْزَع من العَيْنِ بَعدَ ما يُذَرّ عَلَيْه الذَّرُور، وهُوَ من العُوّار، بمَعْنَى الرَّمَصِ الّذِي في الحَدَقَةِ كالعَائِر، والجَمْعُ عَوَاوِيرُ، وقد تَقَدّم. والعُوّار: الَّذِي لا بَصَرَ لَهُ في الطَرِيقِ ولا هِدايَةَ، وهو لا يَدُلُّ ولا يَنْدَلّ، كالأَعْوَر؛ قاله الصاغانيّ. وفي بعض النُّسخ: «بالطّرِيق»، ومِثْلُه في التّكْمِلَة. ولو قال عِنْدَ ذِكْر معانِي الأَعْوَرِ: «والدَّلِيل السَيِّئُ الدَّلالَة كالعُوّار» كان أَخْصَرَ. والعُوّارُ: الضَّعِيفُ الجَبَانُ السَّرِيعُ الفِرَارِ، كالأَعْوَرِ بعد قوله:
«الضَّعِيفُ الجَبَانُ» فقال: «كالعُوَّار» كان أَخْصَرَ. الجمع: عَواوِيرُ قال الأَعْشَى:
غَيْرُ مِيلٍ ولا عَواوِيرَ في الهَيْ *** جا ولا عُزَّلٍ ولا أَكْفَالِ
قال سيبويه: ولم يُكْتَفَ فيه بالواو والنون، لأَنّهُم قَلَّمَا يَصِفُون به المُؤَنّث، فصار كمِفْعالٍ ومِفْعِيل، ولم يَصِر كفَعّال، وأَجْرَوْه مُجْرَى الصِّفَة، فجَمَعُوه بالواو والنُّون، كما فَعلُوا ذلك في حُسّان وكُرّام. وقال الجوهَرِيّ: جَمْع العُوّارِ الجَبَانِ العَوَاوِيرُ. قال: وإِنْ شِئتَ لم تُعَوِّضْ في الشّعر فقُلْتَ: العَوَاوِرُ. وأَنشد لِلَبِيدٍ يُخَاطِبُ عَمَّه ويُعاتِبُه:
وفي كُلِّ يَوْمٍ ذِي حِفاظٍ بَلَوْتَنِي *** فقُمْتُ مَقامًا لم تَقُمْهُ العَوَاوِرُ
وقال أَبو عليّ النحويّ: إِنَّمَا صَحّت فيه الوَاوُ مع قُرْبِها من الطَّرَفِ لأَنّ الياءَ المحذوفةَ للضرورة مُرادَةٌ، فهي في حُكْمِ ما في اللَّفْظ، فلمّا بَعُدَتْ في الحُكْم من الطَّرَف لم تُقْلَبْ همزةً. والّذِين حاجاتُهم في أَدْبارِهم: العُوَّارَى، هكذا في سائر النُّسخ. والصَّوابُ أَن هذه الجملةَ معطوفَةٌ على ما قَبْلَها، والمُرَاد: والعُوّارُ أَيضًا: الَّذِين.. إِلى آخره، وهكذا نقله صاحب اللسان عن كُرَاع. وشَجَرَةٌ، هكذا في النّسخ، وهُوَ بناءً على أَنَّه مَعْطُوفٌ على ما قَبْلَه. والصواب كما في التكملة واللسان: والعُوّارَى: شَجَرَةٌ يُؤْخَذ هكذا، بالياءِ التحتيّة والصواب: تُؤْخَذ جِراؤُهَا فتُشْدَخُ ثم تُبَيَّسُ ثم تُذَرَّى ثم تُحْمَل في الأَوْعِيَة فتُبَاع، وتُتَّخذ منها مَخانِقُ بمَكَّةَ حَرَسها الله تَعالى؛ هكذا فَسَّرَه ابنُ الأَعْرَابِيّ. وقال ابنُ سِيدَه في المُحْكَم والعُوّارُ: شَجَرَةٌ تَنْبُتُ نِبْتَةَ الشَّرْيَةِ، ولا تَشِبُّ، وهي خَضْراءُ، ولا تَنْبُت إِلّا في أَجْوَافِ الشَّجَرِ الكِبَار. فَلْيُنْظَر هَلْ هي الشَّجَرَةُ المذكُورةُ أَو غَيْرُها؟
ومن المَجَاز قولُهم: عجِبْتُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ العَوْرَاء على العَيْنَاءِ؛ أَي الكَلِمَة القَبِيحَةَ على الحَسَنَةِ؛ كذا في الأساس. أَو العَوْرَاءُ: الفَعْلَةُ القَبِيحَةُ، وكِلاهُمَا من عَوَرِ العَيْن، لأَنّ الكَلِمَة أَو الفَعْلة كأَنَّهَا تَعُورُ العَيْنَ فيَمْنَعُهَا ذلك من الطُّمُوحِ وحِدَّة النَّظَر، ثم حَوَّلُوها إِلى الكَلِمَة أَو الفَعْلَة، على المَثَل، وإِنّمَا يُرِيدُون في الحَقِيقَة صاحِبَها. قال ابنُ عَنْقَاءَ الفَزَارِيُّ يَمْدح ابنَ عَمِّه عُمَيْلَةَ، وكان عُمَيْلَةُ هذا قد جَبَرَه من فَقْرٍ:
إِذا قِيلَتِ العَوْراءُ أَغْضَى كَأَنَّه *** ذَلِيلٌ بِلا ذُلٍّ ولو شاءَ لانْتَصَرْ
وقال أَبو الهَيْثَم: يُقَال لِلْكَلِمَة القَبِيحَةِ: عَوْرَاءُ، ولِلْكَلِمَة الحَسْنَاءِ عَيْنَاءُ. وأَنشد قَولَ الشاعر:
وعَوْراءَ جاءَت من أَخ فردَدْتُها *** بسالِمَةِ العَيْنَيْنِ طالِبَةً عُذْرَا
أَي بكَلِمَةِ حَسْنَاءَ لم تَكُنْ عَوْرَاءَ. وقال اللّيْث: العَوْرَاءُ: الكَلِمَة التي تَهْوِي في غَيْرِ عَقْلٍ ولا رُشْد. وقال الجوهريّ: الكَلِمَةُ العَوْرَاءُ: القَبِيحَة، وهي السَّقْطَةُ، قال حاتِمُ طَيّئ.
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخارَهُ *** وأَعْرِض عن شَتْمِ اللَّئِيمم تَكرُّمَا
أَي لادِّخارِه. وفي حَدِيثِ عائشةَ رضي الله عنها: «يَتَوَضَّأُ أَحَدُكم من الطَّعام الطَّيِّبِ ولا يَتَوَضّأُ من العَوْرَاءِ يَقُولُها».
أَي الكَلِمَة القَبِيحَة الزّائغَة عن الرُّشْد. وعُورَانُ الكَلام: ما تَنْفِيه الأُذنُ، وهو منه، الواحِدَة عَوْرَاءُ؛ عن أَبي زَيْد، وأَنشد:
وعَوْرَاءَ قد قِيلَتْ فلَمْ أَسْتَمِعْ لها *** وما الكَلِمُ العُورَانُ لي بقَتُولِ
وَصَفَ الكَلِمَ بالعُورَانِ لأَنّه جَمْعٌ، وأَخْبَرَ عنه بالقَتُول ـ وهو واحد ـ لأَن الكَلِمَ يُذكَّر ويُؤَنَّث، وكذلك كلُّ جمع لا يُفَارِق واحِدَه إِلّا بالهاءِ، ولك فيه كُلّ ذلك؛ كَذا في اللّسان. قال الأَزْهَريّ: والعَرَبُ تقولُ للأَحْوَلِ العَيْنِ: أَعْوَرُ، وللمَرْأَة الحَوْلاء؛ هي عَوْراءُ، ورأَيْتُ في البادِيَة امْرَأَةً عَوْرَاءَ يُقَال لها حَوْلاءُ.
والعَوَائِرُ من الجَرَادِ: الجَمَاعَاتُ المُتَفَرِّقَة، منه، وكذا من السِّهام، كالعِيرَانِ، بالكَسْر، وهي أَوائلُه الذاهِبَةُ المُتَفَرِّقَةُ في قِلَّة.
والعَوْرَةُ، بالفَتْح: الخَلَلُ في الثَّغْرِ وغَيْرِه، كالحَرْبِ.
قال الأَزْهَرِيّ: العَوْرَةُ في الثُّغُور والحُرُوبِ: خَلَلٌ يُتَخَوَّفُ منه القَتْلُ. وقال الجَوْهَرِيّ: العَوْرَةُ: كلُّ خَلَلٍ يُتَخَوَّفُ منه من ثَغْرٍ أَو حَرْبٍ. والعَوْرَة: كُلّ مَكْمَنٍ للسَّتْرِ. والعَوْرَةُ: السَّوْأَةُ من الرَّجُل والمَرْأَةِ. قال المصَنِّف في البصائر: وأَصْلُها من العَار، كأكنّه يَلْحَقُ بظُهُورِها عارٌ؛ أَي مَذَمَّة، ولذلك سُمِّيَت المَرْأَةُ عَوْرَةً. انتهى. والجَمْعُ عَوْرَاتٌ. وقال الجَوْهَرِيّ: إِنّمَا يُحَرَّك الثاني من فَعْلَةٍ في جَمْعِ الأَسماءِ إِذا لم يَكُنْ ياءً أَوْ وَاوًا وقَرَأَ بَعْضُهُم: عَوَرَاتِ النِّسَاءِ «بالتَّحْرِيك». والعَوْرَةُ: الساعَةُ الّتي هي قَمَنٌ؛ أَي حَقِيقٌ مِنْ ظُهُورِ العَوْرَةِ فِيها، وهي ثَلاث ساعاتٍ: ساعَةٌ قبلَ صَلاةِ الفَجْرِ، وساعَةٌ عندَ نِصْفِ النَّهَارِ، وساعةٌ بعدَ العِشَاءِ الآخِرَة. وفي التَّنْزِيل: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} أَمْرَ الله تَعالى الوِلْدانَ والخَدَمَ أَلّا يَدْخُلُوا في هذه الساعات إِلَّا بِتَسْلِيم منهم واسْتِئذان. وكُلُّ أَمْرٍ يُسْتَحْيَا منه إِذا ظَهَر: عَوْرَةٌ، ومنهالحَديث: «يا رَسُولَ الله، عَوْرَاتُنا ما نَأْتِي منها وما نَذَر؟» وهي من الرَّجُل ما بَيْنَ السُّرَّة والرُّكْبَة، ومن المَرْأَة الحُرَّةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا إِلّا الوَجْهَ واليَدَيْنِ إِلى الكُوعَيْن، وفي أَخْمَصِها خِلافٌ، ومن الأَمَةِ مِثْلُ الرَّجُل، وما يَبْدُو منها في حَالِ الخِدْمَةِ كالرَّأْس والرَّقَبَة والساعِدِ فلَيْسَ بعَوْرة. وسَتْرُ العَوْرَةِ في الصَّلاة وغَيْرِ الصَّلاةِ واجِبٌ، وفيه عند الخَلْوَة خِلافٌ. وفي الحديث: «المَرْأَةُ عَوْرَة» جَعَلَهَا نَفْسَهَا عَوْرَةً لأَنّهَا إِذا ظَهَرَتْ يُسْتَحْيَا منها كما يُسْتَحْيَا من العَوْرَةِ إِذا ظَهَرَتْ؛ كذا في اللسان. والعَوْرَة من الجِبَال: شُهُوقُها والجَمْعُ العَوْراتُ. والعَوْرَةُ من الشَّمْسِ: مَشْرِقُهَا ومَغْرِبُها، وهو مَجَازٌ. وفي الأَساس: عَوْرَتَا الشَّمْسِ: خافِقَاها. وقال الشاعر:
تَجَاوَبَ يُومُها في عَوْرتَيْهَا *** إِذا الحِرْبَاءُ أَوْفَى للتَّنَاجِي
هكذا فسّره ابنُ الأَعرابيّ، وهكذا أَنشدَه الجوهريّ في الصحاح. وقال الصاغَاني: الصواب «غَوْرَتَيْها» بالغَيْن معجَمَة، وهما جانِبَاها. وفي البَيْت تَحْرِيفٌ، والرَّواية: أَوْفَى للبَرَاحِ، والقَصِيدَة حائيّة، والبَيْتُ لبِشْرِ بن أَبي خازِم.
ومن المَجَاز: أَعْوَرَ الشَّيْءُ، إِذا ظَهَرَ وأَمْكَنَ، عن ابن الأَعْرَابيّ، وأَنْشَدَ لكُثَيِّر:
كَذاكَ أَذُودُ النَّفْسَ يا عَزُّ عنكمُ *** وقد أَعْوَرَتْ أَسْرَابُ مَنْ لا يَذُودُهَا
أَعْوَرَت: أَمكنتْ؛ أَي مَنْ لَمْ يَذُدْ نَفْسَه عن هَواهَا فَحُشَ إِعْوَارُهَا وفَشَت أَسْرَارُهَا والمُعْوِرُ: المُمْكِنُ البَيِّنُ الوَاضِحُ.
وقولُهُم: ما يُعْوِرُ لَهُ شَيءٌ إِلَّا أَخَذَه؛ أَي ما يَظْهَر. والعَرَبُ تقول: أَعْوَرَ مَنْزِلُك، إِذا بَدَتْ منه عَوْرَةٌ. وأَعْوَرَ الفَارِسُ: بَدَا فيه مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ والطَّعْنِ، وهُو ممّا اشْتُقَّ من المُسْتَعَار؛ قاله الزمخشريّ. وقال ابنُ القَطّاع: وأَعْوَرَ البَيْتُ كذلك بانْهِدامِ حائِطه. ومنهحديث عليٍّ رضي الله عنه: «لا تُجْهِزُوا على جَرِيحٍ ولا تُصِيبُوا مُعْوِرًا»، هو من أَعْوَرَ الفارِسُ. وقال الشاعِرُ يصف الأَسَد:
له الشَّدَّةُ الأَولَى إِذا القِرْنُ أَعْوَرَا
والعَارِيَّة، مُشَدَّدةً، فعْليَّة من العارِ، كما حَقَّقه المصنّف في البَصَائر. قال الأَزهريّ: وهو قُوَيْلٌ ضَعِيفٌ، وإِنّمَا غَرَّهم قولُهم: يَتَعَيَّرُون العَوارِيَّ، ولَيْسَ على وَضْعِه، إِنّما هي مُعاقَبَةٌ من الواوِ إِلى الياءِ. وفي الصّحاح: العارِيَّة، بالتَّشْدِيد، كأَنّها منسوبةٌ إِلى العارِ لأَنّ طَلَبَها عارٌ وعَيْبٌ.
وقال ابنُ مُقْبِل:
فأَخْلِفْ وأَتْلِفْ إِنّمَا المالُ عارَةٌ *** وكُلْهُ مع الدَّهْرِ الذي هُوَ آكِلُهْ
قلتُ: ومثلُه قولُ اللَّيْث. وقد تُخَفَّف. وكذا العَارَةُ: ما تَدَاوَلُوه بَيْنَهُم، وفي حديث صَفْوَانَ بنِ أُمَيّة: «عَارِيَّة مَضْمُونَة مُؤَدّاة» العَارِيّة يجب رَدُّها إِجماعًا، مهما كانت عينُها باقية. فإِنْ تَلِفَتْ وَجَبَ ضَمانُ قِيمَتِها عند الشافعيّ، ولا ضَمانَ فيها عند أَبي حَنِيفَةَ. وقال المصنِّف في البصائر: قِيلَ للعارِيَّة: أَيْنَ تَذْهَبينَ؟ فقالت: أَجْلُبُ إِلى أَهْلي مَذَمَّةً وعارًا. الجمع: عَوَارِيُّ، مُشَدَّدةً ومُخَفَّفةً قال الشاعر:
إِنَّمَا أَنفُسُنا عاريَّةٌ *** والعَوَارِيُّ قُصَارَى أَنْ تُرَدّ
وقد أَعارَهُ الشيءَ وأَعارَه مِنْهُ وعاوَرَه إِيّاهُ. والمُعَاوَرَةُ والتَّعاوُر: شِبْهُ المُداوَلَة. والتَّدَاوُلُ في الشيءِ يكونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة:
وسِقْطِ كعَيْنِ الدِّيكِ عاوَرْتُ صاحِبِي *** أَبَاهَا وهَيَّأْنا لِمَوْقِعها وَكْرَا
يَعْنِي الزَّنْدَ وما يَسْقُطُ من نارِها. وأَنشد اللَّيْث:
إِذا رَدَّ المُعَاوِرُ مَا اسْتَعَارَا
وتَعَوَّرَ وَاسْتَعَارَ: طَلَبَهَا نحو تَعَجَّبَ واسْتَعْجَبَ، وفي حديثِ ابنِ عَبّاس وقِصّةِ العِجْل: «مِنْ حُلِيٍّ تَعَوَّرَهُ بَنُو إِسْرَائِيل»؛ أَي اسْتَعَارُوه.
واسْتَعَارَه الشَّيْءَ واسْتَعَارَه منه: طَلَبَ منه إِعَارَتَه، أَيْ أَنْ يُعِيرَه إِيّاه؛ وهذه عن اللِّحْيَانيّ. قال الأَزهريّ: وأَما العارِيَّة فإِنَّهَا منسوبةٌ إِلى العَارَةِ، وهو اسمٌ من الإِعارَة، تقول: أَعَرْتُه الشيءَ أُعيرُه إِعارَةً وعارَةٌ، كما قالوا: أَطَعْتُه إِطاعَةً وطَاعَةً، وأَجَبْتُه إِجابَةً وجَابَةً. قال: وهذا كثيرٌ في ذَوات الثَّلاثِ، منها الغارَةُ والدَّارَةُ والطَّاقَةُ وما أَشْبَهَهَا. ويُقَالُ: اسْتَعَرْتُ منه عارِيَّةً فأَعَارَنِيها.
واعْتَوَرُوا الشَّيْءَ، وتَعَوَّرُوه، وتَعَاوَرُوه: تَدَاوَلُوه فيما بَيْنَهُم. قال أَبو كَبِيرٍ:
وإِذا الكُمَاةُ تَعَاوَرُوا طَعْنَ الكُلَى *** نَدْرَ البِكَارَةِ في الجَزَاءِ المُضْعَفِ
قال الجَوْهَرِيّ: إِنّمَا ظَهَرَت الواوُ في «اعْتَوَرُوا» لأَنَّه في معنى تَعَاوَرُوا فَبُنِيَ عليه، كما ذَكَرْنا في تَجَاوَرُوا.
وفي الحديث: «يَتعاوَرُون على مِنْبَرِي» أَي يَخْتَلِفُون ويَتَنَاوَبُون، كلّما مَضَى واحدٌ خَلَفَه آخَرُ. يقال: تَعَاوَرَ القومُ فُلانًا، إِذا تَعَاوَنُوا عليه بالضَّرْب وَاحدًا بعدَ وَاحدٍ. قال الأَزهريّ: وأَما العارِيَّة والإِعَارَةُ والاسْتِعَارَةُ فإِنّ قولَ العَرَب فيها: هُمْ يَتعاوَرُون العَوَارِيّ ويَتَعَوَّرُونَهَا، بالواو، كأَنَّهم تَفْرِقَةً بين ما يَتَرَدَّدُ من ذاتِ نَفْسِه وبين ما يُرَدَّدُ. وقال أَبو زَيْد: تَعَاوَرْنا العَوَارِيَّ تَعَاوُرًا، إِذا أَعارَ بعضُكم بَعْضًا.
وتَعَوَّرْنَا تَعَوُّرًا، إِذا كُنْتَ أَنْت المُسْتَعِيرَ. وتَعَاوَرْنا فُلانًا ضَرْبًا، إِذا ضَرَبْتَه مَرّة ثمّ صاحبُك ثمّ الآخَر. وقال ابنُ الأَعرابيّ: التَّعَاوُر والاعْتِوَارُ: أَنْ يَكُونَ هذا مَكانَ هذا، وهذَا مَكانَ هذا. يُقَال: اعْتَوَراهُ وابْتَدّاهُ، هذا مَرَّةً وهذا مَرّة، ولا يُقَال: ابْتَدَّ زيدٌ عَمْرًا، ولا اعْتَوَرَ زيدٌ عَمْرًا.
وعارَه، قِيل: لا مُسْتَقْبَلَ له. قال يَعْقُوبُ: وقالَ بعضُهُم: يَعُورُه، وقال أَبو شِبْل: يَعِيرُه، وسيذكر في الياءِ أَيضًا؛ أَي أَخَذَهُ وذَهَبَ به، وما أَدْرِي أَيُّ الجَرادِ عارَه، أَيْ أَيُّ الناس أَخَذَه، لا يُسْتَعْمَل إِلّا في الجَحْد. وقِيلَ: مَعْنَاه ما أَدْرِي أَيُّ الناسِ ذَهَبَ به، وحَكَى اللِّحْيَانيّ: أَراكَ عُرْتَه وعِرْتَه؛ أَي ذَهَبْتَ به، قال ابنُ جِنّي؛ كأَنّهم إِنّمَا لَمْ يَكَادُوا يَسْتَعْمِلُونَ مُضَارِعَ هذا الفِعْل لَمّا كانَ مَثَلًا جارِيًا في الأَمْرِ المُنْقَضي الفائت، وإِذا كانَ كذلك فلا وَجْهَ لذِكْر المضارع هاهنَا [لأَنه] ليس بمُنْقَضٍ ولا يَنْطِقُون فيه بيَفْعَل. أَو مَعْنَى عارَهُ أَتْلَفَهَ وأَهْلَكَه؛ قاله بعضُهم.
وعَاوَرَ المَكَايِيلَ وعَوَّرَها: قَدَّرَها، كعَايَرَها، بالياءِ لُغَة فيه، وسيُذْكَر في «عير».
وعَيَّرَ المِيزَانَ والمِكْيالَ، وعاوَرَهُما، وعايَرَهُمَا، وعايَرَ بَيْنَهُمَا مُعَايَرَةً وعِيَارًا، بالكَسْر: قَدَّرَهُما ونَظَرَ ما بَيْنَهُمَا.
ذكر ذلك أَبو الجَرّاح في بابِ ما خالَفَتِ العامّةُ فيه لُغَةَ العَرَب. وقال اللَّيث: العِيَارُ: ما عايَرْتَ به المَكَايِيلَ، فالعِيَارُ صَحِيحٌ تامّ وَافٍ. تَقُول: عايَرْتُ به؛ أَي سَوَّيْتُه، وهو العِيَارُ والمِعْيَارُ. وحقّ هذه أَنْ تُذْكَر في الياءِ كما سيأْتي.
والمُعَارُ، بالضَّمّ: الفَرَسُ المُضَمَّرُ المُقدَّحُ، وإِنّمَا قِيل له المُعَارُ لأَنّ طَرِيقَةَ مَتْنِه نَبَتْ فصارَ لها عَيْرٌ ناتئٌ، أَو المَنْتُوفُ الذَّنَبِ، من قولهم: أَعَرْتُ الفَرَسَ وأَعْرَيْتُه: هَلَبْتُ ذَنَبَه؛ قاله ابنُ القَطّاع. أَو السَّمِينُ، ويُقَال له: المُسْتَعِير أَيضًا، من قولهم: أَعَرْتُ الفَرَسَ، إِذا أَسْمَنْته. وبالأَقوالِ الثلاثة فُسِّر بيتُ بِشْرِ بنِ أَبِي خازِم الآتِي ذِكْرُه في «ع ى ر».
وعَوَّرَ الرّاعِي الغَنَمَ تَعْوِيرًا: عَرَّضَهَا للضَّياعِ، نقله الصاغانيّ.
وعَوَرْتَا، بفَتْح العَيْن والواوِ وسُكُون الرّاءِ: د، بُلَيْدَة قُرْبَ نابُلُس الشَّأْمِ، قِيلَ بها قَبْرُ سَبْعِينَ نَبِيًّا من أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، منهم سَيّدُنَا عُزَيرٌ في مَغَارَةٍ، ويُوشَعُ فَتَى مُوسَى، عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ ذكره الصاغانيّ.
واسْتَعْوَرَ عن أَهْلِه: انْفَرَدَ عنهم؛ نقله الصاغانيّ عن الفرّاءِ.
وعُوَيْرٌ، كزُبَيْرٍ، مَوْضِعانِ أَحدُهُما على قِبْلَة الأَعْوَرِيَّة، وهي قَرْيَةُ بَنِي مِحْجَن المالِكِيِّين. قال القُّطاميّ:
حَتَّى وَرَدْنَ رَكِيّاتِ العُوَيْرِ وقَدْ *** كادَ المُلَاءُ من الكَتّانِ يَشْتَعِلُ
وعُوَيْرٌ، والعُوَيْرُ: اسم رَجُل قال امرُؤ القَيْسِ:
عُوَيْرٌ ومَنْ مِثْلُ العُوَيْرِ ورَهْطِه *** وأَسْعَدَ في لَيْلِ البَلابِلِ صَفْوانُ
ويُقالُ: رَكِيّةٌ عُورانٌ، بالضَّمّ: أَي مُتَهَدِّمةٌ، للواحِدِ والجَمْع، هكذا نَقَلَه الصاغانيّ.
وقال ابنُ دُرَيْد: عُورانُ قَيْس: خَمْسَةٌ شُعَراءُ عُورٌ: تَمِيمُ بنُ أُبَيّ بنِ مُقْبِل، وهو من بَنِي العَجْلانِ بنِ عَبْدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ رَبِيعَةَ، والرّاعي، واسمُه عُبَيْدُ بنُ حُصَيْنٍ، من بَنِي نُمَيْرِ بنِ عامِرٍ، والشَّمّاخُ، واسْمُه مَعْقِلُ بنُ ضِرارٍ، من بَنِي جِحَاشِ بنِ بَجَالَة بنِ مازِنِ بن ثَعْلَبَةَ بنِ سَعْدِ بنِ ذُبْيَانَ، وعَمْرُو بنُ أَحْمَرَ الباهِلِيُّ، وسيأْتي بَقِيَّةُ نَسَبِه في «ف ر ص» وحُمَيْدُ بنُ ثَوْر، من بَنِي هِلالِ بن عامِر، فارِسُ الضَّحْيَاءِ.
وفي اللسان ذَكَر الأَعْوَرَ الشَّنِّيّ بَدَلَ الراعِي.
والعَوِرُ، ككَتِفٍ: الرَّدِئُ السَّرِيرَةِ قَبِيحُها، كالمُعْوِر، من العَوَرِ، وهو الشَّيْنُ والقُبْحُ.
والعَوْرَةُ: الخَلَلُ في الثَّغْرِ وغَيْرِه، وقد يُوصَف به مَنْكُورًا فيكونُ للواحِدِ والجَمِيع بلَفْظٍ وَاحدٍ. وفي التَّنْزِيل: {إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} فأَفْرَدَ الوَصْفَ، والمَوْصُوفُ جَمْعٌ. وأَجْمَع القُرّاءُ على تَسْكِين الواو من عَوْرَةٌ، وقَرَأَ ابنُ عَبّاس رضي الله عنهما وجَمَاعَةٌ من القُرّاءِ إِنَّ بُيوتَنا عَوِرَةٌ، على فَعِلَة، وهي من شَواذّ القِرَاءات؛ أَي ذاتُ عَوْرَة؛ أَي لَيْسَت بحَرِيزَة، بل مُمْكِنَة للسُّرّاقِ لخُلُوِّهَا من الرِّجال. وقِيلَ: أَي مُعْوِرَة؛ أَي بُيُوتنا مِمّا يَلِي العَدُوَّ ونحْنُ نُسْرَقُ منها.
فأَكْذَبَهُمُ اللهُ تعالَى فقال: {وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ} ولَكِنْ يُرِيدُون الفِرارَ عَنْ نُصْرَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فمَنْ قَرَأَ «عوِرَةٌ» ذَكَّرَ وأَنَّثَ، ومن قَرَأَ «عَوْرَةٌ» قال في التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيث عَوْرَة، كالمَصْدَر.
ومُسْتَعِير الحُسْنِ: طائِرٌ، نقله الصاغَانيّ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
قولُهُمْ: «كُسَيْرٌ وعُوَيْرٌ، وكُلٌّ غَيْرُ خَيْر». قال الجوهَرِيّ: يُقَال ذلك في الخَصْلَتَيْن المَكْرُوهَتَيْن، وهو تَصْغِيرُ أَعْوَرَ مُرَخَّمًا. ومثلُه في الأَساس.
وعارَ الدَّمْعُ يَعِيرُ عَيَرَانًا: سالَ؛ قاله ابنُ بُزُرْج، وأَنشد:
ورُبَّتَ سائل عَنّي حَفِيٍّ *** أَعارَتْ عَيْنُه أَمْ لَمْ تَعَارَا
أَي أَدَمَعَتْ عَيْنُه؟ والبيت لِعَمْرِو بن أَحْمَر الباهليّ.
وقالُوا: «بَدَلٌ أَعْوَرُ»، مَثَلٌ يُضْرَبُ للمذموم يَخْلُف بَعْدَ الرَّجُلِ المَحْمُود. وفي حَدِيث أُمّ زَرْع: «فاسْتَبْدَلْتُ بَعْدَه، وكُلُّ بَدَلٍ أَعْوَرُ». وهو من ذلك، قال عبدُ الله بن هَمّامٍ السَّلُوليّ لقُتَيْبَةَ بنِ مُسْلِم، ووُلِّيَ خُرَاسَانَ بَعْدَ يَزِيدَ بنِ المُهلَّب:
أَقُتَيْبَ قد قُلْنَا غَدَاةَ أَتَيْتَنَا *** بَدَلٌ لَعَمْرُكَ من يَزِيدٍ أَعْوَرُ
ورُبَّمَا قالُوا «خَلَفٌ أَعْوَرُ». قال أَبو ذُؤَيْب:
فأَصْبَحْتُ أَمشِي في دِيَارٍ كأَنَّهَا *** خِلافَ دِيَارِ الكاهِلِيَّةِ عُورُ
كأَنَّه جَمَع خَلَفًا على خِلَافٍ مِثْل جَبَل وجِبَال.
وبَنُو الأَعْوَر: قَبيلَةٌ، سُمُّوا بذلك لِعَوَرِ أَبِيهِم.
فَأَمَّا قَوْلُه:
في بلادِ الأَعْوَرِينَا
فعَلى الإِضافَةِ كالأَعْجَمِينَ، وليس بجَمْعِ أَعْوَر، لأَنّ مِثْلَ هذا لا يُسَلَّم عند سيبويه.
وقد يكون العَوَر في غَيْر الإِنسان، فيُقَال: بَعِيرٌ أَعوَرُ. والأَعْوَرُ أَيضًا: الأَحْوَل.
وقال شَمِر: عَوَّرتُ عُيُونَ المِيَاهِ، إِذا دَفَنْتَهَا وسَدَدْتَها. وعَوَّرْتُ الرَّكِيَّة، إِذا كَبَسْتَها بالتُّراب حَتَّى تَنْسَدّ عُيُونُها. وفي الأَساس: وأَفْسَدَهَا حَتَّى نَضَب الماءُ، وهو مَجازٌ وكذا أَعَرْتُهَا. وقد عارَتْ هِي تَعُورُ.
وفَلاةٌ عَوْرَاءُ: لا ماءَ بها.
وفي حديث عُمَر وذَكَرَ امرَأَ القَيْس، فقال: «افْتَقَرَ عن مَعانٍ عُورٍ». أَراد به المَعَانِيَ الغامِضَةَ الدَّقِيقَة.
وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: العُوّارُ: البِئْرُ التي لا يُسْتَقَى منها.
قال: وعَوَّرْتُ الرجلَ، إِذا اسْتَسْقاكَ فلم تَسْقِه. قال الجَوْهَرِيّ: ويقال للمُسْتَجِيزِ الذِي يَطْلُب المَاءَ إِذا لم تَسْقِه: قد عَوَّرْتَ شُرْبَه. قال الفَرَزْدَق:
مَتَى ما تَرِدْ يَوْمًا سَفَارِ تَجِدْ بِهَا *** أُدَيْهِمَ يَرْمِي المُسْتَجِيزَ المُعَوَّرَا
سَفَارِ: اسمُ ماءٍ، والمُسْتَجِيز: الَّذي يَطْلبُ الماءَ.
ويقال عَوَّرتُه عن المَاءِ تَعْوِيرًا؛ أَي حَلأْتُه. وقال أَبو عُبَيْدَةَ: التَّعْوِيرُ: الرَّدُّ. عَوَّرْتُهُ عن حاجَتِه: رَدَدْته عَنْهَا. وهو مَجاز.
ويقال: ما رَأَيْتُ عائرَ عَيْن؛ أَي أَحَدًا يَطْرِفُ العَيْنَ فيَعُورها.
ومن أَمْثَالِ العَرَبِ السَائِرَةِ: «أَعْوَرُ عَيْنَكَ والحَجَرَ».
والإِعْوار: الرِّيبَةُ.
ورَجُلٌ مُعْوِرٌ: قَبِيحُ السَّرِيرةِ. ومكَانٌ مُعْوِرٌ: مَخُوفٌ. وهذا مكانٌ مُعْوِرٌ؛ أَي يُخَافُ فيه القَطْعُ، وكذا مَكَانٌ عَوْرَةٌ، وهو من مَجَاز المَجَاز، كما في الأَساس. وفي حديث أَبي بَكْر رضي الله عنه «قال مَسْعُودُ بنُ هُنَيْدَةَ: رأَيتُه وقَدْ طَلَعَ في طَرِيق مُعْوِرة» أَي ذات عَوْرَة يُخَافُ فيها الضَّلالُ والانْقِطَاع، وكُلُّ عَيْبٍ وخَلَل في شيْءٍ فهُوَ عَوْرَة. وشَيْءٌ مُعْوِرٌ وعَوِرٌ: لا حافِظَ له. والمُعْوِرُ: المُمْكِنُ البَيِّنُ الوَاضِحُ. وأَعْوَرَ لك الصَّيْدُ، وأَعْوَرَكَ: أَمْكَنَك، وهو مَجاز.
وعن ابن الأَعْرَابِي: يُقَال: تَعَوَّرَ الكِتَابُ، إِذا دَرَسَ، وهو مَجاز.
وحكَى اللِّحْيَانيّ: أَرَى ذا الدَهْرَ يَسْتعِيرُنِي ثِيابِي. قال: يَقُولُه الرَّجُلُ إِذا كَبِرَ وخَشيَ المَوْتَ. وفَسَّره الزمخشريّ فقال: أَي يَأْخُذُه مِنّي، وهو مَجَازُ المَجَازِ كما في الأَسَاس. وذكره الصاغانيّ أَيضًا.
وقولُ الشَّاعِرِ:
كأَنَّ حَفِيفَ مِنْخَرِه إِذا مَا *** كَتَمْنَ الرَّبْوَ كِيرٌ مُسْتَعَارُ
كِيرٌ مُسْتَعَارٌ: أَي مُتعاوَرٌ أَو اسْتُعِيرَ من صاحِبِه.
وتَعَاوَرَتِ الرِّيَاحُ رَسْمَ الدّارِ حَتَّى عَفَتْه؛ أَي تَواظَبَتْ عليه؛ قالَه اللَّيْثُ. وهو من مَجَازِ المجاز. قال الأَزْهَرِيّ: وهذا غَلَط، ومعنى تَعَاوَرَتِ الرِّيَاحُ رَسْمَ الدَّارِ؛ أَي تَدَاوَلَتْه، فمَرَّةً تَهُبّ جَنُوبًا، ومَرّةً شَمَالًا، ومرَّة قَبُولًا، ومَرّة دَبُورًا. ومنه قولُ الأَعشَى:
دِمْنَةٌ قَفْرَةٌ تَعاوَرَها الصَّيْ *** فُ برِيحَيْنِ من صَبًا وشَمَالِ
وعَوَّرْتُ عليه أَمْرَه تَعْوِيرًا: قَبَّحْتُه، وهو مَجاز.
والعَوَرُ، مُحَرَّكة: تَرْكُ الحَقّ.
ويُقَال: إِنَّهَا لَعَوْراءُ القُرِّ: يَعْنُونَ سَنَةً أَو غَدَاةً أَو لَيْلَةً؛ حُكِي ذلك عن ثَعْلَب. قلتُ: فيُقَال: لَيْلَةٌ عَوْراءُ القُرِّ؛ أَي ليس فيها بَرْدٌ، وكذلك الغَداةُ والسَّنَةُ، ونقله الصاغانيّ أَيضًا.
ومن مَجازِ المَجَاز قَوْلُهم: الاسْمُ تَعْتَوِرُه حَرَكَاتُ الإِعْرَابِ، وكذا قَوْلُهم: تَعَاوَرْنَا العَوارِيَّ، وكذا قولهم: اسْتَعارَ سَهْمًا من كِنانَتِه، وكذا قولُهم: سَيْفٌ أُعِيرَتْهُ المَنِيَّةُ.
قال النابِغَةُ:
وأَنْتَ رَبِيعٌ يَنْعَشُ الناسَ سَيْبُهُ *** وسَيْفٌ أُعِيرَتْهُ المَنِيَّةُ قاطعُ
وقال اللَّيْث: ودِجْلَةُ العَوْرَاءُ بالعِرَاق بمَيْسَانَ؛ ذكرَهُ صاحبُ اللسان، وعَزاه الصاغانيّ.
والأَعاوِرُ: بَطْنٌ من العَرب، يقالُ لهم: بَنُو الأَعْوَر. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: بنو عُوَار، كغُرَابٍ: قَبِيلَةٌ.
وأَعارَتِ الدابَّةُ حافِرَها: قَلَبَتْه؛ نقله الصاغانيّ.
وعاوَرْتُ الشمسَ: راقَبْتُهَا؛ نقله الصاغانيّ.
والإِعَارَةُ: اعْتِسَارُ الفَحْلِ النَاقَةَ؛ نقله الصاغانيُّ أَيضًا.
وفي بَنِي سُلَيم أَبُو الأَعْوَر عُمَرُ بنُ سُفْيَانَ، صاحِبُ مُعَاوِيَة، ذكره ابنُ الكَلْبِيّ. قلتُ: قال أَبو حاتِمٍ: لا تَصِحُّ له صُحْبَةٌ، وكانَ عَلِيٌّ يَدْعُو عليه في القُنُوتِ. وأَبو الأَعْوَرِ الحارِث بن ظالِمٍ الخَزْرَجِيّ بَدْرِيّ، قِيلَ: اسْمُه كَعْبٌ، وقِيلَ: اسْمُه كُنْيَتُه.
والعَوْرَاءُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: هي الَّتِي خَطَبَهَا عَلِيٌّ، وقيل: اسْمُها جُوَيْرِيَةُ، والعَوْرَاءُ لَقَبُها.
وابْنَا عُوَارٍ جَبَلانِ، قال الرّاعِي:
بَلْ ما تَذكَّرُ من هِنْدٍ إِذَا احْتَجبَتْ *** بِابْنَيْ عُوَارٍ وأَمْسَى دُونَهَا بُلَعُ
وقال أَبو عُبَيْدَةَ: هما نَقَوَا رَمْل.
وأَعْوَرَ الرَّجُلُ: أَرابَ؛ قاله ابنُ القَطّاع.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
64-تاج العروس (دحل)
[دحل]: الدَّحْلُ بالفتحِ ويُضَمُّ نَقْبٌ ضَيِّقٌ فَمُهُ مُتَّسِعٌ أَسْفَلُهُ حتى يُمْشَى فيه مِيْلٌ أو نَحْوُه ورُبَّما أَنْبَتَ السِدْرَ أَو مَدْخَلٌ تحتَ الجُرْفِ أَو في عُرْضِ خَشَبِ البِئَرِ في أَسْفَلِها ونحو ذلِكَ من المَوَارِدِ والمَنَاهِلِ، كلُّ ذلِكَ في المُحْكَمِ.وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الدَّحْلُ هُوَّةٌ تكونُ في الأرْضِ وفي أَسَافِلِ الأَوْديةِ فيها ضيقٌ ثم يَتَّسِعُ كما في العُبَابِ والتَّهْذِيبِ والصِّحاحِ.
أو الدَّحْلُ: خَرْقٌ في بُيوتِ الأَعْرَابِ يُجْعَلُ لِتَدْخُلَهُ المرأَةُ إذا دَخَلَ عليهم داخِلٌ، كما في المُحْكَمِ، وإنَّما هو على التَّشْبِيهِ.
والدَّحْلُ: المَصْنَعُ يَجْمَعُ الماءَ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: ورَأَيْت بالخَلْصاء في نَواحِي الدَّهْناء دُحْلانًا كَثِيرةً دَخَلْت في غيرِ واحِدٍ منها، وهي خَلائِقُ خَلَقها الله تعالَى تحتَ الأَرْضِ، يَذْهَبُ الدَّحْل منها سَكًّا في الأَرضِ قامةً، ثم يَتَلَجَّف يَمينًا وشمالًا فمَرَّةً يضيقُ ومَرَّةً يَتَّسِعُ في صفاةٍ مَلْساءَ، ودَخَلْت في دَحْلٍ منها فلمَّا انْتَهَيْت إلى الماءِ إذا جَوٌّ مِنَ الماءِ لم أَقِفْ على سَعتِه وكَثْرتِه لإِظلامِ الدَّحْلِ تحتَ الأَرْضِ، فاسْتَقَيْت مَعَ أَصْحابي منه ماءً عَذْبًا صافيًا زُلالًا لأَنَّه ماءُ السماءِ مسالٌ إليه من فَوْق واجْتَمَعَ فيه الجمع: أَدْحُلٌ كأَفْلُسٍ وأَدْحالٌ ودِحالٌ، وهذه بالكسرِ ودُحولٌ ودُحْلانٌ بضمِّهما نَقَلَه الجماعَةُ الأَزْهَرِيُّ وابنُ سِيْدَه والجَوْهَرِيُّ والصَّاغَانيُّ، وانْفَرَدَ ابنُ سِيْدَه بالأُوْلَى، وقالَ أُمَيَّةُ الهُذَليُّ:
أَو أَصْحَمَ حَامٍ جَرَامِيزَهُ *** حَزَابِيَةٍ حَيَدَى بالدِّحَالِ
والدَّحْلَةُ: بهاءٍ البِئْرُ، عن ابنِ سِيْدَه، وأَنْشَدَ:
نَهَيْتُ عَمْرًا ويَزِيدَ والطَّمَع *** والحِرْص يَضْطَرُّ الكريم فيَقَع
في دَحْلةٍ فلا يَكادُ يُنْتَزَع
أَي نَهَيْتهُما فقُلْتُ لهما: إِيَّاكُما والطَّمَعِ، فحذَف لأَنَّ قَوْلَه نَهَيْتُ عَمْرًا ويَزِيدَ في قوَّةِ قَوْلِكَ قُلْت لهما إِيَّاكُما.
والدَّحِلُ: ككَتِفٍ المُسْتَرْخِي البَطينُ العَرِيضُ البَطْنِ.
والدَّحِلُ أَيْضًا: الكثيرُ المالِ، كما في العُبَابِ.
وأَيْضًا: الدَّاهِيَةُ الخُدَّاعُ للناسِ، قالَهُ أَبُو زَيْدٍ والأَمَوِيُّ.
وقالَ أَبُو عَمْرٍو: هو الخَبُّ الخَبيثُ.
وقيلَ: الدَّحِل هو الدَّهاء في كَيْسٍ وحَذْقٍ وكذلِكَ الدَّحِن.
والدَّحِلُ أَيْضًا، المُماكِسُ عندَ البَيْعِ وهو الذي يُدَاحِلُهم ويُمَاكِسُهم حتى يَسْتَمْكِنَ منْ حاجَتِهِ، كما في التَّهْذِيبِ.
وفي الصِّحاحِ: رجُلٌ دَحِلٌ بَيِّن الدَّحَلِ أَيْضًا، وهو السَّمينُ القصيرُ المُنْدَلِقُ البَطْنِ، وقد دَحِلَ كفَرِحَ في الكُلِّ.
والدَّحُولُ: كصَبْورٍ الرَّكِيَّةُ التي تُحْفَرُ فَيوجَدُ ماؤُها تحتَ أَجْوالِها فَتُحْفَرُ حتى يُسْتَنْبَطَ ماؤُها من تحت جَالِها.
والبِئْرُ الدَّحُولُ: هي الواسِعَةُ الجَوانِبِ وقيلَ: بئرٌ دَحُولٌ ذات تَلَجُّفٍ في نَواحِيها.
والدَّحُولُ مِنَ الإِبِلِ مِثْلُ العَنُودِ وهي ناقةٌ تُعارِضُ الإِبِلَ وتُدَاحِلُها مُتَنَحِّيَةً عنها.
ودَحَلَ كَمَنَعَ دَحلًا: حَفَرَ في جَوانِبِ البِئْرِ كما في الصِّحاحِ.
أَو دَحَلَ صارَ في جانِبِ الخِباءِ ومنه حديثُ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه: وسَألَه رجُلّ مِصْرَادٌ أَفأُدْخِل المِبْوَلَة معي في البيتِ؟ قالَ: نعم، وادْحُلْ في الكسْرِ؟ شَبَّه جَوانِبَ الخِباءِ ومَدَاخِلِه بالهُوَّةِ التي تكونُ في أَسافِلِ الأَوْديةِ، يقُولُ: صِرْ فيها كالذي يصيرُ في الدَّحْلِ.
والدَّاحولُ: ما يَنْصِبُهُ الصَّائِدُ من خَشَبَات على رُؤوسِها خِرَقٌ للحُمُرِ، زَادَ الأَزْهَرِيُّ: والظّبَاءِ.
واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ والصَّاغانيّ كما اقْتَصَرَ ابنُ سِيْدَه على الحُمُرِ، كأَنَّها طَرَّاداتٌ قِصَارٌ تُرْكَز في الأَرض الجمع: دَواحِيلُ، ورُبَّما نَصَبَها الصائِدُ ليلًا للظِّباءِ ورَكَزَ دَواحِيلَه وأَوْقَدَ لها السِّرَاجَ.
ودَحْلانُ كسَحْبانٍ قرية بالمَوْصِل، أَهْلُها أَكْرادٌ لصوصٌ.
ويقالُ: دَحَلَ عَنِّي وزَحَلَ كمَنَعَ. وفي نسخةٍ كفَرِحَ وهو غَلَطٌ، إِذا تَباعَدَ، كما في العُبَابِ والتَّهْذِيبِ، أَو دَحَلَ إِذا فَرَّ واسْتَتَرَ وخافَ، قالَ:
ورَجُل يَدْحَلُ عني دَحْلًا *** كدَحَلان البَكْر لاقَى فَحْلًا
وفي حديثِ أَبي وائِلٍ: «وَرَدَ علينا كتابُ عُمَرَ ونحن بخانِقِين إِذا قالَ الرجلُ للرَّجلِ لا تَدْحَل فقد آمَّنه» أَي لا تَفِرّ ولا تَسْتَتِر.
وقالَ شَمِرٌ: سَمِعْت عَليّ بنَ مُصْعَبٍ يقولُ: لا تَدْحَلْ. بالنَّبَطِيَّة، لا تَخَفْ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتهم يقُولُون: دَحَلَ فلانٌ إِذا دَخَلَ في الدَّحْلِ بالحاءِ.
وقالَ غيرُه: كأَدْحَلَ.
ودَاحَلَهُ مُدَاحَلَةً: رَاوَغَهُ.
وفي التَّهْذِيبِ خادَعَه وماكَسَه.
وقيلَ: دَاحَلَه: كتَمَ ما عَلِمَهُ وأَخْبَرَ بغيرِهِ نَقَلَه شَمِرٌ عن الأَسَدِيَّةِ.
والدِّحَالُ ككِتابٍ الإِمْتِناعُ، وبه فَسَّرَ الأَصْمَعِيُّ قَوْلَ أُمَيَّة الهُذَليّ الذي سَبَقَ حَيَدَى بالدِّحَالِ، قالَ: كأَنَّه يُوارِبُ ويَعْصِي، وليسَ مِنَ الدَّحْلِ الذي هو السَّرَبُ، وأَمَّا قَوْلُ ذي الرُّمَّةِ:
من العَضِّ بالأَفْخادِ أَو حَجبَاتِها *** إِذا رَابَه اسْتِعصاؤُها ودِحَالُها
فإِنَّه يُريدُ: أَنْ تميلَ في أَحدِ شِقَّيها، ويُرْوَى: حِدَالُها أَي مُرَاوَغتها، ويُرْوَى: عدَالُها، وهو أَنْ تَعْدِلَ عن الفَحْلِ.
ودَحْلٌ: بالفتحِ موضع قُرْبَ حَزْنِ بَني يَرْبوعٍ قالَ لَبِيدُ رضي الله عنه:
فَبَيَّتَ رزقًا من سَرارٍ بسُحْرَةٍ *** ومِنْ دَحْلَ لا يخشَى بهنّ الحبائلا
وقالَ أَيْضًا:
فَتَصيَّفا ماءً بِدَحْلٍ سَاكنًا *** يَسْتنُّ فوق سَرَاتِه العلجومُ
كما في العُبَابِ.
وفي المُحْكَمِ: وأَمَّا ما تَعْتادُه الشَّعراءُ من ذِكْرِها الدَّحْلَ من أَسْماءِ المَوَاضِعِ كقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
إِذا شِئْتُ أَبْكاني بِجَرْعاء مالكٍ *** إِلى الدَّحْل مسْتَبْدًى لِمَيٍّ ومَحْضَرُ
فقد يكونُ سُمِّي الموضِعُ باسمِ الجنسِ، وقد يجوزُ أَنْ يكونَ غَلَبَ عليه اسمُ الجنسِ كما قالُوا الرزق في بِرَكٍ مَعْروفةٍ، سُمِّيَت بذلِكَ لبَيَاضِ مائِها وصفائِهِ.
ودُحْلُ: بالضم جَزيرَةٌ بينَ اليمنِ وبلادِ البُجةِ نَقَلَه الصَّاغانيُّ.
قلْتُ: وهي ثَغْرُ بلادِ البُجَةِ.
قالَ: والدَّحْلاءُ البِئْرُ الضَّيِّقَةُ الرأَسِ، والترْكِيبُ يدلُّ على تَلَجُّفٍ في الشيءِ وتَطَامنٍ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الدَّحَّالُ: كشَدَّادٍ الذي يَصِيدُ بالدَّاحُولِ قالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وبَشْرَ بْن أَجْنًا والنّجومُ كأَنَّها *** مصابيح دَحَّالٍ يُذَكِّي ذُبَالَها
والدحيلة: حُفْرَةٌ كالدَّحْلِ عن ابنِ عَبَّادٍ.
والدَّحَلانُ: محرَّكةً الفرَارُ، ومنه قَوْلُ الرَّاجِزِ:
كدَحَلان البَكْر لاقَى الفَحْلا
والدَّاحِلُ: الحَقُودُ، نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
والدَّحُولُ: كصَبُور ماءٌ بنَجْد في بلادِ بَنِي عجلان من قَيْسِ عيلان.
ودَحْلُ: ماءٌ نَجْدِيُّ لغَطَفان، قالَهُ نَصْرٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
65-تاج العروس (صحم)
[صحم]: الصُّحْمَةُ بالضمِّ: سَوادٌ إلى صفْرةٍ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ.أَو غُبْرَةٌ إلى سوادٍ قليلٍ أَو حُمْرَةٌ وبَياضٌ.
وقيلَ: صفْرَةٌ في بياضٍ، هو أَصْحَمُ وهي صَحْماءُ على القِياسِ.
وقالَ أَبو عَمْرو: الأَصْحَمُ الأَسْودُ الحالِكُ، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ لأُمَيَّة الهُذَليِّ يَصِفُ حِمارًا:
أَوَاصْحَمَ حامٍ جَرامِيزَه *** حَزابِيَةٍ حَيَدَى بالدِّحالِ
والجَمْعُ صُحْمٌ، قالَ لَبيدٌ في نعْتِ الحمير:
وِصُحْمٍ صِيامٍ بين صَمْدٍ ورِجْلَةٍ
وِاصْحامَّ النَّبْتُ اصْحِيمامًا: أَخَذَ رِيَّه وِاشْتَدَّتْ خُضْرتُهُ فهو مُصحامٌّ.
وِاصْحامَّ أَيْضًا إذا اصْفارَّ وتغيَّرَ لَوْنه.
ونَصّ الجَوْهرِيُّ: اصْحامَّتِ البَقْلَةُ اصْفارَّتْ فهو ضِدٌّ.
أَو اصْحامَّ النَّبْتُ: خالَطَ سَوادَ خُضْرتِهِ صُفْرةٌ، عن أبي حنيفَةَ.
وِاصْحامَّتِ الأَرضُ: تَغَيَّرَ نَبْتُها وأَدْبَرَ مَطَرُها. وِكَذلِكَ الزَّرْعُ إذا ضَرَبَهُ قُرٌّ فَتَغَيَّرَ لَوْنه أَو بَدَا في اليُبْسِ.
وقيلَ: اصْحامَّتِ الأَرضُ إذا تغيَّر لَوْن زَرْعِها للحصَادِ، وِاصْحامَّ الحَبُّ كَذلِكَ.
وِالصَّحْماءُ مِن الفيافي: المُغَيَّرةُ، عن شَمِرٍ، وقالَ الطرِمَّاحُ يَصِفُ فلاةً:
وِصَحْماءَ أَشْباهِ الحَزابيِّ ما يُرى *** بها سارِبٌ غيرُ القَطا المُتَراطِنِ
وِالصَّحْماءُ: بَقْلَةٌ ليْسَتْ بشَديدَةِ الخُضْرَةِ.
وِأَصْحَمَةُ: اسمُ رجُلٍ، كما في الصِّحاحِ.
وِأَصْحمَةُ بنُ بَحْرٍ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: ابنُ أَبْجَر، مَلِكُ الحَبَشةِ النَّجاشِيُّ. وَوَقَعَ في مصنّفِ ابنِ أَبي شَيْبَةَ: صَحْمَة بغيرِ أَلفٍ، وكَذلِكَ ثَبَتَ في بعضِ رِواياتِ البُخارِي.
وحَكَى الإسْماعيليُّ: أَصْخَمَة بخاءٍ مُعْجمةٍ ونسبَ للتَّصْحيفِ.
وحَكَى غيرُهُ: أَصْحبَة بالموحَّدَةِ بَدَلَ المِيمِ.
وقيلَ: صَحْبَةُ بغيرِ ألفٍ كصَحْمَة، وقيلَ: مصحمَةُ، بميمٍ أَوَّلُه بَدَل الهَمْزةِ، وقيلَ: صمخَةُ بتقْدِيمِ الميمِ على الخاءِ، وقيلَ غيرُ ذلِكَ ممَّا اسْتَوْعَبه شرَّاحُ البُخارِي والشِّفاء وغيرهم، قالَهُ شيْخُنا.
قالَ: واخْتَلَفوا أَيْضًا هل هذا اللَّفْظ مع اخْتِلافِهم في ضَبْطِه هَل اسْمُه أَو لَقَبُه، ومالَ إلى الثاني جماعَةٌ وقالوا: اسْمُه مَكْحول بنُ حصةَ، أَو سليمُ أَو حازِمُ، وهذا هو الذي أَسْلَم في عَهْدِ النبيّ صلى الله عليهوآله، وأَخْبر الصَّحابَة بإسْلامِه وكاتَبَه خِلافًا لمَا قالَهُ ابنُ القيمِ في الهدى: مِن أَنَّه غيرُه، فإنَّه زَعْمٌ غيرُ صَحِيحٍ، وهو الذي أَخْبر بموْتِه وصلَّى عليه مَعَ الصَّحابَةِ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهم، كما في الصَّحِيحِ وغيرِهِ.
قلْتُ: وقالَ ابنُ قتيبَةَ: النَّجاشِيُّ بالنبطيَّةِ أَصْحمَةَ، ومعْناه عطية، وهل النّون مَكْسورَةً أَو مَفْتوحةً والياء مُشَدَّدةً أَو مُخَفَّفَة، وهل هي نَبْطيَّة أَو حَبَشيَّة، وهل هو عَلَم شَخْص أَو عَلَم جِنْسٍ، فقد مَرَّ البَحْثُ فيه في حَرْف الشِّيْن فرَاجِعْه.
وِاصْطَحَمَ: انْتَصَبَ قائِمًا.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
66-تاج العروس (شفي)
[شفي]: ي هكذا في النّسخِ والحرْفُ يائيٌّ واوِيٌّ.الشِّفَاءُ، ككِساءٍ: الدَّواءُ؛ وأَصْلُه البرءُ مِن المرَضِ، ثم وُضِعَ مَوْضِع العِلاجِ والدَّواءِ؛ ومنه قوْلُه تعالى {فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ}.
وقال الرَّاغبُ: الشِّفاءُ من المَرَضِ مُوافَاةُ شِفاءِ السَّلامَةِ، وصارَ اسْمًا للبرءِ.
الجمع: أَشْفِيَةٌ، كسِقاءٍ وأَسْقِيَةٍ؛ وجج جَمْعُ الجَمْع: أَشافِي، كأساقِي، ومنه سَجْعةُ الأساسِ: مَواعِظه لقلوبِ الأوْلياءِ أَشاقِي وفي أكْبادِ الأعْداءِ أَشافِي.
وقد شَفاهُ اللهُ من مَرَضِه يَشْفِيهِ شِفاءً: بَرَأهُ، كذا في النسخ وفي المُحْكَم: أَبْرَأَهُ.
وشَفاهُ طَلَب له الشِّفاءَ؛ كأشْفاهُ؛ كذا في المُحْكم.
وشَفَتِ الشَّمسُ شَفىً: غَرَبَتُ.
وقالَ ابنُ القطَّاع: غابَتْ وذَهَبَتْ إلَّا قليلًا؛ ومِثْلُه في التَّهْذيبِ.
كشَفِيَتْ شَفًى، كرَضِيَ. ويقالُ: أتيته بشَفىً مِن ضَوْءِ الشمسِ؛ قالَ الشَّاعرُ:
وما نِيلُ مِصْر قُبَيْلَ الشَّفَى *** إذا نَفَحَتْ رِيحُه النافِحَهُ
أي قُبَيْل غُروبِ الشمسِ.
ومِن المجازِ: ما بَقِيَ منه إلَّا شَفًى، أَي: إلَّا قَليلٌ.
وفي الأساسِ: أَي طَرَفٌ ونَبْذ.
وفي حديث ابنِ عبَّاس: «ما كانت المُتْعةُ إلَّا رحْمةً رحِمَ اللهُ بها أُمَّة محمدِ، فلو لا نَهْيُه عنها ما احْتاجَ أَحدٌ إلى الزِّنا إلَّا شَفىً؛ قال عَطَاءُ: والله لكَأَنِّي أَسْمَعُ قوْلَه إلَّا شَفىً؛ أَي إلَّا أنْ يُشْفَى؛ أَي يُشْرِفَ على الزِّنا ولا يُواقِعُه، فأَقامَ الاسْمَ وهو الشَّفَى مُقامَ المَصْدرِ الحقِيقي، وهو الإشْفاءُ على الشيء؛ نقلَهُ ابنُ الأثيرِ عن الأزْهري.
والذي في التهْذيبِ: قوْلُه إلَّا شَفىً أَي إلَّا خَطيئَةً من الناسِ قَليلةً لا يَجدُونَ شيئًا يَسْتَحِلُّونَ به الفَرْج.
والإِشْفَى، بالكسْر والقَصْر المثْقَبُ يكونُ للأساكِفَةِ.
وقالَ ابنُ السِّكّيت: الإشْفَى ما كانَ للأَساقِي والمزاودِ وأَشْباهِها، والمِخْصَفُ للنِعالِ؛ كما في الصِّحاحِ.
وحكَى ثَعْلب عن العَرَبِ: إنْ لا طَمْتَه لا طَمْتَ الإشْفَى أَي إذا لاطَمَه كانَ عليه لا له؛ وقولُ الشَّاعِرِ:
مِيبَرَةُ العُرْقُوبِ إشْفَى المِرْفَق
أي مِرْفَقُها حديدٌ كالإشْفَى، والجمْعُ الأشافِي.
والإشْفَى أيْضًا: السِّرادُ يُخْرَزُ به؛ كما في التهْذِيبِ، يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ.
والشَّفَى، مَقْصورٌ: بقِيَّةُ الهِلالِ والبَصَرِ والنّهارِ وشبهها؛ كما في التَّهْذيبِ.
وفي الصِّحاح: يقالُ للرَّجُل عنْدَ مَوْتِه وللقَمَرِ عنْدَ امِّحاقِه وللشمسِ عنْدَ غُروبِها: ما بَقِيَ منه إلَّا شَفىً؛ أَي قليلٌ؛ قال العجَّاجُ:
ومَرْبَإٍ عالٍ لمَنْ تَشَرَّفا *** أَشْرَفْتُه بلا شَفى أَو بِشَفَى
قوْلُه: بِلا شَفا: أَي قد غابَتِ الشمسُ، أَو بشَفَا أَي وقَدْ بَقِيَتْ منها بقِيَّةٌ.
والشَّفا: حَرْفُ كلِّ شيءٍ، والجَمْعُ أَشْفاءٌ.
ويُضْرَبُ به المَثَلُ في القُرْبِ من الهَلَكةِ، قالَ الله تعالى: {عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ}؛ وقوْله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها}.
ويقالُ: هو على شَفا الهَلاكِ، وهو مجازٌ، وتَثْنيتُه شَفْوانِ.
قالَ الأخْفَش: لمَّا تَجُزْ فيه الإِمالُ عُرِف أنَّه من الواوِ لأنَّ الإِمالةَ من الياءِ؛ كذا في الصِّحاح.
وأَشْفَى عليه: أَشْرَفَ وحَصَل على شفاه، وهو يُسْتَعْمل في الشرِّ غالِبًا؛ ويقالُ في الخَيْر لُغَة؛ قالَهُ ابن القطَّاع.
وأَشْفى الشَّيءَ إيَّاهُ: إذا أَعْطاهُ يَسْتَشْفِي به.
وقالِ ابنُ القطَّاع: أَشْفَاهُ العَسَلَ: جَعَلَه له شِفاءً؛ ونقلَهُ الجوهريُّ عن أَبي عبيدَةَ.
وقالَ الأزْهري: أَشْفاهُ وَهَبَ له شِفاءٌ مِن الدَّواءِ.
واشْتَفَى بكذا: نالَ الشِّفاءَ.
وتَشَفَّى من غَيْظِه؛ كما في الصِّحاح.
وفي التهذيبِ: تشَفَّى من عَدُوِّه، إذا نكى فيه نِكايَةً تَسُرُّه.
وسَمَّوْا شِفاءً، وغالبُ ذلكَ في أَسْماءِ النِّساءِ، فمنهنَّ: الشِّفاءُ بنْتُ عبدِ اللهِ بنِ عَبْد شمس القُرَشَيَّةُ؛ والشِّفاءُ بنْتُ عبدِ الرحمنِ الأنْصاريَّةُ؛ والشِّفاءُ بنتُ عَوْفٍ أُخْت عَبْد الرحمنِ، صَحابيَّات.
والأَشَفياءِ: أَكَمَةً؛ كذا في التكْملَةِ.
وقالَ أَبو عَمْروٍ: الأَشْفيانِ كأَنَّه مُثَنَّى الأَشْفَى، وهُما ظَرْبان مُكْتَنِفا ماء يقالُ له الطنى لبَني سُلَيْم؛ قالَهُ نَصْر.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
اسْتَشْفى: طَلَبَ الشِّفاءَ.
واسْتَشْفى المريضُ من علَّتِه: بَرَأَ.
ويقالُ: شَفاء العَمَى السُّؤالُ؛ وهو مجازٌ.
وأَشْفَى: سارَ في شَفا القَمَرِ، وهو آخِرُ اللَّيْل.
وأَشْفَى: أشْرَفَ على وَصِيَّةٍ أَو وَديعَةِ.
وأَشْفَى زيْدٌ عَمْرًا: إذا وَصَفَ له دَواءً يكونُ شِفاءُ وفيه.
وأَشَفَى: إذا أَعْطَى شيئًا ما؛ قالَ الشاعِرُ:
ولا تُشْفِي أَباها لو أَتاها *** فقيرًا في مَباءَتِها صِماما
وأَخْبرَ فلانٌ فاشْتَفَى به؛ أَي نفعَ بصِدْقِه وصحَّتِه.
وشَفاهُ بكلِّ شيءٍ تَشْفيَةً: عالَجَهُ بكلِّ ما يُشْتَفَى به.
وما شَفَّى فلانٌ أَفْضَلُ ممَّا شَفَّيْت؛ أَي ما ازْدَادَ ورَبحَ، قيلِ: هو مِن بابِ الإبْدالِ كتقَضَّى.
وشُفَيَّةُ، كسُمَيَّة: بِئْرٌ قديمةٌ بمكَّةَ حَفَرَتْها بَنُو أَسَدٍ.
والأشافِي كأَنَّه جَمْعِ إشْفى الذي يُحْرزُ به: وادٍ في بِلادِ بَني شَيْبان؛ قال الأعْشى:
أَمِن جَبَلِ الأمرارِ صُرّتْ خِيامُكُمْ *** على نَبَأٍ إن الأشافيّ سائلُ
قالَ ياقوت: هذا مَثَلٌ ضَرَبَه الأَعْشى، لأنَّ أَهْلَ جَبَلِ الأَمْرارِ لا يَرْحلُون إلى الأشافِي يَنْتجِعُونَه لبُعْدِه إلَّا أن يَجْدبُوا كلَّ الجَدْبِ ويبلغهم أنَّه مطرَ وسالَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
67-تاج العروس (نعي)
[نعي]: ي نَعاهُ له نَعْيًا، بالفتح، ونَعِيًّا، على فَعِيل، ونعُيًانًا، بالضَّمِّ؛ ظاهِرُ هذا السِّياق، كما للجَوْهرِي أَيْضًا. أَنَّه من حَدِّ نَصَر على ما يَقْتَضِيه اصْطِلاحُه عنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ المُضارع، والصَّوابُ أَنَّه مِن حَدِّ سَعَى، ففي المُحْكم نَعاهُ يَنْعاهُ نَعْيًا ونُعْيانًا، أَخْبَرَهُ بموْتِه.وقال الزَّمَخْشري في الفائقِ: إذا أَذاعَ مَوْتَه وأَخْبَرَ به، وإذا نَدَبَه.
والنَّعِيُّ، على فَعِيل: نِداءُ الدَّاعِي وقيلَ: هو الدُّعاءُ بمَوْتِ المَيِّتِ والإشْعارُ به، وأَوْقَع ابنُ مَحْكان النَّعْيَ على النقاةِ العَقيرِ، فقالَ:
زَيَّافةٍ بنْتِ زَيَّافٍ مُذَكَّرةٍ *** لمَّا نَعَوْها لراعِي سَرْحِنا انْتَحَبَا
ومِن المجازِ: هو يَنْعَى على زَيْدٍ ذُنُوبَه؛ كما في الصِّحاح، وفي الأساسِ: هَفَواته؛ أَي يُظْهِرُها ويَشْهَرُها؛ وفي الأساس: يَشْهَرُه بها.
ويقالُ: فلانٌ يَنْعَى على نَفْسِه بالفَواحِشِ إذا شَهَرَ نَفْسَه بتَعاطِيها، وكانَ امْرؤُ القَيْس مِن الشُّعَراءِ الذين نَعَوْا على أَنْفُسِهم بالفَواحِشِ وأَظْهَرُوا التَّعَهُر، وكانَ الفَرَزْدقُ فعولًا لذلكَ.
والنَّعِيُّ، كغَنِيٍّ، يكونُ مَصْدرًا كما تقدَّمَ، يقالُ: جاءَ نَعِيُّ فلانٍ؛ أَي نَعْيُه، ويكونُ بمعْنَى النَّاعِي وهو الذي يأْتي بخَبَر الموْتِ، قالَ الشاعرُ:
قامَ النَّعِيُّ فأسْمَعا *** ونَعى الكَريمَ الأَرْوَعا
وقال أبو زيْدٍ: النَّعِيُّ المَنْعِيُّ، وهو الرَّجلُ المَيِّتُ، والنَّعْيُ الفِعْل. واسْتَنْعَتِ النَّاقةُ: تَقَدَّمَتْ.
قال أبو عبيدٍ في باب، المقلوب: اسْتنْعَى واسْتَناعَ إذا تقدَّمَ: وأنْشَدَ:
وكانَتْ ضَرْبَةً من شَدْقَمِيٍّ *** إذا ما اسْتَنَّتِ الإِبِلُ اسْتَناعا
وأَنْشَدَ أيْضًا:
ظَلِلْنا نَعُوجُ العِيسَ في عَرَصاتِها *** وُقوفًا ونَسْتَنْعِي بها فنَصُورُها
وقال شَمِرٌ؛ اسْتَنْعَى إذا تقدَّمَ ليَتْبَعوه؛ قالَ: ورُبَّ ناقَةٍ يَسْتَنْعي بها الذئْبُ؛ أَي يَعْدُو بينَ يَدَيْها وتَتْبَعه حتى إذا أَمارَ بها عن الحُوارِ عَفَقَ على حُوارِها مُحْضِرًا فافْتَرَسَه.
أو اسْتَنْعَتِ النَّاقَةُ: إذا تَراجَعَتْ نافِرةً؛ وقالَ أَبو عُبيدٍ: عَطَفَتْ؛ أَو عَدَتْ بصاحِبِها، أَو تَفَرَّقَتْ نافِرةً وانْتَشَرَتْ وفي الصِّحاح؛ الاسْتِنْعاءُ شِبْهُ النِّفارِ، يقالُ: اسْتَنْعَى الإِبِلُ والقوْمُ إذا تفرَّقُوا من شيءٍ وانْتَشَرُوا، انتَهَى.
ولو أَنَّ قومًا مُجْتَمِعِين قيلَ لهم شيء ففَزِعُوا منه وتفرَّقُوا نافِرِين قلْت: اسْتَنْعَوْا؛ زادَ الزَّمْخَشري: كلها يَنْتَشِرُ النَّعِيُّ، وهو مجازٌ.
واسْتَنْعَى الرَّجُل الغَنَم: إذا تقدَّمَها ودَعاها لتَتْبَعَه، نقلَهُ الجَوْهرِي.
وتَناعَى القَوْمُ؛ وفي الصِّحاح: بنُو فلانٍ، إذا نَعَوْا قَتْلاهُم ليُحَرِّضَ بعضُهم بعضًا؛ هذا نصّ الجَوْهرِي.
وفي المُحْكم: تَناعَوا في الحَرْبِ نَعَوْا قَتْلاهُم ليُحَرِّضُوا على القَتْل وطَلَبِ الثَّار.
والمَنْعَى والمَنْعاةُ، كمَسْعَى ومَسْعاةٍ: خَبَرُ المَوْتِ.
يقالُ: ما كانَ مَنْعَى فلانٍ مَنْعاةً واحِدةً، ولكنَّه كان مَناعِيَ.
وفي الصِّحاح: قالَ الأصْمعي كانتِ العَرَبُ إذا ماتَ فيهم مَيِّتٌ له قَدْر رَكِبَ راكِبٌ فَرسًا وجَعَلَ يَسِيرُ في النَّاس ويقولُ: نَعَاء فلانًا، كقطامِ؛ أَي انْعَهْ، بكسْر الهَمْزةِ، وفتح العينِ، وأظْهِرْ خَبَرَ وَفاتِه، وهي مَبْنِيَّة على الكَسْر مِثْل دَراكِ ونزالِ بمعْنَى أَدْرِكْ وانْزِلْ. وفي الحديثِ: يا نَعاءَ العَرَبِ؛ أَي انْعهِم؛ وأنْشَدَ أَبو عبيدٍ للكُمَيْت:
نَعاءِ جُذامًا غَيْرَ مَوْتٍ ولا قَتْلِ *** ولكِنْ فِراقًا للدَّعائِم والأَصْلِ
وقال ابنْ الأثير: قولُهم يا نَعاءَ العَرَبِ مع حَرْف النِّداء تَقْديرُه يا هذَا انْعَ العَرَبَ.
وممَّا يُسْتَدركُ عليه:
اسْتَنْعَوْا في الحَرْبِ: مِثْل تَنَاعَوا ونَعَى فلان: طَلَبَ بثَارِه.
ونَعَى عليه الشيءَ يَنْعاهُ: قَبَّحه وعابَهُ عليه ووَبَّخه؛ ومنه حديثُ عُمَر: «إنَّ الله نَعَى على قوْم شَهَواتِهم؛ أَي عابَ عليهم ونَعَى عليه ذُنُوبَه تَنْعِيةً: مثْلُ نعى، حَكاهُ يَعْقوب في المُبْدلِ.
وقال أَبو عَمْرٍو: يقالُ: أَنْعَى عليه ونَعَى عليه شيئًا قَبيحًا إذا قالَهُ تَشْنيعًا عليه؛ وقولُ الأَجْدع الهَمَداني:
خَيْلانِ مِنْ قَوْمي ومِن أَعْدائِهِمْ *** خَفَضُوا أَسِنَّتَهم فكلُّ ناعِي
قال الجَوْهري: قالَ الأصْمعي: هو مِن نَعَيْتُ؛ أَي كلٌّ يَنْعى مَنْ قُتِلَ له؛ وقيلَ مَعْناه: وكُلٌّ نائِعٌ أَي عَطْشان إلى دَم صاحِبِه فقَلَبه.
وفي حديث شدَّاد بنِ أَوْس: «يا نَعايا العَرَب، إنَّ أَخْوَف ما أَخافُ عَلَيْكم الرِّياء والشَّهْوَةَ الخَفِيَّةَ، وفي رِواية: يا نُعْيانَ العَرَبِ.
قالَ الزَّمَخْشري: في نَعايا ثلاثَةُ أوْجُهٍ: أَحَدُها أَنْ يكونَ جَمْعَ نَعِيٍّ، وهو المَصْدَرُ كصَفِيٍّ وصَفايا؛ والثاني: أَنْ يكونَ اسْمَ جَمْعٍ كما جاءَ في أَخِيَّةٍ وأَخايا؛ والثالثُ: أَن يكونَ جَمْعَ نَعاءٍ التي هي اسْمُ الفِعْل، والمَعْنى يا نَعايا العَرَب جِئْنَ فهذا وقْتكنَّ وزَمانكُنَّ، يريدُ أَنَّ العَرَبَ قد هَلكَتْ. والنُّعْيان مَصْدَرٌ بمعْنَى النَّعْي.
قالَ الأزْهري: ويكونُ النّعْيان جَمْع الناعِي، كما يقالُ لجمْعِ الرَّاعِي رُعْيان، قالَ وسَمِعْتُ بعضَ العَرَبِ يقولُ لخَدَمِه: إذا جَنَّ عليكم اللّيْلُ فثَقِّبوا النِّيرانَ فوْقَ القيروان تَضْوي إليها رُعْيانُنا ونُعْيانُنا؛ قالَ: وقد يُجْمَع النَّعِيُّ نَعايا، كما يُجْمَع المَرِيُّ من النُّوقِ مَرايا، والصَّفِيُّ صَفايا.
