نتائج البحث عن (وَإِخْبَارٌ)
1-العربية المعاصرة (خبر)
خبَرَ يَخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خابِر وخبير، والمفعول مَخْبور.* خبَر الحياةَ: علِمها وعرَف حقيقتَها عن تجربة (لقد خَبَرْتك وعرفت صدقَ طويّتك- {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [قرآن]) (*) مِنْ أين خَبَرْت هذا الأمر؟: أي من أين عرفت حقيقتَه؟.
* خبَرَ الرَّجُلَ: اختبره، امتحنه ليعرفَ حقيقتَه.
خبُرَ/خبُرَ ب يخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خبير، والمفعول مَخْبُور به.
* خبُر الشَّخصُ: صار خبيرًا.
* خبُر بالأمرِ: عرفه معرفة جيِّدة (صاحب الكلام أخبر بمعناه- {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [قرآن]).
خبِرَ يَخبِر، خَبَرًا، فهو خابر، والمفعول مَخْبور.
* خبِر الشَّيءَ والشَّخصَ: علمه وعرفه على حقيقته.
أخبرَ يُخبر، إخبارًا، فهو مُخبِر، والمفعول مُخبَر.
* أخبره وقائع المؤتمر/أخبره بوقائع المؤتمر/أخبره عن وقائع المؤتمر: أعلمه وأنبأه بها (أخبر شخصًا بالتفاصيل- أخبرني عن جليّة الأمر: حقيقته).
اختبرَ يختبر، اختبارًا، فهو مختبِر، والمفعول مختبَر.
* اختبر الدَّواءَ: جرَّبه، أخضعه للاختبار، فحصه ليعرف حقيقتَه (اختبر السِّلاحَ).
* اختبر الشَّخصَ: امتحنه (اختبره في القراءة/الكتابة/القيادة/المعلومات العامّة- عقد المدرس اختبارًا مفاجئًا لطلابه).
* اختبر اللهُ النَّاسَ: ابتلاهم امتحانًا لقوّة إيمانهم، وهو أعلم بها.
استخبرَ يستخبر، استخبارًا، فهو مستخبِر، والمفعول مستخبَر.
* استخبره عن الأمر: طلب منه أن يخبره حقيقتَه، سأله عنه والتمس معرفتَه (استخبره عن صحّة/أحوال أبيه- استخبره عمّا يجري في فلسطين).
تخابرَ يتخابر، تخابُرًا، فهو متخابِر.
* تخابر مع صديقه: تبادل معه الأخبارَ (تخابر الشخصان هاتفيًّا- قُبض عليه بتهمة التخابر مع دولة أجنبيّة: بتهمة إمدادها بمعلومات عن بلده).
تخبَّرَ يتخبَّر، تخبُّرًا، فهو متخبِّر، والمفعول متخبَّر.
* تخبَّر الأمرَ: تعرَّفه على حقيقته.
خابرَ يخابر، مُخابَرَةً، فهو مخابِر، والمفعول مخابَر.
* خابر صديقَه:
1 - باحثه، بادله الأخبار (خابره في الأمر فوجد لديه كلّ تفهُّم).
2 - كالمه، اتّصل به هاتفيًّا (أرجو أن تخابرني حال نجاحك).
* خابر المالكُ الفلاَّحَ: [في القانون] سلّمه أرضَه لاستثمارها على نصيب معيّن كالثلث والربع وغيرهما، شاركه في زراعة أرض على نصيب معيَّن.
خبَّرَ يخبِّر، تخبيرًا، فهو مخبِّر، والمفعول مخبَّر.
* خبَّره الأمرَ/خبَّره بالأمر/خبَّره عن الأمر: أخبره به، أعلمه إيّاه وأبلغه به، أنبأه به (من خبَّر بنبأ فقد أنار- خبّره ما جرى في غيابه).
إخبار [مفرد]:
1 - مصدر أخبرَ.
2 - [في القانون] قيام سلطة رسميّة أو موظّف، أو قيام من شاهد اعتداء على الأمن العام أو حياة الناس بإبلاغ المدعي العام التابع له محلّ وقوع الجريمة.
أخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى أخبار: على غير قياس: مؤرِّخ (الطبري من أبرز الأخباريِّين العرب) (*) صحيفة أخباريّة: تُعنى بالأخبار والأحداث.
إخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إخبار: إعلاميّ، مهتمّ بنشر الأخبار (شريط إخباريّ- قام الإخباريّون بتغطية أحداث الحفل وبثِّه على الهواء مباشرة).
* الإخباريّ من الأفعال: الذي يعبِّر عن إخبار، كالفعل قال أو روى.
إخبارِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إخبار: (نشرة إخباريّة) (*) رسالة إخباريّة: تقرير مطبوع يُزوَّد بأخبار ومعلومات ذات أهميّة لجماعة مُعيَّنة.
2 - مصدر صناعيّ من إخبار: خبر منقول بطريقة سرِّيَّة (وصلت إلى الشُّرطة إخباريّة بوجود مهرِّبين على الحدود).
3 - [في الفلسفة والتصوُّف] فرقة من الإماميّة، وهم فرقة من الشِّيعة قالوا بالنصِّ الجليّ على إمامة علي رضي الله عنه، وكفَّروا الصحابةَ ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق.
اختبار [مفرد]: جمعه اختبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر اختبرَ.
2 - امتحان، تجربة (اجتاز الاختبارات جميعها بنجاح باهر- جرّبه على سبيل الاختبار- الاختبار مُعلِّم أخرس) (*) اختبار الطَّريق: اختبار يُجرى للمركبات لمعرفة مقدار صلاحيتها للسير على الطرق، فحص للشَّخص الذي يسعى للحصول على رُخصة قيادة لمعرفة قدرته على القيادة في الطرق- اختبار قيادة: امتحان في آداب المرور وقيادة السَّيارة- اختبار معاكس: اختبار يهدف إلى التحقق من أن نتائج اختبار أوَّلٍ صحيحةٌ- بالون اختبار: امتحان أو تجربة لجسّ نبض الرأي العام- تحت الاختبار: موضوع تحت الملاحظة؛ لمعرفة مدى صلاحيته- حَقْل اختبار: حقل للاختبارات الزراعيّة، ومجازًا: إخضاع مجتمع أو جماعات لتجربة أو تجارب يكون الغرض منها تحقيق شعارات- على سبيل الاختبار: للتجربة- ورقة اختبار: ورقة مشبَّعة بصبغة عبَّاد الشمس؛ لإجراء اختبارات كيميائيّة.
* اختبار القُدْرة: قياس قدرة العامل على أداء واجبات معيَّنة كالقدرة الميكانيكيّة، والقدرة الكتابيَّة، والقدرة الفنِّية.
* الاختبار الأحيائيّ: [في الكيمياء والصيدلة] تحديد نوع القوّة أو النَّشاط الحيويّ لمادَّة كالعقار أو الهرمون بمقارنة نتائجه مع تلك التي أجريت على حيوان في مختبر.
* أنبوب اختبار: [في الكيمياء والصيدلة] مخبار، أنبوب زجاجيّ أسطوانيّ مفتوح من جانب ودائريّ من الجانب الآخر ويستخدم في التَّجارب المخبريّة.
* اختبار الحساسيَّة: [في الطب] اختبار لبيان مدى التَّأثُّر بدواء مُعيّن أو بمرض مُعْدٍ، بوضع لزقات على الجلد، أو بإحداث خدوش جلديّة وتعريضِها لجرعاتٍ تُسَبِّبُ المرض أو العدوى.