وقالَ الأحْمر ذَهَبَتْ تمِيمٌ فلا تُنْعى ولا تُشْهَر؛ أَي لا تُذْكَر.
والناعِي: المُشِيعُ، والجمْعُ نُعاةٌ.
واسْتَنْعَى ذِكْرُ فلانٍ: شاعَ.
وقال الأصْمعي: اسْتَنْعى بفلانٍ الشَّرّ إذا تَتابَعَ به الشَّرَّ.
واسْتَنْعَى به حُبّ الخَمْر: إذا تَمادَى به؛ نقلَهُ الجَوْهرِي.
والإِنْعاءُ: أنْ تَسْتَعيرَ فَرَسًا تُراهِنُ عليه وذِكْرُه لصاحِبِه؛ حَكاهُ ابنُ دُرَيْدٍ؛ وقالَ: لا أَحُقُّه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
68-المصباح المنير (يوم)
الْيَوْمُ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلِهَذَا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا بِالنَّهَارِ وَأَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَقُولُ فَعَلْتُهُ أَمْسِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي النَّهَارِ الْمَاضِي وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْيَقُولَ أَمْسِ الْأَقْرَبَ أَوْ الْأَحْدَثَ وَالْيَوْمُ مُذَكَّرٌ وَجَمْعُهُ أَيَّامٌ وَأَصْلُهُ أَيْوَامٌ وَتَأْنِيثُ الْجَمْعِ أَكْثَرُ فَيُقَالُ أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ وَشَرِيفَةٌ وَالتَّذْكِيرُ عَلَى مَعْنَى الْحِينِ وَالزَّمَانِ وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ الْيَوْمَ وَتُرِيدُ الْوَقْتَ وَالْحِينَ نَهَارًا كَانَ أَوْ لَيْلًا فَتَقُولُ ذَخَرْتُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ أَيْ لِهَذَا الْوَقْتِ الَّذِي افْتَقَرْتُ فِيهِ إلَيْكَ وَلَا يَكَادُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ يَوْمَئِذٍ وَحِينَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ.
وِيَامٌ قَبِيلَةٌ مِنْ الْيَمَنِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ يَامِيٌّ عَلَى لَفْظِهِ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
69-لسان العرب (قرأ)
قرأ: القُرآن: التَّنْزِيلُ الْعَزِيزُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى مَا هُوَ أَبْسَطُ مِنْهُ لشَرفه.قَرَأَهُ يَقْرَؤُهُ ويَقْرُؤُهُ، الأَخيرة عَنِ الزَّجَّاجِ، قَرْءًا وقِراءَةً وقُرآنًا، الأُولى عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، فَهُوَ مَقْرُوءٌ.
أَبو إِسحاق النَّحْوِيُّ: يُسمى كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنزله عَلَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا وقُرْآنًا وفُرْقانًا، وَمَعْنَى القُرآن مَعْنَى الْجَمْعِ، وَسُمِّيَ قُرْآنًا لأَنه يَجْمَعُ السُّوَر، فيَضُمُّها.
وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، أَي جَمْعَه وقِراءَته، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَي قِراءَتَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فإِذا بيَّنَّاه لَكَ بالقراءَة، فاعْمَلْ بِمَا بَيَّنَّاه لَكَ، فأَما قَوْلُهُ:
هُنَّ الحَرائِرُ، لَا ربَّاتُ أَحْمِرةٍ، ***سُودُ المَحاجِرِ، لَا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
فَإِنَّهُ أَراد لَا يَقْرَأْنَ السُّوَر، فَزَادَ الباءَ كقراءَة مَنْ قرأَ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ، وقِراءَة منْ قرأَ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، أَي تُنْبِتُ الدُّهنَ ويُذْهِبُ الأَبصارَ.
وقَرَأْتُ الشيءَ قُرْآنًا: جَمَعْتُه وضَمَمْتُ بعضَه إِلَى بَعْضٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا قَرأَتْ هَذِهِ الناقةُ سَلىً قَطُّ، وَمَا قَرَأَتْ جَنِينًا قطُّ.
أَي لَمْ يَضْطَمّ رَحِمُها على ولد، وأَنشد: هِجانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا وَقَالَ: قَالَ أَكثر النَّاسِ مَعْنَاهُ لَمْ تَجْمع جَنِينًا أَي لَمْ يَضطَمّ رَحِمُها عَلَى الْجَنِينِ.
قَالَ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: لَمْ تقرأْ جَنِينًا أَي لَمْ تُلْقه.
وَمَعْنَى قَرَأْتُ القُرآن: لَفَظْت بِهِ مَجْمُوعًا أَي أَلقيته.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قرأَ الْقُرْآنَ عَلَى إِسماعيل بن قُسْطَنْطِين، وَكَانَ يَقُولُ: القُران اسْمٌ، وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ، وَلَمْ يُؤْخذ مِنْ قَرأْت، ولكنَّه اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ والإِنجيل، ويَهمز قرأْت وَلَا يَهمز القرانَ، كَمَا تَقُولُ إِذَا قَرَأْتُ القُرانَ.
قَالَ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: قَرأْتُ عَلَى شِبْل، وأَخبر شِبْلٌ أَنه قَرَأَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِير، وأَخبر عَبْدُ اللَّهِ أَنه قرأَ عَلَى مُجَاهِدٍ، وأَخبر مُجَاهِدٌ أَنه قرأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وأَخبر ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قرأَ عَلَى أُبَيٍّ، وقرأَ أُبَيٌّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ المقرئُ: كَانَ أَبو عَمرو بْنُ العلاءِ لَا يَهْمِزُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يقرؤُه كَمَا رَوى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَقْرَؤُكم أُبَيٌّ».
قَالَ ابْنُ الأَثير: قِيلَ أَراد مِنْ جَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ، أَو فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوقات، فإنَّ غَيْرَهُ كَانَ أَقْرَأَ مِنْهُ.
قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يُرِيدَ بِهِ أَكثرَهم قِراءَة، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ عَامًّا وأَنه أَقرأُ الصَّحَابَةِ أَي أَتْقَنُ للقُرآن وأَحفظُ.
وَرَجُلٌ قارئٌ مِنْ قَوْم قُرَّاءٍ وقَرَأَةٍ وقارِئِين.
وأَقْرَأَ غيرَه يُقْرِئه إِقراءً.
وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ المُقْرِئُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَرَأَ واقْتَرأَ، بِمَعْنًى، بِمَنْزِلَةِ عَلا قِرْنَه واسْتَعْلاه.
وصحيفةٌ مقْرُوءَةٌ، لَا يُجِيز الْكِسَائِيُّ والفرَّاءُ غيرَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَحَكَى أَبو زَيْدٍ: صَحِيفَةٌ مَقْرِيَّةٌ، وَهُوَ نَادِرٌ إِلا فِي لُغَةِ مَنْ قَالَ قَرَيْتُ.
وَقَرأتُ الكتابَ قِراءَةً وقُرْآنًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقُرْآنُ.
وأَقْرَأَه القُرآنَ، فَهُوَ مُقْرِئٌ.
وَقَالَ ابْنُ الأَثير: تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ القِراءَة والاقْتراءِ والقارِئِ والقُرْآن، والأَصل فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْجَمْعُ، وكلُّ شيءٍ جَمَعْتَه فَقَدَ قَرَأْتَه.
وَسُمِّيَ القرآنَ لأَنه جَمَعَ القِصَصَ والأَمرَ والنهيَ والوَعْدَ والوَعِيدَ والآياتِ والسورَ بعضَها إِلَى بعضٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كالغُفْرانِ والكُفْرانِ.
قَالَ: وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ لأَنّ فِيهَا قِراءَةً، تَسْمِيةً للشيءِ ببعضِه، وَعَلَى القِراءَة نَفْسِها، يُقَالُ: قَرَأَ يَقْرَأُ قِراءَةً وقُرآنًا.
والاقْتِراءُ: افتِعالٌ مِنَ القِراءَة.
قَالَ: وَقَدْ تُحذف الْهَمْزَةُ مِنْهُ تَخْفِيفًا، فَيُقَالُ: قُرانٌ، وقَرَيْتُ، وقارٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّصْرِيفِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَكثرُ مُنافِقي أُمَّتِي قُرّاؤُها» أَي أَنهم يَحْفَظونَ القُرآنَ نَفْيًا للتُّهمَة عَنْ أَنفسهم، وَهُمْ مُعْتَقِدون تَضْيِيعَه.
وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي عَصْر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وقَارَأَه مُقارَأَةً وقِراءً، بِغَيْرِ هَاءٍ: دارَسه.
واسْتَقْرَأَه: طَلَبَ إِلَيْهِ أَن يَقْرَأَ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَسَمَّعْتُ للقَرَأَةِ فإِذا هُمْ مُتَقارِئُون؛ حكاهُ اللِّحْيَانِيِّ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنّ الجنَّ كَانُوا يَرُومون القِراءَةَ.
وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فِي ذِكْرِ سُورَةِ الأَحزابِ: «إِن كَانَتْ لَتُقارئُ سورةَ البقرةِ، أَو هِيَ أَطْولُ»؛ أي تُجاريها مَدَى طولِها فِي القِراءَة، أَو إِن قارِئَها ليُساوِي قارِئَ الْبَقَرَةِ فِي زمنِ قِراءَتها؛ وَهِيَ مُفاعَلةٌ مِنَ القِراءَةِ.
قَالَ الخطابيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ هَاشِمٍ، وأَكثر الرِّوَايَاتِ: إِن كَانَتْ لَتُوازي.
وَرَجُلٌ قَرَّاءٌ: حَسَنُ القِراءَة مِنْ قَوم قَرائِين، وَلَا يُكَسَّرُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنه كَانَ لَا يَقْرَأُ فِي الظُّهر وَالْعَصْرِ»، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، مَعْنَاهُ: أَنه كَانَ لَا يَجْهَر بالقِراءَة فِيهِمَا، أَو لَا يُسْمِع نَفْسَه قِراءَتَه، كأَنه رَأَى قومًا يقرؤون فيُسَمِّعون نفوسَهم ومَن قَرُبَ مِنْهُمْ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، يُرِيدُ أَن القِراءَة الَّتِي تَجْهَرُ بِهَا، أَو تُسْمِعُها نفْسَك، يَكَتُبُهَا الْمَلَكَانِ، وَإِذَا قَرأْتَها فِي نفْسِك لَمْ يَكْتُباها، وَاللَّهُ يَحْفَظُها لَكَ وَلَا يَنْساها لِيُجازِيَكَ عَلَيْهَا.
والقَارِئُ والمُتَقَرِّئُ والقُرَّاءُ كُلّه: الناسِكُ، مِثْلُ حُسَّانٍ وجُمَّالٍ.
وقولُ زَيْد بنِ تُركِيٍّ الزُّبَيْدِيّ، وَفِي الصِّحَاحِ قَالَ الفرّاءُ: أَنشدني أَبو صَدَقة الدُبَيْرِيّ:
بَيْضاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ، وتَسْتَبِي، ***بالحُسْنِ، قَلْبَ المُسْلمِ القُرَّاء
القُرَّاءُ: يَكُونُ مِنَ القِراءة جَمْعَ قارئٍ، وَلَا يَكُونُ مِنَ التَّنَسُّك، وَهُوَ أَحسن.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنْشَادِهِ بيضاءَ بِالْفَتْحِ لأَنّ قَبْلَهُ:
وَلَقَدْ عَجِبْت لكاعِبٍ، مَوْدُونةٍ، ***أَطْرافُها بالحَلْيِ والحِنّاءِ
ومَوْدُونةٌ: مُلَيَّنةٌ؛ وَدَنُوه أَي رَطَّبُوه.
وَجَمْعُ القُرّاء: قُرَّاؤُون وقَرائِئُ، جاؤوا بِالْهَمْزِ فِي الْجَمْعِ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مُنْقَلِبةٍ بَلْ مَوْجُودَةٌ فِي قَرَأْتُ.
الفرَّاء، يُقَالُ: رَجُلٌ قُرَّاءٌ وامْرأَة قُرَّاءةٌ.
وتَقَرَّأَ: تَفَقَّه.
وتَقَرَّأَ: تَنَسَّكَ.
وَيُقَالُ: قَرَأْتُ أَي صِرْتُ قَارِئًا ناسِكًا.
وتَقَرَّأْتُ تَقَرُّؤًا، فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ: تَفَقَّهْتُ.
وَيُقَالُ: أَقْرَأْتُ فِي الشِّعر، وَهَذَا الشِّعْرُ عَلَى قَرْءِ هَذَا الشِّعْر أَي طريقتِه ومِثاله.
ابْنُ بُزُرْجَ: هَذَا الشِّعْرُ عَلَى قَرِيِّ هَذَا.
وقَرَأَ عَلَيْهِ السلامَ يَقْرَؤُه عَلَيْهِ وأَقْرَأَه إِياه: أَبلَغه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن الرّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُكَ السلامَ».
يُقَالُ: أَقْرِئْ فُلَانًا السَّلامَ واقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلامَ، كأَنه حِينَ يُبَلِّغُه سَلامَه يَحمِلهُ عَلَى أَن يَقْرَأَ السلامَ ويَرُدَّه.
وَإِذَا قَرَأَ الرجلُ القرآنَ والحديثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ: أَقْرَأَنِي فلانٌ أَي حَمَلَنِي عَلَى أَن أَقْرَأَ عَلَيْهِ.
والقَرْءُ: الوَقْتُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا السَّماءُ لَمْ تَغِمْ، ثُمَّ أَخْلَفَتْ ***قُروء الثُّرَيَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا قَطْرُ
يُرِيدُ وَقْتَ نَوْئها الَّذِي يُمْطَرُ فِيهِ الناسُ.
وَيُقَالُ للحُمَّى: قَرْءٌ، وَلِلْغَائِبِ: قَرْءٌ، وللبعِيد: قَرْءٌ.
والقَرْءُ والقُرْءُ: الحَيْضُ، والطُّهرُ ضِدّ.
وَذَلِكَ أَنَّ القَرْء الْوَقْتُ، فَقَدْ يَكُونُ للحَيْض والطُهر.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: القَرْءُ يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ.
قَالَ: وَأَظُنُّهُ مِنْ أَقْرَأَتِ النُّجومُ إِذَا غابتْ.
وَالْجَمْعُ: أَقْراء.
وَفِي الْحَدِيثِ: «دَعي الصلاةَ أَيامَ أَقْرَائِكِ».
وقُروءٌ، عَلَى فُعُول، وأَقْرُؤٌ، الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ فِي أَدنى الْعَدَدِ، وَلَمْ يَعْرِفْ سِيبَوَيْهِ أَقْراءً وَلَا أَقْرُؤًا.
قَالَ: اسْتَغَنَوْا عَنْهُ بفُعُول.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، أَراد ثلاثةَ أَقْراء مِنْ قُرُوء، كَمَا قَالُوا خَمْسَةُ كِلاب، يُرادُ بِهَا خمسةٌ مِن الكِلاب.
وَكَقَوْلِهِ: خَمْسُ بَنانٍ قانِئِ الأَظْفارِ أَراد خَمْسًا مِنَ البَنانِ.
وَقَالَ الأَعشى:
مُوَرَّثةً مَالًا، وَفِي الحَيِّ رِفعْةً، ***لِما ضاعَ فِيها مِنْ قُرُوءِ نِسائِكا
وَقَالَ الأَصمعي فِي قَوْلِهِ تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، قَالَ: جَاءَ هَذَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، والقياسُ ثلاثةُ أَقْرُؤٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَن يُقَالَ ثلاثةُ فُلُوس، إِنما يُقَالُ ثلاثةُ أَفْلُسٍ، فَإِذَا كَثُرت فَهِيَ الفُلُوس، وَلَا يُقَالُ ثَلاثةُ رِجالٍ، وإنما هِيَ ثلاثةُ رَجْلةٍ، وَلَا يُقَالُ ثلاثةُ كِلاب، إِنَّمَا هِيَ ثلاثةُ أَكْلُبٍ.
قَالَ أَبو حَاتِمٍ: وَالنَّحْوِيُّونَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}.
أَراد ثَلَاثَةً مِنَ القُرُوء.
أَبو عُبَيْدٍ: الأَقْراءُ: الحِيَضُ، والأَقْراء: الأَطْهار، وَقَدْ أَقْرَأَتِ المرأَةُ، فِي الأَمرين جَمِيعًا، وأَصله مِنْ دُنُوِّ وقْتِ الشَّيْءِ.
قَالَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: القَرْء اسْمٌ لِلْوَقْتُ فَلَمَّا كَانَ الحَيْضُ يَجِيء لِوقتٍ، والطُّهر يَجِيءُ لوقْتٍ جَازَ أَن يَكُونَ الأَقْراء حِيَضًا وأَطْهارًا.
قَالَ: ودَلَّت سنَّةُ رَسُولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَراد بِقَوْلِهِ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ: الأَطْهار.
وَذَلِكَ أَنَّ ابنَ عُمَرَ لمَّا طَلَّقَ امرأَتَه، وَهِيَ حائضٌ، فاسْتَفْتَى عُمرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُراجِعها، فإِذا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْها، فتِلك العِدّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَهُ تَعَالَى أَن يُطَلَّقَ لَهَا النِّساءُ.
وَقَالَ أَبو إِسْحَاقَ: الَّذي عِنْدِي فِي حَقِيقَةِ هَذَا أَنَّ القَرْءَ، فِي اللُّغَةِ، الجَمْعُ.
وأَنّ قَوْلَهُمْ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الحَوْضِ، وإِن كَانَ قَدْ أُلْزِمَ الياءَ، فَهُوَ جَمَعْتُ، وقَرَأْتُ القُرآنَ: لَفَظْتُ بِهِ مَجْموعًا، والقِرْدُ يَقْرِي أَي يَجْمَعُ مَا يَأْكُلُ فِي فِيهِ، فإنَّما القَرْءُ اجْتماعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الطُّهر.
وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنهما قَالًا: الأَقْراء والقُرُوء: الأَطْهار.
وحَقَّقَ هَذَا اللفظَ، مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، قولُ الأَعشى: لِما ضاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائكا فالقُرُوءُ هُنَا الأَطْهارُ لَا الحِيَضُ، لأَن النّساءَ إِنما يُؤْتَيْن فِي أَطْهارِهِنَّ لَا فِي حِيَضِهنَّ، فإِنما ضاعَ بغَيْبَتِه عنهنَّ أَطْهارُهُنَّ، وَيُقَالُ: قَرَأَتِ المرأَةُ: طَهُرت، وقَرَأَتْ: حاضَتْ.
قَالَ حُمَيْدٌ:
أَراها غُلامانا الخَلا، فتَشَذَّرَتْ ***مِراحًا، وَلَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا وَلَا دَما
يُقَالُ: لَمْ تَحْمِلْ عَلَقةً أَي دَمًا وَلَا جَنِينًا.
قَالَ الأَزهريُّ: وأَهلُ العِراق يَقُولُونَ: القَرْءُ: الحَيْضُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعِي الصلاةَ أَيَّامَ أَقْرائِكِ، أَي أَيامَ حِيَضِكِ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ والفَرّاء مَعًا: أَقْرأَتِ المرأَةُ إِذَا حاضَتْ، فَهِيَ مُقْرِئٌ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَقْرأَتِ الحاجةُ إِذَا تَأَخَّرَتْ.
وَقَالَ الأَخفش: أَقْرأَتِ المرأَةُ إِذَا حاضَتْ، وَمَا قَرَأَتْ حَيْضةً أَي مَا ضَمَّت رَحِمُها عَلَى حَيْضةٍ.
قَالَ ابْنُ الأَثير: قَدْ تكرَّرت هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْحَدِيثِ مُفْرَدةً ومَجْمُوعةً، فالمُفْردة، بِفَتْحِ الْقَافِ وَتُجْمَعُ عَلَى أَقْراءٍ وقُروءٍ، وَهُوَ مِنَ الأَضْداد، يَقَعُ عَلَى الطُّهْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأَهل الحِجاز، وَيَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبو حَنِيفَةَ وأَهل العِراق، والأَصل فِي القَرْءِ الوَقْتُ الْمَعْلُومُ، وَلِذَلِكَ وقعَ عَلَى الضِّدَّيْن، لأَن لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتًا.
وأَقْرأَتِ المرأَةُ إِذَا طَهُرت وَإِذَا حَاضَتْ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَراد بالأَقْراءِ فِيهِ الحِيَضَ، لأَنه أَمَرَها فِيهِ بِتَرْك الصلاةِ.
وأَقْرَأَتِ المرأَةُ، وَهِيَ مُقْرِئٌ: حاضَتْ وطَهُرَتْ.
وقَرَأَتْ إِذَا رَأَتِ الدمَ.
والمُقَرَّأَةُ: الَّتِي يُنْتَظَرُ بِهَا انْقِضاءُ أَقْرائها.
قَالَ أَبو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: دَفَع فُلَانٌ جاريتَه إِلَى فُلانة تُقَرِّئُها أَي تُمْسِكُها عِنْدَهَا حَتَّى تَحِيضَ للاسْتِبراءِ.
وقُرِئَتِ المرأَةُ: حُبِسَتْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها.
وَقَالَ الأَخفش: أَقْرَأَتِ المرأَةُ إِذَا صَارَتْ صاحِبةَ حَيْضٍ، فإِذا حَاضَتْ قُلْتَ: قَرَأَتْ، بِلَا أَلف.
يُقَالُ: قَرَأَتِ المرأَةُ حَيْضَةً أَو حَيْضَتَيْن.
والقَرْءُ انْقِضاءُ الحَيْضِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَيْنَ الحَيْضَتَيْن.
وَفِي إِسْلامِ أَبي ذَرّ: لَقَدْ وضَعْتُ قولَه عَلَى أَقْراءِ الشِّعْر، فَلَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسانِ أَحدٍ أَي عَلَى طُرُق الشِّعْر وبُحُوره، وَاحِدُهَا قَرْءٌ، بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَو غَيْرُهُ: أَقْراءُ الشِّعْر: قَوافِيه الَّتِي يُخْتَمُ بِهَا، كأَقْراءِ الطُّهْر الَّتِي يَنْقَطِعُ عِندَها.
الْوَاحِدُ قَرْءٌ وقُرْءٌ وقَرِيءٌ، لأَنها مَقَاطِعُ الأَبيات وحُدُودُها.
وقَرَأَتِ الناقةُ والشَّاةُ تَقْرَأُ: حَمَلَتْ.
قَالَ: هِجانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا """"وَنَاقَةٌ قارئٌ، بِغَيْرِ هَاءٍ، وَمَا قَرَأَتْ سَلًى قَطُّ: مَا حَمَلَتْ مَلْقُوحًا، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: مَعْنَاهُ مَا طَرَحَتْ.
وقَرَأَتِ الناقةُ: وَلَدت.
وأَقْرَأَت الناقةُ والشاةُ: اسْتَقَرَّ الماءُ فِي رَحِمِها؛ وَهِيَ فِي قِرْوتها، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، والقِياسُ قِرْأَتها.
وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه قَالَ يُقَالُ: مَا قَرَأَتِ الناقةُ سَلًى قَطُّ، وَمَا قَرَأَتْ مَلْقُوحًا قَطُّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ تَحْمِلْ فِي رَحمِها وَلَدًا قَطُّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَسْقَطَتْ وَلَدًا قَطُّ أَي لَمْ تَحْمِلْ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: ضَرَبَ الفحلُ الناقةَ عَلَى غَيْرِ قُرْءٍ، وقُرْءُ الناقةِ: ضَبَعَتُها.
وَهَذِهِ نَاقَةٌ قارئٌ وَهَذِهِ نُوقٌ قَوارِئُ يَا هَذَا؛ وَهُوَ مِنْ أَقْرأَتِ المرأَةُ، إِلَّا أَنه يُقَالُ فِي المرأَة بالأَلف وَفِي النَّاقَةِ بِغَيْرِ أَلف.
وقَرْءُ الفَرَسِ: أَيامُ وداقِها، أَو أَيام سِفادِها، وَالْجَمْعُ أَقْراءٌ.
واسْتَقْرَأَ الجَملُ الناقةَ إِذَا تارَكَها ليَنْظُر أَلَقِحَت أَم لَا.
أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا دَامَتِ الوَدِيقُ فِي وَداقِها، فَهِيَ فِي قُرُوئِها، وأَقْرائِها.
وأَقْرأَتِ النُّجوم: حانَ مغِيبها.
وأَقْرَأَتِ النجومُ أَيضًا: تأَخَّر مَطَرُها.
وأَقْرَأَتِ الرِّياحُ: هَبَّتْ لأَوانِها ودَخلت فِي أَوانِها.
والقارئُ: الوَقْتُ.
وَقَوْلُ مَالِكِ بْنِ الحَرثِ الهُذَليّ:
كَرِهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ، ***إِذَا هَبَّتْ، لقارئِها، الرِّياحُ
أَي لوَقْتِ هُبُوبِها وشِدَّة بَرْدِها.
والعَقْرُ: مَوضِعٌ بعَيْنِه.
وشَلِيلٌ: جَدُّ جَرِير بْنَ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيّ.
وَيُقَالُ هذا قارِيءُ الرِّيح: لوَقْتِ هُبُوبِها، وَهُوَ مِنْ بَابِ الكاهِل والغارِب، وَقَدْ يَكُونَ عَلَى طَرْحِ الزَّائد.
وأَقْرَأَ أَمْرُك وأَقْرَأَتْ حاجَتُك، قِيلَ: دَنَا، وَقِيلَ: اسْتَأْخَر.
وَفِي الصِّحَاحِ: وأَقْرَأَتْ حاجَتُكَ: دَنَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْتَمْتَ قِراكَ أَم أَقْرَأْتَه أَي أَحَبَسْتَه وأَخَّرْته؟ وأَقْرَأَ مِنْ أَهْله: دَنا.
وأَقْرَأَ مِنْ سَفَرِه: رَجَعَ.
وأَقْرَأْتُ مِنْ سَفَري أَيْ انْصَرَفْتُ.
والقِرْأَةُ، بِالْكَسْرِ، مِثْلُ القِرْعةِ: الوَباءُ.
وقِرْأَةُ البِلاد: وَباؤُها.
قَالَ الأَصمعي: إِذَا قَدِمْتَ بِلَادًا فَمَكَثْتَ بِهَا خَمْسَ عَشْرةَ لَيْلَةً، فَقَدْ ذَهَبَتْ عنكَ قِرْأَةُ الْبِلَادِ، وقِرْءُ الْبِلَادِ.
فأَما قَوْلُ أَهل الْحِجَازِ قِرَةُ الْبِلَادِ، فَإِنَّمَا هو على حذف الْهَمْزَةِ المتحرِّكة وَإِلْقَائِهَا عَلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِيَاسِ، فأَما إغرابُ أَبِي عُبَيْدٍ، وظَنُّه إِيَّاهُ لُغَةً، فَخَطأٌ.
وَفِي الصِّحَاحِ: أَن قَوْلَهُمْ قِرةٌ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، مَعْنَاهُ: أَنه إِذَا مَرِضَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ وَباءِ البلاد.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
70-لسان العرب (سطح)
سطح: سَطَحَ الرجلَ وَغَيْرَهُ يَسطَحه، فَهُوَ مسْطوحٌ وسَطِيح: أَضْجَعَه وَصَرَعَهُ فَبَسَطَهُ عَلَى الأَرض.وَرَجُلٌ مَسْطُوحٌ وسَطِيحٌ: قَتيلٌ منبَسِطٌ؛ قَالَ اللَّيْثُ: السَّطِيحُ المَسْطُوحُ هُوَ الْقَتِيلُ: وأَنشد:
حَتَّى يَراه وَجْهها سَطِيحا والسَّطِيح: الْمُنْبَسِطُ، وَقِيلَ: الْمُنْبَسِطُ الْبَطِيءُ الْقِيَامُ مِنَ الضَّعْفِ.
والسَّطِيح: الَّذِي يُولَدُ ضَعِيفًا لَا يقدر
عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَهُوَ أَبدًا مُنْبَسِطٌ.
والسَّطِيح: الْمُسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهُ مِنَ الزِّمَانَةِ.
وسَطِيحٌ: هَذَا الْكَاهِنُ الذِّئْبيُّ، مِنْ بَنِي ذِئْب، كَانَ يَتَكَهَّنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه كَانَ إِذا غَضِبَ قَعَدَ مُنْبَسِطًا فِيمَا زَعَمُوا؛ وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْنَ مَفَاصِلِهِ قَصَبٌ تَعْمِدُه، فَكَانَ أَبدًا مُنْبَسِطًا مُنْسَطِحًا عَلَى الأَرض لَا يَقْدِرُ عَلَى قِيَامٍ وَلَا قُعُودٍ، وَيُقَالُ: كَانَ لَا عَظْمَ فِيهِ سِوَى رأْسه.
رَوَى الأَزهري بإِسناده عَنِ مَخْزُوم بْنِ هانئٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبيه: وأَتت لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ؛ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَجَسَ إِيوانُ كِسْرى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَربع عَشْرَةَ شُرْفةً، وخَمِدَتْ نَارُ فارِسَ وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ مِائَةَ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَة ساوَةَ؛ ورأَى المُوبِذانُ إِبلًا صِعابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَة وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصبح كِسْرَى أَفزعه مَا رأَى فَلَبِسَ تَاجَهُ وأَخبر مرازِبَتَه بِمَا رأَى، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ؛ فَقَالَ المُوبِذانُ: وأَنا رأَيت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فِي الإِبل، فَقَالَ لَهُ: وأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: حَادَثَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَرَبِ.
فَبَعَثَ كِسْرَى إِلى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: أَنِ ابْعَثْ إِليَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ لِيُخْبِرَنِي عَمَّا أَسأَله؛ فَوَجَّه إِليه بِعَبْدِ المَسيح بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيلَة الغسَّانيّ، فأَخبره بِمَا رأَى؛ فَقَالَ: عَلِمَ هَذَا عِنْدَ خَالِيَ سَطِيح، قَالَ: فأْتِه وسَلْه وأْتنِي بِجَوَابِهِ؛ فَقَدِمَ عَلَى سَطِيح وَقَدْ أَشْفى عَلَى الْمَوْتِ، فأَنشأَ يَقُولُ:
أَصَمّ أَم يَسْمَعُ غِطرِيفُ اليَمنْ؟ ***أَم فادَ فازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ العَنَنْ؟
يَا فاصِلَ الخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ ***، أَتاكَ شَيْخُ الحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ
رسولُ قَيْلِ العُجْمِ يَسْري للوَسَنْ، ***وأُمُّه مِنْ آلِ ذِئْبِ بنِ حَجَنْ
أَبْيضُ فَضْفاضُ الرِّداءِ والبَدَنْ، ***تَجُوبُ بِي الأَرْضَ عَلَنْداةٌ شَزَنْ،
تَرْفَعُنِي وَجْنًا وتَهْوِي بِي وَجَنْ ***، حَتَّى أَتى عارِي الْجَآجِي والقَطَنْ،
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ، ***تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغاءُ الدِّمَنْ
، كأَنما حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رأْسه، فَقَالَ: عبدُ الْمَسِيحِ، عَلَى جَمَل مُسيح، إِلى سَطيح، وَقَدْ أَوْفى عَلَى الضَّريح، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الإِيوان، وخُمُود النِّيرَانِ، ورُؤيا المُوبِذان، رَأَى إِبلًا صِعابًا، تَقُود خَيْلًا عِرابًا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذا كَثُرَتِ التِّلاوَة، وبُعِثَ صَاحِبُ الهِراوة، وغاضَتْ بُحَيْرَة سَاوَةْ، فَلَيْسَ الشَّامَ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلوكٌ ومَلِكات، عَلَى عددِ الشُّرُفاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، ثُمَّ قُبِضَ سطيحٌ مَكَانَهُ، وَنَهَضَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فإِنك، مَا عُمِّرْتَ، شِمِّيرُ ***لَا يُفْزِعَنَّك تَفْريقٌ وتَغْييرُ
إِن يُمْسِ مُلْكُ بَنِي ساسانَ أَفْرَطَهُمْ، ***فإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوارٌ دَهارِيرُ
فَرُبَّما رُبَّما أَضْحَوا بمنزلةٍ، ***تَخافُ صَولَهُمُ أُسْدٌ مَهَاصِيرُ
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرام، وإِخْوَتُهُمْ، ***وهُرْمُزانٌ، وسابورٌ، وسَابُورُ
والناسُ أَوْلادُ عَلَّاتٍ، فَمَنْ عَلِمُوا ***أَن قَدْ أَقَلَّ، فمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وَهُمْ بَنُو الأُمِّ لمَّا أَنْ رَأَوْا نَشَبًا، ***فذاكَ بالغَيْبِ محفوظٌ ومنصورُ
والخيرُ والشَّرُّ مَقْرُونانِ فِي قَرَنٍ، ***فالخَيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذورُ
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخبره بِقَوْلِ سَطِيحٍ؛ فَقَالَ كِسْرَى: إِلى أَن يَمْلِكَ مِنَّا أَربعة عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمور، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَربع سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وانْسَطَحَ الرجلُ: امتدَّ عَلَى قَفَاهُ وَلَمْ يَتَحَرَّكِ.
والسَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ عَلَى وَجْهِ الأَرض كَمَا تَقُولُ فِي الْحَرْبِ: سَطَحُوهم أَي أَضْجَعُوهم عَلَى الأَرض.
وتَسَطَّحَ الشيءُ وانْسَطَحَ: انْبَسَطَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ للمرأَة الَّتِي مَعَهَا الصِّبْيَانُ: «أَطْعِمِيهم وأَنا أَسْطَحُ لَكِ»أَي أَبْسُطه حَتَّى يَبْرُدَ.
والسَّطْحُ: ظَهْرُ الْبَيْتِ إِذا كَانَ مُسْتَوِيًا لِانْبِسَاطِهِ؛ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعلاه، وَالْجَمْعُ سُطوح، وفعلُك التَّسطيحُ.
وسَطَحَ البيتَ يَسْطَحُه سَطْحًا وسَطَّحه سوَّى سَطْحه.
ورأَيت الأَرضَ مَساطِحَ لَا مَرْعَى بِهَا: شُبِّهَتْ بِالْبُيُوتِ الْمَسْطُوحَةِ.
والسُّطَّاحُ مِنَ النَّبْتِ: مَا افْتَرَشَ فَانْبَسَطَ وَلَمْ يَسْمُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.
وسَطَحَ اللهُ الأَرضَ سَطْحًا: بَسَطَهَا.
وتَسطِيحُ الْقَبْرِ: خِلَافُ تَسْنِيمِه.
وأَنفٌ مُسَطَّحٌ: منبسِط جِدًّا.
والسُّطَّاحُ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: نَبتَةٌ سُهْلِيَّة تَنسَطِح عَلَى الأَرض، وَاحِدَتُهُ سُطَّاحة.
وَقِيلَ: السُّطَّاحة شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي الدِّيَارِ فِي أَعطان الْمِيَاهِ مُتَسَطِّحَة، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَلَيْسَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ؛ قَالَ الأَزهري: والسُّطَّاحة بَقْلَةٌ تَرْعَاهَا الْمَاشِيَةُ ويُغْسَلُ بوَرَقِها الرؤوس.
وسَطَحَ النَّاقَةَ: أَناخها.
والسَّطيحة والسَّطيح: المَزادة الَّتِي مِنْ أَدِيمَيْن قُوبل أَحدُهما بِالْآخَرِ، وَتَكُونُ صَغِيرَةً وَتَكُونُ كَبِيرَةً، وَهِيَ مِنْ أَواني الْمِيَاهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ أَسفاره فَفَقَدوا الماءَ، فأَرْسَل عَلِيًّا وَفُلَانًا يَبْغِيان الْمَاءَ فإِذا هما بامرأَة بين سَطِيحَتَيْن»؛ قَالَ: السَّطِيحة المَزادة تَكُونُ مِنْ جِلْدَيْنِ أَو المَزادة أَكبر مِنْهَا.
والمِسْطَحُ: الصَّفاة يحاط عليها بالحجارة فيجتمع فِيهَا الْمَاءُ؛ قَالَ الأَزهري: والمِسْطَحُ أَيضًا صَفِيحة عَرِيضَةٌ مِنَ الصَّخْر يُحَوَّط عَلَيْهَا لِمَاءِ السَّمَاءِ؛ قَالَ: وَرُبَّمَا خَلَقَ اللَّهُ عِنْدَ فَمِ الرَّكِيَّة صَفاةً مَلْساء مُسْتَوِيَةً فَيُحَوَّطُ عَلَيْهَا بِالْحِجَارَةِ وتُسْقَى فِيهَا الإِبلُ شِبْهَ الحَوْض؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاح:
فِي جنبي مريٍّ ومِسْطَحِ
والمِسْطَحُ: كُوز ذُو جَنْبٍ وَاحِدٍ، يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ.
والمِسْطَحُ والمِسْطَحَةُ: شِبْهُ مِطْهَرة لَيْسَتْ بمربعة، والمِسْطَحُ [المَسْطَحُ]، تُفْتَحُ مِيمُهُ وَتُكْسَرُ: مَكَانٌ مستوٍ يُبْسَطُ عَلَيْهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ ويُسَمَّى الجَرِينَ، يَمَانِيَةٌ.
والمِسْطَحُ: حَصِيرٌ يُسَفُّ مِنْ خُوصِ الدَّوْم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ:
إِذا الأَمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأَنه، ***مِنَ الحَرِّ فِي حَدِّ الظَّهِيرَةِ، مِسْطَحُ
الأَزهري: قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ المِسْطَحُ والمِحْوَرُ والشُّوبَقُ.
والمِسْطَحُ: عمودٌ مِنْ أَعمِدَة الخِباءِ والفُسْطاط؛ وَفِي حَدِيثِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ حَمَلَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ»، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فضربتْ إِحداهما الأُخرى بمسْطَح، فأَلقت جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ؛ وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّة؛ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النَّضْرِيُّ، وَفِي حَوَاشِي ابْنِ بَرِّيٍّ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ:
تَعرَّضَ ضَيطارُو خُزاعَةَ دونَنا، ***وَمَا خَيرُ ضَيطارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ سِلَاحٌ يُقَاتِلُ بِهِ غَيْرَ مِسْطَح.
والضَّيْطارُ: الضَّخْمُ الَّذِي لَا غَناءَ عِنْدَهِ.
والمِسْطَحُ: الْخَشَبَةُ المُعَرَّضة عَلَى دِعامَتَيِ الكَرْم بالأُطُرِ؛ قَالَ ابْنُ شُمَيْل: إِذا عُرِّشَ الكَرْمُ، عُمِدَ إِلى دَعَائِمَ يَحْفِرُ لَهَا فِي الأَرض، لِكُلِّ دِعامةٍ شُعْبَتان، ثُمَّ تؤْخذ شُعْبَةٌ فتُعَرَّضُ عَلَى الدِّعامَتين، وتسمَّى هَذِهِ الْخَشَبَةُ الْمُعَرَّضَةُ المِسْطَح، وَيُجْعَلُ عَلَى المَساطِح أُطُرٌ مِنْ أَدناها إِلى أَقصاها؛ تُسَمَّى المَساطِحُ بالأُطُر مَساطِحَ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
71-لسان العرب (برد)
برد: البَرْدُ: ضدُّ الْحَرِّ.والبُرودة: نَقِيضُ الْحَرَارَةِ؛ بَرَدَ الشيءُ يبرُدُ بُرودة وَمَاءٌ بَرْدٌ وَبَارِدٌ وبَرُودٌ وبِرادٌ، وَقَدْ بَرَدَه يَبرُدُه بَرْدًا وبَرَّدَه: جَعَلَهُ بَارِدًا.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فأَما مَنْ قَالَ بَرَّدَه سَخَّنه لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
عافَتِ الماءَ فِي الشِّتَاءِ، فَقُلْنَا: ***بَرِّديه تُصادفيه سَخِينا
فَغَالَطَ، إِنما هُوَ: بَلْ رِدِيه، فأَدغم عَلَى أَن قُطْربًا قَدْ قَالَهُ.
الْجَوْهَرِيُّ: بَرُدَ الشيءُ، بِالضَّمِّ، وبَرَدْتُه أَنا فَهُوَ مَبْرُود وبَرّدته تَبْرِيدًا، وَلَا يُقَالُ أَبردته إِلّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ، وَكَانَتِ الْمَنِيَّةُ قَدْ حَضَرَتْهُ فَوَصَّى مَنْ يَمْضِي لأَهله وَيُخْبِرُهُمْ بِمَوْتِهِ، وأَنْ تُعَطَّلَ قَلُوصه فِي الرِّكَابِ فَلَا يركبَها أَحد ليُعْلم بِذَلِكَ مَوْتُ صَاحِبِهَا وَذَلِكَ يَسُرُّ أَعداءه وَيُحْزِنُ أَولياءه؛ فَقَالَ:
وعَطِّلْ قَلُوصي فِي الرِّكَابِ، فإِنها ***سَتَبْرُدُ أَكبادًا، وتُبْكِي بَواكيا
والبَرود، بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْبَارِدُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَبَاتَ ضَجيعي فِي الْمَنَامِ مَعَ المُنَى ***بَرُودُ الثَّنايا، واضحُ الثَّغْرِ، أَشْنَبُ
وبَرَدَه يَبْرُدُه: خَلَطَهُ بِالثَّلْجِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ.
وأَبْرَدَه: جَاءَ بِهِ بَارِدًا.
وأَبْرَدَ لَهُ: سقاهُ بَارِدًا.
وَسَقَاهُ شَرْبَةً بَرَدَت فؤَادَه تَبْرُدُ بَرْدًا أَي بَرَّدَتْه.
وَيُقَالُ: اسْقِنِي سَوِيقًا أُبَرِّد بِهِ كَبِدِي.
وَيُقَالُ: سَقَيْتُهُ فأَبْرَدْت لَهُ إِبرادًا إِذا سَقَيْتَهُ بَارِدًا.
وَسَقَيْتُهُ شَرْبَةً بَرَدْت بِهَا فؤَادَه مِنَ البَرود؛ وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:
إِنِّي اهْتَدَيْتُ لِفِتْية نَزَلُوا، ***بَرَدُوا غَوارِبَ أَيْنُقٍ جُرْب
أَي وَضَعُوا عَنْهَا رِحَالَهَا لتَبْرُدَ ظُهُورُهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذا أَبصر أَحدكم امرأَة فليأْت زَوْجَتَهُ فإِن ذَلِكَ بَرْدُ مَا فِي نَفْسِهِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، مِنَ البَرْد، فإِن صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَمَعْنَاهُ أَن إِتيانه امرأَته يُبرِّد مَا تَحَرَّكَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ حَرِّ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ أَي تُسْكِنُهُ وَتَجْعَلُهُ بَارِدًا، وَالْمَشْهُورُ فِي غَيْرِهِ يَرُدُّ، بِالْيَاءِ، مِنَ الرَّدِّ أَي يَعْكِسُهُ.
وَفِي عُمَرَ: أَنه شَرِبَ النَّبِيذَ بعد ما بَرَدَ أَي سَكَنَ وفَتَر.
ويُقال: جَدَّ فِي الأَمر ثُمَّ بَرَدَ أَي فَتَرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمَّا تَلَقَّاهُ بُرَيْدَةُ الأَسلمي قَالَ لَهُ: مَنْ أَنت؟ قَالَ: أَنا بِرَيْدَةُ، قَالَ لأَبي بَكْرٍ: بَرَدَ أَمرنا وَصَلَحَ».
أَي سَهُلَ.
وَفِي حَدِيثِ أُم زَرْعٍ: «بَرُودُ الظِّلِّ»أَي طَيِّبُ الْعِشْرَةِ، وَفَعُولٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ والأُنثى.
والبَرَّادة: إِناء يُبْرِد الْمَاءَ، بُنِيَ عَلَى أَبْرَد؛ قَالَ اللَّيْثُ: البَرَّادةُ كوارَةٌ يُبَرَّد عَلَيْهَا الْمَاءُ، قَالَ الأَزهري: وَلَا أَدري هِيَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَم كَلَامِ الْمَوَلَّدِينَ.
وإِبْرِدَةُ الثَّرَى وَالْمَطَرِ: بَرْدُهما.
والإِبْرِدَةُ: بَرْدٌ فِي الْجَوْفِ.
والبَرَدَةُ: التُّخَمَةُ؛ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كُلُّ دَاءٍ أَصله البَرَدة وَكُلُّهُ مِنَ البَرْد»؛ البَرَدة، بِالتَّحْرِيكِ: التُّخَمَةُ وَثِقَلُ الطَّعَامِ عَلَى الْمَعِدَةِ؛ وَقِيلَ: سُمِّيَتِ التخمةُ بَرَدَةً لأَن التُّخَمَةَ تُبْرِدُ الْمَعِدَةَ فَلَا تَسْتَمْرِئُ الطعامَ وَلَا تُنْضِجُه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن الْبِطِّيخَ يَقْطَعُ الإِبردة»؛ الإِبردة، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ: عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ غَلَبَةِ البَرْد وَالرُّطُوبَةِ تُفَتِّر عَنِ الْجِمَاعِ، وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ.
وَرَجُلٌ بِهِ إِبْرِدَةٌ، وَهُوَ تقطِير الْبَوْلِ وَلَا يَنْبَسِطُ إِلى النِّسَاءِ.
وابْتَرَدْتُ أَي اغْتَسَلْتُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَكَذَلِكَ إِذا شَرِبْتَهُ لتَبْرُدَ بِهِ كَبِدُكَ؛ قَالَ الرَّاجِزُ.
لَطالَما حَلأْتُماها لَا تَرِدْ، ***فَخَلِّياها والسِّجالَ تَبْتَرِدْ،
مِنْ حَرِّ أَيامٍ ومِنْ لَيْلٍ وَمِدْ
وابْتَرَد الماءَ: صَبَّه عَلَى رأَسه بَارِدًا؛ قَالَ:
إِذا وجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدي، ***أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقاء الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الماءِ ظاهرَهُ، ***فمَنْ لِحَرٍّ عَلَى الأَحْشاءِ يَتَّقِدُ؟
وتَبَرَّدَ فِيهِ: اسْتَنْقَعَ.
والبَرُودُ: مَا ابْتُرِدَ بِهِ.
والبَرُودُ مِنَ الشَّرَابِ: مَا يُبَرِّدُ الغُلَّةَ؛ وأَنشد:
وَلَا يبرِّد الغليلَ الماءُ
والإِنسان يَتَبَرَّدُ بِالْمَاءِ: يَغْتَسِلُ بِهِ.
وَهَذَا الشَّيْءُ مَبْرَدَةٌ لِلْبَدَنِ؛ قَالَ الأَصمعي: قُلْتُ لأَعرابي مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى نَوْمَةِ الضُّحَى؟ قَالَ: إِنها مَبْرَدَةٌ فِي الصَّيْفِ مَسْخَنَةٌ فِي الشِّتَاءِ.
والبَرْدانِ والأَبرَدانِ أَيضًا: الظِّلُّ وَالْفَيْءُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِبَرْدِهِمَا؛ قَالَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ:
إِذا الأَرْطَى تَوَسَّدَ أَبْرَدَيْهِ ***خُدودُ جَوازِئٍ، بالرملِ، عِينِ
سيأْتي فِي تَرْجَمَةِ جزأَ؛ وَقَوْلُ أَبي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:
فَمَا رَوْضَةٌ بِالحَزْمِ طاهرَةُ الثَّرَى، ***ولَتْها نَجاءَ الدَّلْوِ بَعْدَ الأَبارِدِ
يَجُوزُ أَن يَكُونَ جَمْعَ الأَبردين اللَّذَيْنِ هُمَا الظِّلُّ وَالْفَيْءُ أَو اللَّذَيْنِ هُمَا الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ؛ وَقِيلَ: الْبَرْدَانُ الْعَصْرَانِ وَكَذَلِكَ الأَبردان، وَقِيلَ: هما الغداة والعشي؛ وقيل: ظلَّاهما وَهُمَا الرّدْفانِ والصَّرْعانِ والقِرْنانِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإِن شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: الإِبراد انْكِسَارُ الوَهَج وَالْحَرُّ وَهُوَ مِنَ الإِبراد الدُّخُولِ فِي البَرْدِ؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَلُّوهَا فِي أَوّل وَقْتِهَا مِنْ بَرْدِ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوّله.
وأَبرد القومُ: دَخَلُوا فِي آخِرِ النَّهَارِ.
وَقَوْلُهُمْ: أَبرِدوا عَنْكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أَي لَا تَسِيرُوا حَتَّى يَنْكَسِرَ حَرُّهَا ويَبُوخ.
وَيُقَالُ: جِئْنَاكَ مُبْرِدين إِذا جاؤوا وَقَدْ بَاخَ الْحَرُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الإِبْرادُ أَن تَزِيغَ الشَّمْسُ، قَالَ: وَالرَّكْبُ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ إِذا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَدْ أَبردتم فرُوحُوا؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:
فِي مَوْكبٍ، زَحِلِ الهواجِر، مُبْرِد قَالَ الأَزهري: لَا أَعرف مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ هَذَا غَيْرَ أَنّ الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنهم يَنْزِلُونَ لِلتَّغْوِيرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَيُقِيلُونَ، فإِذا زَالَتِ الشَّمْسُ ثَارُوا إِلى رِكَابِهِمْ فَغَيَّرُوا عَلَيْهَا أَقتابها وَرِحَالَهَا وَنَادَى مُنَادِيهِمْ: أَلا قَدْ أَبْرَدْتم فَارْكَبُوا قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ أَبرد الْقَوْمُ إِذا صَارُوا فِي وَقْتِ القُرِّ آخِرَ الْقَيْظِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛ البردانِ والأَبْرَدانِ: الغداةُ وَالْعَشِيُّ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ: كَانَ يَسِيرُ بِنَا الأَبْرَدَيْنِ؛ وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ مَعَ فَضالة بْنُ شَرِيكٍ: وسِرْ بِهَا البَرْدَيْن.
وبَرَدَنا الليلُ يَبْرُدُنا بَرْدًا وبَرَدَ عَلَيْنَا: أَصابنا بَرَدُهُ.
وَلَيْلَةٌ بَارِدَةُ الْعَيْشِ وبَرْدَتُه: هَنِيئَتُهُ؛ قَالَ نُصَيْبٌ:
فَيَا لَكَ ذَا وُدٍّ، وَيَا لَكِ لَيْلَةً، ***بَخِلْتِ وَكَانَتْ بَرْدةَ العيشِ ناعِمه
وأَما قَوْلُهُ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ؛ فإِن الْمُنْذِرِيَّ رَوَى عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنه قَالَ: وَعَيْشٌ بَارِدٌ هَنِيءٌ طَيِّبٌ؛ قَالَ:
قَلِيلَةُ لحمِ الناظرَيْنِ، يَزِينُها ***شبابٌ، ومخفوضٌ مِنَ العيشِ بارِدُ
أَي طَابَ لَهَا عَيْشُهَا.
قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ نسأَلك الْجَنَّةَ وبَرْدَها أَي طِيبِهَا وَنَعِيمَهَا.
قَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: إِذا قال: وا بَرْدَه عَلَى الْفُؤَادِ إِذا أَصاب شيئًا هنيئًا، وكذلك وا بَرْدَاه عَلَى الْفُؤَادِ.
وَيَجِدُ الرَّجُلُ بِالْغَدَاةِ البردَ فَيَقُولُ: إِنما هِيَ إِبْرِدَةُ الثَّرَى وإِبْرِدَةُ النَّدَى.
وَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ: إِنها لَبَارِدَةٌ الْيَوْمَ فَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ: لَيْسَتْ بِبَارِدَةٍ إِنما هِيَ إِبْرِدَةُ الثَّرَى.
ابْنُ الأَعرابي: الْبَارِدَةُ الرَّبَاحَةُ فِي التِّجَارَةِ سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا.
وَالْبَارِدَةُ: الْغَنِيمَةُ الْحَاصِلَةُ بِغَيْرِ تَعَبٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ
لِتَحْصِيلِهِ الأَجر بِلَا ظمإٍ فِي الْهَوَاجِرِ أَي لَا تَعَبَ فِيهِ وَلَا مَشَقَّةَ.
وَكُلُّ مَحْبُوبٍ عِنْدَهُمْ: بَارِدٌ؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيمَةُ الثَّابِتَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ بَرَدَ لِي عَلَى فُلَانٍ حَقٌّ أَي ثَبَتَ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنه بَرَدَ لَنَا عملُنا.
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ أَبرد طَعَامَهُ وبَرَدَهُ وبَرَّدَهُ.
وَالْمَبْرُودُ: خُبْزٌ يُبْرَدُ فِي الماءِ تَطْعَمُهُ النِّساءُ للسُّمْنة؛ يُقَالُ: بَرَدْتُ الْخُبْزَ بالماءِ إِذا صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَبَلَلْتَهُ، وَاسْمُ ذَلِكَ الْخَبْزِ الْمَبْلُولِ: البَرُودُ وَالْمَبْرُودُ.
والبَرَدُ: سَحَابٌ كالجَمَد، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ بَرَدِهِ.
وَسَحَابٌ بَرِدٌ وأَبْرَدُ: ذُو قُرٍّ وبردٍ؛ قَالَ:
يَا هِندُ هِندُ بَيْنَ خِلْبٍ وكَبِدْ، ***أَسْقاك عَنِّي هازِمُ الرَّعْد برِدْ
وَقَالَ: كأَنهُمُ المَعْزاءُ فِي وَقْع أَبْرَدَا شَبَّهَهُمْ فِي اخْتِلَافِ أَصواتهم بِوَقْعِ البَرَد عَلَى المَعْزاء، وَهِيَ حِجَارَةٌ صُلْبَةٌ، وَسَحَابَةٌ بَرِدَةٌ عَلَى النَّسَبِ: ذَاتُ بَرْدٍ، وَلَمْ يَقُولُوا بَرْداء.
الأَزهري: أَما البَرَدُ بِغَيْرِ هَاءٍ فإِن اللَّيْثَ زَعَمَ أَنه مَطَرٌ جَامِدٌ.
والبَرَدُ: حبُّ الْغَمَامِ، تَقُولُ مِنْهُ: بَرُدَتِ الأَرض.
وبُرِدَ الْقَوْمُ: أَصابهم البَرَدُ، وأَرض مَبْرُودَةٌ كَذَلِكَ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: شَجَرَةٌ مَبْرودة طَرَحَ البَرْدُ وَرَقَهَا.
الأَزهري: وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ}؛ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحدهما وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ أَمثال جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ، وَالثَّانِي وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدًا؛ وَمِنْ صِلَةٍ؛ وَقَوْلُ السَّاجِعِ:
وصِلِّيانًا بَرِدَا
أَي ذُو بُرُودَةٍ.
والبَرْد.
النَّوْمُ لأَنه يُبَرِّدُ الْعَيْنَ بأَن يُقِرَّها؛ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا وَلا شَرابًا}؛ قَالَ العَرْجي:
فإِن شِئت حَرَّمتُ النساءَ سِواكمُ، ***وإِن شِئت لَمْ أَطعَمْ نُقاخًا وَلَا بَرْدا
قَالَ ثَعْلَبٌ: الْبَرْدُ هُنَا الرِّيقُ، وَقِيلَ: النُّقَاخُ الْمَاءُ الْعَذْبُ، وَالْبَرْدُ النَّوْمُ.
الأَزهري فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا وَلا شَرابًا}؛ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدَ الشَّرَابِ وَلَا الشَّرَابَ
، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا، يُرِيدُ نَوْمًا، وإِن النَّوْمَ ليُبَرِّد صَاحِبَهُ، وإِن الْعَطْشَانَ لَيَنَامُ فَيَبْرُدُ بِالنَّوْمِ؛ وأَنشد الأَزهري لأَبي زُبيد فِي النَّوْمِ:
بارِزٌ ناجِذاه، قَدْ بَرَدَ المَوْتُ ***عَلَى مُصطلاه أَيَّ بُرُودِ
قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: بَرَدَ الموتُ عَلَى مُصْطلاه أَي ثَبَتَ عَلَيْهِ.
وبَرَدَ لِي عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ كَذَا أَي ثَبَتَ.
وَمُصْطَلَاهُ: يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَوَجْهُهُ وَكُلِّ مَا بَرَزَ مِنْهُ فَبَرَدَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَصَارَ حَرُّ الرُّوحِ مِنْهُ بَارِدًا؛ فَاصْطَلَى النَّارَ لِيُسَخِّنَهُ.
وَنَاجِذَاهُ: السنَّان اللَّتَانِ تَلِيَانِ النَّابَيْنِ.
وَقَوْلُهُمْ: ضُرب حَتَّى بَرَدَ مَعْنَاهُ حَتَّى مَاتَ.
وأَما قَوْلُهُمْ: لَمْ يَبْرُدْ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْمَعْنَى لَمْ يَسْتَقِرَّ وَلَمْ يَثْبُتْ؛ وأَنشد:
اليومُ يومٌ باردٌ سَمومه
قَالَ: وأَصله مِنَ النَّوْمِ وَالْقَرَارِ.
وَيُقَالُ: بَرَدَ أَي نَامَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
أُحِبُّ أُمَّ خَالِدٍ وَخَالِدَا ***حُبًّا سَخَاخِينَ، وَحُبًّا بَارِدَا
قَالَ: سَخَاخِينَ حُبٌّ يؤْذيني وَحُبًّا بَارِدًا يَسْكُنُ إِليه قَلْبِي.
وسَمُوم بَارِدٌ أَي ثَابِتٌ لَا يَزُولُ؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدَةَ:
اليومُ يومٌ باردٌ سَمومه، ***مَن جَزِعَ اليومَ فَلَا تَلُومُهُ
وبَرَدَ الرَّجُلُ يَبْرُدُ بَرْدًا: مَاتَ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الِاشْتِقَاقِ لأَنه عَدِمَ حَرَارَةَ الرُّوحِ؛ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «فهَبَره بِالسَّيْفِ حَتَّى بَرَدَ»أَي مَاتَ.
وبَرَدَ السيفُ: نَبا.
وبَرَدَ يبرُدُ بَرْدًا: ضَعُفَ وَفَتَرَ عَنْ هُزَالٍ أَو مَرَضٍ.
وأَبْرَده الشيءُ: فتَّره وأَضعفه؛ وأَنشد بن الأَعرابي:
الأَسودانِ أَبْرَدَا عِظامي، ***الماءُ والفتُّ ذَوَا أَسقامي
ابْنُ بُزُرج: البُرَاد ضَعْفُ الْقَوَائِمِ مِنْ جُوعٍ أَو إِعياء، يُقَالُ: بِهِ بُرادٌ.
وَقَدْ بَرَد فُلَانٌ إِذا ضَعُفَتْ قَوَائِمُهُ.
والبَرْد: تبرِيد الْعَيْنِ.
والبَرود: كُحل يُبَرِّد الْعَيْنَ: والبَرُود: كُلُّ مَا بَرَدْت بِهِ شَيْئًا نَحْوَ بَرُود
العينِ وَهُوَ الْكُحْلُ.
وبَرَدَ عينَه، مُخَفَّفًا، بالكُحل وبالبَرُود يَبْرُدُها بَرْدًا: كَحَلَها بِهِ وسكَّن أَلَمها؛ وبَرَدت عينُه كذلك، واسم الْكُحْلِ البَرُودُ، والبَرُودُ كُحْلٌ تَبْردُ بِهِ العينُ مِنَ الحرِّ؛ وَفِي حَدِيثِ الأَسود: «أَنه كَانَ يَكْتَحِلُ بالبَرُود وَهُوَ مُحْرِم»؛ البَرُود، بِالْفَتْحِ: كُحْلٌ فِيهِ أَشياء بَارِدَةٌ.
وكلُّ مَا بُرِدَ بِهِ شيءٌ: بَرُود.
وبَرَدَ عَلَيْهِ حقٌّ: وَجَبَ وَلَزِمَ.
وَبَرَدَ لِي عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا أَي ثَبَتَ.
وَيُقَالُ: مَا بَرَدَ لَكَ عَلَى فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ مَا ذَابَ لكَ عَلَيْهِ أَي مَا ثَبَتَ وَوَجَبَ.
وَلِي عَلَيْهِ أَلْفٌ بارِدٌ أَي ثَابِتٌ؛ قَالَ:
اليومُ يومٌ باردٌ سَمُومه، ***مَنْ عَجَزَ اليومَ فَلَا تلومُه
أَي حَرُّهُ ثَابِتٌ؛ وَقَالَ أَوس بْنُ حُجر:
أَتاني ابنُ عبدِ اللَّهِ قُرْطٌ أَخُصُّه، ***وَكَانَ ابنَ عمٍّ، نُصْحُه لِيَ بارِدُ
وبَرَد فِي أَيديهم سَلَمًا لَا يُفْدَى وَلَا يُطْلَق وَلَا يُطلَب.
وإِن أَصحابك لَا يُبالون مَا بَرَّدوا عَلَيْكَ أَي أَثبتوا عَلَيْكَ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «لَا تُبَرِّدي عَنْهُ»؛ أي لَا تُخَفِّفِي.
يُقَالُ: لَا تُبَرِّدْ عَنْ فُلَانٍ مَعْنَاهُ إِن ظَلَمَكَ فَلَا تَشْتُمُهُ فَتُنْقِصَ مِنْ إِثمه، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُبَرِّدوا عَنِ الظَّالِمِ» أَي لَا تَشْتُمُوهُ وَتَدْعُوا عَلَيْهِ فَتُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِهِ.
والبَرِيدُ: فَرْسَخَانِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ كُلِّ مَنْزِلَيْنِ بَرِيد.
والبَريدُ: الرُّسُلُ عَلَى دوابِّ الْبَرِيدِ، وَالْجَمْعُ بُرُد.
وبَرَدَ بَرِيدًا: أَرسله.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذا أَبْرَدْتم إِليَّ بَرِيدًا فَاجْعَلُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ»؛ البَرِيد: الرَّسُولُ وإِبرادُه إِرساله؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
رأَيتُ لِلْمَوْتِ بَرِيدًا مُبْردَا
وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: الحُمَّى بَرِيد الموتِ؛ أَراد أَنها رَسُولُ الْمَوْتِ تُنْذِرُ بِهِ.
وسِكَكُ البرِيد: كُلُّ سِكَّةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ مِيلًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُقْصَرُ الصلاةُ فِي أَقلَّ مِنْ أَربعة بُرُدٍ»، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَميال، وَالْمِيلُ أَربعة آلَافِ ذِرَاعٍ، وَالسَّفَرُ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ أَربعة بُرُدٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وأَربعون مِيلًا بالأَميال الْهَاشِمِيَّةِ الَّتِي فِي طَرِيقِ مَكَّةَ؛ وَقِيلَ لِدَابَّةِ الْبَرِيدِ: بَريدٌ، لِسَيْرِهِ فِي الْبَرِيدِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي أَنُصُّ العيسَ حَتَّى كأَنَّني، ***عَلَيْهَا بأَجْوازِ الفلاةِ، بَرِيدا
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: كُلُّ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَهُوَ بَرِيد.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَخِيسُ بالعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ البُرْدَ»أَي لَا أَحبس الرُّسُلَ الْوَارِدِينَ عَلَيَّ؛ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: البُرْدُ، سَاكِنًا، يَعْنِي جمعَ بَرِيد وَهُوَ الرَّسُولُ فَيُخَفَّفُ عَنْ بُرُدٍ كرُسُلٍ ورُسْل، وإِنما خَفَّفَهُ هَاهُنَا لِيُزَاوِجَ الْعَهْدَ.
قَالَ: والبَرِيد كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا فِي الأَصل البَرْد، وأَصلها [بَرِيدُهُ دَمٌ] أَي مَحْذُوفُ الذنَب لأَن بِغَالَ الْبَرِيدِ كَانَتْ مَحْذُوفَةَ الأَذناب كَالْعَلَامَةِ لَهَا فأُعربت وَخُفِّفَتْ، ثُمَّ سُمِّيَ الرَّسُولُ الَّذِي يَرْكَبُهُ بَرِيدًا، وَالْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ السِّكَّتَيْنِ بَرِيدًا، وَالسِّكَّةُ مَوْضِعٌ كَانَ يَسْكُنُهُ الفُيُوجُ الْمُرَتَّبُونَ مِنْ بَيْتٍ أَو قُبَّةٍ أَو رِبَاطٍ، وَكَانَ يُرَتَّبُ فِي كُلِّ سِكَّةٍ بِغَالٌ، وبُعد مَا بَيْنَ السِّكَّتَيْنِ فَرْسَخَانِ، وَقِيلَ أَربعة.
الْجَوْهَرِيُّ: الْبَرِيدُ الْمُرَتَّبُ يُقَالُ حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى الْبَرِيدِ؛ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عَلَى كلِّ مَقْصوصِ الذُّنَابَى مُعاودٍ ***بَرِيدَ السُّرَى بالليلِ، مِنْ خيلِ بَرْبَرَا
وَقَالَ مُزَرِّدٌ أَخو الشَّمَّاخِ بْنِ ضِرَارٍ يَمْدَحُ عَرابَة الأَوسي:
فدتْك عَرابَ اليومَ أُمِّي وَخَالَتِي، ***وناقتيَ النَّاجي إِليكَ بَرِيدُها
أَي سَيْرُهَا فِي البرِيد.
وَصَاحِبُ البَرِيد قَدْ أَبردَ إِلى الأَمير، فَهُوَ مُبْرِدٌ.
وَالرَّسُولُ بَرِيد؛ وَيُقَالُ للفُرانِق البَرِيد لأَنه يُنْذَرُ قدَّام الأَسد.
والبُرْدُ مِنَ الثيابِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: البُرْدُ ثَوْبٌ فِيهِ خُطُوطٌ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْوَشْيَ، وَالْجَمْعُ أَبْرادٌ وأَبْرُد وبُرُودٌ.
والبُرْدَة: كِسَاءٌ يُلْتَحَفُ بِهِ، وَقِيلَ: إِذا جُعِلَ الصُّوفُ شُقة وَلَهُ هُدْب، فَهِيَ بُرْدَة؛ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنه كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْفَتْحِ بُرْدَةٌ فَلُوتٌ قَصِيرَةٌ»؛ قَالَ شَمِرٌ: رأَيت أَعرابيًّا بِخُزَيْمِيَّةَ وَعَلَيْهِ شِبْه مَنْدِيلٍ مِنْ صُوفٍ قَدِ اتَّزَر بِهِ فَقُلْتُ: مَا تُسَمِّيهِ؟ قَالَ: بُرْدة؛ قَالَ الأَزهري: وَجَمْعُهَا بُرَد، وَهِيَ الشَّمْلَةُ الْمُخَطَّطَةُ.
قَالَ اللَّيْثُ: البُرْدُ مَعْرُوفٌ مِنْ بُرُود العَصْب والوَشْي، قَالَ: وأَما البُرْدَة فَكِسَاءٌ مُرَبَّعٌ أَسود فِيهِ صِغَرٌ تَلْبَسُهُ الأَعراب؛ وأَما قَوْلُ يَزِيدَ بنِ مُفَرّغ الْحَمِيرِيِّ:
وشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي، ***مِنْ قَبْلِ بُرْدٍ، كنتُ هامَهْ
فَهُوَ اسْمُ عَبْدٍ.
وَشَرَيْتُ أَي بِعْتُ.
وَقَوْلُهُمْ: هُمَا فِي بُرْدة أَخْمَاسٍ فَسَّرَهُ ابْنُ الأَعرابي فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنهما يَفْعَلَانِ فِعْلًا وَاحِدًا فَيَشْتَبِهَانِ كأَنهما فِي بُرَدة، وَالْجَمْعُ بُرَد عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
فسَمعَتْ نَبْأَةً مِنْهُ فآسَدَها، ***كأَنَّهُنَّ، لَدَى إِنْسَائِهِ، البُرَد
يُرِيدُ أَن الْكِلَابَ انبسطنَ خَلْفَ الثَّوْرِ مِثْلَ البُرَدِ؛ وَقَوْلُ يَزِيدَ بْنِ الْمُفَرَّغِ:
مَعاذَ اللَّهِ رَبَّا أَن تَرانا، ***طِوالَ الدهرِ، نَشْتَمِل البِرادا
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: يَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ جَمْعَ بُرْدةٍ كبُرْمةٍ وبِرام، وأَن يَكُونَ جَمْعَ بُرْد كقُرطٍ وقِراطٍ.
وَثَوْبٌ بَرُودٌ: لَيْسَ فِيهِ زِئبِرٌ.
وَثَوْبٌ بَرُودٌ إِذا لَمْ يَكُنْ دفِيئًا وَلَا لَيِّنًا مِنَ الثِّيَابِ.
وَثَوْبٌ أَبْرَدُ: فِيهِ لُمَعُ سوادٍ وَبَيَاضٍ، يَمَانِيَّةٌ.
وبُرْدَا الْجَرَادِ والجُنْدُب: جَنَاحَاهُ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
كأَنَّ رِجْلَيْهِ رجْلا مُقْطَفٍ عَجِلٍ، ***إِذا تَجاوَبَ مِنْ بُرْدَيْه تَرْنِيمُ
وَقَالَ الْكُمَيْتُ يَهْجُو بَارِقًا:
تُنَفِّضُ بُرْدَيْ أُمِّ عَوْفٍ، وَلَمْ يَطِرْ ***لَنَا بارِقٌ، بَخْ للوَعيدِ وللرَّهْبِ
وأُم عَوْفٍ: كُنْيَةُ الْجَرَادِ.
وَهِيَ لَكَ بَرْدَةُ نَفْسِها أَي خَالِصَةً.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هِيَ لَكَ بَرْدَةُ نَفْسِها أَي خَالِصًا فَلَمْ يؤَنث خَالِصًا.
وَهِيَ إِبْرِدَةُ يَمِيني؛ وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هُوَ لِي بَرْدَةُ يَمِيني إِذا كَانَ لَكَ مَعْلُومًا.
وبَرَدَ الحدِيدَ بالمِبْرَدِ ونحوَه مِنَ الْجَوَاهِرِ يَبْرُدُه: سَحَلَهُ.
والبُرادة: السُّحالة؛ وَفِي الصِّحَاحِ: والبُرادة مَا سَقَطَ مِنْهُ.
والمِبْرَدُ: مَا بُرِدَ بِهِ، وَهُوَ السُّوهانُ بِالْفَارِسِيَّةِ.
والبَرْدُ: النَّحْتُ؛ يُقَالُ: بَرَدْتُ الخَشَبة بالمِبْرَد أَبْرُدُها بَرْدًا إِذا نَحَتَّهَا.
والبُرْدِيُّ، بِالضَّمِّ: مِنْ جَيِّدِ التَّمْرِ يُشْبِهُ البَرْنِيَّ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.
وَقِيلَ: البُرْدِيّ ضَرْبٌ مِنْ تَمْرِ الْحِجَازِ جَيِّدٌ مَعْرُوفٌ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أَمر أَن يؤْخذ البُرْدِيُّ فِي الصَّدَقَةِ»، وَهُوَ بِالضَّمِّ، نَوْعٌ مِنْ جَيِّدِ التَّمْرِ.
والبَرْدِيُّ، بِالْفَتْحِ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهُ بَرْدِيَّةٌ؛ قَالَ الأَعشى:
كَبَرْدِيَّةِ الغِيلِ وَسْطَ الغَريفِ، ***ساقَ الرِّصافُ إِليه غَديرا
وَفِي الْمُحْكَمِ:
كَبَرْدِيَّةِ الغِيلِ وَسْطَ الغَريفِ، ***قَدْ خالَطَ الماءُ مِنْهَا السَّريرا
وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: السَّرِيرُ ساقُ البَرْدي، وَقِيلَ: قُطْنُهُ؛ وَذَكَرَ ابْنُ بَرِّيٍّ عَجُزَ هَذَا الْبَيْتِ:
إِذا خَالَطَ الْمَاءُ مِنْهَا السُّرورا
وَفَسَّرَهُ فَقَالَ: الغِيل، بِكَسْرِ الْغَيْنِ، الْغَيْضَةُ، وَهُوَ مُغِيضُ مَاءٍ يَجْتَمِعُ فَيَنْبُتُ فِيهِ الشَّجَرُ.
وَالْغَرِيفُ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ.
قَالَ: وَالسُّرُورُ جَمْعُ سُرّ، وَهُوَ بَاطِنُ البَرْدِيَّةِ.
والأَبارِدُ: النُّمورُ، وَاحِدُهَا أَبرد؛ يُقَالُ للنَّمِرِ الأُنثى أَبْرَدُ والخَيْثَمَةُ.
وبَرَدَى: نَهْرٌ بِدِمَشْقَ؛ قَالَ حَسَّانُ:
يَسْقُونَ مَن وَرَدَ البَريصَ عليهِمُ ***بَرَدَى، تُصَفَّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
أَي مَاءَ بَرَدَى والبَرَدانِ، بِالتَّحْرِيكِ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ ابْنُ مَيَّادة:
ظَلَّتْ بنِهْيِ البَرَدانِ تَغْتَسِلْ، ***تَشْرَبُ مِنْهُ نَهَلاتٍ وتَعِلْ
وبَرَدَيَّا: مَوْضِعٌ أَيضًا، وَقِيلَ: نَهْرٌ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْرُ دِمَشْقَ والأَعرف أَنه بَرَدَى كَمَا تَقَدَّمَ.
والأُبَيْرِد: لَقَبُ شَاعِرٍ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ؛ الْجَوْهَرِيُّ: وقول الشَّاعِرُ:
بِالْمُرْهِفَاتِ الْبَوَارِدِ
قَالَ: يَعْنِي السُّيُوفَ وَهِيَ الْقَوَاتِلُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ صَدْرُ الْبَيْتِ:
وأَنَّ أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ أَغَصَّني ***مَغَصَّهما بالمُرْهَفاتِ البَوارِدِ
رأَيت بِخَطِّ الشَّيْخِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ خِلِّكَانَ فِي كِتَابِ ابْنِ بَرِّيٍّ مَا صُورَتُهُ: قَالَ هَذَا الْبَيْتُ مِنْ جُمْلَةِ أَبيات لِلْعِتَابِيِّ كُلْثُومِ بْنِ عَمْرٍو يُخَاطِبُ بِهَا زَوْجَتَهُ؛ قَالَ وَصَوَابُهُ:
وأَنَّ أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ أَغصَّني ***مَغَصَّهُما بالمُشْرِقاتِ البَوارِدِ
قَالَ: وإِنما وَقَعَ الشَّيْخُ فِي هَذَا التَّحْرِيفِ لِاتِّبَاعِهِ الْجَوْهَرِيَّ لأَنه كَذَا ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ فَقَلَّدَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْرِفْ بَقِيَّةَ الأَبيات وَلَا لِمَنْ هِيَ فَلِهَذَا وَقَعَ فِي السَّهْوِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنِ خِلِّكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنَ الأَدب حَيْثُ هُوَ، وَقَدِ انْتَقَدَ عَلَى الشَّيْخِ أَبي مُحَمَّدِ بْنِ بَرِّيٍّ هَذَا النَّقْدَ، وخطأَه فِي اتِّبَاعِهِ الْجَوْهَرِيَّ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْجَهْلِ بِبَقِيَّةِ الأَبيات، والأَبيات مَشْهُورَةٌ وَالْمَعْرُوفُ مِنْهَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وأَبو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذِهِ الأَبيات سَبَبُ عَمَلِهَا أَن الْعِتَابِيَّ لَمَّا عَمِلَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي أَوّلها:
مَاذَا شَجاكَ بِحَوَّارينَ مِنْ طَلَلٍ ***ودِمْنَةٍ، كَشَفَتْ عَنْهَا الأَعاصيرُ؟
بَلَغَتِ الرَّشِيدَ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عِتَابٍ يُقَالُ لَهُ كُلْثُومٌ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: مَا مَنْعُهُ أَن يَكُونَ بِبَابِنَا؟ فأَمر بإِشخاصه مِنْ رَأْسِ عَيْنٍ فَوَافَى الرشِيدَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ غَلِيظٌ وَفَرْوَةٌ وَخُفٌّ، وَعَلَى كَتِفِهِ مِلحفة جَافِيَةٌ بِغَيْرِ سَرَاوِيلَ، فأَمر الرَّشِيدُ أَن يُفْرَشَ لَهُ حُجْرَةٌ، وَيُقَامُ لَهُ وَظِيفَةٌ، فَكَانَ الطَّعَامُ إِذا جاءَه أَخذ مِنْهُ رُقَاقَةً وَمِلْحًا وَخَلَطَ الْمِلْحَ بِالتُّرَابِ وأَكله، وإِذا كَانَ وَقْتُ النَّوْمِ نَامَ عَلَى الأَرض وَالْخَدَمِ يَفْتَقِدُونَهُ وَيَعْجَبُونَ مِنْ فِعْلِهِ، وأُخْبِرَ الرشِيدُ بأَمره فَطَرَدَهُ، فَمَضَى إِلى رأْس عَيْنٍ وَكَانَ تَحْتَهُ امرأَة مِنْ بَاهِلَةَ فَلَامَتْهُ وَقَالَتْ: هَذَا مَنْصُورٌ النَّمِرِيُّ قَدْ أَخذ الأَموال فَحَلَّى نِسَاءَهُ وَبَنَى دَارَهُ وَاشْتَرَى ضِيَاعًا وأَنت.
كَمَا تَرَى؛ فَقَالَ:
تلومُ عَلَى تركِ الغِنى باهِليَّةٌ، ***زَوَى الفقرُ عَنْهَا كُلَّ طِرْفٍ وتالدِ
رأَتْ حولَها النّسوانَ يَرْفُلْن فِي الثَّرا، ***مُقَلَّدةً أَعناقُها بِالْقَلَائِدِ
أَسَرَّكِ أَني نلتُ مَا نَالَ جعفرٌ ***مِنَ العَيْش، أَو مَا نَالَ يحْيَى بنُ خالدِ؟
وأَنَّ أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ أَغَصَّنِي ***مَغَصَّهُما بالمُرْهَفات البَوارِدِ؟
دَعِينِي تَجِئْنِي مِيتَتِي مُطْمَئِنَّةً، ***وَلَمْ أَتَجَشَّمْ هولَ تِلْكَ المَوارِدِ
فإنَّ رَفيعاتِ الأُمورِ مَشُوبَةٌ ***بِمُسْتَوْدَعاتٍ، في بُطونِ الأَساوِدِ
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
72-لسان العرب (عبد)
عبد: الْعَبْدُ: الإِنسان، حُرًّا كَانَ أَو رَقِيقًا، يُذْهَبُ بِذَلِكَ إِلى أَنه مَرْبُوبٌ لِبَارِيهِ، جَلَّ وَعَزَّ.وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْفِدَاءِ: «مكانَ عَبْدٍ عَبْدٌ»، كَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِيمَنْ سُبيَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وأَدركه الإِسلام، وَهُوَ عِنْدَ مَنْ سَبَاهُ، أَن يُرَدَّ حُرًّا إِلى نَسَبِهِ وَتَكُونَ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ يؤَدّيها إِلى مَنْ سَبَاهُ، فَجَعل مَكَانَ كُلِّ رأْس مِنْهُمْ رأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ؛ وأَما قَوْلُهُ:
وَفِي ابْنِ الأَمة عَبْدان، فإِنه يُرِيدُ الرَّجُلَ الْعَرَبِيَّ يَتَزَوَّجُ أَمة لِقَوْمٍ فَتَلِدُ مِنْهُ وَلَدًا فَلَا يَجْعَلُهُ رَقِيقًا، وَلَكِنَّهُ يُفْدَى بِعَبْدَيْنِ، وإِلى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وسائرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ.
والعَبْدُ: الْمَمْلُوكُ خِلَافُ الْحُرِّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ فِي الأَصل صِفَةٌ، قَالُوا: رَجُلٌ عَبْدٌ، وَلَكِنَّهُ استُعمل اسْتِعْمَالَ الأَسماء، وَالْجَمْعُ أَعْبُد وعَبِيد مِثْلُ كَلْبٍ وكَليبٍ، وَهُوَ جَمْع عَزيزٌ، وعِبادٌ وعُبُدٌ مِثْلُ سَقْف وسُقُف؛ وأَنشد الأَخفش:
انْسُبِ العَبْدَ إِلى آبائِه، ***أَسْوَدَ الجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ
وَمِنْهُ قرأَ بعضُهم: وعُبُدَ الطاغوتِ؛ وَمِنَ الْجَمْعِ أَيضًا عِبْدانٌ، بِالْكَسْرِ، مِثْلَ جِحْشانٍ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «هؤُلاء قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدانُكم».
وعُبْدانٌ، بِالضَّمِّ: مِثْلُ تَمْرٍ وتُمْرانٍ.
وعِبِدَّان، مُشَدَّدَةُ الدَّالِ، وأَعابِدُ جَمْعُ أَعْبُدٍ؛ قَالَ أَبو دُوَادٍ الإِيادي يَصِفُ نَارًا:
لَهنٌ كَنارِ الرأْسِ، بالْعَلْياءِ، ***تُذْكيها الأَعابِدْ
وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَبْدٌ بَيِّن العُبُودَة والعُبودِيَّة والعَبْدِيَّةِ؛ وأَصل العُبودِيَّة الخُضوع والتذلُّل.
والعِبِدَّى، مَقْصُورٌ، والعبدَّاءُ، مَمْدُودٌ، والمَعْبوداء، بِالْمَدِّ، والمَعْبَدَة أَسماءُ الْجَمْعِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «لَا يَقُل أَحدكم لِمَمْلُوكِهِ عَبْدي وأَمَتي وَلْيَقُلْ فتايَ وَفَتَاتِي»؛ هَذَا عَلَى نَفْيِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِمْ وأَنْ يَنْسُب عُبُودِيَّتَهُمْ إِليه، فإِن الْمُسْتَحِقَّ لِذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ والعَبيدِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ العِباد لِلَّهِ، وغيرَه مِنَ الْجَمْعِ لِلَّهِ وَالْمَخْلُوقِينَ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بالعِبِدَّى العَبيدَ الَّذِينَ وُلِدوا فِي المِلْك، والأُنثى عَبْدة.
قَالَ الأَزهري: اجْتَمَعَ الْعَامَّةُ عَلَى تَفْرِقَةِ مَا بَيْنَ عِباد اللَّهِ وَالْمَمَالِيكِ فَقَالُوا هَذَا عَبْد مِنْ عِباد اللَّهِ، وهؤُلاء عَبيدٌ مَمَالِيكُ.
قَالَ: وَلَا يُقَالُ عَبَدَ يَعْبُدُ عِبادة إِلا لِمَنْ يَعْبُد اللَّهَ، وَمَنْ عَبَدَ دُونَهُ إِلهًا فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
قَالَ: وأَما عَبْدٌ خَدَمَ مَوْلَاهُ فَلَا يُقَالُ عَبَدَه.
قَالَ اللَّيْثُ: وَيُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ هُمْ عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ، وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ عِبادُ اللَّهِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
وَالْعَابِدُ: المُوَحِّدُ.
قَالَ اللَّيْثُ: العِبِدَّى جَمَاعَةُ العَبِيد الَّذِينَ وُلِدوا فِي العُبودِيَّة تَعْبِيدَةٌ ابْنُ تَعْبِيدَةٍ أَي فِي العُبودة إِلى آبَائِهِ، قَالَ الأَزهري: هَذَا غَلَطٌ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ عِبِدَّى اللَّهِ أَي عِبَادُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:
هَؤُلَاءِ عِبِدَّاكَ بِفِناءِ حَرَمِك؛ العِبِدَّاءُ، بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، جَمْعُ الْعَبْدِ.
وَفِي حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: «أَنه قَالَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذِهِ العِبِدَّى حوْلَك يَا مُحَمَّدُ؟»أَراد فقَراءَ أَهل الصُّفَّة، وَكَانُوا يَقُولُونَ اتَّبَعَه الأَرذلون.
قَالَ شَمِرٌ: وَيُقَالُ لِلْعَبِيدِ مَعْبَدَةٌ؛ وأَنشد لِلْفَرَزْدَقِ:
وَمَا كَانَتْ فُقَيْمٌ، حيثُ كَانَتْ ***بِيَثْرِبَ، غيرَ مَعْبَدَةٍ قُعودِ
قَالَ الأَزهري: ومثلُ مَعْبَدة جَمْعِ العَبْد مَشْيَخَةٌ جَمْعُ الشيْخ، ومَسْيَفة جَمْعُ السَّيْفِ.
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: عَبَدْتُ اللَّهَ عِبادَة ومَعْبَدًا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، الْمَعْنَى مَا خَلَقْتُهُمْ إِلا لأَدعوهم إِلى عِبَادَتِي وأَنا مُرِيدٌ لِلْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ مِمَّنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ خَلَقَهُمْ لِيُجْبِرَهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ عُبَّادًا مُؤْمُنِينَ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا قَوْلُ أَهل السنَّة وَالْجَمَاعَةِ.
والَعبْدَلُ: العبدُ، وَلَامُهُ زَائِدَةٌ.
والتِّعْبِدَةُ: المُعْرِقُ فِي المِلْكِ، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ العُبودةُ والعُبودِيَّة وَلَا فِعْلَ لَهُ عِنْدَ أَبي عُبَيْدٍ؛ وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: عَبُدَ عُبودَة وعُبودِية.
اللَّيْثُ: وأَعْبَدَه عَبْدًا مَلَّكه إِياه؛ قَالَ الأَزهري: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهل اللُّغَةِ أَعْبَدْتُ فُلَانًا أَي استَعْبَدْتُه؛ قَالَ: وَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ إِن صَحَّ لِثِقَةٍ مِنَ الأَئمة فإِن السَّمَاعَ فِي اللُّغَاتِ أَولى بِنَا مِنْ خَبْطِ العَشْواءِ، والقَوْلِ بالحَدْس وابتداعِ قياساتٍ لَا تَطَّرِدُ.
وتَعَبَّدَ الرجلَ وعَبَّده وأَعْبَدَه: صيَّره كالعَبْد، وتَعَبَّدَ اللَّهُ العَبْدَ بِالطَّاعَةِ أَي اسْتَعْبَدَهُ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّامَ يُعْبِدُني قَوْمي، وَقَدْ كَثُرَت ***فيهمْ أَباعِرُ، ما شاؤوا، وعِبْدانُ؟
وعَبَّدَه واعْتَبَده وَاسْتَعْبَدَهُ؛ اتَّخَذَهُ عَبْدًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:
يَرْضَوْنَ بالتَّعْبِيدِ والتَّأَمِّي أَراد: والتَّأْمِيَةِ.
يُقَالُ: تَعَبَّدْتُ فُلَانًا أَي اتخذْتُه عَبْدًا مِثْلُ عَبَّدْتُه سَوَاءٌ.
وتأَمَّيْتُ فُلَانَةً أَي اتخذْتُها أَمَة.
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثَةٌ أَنا خَصْمُهم: رَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: أَعبَدَ مُحَرَّرًا أَي اتَّخَذَهُ عَبْدًا، وَهُوَ أَن يُعْتِقَه ثُمَّ يكْتمه إِياه، أَو يَعْتَقِلَه بَعْدَ العِتْقِ فَيَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا، أَو يأْخذ حُرًّا فيدَّعيه عَبْدًا وَيَتَمَلَّكَهُ؛ وَالْقِيَاسُ أَن يَكُونَ أَعبَدْتُه جَعَلْتُهُ عَبدًا.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَسَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِيهَا وَنُخْبِرُ بالأَصح الأَوضح.
قَالَ الأَخفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ}، قَالَ: يُقَالُ هَذَا اسْتِفْهَامٌ كأَنه قَالَ أَو تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ: أَن عَبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، فَجَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُلْقًى وَهُوَ يُطْلَبُ، فِيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ كَاْلَخَبَرِ؛ وَقَدِ استُقْبِحَ وَمَعَهُ أَمْ وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، اسْتَقْبَحُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تروحُ مِنَ الحَيِّ أَم تَبْتَكِرْ
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَتَروحُ مِنَ الحَيِّ أَم تَبْتَكِر فحذفُ الِاسْتِفْهَامِ أَولى وَالنَّفِيُ تَامٌّ؛ وَقَالَ أَكثرهم: الأَوّل خَبَرٌ وَالثَّانِي اسْتِفْهَامٌ فأَما وَلَيْسَ مَعَهُ أَم لَمْ يَقُلْهُ إِنسان.
قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، لأَنه قَالَ وأَنت مِنَ الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي أَي لِنِعْمَةِ تَرْبِيَتِي لَكَ فأَجابه فَقَالَ: نَعَمْ هِي نِعْمَةٌ عَلَيَّ أَن عبَّدْت بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي، فَيَكُونُ مَوْضِعُ أَن رَفْعًا وَيَكُونُ نَصْبًا وَخَفْضًا، مَنْ رَفَعَ رَدَّهَا عَلَى النِّعْمَةِ كأَنه قَالَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ تَعْبِيدُك بَنِي إِسرائيل وَلَمْ تُعَبِّدْني، وَمَنْ خَفَضَ أَو نَصَبَ أَضمر اللَّامَ؛ قَالَ الأَزهري: وَالنَّصْبُ أَحسن الْوُجُوهِ؛ الْمَعْنَى: أَن فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ لِمُوسَى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، فاعْتَدَّ فِرْعَوْنُ عَلَى مُوسَى بأَنه ربَّاه وَلِيدًا منذُ وُلدَ إِلى أَن كَبِرَ فَكَانَ مِنْ جَوَابِ مُوسَى لَهُ: تِلْكَ نِعْمَةٌ تَعْتَدُّ بِهَا عَلَيَّ لأَنك عبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، وَلَوْ لَمْ تُعَبِّدْهم لكَفَلَني أَهلي وَلَمْ يُلْقُوني فِي الْيَمِّ، فإِنما صَارَتْ نِعْمَةً لِمَا أَقدمت عَلَيْهِ مِمَّا حَظَرَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ قَالَ أَبو إِسحاق: الْمُفَسِّرُونَ أَخرجوا هَذِهِ عَلَى جِهَةِ الإِنكار أَن تَكُونَ تِلْكَ نِعْمَةً، كأَنه قَالَ: وأَيّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ فِي أَن عَبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، وَاللَّفْظُ لَفْظُ خَبَرٍ؛ قَالَ: وَالْمَعْنَى يَخْرُجُ عَلَى مَا قَالُوا عَلَى أَن لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَفِيهِ تَبْكِيتُ الْمُخَاطَبِ، كأَنه قَالَ لَهُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ أَنِ اتَّخَذْتَ بَنِي إِسرائيلَ عَبيدًا وَلَمْ تَتَخِذْنِي عَبْدًا.
وعَبُدَ الرجلُ عُبودَةً وعُبودِيَّة وعُبِّدَ: مُلِكَ هُوَ وآباؤَه مِنْ قبلُ.
والعِبادُ: قَوْمٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى مِنْ بطونِ الْعَرَبِ اجْتَمَعُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فأَنِفُوا أَن يَتَسَمَّوْا بالعَبِيدِ وَقَالُوا: نَحْنُ العِبادُ، والنَّسَبُ إِليه عِبادِيّ كأَنصارِيٍّ، نَزَلُوا بالحِيرَة، وَقِيلَ: هُمُ العَباد، بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ لِعَبادِيٍّ: أَيُّ حِمَارَيْكَ شَرٌّ؟ فَقَالَ: هَذَا ثُمَّ هَذَا.
وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: العَبادي، بِفَتْحِ الْعَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا غَلَطٌ بَلْ مَكْسُورُ الْعَيْنِ؛ كَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ؛ وَمِنْهُ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبادي، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَكَذَا وُجِدَ بِخَطِّ الأَزهري.
وعَبَدَ اللَّهَ يَعْبُدُه عِبادَةً ومَعْبَدًا ومَعْبَدَةً: تأَلَّه لَهُ؛ وَرَجُلٌ عَابِدٌ مِنْ قَوْمٍ عَبَدَةٍ وعُبُدٍ وعُبَّدٍ وعُبَّادٍ.
والتَّعَبُّدُ: التَّنَسُّكُ.
والعِبادَةُ: الطَّاعَةُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَمِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}؛ قرأَ أَبو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وأَبو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلِيٍّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ومَن عَبَدَ الطاغوتَ}؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، نَسَقٌ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ؛ الْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَنْ عبَدَ الطاغوتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ وتأْويلُ عبدَ الطاغوتَ أَي أَطاعه يَعْنِي الشيطانَ فِيمَا سَوّلَ لَهُ وأَغواه؛ قَالَ: والطاغوتُ هُوَ الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ أَي نُطِيعُ الطاعةَ الَّتِي يُخْضَعُ مَعَهَا، وَقِيلَ: إِياك نُوَحِّد، قَالَ: وَمَعْنَى العبادةِ فِي اللُّغَةِ الطاعةُ مَعَ الخُضُوعِ، وَمِنْهُ طريقٌ مُعَبَّدٌ إِذا كَانَ مُذَلَّلًا بِكَثْرَةِ الوطءِ.
وقرأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأَعمش وَحَمْزَةُ: وعَبُدَ الطاغوتِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا أَعلم لَهُ وَجْهًا إِلا أَن يَكُونَ عَبُدَ بِمْنْزِلَةِ حَذُرٍ وعَجُلٍ.
وَقَالَ نَصْرٌ الرَّازِيُّ: عَبُدَ وَهِمَ مَنْ قرأَه وَلَسْنَا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ اللَّيْثُ: وعَبُدَ الطاغوتُ مَعْنَاهُ صَارَ الطاغوتُ يُعْبَدُ كَمَا يُقَالُ ظَرُفَ الرَّجُلُ وفَقُه؛ قَالَ الأَزهري: غَلِطَ اللَّيْثُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّفْسِيرِ، مَا قرأَ أَحد مِنْ قرَّاء الأَمصار وَغَيْرِهِمْ وعَبُدَ الطاغوتُ، بِرَفْعِ الطَّاغُوتِ، إِنما قرأَ حَمْزَةُ وعَبُدَ الطاغوتِ وَهِيَ مَهْجُورَةٌ أَيضًا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وقرأَ بَعْضُهُمْ وعَبُدَ الطاغوتِ وأَضافه؛ قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيمَا يُقَالُ خَدَمُ الطاغوتِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِجَمْعٍ لأَن فَعْلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فَعُلٍ مِثْلَ حَذُرٍ ونَدُسٍ، فِيَكُونُ الْمَعْنَى وخادِمَ الطاغوتِ؛ قَالَ الأَزهري: وَذَكَرَ اللَّيْثُ أَيضًا قِرَاءَةً أُخرى مَا قرأَ بِهَا أَحد قَالَ وَهِيَ: وَعَابِدُو الطاغوتِ جَمَاعَةٌ؛ قَالَ: وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقِرَاآتِ، وَكَانَ نَوْلُه أَن لَا يَحكي القراآتِ الشاذَّةَ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهَا، وَالْقَارِئُ إِذا قرأَ بِهَا جَاهِلٌ، وَهَذَا دَلِيلُ أَن إِضافته كِتَابَهُ إِلى الْخَلِيلِ بْنِ أَحمد غَيْرُ صَحِيحٍ، لأَن الْخَلِيلَ كَانَ أَعقل مِنْ أَن يُسَمِّيَ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ قِرَاآتٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَا تَكُونُ مَحْفُوظَةً لِقَارِئٍ مَشْهُورٍ مِنْ قُرَّاءِ الأَمصار، ونسأَل اللَّهَ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وقُرِئَ وعُبُدَ الطاغوتِ جماعةُ عابِدٍ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ جَمْعُ عَبيدٍ كَرَغِيفٍ ورُغُف؛ وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنه قرأَ: وعُبْدَ الطاغوتِ، بإِسكان الْبَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، وَقُرِئَ وعَبْدَ الطاغوتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحدهما أَن يَكُونَ مُخَفَفًا مِنْ عَبُدٍ كَمَا يُقَالُ فِي عَضُدٍ عَضْدٌ، وَجَائِزٌ أَن يَكُونَ عَبْدَ اسْمُ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَيَجُوزُ فِي عَبْدٍ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَن أُبَيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ قَرَآ: وعَبَدوا الطاغوتَ؛ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنه قرأَ: وعُبَّادَ الطاغوتِ، وَبَعْضُهُمْ: وعابِدَ الطاغوتِ؛ قَالَ الأَزهري: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وعُبِّدَ الطاغوتُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيضًا: وعُبَّدَ الطاغوتِ، وَمَعْنَاهُ عُبَّاد الطاغوتِ؛ وَقُرِئَ: وعَبَدَ الطاغوتِ، وَقُرِئَ: وعَبُدَ الطاغوتِ.
قَالَ الأَزهري: وَالْقِرَاءَةُ الْجَيِّدَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي بِهَا قرأَ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ، وعَبَدَ الطاغوتَ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ أَوّلًا؛ وأَما قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَر:
أَبَنِي لُبَيْنَى، لَسْتُ مُعْتَرِفًا، ***لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ أَحَدُ
أَبَني لُبَيْنى، إِنَّ أُمَّكُمُ ***أَمَةٌ، وإِنَّ أَباكُمُ عَبُدُ
فإِنه أَراد وإِن أَباكم عَبْد فَثَقَّل لِلضَّرُورَةِ، فَقَالَ عَبُدُ لأَن الْقَصِيدَةَ مِنَ الْكَامِلِ وَهِي حَذَّاء.
وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ}؛ أَي دَائِنُونَ.
وكلُّ مَنْ دانَ لِمَلِكٍ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: فُلَانٌ عَابِدٌ"""" وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ المُنْقاد لأَمره.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}؛ أَي أَطيعوا رَبَّكُمْ.
وَالْمُتَعَبِّدُ: الْمُنْفَرِدُ بِالْعِبَادَةِ.
والمُعَبَّد: المُكَرَّم المُعَظَّم كأَنه يُعْبَد؛ قَالَ:
تقولُ: أَلا تُمْسِكْ عليكَ، فإِنَّني ***أَرى المالَ عندَ الباخِلِينَ مُعَبَّدَا؟
سَكَّنَ آخِرَ تُمْسِكْ لأَنه تَوَهَّمَ سِكُعَ مَنْ تُمْسِكُ عليكَ بِناءً فِيهِ ضَمَّةٌ بَعْدَ كَسْرَةٍ، وَذَلِكَ مُسْتَثْقَلٌ فَسَكَّنَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
سِيروا بَني العَمِّ، فالأَهْوازُ مَنْزِلُكم ***ونَهْرُ تِيرَى، وَلَا تَعْرِفْكُمُ العَربُ
والمُعَبَّد: المُكَرَّم فِي بَيْتِ حَاتِمٍ حَيْثُ يَقُولُ:
تقولُ: أَلا تُبْقِي عَلَيْكَ، فإِنَّني ***أَرى المالَ عِنْدَ المُمْسِكينَ مُعَبَّدا؟
أَي مُعَظَّمًا مَخْدُومًا.
وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُكَرَّم.
والعَبَدُ: الجَرَبُ، وَقِيلَ: الجربُ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ دَوَاءٌ؛ وَقَدْ عَبِدَ عَبَدًا.
وَبَعِيرٌ مُعَبَّد: أَصابه ذَلِكَ الجربُ؛ عَنْ كُرَاعٍ.
وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مَهْنُوءٌ بالقَطِران؛ قَالَ طَرَفَةُ:
إِلى أَن تَحامَتْني العَشِيرَةُ كُلُّها، ***وأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ
قَالَ شَمِرٌ: المُعَبَّد مِنَ الإِبل الَّذِي قَدْ عُمَّ جِلدُه كلُّه بالقَطِران؛ وَيُقَالُ: المُعَبَّدُ الأَجْرَبُ الَّذِي قَدْ تَسَاقَطَ وَبَرهُ فأُفْرِدَ عَنِ الإِبل لِيُهْنَأَ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي عَبَّدَه الجَرَبُ أَي ذَلَّلَهُ؛ وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وضَمَّنْتُ أَرْسانَ الجِيادِ مُعَبَّدًا، ***إِذا مَا ضَرَبْنا رأْسَه لَا يُرَنِّحُ
قَالَ: المُعَبَّد هَاهُنَا الوَتِدُ.
قَالَ شَمِرٌ: قِيلَ لِلْبَعِيرِ إِذا هُنِئَ بالقَطِرانِ مُعَبَّدٌ لأَنه يَتَذَلَّلُ لِشَهْوَتِه القَطِرانَ وَغَيْرَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ.
وَقَالَ أَبو عَدْنَانَ: سَمِعْتُ الْكِلَابِيِّينَ يَقُولُونَ: بَعِيرٌ مُتَعَبِّدٌ ومُتَأَبِّدٌ إِذا امْتَنَعَ عَلَى النَّاسِ صُعُوبَةً وَصَارَ كآبِدَةِ الْوَحْشِ.
والمُعَبَّدُ: الْمُذَلَّلُ.
وَالتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي يُترَك وَلَا يُرْكَبُ.
وَالْتَعْبِيدُ: التَّذْلِيلُ.
وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُذَلَّلٌ.
وَطَرِيقٌ مُعَبَّد: مَسْلُوكٌ مُذَلَّلٌ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْمُخْتَلِفَةُ؛ قَالَ الأَزهري: والمعبَّد الطَّرِيقُ الْمَوْطُوءُ فِي قَوْلِهِ:
وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ وأَنشد شَمِرٌ:
وبَلَدٍ نَائِي الصُّوَى مُعَبَّدِ، ***قَطَعْتُه بِذاتِ لَوْثٍ جَلْعَدِ
قَالَ: أَنشدنيه أَبو عدنانَ وَذَكَرَ أَن الْكِلَابِيَّةَ أَنشدته وَقَالَتِ: المعبَّد الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَثر وَلَا علَم وَلَا مَاءٌ والمُعَبَّدة: السَّفِينَةُ المُقَيَّرة؛ قَالَ بِشْرٌ فِي سَفِينَةٍ رَكِبَهَا:
مُعَبَّدَةُ السَّقائِفِ ذاتُ دُسْرٍ، ***مُضَبَّرَةٌ جَوانِبُها رَداحُ
قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: المُعَبَّدةُ المَطْلِيَّة بِالشَّحْمِ أَو الدُّهْنِ أَو الْقَارِ؛ وَقَوْلُ بِشْرٍ:
تَرى الطَّرَقَ المُعَبَّدَ مِن يَدَيها، ***لِكَذَّانِ الإِكامِ بِهِ انْتِضالُ
الطَّرَقُ: اللِّينُ فِي اليَدَينِ.
وَعَنَى بالمعبَّد الطَّرَق الَّذِي لَا يُبْس يَحْدُثُ عَنْهُ وَلَا جُسُوءَ فكأَنه طَرِيقٌ مُعَبَّد قَدْ سُهِّلَ وذُلِّلَ.
والتَّعْبِيدُ: الاسْتِعْبَادُ وَهُوَ أَن يَتَّخِذَه عَبْدًا وَكَذَلِكَ الاعْتِبادُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «ورجلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا»، والإِعبادُ مِثْلُه وَكَذَلِكَ التَّعَبُّد؛ وَقَالَ:
تَعَبَّدَني نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَدْ أُرَى ***ونِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطيعٌ ومُهْطِعُ
وعَبِدَ عَلَيْهِ عَبَدًا وعَبَدَةً فَهُوَ عابِدٌ وعَبدٌ: غَضِب؛ وَعَدَّاهُ الْفَرَزْدَقُ بِغَيْرِ حَرْفٍ فَقَالَ:
عَلَامَ يَعْبَدُني قَوْمي، وَقَدْ كَثُرَتْ ***فِيهِمْ أَباعِرُ، ما شاؤُوا، وعُبْدانُ [عِبْدانُ] ؟
أَنشده يَعْقُوبُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى يُعْبِدُني؛ وَقِيلَ: عَبِدَ عَبَدًا فَهُوَ عَبِدٌ وعابِدٌ: غَضِبَ وأَنِفَ، وَالِاسْمُ العَبَدَةُ.
والعَبَدُ: طُولُ الْغَضَبِ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: عَبِد عَلَيْهِ وأَحِنَ عَلِيْهِ وأَمِدَ وأَبِدَ أَي غَضِبَ.
وَقَالَ الغَنَوِيُّ: العَبَدُ الحُزْن والوَجْدُ؛ وَقِيلَ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
أُولئِكَ قَوْمٌ إِنْ هَجَوني هَجَوتُهم، ***وأَعْبَدُ أَن أَهْجُو كُلَيْبًا بِدارِمِ
أَعبَدُ أَي آنَفُ؛ وَقَالَ ابْنُ أَحمر يَصِفُ الغَوَّاص:
فأَرْسَلَ نَفْسَهُ عَبَدًا عَلَيها، ***وَكَانَ بنَفْسِه أَرِبًا ضَنِينا
قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَبَدًا أَي أَنَفًا.
يَقُولُ: أَنِفَ أَن تَفُوتَهُ الدُّرَّة.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ، ويُقْرأُ: العَبِدينَ}؛ قَالَ اللَّيْثُ: العَبَدُ، بِالتَّحْرِيكِ، الأَنَفُ والغَضَبُ والحَمِيَّةُ مِنْ قَوْلٍ يُسْتَحْيا مِنْهُ ويُسْتَنْكَف، وَمَنْ قرأَ العَبِدِينَ فَهُوَ مَقْصُورٌ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ فَهُوَ عَبِدٌ؛ وَقَالَ الأَزهري: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وأَنا ذَاكِرُ أَقوال السَّلَفِ فِيهَا ثُمَّ أُتْبِعُها بِالَّذِي قَالَ أَهل اللُّغَةِ وأُخبر بأَصحها عَنْدِي؛ أَما الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّيْثُ فِي قراءَة الْعَبِدِينَ، فَهُوَ قَوْلُ أَبي عُبَيْدَةَ عَلَى أَني مَا عَلِمْتُ أَحدًا قرأَ فأَنا أَول العَبِدين، وَلَوْ قرئَ مَقْصُورًا كَانَ مَا قَالَهُ أَبو عُبَيْدَةَ مُحْتَمَلًا، وإِذ لَمْ يقرأْ بِهِ قَارِئٌ مَشْهُورٌ لَمْ نعبأْ بِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنِ"""" ابْنِ عْيَيْنَةَ أَنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ، يَقُولُ: فَكَمَا أَني لَسْتُ أَول مَنْ عَبَدَ اللَّهَ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلَّهِ وَلَدٌ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ إِن كَانَ عَلَى الشَّرَطِ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُونَ لَكُنْتُ أَوّل مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ؛ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِن كَانَ مَا كَانَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ عَلَى مَعْنَى مَا كَانَ، فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ أَوّل مَنْ عَبْدَ اللَّهِ مَنْ هَذِهِ الأُمة؛ قَالَ الْكِسَائِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِن كَانَ أَي مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ فأَنا أَول الْعَابِدِينَ أَي الْآنِفِينَ، رَجُلٌ عابدٌ وعَبِدٌ وآنِف وأَنِفٌ أَي الغِضاب الْآنِفِينَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ فأَنا أَول الْجَاحِدِينَ لِمَا تَقُولُونَ، وَيُقَالُ أَنا أَوَّل مَنْ تَعبَّده عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مُخالَفَةً لَكُمْ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقِيلَ لَهُ: «أَنت أَمرت بِقَتْلِ عُثْمَانَ أَو أَعَنْتَ عَلَى قَتْلِهِ فَعَبِدَ وضَمِدَ»أَي غَضِبَ غَضَبَ أَنَفَةٍ؛ عَبِدَ، بِالْكَسْرِ، يَعْبَدُ عَبَدًا، بِالتَّحْرِيكِ، فَهُوَ عابِدٌ وعَبِدٌ؛ وَفِي رِوَايَةٍ أُخرى عَنْ"""" عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنه قَالَ: عَبِدْتُ فصَمَتُ
أَي أَنِفْتُ فسَكَتُّ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ: فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ لَهُ، عَلَى أَنه لَا وَلَدَ لَهُ وَالْوَقْفُ عَلَى الْعَابِدِينَ تَامٌّ.
قَالَ الأَزهري: قَدْ ذَكَرْتُ الأَقوال وَفِيهِ قَوْلٌ أَحْسَنُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَالُوا وأَسْوَغُ فِي اللُّغَةِ وأَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ وأَسرع إِلى الْفَهْمِ.
رُوِيَ عَنْ"""" مُجَاهِدٍ فِيهِ أَنه يَقُولُ: إِن كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ فأَنا أَوّل مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَكَذَّبَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا وَاضِحٌ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ وُضُوحًا أَن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لنبيِّه: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ إِلهَ الخَلْق أَجمعين الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وأَوّل المُوَحِّدِين لِلرَّبِّ الْخَاضِعِينَالْمُطِيعِينَ لَهُ وَحْدَهُ لأَن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَاعْتَرَفَ بأَنه مَعْبُودُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَدْ دَفَعَ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فِي دَعْوَاكُمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ مَعْبُودِي الَّذِي لَا ولَدَ لَهُ وَلَا والِدَ؛ قَالَ الأَزهري: وإِلى هَذَا ذَهَبَ إِبراهيم بْنُ السريِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ؛ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهُ.
وتَعَبَّدَ كَعَبِدَ؛ قَالَ جَرِيرٌ:
يَرَى المُتَعَبَّدُونَ عليَّ دُوني ***حِياضَ المَوْتِ، واللُّجَجَ الغِمارا
وأَعْبَدُوا بِهِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ.
وأُعْبِدَ بِفُلانٍ: ماتَتْ راحِلَتُه أَو اعْتَلَّت أَو ذهَبَتْ فانْقُطِعَ بِهِ، وَكَذَلِكَ أُبْدِعَ بِهِ.
وعَبَّدَ الرجلُ: أَسْرعَ.
وَمَا عَبَدَك عَنِّي أَي مَا حَبَسَك؛ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي.
وعَبِدَ بِهِ: لَزِمَه فَلَمْ يُفارِقْه؛ عَنْهُ أَيضًا.
والعَبَدَةُ: البَقاءُ؛ يُقَالُ: لَيْسَ لِثَوبِك عَبَدَةٌ أَي بَقاءٌ وَقُوَّةٌ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والعَبَدَةُ: صَلاءَةُ الطِّيب.
ابْنُ الأَعرابي: العَبْدُ نَبات طَيِّبُ الرَّائِحَةِ؛ وأَنشد:
حَرَّقَها العَبْدُ بِعُنْظُوانِ، ***فاليَوْمُ مِنْهَا يومُ أَرْوَنانِ
قَالَ: والعَبْدُ تُكلَفُ بِهِ الإِبلُ لأَنه مَلْبَنَة مَسْمَنَةٌ، وَهُوَ حارُّ المِزاجِ إِذا رَعَتْهُ الإِبِلُ عَطِشَتْ فطلَبَت الْمَاءَ.
والعَبَدَةُ: النَّاقَةُ الشَّدِيدَةُ؛ قَالَ مَعْنُ بْنُ أَوس:
تَرَى عَبَداتِهِنَّ يَعُدْنَ حُدْبًا، ***تُناوِلُهَا الفَلاةُ إِلى الفلاةِ
وناقةٌ ذاتُ عَبَدَةٍ أَي ذاتُ قوَّةٍ شديدةٍ وسِمَنٍ؛ وَقَالَ أَبو دُوادٍ الإِيادِيُّ:
إِن تَبْتَذِلْ تَبْتَذِلْ مِنْ جَنْدَلٍ خَرِسٍ ***صَلابَةً ذاتَ أَسْدارٍ، لهَا عَبَدَه
والدراهمُ العَبْدِيَّة: كَانَتْ دراهمَ أَفضل مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ وأَكثر وَزْنًا.
وَيُقَالُ: عَبِدَ فُلَانٌ إِذا نَدِمَ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُهُ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى تَقْصِيرِ مَا كَانَ مِنْهُ.
والمِعْبَدُ: المِسْحاةُ.
ابْنُ الأَعرابي: المَعَابِدُ المَساحي والمُرورُ؛ قَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادِي:
إِذ يَحْرُثْنَه بالمَعَابِدِ
وَقَالَ أَبو نَصْرٍ: المَعَابِدُ العَبيدُ.
وتَفَرَّقَ القومُ عَبادِيدَ وعَبابيدَ؛ والعَباديدُ والعَبابيدُ: الْخَيْلُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي ذَهَابِهَا وَمَجِيئِهَا وَلَا وَاحِدَ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَقَعُ إِلا فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ عبْدِيدٌ.
الْفَرَّاءُ: العباديدُ والشَّماطِيطُ لَا يُفْرَد لَهُ واحدٌ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا يُتكلم بِهِمَا فِي الإِقبال إِنما يُتَكَلَّمُ بِهِمَا فِي التَّفَرُّق وَالذَّهَابِ.
الأَصمعيُّ: يُقَالُ صَارُوا عَبادِيدَ وعَبابيدَ أَي مُتَفَرِّقِين؛ وَذَهَبُوا عَباديدَ كَذَلِكَ إِذا ذَهَبُوا مُتَفَرِّقِينَ.
وَلَا يُقَالُ أَقبلوا عَبادِيدَ.
قَالُوا: وَالنِّسْبَةُ إِليهم عَبَادِيدِيُّ؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ ذهَبَ إِلى أَنه لَوْ كَانَ لَهُ واحدٌ لَرُدَّ فِي النَّسَبِ إِليه.
والعبادِيدُ: الآكامُ.
والعَبادِيدُ: الأَطرافُ الْبَعِيدَةُ؛ قَالَ الشَّمَّاخُ:
والقَوْمُ آتَوْكَ بَهْزٌ دونَ إِخْوَتِهِم، ***كالسَّيْلِ يَرْكَبُ أَطرافَ العَبَادِيدِ
وبَهْزٌ: حيٌّ مِنْ سُلَيمٍ.
قَالَ: هِيَ الأَطرافُ الْبَعِيدَةُ والأَشياء المتفَرِّقةُ.
قَالَ الأَصمعي: العَبابيدُ الطُّرُقُ الْمُخْتَلِفَةُ.
والتَّعْبيدُ: مِنْ قَوْلِكَ مَا عَبَّدَ أَن فعَلَ ذَلِكَ أَي مَا لَبِثَ؛ وَمَا عَتَّمَ وَمَا كَذَّبَ كُلُّه: مَا لَبِثَ.
وَيُقَالُ انثَلَّ يَعْدُو وانْكَدَرَ يَعْدُووعَبَّدَ يَعْدُو إِذا أَسْرَع بعضَ الإِسْراعِ.
والعَبْدُ: وَادٍ معروف في جبال طيء.
وعَبُّودٌ: اسْمُ رَجُلٍ ضُرِبَ بِهِ المَثَلُ فَقِيلَ: نامَ نَوْمَةَ عَبُّودٍ، وَكَانَ رَجُلًا تَماوَتَ عَلَى أَهله وَقَالَ: انْدُبِيني لأَعلم كَيْفَ تَنْدبينني، فَنَدَبَتْهُ فَمَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؛ قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: كَانَ عَبُّودٌ عَبْدًا أَسْوَدَ حَطَّابًا فَغَبَر فِي مُحْتَطَبِه أُسبوعًا لَمْ يَنَمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَبَقِيَ أُسبوعًا نَائِمًا، فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ وَقِيلَ: نَامَ نومةَ عَبُّودٍ.
وأَعْبُدٌ ومَعْبَدٌ وعُبَيْدَةُ وعَبَّادٌ وعَبْدٌ وعُبادَةُ وعابِدٌ وعُبَيْدٌ وعِبْدِيدٌ وعَبْدانُ وعُبَيْدانُ، تصغيرُ عَبْدانَ، وعَبِدَةُ وعَبَدَةُ: أَسماءٌ.
وَمِنْهُ علقمةُ بْنُ عَبَدَة، بِالتَّحْرِيكِ، فإِما أَن يَكُونَ مِنَ العَبَدَةِ الَّتِي هِيَ البَقاءُ، وإِما أَن يَكُونَ سُمِّيَ بالعَبَدَة الَّتِي هِيَ صَلاءَةُ الطِّيبِ، وعَبْدة بْنُ الطَّبيب، بِالتَّسْكِينِ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: النَّسب إِلى عَبْدِ الْقَيْسِ عَبْدِيٌّ، وَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي أُضيف فِيهِ إِلى الأَول لأَنهم لَوْ قَالُوا قَيْسِيٌّ، لَالْتَبَسَ بِالْمُضَافِ إِلى قَيْس عَيْلانَ وَنَحْوِهِ، وَرُبَّمَا قَالُوا عَبْقَسِيٌّ؛ قَالَ سُوِيدُ بْنُ أَبي كَاهِلٍ:
وهُمْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ، ***فَلَا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ بِأَجْدَعَا أَي بأَنْفٍ أَجْدَعَ فحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وأَقام صِفَتَهُ مَكَانَهُ.
والعَبيدتانِ: عَبيدَةُ بنُ مُعَاوِيَةَ وعَبيدَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَبَنُو عَبيدَة: حيٌّ، النَّسَبُ إِليه عُبَدِيٌّ، وَهُوَ مِنْ نَادِرِ مَعْدُولِ النَّسَبِ.
والعُبَيْدُ، مُصَغَّرٌ: اسْمُ فَرَسُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْداسٍ؛ وَقَالَ:
أَتَجْعَلُ نَهْبي ونَهْبَ العُبَيْدِ ***بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ؟
وعابِدٌ: مَوْضِعٌ.
وعَبُّودٌّ: مَوْضِعٌ أَو جبلٌ.
وعُبَيْدانُ: مَوْضِعٌ.
وعُبَيْدانُ: ماءٌ مُنْقَطِعٌ بأَرض الْيَمَنِ لَا يَقْرَبُه أَنِيسٌ وَلَا وَحْشٌ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
فهَلْ كنتُ إِلَّا نَائِيًا إِذْ دَعَوْتَني، ***مُنادَى عُبَيْدانَ المُحَلَّاءِ باقِرُهْ
وَقِيلَ: عُبَيْدانُ فِي الْبَيْتِ رَجُلٌ كَانَ رَاعِيًا لِرَجُلٍ مِنْ عَادٍ ثُمَّ أَحد بَنِي سُوَيْدٍ وَلَهُ خَبَرٌ طَوِيلٌ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وعُبَيْدانُ اسْمُ وَادٍ يُقَالُ إِن فِيهِ حيَّة قَدْ مَنَعَتْه فَلَا يُرْعَى وَلَا يُؤْتَى؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
لِيَهْنَأْ لَكُمْ أَنْ قَدْ نَفَيْتُمْ بُيوتَنا، ***مُنَدَّى عُبَيْدانَ المُحَلَّاءِ باقِرُهْ
يَقُولُ: نَفَيْتُمْ بُيُوتَنَا إِلى بُعْدٍ كبُعْدِ عُبَيْدانَ؛ وَقِيلَ: عُبَيْدَانُ هُنَا الْفَلَاةُ.
وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: عُبَيْدَانُ اسْمُ وَادِي الْحَيَّةِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنشاده: المُحَلِّئِ باقِرَه، بِكَسْرِ اللَّامِ مِنَ المُحَلِّئِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ باقِرَه، وأَوّل الْقَصِيدَةِ:
أَلا أَبْلِغَا ذُبيانَ عَنِّي رِسَالَةً، ***فَقَدْ أَصْبَحَتْ عَنْ مَنْهَجِ الحَقِّ جائِرَهْ
وَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: عُبَيْدانُ رَاعٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُوَيْدِ بْنِ عَادٍ وَكَانَ آخِرَ عَادٍ، فإِذا حَضَرَ عُبَيْدَانُ الْمَاءَ سَقَى مَاشِيَتَهُ أَوّل النَّاسِ وتأَخر النَّاسُ كُلُّهُمْ حَتَّى يَسْقِي فَلَا يُزَاحِمُهُ عَلَى الْمَاءِ أَحد، فَلَمَّا أَدرك لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَاشْتَدَّ أَمره أَغار عَلَى قَوْمِ عُبَيْدَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ حَتَّى ذُلُّوا، فَكَانَ لُقْمَانُ يُورِدُ إِبلهُ فَيَسْقِي ويَسْقِي عُبَيْدانُ مَاشِيَتَهُ بَعَدَ أَن يَسْقِيَ لُقْمَانُ فَضَرَبَهُ النَّاسُ مَثَلًا.
والمُنَدَّى: المَرْعَى يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ فِيهِ الحَمْضُ، فإِذا شَرِبَتِ الإِبلُ أَوّل شَرْبَةٍ نُحِّيَتْ إِلى المُنَدَّى لِتَرْعَى فِيهِ، ثُمَّ تُعَادُ إِلى الشُّرْبِ فَتَشْرَبُ حَتَّى تَرْوَى وَذَلِكَ أَبقى للماءِ فِي أَجوافها.
والباقِرُ: جَمَاعَةُ البَقَر.
والمُحَلِّئُ: الْمَانِعُ.
الفرَّاء: يُقَالُ صُكَّ بِهِ فِي أُمِّ عُبَيْدٍ، وَهِي الفلاةُ، وَهِي الرقَّاصَةُ.
قَالَ: وَقُلْتُ لِلْعَتَّابِيِّ: مَا عُبَيْدٌ؟ فَقَالَ: ابْنُ الْفَلَاةِ؛ وعُبَيْدٌ فِي قَوْلِ الأَعشى:
لَمْ تُعَطَّفْ عَلَى حُوارٍ، ولم يَقْطَعْ ***عُبَيْدٌ عُرُوقَهَا مِن خُمالِ
اسْمُ بَيْطارٍ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}؛ أَي فِي حِزْبي.
والعُبَدِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلى بَطْنٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ جَنابٍ مِنْ قُضاعَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو العُبَيْدِ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلى بَنِي الهُذَيْل هُذَلِيٌّ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الأَعشى بِقَوْلِهِ:
بَنُو الشَّهْرِ الحَرامِ فَلَسْتَ مِنْهُمْ، ***ولَسْتَ مِنَ الكِرامِ بَني العُبَيْدِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: سَبَبُ هَذَا الشِّعْرِ أَن عَمْرو بنَ ثعلبةَ بنِ الحَرِث بنِ حضْرِ بنِ ضَمْضَم بْنِ عَدِيِّ بْنِ جنابٍ كَانَ رَاجِعًا مِنْ غَزاةٍ، وَمَعَهُ أُسارى، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ الأَعشى فأَخذه فِي جُمْلَةِ الأُسارى، ثُمَّ سَارَ عَمْرٌو حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ شُرَيْحِ بنِ حصْنِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ السَّمَوْأَل بْنِ عَادِيَاءَ فأَحسن نُزُلَهُ، فسأَل الأَعشى عَنِ الَّذِي أَنزله، فَقِيلَ لَهُ هُوَ شُرَيْحُ بْنُ حِصْنٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ امْتَدَحْتُ أَباه السَّمَوْأَل وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ خلَّةٌ، فأَرسل الأَعشى إِلى شُرَيْحٍ يُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبيه، وَمَضَى شُرَيْحٌ إِلى عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ فَقَالَ: إِني أُريد أَنْ تَهَبَنِي بعضَ أُساراكَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُمْ مَنْ شِئتَ، فَقَالَ: أَعطني هَذَا الأَعمى، فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا الزَّمِنِ؟ خُذْ أَسيرًا فِداؤُه مائةٌ أَو مِائَتَانِ مِنَ الإِبل، فَقَالَ: مَا أُريدُ إِلا هَذَا الأَعمى فإِني قَدْ رَحِمْتُهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الأَعشى هَجَا عَمْرَو بْنَ ثَعْلَبَةَ بِبَيْتَيْنِ وَهُمَا هَذَا الْبَيْتُ [بَنُو الشَّهْرِ الْحَرَامِ] وَبَعْدَهُ:
وَلَا مِنْ رَهْطِ جَبَّارِ بنِ قُرْطٍ، ***وَلَا مِن رَهْطِ حارثَةَ بنِ زَيْدِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ عَمْرَو بْنَ ثَعْلَبَةَ فأَنْفَذ إِلى شُرَيْحٍ أَنْ رُدَّ عليَّ هِبَتي، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: مَا إِلى ذَلِكَ سَبِيلٌ، فَقَالَ: إِنه هَجَانِي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا يَهْجُوكَ بَعْدَهَا أَبدًا؛ فَقَالَ الأَعشى يَمْدَحُ شُرَيْحًا:
شُرَيْحُ، لَا تَتْرُكَنِّي بعد ما عَلِقَتْ، ***حِبالَكَ اليومَ بَعْدَ القِدِّ، أَظْفارِي
يَقُولُ فِيهَا:
كُنْ كالسَّمَوْأَلِ إِذْ طافَ الهُمامُ بِهِ ***فِي جَحْفَلٍ، كَسَوادِ الليلِ، جَرَّارِ
بالأَبْلَقِ الفَرْدِ مِن تَيْماءَ مَنْزِلهُ، ***حِصْنٌ حَصِينٌ، وجارٌ غيرُ غدَّارِ
خَيَّرَه خُطَّتَيْ خَسْفٍ، فَقَالَ لَهُ: ***مَهْمَا تَقُلْه فإِني سامِعٌ حارِي
فَقَالَ: ثُكْلٌ وغَدْرٌ أَنتَ بَيْنَهُمَا، ***فاخْتَرْ، وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لمُخْتارِ
فَشَكَّ غيرَ طويلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: ***اقْتُلْ أَسِيرَكَ إِني مانِعٌ جَارِي
وَبِهَذَا ضُرِبَ المثلُ فِي الْوَفَاءِ بالسَّمَوْأَلِ فَقِيلَ: أَوفى مِنَ السَّمَوْأَل.
وكان الحرث الأَعرج الْغَسَّانِيُّ قَدْ نَزَلَ عَلَى السموأَل، وَهُوَ فِي حِصْنِهِ، وَكَانَ وَلَدُهُ خَارِجَ الْحِصْنِ فأَسره الْغَسَّانِيُّ وَقَالَ للسموأَل: اخْتَرْ إِمّا أَن تُعْطِيَني السِّلاحَ الَّذِي أَوْدَعك إِياه إمرُؤُ الْقَيْسِ، وإِمّا أَن أَقتل وَلَدَكَ؛ فأَبى أَن يُعْطِيَهُ فَقَتَلَ وَلَدَهُ.
والعَبْدانِ فِي بَنِي قُشَيْرٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُشَيْرٍ، وَهُوَ الأَعور، وَهُوَ ابْنُ لُبَيْنى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ قُشَير، وَهُوَ سَلَمَةُ الْخَيْرِ.
والعَبيدَتانِ: عَبيدَةُ"""" ابن معاويةَ بْنِ قُشَيْر، وعَبيدَةُ بْنَ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ.
والعَبادِلَةُ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
73-لسان العرب (دهر)
دهر: الدَّهْرُ: الأَمَدُ المَمْدُودُ، وَقِيلَ: الدَّهْرُ أَلف سَنَةٍ.قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ حُكِيَ فِيهِ الدَّهَر، بِفَتْحِ الْهَاءِ: فإِما أَن يَكُونَ الدَّهْرُ والدَّهَرُ لُغَتَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إِليه الْبَصْرِيُّونَ فِي هذا النحو فيقتصر عَلَى مَا سُمِعَ مِنْهُ، وإِما أَن يَكُونَ ذَلِكَ لِمَكَانِ حُرُوفِ الْحَلْقِ فَيَطَّرِدُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا ذَهَبَ إِليه الْكُوفِيُّونَ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ:
وجَبَلَا طَالَ مَعَدًّا فاشْمَخَرْ، ***أَشَمَّ لَا يَسْطِيعُه النَّاسُ، الدَّهَرْ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وجمعُ الدَّهْرِ أَدْهُرٌ ودُهُورٌ، وَكَذَلِكَ جَمْعُ الدَّهَرِ لأَنا لَمْ نَسْمَعْ أَدْهارًا وَلَا سَمِعْنَا فِيهِ جَمْعًا إِلَّا مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَمْعِ دَهْرٍ؛ فأَما" قَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإِن اللَّهَ: هُوَ الدَّهْرُ "؛ فَمَعْنَاهُ أَن مَا أَصابك مِنَ الدَّهْرِ فَاللَّهُ فَاعِلُهُ لَيْسَ الدَّهْرُ، فإِذا شَتَمْتَ بِهِ الدَّهْرَ فكأَنك أَردت بِهِ اللَّهَ؛ الْجَوْهَرِيُّ: لأَنهم كانوا يضيقون النَّوَازِلَ إِلى الدَّهْرِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ ذَلِكَ بِكُمْ فإِن ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَفِي رِوَايَةٍ: فإِن الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ قَالَ الأَزهري: قَالَ أَبو عُبَيْدٍ قَوْلُهُ فإِن اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لأَحد مِنْ أَهل الإِسلام أَن يَجْهَلَ وَجْهَهُ وَذَلِكَ أَن المُعَطِّلَةَ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: ورأَيت بَعْضَ مَنْ يُتهم بِالزَّنْدَقَةِ والدَّهْرِيَّةِ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: أَلا تَرَاهُ يَقُولُ فإِن اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ وَهَلْ كَانَ أَحد يَسُبُّ اللَّهَ فِي آبَادِ الدَّهْرِ؟ وَقَدْ قَالَ الأَعشى فِي الْجَاهِلِيَّةِ:
اسْتَأْثرَ اللهُ بالوفاءِ و ***بالْحَمْدِ، وَوَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا
قَالَ: وتأْويله عِنْدِي أَن الْعَرَبَ كَانَ شأْنها أَن تَذُمَّ الدَّهْرَ وتَسُبَّه عِنْدَ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ تَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ مَوْتٍ أَو هَرَمٍ فَيَقُولُونَ: أَصابتهم قَوَارِعُ الدَّهْرِ وَحَوَادِثُهُ وأَبادهم الدَّهْرُ، فَيَجْعَلُونَ الدَّهْرَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَذُمُّونَهُ، وَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي أَشعارهم وأَخبر اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ "؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}.
وَالدَّهْرُ: الزَّمَانُ الطَّوِيلُ وَمُدَّةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، " فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ "، عَلَى تأْويل: لَا تَسُبُّوا الَّذِي يَفْعَلُ بِكُمْ هَذِهِ الأَشياء فإِنكم إِذا سَبَبْتُمْ فَاعِلَهَا فإِنما يَقَعُ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لأَنه الْفَاعِلُ لَهَا لَا الدَّهْرُ، فَهَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ؛ قَالَ الأَزهري: وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا فَسَّرَهُ أَبو عُبَيْدٍ فَظَنَنْتُ أَن أَبا عُبَيْدٍ حَكَى كَلَامَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَمِّ الدَّهْرِ وَسَبِّهِ أَي لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ هَذِهِ الأَشياء فإِنكم إِذا سَبَبْتُمُوهُ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لأَنه الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الرِّوَايَةِ الأُولى: فإِن جَالِبَ الْحَوَادِثِ وَمُنْزِلُهَا هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُ، فَوَضَعَ الدَّهْرَ مَوْضِعَ جَالِبِ الْحَوَادِثِ لِاشْتِهَارِ الدَّهْرِ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَقْدِيرُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فإِن اللَّهَ هُوَ الْجَالِبُ لِلْحَوَادِثِ لَا غَيْرُ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَن جَالِبَهَا الدَّهْرُ.
وعامَلَهُ مُدَاهَرَةً ودِهارًا: مِنَ الدَّهْرِ؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَكَذَلِكَ اسْتَأْجَرَهُ مُدَاهَرَةً ودِهارًا؛ عَنْهُ.
الأَزهري: قَالَ الشَّافِعِيُّ الحِيْنُ يَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمٌ؛ قَالَ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ لِلْحِينِ غَايَةً، وَكَذَلِكَ زَمَانٌ وَدَهْرٌ وأَحقاب، ذُكِرَ هَذَا فِي كِتَابِ الإِيمان؛ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْهُ.
وَقَالَ شِمْرٌ: الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَاحِدٌ؛ وأَنشد:
إِنَّ دَهْرًا يَلُفُّ حَبْلِي بِجُمْلٍ ***لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسانِ
فَعَارَضَ شِمْرًا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ وخطَّأَه فِي قَوْلِهِ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَاحِدٌ وَقَالَ: الزَّمَانُ زَمَانُ الرُّطَبِ وَالْفَاكِهَةِ وَزَمَانُ الْحَرِّ وَزَمَانُ الْبَرْدِ، وَيَكُونُ الزَّمَانُ شَهْرَيْنِ إِلى سِتَّةِ أَشهر وَالدَّهْرُ لَا يَنْقَطِعُ.
قَالَ الأَزهري: الدَّهْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الدَّهْرِ الأَطول وَيَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا.
قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَقمنا عَلَى مَاءِ كَذَا وَكَذَا دَهْرًا، وَدَارُنَا الَّتِي حَلَلْنَا بِهَا تَحْمِلُنَا دَهْرًا، وإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا جَازَ أَن يُقَالَ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَاحِدٌ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى.
قَالَ: وَالسَّنَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَربعة أَزمنة: رَبِيعٌ وَقَيْظٌ وَخَرِيفٌ وَشِتَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ أَن يُقَالَ: الدَّهْرُ أَربعة أَزمنة، فَهُمَا يَفْتَرِقَانِ.
وَرَوَى الأَزهري بِسَنَدِهِ عَنْ أَبي بَكْرٍ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: أَلا إِنَّ الزمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يومَ خَلَق اللهُ السماواتِ والأَرضَ، السنةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، أَربعةٌ مِنْهَا حُرُمٌ: ثلاثَةٌ مِنْهَا متوالياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ مُفْرَدٌ "؛ قَالَ الأَزهري: أَراد بِالزَّمَانِ الدَّهْرَ.
الْجَوْهَرِيُّ: الدَّهْرُ الزَّمَانُ.
وَقَوْلُهُمْ: دَهْرٌ دَاهِرٌ كَقَوْلِهِمْ أَبَدٌ أَبِيدٌ، وَيُقَالُ: لَا آتِيكَ دَهْرَ الدَّاهِرِين أَي أَبدًا.
وَرَجُلٌ دُهْرِيٌّ: قَدِيمٌ مُسِنٌّ نُسِبَ إِلى الدَّهْرِ، وَهُوَ نَادِرٌ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: فإِن سُمِّيَتْ بِدَهْرٍ لَمْ تَقُلْ إِلَّا دَهْرِيٌّ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَرَجُلٌ دَهْرِيٌّ: مُلْحِدٌ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، يَقُولُ بِبَقَاءِ الدَّهْرِ، وَهُوَ مولَّد.
قَالَ ابْنُ الأَنباري: يُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إِلى الرَّجُلِ الْقَدِيمِ دَهْرِيٌّ.
قَالَ: وإِن كَانَ مَنْ بَنِي دَهْرٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ قُلْتُ دُهْرِيٌّ لَا غَيْرُ، بِضَمِّ الدَّالِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: وَهُمَا جَمِيعًا مَنْسُوبَانِ إِلى الدَّهْرِ وَهُمْ رُبَّمَا غَيَّرُوا فِي النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا سُهْلِيٌّ لِلْمَنْسُوبِ إِلى الأَرض السَّهْلَةِ.
والدَّهارِيرُ: أَوّل الدَّهْرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَا وَاحِدَ لَهُ؛ وأَنشد أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ أَهل نَجْدٍ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ لِعثْيَر.
بْنِ لَبِيدٍ العُذْرِيِّ، قَالَ وَقِيلَ هُوَ لِحُرَيْثِ بْنِ جَبَلَةَ العُذْري:
فاسْتَقْدِرِ اللهَ خَيْرًا وارْضَيَنَّ بهِ، ***فَبَيْنَما العُسْرُ إِذ دَارَتْ مَيَاسِيرُ
وَبَيْنَمَا المَرْءُ فِي الأَحياءِ مُغْتَبَطٌ، ***إِذا هُوَ الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الأَعاصِيرُ
يَبْكِي عَلَيْهِ غَرِيبٌ لَيْسَ يَعْرِفُهُ، ***وذُو قَرَابَتهِ فِي الحَيِّ مَسْرُورُ
حَتَّى كأَنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَذَكُّرُهُ، ***والدَّهْرُ أَيَّتَمَا حِينٍ دَهارِيرُ
قَوْلُهُ: اسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْرًا أَي اطْلُبْ مِنْهُ أَن يُقَدِّرَ لَكَ خَيْرًا.
وَقَوْلُهُ: فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ، الْعُسْرُ مبتدأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ كَائِنٌ أَو حَاضِرٌ.
إِذ دَارَتْ مَيَاسِيرُ أَي حَدَثَتْ وَحَلَّتْ، وَالْمَيَاسِيرُ: جَمْعُ مَيْسُورٍ.
وَقَوْلُهُ: كأَن لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَذَكُّرُهُ، يَكُنْ تَامَّةٌ وإِلَّا تَذَكُّرُهُ فَاعِلٌ بِهَا، وَاسْمُ كأَن مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ كأَنه لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَذَكُّرُهُ، وَالْهَاءُ فِي تَذَكُّرُهُ عَائِدَةٌ عَلَى الْهَاءِ الْمُقَدَّرَةِ؛ وَالدَّهْرُ مبتدأٌ وَدَهَارِيرُ خَبَرُهُ، وأَيتما حَالُ ظَرْفٍ مِنَ الزَّمَانِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي دَهَارِيرَ مِنْ مَعْنَى الشِّدَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: دَهْرٌ دَهارِيرٌ أَي شَدِيدٌ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلَةٌ لَيْلاءُ ونهارٌ أَنْهَرُ ويومٌ أَيْوَمُ وساعَةٌ سَوْعاءُ.
وواحدُ الدَّهارِيرَ دَهْرٌ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَا قَالُوا: ذَكَرٌ ومَذاكِيرُ وشِبْهٌ ومَشَابهِ، فكأَنها جَمْعُ مِذْكارٍ ومُشْبِهٍ، وكأَنّ دَهارِير جمعُ دُهْرُورٍ أَو دَهْرار.
والرَّمْسُ: الْقَبْرُ.
والأَعاصير: جَمْعُ إِعصار، وَهِيَ الرِّيحُ تَهُبُّ بِشِدَّةٍ.
ودُهُورٌ دَهارِير: مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ الأَزهري: يُقَالُ ذَلِكَ فِي دَهْرِ الدَّهارِير.
قَالَ: وَلَا يُفْرَدُ مِنْهُ دِهْرِيرٌ؛ وَفِي حَدِيثِ سَطِيح: «فإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوارًا دَهارِيرُ قَالَ الأَزهري: الدَّهارير جَمْعُ الدُّهُورِ»، أَراد أَن الدَّهْرَ ذُو حَالَيْنِ مِنْ بُؤْسٍ ونُعْمٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدَّهَارِيرُ تَصَارِيفُ الدَّهْرِ وَنَوَائِبُهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الدَّهْرِ، لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ كَعَبَادِيدِ.
وَالدَّهْرُ: النَّازِلَةُ.
وَفِي حَدِيثِ مَوْتِ أَبي طَالِبٍ: «لَوْلَا أَن قُرَيْشًا تَقُولُ دَهَرَهُ الجَزَعُ لفعلتُ».
يُقَالُ: دَهَرَ فُلَانًا أَمْرٌ إِذا أَصابه مَكْرُوهٌ، ودَهَرَهُمْ أَمر نَزَلَ بِهِمْ مَكْرُوهٌ، ودَهَرَ بِهِمْ أَمرٌ نَزَلَ بِهِمْ.
وَمَا دَهْري بِكَذَا وَمَا دَهْري كَذَا أَي مَا هَمِّي وَغَايَتِي.
وَفِي حَدِيثِ أُم سُلَيْمٍ: «مَا ذاك دَهْرُكِ».
يقال: ما ذاكَ دَهْرِي وَمَا دَهْرِي بِكَذَا أَي هَمِّي وإِرادتي؛ قَالَ مُتَمِّم بْنُ نُوَيْرَةَ:
لَعَمْرِي وَمَا دَهْرِي بِتَأْبِينِ هالِكٍ، ***وَلَا جَزَعًا مِمَّا أَصابَ فأَوْجَعَا
وَمَا ذَاكَ بِدَهْري أَي عَادَتِي.
والدَّهْوَرَةُ: جَمْعُك الشيءَ وقَذْفُكَ بِهِ فِي مَهْوَاةٍ؛ ودَهْوَرْتُ الشَّيْءَ: كَذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ النَّجَاشِيِّ: «فَلَا دَهْوَرَة اليومَ عَلَى حِزْبِ إِبراهيم»، كأَنه أَراد لَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتْرُكُ حِفْظَهُمْ وَتَعَهُّدَهُمْ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَهُوَ مِنَ الدَّهْوَرَة جَمْعِكَ الشَّيْءَ وقَذْفِكَ إِياه فِي مَهْوَاةٍ؛ ودَهْوَرَ اللُّقَمَ مِنْهُ، وَقِيلَ: دَهْوَرَ اللُّقَمَ كبَّرها.
الأَزهري: دَهْوَرَ الرجلُ لُقَمَهُ إِذا أَدارها ثُمَّ الْتَهَمَها.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، قَالَ: دُهْوِرَتْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: رُمِيَ بِهَا.
وَيُقَالُ: طَعَنَه فَكَوَّرَهُ إِذا أَلقاه.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ؛ أَي فِي الْجَحِيمِ.
قَالَ: وَمَعْنَى كُبْكِبُوا طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهل اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ دُهْوِرُوا.
ودَهْوَرَ: سَلَحَ.
ودَهْوَرَ كلامَه: قَحَّمَ بعضَه فِي إِثر بَعْضٍ.
ودَهْوَرَ الْحَائِطَ: دَفَعَهُ فَسَقَطَ.
وتَدَهْوَرَ الليلُ: أَدبر.
والدَّهْوَرِيُّ مِنَ الرِّجَالِ: الصُّلْبُ الضَّرْب.
اللَّيْثُ: رَجُلٌ دَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ وَهُوَ الصُّلْبُ الصَّوْتِ؛ قَالَ الأَزهري: أَظن هَذَا خَطَأً وَالصَّوَابُ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ أَي رَفِيعُ الصَّوْتِ.
ودَاهِرٌ: مَلِكُ الدَّيْبُلِ، قَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ القاسم الثقفي" ابن عُمَرَ الْحَجَّاجِ فَذَكَرَهُ جَرِيرٌ وَقَالَ:
وأَرْضَ هِرَقْل قَدْ ذَكَرْتُ وداهِرًا، ***ويَسْعَى لَكُمْ مِنْ آلِ كِسْرَى النَّواصِفُ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
فإِني أَنا الموتُ الَّذِي هُوَ نازلٌ ***بِنَفْسِكَ، فانْظُرْ كَيْفَ أَنْتَ تُحاوِلُهْ
فأَجابه جَرِيرٌ:
أَنا الدهرُ يُفْني الموتَ، والدَّهْرُ خالدٌ، ***فَجِئْني بمثلِ الدهرِ شَيْئًا تُطَاوِلُهْ
قَالَ الأَزهري: جَعَلَ الدَّهْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لأَن الْمَوْتَ يَفْنَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: هَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
وَفِي نَوَادِرِ الأَعراب: مَا عِنْدِي فِي هَذَا الأَمر دَهْوَرِيَّة وَلَا رَخْوَدِيَّةٌ أَي لَيْسَ عِنْدِي فِيهِ رِفْقٌ وَلَا مُهاوَدَةٌ وَلَا رُوَيْدِيَةٌ وَلَا هُوَيْدِيَةٌ وَلَا هَوْدَاء وَلَا هَيْدَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
ودَهْرٌ ودُهَيْرٌ ودَاهِرٌ: أَسماء.
ودَهْرٌ: اسْمُ مَوْضِعٍ، قَالَ لَبِيدٌ بْنُ رَبِيعَةَ:
وأَصْبَحَ رَاسِيًا بِرُضَامِ دَهْرٍ، ***وسَالَ بِهِ الخمائلُ فِي الرِّهامِ
والدَّوَاهِرُ: رَكايا مَعْرُوفَةٌ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
إِذًا لأَتَى الدَّوَاهِرَ، عَنْ قريبٍ، ***بِخِزْيٍ غيرِ مَصْرُوفِ العِقَالِ
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
74-لسان العرب (طير)
طير: الطَّيَرانُ: حركةُ ذِي الجَناح فِي الْهَوَاءِ بِجَنَاحِهِ، طارَ الطائرُ يَطِيرُ طَيْرًا وطَيرانًا وطَيْرورة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ وَكُرَاعٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، وأَطارَه وطيَّره وطارَ بِه، يُعَدى بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّضْعِيفِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ.الصِّحَاحُ: وأَطارَه غيرُه وطيَّره وطايَرَه بِمَعْنًى.
والطَّيرُ: مَعْرُوفٌ اسْمٌ لِجَماعةِ مَا يَطِيرُ، مُؤَنَّثٌ، وَالْوَاحِدُ طائِرٌ والأُنثى طائرةٌ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ؛ التَّهْذِيبُ: وقَلَّما يَقُولُونَ طَائِرَةً للأُنثى؛ فاَّما قَوْلُهُ أَنشده" الْفَارِسِيُّ:
هُمُ أَنْشَبُوا صُمَّ القَنا فِي نُحورِهمْ، ***وبِيضًا تقِيضُ البَيْضَ مِنْ حيثُ طائرُ
فإِنه عَنى بالطائرِ الدِّماغَ وَذَلِكَ مِنْ حيثُ قِيلَ لَهُ فرخٌ؛ قَالَ:
ونحنُ كَشَفْنا، عَنْ مُعاوِيةَ، الَّتِي ***هِيَ الأُمُّ تَغْشَى كُلَّ فَرْخٍ مُنَقْنِق
عَنى بالفرْخ الدماغَ كَمَا قُلْنَا.
وَقَوْلُهُ مُنَقْنِق إِفراطًا مِنَ الْقَوْلِ: وَمِثْلُهُ قولُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
كأَنَّ نَزْوَ فِراخِ الهَامِ، بَيْنهُمُ، ***نَزْوُ القُلاتِ، زَهاها قالُ قالِينا
وأَرضٌ مَطَارةٌ: كَثيرةُ الطَّيْرِ.
فأَما قَوْلُهُ تعالى: {إِنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كهَيْئَةِ الطَّيْرِ فأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بإِذن اللَّهِ}؛ فإِن مَعْنَاهُ أَخلُق خَلْقًا أَو جِرْمًا؛ وَقَوْلُهُ: فأَنفخ فِيهِ، الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلى الطَّيْرِ، وَلَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلى الْهَيْئَةَ لِوَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن الهَيْئَةَ أُنثى وَالضَّمِيرَ مُذَكَّرٌ، وَالْآخَرُ أَنَّ النَّفْخَ لَا يَقَعُ فِي الْهَيْئَةِ لأَنها نوْعٌ مِنْ أَنواع العَرَضِ، والعَرَضُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ، وإِنما يَقَعُ النَّفْخُ فِي الجَوْهَر؛ قَالَ: وَجَمِيعُ هَذَا قَوْلُ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ الطائرُ اسْمًا للجَمْع كَالْجَامِلِ وَالْبَاقِرِ، وجمعُ الطَّائِرِ أَطْيارٌ، وَهُوَ أَحدُ مَا كُسِّرَ عَلَى مَا يُكَسَّرُ عَلَيْهِ مثلُه؛ فأَما الطُّيُورُ فَقَدْ تَكُونُ جمعَ طَائِرٍ كساجِدٍ وسُجُودٍ، وَقَدْ تَكُونُ جَمْعَ طَيْرٍ الَّذِي هُوَ اسمٌ للجَمع، وَزَعَمَ قُطْرُبٌ أَن الطَّيْرَ يقَعُ لِلْوَاحِدِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَدري كَيْفَ ذَلِكَ إِلا أَن يَعْني بِهِ المصدرَ، وَقُرِئَ: فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ"، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الناسُ كلُّهم يَقُولُونَ لِلْوَاحِدِ طائرٌ وأَبو عُبَيْدَةَ معَهم، ثُمَّ انْفَرد فأَجازَ أَن يُقَالَ طَيْر لِلْوَاحِدِ وَجَمَعَهُ عَلَى طُيُور، قَالَ الأَزهري: وَهُوَ ثِقَةٌ.