* اختبار الذَّكاء: [في علوم النفس] نوع من الاختبارات لقياس مستوى الذكاء والقدرات العقليّة، اختبار معياريّ لتحديد مُستوى الذكاء عن طريق قياس القدرة الفرديّة على تكوين المفاهيم وحلّ المشكلات واكتساب المعلومات وتأدية عمليّات ذهنيّة أخرى.
اختباريّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى اختبار: تجريبيّ، قائم على الاختبار والملاحظة (أسلوب اختباريّ).
2 - استقرائيّ، ناتج عن بحث وتتبُّع (حُكم اختباريّ).
اختباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اختبار: (يقضي المعيّنون الجدد فترة اختباريّة مدّتها ستة أشهر- حفرت الشَّركة عشرين بئرًا اختباريّة تنقيبًا عن البترول).
2 - مصدر صناعيّ من اختبار: قابلية شيء للسَّبْر والامتحان (اختباريّة ذاكرة).
3 - تجريبيّة، مذهب يقول بأن المعرفة كلّها مستمدّة من التّجربة والاختبار.
استخبار [مفرد]: جمعه استخبارات (لغير المصدر):
1 - مصدر استخبرَ.
2 - مُحَرَّر يتضمّن أسئلة عن شئون خاصَّة بالمسئول للإجابة عنها (*) إدارة الاستخبارات/دائرة الاستخبارات: مركز لجمع المعلومات عن العدوّ حماية لأمن الدولة والسلامة العامّة- الاستخبارات العسكريَّة: مركز لجمع المعلومات العسكريَّة.
* جهاز الاستخبارات: مباحث، جهاز رسميّ يتولَّى أعمال التجسُّس على العدوّ والكشف عمّا يعرّض أمن الدولة الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (جنّدتهم أجهزة استخبارات العدوّ عملاء لها).
استخباراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبارات: على غير قياس (زعمت مصادر استخباراتيّة أمريكيّة أن لدى العراق أسلحة دمار شامل).
2 - مصدر صناعيّ من استخبارات: معلوماتيّة؛ مجموع التقنيَّات المتعلِّقة بالمعلومات ونقلها.
استخباريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبار: (تم القبض عليه بتهمة القيام بنشاطات استخباريّة لصالح بلد أجنبيّ).
2 - مصدر صناعيّ من استخبار: تجسُّسيّة.
* دوائر استخباريَّة: مراكز لجمع المعلومات من أيّ مكان لحماية أمن الدَّولة أو المؤسَّسة العسكريّة.
خابور [مفرد]: جمعه خَوَابيرُ:
1 - قطعة من خشب أو مطّاط يُسَدّ بها ثقب في الحائط ليسهل دقّ المسمار وتثبيته فيه.
2 - قطعة معدنيّة مدبّبة تمكّن من قرن محورين بالطَّرف أو من فك تقارنهما (خابور ربط).
3 - [في النبات] شجيرة طبيَّة وتزيينيَّة ذات زهر أصفر طيِّب الرائحة وثمارها سوداء.
خَبَر [مفرد]: جمعه أخابيرُ (لغير المصدر) وأخبار (لغير المصدر):
1 - مصدر خبِرَ.
2 - نبأ، ما يُعَبَّر به عن واقعة ما، ما ينقل من معلومات ويُتحدَّث بها قولًا أو كتابةً وتعبّر غالبًا عن أحداث جديدة كتلك المذكورة في الصحف والإذاعة والتليفزيون (تسرّبت الأخبار- نشر خبرًا- سأله عن أخباره- عند جُهَيْنة الخَبَر اليقين [مثل]: يُضرب في معرفة حقيقة الأمر- {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [قرآن]) (*) أخبار مَحَلِّيَّة: داخليَّة أو خاصَّة ببلدٍ ما، عكسها أخبار أو شئون عالميَّة- أصبح في خبر كان: هلَك وفَنِي- تشويه الأخبار- خبر صاعق: سيِّئ، مفاجئ وغير منتظَر- سأله عن أخباره: استفسر عن أحواله- صادق الخبر: صحيح النبأ، صَدُوق المقال- على هامش الأخبار: تعليق على الأخبار- مُرَمّات الأخبار: أكاذيبها- نشرة الأخبار: ما يقرأه المذيع في الراديو والتلفاز من أخبار محليَّة وخارجيَّة ليطّلع عليها الجمهور أو الرأي العام.
3 - حديث نبويّ (*) خبر متواتر: حديث ترويه جماعة عن جماعة.
4 - عمل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [قرآن].
5 - [في البلاغة] قول يحتمل الصِّدق والكذب لذاته.
6 - [في النحو والصرف] لفظ مجرد عن العوامل اللفظيّة، أُسند إلى المبتدأ متمّمًا معناه ويصحّ السكوت عليه.
* خبر آحاد: حديث انفرد به راوٍ واحد وإن تعددتِ الطرق إليه.
خُبْر [مفرد]: مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) لأَخْبُرنَّ خُبْرك: لأعلمنَّ علمَك.
خِبْرة [مفرد]: جمعه خِبْرات (لغير المصدر) وخِبَر (لغير المصدر):
1 - مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) أهل الخِبْرة: الخُبراء ذوو الاختصاص الذين يعود لهم حقّ الاقتراح والتقدير.
2 - نتاج ما مرّ به الشَّخص من أحداث أو رآه أو عاناه، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته (له خِبْرة بالاقتصاد العالميّ- الشباب تنقصهم الخِبْرة) (*) تبادُل الخِبْرات: استفادة كلِّ شخص بخِبْرة الآخر.
* شهادة الخِبْرة: مستند لإثبات الخِبْرة.
خَبَرِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى خبَرَ.
2 - مصدر صناعيّ من خَبَر: نبأ (وصلته خبريّة كاذبة).
* الجملة الخبريَّة: (نح، بغ) الجملة التي تحتمل الصِّدق أو الكذب.
خَبير [مفرد]: جمعه خُبَراءُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب: (هم خبراءُ في مجال الطاقة/الزراعة- اختير خبيرًا بمجمع اللُّغة العربيَّة) (*) خبير تربويّ: مختصّ في نظريّات التربية والتعليم- هيئة الخُبَراء: مجموعة من الخُبراء غير الرسميِّين الذين يقومون بإسداء النصح والمشورة لواضعي السياسات خاصّة في حكومة.
2 - عارف بالأمر على حقيقته، عالم بالبواطن والظواهر {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [قرآن].
3 - [في القانون] مُخْبِر، شخص تعيِّنه محكمة وتكلِّفه بالكشف عن بعض الوقائع وإبداء ملاحظاته في تقرير تستند إليه في حكمها (فجّر تقرير الخبير مفاجأة في القضيّة) (*) خبير مُحلَّف: الذي يؤدِّي اليمينَ أمام المحكمة.
* الخبير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: العالم بكُنْه الشّيء، المطّلع على حقيقته، الذي لا تخفى عليه خافية {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [قرآن].
مُخابرات [جمع]: مفرده مُخابرة: اتِّصالات لجمع الأخبار (مخابرات سرِّيّة).
* جهاز المخابرات: جهاز الاستخبارات، جهاز رسميّ يتولّى جمع الأخبار لصالح دولة معيّنة لحفظ أمنها، والكشف عمّا يعرِّض أمنها الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (*) إدارة المخابرات/دائرة المخابرات/قلم المخابرات: مركز لجمع المعلومات حمايةً لأمن الدولة.
مخابراتيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى مُخابرات: على غير قياس (تلقَّى دورة مخابراتيّة في إحدى الدول الكبرى).
2 - مصدر صناعيّ من مُخابرات: استخباراتية، معلوماتيّة.
مُخابرة [مفرد]:
1 - مصدر خابرَ (*) مخابرة تليفونيّة/مخابرة سريّة.
2 - [في القانون] أن يُعطي المالكُ الفلاحَ أرضًا يزرعها على بعض ما يخرج منها كالرّبع أو الثلث.
مِخْبار [مفرد]: جمعه مَخابيرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الكيمياء والصيدلة] إناء أسطوانيّ مدرّج على شكل أنبوب تقاس به حجوم السوائل والمحاليل في المعامل (مخبار مدرّج).
مَخْبَر [مفرد]: جمعه مَخابِرُ: اسم مكان من خبَرَ: مكان الفحص والمراقبة والتحرِّي وإجراء التجارب (يعمل هذا الشابُّ في مخبر كيميائيّ).
* مَخْبَر الشّخص: دخيلته وحقيقته، عكس مظهره أو منظره (مخبر شيطان في مظهر ملائكيّ- منظره خير من مخبره).
مُخْبِر [مفرد]:
1 - اسم فاعل من أخبرَ.
2 - من يقوم بمهمّة جمع المعلومات أو الأخبار لغرض معيَّن (استعانت الشرطة بالمخبرين في القبض على اللصوص) (*) مُخبر خاصّ: من يقدم خدمات لأفراد أو شركات- مُخبر صحفيّ: من يزوّد الصَّحيفةَ بالأخبار.
مِخْبَرَة [مفرد]: جمعه مَخابِرُ:
1 - اسم آلة من خبَرَ.
2 - [في الطبيعة والفيزياء] أداة تتركّب من موصل يُجعل عادة على شكل قرص صغير، له يد عازلة تُستخدم في اختبار الشُّحنات الكهربائيّة.
مُخْتَبَر [مفرد]:
1 - اسم مفعول من اختبرَ.
2 - اسم مكان من اختبرَ.
3 - [في الكيمياء والصيدلة] مَعْمَل، مكان مجهَّز تُجرى فيه التجاربُ العلميَّة والاختبارات والتحليلات الكيماويَّة وغيرها (مختبر الكيمياء/الفيزياء/اللغة/الفضاء- مختبر نوويّ).
مُخْتَبَرِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مُخْتَبَر: قائم على التجربة والاختبار في المعامل والمُختبرات (أبحاث/تحاليل مختبريّة).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-شمس العلوم (الشَّرْيَة)
الكلمة: الشَّرْيَة. الجذر: شري. الوزن: فَعْلَة.[الشَّرْيَة]: واحدة الشَّرْي، وهو الحنظل، وبها سُمِّي الرجلُ شَرْيَة.
وعُبَيْدُ بنُ شَرْية الجرهمي: من العلماء بالأنساب وأخبار الأمم.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
3-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 1)
عناية العرب بلغتهم:تقدم القول أن العرب كانوا أهل بادية وحاضرة؛ فالبادية من مشارف الشام إلى حدود اليمن يدخل فيها الحجاز ونجد وتهامة واليمامة وأرض عمان؛ وفيها مدن قليلة كمكة ويثرب والطائف، على أن مكة لم تنتقل من الوبر إلى المدر إلا بعد أن بنى قصي بن كلاب دار الندوة؛ وأما الحاضرة
فهي اليمن وما إليها من أرض حضر موت والشحر وفيها بواد فسيحة؛ وفي جنوبي فلسطين بدوي حضري؛ وفي أرض حوران عمرت بصرى، وكان من مدنهم في الشمال البتراء.
كانوا على عزلتهم في ديارهم هذه وعزة نفوسهم التي لم تستذلها الدول العظمة المكتنفة أرضهم، كانوا يرون أنفسهم في غبطة وسرور من حال ألفوها، وشاعرهم ينشد في باديته القفراء مفتخرًا بنعيم عيشه فيقول:
«إذا ما شربنا كل يوم مذيقة، *** وخمس تميرات صغار حوامز»
«فنحن ملوك الناس شرقًا ومغربًا، *** ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز»
«وكم ممتن عيشة لا ينالها، *** ولو نالها أضحى بها جد فائز! »
كانوا وهم في هذه الحال في حرز حريز من أن يتطرق إلى لغتهم الصافية ما يكدرها، ويحرصون عليها حرص الشحيح على ماله، حتى أصبح ذلك خلة راسخة في نفوسهم وملكة ثابتة في طباعهم.
وتعدى ذلك إلى أتباعهم وحواشيهم.
قال الجاحظ: "رأيت عبدًا أسود لبني أسد، قدم علينا من اليمامة فبعثوه ناطورًا في البساتين.
وكان وحشًا لطول تغربه في اليمامة ورعي الإبل، فأصبح بعد أن صار ناطورًا لا يجتمع إلا بالأكراد وفلاحي النبط الفاسدي اللغة، فكان لا يفهم منهم ولا يفهمون منه؛ فلقيته يومًا فأنس بي، وكان مما قال لي: أبا عثمان، لعن الله بلادًا ليس فيها عرب! أبا عثمان، إن هذه العرب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم، فجعلهم في حاشية الأرض، لطمست هذه العجمان آثارهم..
أنف هذا العبد الأسود الزنجي العرق السكني في بلاد ليس فيها عرب، ولعن البلاد الخالية منهم.
ويقول: إن من نعمة الله عليهم أن عزلهم في ناحية من الأرض لتبقى لغتهم سليمة من التحريف.
ويدلنا كلامه على تغير عظيم في اللغة وتباعد بين لغة عرب اليمامة ومستعربي الأمصار حتى عسر التفاهم بينهم.
رأى العرب، وهم في هذه العزلة بل هذه العزة، أنهم فوق الأمم مجدًا وشرف محتد وطيب عنصر وعزة نفس وإباء ضيم.
وهذه امرأة بدوية، وهي ليلى بنت لكيز، لم ترض أن تكون في نساء كسرى ملك العجم، لما حملت إليه مكرهة، فتقول: "
«يكذب الأعجم ما يقربني، *** وعمي بعض حساسات الحيا»
«غللوني قيدوني ضربوا *** ملمس العفة مني بالعصا! »
تنبز كسرى، ملك الملوك، بالأعجم احتقارًا لسلطانه لأنه غير عربي.
وتفر من النعمة السابغة"
والعيش الهني في حرم كسرى، مفضلة عليها سكنى الوبر وعيشه الخشن وطعامه الجشب في ظل الحرية والانطلاق، وحرصًا على الدم العربي أن يشاب بدم غيره، فلا يقربها الأعجم ما دام معها بعض حساسات الحياة، ولو كان له ملك كسرى! وإذا عرض الشك في صحة هذه القصة فإن النعمان، عامل كسرى، قد امتنع أن يزوج إحدى بناته من كسرى، لا جهلًا بمقام كسرى، ولا اعتقادًا منه بأنه أعلى منه شرفًا ومنزلة، ولكنه امتنع خوفًا من العار الذي يلحقه بين العرب من أنه زوج ابنته من غير عربي، وإن كان ملك الملوك، فيحط بذلك منزلة بناته بزواجهن من غير الأكفاء، ولا كفؤ للعربي إلا العربي.