الْجَوْهَرِيُّ: الطائرُ جمعُه طَيرٌ مِثْلُ صاحبٍ وصَحْبٍ وَجَمْعُ الطَّيْر طُيُورٌ وأَطْيارٌ مِثْلُ فَرْخ وأَفْراخ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الرُّؤْيا لأَوَّلِ عابِرٍ وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طائرٍ»؛ قَالَ: كلُّ حَرَكَةٍ مِنْ كَلِمَةٍ أَو جارٍ يَجْرِي، فَهُوَ طائرٌ مَجازًا، أَرادَ: عَلَى رِجْل قَدَرٍ جَارٍ، وقضاءٍ ماضٍ، مِنْ خيرٍ أَو شرٍّ، وَهِيَ لأَوَّلِ عابِرٍ يُعَبّرُها، »؛ أي أَنها إِذا احْتَمَلَتْ تأْوِيلَين أَو أَكثر فَعَبَّرَهَا مَنْ يَعْرِفُ عَباراتها، وقَعَتْ عَلَى مَا أَوّلَها وانْتَفَى عَنْهَا غيرُه مِنَ التأْويل؛ وَفِي رِوَايَةٍ أُخرى: " الرُّؤْيا عَلَى رِجْل طائرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ "أَي لَا يستقِرُّ تأْوِيلُها حَتَّى تُعَبَّر؛ يُرِيد أَنها سَرِيعةُ السقُوط إِذا عُبِّرت كَمَا أَن الطيرَ لَا يستَقِرُّ فِي أَكثر أَحوالِه، فَكَيْفَ مَا يَكُونُ عَلَى رِجْلِه؟ وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ وَالنَّسَّابَةِ: «فَمِنْكُمْ شَيْبةُ الحمدِ مُطْعِم طَيْر السماءِ لأَنه لَمَّا نَحَرَ فِدَاءَ ابنهِ عبدِ اللهِ أَبي سيِّدِنا رَسُولِ اللَّهِ، [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] مائةَ بَعِيرٍ فَرّقَها عَلَى رُؤُوس الجِبالِ فأَكَلَتْها الطيرُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: «تَرَكَنَا رسولُ الله»، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْه إِلَّا عِنْدَنا مِنْهُ عِلْمٌ، يَعْنِي أَنه اسْتَوْفَى بَيانَ الشَّرِيعةِ وَمَا يُحتاج إِليه في الدِّين حَتَّى لَمْ يَبْقَ مُشْكِلٌ، فضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا، وَقِيلَ: أَراد أَنه لَمْ يَتْرك شَيْئًا إِلا بَيَّنه حَتَّى بَيَّن لَهُمْ أَحكامَ الطَّيْرِ وَمَا يَحِلّ مِنْهُ وَمَا يَحْرُم وَكَيْفَ يُذْبَحُ، وَمَا الَّذِي يفْدِي مِنْهُ المُحْرِمُ إِذا أَصابه، وأَشْباه ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ أَن فِي الطيرِ عِلْمًا سِوى ذَلِكَ عَلَّمهم إِيّاه ورَخّصَ لَهُمْ أَن يَتَعاطَوا زَجْرَ الطَّيْرِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهلُ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: " هُوَ مِنَ التَّطَوُّعِ المُشَامِ لِلتَّوْكِيدِ لأَنه قَدْ عُلِم أَن الطَّيَرانَ لَا يَكُونُ إِلا بالجَناحَيْنِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ قَوْلُهُ بِجناحَيْه مُفِيدًا، وَذَلِكَ أَنه قَدْ قالوا: طارُوا عَلاهُنَّ فَشُكْ عَلاها وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: طارُوا إِليه زَرَافاتٍ ووُحْدانا وَمِنْ أَبيات الْكِتَابِ: وطِرْتُ بمُنْصُلي فِي يَعْمَلاتٍ فَاسْتَعْمَلُوا الطَّيَرانَ فِي غَيْرِ ذِي الْجَنَاحِ.
فَقَوْلُهُ تعالى: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}؛ عَلَى هَذَا مُفِيدٌ، أَي لَيْسَ الغرَضُ تَشْبِيهَه بِالطَّائِرِ ذِي الجناحَيْنِ بَلْ هُوَ الطائرُ بِجَناحَيْه البَتَّةَ.
والتَّطايُرُ: التَّفَرُّقُ والذهابُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَمِعَتْ مَنْ يَقُول إِن الشؤْم فِي الدَّارِ والمرأَةِ فطارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وشِقَّةٌ فِي الأَرض أَي كأَنها تفَرَّقَتْ وتقَطَّعَتْ قِطَعًا مِنْ شِدّة الغَضَبِ.
وَفِي حَدِيثِ عُرْوة: «حتى تَطَايرتْ شُؤُون رَأْسه»؛ أي تَفَرَّقَتْ فَصَارَتْ قِطَعًا.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَقَدْنا رسولَ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقُلْنا اغْتِيلَ أَو اسْتُطِيرَ أَي ذُهِبَ بِهِ بسُرْعَةٍ كأَنَّ الطيرَ حَمَلَتْه أَو اغْتالَهُ أَحَدٌ.
والاسْتِطارَةُ والتَّطايُرُ: التفرُّقُ والذهابُ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُهُ: «فأَطَرْتُ الحُلَّةَ بَيْنَ نِسَائي»أَي فَرَّقْتُها بَيْنهن وقَسّمتها فِيهِنَّ.
قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ الْهَمْزَةُ أَصلية، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وتطايَرَ الشيءُ: طارَ وتفرَّقَ.
وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ إِذا كَانُوا هادئينَ ساكِنينَ: كأَنما على رؤوسهم الطَّيْرُ؛ وأَصله أَن الطَّيرَ لَا يَقَع إِلا عَلَى شَيْءٍ سَاكِنٍ مِنَ المَوَاتِ فضُرِبَ مثَلًا للإِنسان ووَقارِه وسكُونِه.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كأَنَّ على رؤوسِهم الطَّيرَ، إِذا سَكَنُوا مِنْ هَيْبةٍ، وأَصله أَن الغُراب يقَعُ عَلَى رأْسِ البَعيرِ فَيَلْتَقِطُ مِنْهُ الحَلَمَةَ والحَمْنانة، فَلَا يُحَرِّكُ البعيرُ رأْسَه لئلَّا يَنْفِر عَنْهُ الغُرابُ.
ومن أَمثالهم في الخصْب وكثرةِ الْخَيْرِ قَوْلُهُمْ: هُوَ فِي شَيْءٍ لَا يَطِيرُ غُرَابُه.
وَيُقَالُ: أُطِيرَ الغُرابُ، فَهُوَ مُطارٌ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
ولِرَهْطِ حَرَّابٍ وقِدٍّ سَوْرةٌ ***فِي المَجْدِ، لَيْسَ غرابُها بمُطارِ
وَفُلَانٌ ساكنُ الطائِر أَي أَنه وَقُورٌ لَا حَرَكَةَ لَهُ مِنْ وَقارِه، حَتَّى كأَنه لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ طائرٌ لَسَكَنَ ذَلِكَ الطائرُ، وَذَلِكَ أَن الإِنسان لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ طائرٌ فَتَحَرَّكَ أَدْنى حركةٍ لفَرَّ ذَلِكَ الطائرُ وَلَمْ يسْكُن؛ وَمِنْهُ قَوْلِ" بَعْضِ أَصحاب النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأَنَّ الطير فوقَ رؤوسِنا "أَي كأَنَّ الطيرَ وقَعَتْ فوق رؤوسِنا فنحْن نَسْكُن وَلَا نَتَحَرَّكَ خَشْيةً مِنْ نِفارِ ذَلِكَ الطَّيْرِ.
والطَّيْرُ: الاسمُ مِنَ التَّطَيّر، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُ اللهِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَمْرَ إِلَّا أَمْرُ اللَّهِ؛ وأَنشد الأَصمعي، قَالَ: أَنشدناه الأَحْمر:
تَعَلَّمْ أَنه لَا طَيرَ إِلَّا ***عَلَى مُتَطيِّرٍ، وَهُوَ الثُّبورُ
بَلَى شَيءٌ يُوافِقُ بَعْضَ شيءٍ، ***أَحايِينًا، وباطلُه كَثِيرُ
وَفِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: كأَن على رؤوسهم الطَّيْرَ؛ وصَفَهم بالسُّكون وَالْوَقَارِ وأَنهم لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ طَيْشٌ وَلَا خِفَّةٌ.
وَفِي فُلَانٍ طَيْرةٌ وطَيْرُورةٌ أَي خِفَّةٌ وطَيْشٌ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
وحِلْمُك عِزٌّ، إِذا مَا حَلُمْت، ***وطَيْرتُك الصابُ والحَنْظَلُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ازجُرْ أَحْناءَ طَيْرِك أَي جوانبَ خِفّتِك وطَيْشِك.
والطائرُ: مَا تيمَّنْتَ بِهِ أَو تَشاءَمْت، وأَصله فِي ذِي الْجَنَاحِ.
وَقَالُوا لِلشَّيْءِ يُتَطَيَّرُ بِهِ مِنَ الإِنسان وغيرِه.
طائرُ اللهِ لَا طائرُك، فرَفَعُوه عَلَى إِرادة: هَذَا طائرُ اللَّهِ، وَفِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ، وإِن شِئْتَ نَصَبْتَ أَيضًا؛ وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: مَعْنَاهُ فِعْلُ اللهِ وحُكْمُه لَا فِعْلُك وَمَا تَتخوّفُه؛ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ طَيْرُ اللهِ لَا طَيْرُك وطَيْرَ اللَّهِ لَا طَيرَك وطائرَ اللَّهِ لَا طائرَك وصباحَ اللهِ لَا صَباحَك، قَالَ: يَقُولُونَ هَذَا كلَّه إِذا تَطَيَّرُوا مِنَ الإِنسانِ، النصبُ عَلَى مَعْنَى نُحِبّ طائرَ اللَّهِ، وَقِيلَ بِنَصْبِهِمَا عَلَى مَعْنَى أَسْأَلُ اللهَ طائرَ اللهِ لَا طائِرَك؛ قَالَ: والمصدرُ مِنْهُ الطِّيَرَة؛ وجَرَى لَهُ الطائرُ بأَمرِ كَذَا؛ وَجَاءَ فِي الشَّرِّ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}؛ الْمَعْنَى أَلا إِنَّما الشُّؤْم الَّذِي يَلْحَقُهم هُوَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَا مَا يَنالُهم فِي الدُّنْيا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طائرُهم حَظُّهم قَالَ الأَعشى: " جَرَتْ لَهُمْ طَيرُ النُّحوسِ بأَشْأَم وَقَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
زَجَرْت لَهُمْ طَيْرَ الشمالِ، فإِن تَكُن ***هَواكَ الَّذِي تَهْوى، يُصِبْك اجْتِنابُها
وَقَدْ تَطَيَّر بِهِ، وَالِاسْمُ الطيَرَةُ والطِّيْرَةُ والطُّورةُ.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الطائرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الحَظُّ، وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ البَخْتَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الطائرُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ العمَلُ، وطائرُ الإِنسانِ عَمَلُه الَّذِي قُلِّدَه، وَقِيلَ رِزْقُه، والطائرُ الحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَفِي حَدِيثِ أُمّ العَلاء الأَنصارية: «اقْتَسَمْنا الْمُهَاجِرِينَ فطارَ لَنَا عثمانُ بْنُ مَظْعُون»أَي حَصَل نَصِيبنا مِنْهُمْ عثمانُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" رُوَيْفِعٍ: إِنْ كَانَ أَحَدُنا فِي زَمَانِ رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيَطِير لَهُ النَّصْلُ وللآخَر القِدْح "؛ مَعْنَاهُ أَن الرجُلين كَانَا يَقْتَسِمانِ السَّهْمَ فَيَقَعُ لأَحدهما نَصْلُه وَلِلْآخَرِ قِدْحُه.
وطائرُ الإِنسانِ: مَا حصَلَ لَهُ فِي علْمِ اللَّهِ مِمَّا قُدّرَ لَهُ.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «بالمَيْمونِ طائِرُه»؛ أَي بالمُبارَكِ حَظُّه؛ وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ أَصله مِنَ الطَّيْرِ السانحِ والبارِحِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ} فِي عُنُقِهِ}؛ قيل حَظُّه، وَقِيلَ عَمَلُه، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَا عَمِل مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ أَلْزَمْناه عُنُقَه إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وإِن شَرًّا فَشَرًّا، وَالْمَعْنَى فِيمَا يَرَى أَهلُ النَّظَرِ: أَن لِكُلِّ امْرِئٍ الخيرَ والشرَّ قَدْ قَضاه اللَّهُ فَهُوَ لازمٌ عُنُقَه، وإِنما قِيلَ للحظِّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ طائرٌ لِقَوْلِ الْعَرَبِ: جَرَى لَهُ الطائرُ بِكَذَا مِنَ الشَّرِّ، عَلَى طَرِيقِ الفَأْلِ والطِّيَرَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ لَهُ سَبَبًا، فخاطَبَهُم اللهُ بِمَا يَسْتَعْمِلُونَ وأَعْلَمَهم أَن ذَلِكَ الأَمرَ الَّذِي يُسَمّونهبِالطَّائِرِ يَلْزَمُه؛ وَقُرِئَ طائرَه وطَيْرَه، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا قِيلَ: عملُه خيرُه وشرُّه، وَقِيلَ: شَقاؤه وسَعادتُه؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: والأَصل فِي هَذَا كُلِّهِ أَن اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدمَ عَلِم قبْل خَلْقِه ذُرِّيَّتَه أَنه يأْمرهم بِتَوْحِيدِهِ وطاعتِه وَيَنْهَاهُمْ عَنْ معْصيته، وعَلِم المُطِيعَ مِنْهُمْ والعاصيَ الظالمَ لِنفْسه، فكتَبَ مَا علِمَه مِنْهُمْ أَجمعين وَقَضَى بِسَعَادَةِ مَنْ عَلِمَه مُطِيعًا، وشَقاوةِ مَنْ عَلِمَه عَاصِيًا، فَصَارَ لكلِّ مَنْ عَلِمه مَا هُوَ صائرٌ إِليه عِنْدَ حِسَابِه، فَذَلِكَ قولُه عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ}؛ أَي مَا طار له بَدْأً فِي عِلْم اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّوعِلْمُ الشَّهادةِ عِنْدَ كَوْنِهم يُوافقُ علْمَ الْغَيْبِ، والحجةُ تَلْزَمهُم بِالَّذِي يَعْمَلُونَ، وَهُوَ غيرُ مُخالف لِمَا عَلِمَه اللهُ مِنْهُمْ قَبْلَ كَوْنِهم.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَطَرْتُ الْمَالَ وطَيَّرْتُه بينَ القومِ فطارَ لكلٍّ مِنْهُمْ سَهْمُه أَي صارَ لَهُ وَخَرَجَ لَدَيْه سَهْمُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ يذكرُ ميراثَ أَخيه بَيْنَ ورَثَتِه وحِيازةَ كُلِّ ذِي سهمٍ مِنْهُ سَهْمَه:
تَطيرُ عَدائِد الأَشْراكِ شَفْعًا ***ووَتْرًا، والزَّعامةُ لِلْغُلام
والأَشْرَاكُ: الأَنْصباءُ، واحدُها شِرْكٌ.
وَقَوْلُهُ شَفْعًا وَوَتْرًا أَي قُسِم لَهُمْ لِلذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وخَلَصَت الرِّياسةُ والسِّلاحُ لِلذُّكُورِ مِنْ أَولاده.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ وتَشاؤُمهم بِنَبِيّهم الْمَبْعُوثِ إِليهم صالحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ "؛ مَعْنَاهُ مَا أَصابَكم مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَمِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا تَشَاءَمْنا، وَهُوَ فِي الأَصل تَطَيَّرنا، فأَجابَهم اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ؛ أَي شُؤْمُكم معَكم، وَهُوَ كُفْرُهم، وَقِيلَ للشُؤْم طائرٌ وطَيْرٌ وطِيَرَة لأَن الْعَرَبَ كَانَ مِنْ شأْنها عِيافةُ الطَّيْرِ وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ بِبَارِحها ونَعِيقِ غُرابِها وأَخْذِها ذَاتَ اليَسارِ إِذا أَثارُوها، فَسَمَّوُا الشُّؤْمَ طَيْرًا وَطَائِرًا وطِيرَةً لتشَاؤُمهم بِهَا، ثُمَّ أَعْلَم اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى لِسَانِ" رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن طِيَرَتَهم بِهَا باطِلَةٌ.
وَقَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هامةَ "؛ وَكَانَ" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتفاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ "، وأَصْلُ الفَأْلِ الكلمةُ الحسَنةُ يَسْمعُها عَلِيلٌ فَيَتأَوَّلُ مِنْهَا مَا يَدُلّ عَلَى بُرْئِه كأَن سَمِع مُنَادِيًا نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ سَالِمٌ، وَهُوَ عَليل، فأَوْهَمَه سلامَتَه مِنْ عِلّته، وَكَذَلِكَ المُضِلّ يَسْمع رَجُلًا يَقُولُ يَا واجدُ فيَجِدُ ضَالَّتَهُ؛ والطِّيَرَةُ مُضادّةٌ للفَأْلِ، وَكَانَتِ العربُ مَذهبُها فِي الفَأْلِ والطِّيَرَةِ واحدٌ فأَثبت النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَأْلَ واسْتَحْسَنه وأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ ونَهَى عَنْهَا.
والطِّيَرَةُ مِنِ اطَّيَّرْت وتطَيَّرت، وَمِثْلُ الطِّيَرة الخِيَرَةُ.
الْجَوْهَرِيُّ تطَيَّرْت مِنَ الشَّيْءِ وَبِالشَّيْءِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الطِّيَرَةُ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، مِثَالُ العِنَبةِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ الياءُ، وَهُوَ مَا يُتَشاءمُ بِهِ مِنَ الفَأْل الردِيء.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ يُحِبُّ الفأْلَ ويَكْرَهُ الطِّيَرَةَ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ مصدرُ تطَيَّر طِيَرَةً وتخَيَّر خِيَرَةً، قَالَ: وَلَمْ يَجِئْ مِنَ الْمَصَادِرِ هَكَذَا غَيْرُهُمَا، قَالَ: وأَصله فِيمَا يُقَالُ التطَيُّرُ بِالسَّوَانِحِ والبوارِح مِنَ الظبَاءِ والطَّيْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهم عَنْ مقاصِدِهم فنَفاه الشرْعُ وأَبْطَلَه وَنَهَى عَنْهُ وأَخْبَر أَنه لَيْسَ لَهُ تأْثيرٌ فِي جَلْب نَفْع وَلَا دَفْع ضَرَرٍ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَم مِنْهَا أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ والحَسَدُ: والظنُّ، قِيلَ: فَمَا نصْنعُ؟ قَالَ: إِذا تَطَيَّرْتَ فامْضِ، وإِذا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وإِذا ظَنَنْتَ فَلَا تُصَحِّحْ».
وَقَوْلُهُ تعالى: {قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}؛ أَصله تَطَيّرنا فأُدْغمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ واجْتُلِبَت الأَلفُ لِيصحَّ الابتداءُ بِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنّا إِلَّا...وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُه بالتَّوَكُّل»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ مَقْطُوعًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُسْتَثْنَى أَي إِلا قَدْ يَعْتَرِيه التَّطيُّرُ ويَسْبِقُ إِلى قَلْبه الكراهةُ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا وَاعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ؛ وَهَذَا كَحَدِيثِهِ الْآخَرِ: " مَا فِينَا إِلا مَنْ هَمَّ أَوْ لَمَّ إِلا يَحْيَى بْنَ زكَرِيّا، فأَظْهَر الْمُسْتَثْنَى، وَقِيلَ: إِن قولَه وَمَا مِنَّا إِلا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَدْرَجَه فِي الْحَدِيثِ، وإِنما جَعَل الطِّيَرَة مِنَ الشِّرك لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الطَّيْرَ تجْلُب لَهُمْ نَفْعًا أَو تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضرَرًا إِذا عَمِلُوا بِمُوجَبه، فكأَنهم أَشركوه مَعَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وقولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهبُه بِالتَّوَكُّلِ مَعْنَاهُ أَنه إِذا خَطَرَ لَهُ عارضُ التَّطيُّرِ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَسَلَّمَ إِليه وَلَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ الخاطرِ غفَره اللَّهُ لَهُ وَلَمْ يُؤاخِذْه بِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إياكَ وطِيراتِ الشَّباب»؛ أَي زلَّاتهم وعَثَراتهِم؛ جَمْعُ طِيرَة.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الحَدِيد السَّرِيعِ الفَيْئَةِ: إِنه لَطَيُّورٌ فَيُّورٌ.
وَفَرَسٌ مُطارٌ: حديدُ الفُؤاد ماضٍ.
والتَّطايُر والاسْتِطارةُ: التفرُّق.
واسْتَطارَ الغُبارُ إِذا انْتَشر فِي الْهَوَاءِ.
وغُبار طَيَّارٌ ومُسْتَطِير: مُنْتَشر.
وصُبْحٌ مُسْتَطِير.
ساطِعٌ مُنْتَشِرٌ، وَكَذَلِكَ البَرْق والشَّيْب والشرُّ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَيَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}.
واسْتَطارَ الفجرُ وَغَيْرُهُ إِذا انْتَشَرَ فِي الأُفُق ضَوءُهُ، فَهُوَ مُسْتَطِير، وَهُوَ الصُّبْح الصَّادِقُ البيّنُ الَّذِي يُحَرِّم عَلَى الصَّائِمِ الأَكلَ والشربَ والجماعَ، وَبِهِ تَحُلُّ صَلَاةُ الْفَجْرَ، وَهُوَ الْخَيْطُ الأَبيض الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وأَما الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، بِاللَّامِ، فَهُوَ المُسْتَدقّ الَّذِي يُشَبَّه بذَنب السِّرْحان، وَهُوَ الْخَيْطُ الأَسود وَلَا يُحَرِّم عَلَى الصَّائِمِ شَيْئًا، وَهُوَ الصُّبْحُ الْكَاذِبُ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَفِي حَدِيثِ السُّجُودِ وَالصَّلَاةِ ذكرُ الْفَجْرِ المُسْتَطِير، هُوَ الَّذِي انْتَشَرَ ضَوْءُهُ واعْتَرض فِي الأُفُقِ خِلَافَ الْمُسْتَطِيلِ؛ وَفِي حَدِيثِ بَنِي قُرَيْظَةَ:
«وهانَ عَلَى سَراةِ بَنِي لُؤَيٍّ ***حَرِيقٌ، بالبُوَيْرةِ، مُسْتَطِيرُ»
أَي مُنْتَشِرٌ مُتَفَرِّقٌ كأَنه طارَ فِي نَوَاحِيهَا.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا ثارَ غضبُه: ثارَ ثائِرُه وطارَ طائِرُه وفارَ فائِرُه.
وَقَدِ اسْتطارَ البِلى فِي الثَّوْبِ والصَّدْعُ فِي الزُّجاجة: تَبَيّن فِي أَجزائهما.
واسْتَطارَت الزُّجاجةُ: تَبَيَّنَ فِيهَا الانصداعُ مِنْ أَوّلها إِلى آخِرِهَا.
واسْتطارَ الحائطُ: انْصدَع مِنْ أَوله إِلى آخِرِهِ؛ واسْتطارَ فِيهِ الشَّقّ: ارْتَفَعَ.
وَيُقَالُ: اسْتطارَ فلانٌ سَيْفَه إِذَا انْتَزَعه مِنْ غِمْدِه مُسْرعًا؛ وأَنشد:
إِذا اسْتُطِيرَتْ مِنْ جُفون الأَغْمادْ، ***فَقَأْنَ بالصَّقْع يَرابِيعَ الصادْ
واسْتطارَ الصَّدْعُ فِي الْحَائِطِ إِذا انْتَشَرَ فِيهِ.
واسْتطارَ البَرْقُ إِذا انْتَشَرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ.
يُقَالُ: اسْتُطِيرَ فلانٌ يُسْتَطارُ اسْتِطارةً، فَهُوَ مُسْتَطار إِذا ذُغِرَ؛ وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
مَتَى مَا تَلْقَني، فَرْدَينِ، تَرْجُفْ ***رَوانِفُ أَلْيَتَيكَ وتُسْتطارا
واسْتُطِير الفرسُ، فَهُوَ مُسْتَطارٌ إِذا أَسْرَع الجَرْيَ؛ وَقَوْلُ عَدِيٍّ:
كأَنَّ رَيِّقَه شُؤْبُوبُ غادِيةٍ، ***لَمَّا تَقَفَّى رَقِيبَ النَّقْعِ مُسْطارا
قِيلَ: أَراد مُسْتَطارًا فَحَذَفَ التَّاءَ، كَمَا قَالُوا اسْطَعْت واسْتَطَعْت.
وتَطايَرَ الشيءُ: طَالَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «خُذْ مَا تَطايَرَ مِنْ شَعرِك»؛ وَفِي رِوَايَةٍ: " مِنْ شَعرِ رأْسِك "؛ أَي طَالَ وَتَفَرَّقَ.
واسْتُطِير الشيءُ أَي طُيِّر؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " إِذا الغُبارُ المُسْتطارُ انْعَقّا "وكلبٌ مُسْتَطِير كَمَا يُقَالُ فَحْلٌ هائِجٌ.
وَيُقَالُ أَجْعَلَت الكلبةُ واسْتطارت إِذا أَرادت الفحلَ.
وَبِئْرٌ مَطارةٌ: واسعةُ الفَمِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
كأَنّ حَفِيفَها، إِذ بَرّكوها، ***هُوِيّ الرِّيحِ فِي جَفْرٍ مَطارِ
وطَيّر الفحلُ الإِبلَ: أَلْقَحها كلَّها، وَقِيلَ: إِنما ذَلِكَ إِذا أَعْجَلت اللَّقَحَ؛ وَقَدْ طَيَّرَت هِيَ لَقَحًا ولَقاحًا كَذَلِكَ أَي عَجِلت باللِّقاح، وَقَدْ طارَتْ بِآذَانِهَا إِذا لَقِحَتْ، وإِذا كَانَ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ حَمْل، فَهِيَ ضامِنٌ ومِضْمان وضَوامِنُ ومَضامِينُ، وَالَّذِي فِي بَطْنِهَا ملقوحةٌ وَمَلْقُوحٌ؛ وأَنشد:
طَيّرها تعَلُّقُ الإِلْقاح، ***فِي الهَيْجِ، قَبْلَ كلَبِ الرِّياحِ
وطارُوا سِراعًا أَي ذَهَبُوا.
ومَطارِ ومُطارٌ، كِلَاهُمَا: مَوْضِعٌ؛ وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْزَةَ مُطارًا، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهَكَذَا أَنشد، هَذَا الْبَيْتَ: " حَتَّى إِذا كَانَ عَلَى مُطار "وَالرِّوَايَتَانِ جَائِزَتَانِ مَطارِ ومُطار، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَطَرَ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: مُطار وَادٍ فِيمَا بَيْنَ السَّراة وَبَيْنَ الطَّائِفِ.
والمُسْطارُ مِنَ الْخَمْرِ: أَصله مُسْتَطار فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
وتَطايَرَ السحابُ فِي السَّمَاءِ إِذا عَمّها.
والمُطَيَّرُ: ضَرْبٌ مِنَ البُرود؛ وَقَوْلُ العُجَير السَّلُولِيِّ:
إِذا مَا مَشَتْ، نَادَى بِمَا فِي ثِيابها، ***ذَكِيٌّ الشَّذا، والمَنْدَليُّ المُطيَّرُ
قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: المُطَيَّر هُنَا ضربٌ مِنْ صَنْعَتِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ جِنِّي إِلى أَن المُطَيَّر الْعُودُ، فإِذا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَدَلًا مِنَ المَنْدليِّ لأَن الْمَنْدَلِيَّ العُود الْهِنْدِيُّ أَيضًا، وَقِيلَ: هُوَ مَقْلُوبٌ عَنِ المُطَرَّى؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا يُعْجِبني؛ وَقِيلَ: المُطَيَّر المشقَّق المكسَّر، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: المَنْدَليّ مَنْسُوبٌ إِلى مَنْدَل بَلَدٌ بِالْهِنْدِ يُجْلَبُ مِنْهُ الْعُودُ؛ قَالَ ابْنُ هَرْمَة:
أُحِبُّ الليلَ أَنّ خَيالَ سَلْمى، ***إِذا نِمْنا، أَلمَّ بِنَا فَزارا
كأَنّ الرَّكْبَ، إِذ طَرَقَتْكَ، بَاتُوا ***بمَنْدَلَ أَو بِقارِعَتَيْ قِمَارا
وقِمار أَيضًا: مَوْضِعٌ بِالْهِنْدِ يُجْلَبُ مِنْهُ العُود.
وطارَ الشَّعْرُ: طالَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
طِيرِي بِمِخْراقٍ أَشَمَّ كأَنه ***سَلِيمُ رِماحٍ، لَمْ تَنَلْه الزَّعانِفُ
طِيرِي أَي اعْلَقي بِهِ.
ومِخْراق: كَرِيمٌ لَمْ تَنَلْهُ الزَّعَانِفُ أَي النِّسَاءُ الزَّعَانِفُ، أَي لَمْ يَتزوّج لَئِيمَةً قَطُّ.
سَلِيم رِماح أَي قَدْ أَصابته رماحٌ مِثْلُ سَلِيم الْحَيَّةِ.
والطائرُ: فَرَسُ قَتَادَةَ بْنِ جَرِيرٍ.
وَذُو المَطارة: جَبَلٌ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «رَجُلٌ مُمْسِكٌ بعِنانِ فَرسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِير عَلَى مَتْنِه»؛ أَي يُجْرِيه فِي الْجِهَادِ فَاسْتَعَارَ لَهُ الطَيرانَ.
وَفِي حَدِيثِ وابِصَة: «فَلَمَّا قُتل عُثْمَانُ طارَ قَلْبي مَطارَه»؛ أي مَالَ إِلى جِهَةٍ يَهواها وَتَعَلَّقَ بِهَا.
والمَطارُ: مَوْضِعُ الطيَرانِ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
75-لسان العرب (عبر)
عبر: عَبَرَ الرُؤيا يَعْبُرُها عَبْرًا وعِبارةً وعبَّرها: فسَّرها وأَخبر بما يؤول إِليه أَمرُها.وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}؛ أَي إِن كُنْتُمْ تعْبُرون الرُّؤْيَا فَعَدَّاهَا بِاللَّامِ، كما قال: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ؛ أَي رَدِفَكم؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ اللَّامُ أُدْخِلت عَلَى الْمَفْعُولِ للتَّبْيين، وَالْمَعْنَى إِن كُنْتُمْ تَعْبُرون وَعَابِرِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ بِاللَّامِ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا، قَالَ: وَتُسَمَّى هَذِهِ اللَّامُ لامَ التَّعْقِيبِ لأَنها عَقَّبَت الإِضافةَ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَوصَل الْفِعْلَ بِاللَّامِ، كَمَا يُقَالُ إِن كُنْتَ لِلْمَالِ جَامِعًا.
واسْتعْبَرَه إِياها: سأَله تَعْبِيرَها.
وَالْعَابِرُ: الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ فيَعْبُره أَي يَعْتَبِرُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَقَعَ فهمُه عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: عبَر الرؤْيا واعتَبَر فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ: أُخذ هَذَا كُلُّهُ مِنَ العِبْرِ، وَهُوَ جانبُ النَّهْرِ، وعِبْرُ الْوَادِي وعَبْرُه؛ الأَخيرة عَنْ كُرَاعٍ: شَاطِئُهُ وَنَاحِيَتُهُ؛ قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يَمْدَحُ النُّعْمَانَ:
وَمَا الفُراتُ إِذا جاشَت غَوارِبهُ، ***ترْمي أَواذِيُّه العِبْرَينِ بالزَّبَدِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَخَبَرُ مَا النَّافِيَةِ فِي بَيْتٍ بَعْدَهُ، وَهُوَ:
يَوْمًا، بأَطيبَ مِنْهُ سَيْبَ نافلةٍ، ***وَلَا يَحُول عطاءُ الْيَوْمِ دُون غَدِ
والسَّيْب: العطاءُ.
وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً}.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يَحُول عطاءُ الْيَوْمِ دون غد إِذا أَعْطى الْيَوْمَ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ أَن يُعْطِي فِي غدٍ.
وغواربُه: مَا عَلَا مِنْهُ.
والأَوَاذيُّ: الأَمواج، واحدُها آذِيٌّ.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي ذَلِكَ العِبر أَي فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ.
وعَبَرْت النهرَ وَالطَّرِيقَ أَعْبُره عَبْرًا وعُبورًا إِذا قَطَعْتَهُ مِنْ هَذَا العِبْر إِلى ذَلِكَ العِبر، فَقِيلَ لِعَابِرِ الرُّؤْيَا: عَابِرٌ لأَنه يتأَمل ناحيَتي الرُّؤْيَا فَيَتَفَكَّرُ فِي أَطرافها، ويتدبَّر كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا وَيَمْضِي بِفِكْرِهِ فِيهَا مِنْ أَول مَا رأَى النَّائِمُ إِلى آخِرِ مَا رأَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبي رَزِين الْعَقِيلِيِّ: أَنه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الرُّؤْيا عَلَى رِجْل طَائِرٍ، فإِذا عُبِّرت وقَعَت فَلَا تَقُصَّها إِلا عَلَى وادٍّ أَو ذِي رَأْيٍ "، لأَن الوادَّ لَا يُحبّ أَن يَسْتَقْبِلَكَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلا بِمَا تُحِبّ، وإِن لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْعِبَارَةِ لَمْ يَعْجَل لَكَ بِمَا يَغُمُّك لَا أَن تَعْبِيرَه يُزِيلُها عَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وأَما ذُو الرأْي فَمَعْنَاهُ ذُو الْعِلْمِ بِعِبَارَتِهَا، فَهُوَ يُخْبِرُك بِحَقِيقَةِ تَفْسِيرِهَا أَو بأَقْرَب مَا يَعْلَمُهُ مِنْهَا، وَلَعَلَّهُ أَن يَكُونَ فِي تَفْسِيرِهَا موعظةٌ تَرْدَعُك عَنْ قَبِيحٍ أَنت عَلَيْهِ أَو يَكُونَ فِيهَا بُشْرَى فَتَحْمَد اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ فِيهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الرُّؤْيَا لأَول عَابِرٍ»؛ الْعَابِرُ: النَّاظِرُ فِي الشَّيْءِ، والمُعْتَبِرُ: الْمُسْتَدِلُّ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ.
وَفِي الحَديث: " لِلرُّؤْيَا كُنًى وأَسماءٌ فكنُّوها بكُناها واعتَبروها بأَسمائها.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ: «كَانَ يَقُولُ إِني أَعْتَبرُ الْحَدِيثَ»؛ الْمَعْنَى فِيهِ أَنه يُعَبِّر الرُّؤْيَا عَلَى الْحَدِيثِ ويَعْتَبِرُ بِهِ كَمَا يَعْتبرها بِالْقُرْآنِ فِي تأْويلها، مِثْلُ أَن يُعَبِّر الغُرابَ بِالرَّجُلِ الْفَاسِقِ، والضِّلَعَ بالمرأَة، لأَن" النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سَمَّىَ الغُرابَ فَاسِقًا وَجَعَلَ المرأَة كالضِّلَع "، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكُنَى والأَسماء.
وَيُقَالُ: عَبَرْت الطَّيْرَ أَعْبُرها إِذا زجَرْتها.
وعَبَّر عمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ.
وعَبّر عَنْهُ غيرُه: عيِيَ فأَعْرَب عَنْهُ، وَالِاسْمُ العِبْرةُ.
والعِبارة والعَبارة.
وعَبّر عَنْ فُلَانٍ: تكلَّم عَنْهُ؛ وَاللِّسَانُ يُعَبّر عَمَّا فِي الضَّمِيرِ.
وعَبَرَ بِفُلَانٍ الماءَ وعَبَّرَهُ بِهِ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والمِعْبَرُ: مَا عُبِرَ بِهِ النَّهْرُ مِنْ فُلْكٍ أَو قَنْطَرة أَو غَيْرِهِ.
والمَعْبَرُ: الشطُّ المُهَيّأُ للعُبور.
قَالَ الأَزهري: والمِعْبَرَةُ سَفِينَةٌ يُعْبَرُ عَلَيْهَا النَّهْرُ.
وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: عَبَرْت مَتاعي أَي باعَدْته.
وَالْوَادِي يَعْبرُ السيلَ عَنّا أَي يُباعِدُه.
والعُبْرِيّ مِنَ السِّدْر: مَا نَبَتَ عَلَى عِبْر النَّهْرِ وعَظُم، مَنْسُوبٌ إِليه نَادِرٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا ساقَ لَهُ مِنْهُ، وإِنما يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا قارَب العِبْرَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ: العُبْرِيّ والعُمْرِيُّ مِنْهُ مَا شَرِبَ الْمَاءَ؛ وأَنشد: " لَاثَ بِهِ الأَشاءُ والعُبْرِيُ "قَالَ: وَالَّذِي لَا يَشْرَبُ يَكُونُ بَرِّيًّا وَهُوَ الضالُ.
قَالَ وَإِنْ كَانَ عِذْيًا فَهُوَ الضَّالُّ.
أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ للسدْر وَمَا عظُم مِنَ الْعَوْسَجِ العُبْريّ.
والعُمْرِيُّ: القديمُ مِنَ السِّدْرِ؛ وأَنشد قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:
قَطَعْت، إِذا تَخَوَّفْتَ العَواطِي، ***ضُروبَ السدْرِ عُبْرِيًّا وَضَالَا
وَرَجُلٌ عابرُ سبيلٍ أَي مَارُّ الطَّرِيقِ.
وعَبرَ السبيلَ يَعْبُرُها عُبورًا: شَقَّها؛ وَهُمْ عابرُو سبيلٍ وعُبّارُ سَبِيلٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}؛ فَسَّرَهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَن تَكُونَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْمَسْجِدِ وبيتُه بالبُعد فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَيَخْرُجُ مُسْرِعًا.
وَقَالَ الأَزهري: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ"، مَعْنَاهُ إِلا مُسَافِرِينَ، لأَن "الْمُسَافِرَ يُعْوِزُه الْمَاءُ، وَقِيلَ: إِلا مَارِّينَ فِي الْمَسْجِدِ غَير مُرِيدين الصَّلَاةَ.
وَعَبَرَ السَّفَر يعبُره عَبرًا: شَقّة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والشِّعْرَى العَبور، وَهُمَا شِعْريانِ: أَحدُهما الغُمَيصاء، وَهُوَ أَحدُ كوكَبَي الذِّرَاعَيْنِ، وأَما العَبور فَهِيَ مَعَ الجوْزاء تكونُ نيِّرةً، سُمّيت عَبورًا لأَنها عَبَرت المَجَرَّةَ، وَهِيَ شَامِيَّةٌ، وَتَزْعُمُ الْعَرَبُ أَن الأُخرى بَكَتْ عَلَى إِثْرِها حَتَّى غَمِصَت فسُمّيت الغُمَيْصاءَ.
وَجَمَلٌ عُبْرُ أَسفارٍ وَجِمَالٌ عُبْرُ أَسفارٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ مِثْلُ الفُلك الَّذِي لَا يَزَالُ يُسافَر عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ عِبْر أَسفار، بِالْكَسْرِ.
وَنَاقَةٌ عُبْر أَسْفارٍ وسفَرٍ وعَبْرٌ وعِبْرٌ: قويَّةٌ عَلَى السَّفَرِ تشُقُّ مَا مَرَّتْ بِهِ وتُقْطعُ الأَسفارُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْجَرِيءُ عَلَى الأَسفَارِ الْمَاضِي فِيهَا الْقَوِيُّ عَلَيْهَا.
والعِبَارُ: الإِبل الْقَوِيَّةُ عَلَى السَّيْرِ.
والعَبَّار: الْجَمَلُ الْقَوِيُّ عَلَى السَّيْرِ.
وعَبَر الكتابَ يعبُره عَبْرًا: تدبَّره فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِقِرَاءَتِهِ.
قَالَ الأَصمعي: يُقَالُ فِي الْكَلَامِ لَقَدْ أَسرعت اسْتِعبارَك لِلدَّرَاهِمِ أَي اسْتِخْرَاجَكَ إِياها.
وعَبَرَ المتاعَ وَالدَّرَاهِمَ يَعْبُرُهَا: نَظر كَمْ وزْنُها وَمَا هِيَ، وعبَّرها: وزنَها دِينَارًا دِينَارًا، وَقِيلَ عَبَّرَ الشيءَ إِذا لَمْ يُبَالِغْ فِي وَزْنِهِ أَو كَيْلِهِ، وَتَعْبِيرُ الدَّرَاهِمِ وزنُها جُمْلَةً بَعْدَ التَّفَارِيقِ.
والعِبْرة: الْعَجَبُ.
واعْتَبَر مِنْهُ: تَعَجَّبَ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ}؛ أَي تَدَبَّرُوا وانظُروا فِيمَا نَزَلَ بقُرَيْظةَ وَالنَّضِيرِ، فقايِسوا فِعالَهم واتّعِظُوا بِالْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: «فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كلُّها»؛ العِبَرُ: جمعُ عِبْرة، وَهِيَ كالمَوْعِظة مِمَّا يَتّعِظُ بِهِ الإِنسان ويَعمَلُ بِهِ ويَعتبِر لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
والعِبْرة: الاعتبارُ بِمَا مَضَى، وَقِيلَ: العِبْرة الِاسْمُ مِنَ الِاعْتِبَارِ.
الْفَرَّاءُ: العَبَرُ الِاعْتِبَارُ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَعبَرُ الدُّنْيَا وَلَا يَعْبُرها أَي مِمَّنْ يَعْتَبِرُ بِهَا وَلَا يَمُوتُ سَرِيعًا حَتَّى يُرْضيَك بِالطَّاعَةِ.
والعَبورُ: الْجَذَعَةُ مِنَ الْغَنَمِ أَو أَصغر؛ وعيَّنَ اللِّحْيَانِيُّ ذَلِكَ الصِّغَرَ فَقَالَ: الْعَبُورُ مِنَ الْغَنَمِ فَوْقَ الفَطيم مِنْ إِنَاثِ الْغَنَمِ، وَقِيلَ: هِيَ أَيضًا الَّتِي لَمْ تَجُز عامَها، وَالْجَمْعُ عَبَائِرُ.
وَحُكِيَ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: لِي نَعْجَتَانِ وَثَلَاثُ عبائرَ.
والعَبِير: أَخْلاطٌ مِنَ الطِّيبِ تُجْمَع بِالزَّعْفَرَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ عِنْدَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ؛ قَالَ الأَعشى:
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِداءِ العَروس، ***فِي الصَّيْفِ، رَقْرَقْت فِيهِ العَبيرا
وَقَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
وسِرْب تَطَلَّى بالعَبير، كأَنه ***دِماءُ ظِبَاءٍ بِالنُّحُورِ ذَبِيحُ
ابْنُ الأَعرابي: العبيرُ الزَّعْفَرَانَةُ، وَقِيلَ: العبيرُ ضرْبٌ مِنَ الطِّيبِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَتَعْجَزُ إِحْداكُنّ أَن تَتَّخِذَ تُومَتينِ ثُمَّ تَلْطَخَهما بِعَبِيرٍ أَو زَعْفَرَانٍ؟»وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَن الْعَبِيرَ غيرُ الزَّعْفَرَانِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: العَبيرُ نوعٌ مِنَ الطِّيبِ ذُو لَوْنٍ يُجْمع مِنْ أَخْلاطٍ.
والعَبْرة: الدَّمْعة، وَقِيلَ: هُوَ أَن يَنْهَمِل الدَّمْعُ وَلَا يُسْمَعَ الْبُكَاءُ، وَقِيلَ: هِيَ الدَّمْعَةُ قَبْلَ أَن تَفيض، وَقِيلَ: هِيَ تردُّد الْبُكَاءِ فِي الصَّدْرِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحُزْنُ بِغَيْرِ بُكَاءٍ، وَالصَّحِيحُ الأَول؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " وإِنّ شِفائي عَبْرةٌ لَوْ سَفَحْتُها "الأَصمعي: وَمِنْ أَمثالهم فِي عِنَايَةِ الرَّجُلِ بأَخيه وإِيثارِه إِياه عَلَى نَفْسِهِ قَوْلُهُمْ: لَكَ مَا أَبْكِي وَلَا عَبْرَةَ بِي؛ يُضْرَب مَثَلًا لِلرَّجُلِ يَشْتَدُّ اهْتِمَامُهُ بشأْن أَخيه، ويُرْوَى: وَلَا عَبْرَة لِي، أَي أَبكي مِنْ أَجْلِك وَلَا حُزْن لِي فِي خَاصَّةِ نَفْسِي، وَالْجَمْعُ عَبَرات وعِبَر؛ الأَخيرة عَنِ ابْنِ جِنِّي.
وعَبْرةُ الدمعِ: جرْيُه.
وعَبَرَتْ عينُه واسْتَعْبَرت: دمَعَتْ.
وعَبَر عَبْرًا واسْتَعْبَر: جرَتْ عَبْرتُه وَحَزِنَ.
وَحَكَى الأَزهري عَنْ أَبي زَيْدٍ: عَبِر الرجلُ يعبَرُ عَبَرًا إِذا حَزِنَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه ذكَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ اسْتَعْبَر فَبَكَى»؛ هُوَ استفْعل مِنَ العَبْرة، وَهِيَ تحلُّب الدَّمْعِ.
وَمِنْ دُعاء الْعَرَبِ عَلَى الإِنسان: مَا لَهُ سَهِر وعَبِر.
وامرأَة عابرٌ وعَبْرى وعَبِرةٌ: حَزِينَةٌ، والجمع عَبارى؛ قال الحرث بْنُ وعْلةَ الجَرْمي، وَيُقَالُ هُوَ لِابْنِ عَابِسٍ الْجَرْمِيِّ:
يَقُولُ لِيَ النَّهْديُّ: هَلْ أَنتَ مُرْدِفي؟ ***وَكَيْفَ ردافُ الفَرِّ؟ أُمُّك عابرُ
أَي ثَاكِلٌ
يُذَكّرُني بالرُّحْمِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ***وَقَدْ كَانَ فِي نَهْدٍ وجَرْمٍ تدارُ
أَي تُقَاطَعُ
نجوْت نَجَاءً لَمْ يَرَ الناسُ مثلَه، ***كأَني عُقابٌ عِنْدَ تَيْمَنَ كاسِرُ
والنَّهْديّ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْد يُقَالُ لَهُ سَلِيط، سأَل الحرث أَن يُرْدِفَه خَلْفه لينجُوَ بِهِ فأَبى أَن يُرْدِفَه، وأَدركت بَنُو سَعْدٍ النَّهْدِيّ فَقَتَلُوهُ.
وعينٌ عَبْرى أَي بَاكِيَةٌ.
وَرَجُلٌ عَبرانُ وعَبِرٌ: حزِينٌ.
والعُبْرُ: الثَّكْلى.
والعُبْرُ: الْبُكَاءُ بالحُزْن؛ يُقَالُ: لأُمِّه العُبْرُ والعَبَرُ.
والعَبِرُ والعَبْرانُ: الْبَاكِي.
والعُبْر والعَبَر: سُخْنةُ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ كأَنه يَبْكي لِمَا بِهِ.
والعَبَر، بِالتَّحْرِيكِ: سُخنة فِي الْعَيْنِ تُبكيها.
ورأَى فُلَانٌ عُبْرَ عَيْنِهِ فِي ذَلِكَ الأَمر وأَراه عُبْرَ عَيْنِهِ أَي مَا يُبْكِيهَا أَو يُسْخِنها.
وعَبَّر بِهِ: أَراه عُبْرَ عَيْنِهِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
ومِنْ أَزْمَة حَصَّاءَ تَطْرَحُ أَهلَها ***عَلَى مَلَقِيَّات يُعَبِّرْنَ بالغُفْر
وَفِي حَدِيثِ أُمْ زَرْعٍ: «وعُبْر جارتِها»أَي أَن ضَرَّتَها تَرَى مِنْ عِفَّتِها مَا تَعْتَبِرُ بِهِ، وَقِيلَ: إِنها تَرَى مِنْ جَمالِها مَا يُعَبِّرُ عَيْنَهَا؛ أي يُبكيها.
وامرأَة مُسْتَعْبِرة ومُسْتَعْبَرَة: غَيْرُ حَظِيَّةٍ؛ قَالَ القُطامي:
لَهَا روْضة فِي الْقَلْبِ لَمْ تَرْعَ مِثْلَها ***فَرُوكٌ، وَلَا المُسْتَعْبِرات الصَّلائف
والعُبْر، بِالضَّمِّ: الْكَثِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ.
والعُبْر: جَمَاعَةُ الْقَوْمِ؛ هُذَلِيَّةٌ عَنْ كُرَاعٍ.
وَمَجْلِسٌ عِبْر وعَبْر: كَثِيرُ الأَهل.
وَقَوْمٌ عَبِير: كَثِيرٌ.
والعُبْر: السَّحَائِبُ الَّتِي تَسِيرُ سَيْرًا شَدِيدًا.
يُقَالُ: عَبَّرَ بِفُلَانٍ هَذَا الأَمرُ أَي اشْتَدَّ عَلَيْهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
مَا أَنا والسَّيْرَ فِي مَتْلَفٍ، ***يُعَبِّرُ بالذَّكَر الضَّابِط
وَيُقَالُ: عَبَرَ فُلَانٌ إِذا مَاتَ، فَهُوَ عَابِرٌ، كأَنه عَبَرَ سبيلَ الْحَيَاةِ.
وعبَرَ القومُ أَي مَاتُوا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
فإِنْ نَعْبُرْ فإِنَّ لَنَا لُمَاتٍ، ***وإِنْ نَعْبُرْ فَنَحْنُ عَلَى نُذُور
يقول: إِن متنا قلنا أَقرانٌ، وإِن بَقينا فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كأَن لَنَا فِي إِتيانه نَذْرًا.
وَقَوْلُهُمْ: لُغَةٌ عابِرَة أَي جَائِزَةٌ.
وَجَارِيَةٌ مُعْبَرَة: لَمْ تُخْفَض.
وأَعبَر الشَّاةَ: وفَّر صُوفَهَا.
وَجَمَلٌ مُعْبَر: كَثِيرُ الوبَر كأَن وَبَرَهُ وُفِّر عَلَيْهِ وإِن لَمْ يَقُولُوا أَعْبَرْته؛ قَالَ:
أَو مُعْبَرُ الظَّهْر يُنْبى عَنْ وَلِيَّتِهِ، ***مَا حَجَّ رَبُّه فِي الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: عَبَرَ الكَبشَ تَرَكَ صُوفَهُ عَلَيْهِ سَنَةً.
وأَكْبُشٌ عُبرٌ إِذا تَرَكَ صُوفَهَا عَلَيْهَا، وَلَا أَدري كَيْفَ هَذَا الْجَمْعُ.
الْكِسَائِيُّ: أَعْبَرْت الْغَنَمَ إِذا تَرَكْتَهَا عَامًا لَا تُجزّها إِعْبارًا.
وَقَدْ أَعْبَرْت الشَّاةَ، فَهِيَ مُعْبَرَة.
والمُعْبَر: التَّيْسُ الَّذِي تُرِكَ عَلَيْهِ شَعْرُهُ سَنَوَاتٌ فَلَمْ يُجَزَّ؛ قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبي خازم يَصِفُ كَبْشًا:
جَزيزُ القَفا شَبْعانُ يَرْبِضُ حَجْرة، ***حديثُ الخِصَاء وارمُ العَفْل مُعْبَرُ
أَي غَيْرُ مَجْزُوزٍ.
وَسَهْمٌ مُعْبَرٌ وعَبِرٌ: مَوْفُور الرِّيشِ كالمُعْبَر مِنَ الشَّاءِ والإِبل.
ابْنُ الأَعرابي: العُبْرُ مِنَ النَّاسِ القُلْف، وَاحِدُهُمْ عَبُورٌ.
وَغُلَامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتلم وَلَمْ يُخْتَن بَعْدُ؛ قَالَ:
فَهْوَ يُلَوِّي باللِّحاءِ الأَقْشَرِ، ***تَلْويَةَ الخاتِن زُبَّ المُعْبَرِ
وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَن، قارَب الِاحْتِلَامَ أَو لَمْ يُقارِب.
قَالَ الأَزهري: غُلَامٌ مُعْبَرٌ إِذا كادَ يحتلم ولم يُخْتَن.
وقالوا فِي الشَّتْمِ: يَا ابْنَ المُعْبَرَة أَي العَفْلاء، وأَصله مِنْ ذَلِكَ.
والعُبْرُ: العُقاب، وَقَدْ قِيلَ: إِنه العُثْرُ، بِالثَّاءِ، وَسَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَبَنَاتُ عِبْرٍ: الْبَاطِلُ؛ قَالَ:
إِذا مَا جِئْتَ جَاءَ بناتُ عِبْرٍ، ***وإِن ولَّيْتَ أَسْرَعْنَ الذَّهابا
وأَبو بناتِ عِبْرٍ: الكَذَّاب.
والعُبَيْراءُ، مَمْدُودٌ: نَبْتٌ؛ عَنْ كُرَاعٍ حَكَاهُ مَعَ الغُبَيْراء.
والعَوْبَرُ: جِرْوُ الفَهْد؛ عَنْ كُرَاعٍ أَيضًا.
والعَبْرُ وَبَنُو عَبْرَة، كِلَاهُمَا: قَبِيلَتَانِ.
والعُبْرُ: قَبِيلَةٌ.
وعابَرُ بنُ أَرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
والعِبْرانية: لُغَةُ الْيَهُودِ.
والعِبْري، بِالْكَسْرِ: العِبْراني، لُغَةُ الْيَهُودِ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
76-لسان العرب (عور)
عور: العَوَرُ: ذهابُ حِسِّ إِحدى الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ عَوِرَ عَوَرًا وعارَ يَعارُ واعْوَرَّ، وَهُوَ أَعْوَرُ، صحَّت الْعَيْنُ فِي عَوِر لأَنه فِي مَعْنَى مَا لَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَعْوَرُ بَيِّنُ العَوَرِ، وَالْجَمْعُ عُورٌ وعُوران؛ وأَعْوَرَ اللهُ عينَ فُلَانٍ وعَوَّرَها، وَرُبَّمَا قَالُوا: عُرْتُ عينَه.وعَوِرَت عينُه واعْوَرَّت إِذا ذَهَبَ بَصَرُهَا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنما صَحَّتِ الْوَاوُ فِي عَوِرَت عينُه لِصِحَّتِهَا فِي أَصله، وَهُوَ اعْوَرَّت، لِسُكُونِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ حُذِفت الزَّوَائِدُ الأَلفُ والتشديدُ فَبَقِيَ عَوِرَ، يَدُلُّ عَلَى أَن ذَلِكَ أَصله مجيءُ أَخواته عَلَى هَذَا: اسْوَدَّ يَسْوَدُّ واحْمَرَّ يَحْمَرّ، وَلَا يُقَالُ فِي الأَلوان غَيْرُهُ؛ قَالَ: وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُ فِي الْعُيُوبِ اعْرَجَّ واعْمَيَّ فِي عَرِج وعَمِيَ، وإِن لَمْ يُسْمَعْ، وَالْعَرَبُ تُصَغِّر الأَعْوَر عُوَيْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ كُسَيْرٌ وعُوَيْر وكلٌّ غَيْرُ خَيْر.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْمَكْرُوهَتَيْنِ: كُسَيْرٌ وعُوَيْر وكلٌّ غيرُ خَيْر، وَهُوَ تَصْغِيرُ أَعور مُرَخَّمًا.
قَالَ الأَزهري: عارَت عينُه تَعارُ وعَوِرَت تَعْورُ واعْوَرَّت تَعْوَرُّ واعْوَارَّت تَعْوارُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَيُقَالُ: عارَ عينَه يَعُورُها إِذا عَوَّرها؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَجَاءَ إِليها كاسِرًا جَفْنَ عَيْنه، ***فقلتُ لَهُ: مَنْ عارَ عَيْنَك عَنْتَرهْ؟
يَقُولُ: مَنْ أَصابها بعُوّار؟ وَيُقَالُ: عُرْتُ عَيْنَهُ أَعُورُها وأَعارُها مِنَ العائِر.
قَالَ ابْنُ بُزُرْجٍ: يُقَالُ عارَ الدمعُ يَعِيرُ عَيَرانًا إِذا سَالَ؛ وأَنشد:
ورُبَّتَ سائلٍ عنِّي حَفِيٍّ: ***أَعارَتْ عينُه أَم لَمْ تَعارا؟
أَي أَدْمَعَت عينُه؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ عارَت عينُه" تَعار، وأَورد هَذَا الْبَيْتَ:
وَسَائِلَةٍ بظَهْرِ الْغَيْبِ عَنّي: ***أَعارَتْ عينُه أَم لَمْ تَعارا؟
قَالَ: أَراد تعارَنْ، فَوَقَفَ بالأَلف؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَورد هَذَا الْبَيْتَ عَلَى عَارَتْ أَي عَوِرت، قَالَ: وَالْبَيْتُ لِعَمْرِو بْنِ أَحمر الْبَاهِلِيِّ؛ قَالَ: والأَلف فِي آخِرِ تَعَارَا بَدَلٌ مِنَ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، أَبدل مِنْهَا أَلفًا لَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا سَلِمَتِ الأَلف الَّتِي بَعْدَ الْعَيْنِ إِذ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهَا نُونُ التَّوْكِيدِ لَانْحَذَفَتْ، وَكُنْتَ تَقُولُ لَمْ تَعَرْ كَمَا تَقُولُ لَمْ تَخَفْ، وإِذا أُلحقت النُّونُ ثَبَتَتِ الأَلف فَقُلْتَ: لَمْ تَخَافَنْ لأَن الْفِعْلَ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ مَبْنِيٌّ فَلَا يَلْحَقُهُ جَزْمٌ.
وَقَوْلُهُمْ: بَدَلٌ أَعْوَر؛ مَثَلٌ يُضْرَبُ لِلْمَذْمُومِ يُخْلِفُ بَعْدَ الرَّجُلِ الْمَحْمُودِ.
وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْع: «فاسْتَبْدَلت بعدَه وكلُّ بَدَلٍ أَعْوَر»؛ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمّام السّلُولي لقُتَيْبَة بْنِ مُسْلِمٍ ووَليَ خُرَاسَانَ بَعْدَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ:
أَقُتَيْبَ، قَدْ قُلْنا غداةَ أَتَيْتَنا: ***بَدَلٌ لَعَمْرُك مِنْ يَزيدٍ أَعْوَرُ
وَرُبَّمَا قَالُوا: خَلَفٌ أَعْوَرُ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
فأَصْبَحْتُ أَمْشِي فِي دِيارٍ، كأَنها ***خِلافُ دِيار الكامِليّة عُورُ
كأَنه جَمَعَ خَلَفًا عَلَى خِلافٍ مِثْلُ جَبَل وجِبال.
قَالَ: وَالِاسْمُ العَوْرة.
وعُورانُ قَيْسٍ: خَمْسَةُ شُعَراء عُورٌ، وَهُمُ الأَعْور الشَّنِّي.
والشمَّاخ وَتَمِيمُ بْنُ أُبَيّ بْنِ مُقْبِل وابن أَحمر وحُمَيْد بْنُ ثَوْرٍ الْهِلَالِيُّ.
وَبَنُو الأَعْور: قَبِيلَةٌ، سُمُّوا بِذَلِكَ لعَوَرِ أَبيهم؛ فأَما قَوْلُهُ: فِي بِلاد الأَعْورِينا؛ فَعَلَى الإِضافة كالأَعْجَمِينَ وَلَيْسَ بِجَمْعِ أَعْوَر لأَن مِثْلَ هَذَا لَا يُسَلّم عِنْدَ سِيبَوَيْهِ.
وعارَه وأَعْوَرَه وعَوَّرَه: صيَّره كَذَلِكَ؛ فأَما قَوْلُ جَبَلة: " وبِعْتُ لَهَا العينَ الصحيحةَ بالعَوَرْ "فإِنه أَراد العَوْراء فَوَضَعَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الصِّفَةِ، وَلَوْ أَراد العَوَر الَّذِي هُوَ العرَض لقابَل الصَّحِيحَةَ وَهِيَ جَوْهَرٌ بالعَوَر وَهُوَ عرَضٌ، وَهَذَا قَبِيحٌ فِي الصنْعة وَقَدْ يَجُوزُ أَن يُرِيدَ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِذَاتِ العَوَرِ فَحَذَفَ، وَكُلُّ هَذَا لِيُقَابَلَ الجوهرُ بِالْجَوْهَرِ لأَن مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ أَذهبُ في الصُّنْع وأَشْرَف فِي الْوَضْعِ؛ فأَما قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
فالعينُ بعدهمُ كأَن حِداقَها ***سُمِلَت بِشَوْكٍ، فَهِيَ عُورٌ تَدْمَعُ
فَعَلَى أَنه جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْحَدَقَةِ أَعْوَرَ أَو كلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا عَوْراء، وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ، وإِنما آثَرَ أَبو ذُؤَيْبٍ هَذَا لأَنه لَوْ قَالَ: فَهِيَ عَوْرا تَدْمَعُ، لَقَصَرَ الْمَمْدُودَ فرأَى مَا عَمِله أَسهلَ عَلَيْهِ وأَخفَّ.
وَقَدْ يَكُونُ العَوَرُ فِي غَيْرِ الإِنسان؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَدَّثَنَا بَعْضُ الْعَرَبِ أَن رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسد قَالَ يَوْمَ جَبَلة: وَاسْتَقْبَلَهُ بَعِيرٌ أَعْور فَتَطيّر، فَقَالَ: يَا بَنِيّ أَعْوَرَ وَذَا نابٍ، فَاسْتَعْمَلَ الأَعْورَ لِلْبَعِيرِ، وَوَجْهُ نَصْبِهِ أَنه لَمْ يُرِدْ أَن يَسْتَرْشِدَهُمْ لِيُخْبِرُوهُ عَنْ عَورِه وصحَّته، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَهُمْ كأَنه قَالَ: أَتستقبلون أَعْوَرَ وَذَا نَابٍ؟ فالاستقبالُ فِي حَالِ تَنْبِيهِهِ إِيّاهم كَانَ وَاقِعًا كَمَا كَانَ التلَوُّن وَالتَّنَقُّلُ عِنْدَكَ ثَابِتَيْنِ فِي الْحَالِ الأَول، وأَراد أَن يُثْبِتَ الأَعْوَرَ ليَحْذَرُوه، فأَما قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي تَمْثِيلِ النَّصْبِ أَتَعَوَّرون فَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنما أَراد أَن يُرِينَا الْبَدَلَ مِنَ اللَّفْظِ بِهِ بِالْفِعْلِ فَصَاغَ فِعْلًا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الأَعْيار" مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَفي السِّلْم أَعْيارًا جَفاءً وغِلْظةً، ***وَفِي الحَرْب أَشباهَ النِّساء العَوارِك؟
أَتَعَيَّرون، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنما هُوَ لِيَصُوغَ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَجْرِي عَلَى الفعْل أَو مِمَّا يَقِلُّ جَرْيُهُ عَلَيْهِ.
والأَعْوَرُ: الْغُرَابُ، عَلَى التَّشَاؤُمِ بِهِ، لأَن الأَعْورَ عندهم مشؤوم، وَقِيلَ: لِخِلَافِ حَالِهِ لأَنهم يَقُولُونَ أَبْصَرُ مِنْ غُرَابٍ، قَالُوا: وإِنما سُمِّيَ الْغُرَابُ أَعْوَر لِحِدَّةِ بَصَرِهِ، كَمَا يُقَالُ للأَعمى أَبو بَصِير وللحبَشِيّ أَبو البَيْضاء، وَيُقَالُ للأَعمى بَصِير وللأَعْوَر الأَحْوَل.
قَالَ الأَزهري: رأَيت فِي الْبَادِيَةِ امرأَة عَوْراء يُقَالُ لَهَا حَوْلاء؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ للأَحْوَل الْعَيْنِ أَعْوَر، وللمرأَة الحَوْلاء هِيَ عَوْراء، وَيُسَمَّى الْغُرَابُ عُوَيْرًا عَلَى تَرْخِيمِ التَّصْغِيرِ؛ قَالَ: سُمِّيَ الْغُرَابُ أَعْوَرَ ويُصاح بِهِ فَيُقَالُ عُوَيْر عُوَيْر؛ وأَنشد: " وصِحَاحُ العُيونِ يُدْعَوْن عُورا وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:
ومَنْهل أَعْوَر إِحْدى العَيْنَيْن، ***بَصِير أُخرى وأَصَمّ الأُذُنَيْن
فَسَّرَهُ فَقَالَ: مَعْنَى أَعْوَر إِحدى الْعَيْنَيْنِ أَي فِيهِ بِئْرَانِ فَذَهَبَتْ وَاحِدَةٌ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْوَر إِحدى الْعَيْنَيْنِ، وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ بَصِير أُخرى، وَقَوْلُهُ أَصَمّ الأُذنين أَي لَيْسَ يُسْمَع فِيهِ صَدًى.
قَالَ شِمْرٌ: عَوَّرْت عُيونَ الْمِيَاهِ إِذا دَفَنْتها وسدَدْتها، وعَوَّرْت الرَّكِيَّةَ إِذا كَبَسْتها بِالتُّرَابِ حَتَّى تَنْسَدَّ عُيُونُهَا.
وَفَلَاةٌ عَوْراء: لَا مَاءَ بِهَا.
وعَوَّرَ عَيْنَ الرَّكِيَّةِ: أَفسدها حَتَّى نَضَبَ الماءُ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَر وذكَرَ إمرأَ الْقَيْسِ فَقَالَ: «افْتَقَر عَنْ معانٍ عُورٍ»؛ العُورُ جَمْعُ أَعْوَر وعَوْراء وأَراد بِهِ الْمَعَانِيَ الْغَامِضَةَ الدَّقِيقَةَ، وَهُوَ مِنْ عَوَّرْت الرَّكِيَّةَ وأَعَرْتُها وعُرْتُها إِذا طَمَمْتها وَسَدَدْتَ أَعينها الَّتِي ينبَع مِنْهَا الْمَاءِ.
وَفِي حَدِيثِ عليٍّ: «أَمرَه أَن يُعَوِّرَ آبارَ بَدْرٍ»أَي يَدْفِنها ويَطُمّها؛ وَقَدْ عارَت الركيةُ تَعُور.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: العُوَارُ الْبِئْرُ الَّتِي لَا يُسْتَقَى مِنْهَا.
قَالَ: وعَوَّرْت الرَّجُلَ إِذا اسْتَسْقاك فَلَمْ تَسْقِه.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ لِلْمُسْتَجِيزِ الَّذِي يَطْلُبُ الْمَاءَ إِذا لَمْ تُسْقِهِ: قَدْ عَوَّرْت شُرْبَه؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مَتَّى مَا تَرِدْ يَوْمًا سَفارِ، تَجِدْ بِهِ ***أُدَيْهم، يَرْمي المُسْتَجِيز المُعَوَّرا
سفارِ: اسْمُ مَاءٍ.
وَالْمُسْتَجِيزُ: الَّذِي يَطْلُبُ الْمَاءَ.
وَيُقَالُ: عَوَّرْته عَنِ الْمَاءِ تَعْوِيرًا أَي حَلَّأْته.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: التَّعْوِيرُ الرَّدُّ.
عَوَّرْته عَنْ حَاجَتِهِ: رَدَدْتُهُ عَنْهَا.
وَطَرِيقٌ أَعْوَرُ: لَا عَلَم فِيهِ كأَنّ ذَلِكَ العَلَم عَيْنُه، وَهُوَ مَثَلٌ.
والعائرُ: كُلُّ مَا أَعَلَّ العينَ فعقَر، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَن الْعَيْنَ تُغْمَضُ لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهَا مِنَ النَّظَرِ لأَن الْعَيْنَ كأَنها تَعُور.
وَمَا رأَيت عائرَ عَيْنٍ أَي أَحدًا يَطْرِف الْعَيْنَ فيَعُورها.
وعائرُ الْعَيْنِ: مَا يملؤُها مِنَ الْمَالِ حَتَّى يَكَادَ يَعُورُها.
وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ عائرةُ عَيْنَيْن وعَيِّرَةُ عَيْنَيْنِ؛ كِلَاهُمَا عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، أَي مَا يَكَادُ مِنْ كَثْرَتِهِ يَفْقأُ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ مَرَّةً: يُرِيدُ الْكَثْرَةَ كأَنه يملأُ بَصَرَهُ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا كَثُرَ مالُه: تَرِدُ عَلَى فُلَانٍ عائرةُ عَيْنٍ وعائرةُ عَيْنَيْنِ أَي تَرِدُ عَلَيْهِ إِبلٌ كَثِيرَةٌ كأَنها مِنْ كَثْرَتِهَا تملأُ الْعَيْنَيْنِ حَتَّى تَكَادَ تَعُورهما أَي تَفْقَؤُهما.
وَقَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: مَعْنَاهُ أَنه مِنْ كَثْرَتِهَا تَعِيرُ فِيهَا الْعَيْنُ؛ قَالَ الأَصمعي: أَصل ذَلِكَ أَن الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذا بَلَغَإِبلُه أَلفًا عارَ عَينَ بَعِير مِنْهَا، فأَرادوا بعَائرة الْعَيْنِ أَلفًا مِنَ الإِبل تَعُورُ عينُ وَاحِدٍ مِنْهَا.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَعِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ عائرةُ عينٍ أَي يَحارُ فِيهِ الْبَصَرُ مِنْ كَثْرَتِهِ كأَنه يملأُ الْعَيْنَ فيَعُورُها.
والعائرُ كالظَّعْنِ أَو القذَى فِي الْعَيْنِ: اسْمٌ كالكاهِل والغارِب، وَقِيلَ: العائرُ الرَّمَد، وَقِيلَ: العائرُ بَثْرٌ يَكُونُ فِي جَفْن الْعَيْنِ الأَسفل، وَهُوَ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ النالِج والناعِر والباطِل، وَلَيْسَ اسْمَ فَاعِلٍ وَلَا جَارِيًا عَلَى مُعْتَلٍّ، وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ مُعْتَلٌّ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: العائرُ غَمَصة تمَضُّ الْعَيْنَ كأَنما وَقَعَ فِيهَا قَذًى، وَهُوَ العُوّار.
قَالَ: وَعَيْنٌ عائرةٌ ذَاتُ عُوّار؛ قَالَ: وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى عارَت، إِنما يُقَالُ عارَت إِذا عَوِرَت، والعُوّار، بِالتَّشْدِيدِ، كَالْعَائِرِ، وَالْجَمْعُ عَواوِير: الْقَذَى فِي الْعَيْنِ؛ يُقَالُ: بِعَيْنِهِ عُوّار أَي قَذًى؛ فأَما قَوْلُهُ: " وكَحَّلَ العَيْنَيْنِ بالعَواوِر "فإِنما حَذَفَ الْيَاءَ لِلضَّرُورَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَهْمِزْ لأَن الْيَاءَ فِي نِيَّةِ الثَّبَاتِ، فَكَمَا كَانَ لَا يَهْمِزُهَا وَالْيَاءُ ثَابِتَةٌ كَذَلِكَ لَمْ يَهْمِزْهَا وَالْيَاءُ فِي نِيَّةِ الثَّبَاتِ.
وَرَوَى الأَزهري عَنِ الْيَزِيدِيِّ: بعَيْنِه ساهِكٌ وعائرٌ، وَهُمَا مِنَ الرَّمَدِ.
والعُوّار: الرَّمَدُ.
والعُوّار: الرَّمَصُ الَّذِي فِي الْحَدَقَةِ.
والعُوّارُ: اللَّحْمُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنَ الْعَيْنِ بعد ما يُذَرّ عَلَيْهِ الذَّرُورُ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ.
والعَوْراء: الْكَلِمَةُ الْقَبِيحَةُ أَو الفَعْلة القَبيحة، وَهُوَ مِنْ هَذَا لأَن الْكَلِمَةَ أَو الْفَعْلَةَ كأَنها تَعُور الْعَيْنَ فَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنَ الطُّمْوحِ وحِدّةِ النَّظَرِ، ثُمَّ حَوّلوها إِلى الْكَلِمَةِ والفعلةِ عَلَى المَثَل، وإِنما يُرِيدُونَ فِي الْحَقِيقَةِ صَاحِبَهَا؛ قَالَ ابْنُ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ عَمِّهِ عُمَيْلة وَكَانَ عُمَيْلَةُ هَذَا قَدْ جَبَرَهُ مِنْ فَقْرٍ:
إِذا قِيلَت العَوْراءُ أَغْضَى، كأَنه ***ذليلٌ بِلَا ذُلٍّ، وَلَوْ شَاءَ لانْتَصَرْ
وَقَالَ آخَرُ:
حُمِّلْت مِنْهُ عَلَى عَوْراءَ طائِشةٍ، ***لَمْ أَسْهُ عَنْهَا وَلَمْ أَكْسِرْ لَهَا فَزَعا
قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: يُقَالُ لِلْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ عَوْراء، وَلِلْكَلِمَةِ الحسْناء: عَيْناء؛ وأَنشد قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وعَوْراء جَاءَتْ مِنْ أَخٍ، فرَدَدْتُها ***بِسالمةِ العَيْنَيْنِ، طَالِبَةً عُذْرا
أَي بِكَلِمَةٍ حسَنَة لَمْ تَكُنْ عَوْراء.
وَقَالَ اللَّيْثُ: العَوْراء الْكَلِمَةُ الَّتِي تَهْوِي فِي غَيْرِ عَقْلٍ وَلَا رُشْد.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَلِمَةُ العَوْراء الْقَبِيحَةُ، وَهِيَ السَّقْطة؛ قَالَ حَاتِمُ طَيِّءٍ:
وأَغْفِرُ عَوْراءَ الْكَرِيمِ ادِّخارَه، ***وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيم تَكَرُّما
أَي لِادِّخَارِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَتَوَضَّأُ أَحدكم مِنَ الطَّعام الطيّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنَ العَوْراء يقولُها»أَي الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ الزَّائِغَةِ عَنِ الرُّشد.
وعُورانُ الكلامِ: مَا تَنْفِيه الأُذُن، وَهُوَ مِنْهُ، الْوَاحِدَةُ عَوْراء؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ، وأَنشد:
وعَوْراء قَدْ قِيلَتْ، فَلَمْ أَسْتَمِعْ لَهَا، ***وَمَا الكَلِمُ العُورانُ لِي بِقَتُولِ
وَصَفَ الكَلِمَ بالعُورانِ لأَنه جَمْعٌ وأَخبر عَنْهُ بالقَتُول، وَهُوَ وَاحِدٌ لأَن الْكَلِمَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَمْعٍ لَا يُفارِق وَاحِدَهُ إِلا بِالْهَاءِ وَلَكَ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ.
والعَوَرُ: شَيْنٌ وقُبْحٌ.
والأَعْوَرُ: الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
في الْحَدِيثِ: «لَمَّا اعْتَرَضَ أَبو لَهَبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِظهار الدَّعْوة قَالَ لَهُ أَبو طَالِبٍ: يَا أَعْوَرُ، مَا أَنتَ وَهَذَا؟»لَمْ يَكُنْ أَبو لَهَبٍ أَعْوَرَ وَلَكِنَّ العرب تقول للذي لَيْسَ لَهُ أَخٌ مِنْ أُمّه وأَبيه أَعْوَر، وَقِيلَ: إِنهم يَقُولُونَ لِلرَّدِيءِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأُمور والأَخلاق أَعْوَر، وَلِلْمُؤَنَّثِ مِنْهُ عَوْراء.
والأَعْوَرُ: الضَّعِيفُ الْجَبَانُ البَلِيد الَّذِي لَا يَدُلّ وَلَا يَنْدَلّ وَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وأَنشد لِلرَّاعِي: " إِذا هابَ جُثْمانَه الأَعْوَرُ "يَعْنِي بالجُثْمان سوادَ اللَّيْلِ ومُنْتَصَفه، وَقِيلَ: هُوَ الدَّلِيلُ السيِء الدَّلَالَةِ.
والعُوّار أَيضًا: الضَّعِيفُ الْجَبَانُ السَّرِيعُ الْفِرَارِ كالأَعْور، وَجَمْعُهُ عَوَاوِيرُ؛ قَالَ الأَعشى:
غَيْرَ مِيلٍ وَلَا عَواوِير فِي الهيجا، ***وَلَا عُزّلٍ وَلَا أَكْفالِ
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لأَنهم قَلَّمَا يَصِفُونَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ فَصَارَ كمِفْعال ومِفْعِيل وَلَمْ يَصِرْ كفَعّال، وأَجْرَوْه مُجْرَى الصِّفَةِ فَجَمَعُوهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي حَسَّانٍ وكَرّام.
والعُوّار أَيضًا: الَّذِينَ حَاجَاتُهُمْ فِي أَدْبارِهم؛ عَنْ كُرَاعٍ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ العُوّار الْجَبَانِ العَواوِيرُ، قَالَ: وإِن شِئْتَ لَمْ تُعَوِّضْ فِي الشِّعْرِ فَقُلْتَ الْعَوَاوِرُ؛ وأَنشد عَجُزَ بَيْتٍ لِلَبِيدٍ يُخَاطِبُ عَمَّهُ ويُعاتِبه:
وَفِي كلِّ يَوْمٍ ذِي حِفاظٍ بَلَوْتَنِي، ***فقُمْتُ مَقامًا لَمْ تَقُمْه العَواوِرُ
وَقَالَ أَبو عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ: إِنما صَحَّتْ فِيهِ الْوَاوُ مَعَ قُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ لأَن الْيَاءَ الْمَحْذُوفَةَ لِلضَّرُورَةِ مُرَادَةٌ فَهِيَ فِي حُكْمِ مَا فِي اللَّفْظِ، فَلَمَّا بَعُدَتْ فِي الْحُكْمِ مِنَ الطَّرف لَمْ تُقْلَبْ هَمْزَةً.
وَمِنْ أَمثال الْعَرَبِ السَّائِرَةِ: أَعْوَرُ عَيْنَك والحَجَر.
والإِعْوَار: الرِّيبةُ.
وَرَجُلٌ مُعْوِرٌ: قَبِيحُ السَّرِيرَةِ.
وَمَكَانٌ مُعْوِر: مُخَوِّفٌ.
وَهَذَا مَكَانٌ مُعْوِر أَي يُخاف فِيهِ الْقَطْعُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قَالَ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدة: رأَيته وَقَدْ طلَع فِي طريقٍ مُعْوِرة»أَي ذَاتُ عَوْرة يُخاف فِيهَا الضَّلَالُ وَالِانْقِطَاعُ.
وَكُلُّ عَيْبٍ وَخَلَلٍ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ عَوْرة وَشَيْءٌ مُعْوِر وعَوِرٌ: لَا حَافِظَ لَهُ.
والعَوَارُ والعُوار، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا: خَرْقٌ أَو شَقٌّ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: هُوَ عَيْبٌ فِيهِ فَلَمْ يُعَيَّنْ ذَلِكَ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تُبَيِّنُ نِسْبةَ المُزَنِيِّ لُؤْمًا، ***كَمَا بَيَّنْتَ فِي الأُدُم العُوارا
وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «لَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمةٌ وَلَا ذاتُ عَوار»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: العَوارُ، بِالْفَتْحِ، الْعَيْبُ، وَقَدْ يُضَمُّ.
والعَوْرةُ: الخَلَلُ فِي الثَّغْر وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ مَنْكُورًا فَيَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ}؛ فأَفرد الْوَصْفَ والموصوفُ جَمْعٌ، وأَجمع القُرّاء عَلَى تَسْكِينِ الْوَاوِ مِنْ عَوْرة، وَلَكِنْ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ عَوِرة عَلَى فَعِلة، وإِنما أَرادوا: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ" أَي مُمْكِنة للسرَّاق لخلُوِّها مِنَ الرِّجَالِ فأَكْذَبَهم اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ "وَلَكِنْ يُرِيدون الفِرار؛ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِن بُيُوتَنَا عَوْرة أَي مُعْوِرة أَي بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي العَدُوَّ وَنَحْنُ نُسْرَق مِنْهَا فأَعْلَم اللهُ أَنَّ قصدَهم الهربُ.
قَالَ: وَمَنْ قرأَها" عَوِرة "فَمَعْنَاهَا ذَاتُ عَوْرة.
إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرارًا؛ الْمَعْنَى: مَا يُرِيدُونَ تحرُّزًا مِن سَرَقٍ وَلَكِنْ يُرِيدُونَ الفِرارَ عَنْ نُصْرة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌأَي لَيْسَتْ بِحَرِيزة، وَمَنْ قرأَ عَوِرة ذَكَّر وأَنَّث، وَمَنْ قرأَ عَوْرَةٌ قَالَ فِي التَّذْكِيرِ والتأْنيث وَالْجَمْعِ عَوْرة كَالْمَصْدَرِ.
قَالَ الأَزهري: العَوْرة فِي الثُّغُور وَفِي الحُروبِ خَلَلٌ يُتَخَوَّف مِنْهُ الْقَتْلُ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: العَوْرة كُلُّ خَلَل يُتَخَوَّف مِنْهُ مِنْ ثَغْرٍ أَو حَرْب.
والعَوْرة: كُلُّ مَكْمَنٍ للسَّتْر.
وعَوْرةُ الرَّجُلِ والمرأَة: سوْأَتُهما، وَالْجَمْعُ عَوْرات، بِالتَّسْكِينِ، وَالنِّسَاءُ عَوْرة؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنما يُحَرَّكُ الثَّانِي مِنْ فَعْلة فِي جَمْعِ الأَسماء إِذا لم يكن باءً أَو وَاوًا، وقرأَ بَعْضُهُمْ: " عَوَرات النِّسَاءِ، بِالتَّحْرِيكِ.
والعَوْرةُ: السَّاعَةُ الَّتِي هِيَ قَمِنٌ مِنْ ظُهُورِ العَوْرة فِيهَا، وَهِيَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَسَاعَةٌ عِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَسَاعَةٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ}؛ أَمر اللَّهُ تَعَالَى الوِلْدانَ والخَدَمَ أَن لَا يَدْخُلُوا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلا بِتَسْلِيمٍ مِنْهُمْ وَاسْتِئْذَانٍ.
وكلُّ أَمر يُسْتَحَيَا مِنْهُ: عَوْرة.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْراتُنا مَا نأْتي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ العَوْرات: جَمْعُ عَوْرة، وَهِيَ كُلِّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ إِذا ظَهَرَ، وَهِيَ مِنَ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَمِنَ المرأَة الْحُرَّةِ جميعُ جَسَدِهَا إِلا الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إِلى الْكُوعَيْنِ، وَفِي أَخْمَصِها خِلَافٌ، وَمِنَ الأَمَة مثلُ الرَّجُلِ، وَمَا يَبْدُو مِنْهَا فِي حَالِ الْخِدْمَةِ كالرأْس وَالرَّقَبَةِ وَالسَّاعِدِ فَلَيْسَ بِعَوْرة».
وسترُ العَوْرة فِي الصَّلَاةِ وغيرِ الصَّلَاةِ واجبٌ، وَفِيهِ عِنْدَ الْخَلْوَةِ خِلَافٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «المرأَة عَوْرة»؛ جَعَلَهَا نفسَها عَوْرة لأَنها إِذا ظَهَرَتْ يُسْتَحْيَا مِنْهَا كَمَا يُسْتَحْيَا مِنَ العَوْرة إِذا ظَهَرَتْ.
والمُعْوِرُ: المُمْكِن البيِّن الْوَاضِحُ.
وأَعْوَرَ لَكَ الصَّيْدُ أَي أَمْكَنك.
وأَعْوَرَ الشيءُ: ظَهَرَ وأَمكن؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد لكُثَيّر:
كَذَاكَ أَذُودُ النَّفْسَ، يَا عَزَّ، عنكمُ، ***وَقَدْ أَعْوَرَت أَسْرارُ مَن لَا يَذُودُها
أَعْوَرَتْ: أَمكنت، أَي مَنْ لَمْ يَذُد نفسَه عَنْ هَوَاهَا فحُشَ إِعْوارُها وفشَتْ أَسرارُها.
وَمَا يُعْوِرُ لَهُ شَيْءٌ إِلا أَخذه أَي يَظْهَرُ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَعْوَرَ منزلُك إِذا بَدَتْ مِنْهُ عَوْرةٌ، وأَعْوَرَ الفارِسُ إِذا كَانَ فِيهِ مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ الأَسد: " لَهُ الشَّدّةُ الأُولى إِذا القِرْن أَعْورَا وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ الله عنه: «لَا تُجْهِزوا عَلَى جَريح وَلَا تُصِيبُوا مُعْوِرًا»؛ هُوَ مِنْ أَعْوَر الفارسُ إِذا بَدَا فِيهِ مَوْضِعُ خللٍ لِلضَّرْبِ.
وعارَه يَعُوره أَي أَخذه وَذَهَبَ بِهِ.
وَمَا أَدْرِي أَيُّ الجرادِ عارَه أَي أَيّ النَّاسِ أَخذه؛ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي الْجَحْدِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَمَا أَدري أَيّ النَّاسِ ذَهَبَ بِهِ وَلَا مُسْتَقْبَل لَهُ.
قَالَ يَعْقُوبُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعُوره، وَقَالَ أَبو شِبْلٍ: يَعِيره، وَسَيُذْكَرُ فِي الْيَاءِ أَيضًا.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: أَراك عُرْته وعِرْته أَي ذَهَبْتَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: كأَنهم إِنما لَمْ يَكَادُوا يَسْتَعْمِلُونَ مُضَارِعَ هَذَا الْفِعْلِ لَمَّا كَانَ مَثَلًا جَارِيًا فِي الأَمر الْمُنْقَضِي الْفَائِتِ، وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِ الْمُضَارِعِ هَاهُنَا لأَنه لَيْسَ بمُنْقَضٍ وَلَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِيَفْعَلَ، وَيُقَالُ: مَعْنَى عارَه أَي أَهلكه.
ابْنُ الأَعرابي: تَعَوّرَ الكتابُ إِذا دَرَسَ.
وَكِتَابٌ أَعْوَرُ: دارِسٌ.
قَالَ: والأَعْور الدَّلِيلُ السَّيِّءُ الدَّلَالَةِ لَا يُحْسِنُ أَن يَدُلّ وَلَا يَنْدَلّ، وأَنشد:
مَا لَكَ، يَا أَعْوَرُ، لَا تَنْدَلّ، ***وَكَيْفَ يَنْدَلّ امْرؤٌ عِتْوَلّ؟
وَيُقَالُ: جَاءَهُ سَهْمٌ عائرٌ فقَتَله، وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَى مَن رَمَاهُ؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ:
أَخْشَى عَلَى وَجْهِك يَا أَمير، ***عَوائِرًا مِنْ جَنْدَل تَعِير
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا أَصابه سَهْمٌ عائِرٌ فقَتَله»؛ أَي لَا يُدْرَى مَنْ رماه.
والعائِرُ مِنَ السِّهَامِ والحجارةِ: الَّذِي لَا يُدْرَى مَن رَمَاهُ؛ وَفِي تَرْجَمَةِ نسأَ: وأَنشد لِمَالِكِ بْنِ زُغْبَةَ الْبَاهِلِيُّ:
إِذا انْتَسَأُوا فَوْتَ الرِّماح، أَتَتْهُمُ ***عَوائِرُ نَبْلٍ، كالجَرادِ نُطِيرُها
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: عَوائِرُ نَبْلٍ أَي جَمَاعَةُ سِهَامٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُدْرَى مِنْ أَين أَتت.
وعاوَرَ الْمَكَايِيلَ وعَوَّرَها: قدَّرَها، وَسَيُذْكَرُ فِي الْيَاءِ لُغَةٌ فِي عايَرَها.
والعُوّارُ: ضَرْبٌ مِنَ الخَطاطِيف أَسود طَوِيلُ الْجَنَاحَيْنِ، وعَمَّ الْجَوْهَرِيُّ فَقَالَ: العُوّار، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ، الخُطّاف؛ وَيُنْشِدُ: " كَمَا انْقَضَّ تَحْتَ الصِّيقِ عُوّارُ "الصِّيق: الْغُبَارُ.
والعُوّارَى: شَجَرَةٌ يُؤْخَذُ جِراؤُها فتُشْدَخ ثُمَّ تُيَبَّس ثُمَّ تُذَرَّى ثُمَّ تُحْمَلُ فِي الأَوعية إِلى مَكَّةَ فَتُبَاعُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا مَخانِقُ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والعُوَّار شَجَرَةٌ تَنْبُتُ نِبْتة الشَّرْية وَلَا تشِبُّ، وَهِيَ خَضْرَاءُ، وَلَا تَنْبُتُ إِلا فِي أَجواف الشَّجَرِ الْكِبَارِ.
ورِجْلة العَوْراء: بِالْعِرَاقِ بِمَيْسان.
والعارِيّة والعارةُ: مَا تداوَلُوه بَيْنَهُمْ؛ وَقَدْ أَعارَه الشيءَ وأَعارَه مِنْهُ وعاوَرَه إِيَّاه.
والمُعاوَرة والتَّعاوُر: شِبْهُ المُدَاوَلة والتّداوُل فِي الشَّيْءِ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وسَقْطٍ كعَيْنِ الدِّيك عاوَرْتُ صَاحِبِي ***أَباها، وهَيَّأْنا لِمَوْقِعها وكْرا
يَعْنِي الزَّنْدَ وَمَا يَسْقُطُ مِنْ نَارِهَا؛ وأَنشد ابْنُ الْمُظَفَّرِ: " إِذا رَدَّ المُعاوِرُ مَا استْعَارا وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمية: «عارِيّة مَضْمُونَةٌ»؛ مُؤدّاة العارِيّة يَجِبُ ردُّها إِجماعًا مَهْمَا كَانَتْ عينُها بَاقِيَةً، فإِن تَلِفَت وجبَ ضمانُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا ضَمَانَ فِيهَا عِنْدَ أَبي حَنِيفَةَ.
وتَعَوّرَ واسْتَعار: طَلَبَ العارِيّة.
واسْتَعارَه الشيءَ واسْتَعارَه مِنْهُ: طَلَبَ مِنْهُ أَن يُعِيرَه إِيّاه؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِصَّةِ الْعِجْلِ: «مِنْ حُلِيٍّ تَعَوَّرَه بَنُو إِسرائيل»أَي اسْتَعارُوه.
يُقَالُ: تعوَّر واسْتَعار نَحْوَ تَعَجَّبَ واسْتَعْجَب.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: أَرى ذَا الدهرَ يَسْتَعِيرُني ثِيَابِي، قَالَ: يَقُولُهُ الرَّجُلُ إِذا كَبِر وخَشِيَ الْمَوْتَ.
واعْتَوَروا الشيءَ وتَعوَّرُوه وتَعاوَرُوه: تداوَلُوه فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ قَالَ أَبو كَبِيرٍ:
وإِذا الكُماةُ تَعاوَرُوا طَعْنَ الكُلى، ***نَذَرُ البِكَارَة فِي الجَزاءِ المُضْعَفِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنما ظَهَرَتِ الْوَاوُ فِي اعْتَوَرُوا لأَنه فِي مَعْنَى تَعاوَرُوا فبُنِيَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي تجاوَرُوا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَتَعَاوَرُون عَلَى مِنْبَرِي» أَي يَخْتَلِفُونَ وَيَتَنَاوَبُونَ كُلَّمَا مَضَى وَاحِدٌ خَلَفَه آخَرُ.
يُقَالُ: تَعاوَرَ القومُ فُلَانًا إِذا تَعاوَنْوا عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.
قَالَ الأَزهري: وأَما العارِيّة والإِعارةُ والاسْتِعارة فإِن قَوْلَ الْعَرَبِ فِيهَا: هُمْ يَتَعاوَرُون العَوَارِيَّ ويَتَعَوَّرُونها، بِالْوَاوِ، كأَنهم أَرادوا تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا يَتَرَدَّدُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا يُرَدَّد.
قَالَ: والعارِيّة مَنْسُوبَةٌ إِلى العارَة، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الإِعارة.
تَقُولُ: أَعَرْتُه الشَّيْءَ أُعِيره إِعارة وعَارةً، كَمَا قَالُوا: أَطَعْتُه إِطاعة وَطَاعَةً وأَجَبْتُه إِجابة وَجَابَةً؛ قَالَ: وَهَذَا كَثِيرٌ فِي ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، مِنْهَا الْعَارَةُ والدَّارة وَالطَّاقَةُ وَمَا أَشبهها.
وَيُقَالُ: اسْتَعَرْت مِنْهُ عارِيّةً فأَعارَنِيها؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: العارِيّة، بِالتَّشْدِيدِ، كأَنها مَنْسُوبَةٌ إِلى العارِ لأَن طلَبَها عارٌ وعيْبٌ؛ وَيُنْشِدُ:
إِنما أَنْفُسُنا عَارِيَّةٌ، ***والعَواريّ قصارٌ أَن تُرَدّ
العارةُ: مِثْلُ العارِيّة؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
فأَخْلِفْ وأَتْلِفْ، إِنما المالُ عارةٌ، ***وكُلْه مَعَ الدَّهْرِ الَّذِي هُوَ آكِلُهْ
واستعارَه ثَوْبًا فأَعَارَه أَباه، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كِيرٌ مُسْتعار؛ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ:
كأَن حَفِيفَ مَنْخِره، إِذا مَا ***كَتَمْنَ الرَّبْوَ، كِيرٌ مُسْتَعارُ
قِيلَ: فِي قَوْلِهِ مُسْتَعَارٌ قَوْلَانِ: أَحدهما أَنه اسْتُعِير فأُشْرِع العملُ بِهِ مُبَادَرَةً لِارْتِجَاعِ صَاحِبِهِ إِيَّاه، وَالثَّانِي أَن تَجْعَلَهُ مِنَ التَّعاوُرِ.
يُقَالُ: اسْتَعَرْنا الشَّيْءَ واعْتَوَرْناه وتَعاوَرْنَاه بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مُسْتَعار بِمَعْنَى مُتعاوَر أَي مُتداوَل.
وَيُقَالُ: تَعاوَرَ القومُ فُلَانًا واعْتَوَرُوه ضَرْبًا إِذا تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ فَكُلَّمَا أَمْسَكَ وَاحِدٌ ضربَ واحدٌ، والتعاوُر عامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وتَعاوَرت الرياحُ رَسْمَ الدَّارِ حَتَّى عَفَّتْه أَي تَواظَبت عَلَيْهِ؛ قَالَ ذَلِكَ اللَّيْثُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا غَلَطٌ، وَمَعْنَى تعاوَرت الرياحُ رَسْمَ الدَّارِ أَي تَداوَلَتْه، فمرَّةً تَهُبُّ جَنوبًا وَمَرَّةً شَمالًا ومرَّة قَبُولًا وَمَرَّةً دَبُورًا؛ وَمِنْهُ قول الأَعشى:
دِمْنة قَفْزة، تاوَرها الصَّيْفُ ***برِيحَيْنِ مِنْ صَبًا وشَمالِ
قَالَ أَبو زَيْدٍ: تعاوَرْنا العَوارِيَّ تعاوُرًا إِذا أَعارَ بعضُكم بَعْضًا، وتَعَوَّرْنا تَعوُّرًا إِذا كُنْتَ أَنت المُسْتَعِيرَ، وتَعاوَرْنا فُلَانًا ضَرْبًا إِذا ضَرَبْتَهُ مَرَّةً ثُمَّ صاحبُك ثُمَّ الآخرُ.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: التَّعاوُرُ والاعْتِوَارُ أَن يَكُونَ هَذَا مَكَانَ هَذَا، وَهَذَا مَكَانَ هَذَا.
يُقَالُ: اعْتَوَراه وابْتدّاه هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَلَا يُقَالُ ابْتَدّ زَيْدٌ عَمْرًا وَلَا اعْتَوَرَ زيدٌ عَمْرًا.
أَبو زَيْدٍ: عَوَّرْت عَنْ فُلَانٍ مَا قِيلَ لَهُ تَعْوِيرًا وعَوَّيْت عَنْهُ تَعْوِيةً أَي كَذَّبْتُ عَنْهُ مَا قِيلَ لَهُ تَكْذِيبًا ورَدَدْت.
وعَوّرْته عَنِ الأَمر: صرَفته عَنْهُ.
والأَعْوَرُ: الَّذِي قَدْ عُوِّرَ وَلَمْ تُقْضَ حاجتُه وَلَمْ يُصِبْ مَا طَلَبَ وَلَيْسَ مِنْ عَوَر الْعَيْنِ؛ وأَنشد لِلْعَجَّاجِ: " وعَوَّرَ الرحمنُ مَن وَلّى العَوَرْ "وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ أَفسد مَنْ وَلَّاه وَجَعَلَهُ وَليًَّا للعَوَر، وَهُوَ قُبْحُ الأَمر وفسادُه.
تَقُولُ: عَوَّرْت عَلَيْهِ أَمَره تَعْوِيرًا أَي قَبَّحْته عَلَيْهِ.
والعَوَرُ: تَرْكُ الْحَقِّ.
وَيُقَالُ: عَاوَرَه الشيءَ أَي فعلَ بِهِ مثلَ مَا فَعَلَ صاحبُه بِهِ.
وعوراتُ الْجِبَالِ: شُقُوقُهَا؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَجاوَبَ بُومُها فِي عَوْرَتَيْها، ***إِذا الحِرْباء أَوْفى للتَّناجي
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَراد عَوْرَتي الشَّمْسِ وَهُمَا مَشْرِقُهَا وَمَغْرِبُهَا.
وإِنها لَعَوْراء القُرِّ: يَعْنون سَنَة أَو غَدَاةً أَو لَيْلَةً؛ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ثَعْلَبٍ.
وعَوائرُ مِنَ الْجَرَادِ: جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ.
والعَوارُ: العَيْب؛ يُقَالُ: سِلْعَة ذَاتُ عَوارٍ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَقَدْ تُضَمُّ.
وعُوَيْرٌ والعُوَيْرُ: اسْمُ رَجُلٍ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عُوَيْرٌ، ومَن مِثْلُ العُوَيْرِ ورَهْطِه؟ ***وأَسْعَدُ فِي لَيلِ البَلابِل صَفْوانُ
وعُوَيرْ: اسْمُ مَوْضِعٍ.
والعُوَيْر: مَوْضِعٌ عَلَى قبْلة الأَعْوريَّة، هِيَ قَرْيَةُ بَنِي محجنٍ الْمَالِكِيِّينَ؛ قَالَ الْقَطَامِيُّ:
حَتَّى وَرَدْنَ رَكيّات العُوَيْرِ، وَقَدْ ***كادَ المُلاءُ مِنَ الْكَتَّانِ يَشْتَعِلُ
وَابْنَا عُوارٍ: جَبَلَانِ؛ قَالَ الرَّاعِي:
بَلْ مَا تَذَكَّرُ مِن هِنْدٍ إِذا احْتَجَبَتْ، ***يَا ابْنَيْ عُوَارٍ، وأَمْسى دُونها بُلَعُ
وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: ابْنَا عُوارٍ نَقَوَا رمْلٍ.
وتِعار: جَبَلٌ بِنَجْدٍ؛ قَالَ كُثَيِّرٌ:
وَمَا هَبَّتِ الأَرْواحُ تَجْري، وَمَا ثَوى ***مُقِيمًا بِنَجْدٍ عَوْفُها وتِعارُها
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ يُحْتَمَلُ أَن تَكُونَ فِي الثُّلَاثِيِّ الصَّحِيحِ وَالثُّلَاثِيِّ الْمُعْتَلِّ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
77-لسان العرب (ربع)
ربع: الأَربعة والأَربعون مِنَ الْعَدَدِ: مَعْرُوفٌ.والأَربعة فِي عَدَدِ الْمُذَكَّرِ والأَربع فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، والأَربعون بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، وَلَا يَجُوزُ فِي أَربعينَ أَربعينُ كَمَا جَازَ فِي فِلَسْطِينَ وَبَابِهِ لأَن مَذْهَبَ الْجَمْعِ فِي أَربعين وَعِشْرِينَ وَبَابِهِ أَقْوَى وأَغلب مِنْهُ فِي فِلَسْطين وَبَابِهَا؛ فأَما قَوْلُ سُحَيْم بْنُ وَثِيل الرِّياحيّ:
وَمَاذَا يَدَّري الشُّعراء مِنِّي، ***وَقَدْ جاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ؟
فَلَيْسَتِ النُّونُ فِيهِ حَرْفَ إِعراب وَلَا الْكَسْرَةُ فِيهَا عَلَامَةَ جرِّ الِاسْمِ، وإِنما هِيَ حَرَكَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ إِذا الْتَقَيَا وَلَمْ تُفْتَحْ كَمَا تُفْتَحُ نُونُ الْجَمْعِ لأَن الشَّاعِرَ اضطُرَّ إِلى ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ حَرَكَةُ حَرْفِ الرَّوِيِّ فِي سَائِرِ الأَبيات؛ أَلا تَرَى أَن فِيهَا:
أَخُو خَمْسِينَ مُجتمِعٌ أَشُدِّي، ***ونَجَّذَني مُداوَرَةُ الشُّؤُونِ
ورُباعُ: مَعْدُولٌ مِنْ أَربعة.
وَقَوْلُهُ تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ}؛ أَراد أَربعًا فعدَله وَلِذَلِكَ تُرِكَ صرْفه.
ابْنُ جِنِّي: قرأَ الأَعمش مَثْنَى وثُلَثَ" ورُبَعَ، عَلَى مِثَالِ عُمر، أَراد ورُباع فَحَذَفَ الأَلف.
ورَبَعَ القومَ يَرْبَعُهم رَبْعًا: صَارَ رابِعَهم وَجَعَلَهُمْ أَربعة أَو أَربعين.
وأَربَعُوا: صَارُوا أَربعة أَو أَربعين.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبْسةَ: «لَقَدْ رأَيْتُني وإِنِّي لرُبُعُ الإِسلام»؛ أي رابِعُ أَهل الإِسلام تقدَّمني ثلاثةٌ وَكُنْتُ رَابِعَهُمْ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «كَنْتُ رابِعَ أَربعة» أَي وَاحِدًا مِنْ أَربعة.
وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ فِي السَّقْط: «إِذا نُكِس فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ»؛ أي إِذا صَارَ مُضْغة فِي الرَّحِم لأَن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ.
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «فَجَاءَتْ عَيْنَاهُ بأَربعة»أَي بدُموع جرَتْ مِنْ نَوَاحِي عَيْنَيْهِ الأَربع.
والرِّبْعُ فِي الحُمَّى: إِتيانُها فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَذَلِكَ أَن يُحَمَّ يَوْمًا ويُتْرَك يَوْمَيْنِ لَا يُحَمّ ويُحَمّ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهِيَ حُمَّى رِبْعٍ، وَقَدْ رُبِع الرَّجُلُ فَهُوَ مَرْبوع ومُرْبَع، وأُرْبِعَ؛ قَالَ أُسامةُ بْنُ حَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ:
مِن المُرْبَعِينَ وَمِنْ آزِلٍ، ***إِذا جَنَّه الليلُ كالناحِطِ
وأَرْبَعَت عَلَيْهِ الحُمَّى: لُغَةٌ فِي رُبِعَ، فَهُوَ مُرْبَع.
وأَربَعَت الحُمّى زَيْدًا وأَرْبَعَت عَلَيْهِ: أَخذَته رِبعًا، وأَغَبَّتْه: أَخذته غِبًّا، وَرَجُلٌ مُرْبِعٌ ومُغِبٌّ، بِكَسْرِ الْبَاءِ.
قَالَ الأَزهري: فَقِيلَ لَهُ لِمَ قُلْتَ أَرْبَعَتِ الحُمَّى زَيْدًا ثُمَّ قُلْتَ مِنَ المُرْبِعين فَجَعَلْتَهُ مَرَّةً مَفْعُولًا وَمَرَّةً فَاعِلًا؟ فَقَالَ: يُقَالُ أَرْبَعَ الرَّجُلُ أَيضًا.
قَالَ الأَزهري: كَلَامُ الْعَرَبِ أَربعت عَلَيْهِ الْحُمَّى وَالرَّجُلُ مُرْبَع، بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَرْبَعَتْه الْحُمَّى وَلَا يُقَالُ رَبَعَتْه.
وَفِي الصِّحَاحِ: تَقُولُ رَبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمّى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَغِبُّوا فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وأَرْبِعُوا إِلا أَن يَكُونَ مَغْلُوبًا»؛ قَوْلُهُ أَرْبِعُوا أَي دَعُوه يَوْمَيْنِ بَعْدَ الْعِيَادَةِ وأْتوه الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وأَصله مِنَ الرِّبْع فِي أَورادِ الإِبل.
والرِّبْعُ: الظِّمْء مِنْ أَظْماء الإِبل، وَهُوَ أَن تُحْبَس الإِبلُ عَنِ الْمَاءِ أَربعًا ثُمَّ تَرِدَ الْخَامِسَ، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَرِدَ الماءَ يَوْمًا وتَدَعَه يَوْمَيْنِ ثُمَّ تَرِدَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وَقِيلَ: هُوَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ وأَربعة أَيام.
ورَبَعَت الإِبلُ: وَرَدتْ رِبعًا، وإِبلٌ رَوابِعُ؛ وَاسْتَعَارَهُ العَجَّاج لوِرْد الْقَطَا فَقَالَ:
وبَلْدةٍ تُمْسِي قَطاها نُسَّسا ***رَوابِعًا، وقَدْرَ رِبْعٍ خُمَّسا
وأَرْبَعَ الإِبلَ: أَوردها رِبْعًا.
وأَرْبعَ الرجلُ: جَاءَتْ إِبلُه رَوابعَ وخَوامِس، وَكَذَلِكَ إِلى العَشْر.
والرَّبْعُ: مَصْدَرُ رَبَعَ الوَترَ وَنَحْوَهُ يَرْبَعه رَبْعًا، جَعَلَهُ مَفْتُولًا مِنْ أَربع قُوًى، وَالْقُوَّةُ الطاقةُ، وَيُقَالُ: وَتَرٌ مَرْبوعٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٌ:
رابِطُ الجأْشِ عَلَى فَرْجِهِمُ، ***أَعْطِفُ الجَوْنَ بمرْبوعٍ مِتَلِ
أَي بِعِنَانٍ شَدِيدٍ مِنْ أَربع قُوًى.
وَيُقَالُ: أَراد رُمْحًا مَرْبوعًا لَا قَصِيرًا وَلَا طَوِيلًا، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَي ومعيَ رُمْح.
وَرُمْحٌ مَرْبُوعٌ: طُولُهُ أَرْبَعُ أَذْرُعٍ.
وربَّع الشيءَ: صَيَّرَهُ أَربعةَ أَجزاء وَصَيَّرَهُ عَلَى شَكْلٍ ذِي أَربع وَهُوَ التَّرْبِيعُ.
أَبو عَمْرٍو: الرُّومِيُّ شِراعُ السَّفِينَةِ الْفَارِغَةِ، والمُرْبِعُ شِراعُ المَلأَى، والمُتَلَمِّظةُ مَقْعدُ الاشْتِيام وَهُوَ رَئيسُ الرُّكابِ.
والتربيعُ فِي الزَّرْعِ: السَّقْية الَّتِي بَعْدَ التَّثْلِيثِ.
وَنَاقَةٌ رَبوعٌ: تَحْلُبُ أَربعة أَقداح؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
وَرَجُلٌ مُرَبَّعُ الْحَاجِبَيْنِ: كَثِيرُ شِعْرِهِمَا كأَنَّ لَهُ أَربعة حَواجبَ؛ قَالَ الرَّاعِي:
مُرَبَّع أَعلى حاجبِ العينِ، أُمُّه ***شَقيقةُ عَبْدٍ، مِنْ قَطينٍ، مُوَلَّدِ
والرُّبْع والرُّبُع والرَّبيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَربعة يَطَّرد ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْكُسُورِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالْجَمْعُ أَرباعٌ ورُبوعٌ.
وَفِي حَدِيثِ طَلْحَةَ: «أَنه لَمَّا رُبِعَ يَوْمَ أُحُد وشَلَّت يدُه قَالَ لَهُ: باءَ طلحةُ بالجنةِ»؛ رُبِعَ؛ أي أُصِيبَت أَرباعُ رأْسه وَهِيَ نَوَاحِيهِ، وَقِيلَ: أَصابه حُمّى الرِّبْع، وَقِيلَ: أُصِيبَ جَبينُه؛ وأَما قَوْلُ الفَرزدق:
أَظُنُّك مَفْجوعًا بِرُبْعِ مُنافِقٍ، ***تَلَبَّس أَثوابَ الخِيانةِ والغَدْرِ
فإِنه أَراد أَنَّ يَمِينَهُ تُقْطَع فيَذْهَب رُبْع أَطرافِه الأَربعة.
ورَبَعَهم يَرْبَعُهم رَبْعًا: أَخذ رُبْع أَموالهم مِثْلُ عَشَرْتُهم أَعْشُرُهم.
ورَبَعهم: أَخذ رُبع الْغَنِيمَةِ.
والمِرْباع: مَا يأْخذه الرَّئِيسُ وَهُوَ رُبْعُ الْغَنِيمَةِ؛ قَالَ:
لكَ المِرْباعُ مِنْهَا والصَّفايا، ***وحُكْمُكَ والنَّشِيطةُ والفُضول
الصَّفايا: مَا يَصْطَفِيه الرَّئِيسُ، والنَّشِيطةُ: مَا أَصاب مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَن يَصِيرَ إِلى مُجتَمع الْحَيِّ، والفُضول: مَا عُجِزَ أَن يُقْسَم لِقِلَّتِهِ وخُصَّ بِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «أَلم أَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ»أَي تأْخذ رُبع الْغَنِيمَةِ أَو تأْخذ المِرْباع؛ مَعْنَاهُ أَلم أَجْعَلْك رَئِيسًا مُطاعًا؟ قَالَ قُطْرُبٌ: المِرْباع الرُّبع والمِعْشار العُشر وَلَمْ يُسْمَعْ فِي غَيْرِهِمَا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ" النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَبْلَ إِسلامه: إِنك لتأْكلُ المِرْباع وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ "؛ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذا غَزا بَعْضُهُمْ بَعْضًا وغَنِموا أَخذ الرَّئِيسُ رُبْعَ الْغَنِيمَةِ خَالِصًا دُونَ أَصحابه، وَذَلِكَ الرُّبْعُ يُسَمَّى المِرْباع؛ وَمِنْهُ شِعْرُ وَفْدِ تَمِيم: " نَحْنُ الرُّؤُوس وَفِينَا يُقْسم الرُّبُعُ وَقَالَ ابْنُ سِكِّيتٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ الْغَيْثَ:
كأَنَّ فِيهِ، لمَّا ارْتَفَقْتُ لَهُ، ***رَيْطًا ومِرْباعَ غانمٍ لَجَبا
قَالَ: ذَكَرَ السَّحاب، والارْتِفاقُ: الاتِّكاءُ عَلَى المِرْفَقِ؛ يَقُولُ: اتَّكأْت عَلَى مِرْفَقي أَشِيمُه وَلَا أَنام، شبَّه تبَوُّجَ الْبَرْقِ فِيهِ بالرَّيْط الأَبيض، والرَّيْطةُ: مُلاءة لَيْسَتْ بمُلَفَّقة، وأَراد بِمِرْبَاعِ غانمٍ صوْتَ رَعْدِهِ، شَبَّهَهُ بِمِرْبَاعِ صَاحِبِ الْجَيْشِ إِذا عُزل لَهُ رُبْعُ النَّهْب مِنَ الإِبل فتحانَّت عِنْدَ المُوالاة، فَشَبَّهَ صَوْتَ الرَّعْدِ فِيهِ بِحَنِينها؛ ورَبعَ الجَيْشَ يَرْبَعُهم رَبْعًا ورَباعةً: أَخذ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
ورَبَع الحَجرَ يَرْبَعُه رَبْعًا وَارْتَبَعَهُ: شالَه وَرَفَعَهُ، وَقِيلَ: حَمَلَهُ، وَقِيلَ: الرَّبْعُ أَن يُشال الْحَجَرُ بِالْيَدِ يُفْعَلُ ذَلِكَ لتُعْرَفَ بِهِ شدَّة الرَّجُلِ.
قَالَ الأَزهري: يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْحَجَرِ خَاصَّةً.
والمَرْبُوعُ والرَّبيعة: الْحَجَرُ المَرْفُوع، وَقِيلَ: الَّذِي يُشال.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مرَّ بِقَوْمٍ يَرْبَعُون حَجرًا أَو يَرْتَبِعُون، فَقَالَ: عُمّالُ اللَّهِ أَقْوَى مِنْ هؤُلاء»؛ الرَّبْعُ: إِشالةُ الْحَجَرِ ورَفْعُه لإِظْهار القوَّةِ.
والمِرْبَعةُ: خُشَيْبة قَصِيرَةٌ يُرْفَع بِهَا العِدْل يأْخذ رَجُلَانِ بطَرَفَيْها فيَحْمِلان الحِمْل ويَضَعانه عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ؛ وَقَالَ الأَزهري: هِيَ عَصًا تُحْمَلُ بِهَا الأَثقال حَتَّى توضَع عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ، وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ رُفعبِهِ شَيْءٌ مِرْبَعة، وَقَدْ رابَعَه.
تَقُولُ مِنْهُ: رَبَعْت الحِمْل إِذا أَدخَلتها تَحْتَهُ وأَخذت أَنت بطَرَفِها وصاحِبُك بطرَفِها الْآخَرِ ثُمَّ رَفَعْتَه عَلَى الْبَعِيرِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَينَ الشِّظاظانِ وأَينَ المِرْبَعهْ؟ ***وأَينَ وَسْقُ الناقةِ الجَلَنْفَعَهْ؟
فإِن لَمْ تَكُنِ المِرْبَعةُ فالمُرابَعةُ، وَهِيَ أَن تأْخذ بِيَدِ الرَّجُلِ ويأْخذ بِيَدِكَ تَحْتَ الحِمْل حَتَّى تَرفعاه عَلَى الْبَعِيرِ؛ تَقُولُ: رابَعْت الرَّجل إِذا رَفَعْتَ مَعَهُ العِدْلَ بِالْعَصَا عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
يَا لَيْتَ أُمَّ العَمْر كانتْ صاحِبي، ***مَكانَ مَنْ أَنْشا عَلَى الرَّكائبِ
ورابَعَتْني تحتَ لَيْلٍ ضارِبِ، ***بساعِدٍ فَعْمٍ وكَفٍّ خاضِبِ
ورَبَع بِالْمَكَانِ يَرْبَعُ رَبْعًا: اطمأَنَّ.
والرَّبْع: الْمَنْزِلُ وَالدَّارُ بِعَيْنِهَا، والوَطَنُ مَتَى كَانَ وبأَيِّ مَكَانٍ كَانَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمْعُهُ أَرْبُعٌ ورِباعٌ ورُبُوعٌ وأَرْباعٌ.
وَفِي حَدِيثِ أُسامة: «قَالَ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَهَلْ تَرَك لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ رِباعٍ»؛ الرَّبْعُ: المَنْزِلُ ودارُ الإِقامة.
ورَبْعُ الْقَوْمِ: مَحَلَّتُهم.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَرَادَتْ بَيْعَ رِباعِها»؛ أي مَنازِلها.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ رَبْعةٍ أَو حَائِطٍ أَو أَرض»؛ الرَّبْعةُ: أَخصُّ مِنَ الرَّبع، والرَّبْعُ المَحَلَّة.
يُقَالُ: مَا أَوسع رَبْعَ بَنِي فُلَانٍ والرَّبّاعُ: الرَّجُلُ الْكَثِيرُ شراءِ الرِّباع، وَهِيَ المنازِل.
ورَبَعَ بِالْمَكَانِ رَبْعًا: أَقام.
والرَّبْعُ: جَماعةُ الناسِ.
قَالَ شَمِرٌ: والرُّبُوع أَهل المَنازل أَيضًا؛ قَالَ الشَّمّاخ:
تُصِيبُهُمُ وتُخْطِئُني المَنايا، ***وأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
أَي فِي قَوْم بَعْدَ قَوْمٍ؛ وَقَالَ الأَصمعي: يُرِيدُ فِي رَبْعٍ مِنْ أَهلي أَي فِي مَسْكَنهم، بَعْدَ رَبْع.
وَقَالَ أَبو مَالِكٍ: الرَّبْعُ مِثْلُ السَّكن وَهُمَا أَهل البيتِ؛ وأَنشد:
فإِنْ يَكُ ربْعٌ مِنْ رِجالٍ، أَصابَهمْ، ***مِنَ اللَّهِ والحَتْمِ المُطِلِّ، شَعُوبُ
وَقَالَ شَمِرٌ: الرَّبْعُ يَكُونُ المنزلَ وأَهل الْمَنْزِلِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: والرَّبْعُ أَيضًا العَدَدُ الْكَثِيرُ؛ قَالَ الأَحوص:
وفِعْلُكَ مرضِيٌّ، وفِعْلُكَ جَحْفَلٌ، ***وَلَا عَيْبَ فِي فِعْلٍ وَلَا فِي مُرَكَّبِ
قال: وأَما قَوْلُ الرَّاعِي:
فَعُجْنا عَلَى رَبْعٍ برَبْعٍ، تَعُودُه، ***مِنَ الصَّيْفِ، جَشّاء الحَنِينِ تُؤَرِّجُ
قَالَ: الرَّبْع الثَّانِي طَرَف الجَبل.
والمَرْبُوع مِنَ الشِّعْرِ: الَّذِي ذهَب جُزْآنِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجزاء مِنَ المَديد والبَسِيط؛ والمَثْلُوث: الَّذِي ذَهَبَ جُزْآنِ مِنْ سِتَّةِ أَجزاء.
والرَّبِيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَجزاء السَّنَةِ فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ الْفَصْلَ الَّذِي يُدْرِكُ فِيهِ الثِّمَارُ وَهُوَ الْخَرِيفُ ثُمَّ فَصْلُ الشِّتَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ فَصْلُ الصَّيْفِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَدْعُوه الْعَامَّةُ الرّبيعَ، ثُمَّ فَصْلُ القَيْظ بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدْعُوهُ العامةُ الصَّيْفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يسمي الفصل الذيتُدْرَكُ فِيهِ الثِّمَارُ، وَهُوَ الْخَرِيفُ، الربيعَ الأَول وَيُسَمَّى الْفَصْلَ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ وتأْتي فِيهِ الكَمْأَة والنَّوْرُ الربيعَ الثَّانِيَ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعون عَلَى أَنّ الْخَرِيفَ هُوَ الرَّبِيعِ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: يُسَمَّى قِسما الشِّتَاءِ رَبِيعَيْنِ: الأَوَّل مِنْهُمَا رَبِيعُ الْمَاءِ والأَمطار، وَالثَّانِي رَبِيعُ النَّبَاتِ لأَن فِيهِ يَنْتَهِي النَّبَاتُ مُنْتهاه، قَالَ: وَالشِّتَاءُ كُلُّهُ رَبِيعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَجل النَّدى، قَالَ: وَالْمَطَرُ عِنْدَهُمْ رَبِيعٌ مَتَى جَاءَ، وَالْجَمْعُ أَرْبِعةٌ ورِباعٌ.
وشَهْرا رَبِيعٍ سُمِّيَا بِذَلِكَ لأَنهما حُدّا فِي هَذَا الزَّمَنِ فلَزِمَهما فِي غَيْرِهِ وَهُمَا شهرانِ بَعْدَ صفَر، وَلَا يُقَالُ فِيهِمَا إِلا شهرُ رَبِيعٍ الأَوّل وشهرُ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
والربيعُ عِنْدَ الْعَرَبِ رَبيعانِ: رَبيعُ الشُّهُورِ وَرَبِيعُ الأَزمنة، فَرَبِيعُ الشُّهُورِ شَهْرَانِ بَعْدَ صَفَرَ، وأَما رَبِيعُ الأَزمنة فَرَبِيعَانِ: الربيعُ الأَول وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي تأْتي فِيهِ الكمأَة والنَّوْر وَهُوَ ربيع الكَلإِ، والثاني وهو الفصل الذي تدرك فيه الثِّمَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الرَّبِيعَ الأَوّل؛ وَكَانَ أَبو الْغَوْثِ يَقُولُ: الْعَرَبَ تَجْعَلُ السَّنَةَ سِتَّةَ أَزمنة: شَهْرَانِ مِنْهَا الرَّبِيعُ الأَوّل، وَشَهْرَانِ صَيْف، وَشَهْرَانِ قَيظ، وَشَهْرَانِ الرَّبِيعُ الثَّانِي، وَشَهْرَانِ خَرِيفٌ، وَشَهْرَانِ شِتَاءٌ؛ وأَنشد لِسَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعةَ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كانتْ لَهُ رِبْعِيُّونْ
فَجَعَلَ الصَّيْفَ بَعْدَ الرَّبِيعِ الأَول.
وَحَكَى الأَزهري عَنْ أَبي يَحْيَى بْنِ كُنَاسَةَ فِي صِفَةِ أَزمنة السَّنَةِ وفُصولها وَكَانَ علَّامة بِهَا: أَن السَّنَةَ أَربعةُ أَزمنة: الرَّبِيعُ الأَول وَهُوَ عِنْدَ الْعَامَّةِ الْخَرِيفُ، ثُمَّ الشِّتَاءُ ثُمَّ الصَّيْفُ، وَهُوَ الرَّبِيعُ الْآخِرُ، ثُمَّ الْقَيْظُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي الْبَادِيَةِ، قَالَ: وَالرَّبِيعُ الأَوّل الَّذِي هُوَ الْخَرِيفُ عِنْدَ الفُرْس يَدْخُلُ لِثَلَاثَةِ أَيام مِنْ أَيْلُول، قَالَ: وَيَدْخُلُ الشِّتَاءُ لِثَلَاثَةِ أَيام مِنْ كانُون الأَوّل، وَيَدْخُلُ الصَّيْفُ الَّذِي هُوَ الرَّبِيعُ عِنْدَ الْفُرْسِ لِخَمْسَةِ أَيام تَخْلُو مِنْ أَذار، وَيَدْخُلُ الْقَيْظُ الَّذِي هُوَ صَيْفٌ عِنْدَ الْفُرْسِ لأَربعة أَيام تَخْلُو مِنْ حَزِيران، قَالَ أَبو يَحْيَى: وَرَبِيعُ أَهل العِراق مُوَافِقٌ لِرَبِيعِ الْفُرْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشِّتَاءِ، وَهُوَ زَمَانُ الوَرْد وَهُوَ أَعدل الأَزمنة، وَفِيهِ تُقْطع الْعُرُوقُ ويُشرب الدَّوَاءُ؛ قَالَ: وأَهل الْعِرَاقِ يُمطَرون فِي الشِّتَاءِ كُلِّهِ ويُخْصِبون فِي الرَّبِيعِ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ، فأَما أَهل الْيَمَنِ فإِنهم يُمْطَرون فِي الْقَيْظِ ويُخْصِبون فِي الْخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الرَّبِيعَ الأَول.
قَالَ الأَزهري: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ لأَوّل مَطَرٍ يَقَعُ بالأَرض أَيام الْخَرِيفِ رَبِيعٌ، وَيَقُولُونَ إِذا وَقَعَ رَبِيعٌ بالأَرض: بَعَثْنا الرُّوّاد وانْتَجَعْنا مساقِط الغَيْثِ؛ وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّخِيلِ إِذا خُرِفت وصُرِمَت: قَدْ تَربَّعَت النَّخِيلُ، قَالَ: وإِنما سُمِّيَ فَصْلُ الْخَرِيفِ خَرِيفًا لأَن الثِّمَارَ تُخْتَرَف فِيهِ، وَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ رَبِيعًا لِوُقُوعِ أَوّل الْمَطَرِ فِيهِ.
قَالَ الأَزهري: الْعَرَبُ تَذْكُر الشُّهُورَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً إِلا شَهْرَيْ رَبِيع وَشَهْرَ رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُقَالُ يومٌ قائظٌ وصافٍ وشاتٍ، وَلَا يُقَالُ يومٌ رابِعٌ لأَنهم لَمْ يَبْنُوا مِنْهُ فِعْلًا عَلَى حَدِّ قاظَ يومُنا وَشَتَا فَيَقُولُوا رَبَعَ يومُنا لأَنه لَا مَعْنَى فِيهِ لحَرّ وَلَا بَرْد كَمَا فِي قاظَ وَشَتَا.
وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اجْعلِ القرآنَ رَبِيعَ قَلْبي»؛ جَعَلَهُ رَبِيعًا لَهُ لأَن الإِنسان يَرْتَاحُ قَلْبُهُ فِي الرَّبِيعِ مِنَ الأَزمان ويَمِيل إِليه، وجمعُ الرَّبِيعِ أَرْبِعاء وأَرْبِعة مِثْلُ نَصِيب وأَنْصِباء وأَنْصِبة، قَالَ يَعْقُوبُ: وَيُجْمَعُ رَبِيع الكلإِ عَلَى أَربعة، ورَبِيعُ الجَداولِ أَرْبِعاء.
والرَّبِيع: الجَدْوَلُ.
وَفِي حَدِيثِ المُزارَعةِ: «ويَشْتَرِط مَا سقَى الرَّبيعُ والأَرْبِعاء»؛ قَالَ: الربيعُ النَّهرُ الصَّغِيرُ، قَالَ: وَهُوَ السَّعِيدُ أَيضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فعدَلَ إِلى الرَّبِيعِ فَتَطَهَّر».
وَفِي الْحَدِيثِ: «بِمَا يَنْبُت عَلَى ربِيعِ السَّاقي»، هَذَا مِنْ إِضافة المَوْصُوف إِلى الصِّفَةِ أَي النَّهْرُ الَّذِي يَسْقِي الزَّرْع؛ وأَنشد الأَصمعي قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فُوهُ رَبيعٌ وكَفُّه قَدَحٌ، ***وبَطْنُه، حِينَ يَتَّكِي، شَرَبَهْ
يَسَّاقَطُ الناسُ حَوْلَهُ مَرَضًا، ***وهْو صَحِيحٌ، مَا إِنْ بِهِ قَلَبَهْ
أَراد بِقَوْلِهِ فُوهُ رَبِيعٌ أَي نَهْرٌ لِكَثْرَةِ شُرْبه، وَالْجَمْعُ أَرْبِعاء؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنهم كَانُوا يُكْرُون الأَرض بِمَا يَنْبُت عَلَى الأَرْبِعاء» أَي كَانُوا يُكرون الأَرض بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَيَشْتَرِطُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُكْتريها مَا يَنْبُت عَلَى الأَنهار وَالسَّوَاقِي.
وَفِي حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تأْخذ مِنْ أُصُول سِلْقٍ كُنَّا نَغْرِسُه عَلَى أَرْبِعائنا».
ورَبِيعٌ رابِعٌ: مُخْصِبٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ الكَلأُ والغَيْثُ رَبِيعًا.
والرّبيعُ أَيضًا: الْمَطَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: يَكُونُ بَعْدَ الوَسْمِيِّ وَبَعْدَهُ الصَّيْفُ ثُمَّ الحَمِيمُ.
والرَّبيعُ: مَا تَعْتَلِفُه الدوابُّ مِنَ الخُضَر، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَرْبعةٌ.
والرِّبعة، بِالْكَسْرِ: اجْتِماعُ الْمَاشِيَةِ فِي الرَّبِيع، يُقَالُ: بَلَدٌ مَيِّثٌ أَنيثٌ طَيِّبُ الرِّبْعةِ مَريء العُود.
ورَبَع الرَّبِيعُ يَرْبَع رُبُوعًا: دخَل.
وأَرْبَع القومُ: دَخَلُوا فِي الرَّبِيع، وَقِيلَ: أَرْبعوا صَارُوا إِلى الرِّيف وَالْمَاءِ.
وتَرَبَّع القومُ الموضِع وَبِهِ وارْتَبَعوه: أَقاموا فِيهِ زمَن الرَّبِيعِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «أَنه جَمَّع فِي مُتَرَبَّعٍ لَهُ»؛ المَرْبَع والمُرْتَبَعُ والمُتَرَبَّعُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُنْزَلُ فِيهِ أَيّام الرَّبِيعِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرى إِقامة الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِ الأَمصار، وَقِيلَ: تَرَبَّعوا وارْتَبَعوا أَصابوا رَبِيعًا، وَقِيلَ: أَصابوه فأَقاموا فِيهِ.
وتربَّعت الإِبل بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَي أَقامت بِهِ؛ قَالَ الأَزهري: وأَنشدني أَعرابي:
تَرَبَّعَتْ تَحْتَ السُّمِيِّ الغُيَّمِ، ***فِي بَلَدٍ عَافِي الرِّياضِ مُبْهِمِ
عَافِي الرِّياضِ أَي رِياضُهُ عافِيةٌ وافِيةٌ لَمْ تُرْعَ.
مُبْهِم: كَثِيرُ البُهْمى.
والمَرْبَع: المَوضع الَّذِي يُقَامُ فِيهِ زَمَنَ الرَّبِيع خَاصَّةً، وَتَقُولُ: هَذِهِ مَرابعُنا ومَصايِفُنا أَي حَيْثُ نَرْتَبِع ونَصِيفُ، وَالنِّسْبَةُ إِلى الرَّبِيعِ رِبعيٌّ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ رِبْعِيُّ ابن خِراش.
وَقِيلَ: أَرْبَعُوا أَي أَقاموا فِي المَرْبَع عَنْ الارْتِياد والنُّجْعة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَيْثٌ مُرْبِعٌ مُرْتِع؛ المُرْتِعُ الَّذِي يُنْبِت مَا تَرْتَعُ فِيهِ الإِبل.
وَفِي حَدِيثِ الاسْتِسْقاء: «اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مَرِيعًا مُرْبِعًا»، فالمَرِيع: المُخْصِب الناجِعُ فِي الْمَالِ، والمُرْبِع: العامُّ المُغْني عَنْ الارْتِياد والنُّجعة لِعمومه، فَالنَّاسُ يَرْبَعُون حَيْثُ كَانُوا؛ أي يُقِيمون للخِصْب الْعَامِّ وَلَا يَحتاجُون إِلى الِانْتِقَالِ فِي طَلَب الكلإِ، وَقِيلَ: يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَ الغَيْثُ إِذا أَنبت الرّبِيعَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَداكَ يَدٌ رَبيعُ النَّاسِ فِيهَا ***وَفِي الأُخْرَى الشُّهورُ مِنَ الحَرام
أَراد أَنَّ خِصْب الناسِ فِي إِحدى يَدَيْهِ لأَنه يُنْعِش الناسَ بسَيْبِه، وَفِي يَدِهِ الأُخرى الأَمْنُ والحَيْطة ورَعْيُ الذِّمام.
وارْتَبَعَ الفرَسُ والبعيرُ وترَبَّع: "أَكل الرَّبِيعَ.
والمُرْتَبِعُ مِنَ الدَّوَابِّ: الَّذِي رَعى الرَّبِيعَ فسَمِن ونَشِط.
ورُبِعَ القومُ رَبْعًا: أَصابهم مَطَرُ الرَّبيع؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي وَجْزَةَ:
حَتَّى إِذا مَا إِيالاتٌ جَرَتْ بُرُحًا، ***وَقَدْ رَبَعْن الشَّوَى مِنْ ماطِرٍ ماجِ
فإِنّ مَعْنَى رَبَعْن أَمْطَرْن مِنْ قَوْلِكَ رُبِعْنا أَي أَصابَنا مَطَرُ الرَّبِيعِ، وأَراد بِقَوْلِهِ مِنْ مَاطِرٍ أَي عَرَق مأْجٍ ملْحٍ؛ يَقُولُ: أَمْطَرْن قَوائمَهن مِنْ عَرَقِهن.
ورُبِعَت الأَرضُ، فَهِيَ مَرْبُوعة إِذا أَصابها مَطَرُ الرَّبِيعِ.
ومُرْبِعةٌ ومِرْباعٌ: كَثِيرَةُ الرَّبِيع؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
بأَوَّلَ مَا هاجَتْ لكَ الشَّوْقَ دِمْنةٌ ***بِأَجْرَعَ مِرْباعٍ مَرَبٍّ، مُحَلَّلِ
وأَرْبَع إِبله بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا: رَعَاهَا فِي الرَّبِيعِ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَرْبَعُ عِنْدَ الوُرُودِ فِي سُدُمٍ، ***أَنْقَعُ مِنْ غُلَّتي وأُجْزِئُها
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَغُ فِي ماءٍ سُدُمٍ وأَلهَجُ فِيهِ.
وَيُقَالُ: ترَبَّعْنا الحَزْن والصَّمّانَ أَي رَعَينا بُقولها فِي الشِّتاء.
وعامَله مُرابَعة ورِباعًا: مِنَ الرَّبيع؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
واستأْجره مُرابعةً ورِباعًا؛ عَنْهُ أَيضًا، كَمَا يُقَالُ مُصايَفة ومشاهَرة.
وَقَوْلُهُمْ: مَا لَهُ هُبَعٌ وَلَا رُبَعٌ، فالرُّبَع: الفَصيل الَّذِي يُنْتَج فِي الرَّبِيعِ وَهُوَ أَوّل النِّتاج، سُمِّيَ رُبَعًا لأَنه إِذا مَشَى ارتَبَع ورَبَع أَي وسَّع خطْوه وعَدا، وَالْجَمْعُ رِباع وأَرْباع مِثْلُ رُطَب ورِطاب وأَرْطاب؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
وعُلْبة نازَعْتها رِباعي، ***وعُلْبة عِنْدَ مَقِيل الرّاعِي
والأُنثى رُبَعةٌ، وَالْجَمْعُ رُبَعات، فإِذا نُتِج فِي آخِرِ النِّتاج فَهُوَ هُبَع، والأُنثى هُبَعة، وإِذا نُسِبَ إِليه فَهُوَ رُبَعِيٌّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرِي بَنِيك أَن يُحْسِنوا غِذَاءَ رِباعهم»؛ الرِّباع، بِكَسْرِ الرَّاءِ: جَمْعُ رُبَع وَهُوَ مَا وُلد مِنَ الإِبل فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: مَا وُلِدَ فِي أَوّل النِّتاج؛ وإِحْسان غِذائها أَن لَا يُستَقْصى حلَب أُمهاتها إِبقاء عَلَيْهَا؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: كأَنه أَخْفاف الرِّباع.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «سأَله رَجُلٌ مِنَ الصَّدقة فأَعْطاه رُبَعة يَتْبَعُها ظِئراها»؛ هُوَ تأْنيث الرُّبَع؛ وَفِي حَدِيثِ سليْمَان بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كَانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
الرِّبْعي: الَّذِي وُلِدَ فِي الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ مَثَلٌ لِلْعَرَبِ قَدِيمٌ.
وَقِيلَ للقمَر: مَا أَنت ابنُ أَربع، فَقَالَ: عَتَمة رُبَعْ لَا جَائِعٌ وَلَا مُرْضَع؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي جَمْعِ رِباع:
سَوْفَ تَكْفِي مِنْ حُبِّهِنَّ فتاةٌ ***تَرْبُقُ البَهْمَ، أَو تَخُلُّ الرِّباعا
يَعْنِي جَمْعَ رُبَع أَي تَخُلّ أَلسِنةَ الفِصال تَشُقُّها وَتَجْعَلُ فِيهَا عُودًا لِئَلَّا تَرْضَع، وَرَوَاهُ ابْنُ الأَعرابي: أَو تحُلّ الرِّباعا أَي تَحُلُّ الرَّبيع مَعَنَا حَيْثُ حَلَلْنا، يَعْنِي أَنها مُتَبَدِّية، وَالرِّوَايَةُ الأُولى أَولى لأَنه أَشبه بِقَوْلِهِ تربق البَهْم أَي تَشُدُّ البَهم عَنْ أُمّهاتها لِئَلَّا تَرْضَع وَلِئَلَّا تُفَرَّقَ، فكأَنّ هَذِهِ الفَتاة تَخْدم البَهْم والفِصال، وأَرْباعٌ ورِباع شَاذٌّ لأَن سِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنّ حُكْم فُعَل أَن يُكَسَّر عَلَى فِعْلان فِي غَالِبِ الأَمر، والأُنثى رُبَعة.
وَنَاقَةٌ مُرْبِعٌ: ذَاتُ رُبَع، ومِرْباعٌ: عادتُها أَن تُنْتَج الرِّباع، وفرَّق الْجَوْهَرِيُّ فَقَالَ: نَاقَةٌ مُرْبِع تُنْتَج فِي الرَّبِيعِ، فإِن كَانَ ذَلِكَ عَادَتَهَا فَهِيَ مِرْباع.
وَقَالَ الأَصمعي: المِرْباع مِنَ النُّوقِ الَّتِي تَلِدُ فِي أَوّل النِّتاج.
والمِرْباعُ: الَّتِي وَلَدُهَا مَعَهَا وَهُوَ رُبَع.
وَفِي حَدِيثِ هِشَامٍ فِي وَصْفِ نَاقَةٍ: «إِنها لمِرْباعٌ مِسْياعٌ»؛ قَالَ: هِيَ مِنَ النُّوقِ الَّتِي تَلِدُ فِي أَول النِّتَاجِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تُبَكِّر فِي الحَمْل، وَيُرْوَى بِالْيَاءِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ.
ورِبْعِيّة الْقَوْمِ: ميرَتُهم فِي أَول الشِّتَاءِ، وَقِيلَ: الرِّبْعِية مِيرَةُ الرَّبيع وَهِيَ أَوَّل المِيَر ثُمَّ الصَّيْفِيَّةُ ثُمَّ الدَّفَئية ثُمَّ الرَّمَضِيَّة، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
والرِّبْعية أَيضًا: الْعِيرُ الممْتارة فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: أَوّلَ السَّنَةِ، وإِنما يَذْهَبُونَ بأَوّل السَّنَةِ إِلى الرَّبِيعِ، وَالْجَمْعُ رَباعيّ.
والرِّبْعِيَّة: الغَزوة فِي الرَّبيع؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
وكانَتْ لَهُمْ رِبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها، ***إِذا خَضْخَضَتْ ماءَ السَّمَاءِ القَنابِل
يَعْنِي أَنه كَانَتْ لَهُمْ غَزْوَةٌ يَغْزُونها فِي الرَّبِيعِ.
وأَرْبَعَ الرجلُ، فَهُوَ مُرْبِعٌ: وُلِدَ لَهُ فِي شَبَابِهِ، عَلَى الْمِثْلِ بِالرَّبِيعِ، وَوَلَدُهُ رِبْعِيّون؛ وأَورد:
إِنَّ بَنِيَّ غِلْمةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كَانَتْ لَهُ رِبْعِيُّونْ
وَفَصِيلٌ رِبْعِيٌّ: نُتِجَ فِي الرَّبِيعِ نَسَبٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
ورِبْعِيّة النِّتاج والقَيْظ: أَوَّله.
ورِبْعيّ كُلِّ شَيْءٍ: أَوَّله.
رِبْعيّ النِّتَاجِ ورِبْعيّ الشَّبَابِ: أَوَّله؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:
جَزِعْت فَلَمْ تَجْزَعْ مِنَ الشَّيْبِ مَجْزَعا، ***وَقَدْ فاتَ رِبْعيُّ الشبابِ فَوَدَّعا
وَكَذَلِكَ رِبْعِيّ المَجْد والطعْنِ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ أَيضًا:
عَلَيْكُمْ بِرِبْعِيِّ الطِّعان، فإِنه ***أَشَقُّ عَلَى ذِي الرَّثْيةِ المُتَصَعِّبِ
رِبْعِيُّ الطِّعان: أَوَّله وأَحَدُّهُ.
وسَقْب رِبْعي وسِقاب رِبْعية: وُلِدت فِي أَوَّل النِّتاج؛ قَالَ الأَعشى:
ولكِنَّها كَانَتْ نَوًى أَجْنَبيَّةً، ***تَواليَ رِبْعيِّ السِّقابِ فأَصْحَبا
قَالَ الأَزهري: هَكَذَا سَمِعْتُ الْعَرَبَ تُنْشِده وَفَسَّرُوا لِي تَوالي رِبْعِي السِّقَابِ أَنه مِنَ المُوالاة، وَهُوَ تَمْيِيزُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ.
يُقَالُ: والَيْنا الفُصْلان عَنْ أُمهاتها فتَوالَتْ أَي فَصَلْناها عَنْهَا عِنْدَ تَمام الحَوْل، ويَشْتَدّ عَلَيْهَا المُوالاة ويَكْثُر حَنِينها فِي إِثْر أُمهاتها ويُتَّخَذ لَهَا خَنْدق تُحْبَس فِيهِ، وتُسَرَّح الأُمهات فِي وَجْه مِنْ مراتِعها فإِذا تَباعَدت عَنْ أَولادها سُرِّحت الأَولاد فِي جِهة غَيْرِ جِهَةِ الأُمهات فَتَرْعَى وَحْدَهَا فَتَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ، وتُصْحب بَعْدَ أَيام؛ أَخبر الأَعشى أَنّ نَوَى صاحِبته اشْتدَّت عَلَيْهِ فَحنّ إِليها حَنِين رِبْعيِّ السِّقاب إِذا وُوليَ عَنْ أُمه، وأَخبر أَنَّ هَذَا الْفَصِيلَ يَسْتَمِرُّ عَلَى المُوالاة وَلَمْ يُصْحِب إِصْحاب السَّقْب.
قَالَ الأَزهري: وإِنما فَسَّرْتُ هَذَا البيت لأَنالرُّوَاةَ لَمَّا أَشكل عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ تخَبَّطُوا فِي اسْتِخْراجه وخَلَّطوا، وَلَمْ يَعْرِفوا مِنْهُ مَا يَعْرِفه مَن شاهَد الْقَوْمَ فِي بَادِيَتِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَوْ ذهبْت تُرِيدُ وَلَاءَ ضَبَّةَ مِنْ تَميم لتعَذَّر عَلَيْكَ مُوالاتُهم مِنْهُمْ لِاخْتِلَاطِ أَنسابهم؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
وكُنَّا خُلَيْطَى فِي الجِمالِ، فَأَصْبَحَتْ ***جِمالي تُوالى وُلَّهًا مِنْ جِمالِك
تُوالى أَي تُمَيَّز مِنْهَا.
والسِّبْطُ الرِّبْعِي: نَخْلة تُدْرك آخِرَ الْقَيْظِ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: سَمَّى رِبعِيًّا لأَن آخِرَ الْقَيْظِ وَقْتُ الوَسْمِيّ.
وَنَاقَةٌ رِبْعِية: مُتَقَدِّمة النِّتاج، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَرَفانةٌ رِبْعِيّة تُصْرَم بِالصَّيْفِ وَتُؤْكَلُ بالشَّتِيّة؛ رِبعِية: مُتقدِّمة.
وارْتَبَعتِ الناقةُ وأَرْبَعَتْ وَهِيَ مُرْبِعٌ: اسْتَغْلَقَت رَحِمُها فَلَمْ تَقبل الْمَاءَ.
وَرَجُلٌ مَرْبوع ومُرْتَبَع ومُرْتَبِع ورَبْعٌ ورَبْعة ورَبَعة أَي مَرْبُوعُ الخَلْق لَا بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وُصِف المذَكَّر بِهَذَا الِاسْمِ المؤَنّث كَمَا وُصِفَ الْمُذَكَّرُ بخَمْسة وَنَحْوِهَا حِينَ قَالُوا: رِجَالٌ خَمْسَةٌ، وَالْمُؤَنَّثُ رَبْعة وربَعة كَالْمُذَكَّرِ، وأَصله لَهُ، وجَمْعُهما جَمِيعًا رَبَعات، حَرَّكُوا الثَّانِيَ وإِن كَانَ صِفَةً لأَن أَصل رَبْعة اسمٌ مُؤَنَّثٌ وَقَعَ عَلَى الْمُذَكَّرِ والمؤنثِ فَوُصِفَ بِهِ، وَقَدْ يُقَالُ رَبْعات، بِسُكُونِ الْبَاءِ، فَيُجْمَعُ عَلَى مَا يُجْمَعُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الصِّفَةِ؛ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنما حُرِّكَ رَبَعات لأَنه جَاءَ نَعْتًا لِلْمُذَكَّرِ والمؤَنث فكأَنه اسْمٌ نُعت بِهِ.
قَالَ الأَزهري: خُولِفَ بِهِ طَرِيقُ ضَخْمة وضَخْمات لِاسْتِوَاءِ نَعْتِ الرَّجُلِ والمرأَة فِي قَوْلِهِ رَجُلٌ رَبْعة وامرأَة رَبْعَةٌ فَصَارَ كَالِاسْمِ، والأَصل فِي بَابِ فَعْلة مِنَ الأَسماء مِثْلِ تَمْرة وجَفْنة أَن يُجْمَعَ عَلَى فَعَلات مِثْلِ تَمَرات وجَفَنات، وَمَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى فَعْلة مِثْلِ شَاةٍ لَجْبة وامرأَة عَبْلة أَن يُجْمَعَ عَلَى فَعْلات بِسُكُونِ الْعَيْنِ وإِنما جُمِعَ رَبْعة عَلَى رَبَعات وَهُوَ نَعْتٌ لأَنه أَشبه الأَسماء لِاسْتِوَاءِ لَفْظِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي وَاحِدِهِ؛ قَالَ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ امرأَة رَبْعة وَنِسْوَةٌ رَبْعات، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ رَبْعة وَرِجَالٌ رَبْعون فَيَجْعَلُهُ كَسَائِرِ النُّعُوتِ.
وَفِي صِفَتِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطول مِنَ المَرْبوع وأَقْصَر مِنَ المُشَذَّب "؛ فالمشذَّب: الطَّوِيلُ الْبَائِنُ، والمَرْبوعُ: الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ، فَالْمَعْنَى أَنه لَمْ يَكُنْ مُفرط الطُّولِ وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ الرَّبْعة والمُشَذَّب.
والمَرابيعُ مِنَ الْخَيْلِ: المُجْتَمِعةُ الخَلْق.
والرَّبْعة، بِالتَّسْكِينِ: الجُونة جُونة العَطَّار.
وَفِي حَدِيثِ هِرَقْل: «ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كالرَّبْعة الْعَظِيمَةِ»؛ الرَّبْعة: إِناء مُربَّع كالجُونة.
والربَعَة: الْمَسَافَةُ بَيْنَ قَوَائِمِ الأَثافي والخِوان.
وحملْت رَبْعَه أَي نَعْشَه.
والربيعُ: الجَدْوَلُ.
والرَّبيعُ: الحَظُّ مِنَ الْمَاءِ مَا كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ الحَظّ مِنْهُ رُبْع يَوْمٍ أَو لَيْلَةٍ؛ وَلَيْسَ بالقَوِيّ.
وَالرَّبِيعُ: السَّاقِيَةُ الصَّغِيرَةُ تَجْرِي إِلى النَّخْلِ، حِجَازِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَرْبِعاء ورُبْعان.
وَتَرَكْنَاهُمْ عَلَى رَباعاتِهم ورِباعَتِهم، بِكَسْرِ الرَّاءِ، ورَبَعاتهم ورَبِعاتِهم، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، أَي حالةٍ حسَنةٍ مِنَ اسْتقامتهم وأَمْرِهم الأَوَّل، لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ حُسْنِ الْحَالِ، وَقِيلَ: رِباعَتُهم شَأْنُهم، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: رَبَعاتُهم ورَبِعاتُهم مَنازِلُهم.
وَفِي كِتَابِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنصار: " إِنهم أُمَّة وَاحِدَةٌ عَلَى رِباعتهم "أَي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ؛ يُرِيدُ أَنهم عَلَى أَمرهم الَّذِي كَانُوا عليه.
ورِباعةُ الرَّجُلِ: شأْنه وحالهُ الَّتِي هُوَ رابِعٌ عَلَيْهَا أَي ثَابِتٌ مُقيمٌ.
الْفَرَّاءُ: النَّاسُ عَلَى سَكَناتهم ونَزلاتهم ورَباعتهم ورَبَعاتهم يَعْنِي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ.
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَهُودَ عَلَى رِبْعَتهم؛ هَكَذَا وُجِدَ فِي سِيَر ابْنِ إِسحاقَ وَعَلَى ذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَفِي حَدِيثِ المُغيرة: «أَن فُلَانًا قَدِ ارْتَبَعَ أَمْرَ الْقَوْمِ»أَي يَنْتَظِرُ أَن يُؤَمَّر عَلَيْهِمْ؛ وَمِنْهُ المُسْتَرْبِعُ المُطيقُ لِلشَّيْءِ.
وَهُوَ عَلَى رِبَاعَةِ قَوْمِهِ أَي هُوَ سَيِّدهم.
وَيُقَالُ: مَا فِي بَنِي فُلَانٍ مَنْ يَضْبِطُ رِباعَته غَيْرُ فُلَانٍ أَي أَمْرَه وشأْنه الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: مَا فِي بَنِي فُلَانٍ أَحد تُغْني رِباعَتُه؛ قَالَ الأَخطل:
مَا فِي مَعَدٍّ فَتًى تُغْنِي رِباعَتُه، ***إِذا يَهُمُّ بأَمْرٍ صالِحٍ فَعَلا
والرِّباعةُ أَيضًا: نَحْوٌ مِنَ الحَمالة.
والرَّباعةُ والرِّباعة: الْقَبِيلَةُ.
والرَّباعِيةُ مِثْلُ الثَّمَانِيَةِ: إِحدى الأَسنان الأَربع الَّتِي تَلِي الثَّنايا بَيْنَ الثَّنِيّة وَالنَّابِ تَكُونُ للإِنسان وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ رَباعِياتٌ؛ قَالَ الأَصمعي: للإِنسان مِنْ فَوْقُ ثَنِيّتان ورَباعِيتان بَعْدَهُمَا، ونابانِ وضاحِكان وستةُ أَرْحاء مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وناجِذان، وَكَذَلِكَ مِنْ أَسفل.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ لِكُلِّ خُفّ وظِلْف ثَنِيّتان مِنْ أَسفل فَقَطْ، وأَما الحافرُ والسِّباع كلُّها فَلَهَا أَربع ثَنايا، وَلِلْحَافِرِ بَعْدَ الثَّنَايَا أَربعُ رَباعِيات وأَربعة قَوارِحَ وأَربعة أَنْياب وَثَمَانِيَةُ أَضراس.
وأَرْبَعَ الفرسُ وَالْبَعِيرُ: أَلقى رَباعِيته، وَقِيلَ: طَلَعَتْ رَباعِيتُه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ أَجد إِلا جَمَلًا خِيارًا رَباعِيًا»، يُقَالُ لِلذَّكَرِ مِنَ الإِبل إِذا طلَعت رَباعِيتُه: رَباعٌ ورَباعٍ، وللأُنثى رَباعِيةٌ، بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ إِذا دَخَلَا فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ.