امتنع النعمان فأثار حفيظة كسرى، فقتله بين أرجل الفيلة؛ ولكن أمته العربية الأبية ثارت له لأنه قتل في سبيل الشرف العربي؛ فكانت وقعة ذي قار.
بهذه الخلة قل امتزاجهم بالأمم، فقل التحريف والتبديل في لغتهم؛ وليس هذا وحده، بل انصرفوا بجهودهم كلهم إلى العناية بتحسين اللغة وصقلها، ما شاءت لهم قرائحهم وعلومهم.
لذلك بلغت لغتهم هذا المبلغ من السلعة في المادة وفي مراعاة مقتضى الحال بإيجاز الكلام أو إطنابه، وفي الرواء والعذوبة.
عناية الأئمة بحفظ لغة القرآن والسنة وتدوينها
جاء القرآن بأفصح لغات العرب.
ودان العرب بالإسلام دين القرآن.
وجرت السنة النبوية هذا المجرى؛ فكانت لغة القرآن والسنة أولى بالتدوين والحفظ، لما آن أوانها وأخذت سنة التطور طريقها في اللغة الفصحى، منذ خرج العرب من عزلتهم واختلطوا بالأعاجم، ودخل الأعاجم في سلطانهم.
وكان لهم ما للمسلمين العرب، وعليهم ما عليهم من حرية وإخاء ومساواة.
وبعد أن كثر تسريبهم بالأعجميات لكثرة السبي في أيديهم، يوم اتسعت فتوحاتهم، وشعر أبو الأسود الدؤلي، أقدم أئمة العربية، ببادرة من التغير بدرت على لسان ابنته إذ قالت لأبيها متعجبة وقد نظرت إلى السماء ونجومها في لسلة صافية: "ما أحسن السماء" فرفعت أحسن، وح
فأدركت خطأها وقالت: أنا متعجبة ولست بمستفهمة.
فهب أبو الأسود إلى إمام المسلمين والعرب في العلم والعمل، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذ منه أصول النحو.
فعكف القوم بعد هذا على تقرير قواعد اللغة والنحو واختيار الفصيح من الكلام.
وعمل الأئمة على التقاط فرائد اللغة من البوادي البعيدة عن الأمصار، لبعدها عن مجاورة الأعاجم وفاسدي اللغة.
فكانت رحلة الأئمة إلى بوادي الحجاز وتهامة ونجد واليمامة.
قال الفارابي في أول كتابه المسمى "الألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب لأفصح الألفاظ، وأسهلها على اللسان، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس.
والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين القبائل العربية هم: قيس وتميم وأسد.
فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه.
وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين؛ ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر القبائل.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البوادي ممن كان يسكن أطراف البلاد المجاورة لسائر الأمم حولهم.
فلم يؤخذ عن لخم ولا عن جذام لمجاوراتهم أهل فارس، ولا عن قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا عن تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا عن بكر لمجاورتهم للفرس، ولا عن عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحر
كان الباحث عن اللغة في بوادي العرب يقامر بنفسه، غير مبالٍ بحرها ولا ببردها ولا بخشونة عيشها ورتق مشربها، السنين الطوال ليكتب عن فضائحهم شيئًا من كلامهم.
وروي أن الكسائي أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عنهم.
وكان الإمام منهم يفضل استفادة كلمة واحدة على حمر النعم.
ويروي عن أبي عمرو ابن العلاء قال: "إني كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه علي "فرجة" هل بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلًا يقول: "
«ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال»
فحرك الفاء بالفتح، ثم قال: ألا إنه مات الحجاج؛ قال أبو عمرو: فما أدري بأيهما كنت اشد فرحًا: أبقوله فرجة، بفتح الفاء، أو بقوله مات الحجاج! "
وكان من مزيد عناية القوم باللغة أن ميزان التفاضل بين الأئمة وحملة اللغة كان سعة معرفة الرجل بكلام العرب ولغاتها وغريبها.
وكان الأمراء والملوك والخلفاء وأعيان الأمة يتسابقون إلى تأديب أبنائهم، أي تعليمهم الأدب العربي من اللغة والنحو والشعر وأخبار العرب ومفاخراتهم"
ومنافراتهم، ليحفظوا كلامهم ويقووا به ملكاتهم اللغوية.
وكان أكبر عيب في الشريف العربي أن يلحن في كلامه، فلا يأتي بالحركات الإعرابية أو الحركات اللغوية على وجهها؛ كل ذلك كان في سبيل حفظ اللغة ورونقها وجدتها، وتقوية ملكة الفصاحة في النفوس.
بدء انحراف العامية عن الفصحى
قلنا: إن أبا الأسود الدؤلي رأى بادرة التغير في كلام ابنته، فلجأ إلى أمير المؤمنين علي ووضع أصول النحو.
والظاهر أن بدء الانحراف كان قبل ذلك، وعلى كل حال لم يكن قبل عصر الراشدين.
وأول ما سمع ذلك في الحركات الإعرابية زمن خلافة أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، على ما جاء في طبقات الأدباء لابن الانباري؛ وذلك أنه قدم أعرابي في زمن خلافته فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة وقال: "إن الله برئ من المشركين ورسوله "بالجر، فقال الأعرابي: "أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فبلغ ذلك عمر فدعاه وقال له: أتبرأ من رسول الله يا أعرابي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: "من يقرئني؟ " فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "إن الله يبرئ من المشركين ورسوله" فقلت: "أوفد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فقال عمر: "ليس هذا يا أعرابي".
فقال: "كيف يا أمير المؤمنين؟ " قال عمر: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" ورفع رسوله، فقال الإعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم.
فأمر عمر أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة.
وكان أهل الحاضرة يومئٍذ، كيثرب، فيهم العلماء باللغة وغير العلماء، ولهذا خصص عمر أمره بالعالم باللغة.
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة، فقال: إنني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال زياد: لا تفعل؛ قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنون؛ فقال زياد يرجع كلامه: توفي أبانا وترك بنون؟ ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال: "ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.
وسئل أبو الأسود: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب.
وأما اللحن في بناء الكلمة فكان بعد ذلك العهد.
ويظهر أنه كان في سكان الحاضرة أيضًا، ولم يأتِ زمن الحجاج حتى فشا اللحن في كلمات اللغة، وحتى صار يستهجن الفصيح في كلمات العامة.
قال في الطبقات: "قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن الملهب كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا واضطررناه إلى عرعرة الجبل.
فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام؟ فقيل له: إن يحيي بن المعمر عنده.
فقال: ذاك إذًا.
ويحيي بن المعمر هذا هو من حملة اللغة وأئمتها."
سارت العامة على خطها المنحرف، وامتد سيرها هذا لما كثر توغل العرب الفاتحين في بلاد الأعاجم، وكلما امتد السير زادت بعيدًا عن الفصحى؛ إلا أن هذا الطريق لم يكن ممهدًا بل كانت تعترضه عقبات من عناية العلماء بالفصحى، لما رأوا ما منيت به من التحريف، فأخذوا في محاربة هذا الداء، وصنفوا في تقويم العامية وردها إلى الفصحى وتطهيرها، أو تطهير أقلام الكتبة على الأقل، من اللحن.
ونجد كثيرًا من هذه الجهود في مثل: "أدب الكاتب" لابن القتيبة، و "درة الغواص" للحريري.
فلم يكن، والحال هذه، سير العامية في خطتها الملتوي، شديد الاندفاع كما هو الحال في غير العربية من اللغات.
وإن اللغات الراقية اليوم، التي دونت فصحاها بعد تدوين فصحى العربية بقرون، ترى فصحاها بعيدة عن عاميتها أكثر من بعد فصحى العربية عن عاميتها.
يقول جبر ضومط، أستاذ اللغة العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد أن أثبت أن للإنكليزية والفرنسية والألمانية- وهي في مقدمة اللغات الراقية في هذا العصر- لغة فصحى مكتبية، ولغة عامية دارجة: " فالمكتبية في أعلى درجات الفصاحة، والدارجة في أحط الدرجات في بعض أقسام لوندرة وباريس وبرلين، عواصم هذه اللغات الثلاث. ثم ذكر أنه تعرف بمستشرق اسوجي جاء بيروت لدرس اللغة العربية الدارجة، وكان عارفًا خبيرًا، فأخبره أن عندهم لغتين: فصحى ودارجة، وأن الدارجة الأجنبية أكثر من الدارجة العربية بعدًا عن الفصحى.
وأنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس، أيام الحملات الصليبية إلى سورية، لم تكن كاللغة التي حملها حُفَداؤهم إليها في هذه الأيام؛ وأن اللغة التي نظم بها شكسبير قصائده لا يفهمها العامي الإنكليزي اليوم أكثر مما يفهم العربي قصائد المتنبي وأبي العلاء المعري.
ولكن لغة موليير الفرنسية، فيما أحسب، بعيدة عن لغة أميل زولا بعد لغة ملتون الإنكليزية عن لغة دوسكن.
بينما لم تتغير لغة المتنبي عن لغة شوقي وبينهما ألف عام.
إلا أن لغة المتنبي وابن الأحنف والطائيين تخالف لغة الزاجل في شعره اليوم، بل إن لغة الزاجل اليوم تخالف لغة الزاجل في عصر ابن خلدون.
الحركات الإعرابية
في اللغة العربية
من البديهي أن مفردات اللغة مؤلفة من الألفاظ، وأن مادة اللفظ لا تتعدى حروف الهجاء، ولكن للحروف هيئات في اللفظ من حركات وسكون يطلق عليها، على سبيل التغليب، اسم الحركات؛ وهذه الحركات إما عارضة لمادة الكلمة ومبناها، أو عارضة لآخرها.
وتسمى الأولى حركات المباني كما ترى في حركات: غَمر، وغِمر، وغُمر، وغَمِر، وغُمَر، وغَمَر؛ فهذه كلمات ست، وهي مع اتفاقها في الحروف وفي ترتيبها مختلفة المعاني باختلاف حركاتها اختلافًا من أصل الوضع.
وتسمى الثانية حركات الإعراب أو علامات الإعراب لأنها تعرب عن مراد المتكلم بموقع الكلمة من الجملة، ولكنها لا تؤثر بمعنى الكلمة الوضعي شيئًا.
فسعيد في قولك "رأى سعيد أحمد" وهو سعيد نفسه إذا رفعته فاعلًا أو نصبته مفعولًا به، ولكن حاله واقعًا منه الفعل، غير حاله واقعًا عليه؛ وإنما يعرف اختلاف حاليه من اختلاف حركات الإعراب.
فائدتها
لهذه الحركات أثرها في المعنى التركيبي، خاصة وهي تعطي الجملة إيجازًا بديعًا لا مثيل له، فيما أحسب، في غير العربية.
والإيجاز في اللفظ مع الوفاء بالدلالة على المراد من أعظم ميزات اللغة.
انظر إلى قولنا: "ما أحسن زيد" فإنك تجد لهذه الجملة ثلاثة معان تختلف باختلاف الحركات في أواخر كلمتها، مع بقاء مبانيها وتركيبها اللفظي كما هي، فنقول:
1 - " ما أحسن زيدًا! " تنصبها، وأنت تريد التعجب فيكون ذلك قائمًا مقام قولك: "أعجب كثيرًا لحسن زيد".
2 - "ما أحسن ويد؟ " ترفع أحسن وتخفض زيدًا، وأنت تريد الاستفهام، وهي قائمة مقام قولك: "استفهم واسأل عن أحسن شيء في زيد".
3 - " ما أحسن زيد؟ " تفتح أحسن وترفع زيدًا، وأنت تريد الاستفهام أيضًا، وهي قائمة
مقام قولك: "أي شيء من الإحسان فعله زيد".
ثم انظر إلى قولنا: "هذا كريم أحسن منه عالم" فإذا رفعت كريمًا وعالمًا كان المراد شخصين اثنين أحدهما عالم والآخر كريم، ولكن العالم أحسن منه الكريم؛ وإذا نصبتهما كانا شخصًا واحدًا عالمًا وكريمًا، ولكنه في كرمه أحسن منه في علمه.
وانظر إلى قولنا: "كم كتاب قرأت" فإذا جررت كتابًا كنت تريد الإخبار بكثرة ما قرأت من الكتب، وإذا نصبت كنت تريد الاستفهام عن عدد الكتب التي قرأتها.
قال ابن قتيبة في "مشكلات القرآن" ما نصه: "وللعرب الإعراب الذي جعله الله وشيًا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقًا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين والمعنيين المختلفين: كالفاعل والمفعول، لا يفرق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان أن يكون الفعل لكل واحد منهما، إلا بالإعراب, ولو أن قائلًا قال: هذا قاتل أخي، بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي، بالإضافة، لدل بالتنوين على أنه لم يقتله، وبحذف التنوين على أنه قتله.
ولو أن قارئًا قرأ: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" وترك طريق الابتداء بإنّا، واعمل القول فيها بالنصب، على مذهب من ينصب أن بالقول كما ينصبها بالظن، لقلب المعنى على جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبي محزونًا لقولهم " إن الله يعلم ما يسر
وقال رسول الله، صلوات الله عليه: "لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم" فمن رواه جزمًا أوجب ظاهر الكلام أن لا يقتل إن أرتد، ولا يقتص منه وإن قتل؛ ومن رواه رفعًا انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش أنه لا يرتد أحد منهم عن الإسلام فيستحق القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بينهما؟ ثم قال: "وقد تكتنف الشيء معان فيشتق لكل معنى منها اسم من ذلك الشيء كاشتقاقهم من البطن الخميص "مبطان" وللمنهوم "بطن" وللعليل البطن "مبطون".
انتهى كلام ابن قتيبة.
وإنما اختلف المراد فيما ذكر باختلاف الحركات الإعرابية، مع أن الجمل المذكورة لم يتغير شئ من تركيبها وتنسيقها غير علامات الإعراب.
ولكن المعنى التركيبي قد تغير معها تغيرًا لا يستهان به، كما سمعت من كلام ابن قتيبة.
وكذلك إذا قلت: "علم زيد خالد الكتاب" لا تعلم أيهما المعلم وأيهما المتعلم: فإذا رفعت ونصبت علمت أن المرفوع هو المعلم وأن المنصوب هو المتعلم، تقدم أو تأخر لا فرق، وبقي للتقديم والتأخير فائدة خاصة من البيان، كما شرحه علماء الفصاحة والبلاغة، وإذا طرحت الحركات جانبًا وجعلت الدلالة على الفاعل تقدمه، وعلى المفعول تأخره بأن يكون الفاعل واجب التقديم مطلقًا،
كما إذا كان مقصورين لا تظهر عليهما علامات الإعراب، فاتتك النكات البيانية من المعاني التي يفيدها تقديم ما حقه التأخير أو العكس، وهي إفادات تأتيك من ترتيب الجملة دون زيادة في لفظها؛ وهذا من خصائص العربية فيما أحتسب.