وَفَرَسٌ رَباعٍ مِثْلُ ثَمان وَكَذَلِكَ الْحِمَارُ وَالْبَعِيرُ، وَالْجَمْعُ رُبَع، بِفَتْحِ الْبَاءِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، ورُبْع، بِسُكُونِ الْبَاءِ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، وأَرباع ورِباع، والأُنثى رَباعية؛ كُلُّ ذَلِكَ لِلَّذِي يُلقِي رَباعيته، فإِذا نَصَبْتَ أَتممت فَقُلْتَ: رَكِبْتُ بِرْذَوْنًا رَباعيًا؛ قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ حِمَارًا وحْشيًّا: " رَباعِيًا مُرْتَبِعًا أَو شَوْقَبَا "وَالْجَمْعُ رُبُعٌ مِثْلُ قَذال وقُذُل، ورِبْعان مِثْلُ غَزال وغِزْلان؛ يُقَالُ ذَلِكَ لِلْغَنَمِ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَلِلْبَقَرِ وَالْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، وللخُفّ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، أَرْبَعَ يُرْبِع إِرْباعًا، وَهُوَ فَرَسٌ رَباع وَهِيَ فَرَسٌ رَباعِية.
وَحَكَى الأَزهري عَنِ ابْنِ الأَعرابي قَالَ: الْخَيْلُ تُثْنِي وتُرْبِع وتُقْرِح، والإِبل تُثْنِي وتُرْبِع وتُسْدِسُ وتَبْزُلُ، وَالْغَنَمُ تُثْنِي وتُرْبِع وتُسدس وتَصْلَغُ، قَالَ: وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ إِذا اسْتَتَمَّ سَنَتَيْنِ جَذَع، فإِذا اسْتَتَمَّ الثَّالِثَةَ فَهُوَ ثَنيّ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِلقائه رَواضِعَه، فإِذا اسْتَتَمَّ الرَّابِعَةَ فَهُوَ رَباع، قَالَ: وإِذا سَقَطَتْ رَواضِعه وَنَبَتَ مَكَانَهَا سِنّ فَنَبَاتُ تِلْكَ السِّنِّ هُوَ الإِثْناء، ثُمَّ تَسْقُط الَّتِي تَلِيهَا عِنْدَ إِرباعه فَهِيَ رَباعِيته، فيَنْبُت مَكَانَهُ سِنٌّ فَهُوَ رَباع، وَجَمْعُهُ رُبُعٌ وأَكثر الْكَلَامِ رُبُعٌ وأَرْباع.
فإِذا حَانَ قُرُوحه سَقَطَ الَّذِي يَلِي رَباعيته، فَيَنْبُتُ مَكَانَهُ قارِحُه وَهُوَ نابُه، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقُرُوحِ سقُوط سِنّ وَلَا نَبَاتُ سِنٍّ؛ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ إِذا طعَن البعيرُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَهُوَ جذَع، فإِذا طَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ فَهُوَ ثَنِيّ، فإِذا طَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ فَهُوَ رَباع، والأُنثى رَباعِية، فإِذا طَعَنَ فِي الثَّامِنَةِ فَهُوَ سَدَسٌ وسَدِيس، فإِذا طَعَنَ فِي التَّاسِعَةِ فَهُوَ بازِل، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: تُجْذِع العَناق لِسَنَةٍ، وتُثْنِي لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ، وَهِيَ رَباعِية لِتَمَامِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وسَدَسٌ لِتَمَامِ أَربع سِنِينَ، وصالِغٌ لِتَمَامِ خَمْسِ سِنِينَ.
وَقَالَ أَبو فَقْعَسٍ الأَسدي: وَلَدُ الْبَقَرَةِ أَوّل سَنَةٍ تَبِيعٌ ثُمَّ جذَع ثُمَّ ثَنِيّ ثُمَّ رَباع ثُمَّ سَدَس ثُمَّ صالغٌ، وَهُوَ أَقصى أَسنانه.
والرَّبيعة: الرَّوْضة.
والرَّبيعة: المَزادَة.
والرَّبيعة: العَتِيدة.
وحَرْب رَباعِية: شَدِيدَةٌ فَتِيَّة، وَذَلِكَ لأَن الإِرْباع أَول شِدَّةِ الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ، فَهِيَ كَالْفَرَسِ الرَّباعي وَالْجَمَلِ الرَّباعي وَلَيْسَتْ كَالْبَازِلِ الذي هو في إِدبار وَلَا كالثَنيِّ فَتَكُونُ ضَعِيفَةً؛ وأَنشد:
لأُصْبِحَنْ ظَالِمًا حَرْبًا رَباعِيةً ***فاقْعُدْ لَهَا، ودَعَنْ عنكَ الأَظانِينا
قَوْلُهُ فاقْعُد لها أَي هيِء لَهَا أَقْرانَها.
يُقَالُ: قَعَدَ بَنُو فُلَانٍ لِبَنِي فُلَانٍ إِذا أَطاقوهم وَجَاؤُوهُمْ بأَعْدادهم، وَكَذَلِكَ قَعد فُلَانٌ بِفُلَانٍ، وَلَمْ يُفَسِّرِ الأَظانين، وجملٌ رباعٍ: كرباعٌ وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ؛ حَكَاهُ كُرَاعٌ قَالَ: وَلَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا ثمانٍ وشَناحٍ فِي ثمانٌ وشناحٌ؛ والشناحُ: الطَّوِيلُ.
والرَّبِيعةُ: بَيْضَةُ السِّلَاحِ الْحَدِيدِ.
وأَرْبَعَت الإِبل بالوِرْد: أَسْرَعت الْكَرَّ إِليه فَوَرَدَتْ بِلَا وَقْتٍ، وَحَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
والمُرْبِعُ: الَّذِي يُورِد كلَّ وَقْتٍ مِنْ ذَلِكَ.
وأَرْبَع بالمرأَة: كَرَّ إِلى مُجامَعتها مِنْ غَيْرِ فَتْرة، وَذَكَرَ الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ عذَم قَالَ: والمرأَة تَعْذَم الرجلَ إِذا أَرْبَع لَهَا بِالْكَلَامِ أَي تَشْتُمه إِذا سأَلها المَكْروه، وَهُوَ الإِرْباعُ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
78-لسان العرب (ضيق)
ضيق: الضِّيقُ: نَقِيضُ السَّعَةِ، ضاقَ الشيءُ يَضِيقُ ضِيقًا وضَيْقًا وتَضَيَّقَ وتَضايَقَ وضَيَّقَه هُوَ، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي أَضاقَه، وَهُوَ أَمر ضَيِّقٌ.أَبو عَمْرٍو: الضَّيْقُ الشَّيْءُ الضَّيِّقُ، والضِّيقُ الْمَصْدَرُ، والمَضايِق: جَمْعُ المَضِيق.
والضَّيْقُ أَيضًا: تَخْفِيفُ الضَّيِّق؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
دُرْنا ودارَتْ بَكْرةٌ نَخِيسُ، ***لَا ضَيْقةُ المَجْرَى وَلَا مَرُوسُ
والضَّيْقُ: جمع الضَّيقاة والضِّيقة وَهِيَ الْفَقْرُ وَسُوءُ الْحَالِ، وَقَدْ ضاقَ عَنْكَ الشَّيْءُ.
يُقَالُ: لَا يَسَعُني شَيْءٌ ويَضِيق عَنْكَ.
وضاقَ الرجلُ أَي بَخِلَ، وضَيَّقْت عَلَيْكَ الْمَوْضِعَ.
وَقَوْلُهُمْ: ضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا أَي ضاقَ ذرْعي بِهِ.
وتَضايَقَ القومُ إِذا لَمْ يتوسَّعوا فِي خُلُق أَو مَكَانٍ.
والضُّوقى والضِّيقى: تأْنيث الأَضْيَق، صَارَتِ الْيَاءُ وَاوًا لِسُكُونِهَا وَضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا.
وَيُقَالُ: ضاقَ المكانُ، فَهُوَ ضَيِّق، فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ ضائِقٍ ضاقَة؛ قَالَ زُهَيْرٌ: " يَكْرَهها الجُبَناءُ الضاقةُ العَطَنِ "فَهَذَا جَمْعُ ضائِقٍ، وَمِثْلُهُ سادَةٌ جَمْعُ سائِدٍ لَا سيِّد؛ وَمَكَانٌ ضَيِّقٌ وضَيْقٌ وضائِقٌ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}.
وَهُوَ فِي ضِيقٍ مِنْ أَمره وضَيْقٍ أَي فِي أَمر ضَيِّقٍ، وَالنَّعْتُ ضَيِّقٌ، وَالِاسْمُ ضَيْق.
وَيُقَالُ: فِي صَدْرِ فُلَانٍ ضِيقٌ عَلَيْنَا وضَيْقٌ.
والضَّيْق: الشَّكُّ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّيْقُ مَا ضَاقَ عَنْهُ صدرُك، والضِّيقُ مَا يَكُونُ فِي الَّذِي يتَّسع وَيَضِيقُ مِثْلُ الدَّارِ وَالثَّوْبِ؛ وإِذا رأَيت الضَّيْقَ قَدْ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ الضِّيق كَانَ عَلَى أَمرين: أَحدهما أَن يَكُونَ جَمْعًا للضَّيْقةِ كَمَا قَالَ الأَعشى:
فَلَئِنْ رَبُّك، مِنْ رَحْمَتِهِ، ***كَشَفَ الضَّيْقةَ عنا وفَسَح
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَن يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ ضَيِّق فَيَكُونُ ضَيق مُخَفَّفًا، وأَصله التَّشْدِيدُ، وَمِثْلُهُ هَيْن ولَيْن.
وأَضاقَ الرجلُ، فَهُوَ مُضِيق إِذا ضاقَ عَلَيْهِ مَعاشُه.
وأَضاقَ أَي ذَهَبَ مالُه.
التَّهْذِيبِ: والضَّيَقُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، الشَّكُّ، والضَّيْقُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَكثرُ.
والضِّيقةُ: مِثْلُ الضِّيق.
والمَضِيقُ: مَا ضاقَ مِنَ الأَماكن والأُمور؛ قَالَ:
مَنْ شَا يُدَلِّي النفسَ فِي هُوَّة ***ضَنْكٍ، وَلَكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيق؟
أَي بِالْخُرُوجِ مِنَ المَضيق.
وَقَالُوا: هِيَ الضِّيقى والضُّوقى عَلَى حَدِّ مَا يَعْتَوِرُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ المُعاقَبة.
وَقَالَ كُرَاعٌ: الضُّوقى جمع ضَيِّقة؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَدري كَيْفَ ذَلِكَ لأَن فُعْلى لَيْسَتْ مِنْ أَبنية الْجُمُوعِ إِلا أَن يَكُونَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يُفَارِقُ وَاحِدَهُ إِلا بِالْهَاءِ كبُهْماة وبُهْمى؛ وَقَالَتِ امرأَة لضَرَّتها وَهِيَ تُسامِيها: " مَا أَنت بالخُورَى وَلَا الضُّوقى حِرَا "الضُّوقى: فُعْلى مِنَ الضِّيق وَهِيَ فِي الأَصل الضُّيْقى، فَقُلِبَتِ الْيَاءُ وَاوًا مِنْ أَجل الضَّمَّةِ، والخُورَى فُعْلى مِنَ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ الْكُوسَى مِنَ الكَيْس.
والضِّيقةُ: مَا بَيْنَ كُلِّ نَجْمَيْنِ.
والضِّيقةُ: كَوْكَبَانِ كالمُلْتَزِقَينِ صغِيران بَيْنَ الثُّرَيا والدَّبَران.
وضِيقة: مَنْزِلَةٌ لِلْقَمَرِ بِلِزْقِ الثُّرَيَّا مِمَّا يَلِي الدَّبَرَانِ وَهُوَ مَكَانٌ نحْسٌ عَلَى مَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ؛ قَالَ الأَخطل:
فهلَّا زَجَرْتِ الطَّيْرَ، لَيلة جِئْتِه، ***بِضِيقةَ بَيْنَ النَّجْمِ والدَّبَرانِ
يَذْكُرُ امرأَة وَسِيمةً تزوَّجها رَجُلٌ دَمِيمٌ، والمرأَة هِيَ بَرَّة أَبي هَانِئٍ التَّغْلِبِيِّ وَالرَّجُلُ سَعِيدُ بْنُ بَنَانٍ التَّغْلِبِيُّ، وَقَالَ الأَخطل فِي ذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَرُبَّمَا قَصُر الْقَمَرُ عَنِ الدَّبَرانِ فَنَزَلَ بالضِّيقة وَهُمَا النَّجْمَانِ الصَّغِيرَانِ الْمُتَقَارِبَانِ بَيْنَ الثُّرَيَّا والدَّبران؛ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبي زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: جَعَلَ ضِيقةَ مَعْرِفَةً لأَنه جَعَلَهُ اسْمًا عَلَمًا لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصْرِفْهُ، وأَنشده أَبو عَمْرٍو بِضِيقةِ بِكَسْرِ الْهَاءِ، جَعَلَهُ صِفَةً وَلَمْ يَجْعَلْهُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ؛ أَراد بضِيقَةِ مَا بَيْنَ النَّجْمِ والدبران.
والضَّيْقة والضِّيقة: القمر" فصل الطاء المهملة "طبق: الطَّبَقُ غِطَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ أَطْباق، وَقَدْ أَطْبَقَه وطَبَّقَه انْطَبَقَ وتَطَبَّقَ: غَطَّاه وَجَعَلَهُ مُطَبَّقًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَوْ تَطَبَّقَت السَّمَاءُ عَلَى الأَرض مَا فَعَلْتُ كَذَا.
وَفِي الْحَدِيثِ حِجابُه النُّورُ لَوْ كُشِفَ طَبَقُه لأَحْرَقت سُبحاتُ وَجهِه كلَّ شَيْءٍ أَدْرَكه بصرُه "؛ الطَّبَقُ: كلُّ غِطَاءٍ لَازِمٍ عَلَى الشَّيْءِ.
وطَبَقُ كلِّ شَيْءٍ: مَا سَاوَاهُ، وَالْجَمْعُ أَطْباقٌ؛ وَقَوْلُهُ: " ولَيْلة ذَاتِ جَهامٍ أَطْباق مَعْنَاهُ أَن بعضَه طَبَقٌ لِبَعْضٍ أَي مُساوٍ لَهُ، وجَمَع لأَنه عَنَى الْجِنْسِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنْ نَعْتِ اللَّيْلَةِ أَي بعضُ ظُلَمِها مُساوٍ لِبَعْضٍ فَيَكُونُ كجُبَّةٍ أَخْلاق وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ طابَقَهُ مطابَقةً وطِباقًا.
وتَطابَقَ الشيئَان: تساوَيا.
والمُطابَقةُ: المُوافَقة.
والتَّطابُق: الِاتِّفَاقُ.
وطابَقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذا جَعَلْتَهُمَا عَلَى حَذْو وَاحِدٍ وأَلزقتهما.
وَهَذَا الشَّيْءُ وَفْقُ هَذَا ووِفاقُه وطِباقُه وطابَقُهُ وطِبْقُه وطَبِيقُه ومُطْبِقُه وقالَبُه وقالِبُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وافَقَ شَنٌّ طَبَقَه.
وطابَقَ بَيْنَ قَمِيصَيْنِ.
لَبِسَ أَحدهما على الآخر.
والسمواتُ الطِّباقُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لمُطابَقة بَعْضِهَا بَعْضًا أَي بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لأَن بَعْضَهَا مُطْبَق عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: الطِّباقُ مَصْدَرُ طوبقَتْ طِباقًا.
وَفِي التَّنْزِيلِ.
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا "؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى طِباقًا" مُطْبَقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: وَنَصَبَ طِباقًا "عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحدهما مطابَقة طِباقًا، وَالْآخَرُ مِنْ نَعْتِ سَبْعٍ أَي خَلَقَ سَبْعًا ذَاتَ طِباقٍ.
الليث: السمواتُ طِباقٌ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطِّبَاقِ طَبَقة، ويذكَّر فَيُقَالُ طَبَقٌ؛ ابْنُ الأَعرابي: الطَّبَقُ الأُمّة بَعْدَ الأُمّة.
الأَصمعي: الطِّبْقُ، بِالْكَسْرِ، الجماعةْ مِنَ النَّاسِ.
ابْنُ سِيدَهْ: والطَّبَق الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ يَعْدِلون جَمَاعَةً مِثْلَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْجَرَادِ وَالنَّاسِ.
وَجَاءَنَا طَبَقٌ مِنَ النَّاسِ وطِبْقٌ أَي كَثِيرٌ.
وأَتى طَبَقٌ مِنَ الْجَرَادِ أَي جَمَاعَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن مَرْيَمَ جاعَتْ فجاءَها طَبَقٌ مِنْ جَرادٍ فصادَتْ مِنْهُ» أَي قَطيعٌ مِنَ الْجَرَادِ.
والطَّبَقُ: الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ أَو فِيهِ، وَالْجَمْعُ أَطْباقٌ.
وطَبَّقَ السَّحابُ الجَوَّ: غَشّاه، وسَحابةُ مُطَبِّقةٌ.
وطَبَّقَ الماءُ وَجْهَ الأَرض: غَطَّاهُ.
وأَصبحت الأَرض طَبَقًا وَاحِدًا إِذا تَغَشَّى وجهُها بِالْمَاءِ.
وَالْمَاءُ طَبَقٌ للأَرض أَي غِشاء؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
دِيمةٌ هَطْلاءُ فِيهَا وَطَفٌ، ***طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: «اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مُغِيثًا طَبَقًا»أَي مالِئًا للأَرض مُغَطِّيًا لَهَا.
يُقَالُ: غَيْثٌ طَبَقٌ أَي عامٌّ وَاسِعٌ،.
يُقَالُ: هَذَا مَطَرٌ طَبَقُ الأَرض إِذا طَبَّقها؛ وأَنشد بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ: " طَبَقُ الأَرض تَحَرَّى وَتَدُرْ وَمَنْ رَوَاهُ طَبَقَ الأَرضِ نصبَه بِقَوْلِهِ تحَرَّى.
الأَصمعي فِي قَوْلِهِ غَيْثًا طَبَقًا: الْغَيْثُ الطَبق الْعَامُّ، وَقَالَ الأَصمعي فِي الْحَدِيثِ: «قُرَيش الكَتَبَة الحَسَبة مِلْحُ هَذِهِ الأُمّة، عِلْمُ عالِمهم طِباقُ الأَرض»؛ كأَنه يعُمّ الأَرض فَيَكُونُ طَبَقًا لَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: " عِلْمُ عالمِ قُرَيْش طَبَقُ الأَرض.
وطَبَّقَ الغيثُ الأَرضَ: ملأَها وَعَمَّهَا.
وغيثٌ طَبَقٌ: عامٌّ يُطَبِّق الأَرض.
وطَبَّقَ الغيمُ تَطْبيقًا: أَصاب مطرُه جميعَ الأَرض.
وطِباقُ الأَرض وطِلاعُها سَوَاءٌ: بِمَعْنَى مِلْئها.
وَقَوْلُهُمْ: رَحْمَةٌ طِباقُ الأَرضِ أَي تُغَشِّي الأَرض كُلَّهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لِلَّهِ مائةُ رَحْمةٍ كلُّ رَحْمةٍ مِنْهَا كطِباقِ الأَرض» أَي تُغَشِّي الأَرضَ كُلَّهَا.
وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: لَوْ أَنَّ لِي طِباقَ الأَرض ذهَبًا أَي ذَهَبًا يعُمّ الأَرض فَيَكُونُ طَبَقًا لَهَا.
وطَبَّقَ الشيءُ: عَمَّ.
وطَبَقُ الأَرض: وجهُها.
وطِباقُ الأَرض: مَا عَلاها.
وطَبَقاتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَشراط السَّاعَةِ: «تُوصَلُ الأَطْباقُ وتُقْطَعُ الأَرْحامُ»؛ يَعْنِي بالأَطْباقِ البُعَداءَ والأَجانِبَ لأَن طَبَقاتِ النَّاسِ أَصناف مُخْتَلِفَةٌ.
وطابَقَه عَلَى الأَمر: جامَعَه وأَطْبَقوا عَلَى الشَّيْءِ: أَجمعوا عَلَيْهِ.
وَالْحُرُوفُ المُطْبَقة أَربعة: الصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمَفْتُوحٌ غَيْرُ مُطْبَق.
والإِطْباقُ: أَن تَرْفَعَ ظهرَ لِسَانِكَ إِلى الْحَنَكِ الأَعلى مُطْبِقًا لَهُ، وَلَوْلَا الإِطْباقُ لَصَارَتِ الطَّاءُ دَالًّا وَالصَّادُ سِينًا وَالظَّاءُ ذَالًا وَلَخَرَجَتِ الضَّادُ مِنَ الْكَلَامِ لأَنه لَيْسَ مِنْ مَوْضِعِهَا شَيْءٌ غَيْرُهَا، تَزُولُ الضَّادُ إِذا عُدِمَ الإِطْباق الْبَتَّةَ.
وطابَقَلِي بحقِّي وطابَقَ بحقِّي: أَذْعَنَ وأَقرَّ وبَخَعَ؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ:
وخَيْل تُطابقُ بِالدَّارِعِينَ، ***طِباقَ الكِلاب يَطَأْنَ الهَراسا
وَيُقَالُ: طابَقَ فلانٌ فُلَانًا إِذَا وافَقه وعاوَنَه.
وطابَقَت المرأَةُ زوْجهَا إِذَا واتتْه.
وطابَقَ فلانٌ: بِمَعْنَى مَرَنَ.
وطابَقَت الناقةُ والمرأَةُ: انْقادت لِمُرِيدِهَا.
وطابَقَ عَلَى الْعَمَلِ: مارَنَ.
التَّهْذِيبِ: والمُطَبَّقُ شِبْه اللُّؤْلُؤ، إِذَا قُشر اللُّؤْلُؤُ أخِذ قشرهُ ذَلِكَ فأُلزِق بِالْغِرَاءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا أَو شبْهَه.
والانْطِباقُ: مُطاوعة مَا أَطْبَقْتَ.
والطِّبْقُ والمُطَبَّقُ: شَيْءٌ يُلْصَقُ بِهِ قشرُ اللُّؤْلُؤِ فَيَصِيرُ مِثْلَهُ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا أُلْزِقَ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ طِبْقٌ.
وطَبِقَت يدُه، بِالْكَسْرِ، طَبَقًا، فَهِيَ طَبِقةٌ: لزِقت بِالْجَنْبِ وَلَا تَنْبَسِطُ.
والتَّطْبِيقُ فِي الصَّلَاةِ: جعْلُ الْيَدَيْنِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، وَقِيلَ: التَّطْبِيق فِي الرُّكُوعِ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ فِي أوَّل مَا أمِروا بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ إطْباقُ الْكَفَّيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ بَيْنَ الرُّكْبَتَيْنِ إِذَا رَكَعَ، ثُمَّ أُمِروا بإلْقام الكفَّين رأُس الرُّكْبَتَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتَمَرَّ عَلَى التَّطْبِيق لأَنه لَمْ يَكُنْ عَلِم الأَمْرَ الْآخَرَ "؛ وَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنِ الحَرّبيّ قَالَ: التَّطْبِيقُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ يَضَع كفَّه الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
يُقَالُ: طابَقْتُ وطَبَّقْت.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ كَانَ يُطَبِّقُ فِي صَلَاتِهِ»وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ وَيَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ.
وَجَاءَتِ الإِبل طَبَقًا وَاحِدًا أَيْ عَلَى خُفٍّ.
وَمَرَّ طَبَقٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ بَعْضُهُمَا، وَقِيلَ مُعْظَمُهُمَا؛ قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
وتواهَقَتْ أخْفافُها طَبَقًا، ***والظِّلُّ لَمْ يَفْضُل وَلَمْ يُكْرِ
وَقِيلَ: الطَّبَقة عِشْرُونَ سَنَةً؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كِتَابِ الْهَجَرِيِّ.
وَيُقَالُ: مَضى طَبَقٌ مِنَ النَّهَارِ وطَبَق مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَةٌ، وَقِيلَ أَيْ مُعْظَم مِنْهُ؛ وَمِثْلُهُ: مَضَى طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ.
وطَبِقَت النجومُ إِذَا ظَهَرَتْ كُلُّهَا، وفلانَ يَرْعى طَبَقَ النُّجوم؛ وَقَالَ الرَّاعِي:
أَرى إِبِلًا تكالأَ راعِياها، ***مَخافَة جارِها طَبَقَ النُّجوم
والطَّبَق: سَدُّ الجَراد عينَ الشَّمْسِ.
والطَّبَق: انْطِبَاقُ الغَيْم فِي الْهَوَاءِ.
وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ فِي النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَضى عالَمٌ بَدا طَبَقٌ "؛ فإِنه أَراد إِذا مَضَى قَرْن ظَهَر قَرْن آخَرُ، وإِنما قِيلَ للقَرْن طَبَقٌ لأَنهم طَبَق للأَرض ثُمَّ يَنْقرضِون ويأْتي طَبَق للأَرض آخَرُ، وَكَذَلِكَ طَبَقات النَّاسِ كُلُّ طَبَقة طَبَقت زَمَانَهَا.
والطَّبَقة: الْحَالُ، يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى طَبَقات شَتَّى أَيْ حَالَاتٍ.
ابْنُ الأَعرابي: الطَّبَقُ الْحَالُ عَلَى اخْتِلَافِهَا.
والطَّبَقُ والطَّبَقة: الْحَالُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}؛ أَيْ حَالًا عَنْ حَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
التَّهْذِيبِ: إِنَّ" ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَتَرْكَبُنَّ، وفسَّر لتَصِيرنَّ الأُمور حَالًا بَعْدَ حَالٍ فِي الشِّدَّةِ "، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ وَقَعَ فُلَانٌ فِي بَنَاتِ طَبَق إِذَا وَقَعَ فِي الأَمر الشَّدِيدِ؛ وَقَالَ" ابْنُ مَسْعُودٍ: لَتَرْكَبُنَّ السَّمَاءَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ.
وَقَالَ مَسروق: لَتَرْكَبُنَّ يَا مُحَمَّدُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وقرأَ أَهل الْمَدِينَةِ لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا "، يَعْنِي النَّاسَ عامَّة، وَالتَّفْسِيرُ الشِّدَّة؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لتركَبْنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى تَصِيرُوا إِلَى اللَّهِ" مِنْ إِحْياء وإِماتَةٍ وبَعْثٍ، قَالَ: وَمَنْ قرأَ لتركَبَنَ "أَرَادَ لتركَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ طَبَقًا عَنْ طَبَق مِنْ أطبْاق السَّمَاءِ؛ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وفسَّروا طَبَقًا عَنْ طَبَقٍبِمَعْنَى حَالًا بَعْدَ؛ حَالٍ؛ ونظيرُ وُقُوعٍ عَنْ مَوْقع بَعْدَ قَوْلِ الأَعشى: " وكابِر تَلَدوُك عَنْ كَابِرِ "أَيْ بَعْدَ كَابِرٍ؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
بَقيّة قِدْر مِنْ قُدُورٍ تُوُورِثَتْ ***لآلِ الجُلاحِ، كَابِرًا بَعْدَ كابِرِ
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «إِنِّي كُنْتُ عَلَى أطبْاقٍ ثلاثٍ أَيْ أحْوالٍ»، وَاحِدُهَا طَبَق.
وأَخبر الْحَسَنُ بأَمْرٍ فَقَالَ: إحْدى المُطْبِقات "، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: يُريد إحْدى الدواهي والشدائد الَّتِي تُطْبِقُ عَلَيْهِمْ.
وَيُقَالُ لِلسَّنَةِ الشَّدِيدَةِ: المُطْبِقة؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
وأَهْلُ السَّماحَة فِي المُطْبِقات، ***وأَهل السَّكينةِ فِي المَحْفَلِ
قَالَ: وَيَكُونُ المُطْبَق بِمَعْنَى المُطْبِق.
وولدتِ الْغَنَمُ طَبَقًا وطَبْقًا إِذا نُتِجَ بعضُها بَعْدَ بَعْضٍ، وَقَالَ الأُموي: إِذا ولدتِ الغنمُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ قِيلَ: قَدْ وَلَّدْتُها الرُّجَيْلاءَ، وولَّدتها طَبَقًا وطَبَقَةً.
والطَّبَق والطَّبَقة: الفَقْرة حَيْثُ كَانَتْ، وَقِيلَ: هِيَ مَا بَيْنَ الْفَقْرَتَيْنِ، وَجَمْعُهَا طِباق.
والطَّبَقة: الْمَفْصِلُ، وَالْجَمْعُ طَبَق، وَقِيلَ: الطَّبَق عُظَيْم رَقيق يَفْصِلُ بَيْنَ الفَقارَيْن؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلا ذهبَ الخِداعُ فَلَا خِداعا، ***وأَبْدى السَّيفُ عَنْ طَبَقٍ نُخاعا
وقيل: الطَّبَق فَقال الصُّلْبِ أَجمع، وَكُلُّ فَقار طَبَقة.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وتَبْقى أصْلابُ الْمُنَافِقِينَ طَبَقًا وَاحِدًا».
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ الأَصمعي الطَّبَقُ فَقار الظَّهْرِ، وَاحِدَتُهُ طَبَقَة وَاحِدَةٌ؛ يَقُولُ: فَصَارَ فَقارُهم كلُّه فَقارةً وَاحِدَةً فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى السُّجُودِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: «قَالَ لِمُعَاوِيَةَ وايْمُ اللَّهِ لَئِنْ مَلَكَ مَرْوانُ عِنان خَيْلٍ تَنْقَادُ لَهُ فِي عُثْمَانَ ليَرْكَبَنَّ مِنْكَ طَبَقًا تَخَافُهُ»، يُرِيدُ فَقار الظَّهْرِ، أَيْ ليَرْكبن مِنْكَ مَرْكبًا صَعْبًا وَحَالًا لَا يُمْكِنُكَ تَلافِيها، وَقِيلَ: أَراد بالطَّبَق الْمَنَازِلَ وَالْمَرَاتِبَ أَيْ لِيَرْكَبَنَّ مِنْكَ مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَةٍ فِي الْعَدَاوَةِ.
وَيُقَالُ: يدُ فلانٍ طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُنْبَسِطَةً ذَاتَ مَفَاصِلَ.
وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: «فَقَالَ لِرَجُلٍ قُمْ فَاضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الأَسير فَقَالَ: إِن يَدِي طَبِقَةٌ»؛ هِيَ الَّتِي لَصِقَ عَضُدُها بِجَنْبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَن يُحَرِّكَهَا.
وَفِي حَدِيثِ عمْران بْنِ حُصَيْن: «أَن غُلَامًا لَهُ أَبَقَ فَقَالَ لَئِنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لأَقطعن منه طابَقًَا [طابِقًَا] »، قَالَ: يُرِيدُ عُضْوًا.
الأَصمعي: كُلُّ مفصِل طَبَقٌ، وَجَمْعُهُ أَطبْاق، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي يُصِيبُ الْمَفْصِلَ مُطَبِّقٌ؛ وَقَالَ: " ويَحْمِيكَ باللِّين الحُسام المُطَبِّق وَقِيلَ فِي جَمْعِهِ طَوابِق.
قَالَ ثَعْلَبٌ: الطَّابِقُ والطَّابَقُ الْعُضْوُ مِنْ أَعْضَاءِ الإِنسان كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «إِنما أَمر فِي السَّارِقِ بِقَطْعِ طابِقِه أَيْ يَدِهِ».
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَخَبَزْتُ خُبْزًا وَشَوَيْتُ طابَقًا مِنْ شَاةٍ» أَي مِقْدَارَ مَا يأْكل مِنْهُ اثْنَانِ أَو ثَلَاثَةٌ.
والطَّبَقَةُ مِنَ الأَرض: شِبْهُ المَشارَة، وَالْجَمْعُ الطَّبَقات تَخْرُجُ بَيْنَ السُّلَحْفاة والهِرْهِرِ.
والمطَبِّقُ مِنَ السُّيُوفِ: الَّذِي يُصِيبُ المَفْصِل فيُبينُه "يُقَالُ طَبَّق السيفُ إِذا أَصاب المَفْصل فأَبان الْعُضْوَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ سَيْفًا: " يُصَمِّمُ أَحْيانًا وحِينًا يُطَبِّقُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ إِذَا أَصاب الْحُجَّةَ: إِنه يُطَبِّقُ الْمَفْصِلَ.
أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ لِلْبَلِيغِ مِنَ الرِّجَالِ: قَدْ طَبَّقَ الْمَفْصِلَ وردَّ قالَبَ الْكَلَامِ وَوَضَعَ الهِناء مَوَاضِعَ النُّقَب.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنه سأَل أَبا هُرَيْرَةَ عَنِ امرأَة غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَا تحلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَبَّقْتَ»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ" طَبَّقْتَ "أَراد أَصبتَ وَجْهَ الفُتْيا، وأَصله إِصابة الْمَفْصِلِ وَهُوَ طَبَقُ العظمينِ؛ أي مُلْتَقَاهُمَا فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قِيلَ لأَعضاء الشَّاةِ طَوابِقُ، وَاحِدُهَا طابَقٌ، فإِذا فَصَّلها الرَّجُلُ فَلَمْ يُخْطِئِ الْمَفَاصِلَ قِيلَ قَدْ طَبَّقَ؛ وأَنشد أَيضًا: " يُصمِّم أَحيانًا وحِينًا يُطَبِّقُ "وَالتَّصْمِيمُ: أَنْ يَمْضِيَ فِي الْعَظْمِ، والتَّطْبِيقُ: إِصابة الْمَفْصِلِ؛ قَالَ الرَّاعِي يَصِفُ إِبِلًا:
وطَبَّقْنَ عُرْضَ القُفِّ لَمَّا عَلَوْنَهُ، ***كَمَا طَبَّقَتْ فِي الْعَظْمِ مُدْيَةُ جازِرِ
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
لَقَدْ خَطَّ رُوميّ وَلَا زَعَماتِهِ ***لعُتْبَةَ خَطًّا، لَمْ تُطَبَّقْ مفاصلُه
وطَبَّقَ فُلَانٌ إِذَا أَصاب فَصَّ الْحَدِيثِ.
وطَبَّقَ السيفُ إِذا وَقَعَ بَيْنَ عَظْمَيْنِ.
والمُطَبِّقُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يُصِيبُ الأُمور برأْيه، وأَصله من ذلك.
المُطابِقُ مِنَ الْخَيْلِ والإِبل: الَّذِي يَضَعُ رِجْلَهُ مَوْضِعَ يَدِهِ.
وتَطْبِيقُ الْفَرَسِ: تَقْرِيبُهُ فِي العَدْو.
الأَصمعي: التَّطْبِيقُ أَن يَثِبَ البعيرُ فَتَقَعَ قَوَائِمُهُ بالأَرض مَعًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي يَصِفُ نَاقَةً نَجِيبَةً:
حَتَّى إِذا مَا اسْتَوى طَبَّقَتْ، ***كَمَا طَبَّقَ المِسْحَلُ الأَغْبَرُ
يَقُولُ: لَمَّا اسْتَوَى الرَّاكِبُ عَلَيْهَا طَبَّقَتْ؛ قَالَ الأَصمعي: وأَحسن الرَّاعِي فِي قَوْلِهِ:
وهْيَ إِذا قَامَ فِي غَرْزها، ***كمِثْل السَّفِينة أَو أَوْقَر
لأَن هَذَا مِنْ صِفَةِ النَّجَائِبِ، ثُمَّ أَساء فِي قَوْلِهِ طَبَّقَتْ لأَن النَّجِيبَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَن تُقَدِّمَ يَدًا ثُمَّ تُقَدِّمَ الأُخرى، فإِذا طَبَّقَتْ لَمْ تُحْمَد؛ قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: " حَتَّى إِذَا مَا استْوى فِي غَرْزها تَثِبُ "والمُطابَقَة: الْمَشْيُ فِي الْقَيْدِ وَهُوَ الرَّسْفُ.
والمُطابَقَةُ: أَن يَضَعَ الفرسُ رجلَه فِي مَوْضِعِ يَدِهِ، وَهُوَ الأَحَقُّ مِنَ الْخَيْلِ.
ومُطابَقَةُ الفرسِ فِي جَرْيِهِ: وَضْعُ رِجْلَيْهِ مَوَاضِعَ يَدَيْهِ.
والمُطابَقَةُ: مَشْيُ المقيَّد.
وبنَاتُ الطَّبَقِ: الدواهي، يقال لِلدَّاهِيَةِ إِحْدَى بَنَاتُ طَبَقٍ، وَيُقَالُ لِلدَّوَاهِي بَنَاتُ طَبَقٍ، وَيُرْوَى أَن أَصلها الْحَيَّةُ أَي أَنها اسْتَدَارَتْ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ الطَّبَقِ، وَيُقَالُ إِحْدَى بناتِ طَبَق شَرُّك عَلَى رأْسك، تَقُولُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ إِذا رأَى مَا يَكْرَهُهُ؛ وَقِيلَ: بنتُ طَبَقٍ سُلَحْفاةٌ، وتَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنها تَبِيضُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ بَيْضَةً كُلُّهَا سَلاحِفُ، وَتَبِيضُ بَيْضَةً تَنْقُفُ عَنْ أَسود، يُقَالُ: لَقِيتُ مِنْهُ بناتِ طَبَقٍ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ.
الأَصمعي: يُقَالُ جَاءَ بإِحدى بناتِ طَبَقٍ وأَصلها مِنَ الحيَّات، وَذَكَرَ الثَّعَالِبِيُّ أَن طَبَقًا حيَّة صَفْرَاءُ؛ ولمَّا نُعي المنصورُ إِلى خَلَف الأَحمر" أَنشأَ يَقُولُ:
قَدْ طَرَّقَتْ بِبِكْرِها أُمُّ طَبَقْ، ***فَذَمَّرُوهَا وَهْمَةً ضَخْم العُنُقْ،
موتُ الإِمامِ فِلْقَةٌ مِن الفِلَقْ "وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ لِلْحَيَّةِ أمُّ طَبَقٍ وبنتُ طَبَقٍ لتَرَحِّيها وتحَوّيها، وأَكثر التَّرحِّي للأَفْعى، وَقِيلَ: قِيلَ لِلْحَيَّاتِ بناتُ طَبَقٍ لإِطْبَاقها عَلَى مَنْ تَلْسَعُهُ، وَقِيلَ: إِنما قِيلَ لَهَا بناتُ طَبَقٍ لأَن الحَوَّاء يُمْسِكُهَا تَحْتَ أَطْبَاق الأَسْفاط المُجَلّدة.
وَرَجُلٌ طَبَاقَاءُ: أَحمق، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْكِحُ، وَكَذَلِكَ الْبَعِيرُ.
جَمَلٌ طَبَاقَاءُ: لِلَّذِي لَا يَضْرب.
والطَّبَاقاء: العَيِيُّ الثَّقِيلُ الَّذِي يُطْبِقُ عَلَى الطَّرُوقة أَو المرأَة بِصَدْرِهِ لِصِغَرِهِ؛ قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ:
طَبَاقَاءُ لَمْ يَشْهد خُصُومًا، وَلَمْ يُنِخْ ***قِلاصًا إِلَى أَكْوارها، حِينَ تُعْكَفُ
وَيُرْوَى عَيَاياءُ، وَهُمَا بِمَعْنًى؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
طَبَاقَاءُ لَمْ يَشْهَد خُصُومًا، وَلَمْ يَعِشْ ***حَميدًا، وَلَمْ يَشْهَدْ حَلَالًا وَلَا عَطِرَا
وَفِي حَدِيثِ أُم زَرْعٍ: «أَن إِحْدَى النِّسَاءِ وَصَفَتْ زَوْجَهَا فَقَالَتْ: زَوْجِي عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ وكل دَاءٍ له دَوَاءٌ»؛ قَالَ الأَصمعي: الطَّبَاقاء الأَحمق الفَدْم؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ المُطْبَقُ عَلَيْهِ حُمْقًا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أُموره مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِ؛ أي مُغَشَّاة، وقيل: هُوَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ فَتَنْطَبق شَفَتَاهُ.
والطَّابَقُ والطَّابِقُ: ظَرْف يُطْبَخُ فِيهِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْجَمْعُ طَوَابِق وطَوابِيق.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَما الَّذِينَ قَالُوا طَوابيق فإِنما جَعَلُوهُ تَكْسِيرَ فَاعَال، وإِن لَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِمْ، كَمَا قَالُوا مَلامِحُ.
والطَّابَقُ: نِصْفُ الشَّاةِ، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ طابِق وطابَق، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ عَنَى.
وَقَوْلُهُمْ: صَادَفَ شَنٌّ طَبَقَه؛ هُمَا قَبِيلَتَانِ شنُّ بْنِ أَفْصَى بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ وطَبَقٌ حَيٌّ مِنْ إِياد، وَكَانَتْ شَنّ لَا يُقَامُ لَهَا فَوَاقَعَتْهَا طَبَقٌ فَانْتَصَفَتْ مِنْهَا، فَقِيلَ: وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَه، وَافَقَهُ فَاعْتَنَقَهُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقِيَتْ شَنًّا إِيادٌ بالقَنَا ***طَبَقًا، وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَه
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَيْسَ الشَّنُّ هُنَا القِربَة لأَن الْقِرْبَةَ لَا طَبَقَ لَهَا.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ عَنِ الأَصمعي فِي هَذَا الْمَثَلِ: الشَّنُّ الْوِعَاءُ الْمَعْمُولُ مِنْ أَدَمٍ، فإِذا يَبِسَ فَهُوَ شَنّ، وَكَانَ قَوْمٌ لَهُمْ مِثْلُهُ فَتَشَنَّنَ فَجَعَلُوا لَهُ غِطَاءً فَوَافَقَهُ.
وَفِي كِتَابُ عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: كَمَا وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَه "؛ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ لِلْعَرَبِ يُضْرَبُ لِكُلِّ اثْنَيْنِ أَو أَمْرَيْنِ جَمَعَتْهُما حالةٌ وَاحِدَةٌ اتَّصف بِهَا كلٌّ مِنْهُمَا، وأَصله أَن شَنًّا وطَبَقَة حيَّان اتَّفَقَا عَلَى أَمر فَقِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ، لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيلَ ذَلِكَ لَهُ لَمَّا وَافَقَ شَكْلَهُ وَنَظِيرَهُ، وَقِيلَ: شَنٌّ رَجُلٌ مِنْ دُهَاة الْعَرَبِ وَطَبَقَةُ امْرَأَةٌ مِنْ جِنْسِهِ زُوجَتْ مِنْهُ وَلَهُمَا قِصَّةٌ.
التَّهْذِيبِ: والطَّبَقُ الدَّرَكُ مِنْ أَدراك جَهَنَّمَ.
ابْنُ الأَعرابي: الطِّبْقُ الدِّبْقُ.
والطَّبْق، بِفَتْحِ الطَّاءِ: الظُّلْمُ بِالْبَاطِلِ.
والطِّبْقُ: الْخُلُقُ الْكَثِيرُ: وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
كَأَنَّ أَيدِيَهُنَّ بالرَّغَامِ ***أَيْدي نَبِيط، طَبَقَى اللِّطَامِ
فَسَّرَهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ مُدَارِكُوهُ حَاذِقُونَ بِهِ، وَرَوَاهُ "ثَعْلَبٌ طَبِقِي اللِّطَامِ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَن مَعْنَاهُ لَازِقِي اللِّطَامِ بِالْمَلْطُومِ.
وأَتانا بَعْدَ طَبَقٍ مِنَ اللَّيْلِ وطَبيقٍ: أَراه يَعْنِي بَعْدَ حِينٍ، وَكَذَلِكَ مِنَ النَّهَارِ؛ وَقَوْلُ ابْنُ أَحمر:
وتَوَاهَقَتْ أَخفافها طَبَقًا، ***والظلُّ لَمْ يَفْضُلْ وَلَمْ يُكْرِ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَراه مِنْ هَذَا.
والطِّبْق: حَمْلُ شَجَرٍ بِعَيْنِهِ.
والطُّبَّاقُ: نَبْتٌ أَوْ شَجَرٌ.
قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الطُّبَّاقُ شَجَرٌ نَحْوُ الْقَامَةِ يَنْبُتُ مُتَجَاوِرًا لَا يَكَادُ يُرَى مِنْهُ وَاحِدَةٌ مُنْفَرِدَةً، وَلَهُ وَرَقٌ طِوَالٌ دِقَاقٌ خُضْرٌ تَتَلَزَّجُ إِذا غُمِزَ، وَلَهُ نَوْرٌ أَصفر مُجْتَمِعٌ؛ قَالَ تأَبط شَرًّا:
كأَنما حَثْحَثُوا حُصًّا قَوَادِمُهُ، ***أَو أُمَّ خِشْفٍ بِذِي شَثٍّ وطُبَّاقِ
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنه وَصَفَ مَنْ يَلي الأَمر بَعْدَ السُّفْيَانِيِّ فَقَالَ: يَكُونُ بَيْنَ شَثّ وطُبَّاقٍ "؛ والشَثُّ والطُّبَّاق: شَجَرَتَانِ معروفتان بناحية الحجار.
والحُمَّى المُطْبِقةُ: هِيَ الدَّائِمَةُ لَا تُفَارِقُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.
والطَّابَق والطَّابِق: الْآجُرُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ تحلَّبوا عَلَى ذَلِكَ الإِنسان طبَاقَاءَ، بِالْمَدِّ، أَي تَجَمَّعُوا كُلُّهُمْ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي عَمْرٍو النَّخَعِيِّ: «يَشْتَجِرُون اشْتِجَار أَطْباق الرأْس»أَي عِظَامِهِ فإِنها مُتَطابقة مُشْتبكة كَمَا تَشْتَبِكُ الأَصابع؛ أَراد التِحَام الْحَرْبِ وَالِاخْتِلَاطَ فِي الْفِتْنَةِ.
وَجَاءَ فُلَانٌ مُقْتَعِطًّا إِذا مُتَعَمِّمًا طَابِقِيًّا، وَقَدْ نُهِيَ عنها.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
79-لسان العرب (بجل)
بجل: التَّبجيل: التَّعْظِيمُ.بَجَّلَ الرجلَ: عَظَّمَه.
وَرَجُلٌ بَجَال وبَجِيل: يُبَجِّله الناسُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ السَّيِّدُ مَعَ جَمَال ونُبْل، وَقَدْ بَجُلَ بَجَالَة وبُجُولًا، وَلَا تُوصَفُ بِذَلِكَ المرأَة.
شَمِرٌ: البَجَال مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يُبَجِّله أَصحابه ويسوِّدونه.
والبَجِيل: الأَمر الْعَظِيمُ.
وَرَجُلٌ بَجَال: حَسَن الْوَجْهِ.
وَكُلُّ غَلِيظٍ مِنْ أَيِّ شيءٍ كَانَ: بَجِيل.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِقَتْلى أُحُد: لَقِيتُم خَيْرًا طَوِيلًا، ووُقِيتُم شَرًّا بَجِيلًا، وسَبَقْتم سَبْقًا طَوِيلًا».
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أَتَى الْقُبُورَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَصبتم خَيْرًا بَجِيلًا»أَي وَاسِعًا كَثِيرًا، مِنَ التَّبْجِيلِ التَّعْظِيمِ، أَو مِنَ البَجَال الضَّخْم.
وأَمر بَجِيل: مُنْكَر عَظِيمٌ.
والبَاجِل: المُخْصِب الحَسَنُ الْحَالِ مِنَ النَّاسِ والإِبل.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْكَثِيرِ الشَّحْمِ: إِنه لبَاجِل، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ وَالْجَمَلُ.
وَشَيْخٌ بَجَال وبَجِيل أَي جَسِيم؛ وَرَجُلٌ بَاجِل وَقَدْ بَجَلَ يَبْجُل بُجُولًا: وَهُوَ الحسَن الجَسيمُ الخَصيب فِي جِسْمه؛ وأَنشد: " وأَنت بالبابِ سَمِينٌ بَاجِل "وبَجِلَ الرجلُ بَجَلًا: حَسُنَتْ حَالُهُ، وَقِيلَ: فَرِحَ.
وأَبْجَله الشيءُ إِذا فَرِحَ بِهِ.
والأَبْجَلُ: عِرْق غَلِيظ فِي الرِّجْلِ، وَقِيلَ: هُوَ عِرْق فِي باطِنِ مَفْصِلِ السَّاقِ فِي المَأْبِض، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْيَدِ إِزَاءَ الأَكْحَل، وَقِيلَ: هُوَ الأَبْجَلُ فِي الْيَدِ، والنَّسا فِي الرِّجْلِ، والأَبْهَرُ فِي الظَّهْر، والأَخْدَع فِي العُنُق؛ قَالَ أَبو خِرَاشٍ:
رُزِئْتُ بَني أُمِّي، فَلَمَّا رُزِئْتُهم ***صَبَرْتُ، وَلَمْ أَقْطَعْ عَلَيْهِمْ أَبَاجِلي
والأَبْجَل: عِرْق وَهُوَ مِنَ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ بِمَنْزِلَةِ الأَكْحَل مِنَ الإِنسان.
قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: الأَبْجَل والأَكْحَل والصّافِنُ عُروق نُقْصَدُ، وَهِيَ مِنَ الْجَدَاوِلِ لَا مِنَ الأَوْرِدة.
اللَّيْثُ: الأَبْجَلان عِرْقان فِي الْيَدَيْنِ وَهُمَا في الأَكْحَلان مِنْ لَدُنِ المَنْكِب إِلى الكَتِف؛ وأَنشد: " عَارِي الأَشَاجِعِ لَمْ يُبْجَل أَي لَمْ يُفْصَد أَبْجَلُه.
وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: «أَنه رُمِيَ يَوْمَ الأَحزاب فَقَطَعُوا أَبْجَلَه»؛ الأَبْجَل: عِرْق فِي بَاطِنِ الذِّرَاعِ، وَقِيلَ: هُوَ عِرْقٌ غَلِيظٌ فِي الرِّجل فِيمَا بَيْنُ الْعَصَبِ وَالْعَظْمِ.
وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَهْزِئِينَ: «أَما الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ فأَوْمأَ جِبْرِيلُ إِلى أَبْجَله».
والبُجْل: البُهْتان الْعَظِيمُ، يُقَالُ: رَمَيْتُهُ ببُجْل؛ وَقَالَ أَبو دُوادٍ الإِيادي:
إمرَأَ القَيْسِ بْنَ أَرْوَى مُولِيا ***إِن رَآنِي لأَبُوأَنْ بسُبَد
قُلْتَ بُجْلًا قلتَ قوْلًا كَاذِبًا، ***إِنَّما يَمْنَعُني سَيْفي ويَد
قَالَ الأَزهري: وَغَيْرُهُ يَقُولُهُ بُجْرًا، بِالرَّاءِ، بِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ: وَلَمْ أَسمعه بِاللَّامِ لِغَيْرِ اللَّيْثِ، قَالَ: وأَرجو أَن تَكُونَ اللَّامُ لُغَةً، فإِن الرَّاءَ وَاللَّامَ مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ وَقَدْ تَعَاقَبَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
والبَجَلُ: العَجَب.
والبَجْلَة: الصَّغِيرَةُ مِنَ الشَّجَر؛ قال كثير:
وبِجِيد مُغْزِلَةٍ تَرُودُ بوَجْرَةٍ ***بَجَلاتِ طَلْحٍ، قَدْ خُرِفْنَ، وضَالِ
وبَجَلِي كَذَا وبَجَلِي أَي حَسْبي؛ قَالَ لَبِيدٌ: " بَجَلِي الآنَ مِنَ العَيْشِ بَجَل "قَالَ اللَّيْثَ: هُوَ مَجْزُومٌ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى حَرَكَاتِ الْجِيمِ وأَنه لَا يَتَمَكَّنُ فِي التَّصْرِيفِ.
وبَجَلْ: بِمَعْنَى حَسْب؛ قَالَ الأَخفش هِيَ سَاكِنَةٌ أَبدًا.
يَقُولُونَ: بَجَلْك كَمَا يَقُولُونَ قَطْك إِلا أَنهم لَا يَقُولُونَ بَجَلْني كَمَا يَقُولُونَ قَطْني، وَلَكِنْ يَقُولُونَ بَجَلِي وبَجْلِي أَي حَسْبي، قَالَ لَبِيدٌ:
فَمَتى أَهْلِكْ فَلَا أَحْفِلُه، ***بَجَلي الآنَ مِنَ العَيْشِ بَجَل
وَفِي حَدِيثِ لُقْمان بْنِ عَادٍ حِينَ وَصَفَ إِخْوته لامرأَة كَانُوا خَطَبوها، فَقَالَ لقمانُ فِي أَحدهم: «خُذي مِنِّي أَخي ذَا البَجَل»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةُ: مَعْنَاهُ الحَسْبُ والكِفَاية؛ قَالَ: وَوَجْهُهُ أَنه ذَمَّ أَخاه وأَخبر أَنه قَصير الهِمَّة وأَنه لَا رَغْبَة لَهُ فِي مَعالي الأُمور، وَهُوَ راضٍ بأَن يُكْفَى الأُمور ويكونَ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَيَقُولُ حَسْبي مَا أَنا فِيهِ؛ وأَما" قَوْلُهُ فِي أَخيه الْآخَرِ: خُذِي مِنِّي أَخي ذَا البَجْلة يَحْمِلُ ثِقْلي وثِقْله "، فإِن هَذَا مَدْحٌ لَيْسَ مِنَ الأَوَّل، يُقَالُ: ذُو بَجْلة وَذُو بَجَالة، وَهُوَ الرُّوَاءُ والحُسْن والحَسَب والنُّبْل، وَبِهِ سُمِّي الرَّجُلُ بَجَالة.
وإِنه لَذُو بَجْلة أَي شَارَةٍ حَسَنَة، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ أَلْقابًا لَهُمْ، وَقِيلَ: البَجَال الَّذِي يُبَجِّله النَّاسُ أَي يُعَظِّمُونَهُ.
الأَصمعي فِي قَوْلِهِ خُذِي مِنِّي أَخي ذَا البَجَل: رَجُلٌ بَجَالٌ وبَجيل إِذا كَانَ ضَخْمًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " شَيْخًا بَجَالًا وغُلامًا حَزْوَرَا "وَلَمْ يُفَسِّرْ قَوْلَهُ أَخي ذَا الْبَجْلَةِ، وكأَنه ذَهَبَ بِهِ إِلى مَعْنَى البَجَل.
اللَّيْثُ: رَجُلٌ ذُو بَجَالة وبَجْلة وَهُوَ الكَهْل الَّذِي تَرَى لَهُ هَيئة وتَبْجِيلًا وسِنًّا، وَلَا يُقَالُ امرأَة بَجَالة.
الْكِسَائِيُّ: رَجُلٌ بَجَال كَبِيرٌ عَظِيمٌ.
أَبو عَمْرٍو: البَجَال الرَّجُلُ الشَّيْخُ السَّيِّدُ؛ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ، وَهُوَ أَحد المُعَمَّرين:
أَبَنِيَّ، إِن أَهْلِكْ فإِني ***قَدْ بَنَيْتُ لَكُمْ بَنيَّه
وجَعَلْتُكُم أَوْلادَ سادات، ***زِنادُكُمْ وَرِيّه
مِنْ كُلِّ مَا نالَ الفَتَى ***قَدْ نِلْتُه، إِلا التَّحِيّه
فالمَوْتُ خَيْرٌ للفَتَى، ***فَليَهْلِكَنْ وَبِهِ بَقِيّه،
مِن أَن يَرَى الشَّيخ البَجَالَ ***يُقادُ، يُهْدَى بالعَشِيّه
ولَقَدْ شَهِدْتُ النارَ لِلْأَسْلافِ ***تُوقَد فِي طَمِيّه
وخَطَبْتُ خُطْبَة حازِمٍ، ***غَيْرِ الضعيفِ وَلَا العَيِيّه
ولقدْ غَدَوْتُ بمُشرِف الحَجَباتِ ***لَمْ يَغْمِزْ شَظِيّه
فأَصَبْتُ من بَقَر الحباب، ***وصِدتُ مِنْ حُمُر القفِيّه
ولقد رَحَلْت البازِلَ الكَوْماءَ، ***لَيْسَ لَهَا وَلِيّه
فَجَعَلَ قَوْلَهُ يُهْدَى بالعَشِيّة حَالًا ليُقاد كأَنه قَالَ يُقاد مَهْدِيًّا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ ويُهْدَى بِالْوَاوِ.
وَقَدْ أَبْجَلَنِي ذَلِكَ أَي كَفاني؛ قَالَ الْكُمَيْتُ يَمْدَحُ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ عَنْبَسَة بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ:
وعَبْدُ الرَّحيم جِمَاعُ الأُمُور، ***إِليه انْتَهى اللَّقَمُ المُعْمَلُ
إِليه مَوارِدُ أَهلِ الخَصَاص، ***ومِنْ عِنْدَهُ الصَّدَرُ المُبْجِلُ
اللَّقَم: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، والمُعْمَل: الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ سَيْرُ النَّاسِ، والمَوارِدُ: الطُّرُقُ، وَاحِدَتُهَا مَوْرِدَةٌ؛ وأَهل الخَصاص: أَهْلُ الْحَاجَةِ، وجِماعُ الأُمور: تَجتمع إِليه أُمور النَّاسِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ بَجَلَك دِرْهَمٌ وبَجْلُك درهمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فأَلقى تَمَراتٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ: بَجَلي مِنَ الدُّنْيَا»أَي حَسْبي مِنْهَا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَوْمَ الجَمَل:
نَحْنُ بَني ضَبَّة أَصحابُ الجَمَل، ***رُدُّوا عَلَيْنا شَيْخَنا ثُمَّ بَجَل
أَي ثمَّ حَسْبُ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
مَعاذَ العَزيز اللَّهِ أَنْ يُوطِنَ الهَوَى ***فُؤَادِيَ إِلْفًا، لَيْسَ لِي بِبَجِيل
فَسَّرَهُ فَقَالَ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ بَجَلِي كَذَا أَي حَسْبي، وَقَالَ مُرَّةُ: لَيْسَ بمُعَظِّم لِي، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ مُرَّةُ: لَيْسَ بِعَظِيمِ الْقَدْرِ مُشْبِه لِي.
وبَجَّلَ الرجلَ: قَالَ لَهُ بَجَلْ أَي حَسْبُك حَيْثُ انْتَهَيْتَ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمِنْهُ اشْتَقَّ الشَّيْخُ البَجَال وَالرَّجُلُ البَجِيل والتَّبْجِيل.
وبَجِيلَة: قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ وَالنِّسْبَةِ إِليهم بَجَلِيٌّ، بِالتَّحْرِيكِ، وَيُقَالُ إِنهم مِنْ مَعَدّ لأَن نِزَارَ بْنَ مَعَدّ وَلَدَ مُضَرَ وربيعة وإِيادًا وأَنمارًا ثُمَّ إِن أَنمارًا وَلَد بَجِيلَة وخَثْعَم فَصَارُوا بِالْيَمَنِ؛ أَلا تَرَى أَن جَرِيرَ بْنَ عبدِ اللَّهِ البَجَلِيّ نَافِرٌ رَجُلًا مِنَ اليَمَن إِلى الأَقْرَع بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمي حَكَم الْعَرَبَ فَقَالَ:
يَا أَقْرَعُ بنَ حابسٍ يَا أَقْرَعُ ***إِنك إِن يُصْرَعْ أَخُوك تُصْرَعُ
فَجَعَلَ نَفْسَهُ لَهُ أَخًا، وَهُوَ مَعَدِّيٌّ، وإِنما رَفَعَ تُصْرَع وحقُّه الْجَزْمُ عَلَى إِضمار الْفَاءِ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ، اللهُ يشكرُها، ***والشَّرُّ بالشرِّ عندَ اللَّهِ مِثْلانِ
أَيْ فَاللَّهُ يَشْكُرُهَا، وَيَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ كَلَامًا مبتدأً، وكان سيبوبه يَقُولُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ كأَنه قَالَ إِنك تُصْرع إِن يَصْرَعْ أَخوك، وأَما الْبَيْتُ الثَّانِي فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنه مَرْفُوعٌ بإِضمار الْفَاءِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَذَكَرَ ثَعْلَبٌ أَن هَذَا الْبَيْتَ لِلْحُصَيْنِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَالْمَشْهُورُ أَنه لِجَرِيرٍ.
وبَنُو بَجْلَة: حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ؛ وَقَوْلُ عَمْرٍو ذِي الْكَلْبِ:
بُجَيْلَةُ يَنْذِروا رَمْيِي وفَهْمٌ، ***كَذَلِكَ حالُهم أَبَدًا وَحَالِي
إِنما صَغَّر بَجْلَة هَذِهِ القبيلَة.
وَبَنُو بَجَالَة: بَطْنٌ مِنْ ضَبَّة.
التَّهْذِيبُ: بَجْلَة حَيٌّ مِنْ قَيْسِ عَيْلانَ.
وبَجْلَة: بَطْنٌ مِنْ سُلَيْم، وَالنِّسْبَةُ إِليهم بَجْليٌّ، بِالتَّسْكِينِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وآخَر مِنْهُمْ أَجْرَرْتُ رُمْحي، ***وَفِي البَجْلِيِّ مِعْبَلَةٌ وَقيعُ
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
80-لسان العرب (حوا)
حوا: الحُوَّةُ: سَوَادٌ إِلى الخُضْرة، وَقِيلَ: حُمْرةٌ تَضْرب إِلى السَّواد، وَقَدْ حَوِيَ حَوىً واحْوَاوَى واحْوَوَّى، مُشَدَّدٌ، واحْوَوى فَهُوَ أَحْوَى، وَالنَّسَبُ إِليه أَحْوِيٌّ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ سِيبَوَيْهِ إِنما ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي احْوَوَيْت واحْوَاوَيْت حَيْثُ كَانَتَا وَسَطًا، كَمَا أَنَّ التَّضْعِيفَ وَسَطًا أَقوى نَحْوُ اقْتَتل فَيَكُونُ عَلَى الأَصل، وإِذا كَانَ مِثْلُ هَذَا طَرَفًا اعْتَلَّ، وَتَقُولُ فِي تَصْغِيرِ يَحْيَى يُحَيٌّ، وَكُلُّ اسْمٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ ياءَات أَولهن يَاءُ التَّصْغِيرِ فإِنك تَحْذِفُ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، فإِن لَمْ يَكُنْ أَولهن يَاءَ التَّصْغِيرِ أَثْبَتَّهُنَّ ثَلاثَتَهُنَّ، تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ حَيَّة حُيَيَّة، وَفِي تَصْغِيرِ أَيُّوب أُيَيِّيبٌ بأَربع ياءَات، واحْتَملَت ذَلِكَ لأَنها فِي وَسَطِالِاسْمِ وَلَوْ كَانَتْ طَرَفًا لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهُنَّ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَمِنْ قَالَ احْواوَيْت فالمصدر احْوِيَّاءٌ لأَن الْيَاءَ تَقْلِبُهَا كَمَا قَلَبت واوَ أيَّام، وَمَنْ قَالَ احْوَوَيْت فَالْمَصْدَرُ احْوِوَاء لأَنه لَيْسَ هُنَالِكَ مَا يَقْلِبُهَا كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي احْوِيَّاء، وَمَنْ قَالَ قِتَّال قَالَ حِوَّاء، وَقَالُوا حَوَيْت فصَحَّت الْوَاوُ بِسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَهَا.الْجَوْهَرِيُّ: الحُوَّة لَوْنٌ يُخَالِطُهُ الكُمْتَة مِثْلُ صَدَإ الْحَدِيدِ، والحُوَّة سُمْرة الشَّفَةِ.
يُقَالُ: رَجُلٌ أَحْوَى وامرأَة حَوَّاءُ وَقَدْ حَوِيَتْ.
ابْنُ سِيدَهْ: شَفَة حَوَّاءُ حَمْراء تَضْرِب إِلَى السَّوَادِ، وَكَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى سَمَّوْا كُلَّ أَسود أَحْوَى؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
كَمَا رَكَدَتْ حَوَّاءُ، أُعْطي حُكْمَه ***بِهَا القَيْنُ، مِنْ عُودٍ تَعَلَّلَ جاذِبُهْ
يَعْنِي بالحَوَّاءِ بكَرَة صُنِعَتْ مِنْ عُودٍ أَحْوَى أَي أَسود، ورَكَدَتْ: دَارَتْ، وَيَكُونُ وَقَفَتْ، وَالْقَيْنُ: الصَّانِعُ.
التَّهْذِيبِ: والحُوَّةُ فِي الشِّفاهِ شَبيه باللَّعَسِ واللَّمَى؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
لَمْياءُ فِي شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ، ***وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنيابِها شَنَبُ
وَفِي حَدِيثِ أَبي عَمْرٍو النَّخَعِيِّ: « ولَدَتْ جَدْيًا أَسْفَعَ أَحْوَى »أَي أَسود لَيْسَ بِشَدِيدِ السَّوَادِ.
واحْوَاوَتِ الأَرض: اخْضَرَّت.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَتَقْدِيرُهُ افْعالَت كاحْمارَتْ، وَالْكُوفِيُّونَ يُصَحِّحون ويُدغمون وَلَا يُعِلُّون فَيَقُولُونَ احْوَاوَّت الأَرض واحْوَوَّت؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ قَوْلُ الْعَرَبِ احْوَوَى عَلَى مِثَالِ ارْعَوَى وَلَمْ يَقُولُوا احْوَوَّ.
وجَمِيمٌ أَحْوَى: يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ مِنْ شِدَّةِ خُضْرته، وَهُوَ أَنعم مَا يَكُونُ مِنَ النَّبَاتِ.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ مِمَّا يُبَالِغُونَ بِهِ.
الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى}، قَالَ: إِذَا صَارَ النَّبْتُ يَبِيسًا فَهُوَ غُثاءٌ، والأَحْوَى الَّذِي قَدِ اسودَّ مِنَ القِدَمِ والعِتْقِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَيضًا أَخْرَجَ المَرْعَى أَحْوى أَي أَخضر فَجَعَلَهُ غُثاءً بَعْدَ خُضْرته فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ.
والأَحْوَى: الأَسود مِنَ الخُضْرة، كَمَا قَالَ: مُدْهامَّتانِ.
النَّضْرُ: الأَحْوَى مِنَ الْخَيْلِ هُوَ الأَحْمر السَّرَاة.
وَفِي الْحَدِيثِ: « خَيْرُ الخَيْلِ الحُوُّ »؛ جَمْعُ أَحْوَى وَهُوَ الكُمَيت الَّذِي يَعْلُوهُ سَوَادٌ.
والحُوَّة: الكُمْتة.
أَبو عُبَيْدَةَ: الأَحْوَى هُوَ أَصْفَى مِنَ الأَحَمِّ، وَهُمَا يَتَدانَيانِ حَتَّى يَكُونَ الأَحْوَى مُحْلِفًا يُحْلَفُ عَلَيْهِ أَنه أَحَمُّ.
وَيُقَالُ: احْوَاوَى يَحْوَاوِي احْوِيوَاءً.
الْجَوْهَرِيُّ: احْوَوَى الْفَرَسُ يَحْوَوِي احْوِوَاءً، قَالَ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ حَوِيَ يَحْوَى حُوَّة؛ حَكَاهُ عَنِ الأَصمعي فِي كِتَابِ الْفَرَسِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: احْوَوَّى، بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ غَلَطٌ، قَالَ: وَقَدْ أَجمعوا عَلَى أَنه لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِهِمْ فِعْل فِي آخِرِهِ ثَلَاثَةُ أَحرف مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ابْيَضَضَّ؛ وأَنشدوا: " فالْزَمي الخُصَّ واخْفِضي تَبْيَضِضِّي أَبو خَيْرَةَ: الحُوُّ مِنَ النَّمْلِ نَمْلٌ حُمْرٌ يُقَالُ لَهَا نَمْلُ سُلَيْمَانَ.
والأَحْوَى: فَرَسُ قُتَيْبَة بنِ ضِرار.
والحُوَّاء: نَبْتٌ يُشْبِهُ لَوْنَ الذِّئبِ، وَاحِدَتُهُ حُوَّاءَةٌ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الحُوَّاءَةُ بَقْلَةٌ لَازِقَةٌ بالأَرض، وَهِيَ سُهْلِيَّة وَيَسْمُو مِنْ وَسَطِهَا قَضِيبٌ عَلَيْهِ وَرَقٌ أَدق مِنْ وَرَقِ الأَصل، وَفِي رأْسه بُرْعُومة طَوِيلَةٌ فِيهَا بِزْرُهَا.
والحُوَّاءة: الرَّجُلُ اللَّازِمُ بَيْتَهُ، شُبِّهَ بِهَذِهِ النَّبْتَةِ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: هُمَا حُوَّاءَانِ أَحدهما حُوَّاء الذَّعاليق وَهُوَ حُوَّاءُ البَقَر وَهُوَ مِنْ أَحْرار الْبُقُولِ، "وَالْآخَرُ حُوَّاء الْكِلَابِ وَهُوَ مِنَ الذُّكُورِ يَنْبُتُ فِي الرِّمْثِ خَشِنًا؛ وَقَالَ: " كَمَا تَبَسَّم للحُوَّاءةِ الجَمَل "وَذَلِكَ لأَنه لَا يَقْدِرُ عَلَى قَلْعها حَتَّى يَكْشِرَ عَنْ أَنيابه لِلُزُوقِهَا بالأَرض.
الْجَوْهَرِيُّ: وَبَعِيرٌ أَحْوَى إِذَا خَالَطَ خُضْرتَه سوادٌ وَصُفْرَةٌ.
قَالَ: وَتَصْغِيرُ أَحْوَى أُحَيْوٍ فِي لُغَةِ مَنْ قَالَ أُسَيْود، وَاخْتَلَفُوا فِي لُغَةِ مَنْ أَدغم فَقَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ أُحَيِّيٌ فصَرَف، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا خطأٌ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَصُرِفَ أَصَمُّ لأَنه أَخف مِنْ أَحْوى وَلَقَالُوا أُصَيْمٌ فَصَرَفُوا، وَقَالَ أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فِيهِ أُحَيْوٍ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَوْ جَازَ هَذَا لَقُلْتَ فِي عَطَاءٍ عُطَيٌّ، وَقِيلَ: أُحَيٌّ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالصَّوَابُ.
وحُوّة الْوَادِي: جَانِبُهُ.
وحَوَّاءُ: زَوْجُ آدَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، والحَوَّاء: اسْمُ فَرَسِ عَلْقَمَةَ بْنِ شِهَابٍ.
وحُوْ: زَجْرٌ لِلْمَعْزِ، وَقَدْ حَوْحَى بِهَا.
والحَوُّ والحَيُّ: الْحَقُّ.
واللَّوُّ واللَّيُّ: الْبَاطِلُ.
وَلَا يَعْرِفُ الحَوَّ منَ اللَّوِّ أَي لَا يَعْرِفُ الْكَلَامَ البَيِّن مِنَ الخَفِيِّ، وَقِيلَ: لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
أَبو عَمْرٍو: الحَوّة الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ.
والحُوَّة: مَوْضِعٌ بِبِلَادِ كَلْبٍ؛ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ:
أَوْ ظَبْية مِنْ ظِباءِ الحُوَّةِ ابْتَقَلَتْ ***مَذانِبًا، فَجَرَتْ نَبْتًا وحُجْرَانا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي فِي شِعْرِ ابْنِ الرِّقَاعِ فُجِرَتْ، والحُجْران جَمْعُ حَاجِرٍ مِثْلُ حائِر وحُوران، وَهُوَ مِثْلُ الْغَدِيرِ يُمْسِكُ الْمَاءَ.
والحُوَّاء، مِثْلُ المُكَّاء: نَبْتٌ يُشْبِهُ لَوْنَ الذِّئْبِ، الواحِدة حُوّاءَةٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ شَاهِدُهُ قوله الشَّاعِرِ:
وكأنَّما شَجَر الأَراك لِمَهْرَةٍ ***حُوَّاءَةٌ نَبَتَتْ بِدارِ قَرارِ
وحُوَيُّ خَبْتٍ: طَائِرٌ؛ وأَنشد:
حُوَيَّ خَبْتٍ أَينَ بِتَّ اللَّيلَهْ؟ ***بِتُّ قَرِيبًا أَحْتَذِي نُعَيْلَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
كأنَّك فِي الرِّجَالِ حُوَيُّ خَبْتٍ ***يُزَقّي فِي حُوَيّاتٍ بِقَاعِ
وحَوَى الشيءَ يحوِيه حَيًّا وحَوَايَةً واحْتَواه واحْتَوَى عَلَيْهِ: جمَعَه وأَحرزه.
واحْتَوَى عَلَى الشَّيْءِ: أَلْمَأَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن امرأَة قَالَتْ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ حِواءً »؛ الحِوَاءُ: اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي الشَّيْءَ أَي يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَيَّ فِي مَالِي شيءٌ إِذَا أَدّيْت زَكاتَه؟ قَالَ: فأَينَ مَا تَحَاوتْ عليكَ الفُضُول؟ »هِيَ تفاعَلَت مِنْ حَوَيْت الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتَهُ؛ يَقُولُ: لَا تَدَع المُواساة مِنْ فَضْلِ مَالِكَ، والفُضُول جَمْعُ فَضْل المالِ عَنِ الْحَوَائِجِ، وَيُرْوَى: تَحَاوَأتْ، بِالْهَمْزِ، وَهُوَ شَاذٌّ مِثْلُ لَبَّأتُ بالحَجِّ.
والحَيَّة: مِنَ الْهَوَامِّ مَعْرُوفَةٌ، تَكُونُ لِلذَّكَرِ والأُنثى بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي تَرْجَمَةِ حَيَا، وَهُوَ رأْي الْفَارِسِيِّ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَذَكَرْتُهَا هُنَا لأَن أَبا حَاتِمٍ ذَهَبَ إِلَى أَنها مِنْ حَوَى قَالَ لتَحَوِّيها فِي لِوَائِها.
وَرَجُلٌ حَوَّاءٌ وحاوٍ: يَجْمَعُ الحَيَّات، قَالَ: وَهَذَا يُعَضِّدُ قَوْلَ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا.
وحَوى الحَيَّةِ: انْطِوَاؤُهَا؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لأَبي عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ:
طَوَى نفْسَه طَيَّ الحَرير، كأَنه ***حَوَى حَيَّةٍ فِي رَبْوَةٍ، فهْو هاجِعُ
وأَرضٌ مَحْوَاة: كَثِيرَةُ الحَيَّاتِ.
قَالَ الأَزهري: اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ.
والحَوِيَّةُ: كِسَاءٌ يُحَوَّى حَوْلَ سنامِ الْبَعِيرِ ثُمَّ يُرْكَبُ.
الْجَوْهَرِيُّ: الحَوِيّة كِسَاءٌ مَحْشُوٌّ حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ وَهِيَ السَّويَّة.
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الجُمَحِي يَوْمَ بَدْرٍ وحُنَينٍ لَمَّا نَظَرَ إِلَى أَصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحَزَرَهُم وأَخْبر عَنْهُمْ: رأَيت الحَوايا عَلَيْهَا المَنايا نَواضِحُ يثربَ تَحْمِل الموتَ النَّاقِعَ.
والحَوِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا للجِمال، والسَّوِيَّة قَدْ تَكُونُ لِغَيْرِهَا، وَهِيَ الحَوَايا.
ابْنُ الأَعرابي: الْعَرَبُ تَقول المَنايا عَلَى الحَوَايا أَي قَدْ تأْتي المنيةُ الشجاعَ وَهُوَ عَلَى سَرْجه.
وَفِي حَدِيثِ صَفيَّة: « كَانَتْ تُحَوِّي وراءَه بِعَبَاءَةٍ أَو كِسَاءٍ »؛ التَّحْوِيةُ: أَن تُدير كِسَاءً حولَ سَنام الْبَعِيرِ ثُمَّ تَرْكَبَه، وَالِاسْمُ الحَوِيّةُ.
والحَوِيّةُ: مَرْكَبٌ يُهَيّأ للمرأَة لِتَرْكَبَهُ، وحَوَّى حَوِيَّة عَمِلَها.
والحَوِيَّةُ: اسْتدارة كُلِّ شَيْءٍ.
وتَحَوَّى الشيءُ: استدارَ.
الأَزهري: الحَوِيُّ اسْتِدَارَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَحَوِيِّ الحَيَّة وكَحَوِيِّ بَعْضِ النُّجُومِ إِذَا رأَيتها عَلَى نَسَقٍ واحدٍ مُستديرة.
ابْنُ الأَعرابي: الحَوِيُّ الْمَالِكُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقٍ، والحَوِيُّ العَلِيلُ، والدَّوِيُّ الأَحمق، مُشَدَّدَاتٌ كُلُّهَا.
الأَزهري: والحَوِيُّ أَيضًا الْحَوْضُ الصَّغِيرُ يُسَوِّيه الرجلُ لِبَعِيرِهِ يَسْقِيهِ فِيهِ، وَهُوَ المَرْكُوُّ.
يُقَالُ: قَدِ احتَوَيْتُ حَوِيًّا.
والحَوَايا: الَّتِي تَكُونُ فِي القِيعانِ فَهِيَ حَفَائِرُ مُلْتوية يَمْلَؤها ماءُ السَّمَاءِ فَيَبْقَى فِيهَا دَهْرًا طَوِيلًا، لأَن طِينَ أَسفلها عَلِكٌ صُلْبٌ يُمْسِكُ الماءَ، وَاحِدَتُهَا حَوِيَّة، وَتُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الأَمْعاء تَشْبِيهًا بحَوايا الْبَطْنِ يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءُ.
وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: الحَوايا المَساطِحُ، وَهُوَ أَن يَعْمِدوا إِلَى الصَّفا فَيَحْوُونَ لَهُ تُرَابًا وَحِجَارَةً تَحْبِسُ عَلَيْهِمُ الماءَ، وَاحِدَتُهَا حَوِيَّة.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الحَوَايا آبَارٌ تُحْفَرُ بِبِلَادِ كَلْب فِي أَرض صُلْبة يُحْبس فِيهَا مَاءُ السُّيُولِ يَشْرَبُونَهُ طُولَ سَنَتِهِمْ؛ عَنِ ابْنِ خَالَوَيْهِ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والحَوِيَّة صَفَاةٌ يُحاط عَلَيْهَا بِالْحِجَارَةِ أَو التُّرَابِ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ.
والحَوِيَّة والحاوِيَةُ والحاوِيَاء: مَا تَحَوَّى مِنَ الأَمعاء، وَهِيَ بَناتُ اللَّبَن، وَقِيلَ: هِيَ الدُّوَّارة مِنْهَا، وَالْجَمْعُ حَوَايا، تَكُونُ فَعَائل إِنْ كَانَتْ جَمْعَ حَوِيَّة، وفَواعل إِنْ كَانَتْ جَمْعَ حاوِيَةٍ أَو حاوِياءَ.
الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}؛ هِيَ المَباعِرُ وبناتُ اللَّبَنِ.
ابْنُ الأَعرابي: الحَوِيَّة والحَاوِيَةُ واحد، وَهِيَ الدُّوَّارة الَّتِي فِي بَطْنِ الشَّاةِ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: الحَاوِياتُ بَنات اللَّبَنِ، يُقَالُ حَاوِيَةٌ وحَاوِياتٌ وحَاوِيَاء، مَمْدُودٌ.
أَبو الْهَيْثَمِ: حاوِيَةٌ وحَوايا مِثْلُ زَاوِيَةٍ وزَوايا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَوِيَّة وحَوايا مِثْلُ الحَوِيَّة الَّتِي تُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ وَيُرْكَبُ فَوْقَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِوَاحِدَتِهَا حاوِياءُ، وَجَمْعُهَا حَوايا؛ قَالَ جَرِيرٌ:
تَضْغُو الخَنانِيصُ، والغُولُ الَّتِي أَكَلَتْ ***فِي حاوِياءَ دَرُومِ الليلِ مِجْعار
الْجَوْهَرِيُّ: حَوِيَّة الْبَطْنِ وحَاوِيَة البَطْنِ وحَاوِيَاءُ الْبَطْنِ كُلُّهُ بِمَعْنًى؛ قَالَ جَرِيرٌ:
كأنَّ نَقيقَ الحَبِّ فِي حاوِيَائِه ***نقِيقُ الأَفاعي، أَو نقِيقُ العَقارِبِ
وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِعَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ:
أَضْرِبُهم وَلَا أَرى مُعاويَهْ ***الجاحِظَ العَينِ، العَظيمَ الحاوِيَهْ
وَقَالَ آخَرُ: ومِلْحُ الوَشِيقَةِ فِي الحَاوِيَهْ "يَعْنِي اللَّبَنَ.
وَجَمْعُ الحَوِيَّةِ حَوَايا وَهِيَ الأَمعاء، وَجَمْعُ الحَاوِياءِ حَوَاوٍ عَلَى فَوَاعِلَ، وَكَذَلِكَ جَمْعُ الحَاوِيَة؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: حَوَاوٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لأَنه يَجِبُ قَلْبُ الْوَاوِ الَّتِي بَعْدَ أَلف الْجَمْعِ هَمْزَةً، لِكَوْنِ الأَلف قَدِ اكْتَنَفَهَا وَاوَانِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي جَمْعِ شاوِيَة شَوَايا وَلَمْ يَقُولُوا شَوَاوٍ، وَالصَّحِيحُ أَن يُقَالَ فِي جَمْعِ حَاوِيَة وحَاوِياءَ حَوَايا، وَيَكُونُ وَزْنُهَا فَواعِلَ، وَمَنْ قَالَ فِي الْوَاحِدَةِ حَوِيَّة فَوَزْنُ حَوَايا فَعائِل كصَفِيّة وصَفايا، وَاللَّهُ أَعلم.
اللَّيْثُ: الحِوَاءُ أَخْبِيَةٌ يُدَانَى بعضُها مِنْ بَعْضٍ، تَقُولُ: هُمْ أَهل حِوَاءٍ وَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لمُجتمَعِ بُيُوتِ الحَيِّ مُحْتَوًى ومَحْوًى وحِوَاء، وَالْجَمْعُ أَحْوِيَةٌ ومَحاوٍ؛ وَقَالَ:
ودَهْماء تستَوْفي الجَزُورَ كأَنَّها، ***بأَفْنِيَةِ المَحوَى، حِصانٌ مُقَيَّد
ابْنُ سِيدَهْ: والحِوَاءُ والمُحَوَّى كِلَاهُمَا جَمَاعَةُ بُيُوتِ النَّاسِ إِذَا تَدَانَتْ، وَالْجَمْعُ الأَحْوِيَة، وَهِيَ مِنَ الوَبَر.
وَفِي حَدِيثِ قَيْلَة: « فوَأَلْنا إِلَى حِوَاءٍ ضَخْمٍ »، الحِوَاءُ: بُيُوتٌ مُجْتَمِعَةٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى ماءٍ، ووَأَلْنا؛ أي لَجَأْنا؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: " ويُطلَبُ فِي الحِواء العظيمِ الكاتِبُ فَمَا يُوجَدُ.
والتَّحْوِيَة: الانْقِباض؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذِهِ عِبَارَةُ اللِّحْيَانِيِّ، قَالَ: وَقِيلَ لِلْكَلْبَةِ مَا تَصْنَعِينَ معَ الليلةِ المَطِيرَة؟ فَقَالَتْ: أُحَوِّي نَفْسِي وأَجْعَلُ نفَسي عِندَ اسْتي.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ التَّحَوِّيَ الانقباضُ، والتَّحْوِيَةُ القَبْض.
والحَوِيَّةُ: طَائِرٌ صَغِيرٌ؛ عَنْ كُرَاعٍ.
وتَحَوَّى أَي تَجَمَّع واستدارَ.
يُقَالُ: تَحَوَّت الحَيَّة.
والحَواةُ: الصوتُ كالخَوَاةِ، وَالْخَاءُ أَعلى.
وحُوَيٌّ: اسمٌ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ لِبَعْضِ اللُّصُوصِ:
تقولُ، وَقَدْ نَكَّبْتُها عَنْ بلادِها: ***أَتَفْعَلُ هَذَا يَا حُوَيُّ عَلَى عَمْدِ؟
وَفِي حَدِيثِ أنَس: « شَفَاعَتِي لأَهلِ الكَبائِر مِنْ أُمَّتي حتى حَكَمٍ وحاءٍ »؛ هُمَا حَيَّانِ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ وَرَاءِ رمْل يَبْرينَ؛ قَالَ أَبو مُوسَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَا مِنَ الحُوَّة، وَقَدْ حُذِفت لامُه، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنْ حَوَى يَحْوي، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَقْصُورًا لَا مَمْدُودًا.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والحاءُ حَرْفُ هِجَاءٍ، قَالَ: وَحَكَى صَاحِبُ الْعَيْنِ حَيَّيْتُ حَاءً، فَإِذَا كَانَ هَذَا فَهُوَ مِنْ بَابِ عَيَّيْتُ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ صَنْعَةٌ لَا عَرَبِيَّةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَضَيْتُ عَلَى الأَلف أَنَّهَا وَاوٌ لأَن هَذِهِ الْحُرُوفَ وَإِنْ كَانَتْ صَوْتًا فِي مَوْضُوعَاتِهَا فَقَدْ لَحِقَتْ مَلْحَقَ الأَسماء وَصَارَتْ كمالٍ، وَإِبْدَالُ الأَلف مِنَ الْوَاوَ عَيْنًا أَكثر مِنَ إِبْدَالِهَا مِنَ الْيَاءِ، قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ وَاوًا كَانَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً لأَن بَابَ لوَيْتُ أَكثر مِنْ بَابِ قُوَّة، أَعني أَنه أَن تَكُونَ الْكَلِمَةُ مِنْ حُرُوفٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْلى مِنْ أَن تَكُونَ مِنْ حُرُوفٍ مُتَّفِقَةٍ، لأَن بَابَ ضَرَب أَكثر مِنْ بَابِ رَدَدْتُ، قَالَ: وَلَمْ أَقض أَنها هَمْزَةٌ لأَن حَا وَهَمْزَةً عَلَى النَّسَقِ مَعْدُومٌ.
وَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ معاذٍ الهَرَّاء أَنه سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ: هَذِهِ قَصِيدَةٌ حاوِيَّة أَي عَلَى الْحَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَائِيَّةٌ، فَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ الأَلف الأَخيرة هَمْزَةٌ وَضْعية، وَقَدْ قدَّمنا عَدَمَ حَا وهمزةٍ عَلَى نَسَقٍ.
وَحم، قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ لَا يُنْصَرون، قَالَ: وَالْمَعْنَى يَا مَنْصور اقْصِدْ بِهَذَا لَهُمْ أَوْ يَا اللَّهُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: حم لَا يَنْصَرِفُ، جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلسُّورَةِ أَو أَضَفْتَ إِلَيْهِ، لأَنهم أَنزلوه بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ أَعجمي نَحْوِ هَابِيلَ وَقَابِيلَ؛ وَأَنْشَدَ:
وجَدْنا لَكُمِ، فِي آلِ حميمَ، آيَةً ***تأوَّلَها مِنَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَكَذَا أَنشده سِيبَوَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ هُنَا حَا مَعَ مِيمٍ كَاسْمَيْنِ ضُمَّ أَحدهما إِلَى صَاحِبِهِ، إِذْ لَوْ جَعَلَهُمَا كَذَلِكَ لَمَدَّ حَا، فَقَالَ حاءْ مِيمَ ليصيرَ كحَضْرَمَوْتَ.
وحَيْوَةُ: اسْمَ رَجُلٍ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهَا هَاهُنَا لأَنه لَيْسَ فِي الْكَلَامِ ح ي و، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدِي مَقْلُوبَةٌ من ح وي، إِمَّا مَصْدَرُ حَوَيْتُ حَيَّةً مَقْلُوبٌ، وَإِمَّا مَقْلُوبٌ عَنِ الحَيَّة الَّتِي هِيَ الْهَامَّةُ فِيمَنْ جَعَلَ الحَيّة مِنْ ح وي، وَإِنَّمَا صَحَّتِ الْوَاوُ لِنَقْلِهَا إِلَى الْعَلَمِيَّةِ، وسَهَّل لَهُمْ ذَلِكَ القلبُ، إِذْ لَوْ أَعَلُّوا بَعْدَ الْقَلْبِ والقلبُ عِلَّةٌ لَتَوالَى إِعْلَالَانِ، وَقَدْ تَكُونُ فَيْعلة مِنْ حَوَى يَحْوي ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِلْكَسْرَةِ فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ يَاءَاتٍ، فَحُذِفَتِ الأَخيرة فَبَقِيَ حَيَّةٌ، ثُمَّ أُخرجت عَلَى الأَصل فَقِيلَ حَيْوَة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
81-لسان العرب (نعا)
نعا: النَّعْوُ: الدائرةُ تَحْتَ الأَنف.والنَّعْو الشَّقُّ فِي مِشْفَر البَعِير الأَعْلى، ثُمَّ صَارَ كلُّ فَصْلٍ نَعْوًا؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
تُمِرُّ عَلَى الوِراكِ، إِذا المَطايا ***تقايَسَتِ النَّجادَ مِنَ الوَجِينِ،
خَريعَ النَّعْوِ مُضْطَرِبَ النَّواحي، ***كأَخْلاقِ الغَريفةِ ذِي غُضُونِ
خَريعُ النَّعْوِ: لَيِّنُه أَي تُمِرُّ مِشْفَرًا خَريع النَّعْوِ عَلَى الوِراك، والغَريفةُ النَّعل.
وَقَالَ اللحياني: النَّعْوُ مشَقُّ مِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَلَمْ يَخُصَّ الأَعلى وَلَا الأَسفل، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ نُعِيٌّ لَا غَيْرُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّعْوُ مَشَقُّ المِشفر، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ بِمَنْزِلَةِ التَّفِرة للإِنسان.
ونَعْوُ الحافِر: فَرْجُ مُؤخَّره؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
والنَّعْوُ: الفَتْقُ الَّذِي فِي أَلْيَة حافِرِ الفَرَس.
والنَّعْوُ: الرُّطَبُ.
والنَّعْوَةُ: مَوْضِعٌ، زَعَمُوا.
والنُّعَاء: صَوْتُ السِّنَّوْر؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وإِنما قضيناعَلَى هَمْزَتِهَا أَنها بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ لأَنهم يَقُولُونَ فِي مَعْنَاهُ المُعاء، وَقَدْ مَعا يَمْعُو، قَالَ: وأَظنُّ نُونَ النُّعَاء بَدَلًا مِنْ مِيمِ الْمِعَاءِ.
والنَّعْيُ: خَبَر الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ النَّعِيُّ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والنَّعْيُ والنَّعِيُّ، بِوَزْنِ فَعيل، نِداء الدَّاعِي، وَقِيلَ: هُوَ الدُّعاء بِمَوْتِ الْمَيِّتِ والإِشْعارُ بِهِ، نَعَاه يَنْعَاه نَعْيًا ونُعْيَانًا، بِالضَّمِّ.
وَجَاءَ نَعِيُّ فلانٍ: وَهُوَ خَبَرُ مَوْتِهِ.
وَفِي الصِّحَاحِ: والنَّعْيُ والنَّعِيُّ، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: النَّعِيُّ الرَّجل الميِّت، والنَّعْيُ الفِعْل؛ وأَوقع ابْنُ مَجْكان النَّعْيَ عَلَى النَّاقَةِ العَقير فَقَالَ:
زَيَّافةٍ بنْتِ زَيَّافٍ مُذَكَّرةٍ، ***لَمَّا نَعَوْها لِراعي سَرْحِنا انْتَحَبا
والنَّعِيُّ: المَنْعِيُّ.
وَالنَّاعِي: الَّذِي يأْتي بِخَبَرِ الْمَوْتِ؛ قَالَ:
قامَ النَّعِيُّ فأَسْمَعا، ***ونَعَى الكَريمَ الأَرْوَعا
ونَعاءِ: بِمَعْنَى انْعَ.
وَرُوِيَ عَنْ شدَّاد بْنِ أَوس أَنه قَالَ: يَا نَعايا الْعَرَبِ.
وَرُوِيَ عَنِ الأَصمعي وَغَيْرِهِ: إِنما هُوَ فِي الإِعراب يَا نَعَاءِ العَرَبَ، تأْويلُه يَا هَذَا انْعَ العربَ؛ يأْمر بِنَعْيِهِمْ كأَنه يَقُولُ قَدْ ذَهَبَتِ العربُ.
قَالَ ابْنُ الأَثير فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوس: « يَا نَعايا الْعَرَبِ إِن أَخوف مَا أَخاف عَلَيْكُمُ الرِّياء والشَّهْوةُ الخَفِيَّةُ »، وَفِي رِوَايَةٍ: يَا نُعْيانَ العربِ.
يُقَالُ: نَعَى الميتَ يَنْعاهُ نَعْيًا ونَعِيًّا إِذا أَذاعَ مَوْتَهُ وأَخبر بِهِ وإِذا نَدَبَه.
قَالَ الزَّمخشري: فِي نَعايا ثَلَاثَةُ أَوجه: أَحدها أَن يَكُونَ جَمْعَ نَعِيٍّ وَهُوَ الْمَصْدَرُ كصَفِيٍّ وصَفايا، وَالثَّانِي أَن يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ كَمَا جَاءَ فِي أَخِيَّةٍ أَخايا، وَالثَّالِثُ أَن يَكُونَ جَمْعَ نَعاءِ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى يَا نَعايا الْعَرَبِ جِئنَ فَهَذَا وقَتكنَّ وزمانكُنَّ، يُرِيدُ أَن الْعَرَبَ قَدْ هَلَكَتْ.
والنُّعْيان مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النَّعْي.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: خَفْض نَعاءِ مِثْلُ قَطامِ ودَراكِ ونَزال بِمَعْنَى أَدْرِكْ وانْزِلْ؛ وأَنشد لِلْكُمَيْتِ:
نَعَاءِ جُذامًا غَيْرَ مَوتٍ وَلَا قَتْلِ، ***ولكِنْ فِراقًا للدَّعائِمِ والأَصْلِ
وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذا قُتِلَ مِنْهُمْ شَرِيفٌ أَو مَاتَ بَعَثُوا رَاكِبًا إِلى قَبَائِلِهِمْ يَنْعاه إِليهم فنَهى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ لَهُ قَدْرٌ رَكِبَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَجَعَلَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ وَيَقُولُ: نَعَاءِ فُلَانًا أَي انْعَه وأَظْهِرْ خَبَرَ وَفَاتِهِ، مبنيةٌ عَلَى الْكَسْرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: أَي هَلَكَ فُلَانٌ أَو هَلكت الْعَرَبُ بِمَوْتِ فُلَانٍ، فَقَوْلُهُ يَا نعاءِ العربَ مَعَ حَرْفِ النِّدَاءِ تَقْدِيرُهُ يَا هَذَا انْعَ الْعَرَبَ، أَو يَا هَؤُلَاءِ انْعَوا الْعَرَبَ بِمَوْتِ فُلَانٍ، كَقَوْلِهِ: أَلا يَا اسْجُدوا أَي يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، فِيمَنْ قرأَ بِتَخْفِيفٍ أَلا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرْوِيهِ يَا نُعْيانَ الْعَرَبِ، فَمَنْ قَالَ هَذَا أَراد الْمَصْدَرَ، قَالَ الأَزهري: وَيَكُونُ النُّعْيان جمعَ النَّاعِي كَمَا يُقَالُ لِجَمْعِ الرَّاعي رُعْيان، وَلِجَمْعِ الْبَاغِي بُغْيان؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ لخَدَمه إِذا جَنَّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلُ فثَقِّبوا النِّيرَانَ فَوْقَ الإِكام يَضْوي إِليها رُعْيانُنا وبُغْيانُنا.
قَالَ الأَزهري: وَقَدْ يُجْمَعُ النَّعِيُّ نَعَايَا كَمَا يُجْمع المَريُّ مِنَ النُّوق مَرايا والصَّفِيُّ صَفَايَا.
الأَحمر: ذَهَبَتْ تَمِيمُ فَلَا تُنْعَى وَلَا تُسْهى أَي لَا تُذكر.
والمَنْعَى والمَنْعَاة: خَبَرُ الْمَوْتِ، يُقَالُ: مَا كانَ مَنْعَى فُلَانٍ مَنْعَاةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَنَاعِيَ.
وتَنَاعَى القومُ واسْتَنْعَوْا فِي الْحَرْبِ: نَعَوْا قَتْلاهم ليُحرِّضوهم عَلَى الْقَتْلِ وطلَب الثأْر، وَفُلَانٌ يَنْعَى فُلَانًا إِذا طلَب بثأْره.
والنَّاعِي: المُشَنِّع.
ونَعَى عَلَيْهِ الشيءَ يَنْعَاه: قبَّحه وَعَابَهُ عَلَيْهِ ووبَّخه.
ونَعَى عَلَيْهِ ذُنوبه: ذَكرها لَهُ وشَهَره بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « إِن اللَّهَ تَعَالَى نَعى عَلَى قَوْمٍ شَهَواتِهم»؛ أي عَابَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « تَنْعَى عليَّ امْرَأً أَكرمه اللَّهُ عَلَى يَدَيَ »أَي تَعِيبني بِقَتْلِي رَجُلًا أَكرمه اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى يدَيَّ؛ يَعْنِي أَنه كَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَن يُسْلِمَ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُرى يَعْقُوبَ حَكَى فِي الْمَقْلُوبِ نَعَّى عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ ذَكَرَهَا لَهُ.
أَبو عَمْرٍو: يُقَالُ: أَنْعَى عَلَيْهِ ونَعَى عَلَيْهِ شَيْئًا قَبِيحًا إِذا قَالَهُ تَشْنِيعًا عَلَيْهِ؛ وَقَوْلُ الأَجدع الهمْداني:
خَيْلانِ مِنْ قَوْمِي وَمِنْ أَعْدائِهمْ ***خَفَضُوا أَسِنَّتَهم، فكلٌّ نَاعِي
هُوَ مِنْ نَعَيْتُ.
وَفُلَانٌ يَنْعَى عَلَى نَفْسِهِ بالفَواحش إِذا شَهَرَ نفسَه بتَعاطِيه الفَواحشَ، وَكَانَ امْرُؤُ الْقَيْسِ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ نَعَوْا عَلَى أَنفسهم بالفَواحش وأَظْهَرُوا التَّعَهُّر، وَكَانَ الْفَرَزْدَقُ فَعُولًا لِذَلِكَ.
ونَعَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ أَمرًا إِذا أَشادَ بِهِ وأَذاعه.
واسْتَنْعَى ذِكرُ فُلَانٍ: شاعَ.
واسْتَنْعَتِ الناقةُ: تقَدَّمت، واسْتَنْعَت تَرَاجَعَتْ نَافِرَةً أَو عَدَتْ بِصَاحِبِهَا.
واسْتَنْعَى القومُ: تفَرَّقوا نَافِرِينَ.
والاسْتِنْعَاء: شِبْهُ النِّفار.
يُقَالُ: اسْتَنْعَى الإِبلُ وَالْقَوْمُ إِذا تفرَّقوا مِنْ شَيْءٍ وَانْتَشَرُوا.
وَيُقَالُ: اسْتَنْعَيْت الغنَم إِذا تَقَدَّمْتَها ودَعَوْتَها لِتَتْبَعَكَ.
واسْتَنْعَى بِفُلَانٍ الشرُّ إِذا تَتَابَعَ بِهِ الشَّرُّ، واستَنْعَى بِهِ حُبُّ الخَمر أَي تَمادى بِهِ، وَلَوْ أَن قَوْمًا مُجْتَمِعِينَ قِيلَ لَهُمْ شَيْءٌ فَفَزِعُوا مِنْهُ وتفَرَّقوا نَافِرِينَ لَقُلْتَ: اسْتَنْعَوْا.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي بَابِ الْمَقْلُوبِ: اسْتَنَاعَ واسْتَنْعَى إِذا تقدَّم، وَيُقَالُ: عطَفَ؛ وأَنشد:
ظَلِلْنا نَعُوجُ العِيسَ فِي عَرصَاتِها ***وُقوفًا، ونَسْتَنْعِي بِهَا فنَصُورُها
وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ:
وَكَانَتْ ضَرْبَةً مِنْ شَدْقَمِيٍّ، ***إِذا مَا اسْتَنَّتِ الإِبلُ اسْتَناعا
وَقَالَ شِمْرٌ: اسْتَنْعَى إِذا تقدَّم لِيَتْبَعُوهُ، وَيُقَالُ: تَمادى وتتابع.
قال: ورُبَّ ناقةٍ يَسْتَنْعِي بِهَا الذئبُ أَي يَعْدُو بَيْنَ يَدَيْهَا وَتُتْبِعُهُ حَتَّى إِذا امَّازَ بِهَا عَنِ الحُوارِ عَفَقَ عَلَى حُوارِها مُحْضِرًا فَافْتَرَسَهُ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والإِنْعَاء أَن تَسْتَعِيرَ فَرَسًا تُراهِنُ عَلَيْهِ وذِكْرُه لِصَاحِبِهِ؛ حَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ وَقَالَ: لا أَحُقُّه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
82-أساس البلاغة (خثر)
خثرلبن وطلاء خاثر، وفيه خثورة، وقد خَثَرَ وخَثِرَ وخَثُرَ، وأخثره وخثره، وذهب صفوه وبقيت خثارته أي عكارته ووسخه.
ومن المجاز: خثرت نفسه: غثت، وهو خاثر النفس إذا لم تكن طيبة. وفي الحديث. «فاستيقظ وهو خاثر وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموت الحسين» وأجدني خاثرًا: متكسرًا فاترًا، وإنه لخاثر العظام. وخثر فلان في الحيّ: أقام فلم يبرح. ورأيت خاثرة من الناس أي جماعة كثيفة. وسأل معاوية يزيد من كان يؤنسك البارحة قال: خاثر. قال: فأخثر له العطاء.
أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م
83-أساس البلاغة (بور)
بورفلان له نوره، وعليك بوره، أي هلاكه. وقوم بور. وأحلوا دار البوار، ونزلت بوار على الكفار. قال أبو مكعت الأسدي:
قتلت فكان تظالما وتباغيًا *** إن التظالم في الصديق بوار
لو كان أول ما أتيت تهارشت *** أولاد عرج عليك عند وجار
جعلها علمًا للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث. وبنو فلان بادوا وباروا، وأبادهم الله وأبارهم.
وهو حائر بائر. وإنه لفي حور وبور. وبرت الناقة فأنا أبورها إذا أدنيتها من الفحل تنظر أحائل هي أم حامل. ويقال لذلك الفحل المبور.
ومن المجاز: بارت البياعات: كسدت، وسوق بائرة. وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ من بوار الأيم. وبارت الأرض إذا لم تزرع، وأرض بوار وأرضون بور. وبر لي ما عند فلان واخبر.
أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م
84-المحيط في اللغة (خبر)
الخَبَرُ: ما أتاكَ من نَبَأٍ، أخْبَرْتُه وخَبرْتُه، والجميع الأخْبَار.ورَجُلٌ خَبِرٌ: كريم الخَبرِ.
وهو يَتَخَيرُ الأخْبَارَ.
والخَبِيرُ: العالِمُ بالأمر.
والخُبْرَةُ: مَخْبَرَةُ الإِنسان إذا خُبِرَ أي جُرِّبَ.
والخِبْرَةُ: الاخْتِبار.
والخابِر: المُخْتَبِرُ المُجَرِّبُ.
وخَبِرْتُه أخْبَرُه: أي عَلِمْته.
والخَبَارُ: أرْضٌ رِخْوَةٌ، واحِدُها خَبَارَةٌ.
والخَبَارُ: ما اجْتَمَع من التُراب في أصل الشَجَرَة.
والخَبْرَاءُ: شَجَرٌ في بَطْن رَوْضَةٍ فيها يَنْبُت الخَبْرُ وهو شَجَرُ السِّدْرِ والأراك.
وتُسَمّى الخَبْرَةَ أيضًَا.
والخَبْر: من مَناقِع الماء في رؤوس الجِبال.
والخِبْرُ والمُخَابَرَةُ: أنْ يَزْرَعَ على النِّصْف أو الثُّلُث ونحوه.
والأكارُ خَبِيرٌ.
والمخَابَرَةُ: المُؤاكَرَةُ.
وناقَةٌ خَبْر: غَزِيرةٌ، وكذلك الخَبْرَاء، تقول: أخْبَرْتُ لِقْحَةَ فلانٍ: أي وَجَدْتَها خَبْرَاءَ.
والخُبْرَةُ: الطعام.
والخَبْرُ: المَزَادةُ، وجَمْعُها خُبُوْز.
والخُبْرَةُ: السًّفْرَةُ.
والخُبُوْرُ: الزّادُ من الطعام.
والخُبْرَةُ: النَّصِيْبُ.
والقِسْمَةُ أيضًا.
والخِبْرَةُ: اللَحْمُ يَشْتَرِيه الرجُلُ لأهْلِه، وجَمْعُها خِبَرٌ.
واجتمعوا على خِبْرَتِه: أي طعامِه.
واخْبُرْ طعامَكَ: أي دَسمْه.
والخَبِيْرَةُ: الشاة تُشْتَرى بَيْنَ جَماعةٍ فَتُذْبَح.
والصُّوف الجيِّد من أوَّل الجَزِّ.
وتُجْمَع خَبَائرَ.
وكذلك الوَبَرُ.
والزَّبَدُ.
وجِحَرَةُ الفارِ: مَخابِرُ.
والمَخْبَرَةً: المَخْرُؤة.
والخَيْبَرِيُ: الحَيةُ السَّوْداء.
ويقولون: حُمّى خَيْبَرى فإنَها خَيْسَرى.
المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م
85-تهذيب اللغة (صرع)
صرع: أبو عُبَيد: الصُّرُوع: الضروب في قول لَبِيد:وخَصْم كنادي الجنّ أسقطت شأوهم *** بمستحوِذٍ ذي مِرّة وصُروع
وقال غيره: صروع الحبْل: قُواه.
وأخبرني المنذريّ عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: هما صِرْعان وضِرْعان وحَتْنان، وهذا صِرْع هذا وضِرْعه أي مِثله، وأنشد ابن الأعرابيّ:
مثل البُرَام غدًا في أُصْدَة خَلَق *** لم يَسْتَعِنْ وحوامي الموتِ تغشاه
فرَّجْت عنه بصَرْعَينا لأرملة *** أو بائس جاء معناه كمعناه
قال يصف سائلًا شبَّهه بالبُرَام وهو القُرَاد: لم يستعِن يقول: لم يحلق عانته، وحوامي الموت وحوائمه: أسبابه، وقول: بصرعينا أراد بهما إبلًا مختلِفة المشي تجيء هذه وتذهب هذه لكثرتها، هكذا رواه بفتح الصاد وقال: الأسنان مرتصِعة إذا التصقت وتقاربت، والرصَع: قرب ما بين المنكبين، رجل أرصع، والرصَع: التقارب والتضايق، ورَصِعت عيناه: التزقتا.
ورصِع فلان بفلان فهو راصع به أي لازم، ورَصَع فلان بمكان رصُوعًا ورصِع بإستْه الأرض رَصْعًا: ألْزقها بها ورصائع القوس: سُيورها التي تُحسَّن بها القوس، قال:
صفراء كالقوس لها رصائعُ *** معطوفةٌ بالغَ فيها الصانع
والمراصيع: النحل أي صغار الولد وقال الأصمعيّ: فلان يأتينا الصِّرْعَين أي غُدوة وعشية.
وقال ابن السكيت: الصَّرْعان: الغَداة والعشيّ، وأنشد لذي الرمّة:
كأنني نازع يَثْنيه عن وطن *** صَرْعان رائحةً عَقْل وتقييدُ
أراد عقلٌ عشيَّةً وتقييد غُدوة، فاكتفى بذكر أحدهما.
ويقال للأمر: صَرْعان أي طرَفان.
الليث وغيره: الصَّرْع: الطَّرْح بالأرض للإنسان، تقول: صرعه صَرْعًا، والمصارعة والصِّراع: معالجتهما أيّهما يصرع صاحبه.
ورجل صِرِّيع إذا كان ذلك صَنعته وحاله التي يُعرف بها.
ورجل صَرَّاع إذا كان شديد الصراع وإن لم يكن معروفًا.
رجل صَرُوع للأقران: أي كثير الصَّرْع لهم.
والصَّرَعة: هم القوم الذين يَصْرَعون من صارعوا.
قلت: يقال: رجل صُرْعة وقوم صُرَعة والمِصراعان من الشِّعْر: ما كان له قافيتان في بيت واحد، ومن الأبواب: ما له بابان منصوبان ينضمَّان جميعًا، مَدْخلهما بينهما في وسط المصراعين.
ومصارع القَتْلَى: حيث قُتِلوا.
وأمّا قول لَبيد:
منها مصارع غابة وقيامها
فإن المصارع جمع مصروع من القَصَب.
يقول: منها مصروع، ومنها قائم، والقياس مصاريع.
وبيت من الشِّعر مُصَرّع: له مصراعان.
وكذلك باب مصرَّع.
وفي الحديث: «الصُّرَعة ـ بتحريك الراء ـ الرجل الحليم عند الغضب».
وقال أبو مالك: يقال: إن فلانًا ليفعل ذاك على كل صِرْعة أي يفعل ذاك على كلّ حال.
عمرو عن أبيه قال: الصَّرِيع: المجنون، والصَّرِيع: القضيب يَسقط من شجر البَشَام، وجمعه صِرْعان.
ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: هذا صِرْعه وصَرْعه وضِرعه وضَرعه وطِبْعه وطَلعه
وطِباعه وطبيعه وشَنّه وقِرْنه وقَرْنه وشِلوه وشُلَّته أي مِثله.
وقال ابن السكيت: يقال: طلبت من فلان حاجة فانصرفت وما أدري على أي صِرْعَيْ أمرِهِ أنصرِف أي لم يبيّن لي أمره.
وأنشد:
فرُحت وما وَدَّعت ليلى وما دَرَت *** على أيّ صِرْعَيْ أمرِها أتروّح
والصريع من القِداح: ما صُنع من الشجر ينبت على وجه الأرض، وقال ابن مقبل:
وأزجر فيها قبل نمّ صحائها *** صريع القِدَاح والمَنِيح المخيَّرا
وإنما خيَّره لأنه فائز مبارك.
ويقال: الصريع: العُود يجِفّ في شجره، يتَّخذ منه قِدْح، وهو أجود ما يكون، قال:
صريع دَرِير مسّه مس بيضه *** إذا سنحت أيدي المفيضِين يبرح
أي: يُخرج فيدُرّ على صاحبه باللحم.
والصَّرْعانِ: حَلْبتا الغداةِ والعشيّ؛ قال عنترة:
ومنجوبٍ له منهن صَرْع *** يميل إذا عدلْتَ به الشِوارا
المنجوب: السِّقاء المدبوغ بالنَّجَب.
ومنهن يعني: من الإبل، أي لهذا السِّقاء من هذه الإبل صَرْع كلّ يوم، والصرع الآخر لأولادها، وأخبر أن هذا الصرع يملأ السِّقَاء حتى يميل بكل ما يُعدَل به إذا حُمِل، والشِّوار: متاع الراعي وغيره.
وقوله:
ألا ليت جَيْش العَيْر لاقى سَرِيَّة *** ثلاثين منّا صَرْع ذاتِ الحقائل
صرع ذات الحقائل أي حِذَاء ذات الحقائل وناحيتها، وهي وادٍ.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
86-تهذيب اللغة (عبط)
عبط: قال الليث: العَبْطُ: أن تَعْبِط ناقةً فتنحرها من غير داء ولا كَسْر.يقال: عَبَطَها يَعبِطُها عَبْطًا، واعْتَبَطَها اعتِباطًا.
وقال ابن بُزُرْجَ ـ فيما وجدت له بخط أبي الهيثم ـ: العِبِيط من كلّ اللحم وذلك ما كان سليمًا من الآفات إلا الكسر.
قال: ولا يُقال للّحم الدَوِي المدخول من آفةٍ: عَبِيط، ويقال للدابة عبيطة ومعتبَطة، واللحم نفسه عبيط أي سليم إلا من كسر.
ويقال مات فلان عَبْطَة، أي شابًّا صحيحًا.
واعتبطه الموتُ.
وقال أمَيَّة بن أبي الصَلْت:
من لم يمت عَبْطَة يَمُتْ هَرَمًا *** للموت كأسٌ فالمرء ذائقها
ويقال لحمٌ عَبيط ومعبوط إذا كان طريًّا لم يُنَيِّبْ فيه سَبُعٌ ولم تُصبه عِلة.
وقال لَبيد:
ولا أَضَنُ بمعبوطِ السَنَام إذا *** كان القُتارُ كما يُسْتَرْوَحُ القُطُرُ
وقال الليث: زعفران عبيط: يشبّه بالدم العبيط.
قال: ويقال: عَبَطَتْه الدواهي أي نالته من غير استحقاق.
وقال الأُريقط:
بمنزلِ عَفٍّ ولم يخالِط *** مُدَنّسَاتِ الرِيَبَ العَوَابِطِ
ويقال: عَبَط فلان الأرض عَبْطًا واعتبطها إذا حفر موضعًا لم يكن حُفِر قبل ذلك.
وقال المرَّار العَدَوي:
ظَلَّ في أعلى يَفَاعٍ جازلا *** يعبط الأرض اعتباط المحتَفِر
أبو عبيد: العَبْط: الشقُ.
ومنه قول القطامي:
وظلّت تعبُط الأيدي كلُومًا
وثوبٌ عبيط أي مشقوق وجمعه عُبُط.
ومنه قول أبي ذؤيب:
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ *** كنوافذ العُبُطِ التي لا تُرْقَعُ
وأخبرني المنذريّ أن أبا طالب النحوي أنشده في كتاب «المعاني» للفرّاء: كنوافذ العُطُب.
ثم قال ويروى كنوافذ العُبُط.
قال والعُطُب: القطن، والنوافذ: الجيوب يعني جُيُوب الأقمصة.
وأخبر أنها لا تُرقَع،
شبّه سعة الجراحات بها.
قال: ومن رواها: العُبُط أراد بها: جمع عبيط، وهو الذي يُنحر لغير علّة، وإذا كان كذلك كان خروج الدم أشدّ.
أبو عبيد عن أبي زيد: اعتبط فلان عليّ الكذبَ، وعَبَطَ يَعْبِط إذا كذب.
ورَوَى أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: العابط الكذّاب.
والعَبْطُ: الكذب.
والعَبْطُ: الغِيبة.
والعَبْط الشَقُّ ويقال عَبَط الحمارُ الترابَ بحوافره إذا أثاره، والترابُ عبيطٌ.
وعَبَطَتِ الريح وجهَ الأرض إذا قَشَرتْهُ.
وعَبَطْنَا عَرَق الفرس أي أجريناه حتى عَرِقَ.
وقال الجعدي:
وقد عَبَطَ الماءَ الحميمَ فأسْهَلَا
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
87-تهذيب اللغة (عبد)
عبد: أبو عبيد عن الفرّاء: ما عَبَّد أَن فعل ذاك وما عَتَّم وما كذّب معناه كله: ما لبَّث.قال: ويقال امتَلّ يعدو، وانكدر يعدُو، وعَبّدَ يَعدُو إذا أسرع بعض الإسراع.
وقال الله جلّ وعزّ: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزّخرُف: 81].
قال الليث: العَبَد: الأنفُ والحمِيَّة من قول ليُستحيا منه ويُستنكف.
قال: وقوله: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي الآنفين من هذا القول.
قال: ويُقرأ: (فأنا أول العَبدِين) مقصور من عَبِدَ يَعْبَدُ فهو عَبِد.
قال: وبعض المفسرين يقول: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي كما أنه ليس للرحمن ولد أنا لست بأول من عبد الله.
قلت: وهذه آية مشكلة.
وأنا ذاكر أقاويل السلف فيها، ثم مُتبعها بالذي قال أهل اللغة وأُخبِر بأصَحِّها عندي والله الموفق.
فأما القول الذي ذكره الليث أوّلًا فهو قول أبي عبيدة، على أني ما عَلِمتُ أحدًا قرأ: (فأنا أول العَبِدين) ولو قرىء مقصورًا كان ما قاله أبو عبيدة محتملًا.
وإذْ لم يقرأ به قارىء مشهورٌ لم يُعبَأ به.
والقول الثاني: ما روي عن ابن عُيَيْنَة أنه سئل عن هذه الآية فقال: معناه: {إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزّخرُف: 81]، يقول: فكما أني لستُ أوّل من عَبَدَ الله فكذلك ليس لله ولد.
وهذا القول يقارب ما قاله الليث آخِرًا، وأضافه إلى بعض المفسرين.
وقال السُّدي: قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) لهم: (إِنْ كانَ) ـ على الشرط ـ (لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) كما تقولون لكنت أوّل من يطيعه ويعبده.
وقال الكلبي: إن كان ما كان.
وقال الحسَنُ وقتادة: (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) على معنى ما كان (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ): أوّلُ من عَبَدَ الله من هذه الأمّة.
وقال الكسائي: قال بعضهم: (إِنْ كانَ) أي ما كان (لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ): الآنفين، رجلٌ عَابِد وعَبِدٌ وآنِف وأنِفٌ.
وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي في قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزّخرُف: 81] أي الغِضاب الآنفين ويقال: فأنا أول الجاحدين لِمَا تقولون.
ويقال: أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالَفةً لكم.
وروي عن عليّ أنه قال: عَبِدتُ فصَمَتُ أي أنِفْتُ فسَكَتُّ.
وقال ابن الأنباريّ: معناه: ما كان للرحمن ولد والوقف على الولد، ثم
يبتدىء: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) له، على أنه لا ولد له.
والوقف على (الْعابِدِينَ) تامّ.
قلت: قد ذكرتُ أقاويل مَن قدّمنا ذكرهم، وفيه قول أحسن من جميع ما قالوا وأَسْوغ في اللغة، وأبعد من الاستكراه وأسرع إلى الفهم.
رَوَى عبد الرازق عن مَعْمَر عن ابن أبي نَجِيع عن مجاهد في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزّخرُف: 81] يقول: إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عَبَدَ الله وحده وكذّبكم بما تقولون.
قلت: وهذا واضح.
وممّا يزيده وضوحًا أن الله جلّ وعزّ قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد للكفار (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في زعمكم (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) إلهَ الخلق أجمعين الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)، وأولّ الموحِّدين للرب الخاضعين المطيعين له وحده؛ لأن من عَبَدَ الله واعترف بأنه معبوده وحده لا شريك له فقد دَفَعَ أن يكون له ولد.
والمعنى: (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في دعواكم فالله جلّ وعزّ واحد لا شريك له، وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد.
قلت: وإلى هذا ذهب إبراهيم بن السَرِيّ وجماعة من ذوي المعرفة، وهو القول الذي لا يجوز عندي غيره.
وقال الله جلّ وعزّ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} [الشُّعراء: 22] الآية.
قلت: وهذه الآية تقارِب التي فسّرنا آنفًا في الإشكال، ونذكر ما قيل فيها ونخبر بالأصحّ الأوضح ممَّا قيل.
أخبرني المنذريّ عن أبي العباس أنه قال: قال الأخفش في قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال: يقال: إن هذا استفهامٌ، كأنه قال: أوَ (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) ! ثم فَسَّر فقال: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فجعله بدلًا من النعمة.
قال أبو العبّاس: وهذا غلط؛ لا يجوز أن يكون الاستفهام يُلْقى وهو يُطْلَبُ، فيكون الاستفهام كالخبر.
وقد استُقبح ومعه (أم) وهي دليل على الاستفهام.
استقبحوا قول امرىء القيس:
تروح من الحَيّ أم تَبْتَكِرْ
قال بعضهم: هو أتروح من الحيّ أم تبتكر فحذف الاستفهام أوّلًا واكتفى بأم.
وقال أكثرهم: بل الأول خبر والثاني استفهام.
فأمَّا وليس معه (أم) لم يقله إنسان.
قال أبو العباس: وقال الفرّاء: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ}، لأنه قال: {وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} لنعمتي أي لنعمة تربيتي لك، فأجابه فقال: نعم هي نعمة {عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} ولم تستعبدني.
يقال: عَبَّدَتُ العَبِيد وأعبدتهم أي صيّرتُهم عبيدًا، فيكون موضع {أَنْ} رفعًا ويكون نصبًا وخفضًا.
من رَفَع ردّها على النعمة، كأنه قال: وتلك نعمة تعبيدك بني إسرائيل ولَمْ تُعَبِّدْني.
ومن خفض أو نصب أضمر اللام.
قلت: والنصب أحسن الوجوه، المعنى: أن فرعون لمّا قال لموسى: {قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] فاعتَدّ فرعونُ على
موسى بأن ربّاه وليدًا منذ وُلِد إلى أن كَبِر، فكان من جواب موسى له: تلك نعمة تَعتدّ بها عليّ لأنك عَبّدتَ بني إسرائيل ولو لم تُعبْدهم لكفَلني أهلي ولم يُلْقوني في اليمّ، فإنما صارت نعمة لِمَا أقدمت عليه ممَّا حظره الله عليك.
وقال أبو إسحاق الزجّاج: المفسّرون أخرجوا هذه على جهة الإنكار أن تكون تلك نعمة، كأنه قال: وأيّ نعمة لك عليّ في أن عَبَّدت بني إسرائيل واللفظ لفظ خبر.
قال: والمعنى يخرج على ما قالوا على أن لفظه لفظ الخبر.
وفيه تبكيتٌ للمخاطَب كأنه قال له هذه نعمة أن اتخذتَ بني إسرائيل عَبيدًا، على جهة التهكّم بفرعون.
واللفظ يوجب أن موسى قال له: هذه نعمة لأنك اتخذت بني إسرائيل عبيدًا ولم تتخذني عَبدًا، وقال الشاعر في أعبَدت الرجل بمعنى عَبَّدته:
علام يُعْبِدُني قومي وقد كثرت *** فيهم أباعِر ما شاءوا وعُبْدانُ
وأخبرني المنذريّ عن أبي الهيثم أنه قال: المُعَبَّد: المُذَلَّل.
والمُعَبّد: البعير الجَرِبُ.
وأنشد لَطَرفة:
وأفردت إفراد البعير المعُبَّدِ
قال والمُعَبَّد: المكرَّم في بيت حاتم حيث يقول:
تقول ألا تُبقي عليك فإنني *** أرى المال عند الممسكين مُعَبَّدَا
أي: مُعَظَّمًا مخدُومًا.
قال: وأخبرني الحرّاني عن ابن السكيت: يقال اسْتَعْبَده وعَبَّدَه أي أخذه عَبْدًا وأنشد قول رؤبة:
يَرْضَوْنَ بالتعبيد والتأمِيّ
قال: ويقال: تَعَبَّدت فلانًا أي اتّخذته عَبدًا، مثل عَبَّدته سَوَاء.
وَتَأَمَّيْتُ فلانةَ أي اتخذتها أَمَةً.
وقال الفرّاء: يقال: فلان عَبْدٌ بَيِّنُ العُبُودة والعُبُودِيَّة والعَبْدِيّة.
وتَعَبَّد الله العَبْد بالطاعة أي استعبده.
وقال الله جلّ وعزّ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] قرأ أبو جعفر وشَيْبَة ونافِع وعاصِم وأبو عمرو والكسائي: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}.
قال الفرّاء: هو معطوف على قوله (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) ومن عَبَدَ الطاغوت.
وقال الزجاج: قوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) نَسَقٌ على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) المعنى: من لعنه الله ومن عبد الطاغوت.
قال وتأويل (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي أطاعه ـ يعني الشيطان ـ فيما سوّل له وأغواه.
قال: والطاغوت هو الشيطان.
قال في قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفَاتِحَة: 5]: إياك نطيع الطاعة التي نخضع معها.
قال: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع.
ويقال طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلَّلًا بكثرة الوطء، وبعيرٌ مُعَبَّد إذا كان مَطْليًّا بالقَطِران.
وقرأ: (وعَبُدَ الطاغوتِ)
يحيى بن وَثّابٍ والأعمش وحمزة.
قال الفرّاء: ولا أعلم له وجهًا إلا أن يكون عَبُدَ بمنزلة حذُر وعَجُل.
وقال نُصَير الرازيّ: (عَبُدٌ) وَهمٌ ممَّن قرأه، ولسنا نعرف ذلك في العربيَّة.
ورُوي عن النخعي أنه قرأ: (وعُبُدَ الطاغوتِ) وذكر الفرّاء أن أُبَيًّا وعبد الله قرءا (وعبدوا الطاغوت).
ورُوي عن بعضهم أنه قرأ: (وعُبَّاد الطاغوت) وبعضهم (وعَابِدَ الطاغوت).
ورُوي عن ابن عباس: (وعُبِّدَ الطاغوت).
ورُوي عنه أيضًا: (وعُبَّدَ الطاغوت).
قلت: والقراءة الجيّدة التي لا يجوز عندنا غيرها هي قراءة العامّة التي بها قرأ القُرّاء المشهّرون.
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] على التفسير الذي بيّنته من قول حُذَّاق النحويين.
قلت: وأما قول أوس بن حجر:
أبَنِي لبيني أن أُمَّكُمُ *** أَمَةٌ وإن أباكم عَبُدُ
فإنه أراد: وإن أباكم عَبْد فثقَّله للضرورة، فقال: عَبُدُ.
وقال الليث: العَبد: المملوك.
وجماعتهم: العَبِيد، وهم العِبَاد أيضًا؛ إلَّا أنّ العامّة اجتمعوا على تفرقة ما بين عباد الله والمَماليك، فقالوا: هذا عَبْد من عباد الله، وهؤلاء عبيد مماليك.
قال: ولا يقال: عَبَدَ يَعْبُدُ عِبَادَةً إلّا لمن يَعْبُدُ الله.
ومن عَبَدَ مِن دونه إلهًا فهو من الخاسرين.
قال: وأما عَبْدٌ خَدَمَ مولاه فلان يقال: عَبَدَه.
قال الليث: ومن قرأ: (وَعَبُدَ الطاغوتُ) فمعناه صار الطاغوتُ يُعْبَد، كما يقال: فَقُهَ الرجل وظَرُفَ.
قلت: غَلِط الليث في القراءة والتفسير.
ما قرأ أحد من قُرَّاء الأمصار وغيرهم (وَعَبُدَ الطاغوتُ) برفع الطاغوت، إنما قرأ حمزة: (وَعَبُدَ الطاغوتِ) وهي مهجورة أيضًا.
قال الليث: ويقال للمشركين: هم عَبَدَة الطاغوتِ.
ويقال للمسلمين: عِبَاد الله يَعْبُدُون الله.
وذكر الليث أيضًا قراءة أخرى ما قرأ بها أحد وهي (وعابدو الطاغوت) جماعة.
وكان رَحِمه اللهُ قليل المعرفة بالقراءات.
وكان نَوْلُه ألّا يحكي القراءات الشاذَّة، وهو لا يحفظها القارىء قرأ بها وهذا دليل على أن إضافته كتابه إلى الخليل بن أحمد غير صحيح، لأن الخليل كان أعقل وأورع من أن يسمِّى مثل هذه الحروف قراءات في القرآن، ولا تكون محفوظة لقارىء مشهور من قُرّاء الأمصار ودليل على أن الليث كان مغفَّلًا ونسأل الله التوفيق للصواب.
وقال الليث: يقال أعبَدني فلان فلانًا أي ملّكني إيّاه.
قلت: والمعروف عند أهل اللغة: أعبَدت فلانًا أي استعبدته.
ولست أنكر جواز ما ذكره الليث إن صحَّ لثقة من الأئمة، فإن السماع في اللغات أولى بنا من القول بالحَدْس والظنّ وابتداع قياسات لا تستمرّ
ولا تطّرد.
وقال الليث: العِبِدَّى: جماعة العَبيد الذين وُلِدُوا في العُبُودَة، تعبيدةً ابنَ تعبيدة، أي في العُبُودة إلى آبائه.
قلت: هذا غَلَط.
يقال: هؤلاء عِبِدَّى الله أي عِبَادُه.
وفي الحديث الذي جاء في الاستسقاء: «وهذه عِبِدّاك بِفناء حَرَمك».
قال الليث: والعبادِيد: الخيل إذا تفرّقتْ في ذهابها ومجيئها، ولا تقع إلا على جماعة: لا يقال للواحد عِبْدِيد.
قال ويقال في بعض اللغات: عبابيد، وأنشد:
والقوم آتوك بَهزٌ دون إخوتهم *** كالسيل يركب أطراف العبَابِيد
قال: وهي الأطراف البعيدة، والأشياء المتفرقة.
وهم عَباديد أيضًا.
قلت: وقال الأصمعي: العبابيد: الطُرُق المختلفة.
ورَوَى أبو طالب عن أبيه عن الفرّاء أنه قال: العَبَاديد والشماطِيط لا يُفْرد له واحد.
قال: وقال غيره: ولا يُتكلم بهما في الإقبال، إنما يتكلم بهما في التفرق والذهاب.
قال: وقال الأصمعي: يقال صاروا عَبابِيد وعَبَادِيد أي متفرّقين.
وقول الله جلّ وعزّ: {وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} [المؤمنون: 47] أي دائنون، وكل من دان لملكٍ فهو عَابد له.
وقال ابن الأنباري: فلان عَابِد وهو الخاضع لربّه المستسلم لقضائه المنقاد لأمره.
وقوله {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي أطيعوا ربّكم.
وقيل في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]: إيّاك نوحِّد، والعابد الموحِّد.
والدراهم العَبْديَّة كانت دراهم أفضل من هذه الدراهم وأكثر وزنًا.
وأما بيت بشر:
مُعَبَّدةُ السقائف ذات دُسْرٍ *** مُضَبَّرةٌ جوانبها رَداحُ
فإن أبا عبيدة قال: المعَبَّدة: المطليَّة بالشحم أو الدُهْن أو القار.
وقيل مُعَبَّدة: مُقَيرة.
وقال شمر: يقال للعبيد مَعْبَدَة.
وأنشد للفرزدق:
وما كانت فُقَيم حيث كانت *** بيثرب غيرَ مَعْبَدَة قُعُودِ
قلت: ومثل معبَدة جمع العبْد مشيْخة جمع الشيخ، ومسْيفة جمع السيف.
أبو عبيد عن أبي زيد: أعبَدَ القوم بالرجُل إذا ضربوه، وقد أُعْبِدَ به إذا ذهبتْ راحلته، وكذلك أُبْدِعَ به.
أبو عبيد عن أبي عمرو: ناقة ذات عَبَدَة أي لها قوّة شديدة.
وقال شمر: العَبَدَة البقاء يقال ما لثوبك عَبَدَة أي بقاء سُمِّي عَلْقمة بن عَبَدَة وقال أبو دوادٍ الإياديُ:
إنْ تُبتذل تُبتذل من جندلٍ خِرسٍ *** صَلَابةٍ ذات أَسدارٍ لها عَبَدَه
وقيل أراد بالعَبَدَة: الشدّة.
وقال شمر: يُجمع العَبْدُ عَبيدًا ومَعْبُودَاء وعِبِدَّى ومَعْبَدَة وعُبْدَانًا وعِبْدَانًا وأنشد:
تركت العِبدّى يَنْقُرون عجانَهَا
وقال اللحياني: عَبَدت الله عِبَادَةً ومَعْبَدًا والمُعَبَّدُ: الطريق الموطوء في قوله:
وَظيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ
وأنشد شمر:
وَبَلد نائي الصُوَى مُعَبَّد *** قطعتُه بذاتِ لَوْثٍ جَلْعَدِ
قال: أنشدنيه أبو عدنان وذكر أن الكلابيّة أنشدته وقالت: المُعَبَّد: الذي ليس فيه أثَر ولا عَلم ولا ماء.
وقال شمر: المُعَبَّدُ من الإبل: الذي قد عُمَّ جِلدُه كلّه بالقَطران من الجَرَب.
ويقال: المُعَبَّدُ: الأجرب الذي قد تساقط وَبَره فأُفرد عن الإبل ليُهْنَأَ.
ويقال: هو الذي عَبَّده الجَرَب أي ذَلّلَهُ.
وقال ابن مقبل:
وضَمَّنتُ أرسانَ الجياد مُعَبَّدًا *** إذا ما ضربنا رأسه لا يُرَنَّحُ
قال: والمعَبَّد ههنا الوتِد ويقال أنوم من عَبّود.
قال المفضل بن سلمة: كان عبود عبدًا أسود حطابًا فَغَبَر في محتطبه أسبوعًا لم ينم ثم انصرف وبقي أسبوعًا نائمًا فضرب به المثل وقيل: نام نوم عبّود وقال أبو عدنان: سمعت الكلابيّين يقولون: بعيرٌ مُتَعَبِّدٌ ومُتَأَبِّد إذا امتنع على الناس صعوبةً فصار كآبِدة الوَحْش.
قال ويقال: عَبِدَ فلان: إذا ندِم على شيء يفوته ويلوم نفسه على تقصير كان منه.
وقال النضر: العَبَدُ طول الغضب.
وقال أبو عبيد قال الفرّاء: عَبِدَ عليه وأحِن عليه وأمِد وأبِد أي غضِب.
وقال الغَنَوِيّ: العَبَدُ: الحزَنُ والوَجْد.
وقيل في قول الفرزدق:
أولئك قوم إن هجوني هجوتهم *** وأعْبَدُ أن أهجو كُلَيبًا بدَارِمِ
أعْبَدُ: أي آنف.
وقال ابن أحمر يصف الغَوّاص:
فأرسَل نفسه عَبَدًا عليها *** وكان بنفسه أرِبًا ضَنِينَا
قيل: معنى قوله: عَبَدًا أي أنَفًا.
يقول: أنِفَ أن تفوته الدُرَّة.
وقال شمر: قيل للبعير إذا هُنِىءَ بالقَطِران: مُعَبَّدٌ لأنه يتذلَّل لشهوته للقطران وغيره، فلا يمتنع.
والتعبُّد: التذلّل.
قال: والمعَبَّد: المذلَّل.
يقال: هو الذي يُتركُ ولا يُركبُ.
ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: ذهب القوم عَبَادِيد وعَبَابِيد إذا ذهبوا متفرّقين، ولا يقال: أقبلوا عَبَادِيد.
قال: والعَبَادِيد: الآكام.
وقال الزّجاج في قول الله جلّ وعزّ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريَات: 56] الآية، المعنى: ما خلقتهم إلّا لأدعوهم إلى عبادتي وأنا مُرِيد العِبَادَة منهم، وقد علم الله قبل أن يخلقهم من يَعْبُدُه ممّن يكفر به، ولو كان خلقهم ليُجبرهم على عبادته لكانوا كلهم عُبَّادًا مؤمنين.
قلت: وهذا قول أهل السنّة والجماعة.
وقال ابن الأعرابي: المعَابد: المسَاحِي والمُرُور، واحدها مِعْبَدٌ.
قال عَدِيّ بن زيد العِبَاديّ:
إذ يَحْرُثْنَه بالمَعَابِدِ
وقال أبو نصر: المعَابد: العَبيد.
أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: العَبْدُ: نبات طيّب الرائحة.
وأنشد:
حَرَّقها العَبد بعنظوانِ *** فاليومُ منها يومُ أَرْوَنانِ
قال: والعَبْد تَكْلَف به الإبلُ؛ لأنه مَلْبَنَة مَسْمَنة، وهو حادٌّ المِزَاج، إذا رعته الإبل عطشت فطلبت الماء، وأخبرني المنذري عن ثعلب عن سَلَمة عن الفرّاء: يقال صُكّ به في أم عُبَيد، وهي الفَلَاة وهي الرّقّاصَة.
قال: وقلت للقَنَاني: ما عُبَيد؟ فقال: ابن الفلاة.
وأنشد قول النابغة:
مُنَدَّى عُبَيدان المحلِّىء باقِرَهْ
قال: يعني به الفَلَاة.
وقال أبو عمرو: عُبَيْدان: اسم وادي الحَيّة، وذكر قصَّتها واستشهد عليها بشعر النابغة.
والعِبَاد: قوم من أفناء العرب، نزلوا بالحِيرة وكانوا نصارى، منهم عَدِيّ بن زيد العِبَاديّ.
وقد سَمَّت العرب عَبَّادًا وعُبَادة وعُبَادًا وعَبِيدًا وعَبيدة وعَبَدَة ومَعْبَدًا وعُبَيْدًا وعابدًا وعَبْدان وعُبَيْدان تصغير عَبدان.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
88-تهذيب اللغة (ربع)
ربع: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يَرْبَعُون حجرًا فقال: «عُمّال الله أقوى من هؤلاء».وفي بعض الحديث: «يَرْتَبِعون حجرًا».
قال أبو عبيدة: الرَّبْع: أن يشال الحَجَرُ باليد، يُفعل ذلك لِتعرف به شدَّة الرجل.
يقال ذلك في الحجر خاصَّة.
قال: وقال الأمويّ مثلَه في الرَّبْع.
وقال: المِربَعة: عَصًا يحمل بها الأثقال حتى توضع على ظهور الدوابّ.
وأنشدنا:
أين الشِظاظان وأين المِرْبَعَهْ *** وأين وَسْقُ الناقة الجَلَنْفَعَهْ
ابن السكيت: رابعت الرجل إذا رفعت معه العِدْل بالعصا على ظهر البعير.
وقال الراجز:
يا ليت أم العَمْر كانت صاحبي *** مكانَ من أنشا على الركائب
ورابعتني تحت ليل ضارب *** بساعد فَعْم وكفّ خاضِب
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعديّ بن حاتم قبل إسلامه: «إنك تأكل المِرْباع وهو لا يَحِلّ في دينك».
قال أبو عبيد: المِرْباع: شيء كانوا في الجاهلية، يغزو بعضهم بعضًا، فإذا غنموا أخذ الرئيس ربع الغنيمة فكان خالصًا له دون أصحابه.
وقال عبد الله بن عَنَمة:
لك المرباع فيها والصفايا *** وحكمك والنَشِيطة والفُضُول
وقال غيره: رَبَعت القوم أَرْبَعهم رَبْعًا إذا أخذت ربع أموالهم أو كنت لهم رابعًا.
والرَّبْع أيضًا: مصدر رَبَعت الوَتَر إذا فتلته على أربع قُوًى.
ويقال: وَتَر مربوع.
عمرو عن أبيه: الرُوميّ: شِرَاع السفينة الفارغة، والمُرْبع: شراع المَلأَى.
قال: والمتلمِّظة: مقعد الاستيام وهو رئيس الركّاب.
أبو عبيدة عن الأصمعيّ: الرَّبْع: هو الدار بعينها حيث كانت.
والمَرْبَع: المنزل في الربيع خاصَّة.
وقال شمر: الرُّبُوع: أهل المنازل أيضًا.
وقال الشماخ:
تصيبُهمُ وتخطئني المنايا *** وأَخْلُف في رُبُوع عن ربوع
أي: في قوم بعد قوم.
وقال الأصمعي: يريد: في ربع من أهلي أي في مسكنهم بعد ربع.
وقال أبو مالك: الربع مثل السَكْن وهما أهل البيت.
وأنشد:
فإن يك رَبْع من رجالي أصابهم *** من الله والحَتْم المُطل شَعُوب
وقال ابن الأعرابي: الرَّبَّاع: الرجل الكثير شِرَى الرُّبُوع، وهي المنازل.
وقال شمر: الربع يكون المنزل، وأهلَ المنزل.
قال: وأمَّا قول الراعي:
فعُجنا على رَبْع بربع تعوده *** من الصيف حَشَّاء الحنين نَئُوج
فإن الربع الثاني طَرَف الجبل.
والرِّبْع من أظماء الإبل: أن ترد الماءَ يومًا وتدعه يومين ثم ترد اليوم الرابع.
وإبل روابع، وقد وردت رِبْعًا.
وأربع الرجلُ إذا وردت إبله رِبْعًا.
والرِّبْع: الحُمَّى التي تأخذ كل أربعة أيّام، كأنه يُحَمّ فيهما ثم يحمّ اليومَ الرابع.
يقال: رُبع الرجل وأُرْبع.
وقال الهذليّ:
من المُرْبِعِين ومن آزل *** إذا جَنَّه الليل كالناحط
أبو حاتم عن الأصمعيّ: أربعت الْحُمَّى زيدًا إذا أخذته رِبْعًا، وأغَبَّته إذا أخذتْه غِبًّا.
ورجل مُغِبّ ومُرْبِع ـ بكسر الباء ـ وأنشد:
من المربِعين ومن آزل
بكسر الباء، فقيل له: لِمَ قلت: أربعت الحُمَّى زيدًا.
ثم قلت: من المُرْبِعين؟ فجعلته مرَّة مفعولًا ومرَّة فاعلًا، فقال: يقال: أَرْبَع الرجلُ أيضًا.
أبو عبيد عن الكسائي: يقال: أربعت عليه الحُمَّى ومن الغِبّ: غَبّت.
قلت: كلام العرب: أربعت عليه الحُمَّى، والرجُل مُرْبَع، بفتح الباء.
وقال الأصمعيّ أيضًا: يقال: أَرْبع الرجلُ فهو مُرْبع إذا وُلِد له في فَتَاء سِنه.
وولده رِبْعيّون.
وقال الراجز:
إن بنِيَّ غِلْمة صِيْفِيّونْ *** أفلح مَن كان له رِبعيّون
وقال ابن السكيت: يقال: قد رَبَع الرجل يَرْبَع إذا وقف وَتحبَّس.
وقال الليث: يقال: اربَعْ على ظَلْعك، وَاربَعْ على نَفْسك وَاربع عليك، كل ذلك وَاحد معناه: انتظر.
وَقال الأحوص:
ما ضرّ جيراننا إذا انتجعوا *** لو أنهم قبل بينهم رَبَعوا
وَقال آخر:
أَرْبَع عند الورود في سُدُم *** أنقع من غُلَّتي وَأجزاؤها
قال: معناه: أُلقي في ماء سُدُم وَألهج فيه.
وَفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أطول من المربوع وَأقصر من المشذَّب.
فالمشذَّب: الطويل البائن.
وَالمربوع: الذي ليس بطويل وَلا قصير.
وكذلك الرابعة فالمعنى: أنه لم يكن مُفْرِط الطول، وَلكن كان بين الرَّبْعة وَالمشذَّب.
وَالمربوع من الشعْر: الذي ذهب جزء من ثمانية أجزاء من المديد والبسيط التامّ.
وَالمثلوث: الذي ذَهَب جزءان من ستة أجزاء.
والرَّبْعة: الجوفة.
وَيقال: رجل رَبْعة وَامرأة رَبْعة وَرجال وَنساء رَبَعات بتحريك الباء وَخولف به طريق ضَخْمة وَضَخَمات لاستواء نعت الرجل والمرأة في قولك: رجل رَبْعة وَامرأة رَبعة فصار كالاسم، والأصل في باب فَعْلة من الأسماء مثل تَمْرة وجَفْنة أن يجمع على فَعَلات مثل تَمرات وجَفَنات، وَما كان من النعوت على فَعْلة مثل شاة لَجْبَة وامرأة عَبْلة أن يجمع على فَعْلات بسكون العين.
وَإنما جمع رَبْعة على رَبَعات وهو نعت لأنه أشبه الأسماء لاستواء لفظ المذكّر والمؤنّث في وَاحده.
وَقال الفرّاء: من العرب من يقول: امرأة رَبْعة وَنسوة رَبْعات، وكذلك رجل رَبْعة ورجال رَبْعُون، فيجعله كسائر النعوت وَيقال: ارتبع البعيرُ يرتبع ارتباعًا، والاسم الرَّبعة، وهو أشدّ عَدْو البعير.
وأنشد الأصمعيّ لبعض الشعراء:
واعرورت العُلُطَ العُرْضِيّ تركضه *** أُمّ الفوارس بالدِئداء وَالرَّبعَهْ
وَقال أبو يحيى بن كُناسة في صفة أزمنة السنة وَفصولها ـ وَكان علَّامة بها ـ: اعلم أن السنة أربعة أزمنة: الربيع الأوَل، وَهو عند العامَّة: الخريف.
ثم الشتاء ثم الصيف، وَهو الربيع الآخر، ثم القَيْظ.
قال: وَهذا كله قول العرب في البادية.
قال: وَالربيع الأوَّل الذي هو الخريف عند الفرس يدخل لثلاثة أيام من أيلُول.
قال وَيدخل الشتاء لثلاثة أيام من كانون الأول، قال: وَيدخل الصيف الذي هو الربيع عند الفُرس لخمسة أيام تخلو من آذار، ويدخل القيظ الذي هو صيف عند الفرس لأربعة أيام تخلو من حَزِيران.
قال أبو يحيى: وربيع أهل العراق موافق لربيع الفُرْس، وهو الذي يكون بعد الشتاء.
وهو زمان الوَرْد، وَهو أعدل الآوِنة، وَفيه تُقْطَع العُرُوق، وَيُشرب الدوَاء.
قال: وَأهل العراق يُمطَرون في الشتاء كله، وَيُخصِبون في الربيع الذي يتلو الشتاء، وَأما أهل اليمن فإنهم يُمطَرون في القَيْظ وَيُخْصبون في الخريف الذي يسمّيه العرب الربيع الأول.
قلت: وسمعت العرب تقول لأول مطر يقع بالأرض أيام الخريف: ربيع، ويقولون: إذا وقع ربيع بالأرض بعثنا الرواد وانتجعنا مساقط الغيث.
وسمعتهم يقولون للنخيل إذا خُرِفت وصُرمت: قد تربَّعت النخيلُ، وإنما سمّي فصل الخريف خريفًا لأن الثمار تُخترَف فيه، وسمته العرب ربيعًا لوقوع أول المطر فيه.
ويقال للفَصِيل الذي يُنْتَج في أول النتاج: رُبَع
وجمعه رباع.
ومنه قول الراجز:
وعلبة نازعتها رِبَاعي
سُمِّي رُبعًا لأنه إذا مَشَى ارتفع ورَبَع أي وَسَّع خَطْوه وعَدَا.
ورِبْعِيّ كل شيء: أوله: رِبْعيّ الشباب ورِبْعِيّ النِّتَاج.
يقال سَقْب رِبْعيّ، وسِقاب رِبْعِيَّة: وُلِدت في أول النِتاج.
وقال الأعشى:
ولكنها كانت نوًى أجنبيَّة *** توالي ربِعيّ السقاب فأصحبا
هكذا سمعت العرب تنشِده.
وفسّروا لي توالي السقاب أنه من الموالاة، وهو تمييز شيء من شيء، يقال: والينا الفِصْلان عن أمّهاتها فتوالت، أي فصلناها عنها عند تمام الحول.
ويشتد الموالاة ويكثر حَنِينها في أثر أمّهاتها، ويُتَّخذ لها خَنْدق تحبس فيها، وتُسَرَّح الأمهات في وجه من مراتعها.
فإذا تباعدت عن أولادها سُرِّحت الأولاد في جهة غير جهة الأمَّهات فترعى وحدها فتستمرّ على ذلك وتُصْحِب بعد أيام.
أخبر الأعشى أن نَوَى صاحبتِه اشتدَّت عليه فحنَّ إليها حَنينَ رِبْعيّ السقاب إذا وُولي عن أمّه، وأخبر أن هذا الفَصيل يستمرّ على الموالاة ويُصحِب، وأنه دام على حنينه الأول وتمَّ عليه ولم يُصحب إصحاب السَقْب.
وإنما فسرت هذا البيت لأن الرواة لمَّا أشكل عليهم معناه تخبّطوا في استخراجه وخلّطوا ولم يعرفوا منه ما يَعرف مَن شاهد القوم في باديتهم، والعرب تقول: لو ذهبت تريد وِلاء ضَبَّة من تميم لتعذَّر عليك موالاتهم منهم لاختلاط أنسابهم.
وقال الشاعر
وكنا خُلَيطى في الجمال فأصبحت *** جِمالي تُوالَى وُلَّهًا من جمالِكِ
تُوالى أي تُمَيَّز منها.
وجاء في دعاء الاستسقاء: «اسقنا غيثًا مَرِيعًا مُرْبِعًا».
فالمَريع: المُخْصِب الناجع في المال.
والمُرْبِع: المُغْني عن الارتياد لعمومه وأن الناس يربعون حيث كانوا فيقيمون للخِصْب العامّ.
وقال ابن المظفر: يقال: أَرْبعت الناقةُ إذا استغلق رحمُها فلم تَقبل الماء.
ثعلب عن سَلَمة عن الفرّاء: يُجمع ربيع الكلأ وربيع الشهور أَرْبِعة.
ويجمع ربيع النهر أَرْبِعاء.
قال: والعرب تذكر الشهور كلها مجرَّدة إلا شهري ربيع وشهر رمضان.
وفي الحديث في المزارعة قال: «ويشترط ما سَقَى الرَّبيع» يريد النهر، وهو السَعِيد أيضًا.
أبو عبيد عن الفرّاء: الناس على سَكَناتهم ونَزَلاتهم ورِبَاعتهم ورَبَعاتهم يعني على استقامتهم.
وقال الأصمعيّ: يقال: ما في بني فلان أحد يُغْني رِبَاعتُه غير فلان كأنه أمره وشأنه الذي هو عليه.
قال الأخطل:
ما في معدّ فتى يغني رِبَاعَتُه *** إذا يهمّ بأمر صالح فَعَلا
اللِّحيانيّ: قعد فلان الأُرْبَعاء والأَرْبُعَاوَى أي متربّعًا.
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الخيل تُثْنِي وتُرْبِعُ وتُقْرِح، والإبل تُثْني وتُرْبِع وتُسْدِس وتبزُل، والغنم تُثني وتُربِعُ وتُسْدِس وتَصْلُغ.
قال ويقال للفرس إذا استتمَّ سنتين: جَذَع.
فإذا استتمّ الثالثة فهو ثَنِيّ، وذلك عند إلقائه رواضعه.
فإذا استتمّ الرابعة فهو رَبَاعٍ.
قال: أثنى إذا
سقطت رواضعه ونبت مكانه سِنّ.
فنبات تلك السِنِّ هو الإثناء.
ثم تسقط التي تليها عند إرباعه فهي رَبَاعِيته فتنبت مكانها سِنّ فهو رَبَاعٌ والجميع رُبْع وأكثر الكلام رَبَع وأرباع.
فإذا حان قُرُوحه سقط الذي يلي رباعيته فينبت مكانه قارِحُه وهو نابه، وليس بعد القروح سقوط سنّ ولا نبات سنّ.
وقال غيره: إذا طعن البعير في السنة الخامسة فهو جَذَع، فإذا طَعَن في السادسة فهو ثَنِيّ، فإذا طَعَن في السابعة فهو رَبَاعٍ، والأنثى رَبَاعية فإذا طعن في الثامنة فهو سدوس وسدِيس، فإذا طعن في التاسعة فهو بازل.
وقال ابن الأعرابي: تُجْذِع العَنَاق لسنة وتُثْني لتمام سنتين، وهي رَبَاعية لتمام ثلاث سنين وسَدَس لتمام أربع سنين صالغ لتمام خمس سنين.
وقال أبو فَقْعس الأسَديّ: وَلَد البقرة أوَّلَ سنة تبِيع، ثم جَذَع، ثم ثنِيّ، ثم رباعٍ، ثم سَدَس، ثم صالغ.
وهو أقصى أسنانِه، روى ذلك أبو عبيد عنه.
وقال الأصمعيّ: للإنسان من فوق ثَنيَّتان ورباعِيتان بعدهما ونابان وضاحكان وستة أرحاء من كل جانب وناجِذان وكذلك من أسفل.
وقال أبو زيد: يقال لكل خُفّ وظِلْف ثنيَّتان من أسفل فقط.
وأمّا الحافر والسِبَاع كلها فلها أربع ثنايا.
وللحافر بعد الثنايا أربع رَباعِيات وأربعة قوارح وأربعة أنياب وثمانية أضراس.
الليث: يوم الأربعاء بكسر الباء ممدود.
ومنهم من يقول:
أربَعاء بنصب الباء، وأربعاوان وأَرْبعاوات، حمل على قياس قصباء وما أشبهها.
ومن قال: أَرْبِعاء حمله على أسعِداء.
ويقال: رُبِعت الأرض فهي مربوعة إذا أصابها مطر الربيع.
وأنشد غيره:
بأفنان مربوع الصَرِيمة مُعْبِل
قال: والربيعة: بَيْضة السلاح.
وكذلك قال ابن الأعرابي ومرابيع النجوم: التي يكون بها المطر في أول الأنواء.
وقال أبو زيد: استربع الرملُ إذا تراكم فارتفع.
وأنشد:
مستربع من عَجَاج الصيف منخول
ابن السكيت: ربيع رابع إذا كان مُخْصِبًا.
واستربع البعيرُ للسَيْر إذا قَوِي عليه.
ورجل مستربع بعمله أي مستقِل به قويّ عليه.
وقال أبو وَجْزة:
مستربع بسُرَى الموماة هيَّاج
وأما قول صخر:
كريم الثنا مستربع كل حاسد
فمعناه: أنه يَحمل حسده ويقدر عليه.
وهذا كله من رَبْع الحجر وإشالته.
وتربعت الناقة سَنَامًا طويلًا أي حملته: وأما قول أبي وجزة:
حتى إذا ما إيالات جرت بُرُحًا *** وقد رَبَعن الشَوَى من ماطرٍ ماج
فإن معنى رَبَعن: أَمْطَرن من قولك: ربُعنا أي أصابنا مطر الربيع.
وأراد بقوله: (من ماطر) أي من عَرَق (ماج): مِلْح.
يقول: أمطرت قوائمهن من عرقهنّ.
والمرتَبِع من الدوابّ: الذي رعى الربيع فسمِن ونشِط، ويقال: تربّعنا الحَزْن والصَمَّان أي رعينا بقُولها في الشتاء.
وتربت الإبلُ بمكان
كذا أي أقامت به وأنشدني أعرابيّ:
تربَّعت تحت السُمِيّ الغُيَّمِ *** في بلد عافى الرياض مُبْهِم
عافى الرياض أي رياضه عافية لم تُرع.
مُبْهِم: كثير البُهْمَى.
وأمّا قول الشاعر:
يداك يد ربيع الناس فيها *** وفي الأخرى الشهور من الحرام
فإنه أراد أن خصِب الناس في إحدى يديه لأنه يَنْعَش الناس بسَيْبه، وأن في يده الأخرى الأمن والحِيطة ورَعْي الذِمام.
وأمّا قول الفرزدق:
أظنّك مفجوعًا برُبْع منافق *** تلبّسَ أثواب الخيانة والغَدْر
فإنه أراد أن يمينه تقطع فيذهب ربع أطرافه الأربعة.
وأما قول الجعديّ:
وحائل بازل تربَّعت الصي *** ف طويلَ العِفاء كالأُطُم
فإنه نصب الصيف لأنه جعله ظرفًا، أي تربَّعت في الصيف سَنَامًا طويل العَفَاء أي حملتْه، فكأنه قال: تربَّعت سَنَامًا طويلًا كثير الشحم.
وقال ابن السكيت في قول لبيد يصف الغيث:
كأنَّ فيه لما ارتفقْتُ له *** رَيْطًا ومِرْباع غانِم لَجَبا
قال: ذكر السحاب.
والارتفاق: الاتّكاء على المرفق.
يقول: اتكأت على مَرْفِقي أشيمه ولا أنام.
شبَّه تَبوُّج البَرْق فيه بالرَيْط الأبيض.
والرَيْطة: مُلاءة ليست بملفَّقة.
وأراد بمرباع غانم صوب رَعْده.
شبَّهه بمرباع صاحب الجَيش إذا عُزِل له رُبع النَّهْب من الإبل فتحانَّت عند الموالاة، فشبَّه صوت الرعد فيه بحنينها.
قال: وفي بني عُقَيل رَبِيعتان: رَبِيعة بن عُقَيل، وهو أبو الخُلَعاء، وربيعة بن عامر بن عُقَيل، وهو أبو الأبرص وقُحافة وعَرْعَرة وقُرّة.
وهما ينسبان: الرِبيعيِّينِ.
ويقال لولد الناقة يُنْتَج في أول النتاج: رُبَع، والأنثى رُبَعة.
والجميع رِبَاع.
وإذا نسب إليه فهو رُبَعيّ.
وإذا نسب إلى الربيع قيل: ربيعيّ.
وإذا نسب إلى ربيعةِ الفَرس فهو رَبعيّ.
واليرابيع: جمع اليَرْبوع.
وترابيع المتن: لحمه، ولم أسمع لها بواحد.
وقال ابن الأعرابيّ: الربَّاع: الكثير شِرَى الرباع وهي المنازل.
قال: والرَّبِيعة: الروضة.
والربيعة: المزادة.
والربيعة بيضة الحرب.
والرَّبِيعة: العَتِيدة.
والرَّبِيعَة: الحَجَر الذي يشال.
وأنشد الأصمعي قول الشاعر:
فوه ربيع وكفُّه قَدَح *** وبطنه حين يتّكي شَرَبَهْ
يَسَّاقط الناس حوله مرضا *** وهو صحيح ما إن به قَلَبَهْ
أراد بقوله: فوه ربيع أي نهر لكثرة شربه وجمعه أربِعاء.
ومنه الحديث: إنهم كانوا يُكْرون الأرض بما ينبت على الأربعاء.
وقال ابن هانىء: قال أبو زيد: يقال: بيت أُرْبَعاواء على أفعلاواء، وهو البيت على طريقتين وثلاث وأربع وطريقة واحدة، فما كان على طريقة فهو خِبَاء، وما زاد على طريقة فهو بيت.
والطريقة: العمد الواحد، وكل عمود طريقة وما كان
بين عمودين فهو مَتْن.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
89-تهذيب اللغة (عمر)
عمر: قال الله جلّ وعزّ في كتابه المنزل عليه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحِجر: 72] رَوَى أبو الجوزاء عن ابن عباس في قوله: لَعَمْرُكَ يقول: بحياتك.قال: وما أقسم الله تعالى بحياة أحد إلّا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخبر المنذريّ عن أبي الهيثم أنه قال: النحويون ينكرون هذا، ويقولون: معنى لَعَمْرُكَ: لَدِينُك الذي تعمر.
وأنشد:
أيها المنكح الثريا سهيلًا *** عَمْرَكَ الله كيف يلتقيان
قال: عَمْرَك الله أي عبادتك الله، فنصب.
وأنشد:
عمركِ الله ساعة حدثينا *** وذرِينا من قول مَن يؤذينا
فأوقع الفعل على اللهَ في قوله: عَمْرَك الله.
قال: وتدخل اللام في (لعمرك)، فإذا أدخلتها رفعت بها فقلت: لَعَمْرُك، ولعمر أبيك.
قال: فإذا قلت: لعمر أبيك الخير نصبت الخير وخفضت فمن نصب أراد أن أباك عَمرَ الخير يَعْمُره عَمْرًا وعمارة، ونصب الخير بوقوع العَمْر عليه، ومَنْ خفض الخير جعله نعتًا لأبيك.
أبو عبيد عن الكسائي: عَمْرَك الله، لا أفعل ذاك نَصَب على معنى: عمَّرتك الله أي سألت الله أن يعمّرك، كأنه قال: عمَّرت الله إياك.
قال: ويقال: بأنه يمين بغير واو.
وقد يكون عَمْرَ اللهِ، وهو قبيح قال: والعَمْر والعُمر واحد.
وسمّي الرجل عَمْرًا تفاؤلًا أن يبقى.
وعَمْرَك الله مثل ناشدتك الله.
وقال أبو عبيد: سألت الفرّاء لِمَ ارتفع لَعَمْرُكَ [الحجر: 72] فقال: على إضمار قسم ثان، كأنه قال: وعَمْرِك فلعمرُك عظيم، وكذلك لحياتك مثله.
قال: وصدَّقَه الأحمر وقال: الدليل على ذلك قول الله جلّ وعزّ: {اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النِّساء: 87] كأنه أراد: والله ليجمعنّكم فأضمر القَسَم.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأخفش في قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ}: وعَيْشِك وإنما يريد به العُمْرُ.
وقال أهل البصرة: أضمر له ما يرفعه: لعمرك المحلوفُ به.
قال الفرّاء: الأَيمان يرفعها جواباتها: وقال: إذا أدخلوا اللام رفعوا.
وقال المبرّد في قولك: عَمْرَ الله: إن شئت جعلت نصبه بفعل أضمرته، وإن شئت نصبته بواو حذفته: وعَمْرِكَ الله.
وإن شئت كان على قولك: عمّرتك الله تعميرًا، ونشدتُك الله نَشْدًا، ثم وضعت عمرك في موضع التعمير وأنشد فيه:
عَمْرتُكِ الله إلّا ما ذكرتِ لنا *** هل كنتِ جارتنا أيام ذي سَلَم
يريد: ذكّرتك.
وقال الليث: تقول العرب: لعمرك، تحليف بعُمر المخاطَب.
قال: وقد نُهي عن أن يقال: لعمر الله.
قال: وفي لغة لهم: رَعَمْلُك يريدون: لعمرك.
قال: وتقول: إنك عمري لظريف.
وأخبرني المنذري عن الحَرّانيّ عن ابن السكّيت قال: يقال: لعمرك ولعمر أبيك ولعمر الله مرفوعة.
قال: والعَمْر والعُمْر لغتان فصيحتان، يقال: قد طال عَمْره وعُمره؛ فإذا أقسموا فقالوا: لعَمرك وعمرِك وعمري فتحوا العين لا غير.
قال: وأمَّا قول ابن أحمر:
ذهب الشباب وأَخلف العَمْر
فيقال: إنه أراد العُمر، ويقال: أراد بالعَمْر الواحدَ من عمور الأسنان وبين كل سِنَّين لحم متدلٍّ يسمّى العَمْر وجمعه عُمُور.
وأخبرني المنذريّ عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ أنه قال: عَمَرت ربّي أي عبدته.
وفلان عامر لربّه أي عابد.
قال: ويقال: تركت فلانًا يعمُر ربَّه أي يعبده.
وقال الله جلّ وعزّ: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} [هُود: 61] أي أذِن لكم في عمارتها واستخراج قُوتكم منها.
وقوله جلّ وعزّ: {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ} [فَاطِر: 11] وفُسّر على وجهين: قال الفرّاء: ما يطوَّل من عمر من عمر معمَّر ولا يُنقص من عُمره يريد آخر غير الأول، ثم كنّى بالهاء كأنه الأول.
ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه، المعنى: ونصف آخر، فجاز أن يقول: نصفه؛ لأن لفظ الثاني قد يُظهر كلفظ الأول، فكنى عنه كنايةَ الأول.
قال: وفيها قول آخر: {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يقول: إذا أتى عليه الليل والنهار ونقَصا من عمره.
والهاء في هذا المعنى للأول لا لغيره؛ لأن المعنى: ما يطوَّل ولا يذهب منه شيء إلَّا وهو مُحْصًى في كتاب، وكلٌّ حسن، وكأن الأوّل أشبه بالصواب، وهو قول ابن عباس، والثاني قول سعيد بن جُبَير.
وقال
الله جلّ وعزّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 196] والفرق بين الحجّ والعمرة أن العمرة تكون في السنة كلها، والحجّ لا يجوز أن يُحْرَم به إلّا في أشهر الحجّ: شوّال وذي القعدة وعَشْر من ذي الحجَّة.
وتمام العمرة أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمرة، والحجّ لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة.
والعمرة مأخوذة من الاعتمار وهو الزيارة.
يقال: أتانا فلان معتمرًا أي زائرًا.
ومنه قوله:
وراكبٌ جاء من تَثْليث معتمرُ
ويقال الاعتمار: القصد، وقال:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر
المعنى: حين قصد مغزًى بعيدًا.
وقيل: إنما قيل للمُحْرِم بالعمرة: معتمِر لأنه قصد لعمل في موضع عامر، فلهذا قيل: معتمِر.
ومكان عامر: ذو عمارة.
ويقال لساكن الدار: عامر والجميع عُمَّار.
أبو عبيدة عن الأصمعيّ: عَمِر الرجلُ يَعْمَر عَمَرًا أي عاش.
وعَمَر فلان بيتًا يَعْمُره.
وأنشد محمد بن سَلَّام كلمة جرير:
لئن عَمِرَت تَيْم زمانًا بِغِرّة *** لقد حُدِيث تَيمٌ حُدَاء عَصَبْصَبا
وقال اللحياني: دار معمورة: يسكنها الجِنّ.
ويقال عَمرَ مالُ فلان يَعْمَر إذا كثر.
وأتيت أرض بني فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة.
المَعْمَر: الذي يقام به.
وقال طرفة:
يا لكِ من قُبَّرة بمَعْمَر
وقال آخر:
يَبْغينك في الأرض مَعْمَرا
أي: منزلًا.
وقال الليث: العَمْر: ضرب من النخل، وهو السَحُوق الطويل.
قلت: غلِط الليث في تفسير العَمْر، والعُمْر: نخل السُكّر يقال له: العُمْر، وهو معروف عند أهل البحرين.
وأنشد الرياشيّ في صفة حائط نخل:
أَسْود كالليل تدجَّى أخضرُهْ *** مخالط تعضوضُه وعُمُرُهْ
بَرْنيَّ عَيْدَانٍ قليلًا قَشَرُهْ
والعَضوض: ضرب من التَمر سَرِيّ.
وهو من خير تُمْران هَجَر، أسود عَذْب الحلاوة.
والعُمْر: نخل السُكّر، سَحُوقًا كان أو غير سَحوق.
وكان الخليل بن أحمد من أعلم الناس بالنخيل وألوانه.
ولو كان الكتاب من تأليفه ما فسّر العمر هذا التفسير.
وقد أكلت أنا رُطَب العُمْر ورُطَب التعضوض وخَرَفتهما من صغار النخل وعَيْدانها وجَبّارها.
ولو لا المشاهدة لكنت أحد المغترّين بالليث وخليلِه وهو لسانه.
أبو العباس عن ابن الأعرابي: يقال رجل عَمَّار إذا كان كثِير الصلاة كثِير الصيام.
ورجل عَمَّار مُوَقًّى مستور، مأخوذ من العَمَر وهو المِنديل أو غيره تغطِّي به الحُرَّة رأسها، ورجل عمَّار وهو الرجل القويّ الإيمان الثابت في أمره الثخين الوَرَع، مأخوذ من العَمِير، وهو الثوب الصفيق النسِيج القويّ الغَزْلِ الصبور على العمل.
قال: والعَمَّار الزيْن في المجالس مأخوذ
من العَمْر وهو القُرْط والعَمّار: الطيّب الثناء والطيب الروائح مأخوذ من العَمَار وهو الآس.
قال: وعمَّار المجتمِع الأمر اللازم للجماعة الحِدِب على السلطان مأخوذ من العِمَارة وهي القبيلة المجتمِعة على رأي واحد.
قال: وعمَّار: الرجل الحليم الوَقُور في كلامه وفعاله، مأخوذ من العَمارة، وهي العمامة.
وعَمَّار مأخوذ من العَمْر وهو البقاء، فيكون باقيًا في إيمانه وطاعته وقائمًا بالأمر والنهي إلى أن يموت قال: وعَمَّار: الرجل يجمع أهلَ بيته وأصحابَه على أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام بسُنّته، مأخوذ من العَمَرات وهي اللَحَمات التي تكون تحت اللحِي، وهي النغانغ واللغاديد.
وهذا كله محكيّ عن ابن الأعرابي.
وقال أبو عبيدة: في أصل اللسَان عَمْرَتان.
ويقال عُمَيميرتان، وهما عظمان صغيران في أصل اللسان.
والعَمِيرة: كُوَّارة النَحْل.
وقال ابن الأعرابي: يقال كَثِير بَثِير بَجِير عَمِير، هكذا قال بالعين.
قال: والمعمور: المخدوم.
وعمرت ربي وججَته أي خدمْته.
ويقال للصنَبُع: أمُ عامر كأن ولدها عامر ومنه قول الهذلي:
وكم من وجار كَجيْب القمِيص *** به عامر وبه فُرْعُل
ومن أمثالهم: خامِري أمّ عامر، ويضرب مَثَلًا لمن يُخدع بلين الكلام.
ويقال: تركت القوم في عَوْمرة أي في صياح وجَلَبة.
والعمَارة: الحَيّ العظيم تنفرد بظَعْنها وإقامتها ونُجْعتها.
وهو من الإنسان: الصَدْر، سمّي الحيّ العظيم عِمارة بعمارة الصدر، وجمعها عمائر.
ومنه قول جرير:
يجوس عمارة ويكفّ أخرى *** لنا حتّى نجاوزها دليل
ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُعْمِروا ولا تُرقبوا، فمن أُعْمِر دارًا أو أُرْقِبها فهي له ولورثته من بعده.
وقال أبو عبيد: هي العُمْرى والرقْبى.
والعُمْرَى: أن يقول الرجل للرجل: داري هذه لك عمرك أو يقول: داري هذه لك عمري، فإذا قال ذلك وسلَّمها إليه كانت للمعمَر ولم ترجع إلى المعمِر إن مات.
وأمّا الرُقْبَى: فأن يقول الذي أرقبها: إن متَّ قبلي رجعت إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك.
وأصل العمرى مأخوذ من العُمْر، وأصل الرقبى من المراقبة، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشروط وأمضى الهبة.
وهذا الحديث أصل لكلّ من وهب هِبة فشرط فيها شرطًا بعد ما قبضها الموهوب له: أن الهِبَة جائزة والشرط باطل.
وقال أبو إسحاق في قول الله جلّ وعزَّ: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4]: جاء في التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة، يدخله كلَّ يوم سبعون ألْفَ ملَكٍ يخرجون منه ولا يعودون إليه.
وقال الأصمعي: العُبْريّ والعُمْريّ: السِدْر الذي يَنْبت على الأنهار ويَشرب الماء.
وقال أبو العَمَيْثل الأعرابيّ: العُبْريّ والعمريّ من السِدْر: القديمُ، على نهر كان أو غيره.
قال: والضال: الحديث منه.
وأنشد قول ذي الرمة:
قطعت إذا تجوّفت العواطي *** ضروب السدر عُبريًّا وضالا
وقال: الظباء لا تكنِس بالسدر النابت على الأنهار.
وقال أبو سعيد الضرير: القول ما قال أبو العميثل، واحتجّ هو أو غيره بحديث محمد بن مَسْلَمة ومَرْحَب.
قال الراوي لحديثهما ما رأيت حربًا بين رجلين قطّ علِمتها مثلها.
قال كلُّ واحد منهما إلى صاحبه عند شجرة عُمْريَّة، فجعل كلُّ واحد منهما يلوذ بها من صاحبه.
فإذا استتر منها بشيء خَذَم صاحبُه ما يليه حتى يخلُص إليه، فما زالا يَتَخَذَّمانها بالسيف حتى لم يبق فيها غُصْن، وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، في حديث طويل.
أبو عبيد عن أبي عبيدة: العَمَار: كلّ شيء علا الرأسَ من عمامة أو قلنسوة أو غير ذلك.
ويقال للمعتّم: مُعتمِر.
وقال بعضهم في قول الأعشى:
.
.
.
ورفعنا عمارا
أي: قلنا له: عمّرك الله أي حيَّاك الله.
وقال ابن السكيت: العامران في قيس: عامر بن مالك بن جعفر، وهو مُلَاعِب الأسِنَّة، وهو أبو بَرَاء، وعامر بن الطُفَيل بن مالك بن جعفر.
قال: والعُمرَان أبو بكر وعُمَر، فغلّب عمر لأنه أخفّ الاسمين.
قال: وقيل: سُنَّة العُمَرين قبل خلافة عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عبيدة نحوه.
قال: فإن قيل: كيف بدىء بعمر قبل أبي بكر وهو قبله، وهو أفضل منه فإن العرب يفعلون مثل هذا، يبدءون بالأخسّ؛ يقولون: ربيعة ومُضَر، وسُلَيم وعامر، ولم يترك قليلًا ولا كثيرًا.
وقال أبو يوسف: قال الأصمعي: حدثنا أبو هلال الراسبيّ عن قتادة أنه سئل عن عتق أمَّهات الأولاد، فقال: أعتق العُمَران فيمن بينهما من الخلفاء أمّهات الأولاد، ففي قول قتادة: العُمَران: عمر بن الخطَّاب وعمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عبيد: يقال: عمر الله بك منزلك وأعمر، ولا يقال: أعمر الله منزله، بالألف.
وقال يعقوب بن السكيت: العَمْران: عمرو بن جابر بن هلال بن عُقَيل بن سُمَيّ بن مازِن بن فزارة، وبَدْر بن عمرو بن جُؤَية بن لَوْذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة وهما رَوْقا فزارة.
وأنشد لقُرَاد بن حَنَش يذكرهما:
إذا اجتمع العمران عمرو بن جابر *** وبدر بن عمرو خِلت ذُبْيان تُبّعا
أبو العباس عن ابن الأعرابيّ: أبو عمرة: كنيَة الجوع، وأبو عُمَير: كنية فرج الرجل.
وقال الليث: الإفلاس يكنى أبا عَمْرة.
وقال ابن الأعرابي: كنية الجوع أبو عمرة، وأنشد:
إن أبا عمرة شرّ جار
وقال ابن المظفر: كان أبو عمرة رسول المختار، وكان إذا نزل بقوم حلّ بهم البلاءُ من القتل والحرب.
ويعْمُر الشُّدَّاخ أحد حكَّام العرب.
ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال: اليعامير: الجِداء، واحدها يَعْمُور.
وأنشد:
مثل الذميم على قُزْم اليعامير
وجعل قطرب اليعامير شجرًا، وهو خطأ.
وقال أبو الحسن اللحياني: سمعت العامريَّة تقول في كلامها: تركتم سامرًا بمكان كذا وعامرًا.
قال أبو تراب: فسألت مصعَبًا عن ذلك فقال: مقيمين مجتمعين.
ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال: العَمَر ألَّا يكون للحُرَّة خِمار ولا صَوْقعة تغطّي رأسها، فتُدخل رأسها في كُمّها.
وأنشد:
قامت تصلّي والْخِمار من عَمَر
قال: والعَمْر حَلْقة القرط العليا، والْخَوْق: حَلْقةُ أسفلِ القُرط.
والعَمْرة: خَرَزة الحُبّ.
والعُمْرة: طاعة الله جل وعزَّ.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
90-تهذيب اللغة (سطح)
سطح: قال الليث: السَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ على وجه الأرض، كما تقول في الحرب: سَطَحُوهُم أي أَضْجَعُوهُم على الأَرْضِ، والسَّطِيحُ المسطوح هو القَتِيلُ، وأنشد:* حتى تَراهُ وَسْطَهَا سَطيحًا*
وسَطِيحٌ الذِّئْبِيُّ كان في الجاهلية يتكَهَّنُ سُمِّي سطيحًا، لأنه لم يكن له بين مَفَاصِلِه قَصَبٌ فكان لا يقدر على قيام ولا قعود، وكان مُنْسَطِحًا على الأرض، وحَدَّثنا بقصته محمدُ ابنُ إسْحَاق السّعْدِيّ قال: حدثنا علي بن حرب المَوْصِليّ، قال: حدثنا أبو أيوب يَعْلَى بن عمْران البَجَلِيّ، قال: حدثني مخزوم بن هانىء المخزومي عن أبيه، وأَتَتْ له خمسون ومائة سنة قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَجَس إيوانُ كِسْرَى، وسقطت منه أربعَ عشرة شُرْفَةً، وخَمِدَت نارُ فارِس، ولم تَخْمَد قبل ذلك مائة عام، وغاضت بُحَيْرَة سَاوَةَ، ورأى المُوبِذَان إِبِلًا صِعابًا تقود خَيْلًا عِرابًا قد قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وانتشرت في بلادها فلمّا أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فلَبِس تاجه وأخبر مَرازِبَتَه بما رأى، فورد عليه كتَابٌ بخمود النار، فقال المُوبِذَانُ: وأنا رأيت في هذه الليلة وقَصَّ عليه رؤياه في الإبل، فقال له الملك: وأيُّ شيء يكون هذا؟ قال: حادث من ناحية العرب، فبعث كسرى إلى النعمان بن المنذر أن ابْعَثْ إليّ برجل عَالِمٍ ليخبرني عمَّا أسأله، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن نُفَيْلَة الغَسَّانِي، فأخبره بما رأى، فقال: عِلْم هذا عند خالي سَطِيح، قال: فأته وسَلْه وأتِني بجوابه، فقدم على سَطِيح وقد أَشْفَى على الموت فأنْشَأَ يقول:
أَصَمُّ أم يَسْمَعُ غِطْرِيفُ اليمَن *** أم فَادَ فازْلَمَّ به شَأْوُ العَنَن
يا فَاصِلَ الْخُطَّة أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ *** أَتَاكَ شَيْخُ الحَيِّ من آل سَنَنْ
رَسُولُ قَيْل العُجْم يَسْرِي لِلْوَسَن *** وأمّه من آل ذئْب بن حَجَن
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّداء والبَدَنْ *** تَجُوبُ بي الأرضَ عَلَى ذات شَجَن
تَرْفَعُني وَجْنَاءُ تَهْوِي من وَجَن *** حتى أَتَى عاري الجبين والقَطَن
لا يَرْهَبُ الرَّعدَ ولا ريْبَ الزَّمن *** تَلُفُّهُ في الرِّيح بَوْغَاءٌ الدِّمَن
كأَنَّما حُثْحِثَ من حِضْنَي ثَكَن فلما سمع سَطِيح شِعْرَه رفع رأسَه فقال: عبد المسيح على جَمَلٍ مُشيح يهوي إلى سَطيح وقد أوفى على الضَّرِيح، بَعَثَكَ مَلِك من بني سَاسَان لارْتجَاسِ الإيوان وخمود النيران ورُؤْيا المُوبِذان، رأى إبِلًا صِعَابًا تقود خَيْلًا عِرَابًا.
يا عبدَ المسيح، إذا كَثُرَت التِّلاوة، وبُعِثَ صاحبُ الهِرَاوَة، وغاضت بُحَيرةُ سَاوَة، فليس الشأم لِسَطيح شَأمًا، يَمْلكُ منهم ملوك ومَلِكات على عَدَدِ الشُّرُفات، وكلّ ما هو آتٍ آت، ثم قُبِضَ سَطِيحٌ مكانه، ونهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:
شَمِّر فإنك ما عُمِّرْتَ شِمِّيرُ *** لا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وتَغْيِيرُ
إن يُمْسِ مُلْكُ بني ساسان أفرطهم *** فإنَّ ذا الدَّهْرِ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
فرُبَّما رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ *** تخَافُ صَوْلَهُم أُسْدٌ مَهَاصِير
منهم أخو الصَّرْح بَهْرَامٌ وإخْوَتهُم *** وهْرْمُزَانٌ وسَابُورٌ وسَابُورُ
والناسُ أولاد عَلَّاتٍ فمن عَلِمُوا *** أَنْ قد أقلَّ فَمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وهُم بَنُو الأُمِّ لَمَّا أن رَأَوْا نَشَبًا *** فذاك بالغَيْبِ مَحْفُوظٌ ومَنْصُورُ
والخيرُ والشَّرُّ مقرونان في قَرَنٍ *** فالخيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذُورُ
فلمّا قدم على كِسْرى أخبره بقول سطيح فقال كِسْرى: إلى أن يَمْلِكَ مِنَّا أربعةَ عشرَ مَلِكًا تكون أمُورٌ، فملك منهم عَشَرَة في أربع سنين، ومَلَك الباقون إلى زَمَن عُثمان.
قلت: وهذا الخبر فيه ذكر آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وهو حديث حسن غريب.
وقال الليث: السَّطحُ: ظَهْرُ البيت إذا كان مُسْتَوِيًا، وفِعْلُكه التَّسْطِيح.
قال: والمِسْطَح والمِسْطَحَةُ: شبه مِطْهَرَة ليست بمُربَّعة، قال: ويُسَمَّى هذا الكوزُ الذي يُتَّخَذُ للسفر ذُو الجَنْبِ الواحِدِ مِسْطَحًا.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنّ حَمَلَ بن مالك قال للنبي صلى الله عليه وسلم، كنتُ بين جَارَتَين لي فضَرَبَت إحداهما الأخرى بمِسْطح فألقت جَنينًا ميِّتًا وماتت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وجعل في الجنين غُرَّة.
قال أبو عُبَيد: المِسْطح: عُودٌ من عِيدان الخِباءِ أو الفُسْطاط.
وأنشد قول عوف بن مالك النَّضْرِيّ:
تَعرَّض ضَيْطَارُو فُعَالة دوننا *** وما خَيْرُ ضَيْطَارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يقول: ليس له سلاح يقاتل به غير مِسْطح.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، ففقدوا الماء، فأرسل عَلِيًّا وفلانًا يبغيان الماء فإذا هما بامرأة بين سطيحتين.
قال أبو عُبَيد: قال الأصمعي والكِسَائي: السَّطِيحةُ: المزادَةُ تكون من جلدين، والمزادة أكبر منها.
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: السَّطِيحة من المزاد: إذا كانت من جلدين قُوبِل أحدهما بالآخر فَسُطح عليه فهي سطيحة.
وقال غيره: المِسْطحُ: حصيرٌ يُسَفُّ من خُوصِ الدَّوْمِ، ومنه قولُ تَمِيم بن مُقبل:
إذا الأمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأنه *** من الحَرِّ في حَدِّ الظهيرة مِسطَحُ
والمِسْطَح: أيضًا: صفيحة عريضة من الصخر يُحَوَّط عليه لماء السماء، ورُبما خلق الله عند فم الرَّكِيَّة صفَاةً ملساء مستويةً فيُحَوَّط عليها بالحجارة، ويُسقَى فيها للإبل شبه الحوض، ومنه قول الطّرمّاح:
*.
.
.
في جَنْبَيْ مَدِيِّ ومِسْطَح *
والمِسْطَح أيضًا: مكان مُسْتَوٍ يُجَفَّفُ عليه التمر ويُسَمَّى الجَرِين.
والسُّطَّاحَة: بقلة ترعاها الماشية، ويُغسَل بورقها الرؤوس.
وقال الفرّاء: هو المِسْطح والمِحْورُ والشُّوبق.
قال ابن شميل: إذا عُرِّش الكرْمُ عُمِدَ إلى دعائم يُحْفَر لها في الأرض، لكل دعامة شُعْبَتان، ثم تؤخَذُ خَشَبَةٌ فَتُعَرَّضُ على الدّعامَتَيْن، وتُسَمَّى هذه الخشبة المعروضة المِسْطح، ويجعل على المساطِح أُطُرٌ من أدناها إلى أقصاها تُسمَّى المساطِح بالأُطُر مساطِح.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
91-تهذيب اللغة (دهر)
دهر: قال الليث: الدَّهر: الأبَدُ المحدود، ورجلٌ دُهْرِيٌ: أي قديم، ورجلٌ دَهْرِيّ: يقول ببقاء الدهر، ولا يؤمن بالآخرة.ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا تَسُبُّوا الدهر فإِن الله هو الدهر».
قال أبو عُبيد: قوله: فإنّ الله هو الدهر مما لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهَه، وذلك أنّ المعطِّلة به يحتجّون على المسلمين، قال: ورأيتُ بعضَ من يُتَّهم بالزَّنْدَقة والدَّهْرِيّة يحتجّ بهذا الحديث ويقول: «ألا تراه يقول: فإنّ الله هو الدَّهْر»؟! فقلتُ: وهل كان أحدٌ يسبُّ الله في آبادِ الدَّهر؟! قد قال الأعشى في الجاهلية:
استأثر الله بالوفاء وبالحَمْ *** دِ وَوَلّى الملَامَةَ الرَّجُلَا
قال: وتأويله عندي أنّ العَرَب كان شأنها أن تَذُمّ الدَّهْرَ وتَسُبَّه عند النوازل تنزل بهم: من مَوْتٍ أو هَرَم فيقولون: أصابتْهم قوارِعُ الدهرِ، وأبادَهم الدَّهْرُ، فيجعلون الدَّهر الذي يفعل ذلك، فيذمّونه، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، وأَخبرَ الله عنهم بذلك، ثم كَذَّبهم، فقال جلّ وعزّ: {وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجَاثيَة: 24] قال الله جلّ وعزّ: {وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجَاثيَة: 24].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا الدّهرَ» على تأويل: لا تَسُبُّوا الدهر الذي يفعل بكم هذه الأشْياء، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السَّبُّ على الله لأنه الفاعل لها لا الدهرُ، فهذا وجه الحديث إن شاء الله.
قلتُ: وقد قال الشافعي في تفسير هذا الحديث نَحْوًا مما قال أبو عُبيد، واحتج بالأبيات التي ذكرها أبو عبيد، فظننت أبا عبيد عنه أخذ هذا التفسير لأنّه أوّل من فسره.
وقال شَمر: الزّمان والدَّهْر واحد، واحتجّ بقوله:
إنّ دَهْرًا يَلُفُّ حَبْلي بِجُمْل *** لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ
فعارض أبو الهيثم شَمِرًا في مقالته، وخطأه في قوله: الزّمان والدّهر واحد، وقال: الزمانُ: زَمانُ الرُّطَب، وزمان الفاكهة، وزمان الحرّ، وزمانُ البرد،
ويكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر، والدهر لا ينقطع.
قلت: والدهر عند العرب يَقَع على بعض الدهر الأطوَلِ، ويقَع على مُدّة الدنيا كلِّها وقد سمعت غير واحد من العرب يقول: أقمنا على ماء كذا وكذا دَهْرًا، ودارنا التي حللنا بها دَهْرًا، وإذا كان هذا هكذا جاز أن يقال: الزمان والدهر واحد في معنى دون معنًى وقد سمعتُ أعرابيًا فصيحًا يقول: ماءُ كذا وكذا يحملنا الشَّهْرَ والشَّهْرَين، ولا يحملنا الدّهر الطويل: أراد أنّ ما حوله من الكلأ ينفَدُ سَريعًا فنحتاج إلى حُضورِ ماء آخر؛ لأن الماء إذا أكلت الماشية ما حوله من الكلأ لم يكن لحُضّاره بُدٌّ من طَلَبِ ماءٍ آخرَ يَرْعَوْنَ ما حَوْله ويجوز أن تقول: كنا أزمانَ ولاية فلانٍ بموضع كذا وكذا، إن طالت مدّةُ ولايته والسَّنَة عند العرب أربعة أزمنة: ربيع الكلأ، والقيظ والخَريف والشتاء؛ ولا يجوز أن يقال: الدّهر أربعة أزمنة، فهما يفترقان في هذا الموضع.
قال الشافعي: الحينُ يقع على مدّة الدنيا، ويَوْم، ولا نعلم للحين غايةً، وكذلك زمانٌ ودَهْرٌ وأحقابٌ.
ذكر هذا في كتاب «الإيمان».
حكاه المُزنّى في «مُختصره» عنه.
وقال ابن الأنباريّ يقال في النِّسْبة إلى الرجل القديم: دَهْرِيّ، وإن كان من بني دَهْر بن عامر قلتَ دُهْرِيّ لا غير بضمّ الدال.
وقال ابن كَيْسان: ومما غُيِّرتْ حركاتُه في النِّسبة قولُهم: رجُلٌ سُهْليٌّ بضمّ السِّين في المنسوب إلى السَّهل، وكذلك رَجُلٌ دُهريّ.
قال: ولهما أمثالٌ كثيرة.
حدثنا عبد الله بن محمد بن هَاجَك، عن ابن جَبَلة، عن أبي عبيد، عن ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي بَكْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إن الزَّمان قد استدار كهَيْئَته يومَ خَلَق الله السَّماوات والأرض، السَّنة (اثْنا عَشَرَ شَهْرًا)، أربعةٌ منها حُرُم، ثلاثة منها متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرَّمٌ ورجب مُفرَد.
قلتُ: أراد بالزمان الدَّهْرَ وسِنِيّه.
وقال الليث: الدَّهارير: أول الدهر من الزمان الماضي، يقال: كان ذلك في دَهْر الدَّهارير، قال: ولا يُفْرَد منه دِهْرِير.
قال: والدّهرُ: النازلة تنزل بالقوم تقول: دَهَرَهمْ أمرٌ: نَزَلتْ بهم نازِلةٌ ويقال: ما دَهري كذا وكذا: أي ما هِمَّتي.
وقال ابن السكيت: ما طِبِّي كذا: أي ما دهري: قال الليث: ورَجُل دَهْوَرِيُ الصَّوْت، وهو الصُّلْبُ الصَّوْت.
قلتُ: وهذا خَطَأ عندي، والصوابُ رجلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْت بالجيم: أي رَفيعُ الصوت فَخْمُه؛ فصُحِّف وقلبت الجيمُ دالًا والله أعلم.
والدَّهْوَرة: جمعُ الشيء ثم قذفه في مَهْوَاة.
وقال غير الليث دَهْوَرَ فلانٌ اللُّقَم إذا أدارها ثم التهمها.
وقال مجاهد في قول الله جلّ وعزّ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]: أي دُهْوِرتْ.
وقال الربيع بن خُثَيْم (كُوِّرَتْ) أي رُمِيَ بها.
وقال بعضُ أهل اللغة: دَهْوَرْتُ الحائط: إذا طَرَحْتَه حتى يسقُطَ، ويقال: طعنه فكوَّره: إذا ألْقاه وصَرَعه.
وقال الزَّجّاج في قول الله جلّ وعزّ: {فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ} [الشُّعَرَاء: 94] أي في الجحيم.
قال: ومعنى «كُبْكِبُوا» طُرح بعضهم على بعض.
وقال غيره من أهل اللغة: معناه دُهْوِروا.
وفي حديث:
فإنّ ذا الدّهر أطوارا دهاريرُ*
قال الأزهري: الدهرُ ذو حالين من بؤس ونُعْم.
وقال الفرزدق:
فإنى أنا الموْتُ الذي هو نازلٌ *** بنفسكَ فانظر كيف أنت تُحاولهْ
خاطَبَ جريرًا، فأجابه:
أنا الدّهرُ يُفنِي الموتَ والدهرُ خالد *** فجئني بمثلِ الدهر شيئًا يُطاوِله
قلتُ: جعل الدّهرَ الدنيا والآخرة، لأن الموت يَفنَى بعد انقضاء الدنيا، هكذا جاء في الحديث.
وداهر: مَلِك الدَّيْبُل قتله محمد بن القاسم الثَّقَفيّ ابن عمّ الحجّاج، فذكره جرير فقال:
وأَرْضَ هِرَقْلٍ قد قَهَرْتَ وداهرًا *** ويسعى لكم من آل كِسْرَى النَّواصِفُ
أراد بالنواصف الخَدَم.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
92-تهذيب اللغة (طبق)
طبق: قال الليث: الطَّبقُ: عُظَيم رقيق يفصل بين الفَقَارين.وقال غيره: الطَبَق: فَقار الصلب أجمع.
وكلّ فَقارة طبَقة.
وفي حديث ابن مسعود: «وتبقى أصلابُ المنافقين طَبقًا واحدًا».
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: الطَبَق: فَقَار الظهر، واحدتُه طَبقة.
يقول: فصار فقارهم كلّه فَقَارةً واحدة، فلا يقدرون على السُّجود.
ويقال: يد فلانٍ طبقةٌ واحدة، إذا لم تَكن منبسطةً ذاتَ مفاصل.
والطبقة من الأرض: شبه المشَارة، والجميع الطبقات.
ثعلب عن سَلمة عن الفراء، يقال: لقيت منه بناتِ طبَقٍ، وهي الداهية.
أبو عبيد عن الأصمعيّ: يقال: جاء بإحدى بناتِ طَبَق، قال: وأصلها من الحيّات.
ولمّا نُعي المنصورُ إلى خلفٍ الأخمر أنشأ يقول:
قد طرَّقتْ ببِكرِها أمَ طبَقْ *** فَذَمَّروها وَهْمةً ضخمَ العُنُق
موت الإمام فِلقةٌ من الفِلَق
وقال غيره: قيل للحَية أم طبق وبنت طَبَق لَتَرحِّيها وتَحوِّيها.
وأكثر الترحّي للأفعى.
وقال غيره: قيل للحيّات بناتُ طبق لإطباقها على مَن تَلسعه.
وقيل: إنَّما قيل لها بناتُ طَبَق لأنّ الْحواء يُمسكها تحت أطباق الأسفاط المجلّدة.
ويقال: مضى طَبقٌ من النهار، أي: ساعة.
ومِثله مضت طائفة من الليل.
وطِباق الأرض وطِلاعُها سواء، معناهما مِلْؤها.
ثعلبٌ عن ابن الأعرابي: هذا الشيء وَفْق هذا ووِفاقُه، وطِبْقُه وطَبقه، وطَابَقُه، وطَبيقُه ومُطبَقُه، وقالَبُه وقَالِبُه، بمعنًى واحد.
ومنه قولهم: «وافَق شنٌ طَبقة».
أبو عبيد: شنٌّ وطبق: حيّانِ من العرب.
وقال ابن السكّيت: طَبق: حيّ مِن إياد، وشَنّ: ابن أفْصَى بن عبد القيس، وكانت شَنٌّ لا يقام لها، فواقعتْها طَبق فانتصفتْ منها فقيل:
وافَقَ شَنٌ طبَقة *** وافَقه فاعتَنَقهُ
وأنشد:
لَقيتْ شَنٌّ إيادًا بالقَنا *** طَبقًا وافَق شَنٌ طَبقه
أبو عبيد عن الأصمعي في هذا المَثل: الشَّنُ: الوِعاء المعمول من الأدَم، فإذا يبس فهو شَنٌ، فكان قوم لهم مِثلُه فتَشَنَنَ، فجعلوا له غِطاءً، فوافَقه.
أبو عبيد عن أبي زيد: المطابَقة المشيُ في القيد.
وهو الرَّسْف.
وقال ابن الأعرابي: المطابقة أن يضع الفرسُ رجلَه في موضع يدِه؛ وهو الأحَق من الخيل.
ويقال: طابَق فلان لي بحَقي وأَذْعَن، إذا أقَرّ وبَخَع.
وقال الجعديّ:
وخَيلٍ تُطابِق بالدَّارعين *** طِباقَ الكلاب يَطأن الهَرَاسا
ويقال: طابَق فلان فلانًا، إذا وافَقه وعاوَنَه.
أخبرني المنذري عن الحرّاني قال التطبيق في حديث ابن مسعود: أن يضع كفّه اليمنى على اليسرى.
يقال: طابقت وطبّقت.
قال: وقولهم: «رحمة الله طِباقُ الأرض»، أي: تغشَى الأرض كلّها.
وفي حديث عمران بن حُصين أنَّ غلامًا له أبَق فقال: لئن قدَرتُ عليه لأقطعنّ منه طابقًا، قال: يريد عُضوًا.
والتطبيق في الركوع كان مِن فِعل المسلمين أوّل ما أُمِروا بالصلاة، وهو مُطابَقة الكفَّين مبسوطتين بين الرُّكبتين في الركوع.
ثم أمروا بإِلقام الكفيْن داغِصَتَيِ الرُّكْبَتين، كما يَفعل الناس اليوم.
وكان ابنُ مسعودٍ استمرَّ على التطبيق لأنّه لم يكن سَمِع من النبي صلى الله عليه وسلم الأمر الآخَر.
وقال الأصمعي: التطبيق أن يثب البعيرُ فتقعَ قوائمُه بالأرض معًا.
وقال الراعي يصف ناقة:
حتّى إذا ما استوى طَبَّقت *** كما طبّق المِسحَلُ الأغبرُ
يقول: لمّا استوى الراكبُ عليها طبَّقت.
قال الأصمعي: وأحسن الراعي في قوله:
وهي إذا قام في غَرزِها *** كمِثلِ السَّفينة أو أوْقَرُ
لأنَّ هذا من صفة النجائب، ثم أساء في قوله: «لأنَّ النجيبة يُستحبّ لها أن تُقدِّم يدًا ثم تقدِّم الأخرى، فإذا طبَّقتْ لم تُحْمد.
قال: وهو مثل قوله:
حتى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ
وفي حديث ابن عباس أنه سأل أبا هريرة عن امرأةٍ غير مدخول بها طُلقت ثلاثًا؛ فقال: لا تَحلّ له (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
فقال ابن عبّاس: «طبَّقَت».
قال أبو عبيد: قوله: طبّقت أراد أصبْتَ وَجهَ الفُتْيا وأصلُه إصابة المفْصِل، ولهذا قيل لأعضاء
الشاة طوابق، واحدها طابَق، فإذا فصَّلها الرجل فلَم يخطئ المفاصل قيل: قد طبَّق.
وقال الشاعر:
يصمّم أحيانًا وحِينًا يُطبِّق
يصف السيف: فالتصميم أن يَمضي في العَظْم.
والتطبيق: إصابة المَفصِل.
قال الراعي يصف إبلًا:
وطبّقن عَرْضَ القُفِّ لمّا عَلَوْنَه *** كما طبّقتْ في العَظْم مُدْيةُ جازِرِ
وقال ذو الرُّمة:
لقد خَطَّ رُومِيٌّ ولا زَعَماتِهِ *** لعُتبة خَطًّا لم تُطبَّق مَفاصِلُهْ
وقال الفراء في قول الله جل وعز: {لَتَرْكَبُنَ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19].
حدثني ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ (لتركَبَنّ).
وفسّر: لتصيرنّ الأمورُ حالًا بعد حال للشدّة.
قال: والعرب تقول: وقع فلانٌ في بنات طَبَق إذا وقعَ في الأمر الشديد.
وقال ابن مسعود: لَتركَبنَّ السماءُ حالًا بعد حال.
وقرأ أهل المدينة: (لَتَرْكَبُنَ طَبَقًا) يعني الناسَ عامة.
والتفسير الشِّدّة.
وقال الزجاج: لتركبنَّ حالًا بعد حال حتى تصيروا إلى الله من إحياء وإماتة وبَعْث.
قال: ومَن قرأ: (لتركبَنّ) أراد لتركبَنّ يا محمدُ طبَقًا عن طبق من أطباق السماء وقرئت: (ليركَبَنَ طبقًا عن طبق).
وفي حديث الاستسقاء: «أسقِنا غيثًا مُغِيثًا طبقًا».
يقال: هذا غيثٌ طَبق الأرضِ إذا طبّقها.
وقال امرؤ القيس:
طَبق الأرضِ تحرَّى وتدُرَّ
ومن نَصَب طَبَق أراد: تحرَّى طَبَق الأرضِ، وهو وجهها.
أخبرني المنذري عن الحَرَّاني عن أبي نصر عن الأصمعي في قوله: «غَيثًا طَبَقًا»، الغيث: الطَبَق: العامّ.
وقال الأصمعي في حديث رواه: «قريشٌ الكَتَبَةُ الحَسَبة، مِلحُ هذه الأمّة، عِلم عالِمِهم طِباق الأرض»
كأنه يُعمّ الأرضَ فيكون طبقًا لها.
وأما قول العباس بن عبد المطلب في امتداحِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
إذا مضى عالمٌ بدا طَبَق
فمعناه: إذا مضَى قَرْن ظهر قَرْن آخر.
وإنّما قيل للقَرْن طَبَق لأنهم طَبَق للأرض ثم ينقرضون ويأتي طبق للأرض آخرُ.
وكذلك طبقات الناس كلُ طبقةٍ طَبّقت زمانَها.
وروي عن محمد بن علي أنه وصف مَن يلي الأمر بعد السُّفيانيّ فقال: «يكون بين شَثٍّ وطُبّاق».
والشث الطبّاق: شجرتان معروفتان بناحية تِهامة، وقد ذكرهما تأبّط شرًا فقال:
كأنما حَثحَثوا حُصًّا قَوَادِمُه *** أو أُمَّ خِشفٍ بذي شَثٍّ وطُبّاق
ويقال: طبّقت النجومُ: إذا ظهرت كلُّها.
وفلان يَرعَى طَبَق النجوم.
وقال الراعي:
أَرَى إبلِي تَكالأ راعياها *** مَخافةَ جارِها طَبَق النجوم
وفي حديث أمّ زرع، أن إحدى النساء وصفتْ زوجَها فقالت: «زوجي عَياياء طَبَاقاء، كلُّ داءٍ له داء».
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: الطَّباقاء: الأحمق الفَدْم.
وقال جَمِيل:
طَباقاء لم يَشهد خُصومًا ولم يَقُد *** رِكابًا إلى أكوارِها حين تُعكَف
وقال ابن الأعرابي في قول المرأة: «زوجي عَيَاياء طباقاء».
قال: هو المطبَق عليه حُمْقًا.
ابن شميل: يقال: تجَلّبوا على ذلك الإنسان طَباقاءَ بالمدّ، أي: تَجمّعوا كلُّهم عليه.
وقال الله جل وعز: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا} [نوح: 15].
قال أبو إسحاق: معنى طِباقًا مطبَق بعضها على بعض.
قال: وطِباقًا مصدر طُوبقت طِباقًا.
قال: ونصب طِباقًا على وجهين: أحدهما مطابقةً طباقًا.
والآخر من نعت سَبْع، أي: خلق سبعًا ذات طِباق.
وقال الليث: السموات طباق بعضها على بعض، وكلّ واحد من الطباق طَبقة، ويذكر فيقال: طَبَق.
قال: والطبَقة: الحال.
يقال: كان فلانٌ من الدنيا على طبقات شتّى، أي: حالات.
والطَبَق: جماعةٌ من الناس يَعْدِلُون جماعةً مِثلَهم.
قال: وأطبق القومُ على الأمر، إذا أجمَعوا عليه.
وطابَقتِ المرأة زوجَها، إذا واتَتْه.
ويقال: طابَقتُ بين شيئين، إذا جعلتَهما على حَذْوٍ واحد.
قال: والمطبّق: شبه اللؤلؤ إذا قُشِر اللؤلؤ أخِذ قِشره ذلك فألزق بالغراء بعض ببعض فيصير لؤلؤًا وشِبهه.
الانطباق: مطاوعة ما أطبقتَ.
وفي الحديث: «لله مائة رحْمة، كل رحمة منها كطباق الأرض»، أي: تَغْشَى الأرضَ كلّها.
وقيل: طِباق الأرض مِلْؤها.
ثعلب عن ابن الأعرابيّ: الطَبَق: الحال على اختلافها.
والطَبَق: الأُمّة بعد الأمّة.
والطبَق: سَدُّ الجراد عَينَ الشّمس.
والطَبَق: انطباق الغيم في الهواء.
والطَبَق: الدَّرَك من أدراك جهنّم.
ابن نجدة عن أبي زيد: يقال للبليغ من الرجال: قد طبّق المفصِل، ورَدَّ قالَب الكلام، ووضع الهِناء مَوضع النُّقب.
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الطِّبْق: الدِّبق، والطَّبْق بفتح الطاء.
الظُّلم بالباطل.
والطِّبْق: الخَلْق الكثير.
وقال الأصمعيّ: الطِّبق الجماعة من الناس.
وكلُّ مفصل طِبق وجمعه أطباق.
ولذلك قيل للذي يصيب المفصل مطبَّق.
وقال:
ويحميك باللين الحسامُ المطبِّق
قال: وجاء فلان مقتعطًا، إذا جاء متعمّمًا طابقيًّا، وقد نهى عنها.
وأخبِرَ الحسنُ بأمر فقال: إحدى المُطْبقات.
قال أبو عمرو: يريد إحدى الدواهي والشدائد التي تُطْبِق عليهم.
ويقال للسنة الشديدة: المُطبقة.
وقال الكميت:
وأهل السَّماحةِ في المُطْبِقات *** وأهل السكينة في المَحفِلِ
قال: ويكون المطبِّق بمعنى المُطبِق.
وطبَّق فلانٌ، إذا أصاب فَصّ الحديث.
وطبَّق السيفُ، إذا وقع بين عَظْمَين.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
93-تهذيب اللغة (قرأ)
قرأ: قال أبو إسحاق الزجاج: يسمَّى كلامُ الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كِتابًا، وقرآنًا، وفُرقانًا، وذِكْرًا.قال: ومعنى قرآن معنَى الجمع.
يقال: ما قرأتْ هذه الناقةُ سَلًى قطُّ، إذا لم يضطمّ رَحِمُها على الولَدِ.
وأنشد:
هِجانِ اللَّوْنِ لم تقرأ جَنِينَا
قال: وَقال أكثر الناس: لم تجمع جنينًا، أي: لم تضْطَمّ رَحِمها على الجَنين.
قال: وقال قطرب في القرآن قولين: أحدهما: هذا وهو المعروف، وَالذي عليه أكثر الناس.
والقول الآخر: ليس بخارج من الصحة وهو حسن.
قال: لم تقرأ جَنينًا لم تُلْقِه.
قال: ويجوز أن يكون معنى قرأتُ القرآن لفظْتُ به مجموعًا، أي: ألقيتُه.
وأخبرني محمد بن يعقوب الأصمّ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن الشافعي أخبرَه أنه قرأ القرآن على إسماعيل بن قُسْطَنْطين.
وكان يقول: القرآنُ اسمٌ وليس بمهموز، ولم يؤخذ مِن قرأتُ، ولكنه اسمٌ لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل.
قال: ويُهمز قرأت ولا يهمز القرآن، كما تقول إذا قرأت القرآن.
وقال إسماعيل: قرأت على شِبل، وقرأ شِبلٌ على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أُبَيّ، وقرأ أبَيٌّ على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر بن مجاهد المقرئ: كان أبو عمرو بن العلاء لا يهمز القرآن، وكان يقرؤه كما رُوي عن ابن كثير.
أبو عبيد: الأقراء: الحَيْض، والأقراء: الأطهار، وقد أقرأتِ المرأة في الأمرين جميعًا، وأصلُه من دُنُوِّ وقت الشيء.
قلت: ونحو ذلك أخبرنا عبد الملك عن الربيع عن الشافعي، أنّ القرءَ اسمٌ للوقت، فلمّا كان الحَيض يجيء لوقت والطُّهر يجيء لوَقْت، جاز أن يكون الأقراء حَيْضًا وأطهارًا.
قال: ودَلَّت سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنَّ الله أَراد بقوله: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الأطهارَ، وذلك أنَّ ابن عمر لمَّا طلَّق امرأَته وهي حائض فاستفتى عمر النبيَّ عليهالسلام فيما فَعَل.
قال: «مُره فليراجعْها، فإذا طَهُرتْ فليطلّقها، فتلك العِدّة التي أَمَر اللهُ أَن يطلَّق لها النساء».
ذكر أبو حاتم عن الأصمعي أَنه قال في قول الله جل وعز: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ): جاء هذا على غير قياس.
والقياس ثلاثة أَقْرؤ.
قال: ولا يجوز أَن تقول: ثلاثةُ فلوس، إنما يقال: ثلاثة أفلُس، فإذا كثرَتْ فهي الفُلوس.
قال: ولا يقال: ثلاثة رجال إنما هي ثلاثة رَجْلَة، ولا يقال: ثلاثة كِلاب إنما هي ثلاثة أكلُب.
قال أَبو حاتم: والنحويون قالوا في قول الله جلَّ وعزَّ: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) جاء هذا على غير قياس.
والقياس ثلاثة أَقْرؤ.
قال: ولا يجوز أَن تقول: ثلاثةُ فلوس، إنما يقال: ثلاثة أفلُس، فإذا كثرَتْ فهي الفُلوس.
قال: ولا يقال: ثلاثة رجال إنما هي ثلاثة رَجْلَة، ولا يقال: ثلاثة كِلاب إنما هي ثلاثة أكلُب.
قال أَبو حاتم: والنحويون قالوا في قول الله جلَّ وعزَّ: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أَراد ثلاثةً من القروء.
وقال أَبو إسحاق الزجاج: أخبرني مَن أثق به يَرفَعه إلى يُونس أن الأقراء عنده تصلحُ للحيض والأطهار.
قال: وذكر أبو عمرو بن العَلاء أن القرء: الوقت، وهو يَصلح للحَيض ويصلح للطُّهر.
ويقال: هذا قارئ الرِّياح لوقت هُبوبها.
وَأنشد:
شَنِئتُ العَقر عَقر بني شُلَيلٍ *** إِذا هَبّتْ لقارئها الرياحُ
أي: لوقت هُبوبها وشدة بردها.
قال أَبو إسحاق: والذي عندي في حقيقة هذا أَن القُرءَ في اللغة الجمع؛ وأَنَّ قولهم: قريتُ الماءِ في الحوض وإِن كان قد أُلزِم الياء فهو جَمَعْتُ، وقرأْتُ القرآنَ: لفظتُ به مجموعًا، والقِرْدُ يقرِي، أي: يجمع ما يأكل في فيه، فإِنما القَرْء اجتماع الدَّم في الرَّحم، وذلك إنما يكون في الطُّهر.
قلت: وقد روينا عن الشافعي بالإسناد المتقدّم في هذا الباب نحوًا مما قاله أبو إسحاق.
وصح عن عائشة وَابن عمر أنَّهما قالا: الأقراء والقُروء: الأطهار.
وحقق ما قالاه مِن كلام العرب.
قول الأعشى:
مُوَرِّثةٍ عِزًّا وفي الحيّ رِفْعَةً *** لما ضاعَ فيها مِنْ قُرُوءِ نسائكا
لأنّ القُروء في هذا البيت الأطهار لا غير، لأنَّ النِّساء إنما يؤْتَيْن في أطارهنَّ لا في حيضهن فإِنما ضاع بِغَيبته عنهنّ أطهارُهنّ.
وقال أبو عبيد: القُرْء يَصلح للحيض والطُّهْر.
قال: وأظنُّه من أقرأتِ النجومُ:
إذا غابت.
وأخبرني الإياديُّ عن أبي الهيثم أنّه قال: يقال: ما قرأتِ الناقةُ سَلًى قطّ.
وما قرأتْ مَلْقُوحًا قَطّ.
فقال بعضهم: أي: لم تَحمِل في رَحِمِها وَلدًا قطّ.
وقال بعضهم: ما أسقطَتْ ولدًا قطّ، أي: لم تَحمل.
قال: ويقال: قرأَتِ المرأةُ: إذا طَهُرَتْ، وقرأتْ: إذا حاضت.
وقال حميد:
أراها غُلاماها الخَلَا فتَشذَّرتْ *** مِراحًا ولم تَقْرَأْ جنِينًا ولا دَما
يقال: معناه: لم تَحْمل عَلَقَةً، أي: دَمًا ولا جنينًا.
قلت: وأهل العراق يقولون: القُرء: الحَيْض.
وحجّتهم حديثٌ رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال لامرأة: «دَعِي الصلاةَ أيام أقرائك»، أي: أيام حَيْضك.
وقال الكسائيّ والفراء معًا: اقْرَأَت المرأة: إذا حاضت، فهي مقرئ.
وقال الفراء: أقرأتِ الحاجةُ: إذا تأخّرتْ.
وقال الأخفش أيضًا: أقرأت المرأة: إذا حاضت.
وما قرأَتْ حيضةً، أي: ما ضَمَّت رَحِمَها على حَيْضة.
وقال ابن شميل: يقال: ضَرَب الفحلُ الناقة على غير قُرْء.
وقرء الناقة: ضَبَعتُها.
وقال أبو عبيدة: ما دامت الوَديقُ في وِداقها فهي في قَرْئِها وإقْرَائها.
أبو عبيد عن الأصمعي: إذا قَدِمْتَ بلادًا فمكثتْ بها خمسَ عشرةَ ليلةً فقد ذهبتْ عنك قِرأة البلاد.
وأهل الحجاز يقولون: قِرَة البلاد بغير همز.
ومعناه: إنّك إنْ مَرِضْت بعد ذلك فليس من وَباء البلاد.
قال: وقال أبو عمرو بن العلاء: دَفَع فلانٌ جاريتَه إلى فلانة تُقَرِّئها، أي: تُمسِكها عندها حتى تحيض للاستبراء.
أبو الحسن اللحياني يقال: قرأتُ القرآن وأنا أقرؤه قَرْءًا وقراءة وقُرآنًا، وهو الاسم، وأنا قارئٌ من قومٍ قُرّاء وقَرَأة وقارئين، وأقرأتُ غيري أقرئه إقراء، ومنه قيل: فلان المقرئ.
ويقال: أقرأتُ مِنْ سَفَري، أي: انصرفْت؛ وَأقرأتُ من أهْلي، أي: دَنَوْتُ، وأقرأَتْ حاجتُك وأقرأَ أمرُك، قال بعضهم: دَنَا، وقال بعضهم: استأخر.
ويقال: أعْتَم فلان قِراهُ وأقرأه، أي: حبسه.
ويقال: قرأت، أي: صرت قارئًا ناسكًا، وتقرأت تقرؤًا بهذا المعنى.
وقال بعضهم: تقرَّأَتُ: تَفقَّهْتُ.
ويقال: أقرأتُ في الشِّعْر.
وهذا الشعر على قَرء هذا الشِّعر، أي: على طريقته ومثاله.
وقال ابنُ بُزرج: هذا الشعر على قَرِيِ هذا الشعر وغِرارِه.
وقال اللَّحياني: يقال: قارأتُ فلانًا مُقارأةً، أي: دارسْتُه، واستقرأتُ فلانًا.
ويقال للناقة: ما قرأتْ سَلًى قَطّ، أي: ما
طَرَحَتْ، تأويلُه ما حَمَلتْ.
وهذه ناقةٌ قارئ، وهذه نُوقٌ قوارئُ يا هذا.
وهو من إقراء المرأة، إلّا أنه يقال في المرأة بالألف، وفي الناقة بغير ألف.
ويقال للناسك: إنّه لقُرَّاءٌ مِثلُ حُسَّان وجُمّال.
وقال ابن السكيت: قال الفراء: رجلٌ قُرَّاء وامرأة قُرَّاءةٌ.
قال: ويقال: أقريْتُ الجُلَّ الفَرَسَ، أي: ألزَمْتُه قَرَاهُ.
أبو حكم عن الأصمعي: يقال: اقرأ عليهالسلامَ ولا يقال أقرئْه السلام، لأنَّه خطأ.
وسمعتُ أعرابيًّا أَملَى عليّ كتابًا، وقال في آخره: اقترئ منِّي السلام.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
94-تهذيب اللغة (بجل)
بجل: أبو عُبيد: يقال: بجلكَ درهمٌ وقد أبجلني ذاك، أي كفاني.وقال الكميت:
* ومِنْ عِندِه الصَّدَرُ المُبْجِلُ *
وقال لبيد:
* بَجلِي الآن من العَيش بَجَلْ *
وقال الليث: هو مجزوم لاعتمادِه على حركة الجيم، ولأنه لا يَتمكَّن في التَّصريف.
وفي حديث لُقمان بن عاد، ووصفه إخوته لامرأةٍ كانوا خَطبوها فقال لقمان في أحدهم: خُذِي منِّي أخي ذا البَجَل.
قال أبو عبيد: معنى البجَل: الحسب، قال: ووجهه أنه ذَمَّ أخاه، وأخبر أنه قصير الهِمَّة، لا رغبةَ له في معالي الأمور، وهو راضٍ بأنْ يُكَفي الأمور ويكون كَلًّا على غير، ويقول: حَسْبي ما أنا فيه.
قال: وأما قوله في أخ آخر: خُذِي منِّي أخي ذَا الْبَجْلة، يَحْملُ ثِقْلِي وثِقْلَه، فإنَّ هذا مَدْحٌ ليس من الأوَّل.
يُقال: رَجُلٌ ذو بَجْلَة، وذُو بَجَاله، وهو الرُّواء والحُسْن والنُّبل، وبه سُمِّي الرجل بَجَالة.
قال: وقال الكسائيّ: رَجُلٌ بَجَالٌ كبيرٌ عظيم.
قال شَمِر: الْبَجَالُ من الرجالِ: الذي يُبَجِّلُه أصحابه ويُسَوِّدونَه، والبَجيلُ: الأمرُ العظيم، وإنه لذو بَجْلَةٍ، أي ذو شارةٍ حسنَةٍ، ورجل بجال: حسن الوجه.
قال والبَجْلَةُ: الشيءُ إذا فُرحَ به.
وقال القُتَيْبيّ: حدَّثني أبو سفيان، أنه سأل الأصمعي عن قوله: خُذِي مِنّي أَخِي ذَا البَجَل، فقال: يقال: رَجلٌ بَجالٌ وبَجيلٌ، إذا كان ضَخْمًا، وأنشد:
* شَيْخًا بَجالًا وغُلامًا حَزْوَرًا*
وبَجَّلْتُ فلانًا: عَظَّمْتُه.
وفي الحديث: أن النَّبي عليهالسلام أتى القُبور، فقال: «السلام عليكم، أَصَبْتُم خَيْرًا بجيلًا، وسَبَقْتُم سَبْقًا طويلًا».
ولم يُفَسِّر قوله: أَخي ذَا البَجْلَة، وكأَنَّه ذَهب إلى معنى البَجَل.
وقال الليث: رجل بَجالٌ: ذو بَجالةٍ وبَجْلة، وهو الكَهْلُ الذي ترى له هَيْبَة، وتَبْجيلًا وسِنًّا.
وأنشد:
قامَتْ ولا تَنْهَزُ حَظًّا واشِلَا *** قَيْسٌ تُعدُّ السادة البَجابلا
قال: ولا يقال: امرأةٌ بَجالةَ ورَجل باجِلٌ، وقد بَجَلَ يَبْجُلُ بُجولًا، وهو الحسن الجَسيم، الخَصيبُ في جسمه.
وأنشد:
* وأنت بالباب سَمينٌ باجل *
وبَجْلَة: حيٌّ من قيسِ عَيْلان، والنِّسْبة إليهم: بَجْلِي.
وقال غيره:
* وفي البَجْلِيِ مِعْبَلَةٌ وقِيعُ*
وبجيلة: حيُّ من الأزْد والنسبة إليهم: بَجَلِيّ، وإليهم نسب جَريرُ بن عبد الله البَجَليّ.
الليث: البُجُل البُهتان العظيم، يقال: رَمَيْتَه بِبُجلِ.
وقال أبو دُوَادٍ الإياديّ:
امْرُؤُ القَيْسِ بن أَرْوَى مُوليًا *** إن رَآني لأَبُوءَنْ بُسْبَدْ
قلتَ: بُجلًا قلتَ قولًا كاذبًا *** إنما يَمنعني سَيْفي وَيَدْ
قلت: وغيرُ الليث يقول: رْمَيْته بِبُجْر بالراء، وقد مر في باب الراء والجيم من هذا الكتاب، ولم أسمعه باللام لغير الليث، وأرجو أن تكونَ اللام لُغة.
فإن الراء واللام متقاربا المخرج، وقد تعاقبا في مواضع كثيرة.
وقال أبو عبيدة: الأبْجل من الفَرس والبعير بمنزل الأكحل من الإنسان.
وقال أبو الهيثم: الأبْجل والأكحل والصَّافِنُ عروق، تُفْصَد، وهي من الجداول لا من الأوْردة وقال الليث: الأبْجلان العِرقان في اليدين، وهما الأكحلان من لَدُن المنكبِ إلى الكفّ، وأنشد:
* عارِي الأشاجِع لم يُبْجَل *
أي: لم يُفْصَدْ أَبْجَلُه.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
95-تهذيب اللغة (درس)
درس: أبو عُبَيْد عن الأصمعيّ: إذا كان بالبَعير شيءٌ خَفيف مِن الجَرَب قيل: به شيء من دَرْس وأَنشد:* من عَرَق النَّضْج عَصِيمُ الدَّرْسِ *
وأخبَرَ المنذريُّ عن أبي العبّاس في قول الله جلّ وعزّ: {وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]، قال: معناه: وكذلك نُبيِّن لهم الآيات مِن هُنا وهُنا لكي يقولوا: إنك دَرَسْتَ، أي: تَعَلّمتَ، أي: هذا الّذي جئتَ به عُلِّمتَ.
قال: وقرأ ابنُ عبّاس ومجاهد: (دارَسْتَ)، وفسّرها: قرأتَ على اليهود وقرءوا عليكَ، وقرئت: (وليقولوا دُرِسَت)، أي: قُرِئَتْ وتُلِيَتْ.
وقُرىء: (دَرِسَتْ)، أي: تَقادَمت، أي: هذا الّذي تتلوه علينا شيء قد تَطاوَل ومَرَّ بنا.
وأخبَرَني المنذريّ عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: يقال: دَرَسَ الشيءُ يَدْرُس دُرُوسًا، ودَرَسْتُ الكتابَ أدرُسُه دِراسةً.
والمِدْرَسُ: المكان الذي يُدرَس فيه.
والمِدْرَس: الكِتاب.
والدِّراس: المُدارَسة.
قال: والدُّروس: دُرُوس الجارية إذا طَمِشَتْ، يقال: جارية دارِسُ، وجوارٍ دُرَّس وَدَوارِس.
وقال الأسوَد بنُ يَعفُر يصف جَواريَ حين أدركنَ:
اللّاتِ كالبَيضِ لمّا تَعْدُ أَن دَرَسَتْ *** صُفْرُ الأَناملِ من نقْف القَوارِيرِ
ودرَسَت الجاريةُ تَدْرُس دُرُوسًا.
والدَّرْسُ: الجَرَب أوّلُ ما يظهر منه.
والدَّرْس والدِّرْس والدَّرِيس: الثوبُ الخَلَق.
قال ابنُ أحمر:
لَم تَدْرِ ما نَسْجُ اليَرَنْدَج قَبْلَها *** ودِراسُ أعوَصَ دارِسٍ متخدِّد
قال ابن السكّيت: ظنّ أن اليَرَنْدَج عمل من عَمَل الناس يُعمَل، وإنّما اليَرَنْدج جلودٌ سُود.
وقولُه: ودِراس أعوَصَ، لَم يُدارِس الناسَ عَوِيصَ الكلام، وقولُه: دارسٍ متخدِّر، أي: يَغْمضُ أحيانًا فلا يُرَى، ويظهر أحيانًا فيرى، ما تخدّد منه غُمضَ، وما لم يتخدّد ظَهَر.
ويُروَى: متجدِّد بالجيم، ومعناه: أن ما ظَهَر منه جديد وما لم يظهر دارس.
قال: وسمعتُ أبا الهَيْثَم يقول: دَرَس الأَثرُ يَدرسُ دُرُوسًا، أو دَرَسهُ الرِّيح تَدْرُسه دَرْسًا، أي: مَحَتْه ومن ذلك قيل: دَرَسْتُ الثوبَ أدرُسُه دَرْسًا فهو مَدْرُوس ودَرِيس، أَي: أَخْلَقْته ومن قيل للثّوب الخَلُق دريس، وجمعُه دِرْسَان.
وكذلك قالوا: دَرَس البعيرُ: إذا جَرب جَرَبًا شديدًا فقُطِرَ، قال جرير:
رَكِبتْ نَوارُكُمُ بَعيرًا دارِسًا *** في السَّوْقِ أَفْضَح راكبٍ وبَعيرِ
قال: وقيل: دَرَسْتُ الكتابَ أدرُسه دَرْسًا، أي: ذَلَّلتُه بكثرة القراءة حتى خَفّ حِفْظُه عليّ من ذلك، وقال كعب بن زهير:
وفي الحِلْم إدْهانٌ وفي العَفْو دُرْسةٌ *** وفي الصِّدق مَنْجاةٌ من الشّرّ فاصدُقِ
قال: الدُّرْسةُ: الرّياضة؛ ومنه دَرَسْتُ السُورة حتّى حفِظتُها؛ ودَرَستُ القضيب، أي: رُضْتُه.
والإدْهان المَذَلة واللِّين.
وقال غيره: دُرِسَ الطعامُ يُدْرس دِراسًا: إذا دِيسَ.
والدِّراسُ: الدِّياسُ بِلُغة أهلِ الشام، وقال:
* حَمراءُ مِمّا دَرَسَ ابنُ مِخْراق*
أي: داسَ، وأرادَ بالحَمراءِ برّةً حَمْراءَ في لَونها.
وقول لَبيد:
يَوْمَ لا يُدخل المُدارِسَ في *** الرَّحْمة إلا براءةٌ واعتذارُ
قال الْمُدارِس: الذي قرأ الكتب ودَرَسها.
وقيل: المُدَارِسُ: الَّذي قارَفَ الذُّنوبَ وتَلَطَّخَ بها، من الدَّرْسِ وهو الجَرَب.
والمِدْراسُ: البيتُ الذي يُدْرَسُ فيه القرآن، وكذلك مِدْرَاسُ اليَهود.
ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال: الدِّرْوَاسُ:
الكبيرُ الرأس من الكلابِ.
والدِّرْباس ـ بالباء ـ: الكلبُ العَقُور، وأنشد:
* أَعْدَدْتُ دِرْوَاسًا لِدِرْباسِ الْحُمْتْ*
هذا كلبٌ كأنه قد ضَرِيَ في زِقَاقِ السَّمْن يأكلها، فأَعَدَّ له كلبًا آخَر يقال له دِرْوَاس.
وقال غيرُه: الدَّرَاوس من الإبل: الذُّلُل الغِلاظ الأعناق، واحِدها دِرْواس.
أبو عُبَيد عن الفرّاءِ: الدَّرَاوِس: العِظامُ من الإبل.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م