وإني قد أسهبت القول في فوائد الإعراب في اللغة، ليعلم أن القول بتفضيل إهمال الحركات على استعمالها، بحجة أن المعنى لا يفسد بإهمالها، ولأن كل أبناء العربية يفهمون من قولنا "زيد مسافر" بالتسكين، كما يفهمون "زيد مسافر" بالتحريك هو قول باطل.
إنه عجيب حقًا، ولاسيما إذا كان من علامة مدقق ذي علم وغيرةٍ على الفصحى، كصاحب المقتطف الدكتور يعقوب صروف.
وقد ظهر لك مما تقدم أن كثيرًا من الجمل إذا أهمل فيها الإعراب اشتبه على السامع فهمها، لاحتمالها معاني لا يميزها إلا الإعراب، أو إطالتها بكلام مفصل يدل على المعنى المراد.
من أين جاءت؟
من الحقائق التي لا أحسب فيها جدالًا، وإذا كان فهو غير معتمد به، أن العرب الذين تبدوا وقل اختلاطهم بغيرهم من الأمم، كانوا أحفظ للغة وأصون لقديمها من غيرهم، لأن الاختلاط بغير أهل اللغة من أكبر الأسباب في تطورها.
وهذا القديم الذي حفظوه وصانوه بانعزالهم وببداوتهم، إن لم يكن هو نفسه اللغة الأم، أي التي تفرعت عنها اللغات السامية، فهو أقرب اللهجات المتفرعة عنها إليها، لأن المفروض أنه مصون ومحفوظ كل الصون والحفظ أو بعضهما، فلم يكن فيه من التطور ما كان في غيره من الف
وهذه الحقيقة ليست بغريبة عن استنتاج العلماء؛ فقد ذكرها كثير من الباحثين كمسألة لا تحتمل الجدال.
ثم أنه جاء في التاريخ القديم أن اللغة التي انتشرت في المملكة البابلية، قبل زمن حمو رابي بعشرين قرنًا أو أكثر، وهي أم اللغات السامية، كانت ذات حركات للإعراب؛ وأنها قضت أكثر من ألفي عامٍ وهي ذات حياة في سجلات الحكومة ودواوينها وعلى ألسنة العلية من القوم.
وإن كلام العلامة مسبيرو، ظاهر في أن لهجة العامة من سكان المدن والقرى أي أهل الحاضرة، كانت الآرامية.
أما لهجة سكان البوادي، وهم بدو الآراميين، فلم تكن اللغة الآرامية.
إن أهل الحاضرة هم الذين اختلطوا بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم التي كانت فصحى بهذا الامتزاج، وكانت منه اللهجة الآرامية "العامية البابلية"، كما امتزج بعد الإسلام أهل الحاضرة من العرب بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم وكانت منها اللهجة العامية.
هذه اللغة التي ثبتت ألفي عام فأكثر في السجلات الرسمية والدواوين العالية، وعلى ألسنة العلية من القوم، هي ولا ريب اللغة الأم.
وقد كان لها حركات إعرابية، ثم استعجمت في ألسنة العامة من"
أهل الحواضر.
وكان أول ما أضاعته هو حركات الإعراب.
فكانت السريانية القديمة، اللغة المستعجمة المتطورة منها، وهي ليست بذات إعراب؛ لأن ما لا يوجد في الأصل لا يوجد في الفرع.
أما سكان البادية وهم بدو الآراميين أو العرب فلم يفقدوها، فبقيت هذه الحركات ثابتة في لهجاتهم.
وقد حدث مثل ذلك لأهل الحواضر العربية، فأضاعوا حركات الإعراب التي كانت في لغة أهل البوادي منهم باستعجام لغتهم.
وكان أول ما أضاعوه منها هذه الحركات، كما سمعت ما سلف من قضية الأعرابي الذي جاء المدينة في خلافة عمر ليتعلم القرآن، فسمع اللحن في حركات الإعراب وأدى ذلك، بحكم الطبع في ذلك الأعرابي، إلى فهمه غير المراد فأنكره؛ وكما سمعت من قصة ابنة أبي الأسود مع أبيها ا
كان نصيب سكان البوادي الأولين كنصيب سكان البوادي الآخرين في حفظ اللغة بحركاتها الإعرابية ما استطاعوا إليه سبيلًا، وبقدر ما بعدوا عن الأمم الأخرى.
وهكذا نقيس بقياس التمثيل بين العصرين، ونعلم حال القديم الذي لم نره ولا تحققنا خبره، بحال الحديث الذي عرفناه وتحققناه.
ونطمئن إلى القول بأن حركات الإعراب التي كانت في اللغة الأم الأولى قد حفظتها لها البداوة حتى ظهرت في عربيتهم الأخيرة؛ وذلك باستصحاب القهقرى كما يسميه علماء الأصول.
وقد خلت منها اللغات الأخرى الأخوات إلا أثارًا في لغة بطراء ولغة تدمر وأهلها من بقايا العمالقة.
ثم نقول: لكن بدو الآراميين الذين سكنوا البادية العربية، والذين سموا عربًا، لم تذهب منهم هذه الحركات أو أشباهها، بدليل وجودها عند أعقابهم وحفدائهم يوم أخذنا اللغة عنهم، وبدليل أن الذين أخذوها وجدوها راسخة فيهم رسوخ الملكة الطبيعية في النفس، تجري على ألسنتهم في مواقعها دون أدنى قصد أو تعمل ولا كلفة، مما يدل على طول عهدهم بها حتى أصحبت جارية مجرى الطبع.
إن هذه الحركات إذًا متصلة بنا من ميراث اللغة الأولى، أم لغتنا العربية، حفظتها لنا البداوة وحفظها بعد حامليها عن فساد اللسان بالعزلة، وعدم امتزاجهم بالأمم الأخرى.
قلنا: إن هذه الحركات كانت في العرب، واتصلت في الأعقاب على مدى الأحقاب حتى وصلت إلينا.
وسواء أكانت هي كما رأيناها أو اعتراها بعض التحرير، فهي إن لم تكن عينها فليست بعيدة عنها؛ ففي واديها ربيت، وعلى غرارها طبعت، وفي حجرها نشأت، وبدرها غذيت.
والقول بأن العرب عرفوا هذا بمعرفتهم النحو وأنهم احتذوا فيه مثال اليونانيين، فلا أراني كثير الحاجة لدفعه، لأن الإلمام بأحوال العرب قبل الإسلام فضلًا عن الاضطلاع به يكفينا أمره.
وأنى لسكان البادية بمعرفة قواعد النحو كعلم من العلوم؟ وقد سئل أعرابي: أتجر فلسطين؟ فقال: إنني إذًا لقوي، فقيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إنني إذًا لرجل سوء! ففهم هذا البدوي، وهو ممن يوثق بعربيته ويتخذ أئمة اللغة كلامه حجة في النحو واللغة، فهو الجر والهمز بمعناهما اللغوي، ولم يكن للمعنى الاصطلاحي أقل مساس بفهمه وعلمه.
إن الإعرابي القادم من البادية إلى الحاضرة ليتعلم القرآن، وهو بعد لم يبل بفساد اللسان، قد عرف تغير المعنى بتغير حركة "ورسوله" لا من حيث أنه رفع وخفض، بل من حيث أن إفادتها مرفوعة غيرها إذا كانت مخفوضة؛ هكذا فطر طبعه ونمت غريزته.
كيف وضعت الحركات؟
إن الذي اتفق عليه المحققون أن وضع اللغات لم يكن بالتنصيص على لفظ خاص لمعنى خاص، وإنما كان الوضع بالتوسع في الاستعمال على قدر الحاجة وتنوعها بامتداد الزمن وتطاول المدة، وعلى حسب ما هو معروف من سنن التطور.
ويبعد في مثل هذه الحال أن توضع الحركات الإعرابية بمثل هذا النحو من الوضع، وأن تكون على هذه الطريقة، لأن الحركات الإعرابية على ما هو الظاهر ليست مما تدعو إليه الحاجة الماسة بأن تكون ركنًا من أركان التفاهم، فلا يتم بدونها، حتى يقال: إنها جاءت على قدر الح
فكيف كانت إذا هذه الحركات الإعرابية؟ هل هي بقايا كلماتٍ كانت تدل على ما تدل عليه علامات الإعراب، ثم اختزلت بتطاول المدة وصقلت بالاستعمال فصارت كما نراها؟"
يقول بهذا القول كثير من العلماء؛ وقد جاء في المقتطف ما نصه: "يستدل علماء اللغات على أن أصل هذه الحركات كلمات اختصرت على تمادي الزمن، وبقيت الحركات دلالة عليها" هذا قوله.
ولكن هل كانت هذه الكلمات، والتي هي أصل هذه الحركات، خاصة بأم اللغة العربية المعربة، وفي حيزها اختصرت هذا الاختصار؟ أو أنها في أمها الأولى ثم جاءت إليها بالإرث؟ وعلى تقدير أنها كانت في أصل الفرع الأسيوي الأول الذي منه كانت اللغات السامية والآرية والمغولية، فهل أصابها هذا الاختصار كله أو بعضه قبل انفصال السامية (أم العربية) عنه، أو أنه كان من صيغ اللغة السامية؟
ربما يعرف ذلك، ويكشف هذه الغوامض ويحل هذا الإشكال، الباحثون في مقابلة اللغات وتحليلها، إذا تيسر لهم ذلك، وكان في أخوات اللغة العربية وخالاتها ما ينير لهم الطريق بأن كان لهذه الكلمات الإعرابية ما يدل عليها، أو يشير إليها في هذه اللغات.
أما إذا كان مجرد حدسٍ وتخمين، فللحدس والتخمين أيضًا مجال آخر.
وحينئٍذ يجوز لذاهب أن يذهب إلى أن الحركات الإعرابية ربما كانت وضعت بوضع خاص، وذلك بأن يقال: إن أبناء اللغة الأولى كانوا في تمدنهم وعلومهم بمنزلٍة صالحة تدل عليها آثارهم، وقد دلت الآثار أنه كان للبابليين مدارس منظمة يعلمون فيها الحكمة والطب والفلك، وظهر
وأخبرنا التاريخ عن مزيد عنايتهم بلغتهم الفصحى والتي حفظوها واتخذوها لغة رسمية لهم، وكانت مصقولة مهذبة، كما تقدم القول عن العلامة مسبيرو، فلا يبعد، والحال هذه، عن الذين صقلوا لغتهم وهذبوها، أن يكون في جملة ما عملوه في صقلها وتهذيبها وتحريهم البلاغة فيها
ومن ضروب هذا الاختصار وضع العلامات الإعرابية على شكل حركات لا تطول بها الجملة، ولا يتغير بها وضع الكلمة من موقعها فيها، فدلوا بهذه الحركات على مرادهم بها في جملتها، فاعلة أو مفعولة أو غير ذلك، مقدمة أو مؤخرة، لتدل في التقدم والتأخير على معان مراده، وأن
ويكون ذلك منهم حيث قل انتشار الفساد في اللغة، وسرى ذلك في سكان البوادي فحفظوه وجروا عليه.
ولنفرض لذلك مثلًا فنقول: استعمل أبناء اللغة "ما" الاستفهامية بدلًا من "أي شيء" اختصارًا، فاشتبهت "بما" التعجبية ووقعت أفعل بعدها كأحسن في قولك: "ما أحسن زيد"، واشتبه على السامع أي المعنيين يريد المتكلم: ما الاستفهام أو التعجب؟ ونصب القرينة اللفظية تطويل، والمفروض أننا فررنا منه، فحركوا حينئِذ ما وقع بعد التعجب بالنصبـ، وما بعد ما الاستفهامية بالرفع؛ وليس في هذا مشقة ولا إطالة.
وكذلك يتميز الفاعل بالرفع والمفعول به بالنصب، وفي هذا لا يشتبه الفاعل بالمفعول به سواء تقدم أو تأخر.
وتبقى اعتبارات التقدم والتأخر وفوائدها البيانية صحيحة سليمة؛ ولكن هذا إنما يجري حيث يكون الفاعل صالحًا لأن يكون مفعولًا به، أما إذا لم يكن صالحًا لذلك في مثل: "كسر الزجاج الحجر" و "قال الشاعر قصيدة" فإنه يستغنى عن ذلك؛ لكن القسم الأول أكثر في الكلا
ولعل مثل هذا احتجاج إلى مدة متطاولة، وبعد اختلافات كثيرة بين الأصقاع والقبائل في الاستعمال، حتى استقر وثبت منه الأحسن والأصح في الاستعمال، فعم وشاع وذهب ما عداه.
والقول "بالكلمات المختصرة إلى الحركات" تعترضه صعوبات كبيرة في تعليل هذا الاختصار، وتطبيقه على الحركات الإعرابية التي لا يمكن تذليلها إلا بتكلف كثير.
وإذا رأينا أنه من السهل مثلًا أن نقول: إن علامة الرفع (الضمة) قد اختصرت من الكلمة الدالة عليها إلى الواو، الذي هو علامة للرفع أيضًا، ثم اختزل الواو إلى الضمة، فلسنا نرى من السهل تطبيق ذلك على غير هاتين من علامات الرفع، كالألف في المثنى، وثبوت النون في
ويعترض الحدس المفروض للوضع الخاص أن هذه العلامات نراها أول ما يذهب من اللغة عند امتزاج أهلها بغيرهم، وأن صيرورتها إلى الملكة أمر لا يقبله العقل بسهولةٍ وبدون مشقة.
وكيفما كان أحال فقد اتصل إلينا أن أم اللغة العربية أورثت ابنتها هذه نظام الإعراب بالعلامات، فتقف عند هذا القدر المحقق من البحث، ونترك ما عداه إلى المحققين في اللغات، حتى يظهر البحث ما تطمئن إليه النفوس.
والذي تحقق من ذلك أن العرب، وهم بدو الآراميين، قد اتخذوا هذا الميراث، وجرى فيهم مجرى الملكة، وهم في عزلتهم، فلم يتسرب إليهم الإهمال، وحفظته لهم البادية فلم يتأثروا بما تأثر به إخوانهم، وأصبح ملكة راسخة فيهم.
وليس معنى قولنا إنه أصبح ملكة راسخة، أنهم لا يقدرون على اللحن ولا يمكن أن تجري عليه ألسنتهم، كما كنا نتلقاه من مشايخنا زمن الدراسة، بل معناه أن ألسنتهم تجري بلا تعمل ولا كلفة على هذا النظام، شأن من يتمرن عليه في هذه الأيام، فينطلق به لسانه دون تعمل أيضًا؛ وإذا كان لا يسلم متمرن اليوم من الخطأ والغلط الذي يكثر ويقل بحسب مرانه، فلأن مرانه كان ناقصًا من حيث أنه يتمرن في بيئة ملؤها الخطأ والغلط.
وعلى العكس متمرن ذلك الزمن الذي ببيئته ملؤها صواب وصحة.
إن سكان هذه الجزيرة اتخذوا حفظ اللغة على هذا النحو تقليدًا لهم، في التجاوز عنه كل العيب والعار.
ولا ترسخ عادة في قوم ما لم تتخذ تقليدًا عامًا مستحبًا يعاب تاركه على تركه أو تجاوزه.
فكان التمرن عليها راسخًا يشب عليه الصغير ولا يشذ عنه الكبير، فيكون عامًا شاملًا شائعًا بين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وتجاهلهم.
ولم يحجم نقله اللغة من الأئمة، الآخذون اللغة عن الإعراب، أن يعتدوا بلغة الصبيان والمجانين لأنهم آمنون على ملكتهم من الخطأ، فكان بعضهم يحتج لمذهبه بكلام أمثال هؤلاء ولا ينكره عليه منكر.
قال ابن دريد في "أماليه" عن الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون، فوقفت وصدوني عن حاجتي وأقبلت أكتب ما أسمع، وإذا بشيخ أقبل فقال: أتكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع؟ "
لم يحجم الأصمعي، وهو إمام اللغة، عن أن يكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع أي صغار الناس وأراذلهم، لأنه يرى في كلامهم حجة لا تنكر عليه.
وأما قول الشيخ: "أتكتب": مستنكرًا، فما هو إلا استصغار لأمرهم واحتقار لأمرهم واحتقار لشأنهم من حيث أنهم أقزاع أدناع، لا من حيث أنه مخطئ أو مصيب بالأخذ عنهم.
فهو نظير أن تختار لأمرك حاذقًا فيه، ولكنه صغير المنزلة دنئ الحسب مستقذر العيش، مع أنك لا تعدم حاذقًا مثله يكون كريم الحسب رفيع المنزلة ظاهر المروءة.
ويصح لمن يغار عليك أن يلومك على هذا الاختيار، وليس معنى لومه أنه يطعن في حذقه بل كان الطعن عليه من حيث نفسه وحاله.
آخر عهد البادية بها
إن هذه الملكة الراسخة في هؤلاء الأعراب قد أهملت أولًا في القبائل المجاورة للأعاجم بالاختلاط بهم، ولم يسمع عن أحد من العرب الجاهليين أن الأئمة تحرزوا عن الاحتجاج بلغته قبل عد بن زيد العبادي، الذي نشأ بين الفرس وفي خدمة الأكاسرة.
ولما فسدت لغة الأمصار كان ذلك يسري منها إلى البادية بقوة الاختلاط وضعفها، وكانت السلامة تتقهقر أمام هذه القوة، وبقى هذا الغزو مستمرًا إلى أخريات القرن الثالث للهجرة وما بعده بقليل، حتى ذهبت هذه الملكة أو كادت.
وعم اللحن أقطار العربية، باديها وحاضرها، وصينت الفصحى المعربة في دفاتر العلماء والأدباء، وفي المجامع العلمية، وعلى ألسنة الخطباء والشعراء والكتاب.
ولم تزل للعامة في أزجالهم وأغانيهم مكانة باختلاف الأقطار العربية.
والعامية في بلاد المغاربة أصبحت كأنها لغة أخرى غير عامية المشارقة؛ وتختلف عامية الشام، وعن عامية نجد والعراق.
الفصيح والعامي من حيث الاستعمال
لم تخرج العامية في تحريفها وعدم ضبط قواعدها عن كونها لغة عربية.
والتحريف كان معروفًا في الفصحى باختلاف لغات العرب، كما سبق الكلام عليه، وإن كان في الفصيح أشد وأقوى وأبعد مرمى، فهو في العامي أظهر وأكثر، وبه ألصق.
فالعامية بالنسبة إلى الفصحى، وهذه بالنسبة إلى المتقدمين والمحدثين على ضروب: "
1 - ألفاظ انفرد بها المتقدمون من العرب وتركها المحدثون، إما لاستعمالهم مرادفها: كمبشور في الناقة الشديدة السريعة، استعملوا كأنها: علنداة؛ أو لأنها من الحواشي البعيد عن الطبع كقولهم: مخر نبق لينباع؛ قال ابن فارس: وكذلك يعلمون معنى ما تستغربه اليوم من
قولنا: "عبسور" في الناقة و "عيسجور" و "امرأة خناثى" و "فرس أشق أمق خبق.
ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرسم الذي تراه، أو تركها المحدثون لأنها غير مأنوسة عندهم، وإن كانت غير حوشيه كأجبى في الحديث الشريف: "من أجبى فقد أربى.
2 - ألفاظ استعملها المتقدمون وخواص المحدثين ولم تعرفها العامة كقولهم: "طخية عمياء، ومرة سوداء.
3 - ألفاظ استعملها العرب وعرفتها العامة وقل استعمال الخاصة لها، فلم تشع بينها، وهو ما يسمى بالغريب الفصيح في العامي.
4 - ألفاظ للعرب فيها لغتان أو أكثر، أخذت العامة ببعضها والخاصة ببعض آخر "كفز" عند العامة و "قفز" عند الخاصة، و "ما فيها دومري أو تومري" عند العامة و "ما فيها ديار" عند الخاصة.
5 - ألفاظ استعملها العرب قديمهم وحديثهم، وقل استعمال العامة لها، فكانت من أجل ذلك مصونة لم تتبذل.
والفرق بين هذا الضرب والضرب الثاني أن ذاك لم تعرفه العامة أو لم تكد تعرفه، وهذا عرفته ولكنها لم تألفه كـ "أمررت الحبل وأحصدته" أي فتلته.
و "حبل ممر ومحصد" أي مفتول، وقد عرفت العامة منه قولهم "عقدة مرة" أي محكمة العقد.
6 - ألفاظ مثل ذلك ولكنها ابتذلت مد عركتها العامة بألسنتها وامتهنتها بتحريفها، فاجتنبتها الخاصة وأعرضت عنها مثل قول العام: "اصطفل في الأمر" أي افعل ما تشاء، محرفة عن "افتصل" وهو افتصال من الفصل أي اتخذ الفصل الذي تريده من عملك.
7- ألفاظ مثل ذلك كثيرة الدوران في الكلام لا يستغني عنها، فلم يضرها كثرة الاستعمال لمكان الحاجة، كقولك: "شربت ماء، وأكلت طعامًا، وقرأت كتابًا" وهذا أكثر الكلام العربي.
8 - ألفاظ حرفتها العامة باستعمالها إلى مستنكره، فتركت الخاصة استعمالها الأول لمكان الاستكراه في المعنى الثاني كـ "الصرم" بمعنى القطيعة و "الغائط" للمنخفض من الأرض؛ حرفت العامة الكلمة الأولى لمعنى "السرم" والثانية لمعنى "الخرء".
وإذا أردت مزيد تعمقٍ في هذا البحث وفي الفروق بين الفصيح وتحريفه العامي، فعليك بمراجعة كتابنا "رد العامي إلى الفصيح" ففيه ما يقوم بوفاء حاجتك فيه، إن شاء الله.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
4-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بضه)
بضههي من كبريات بلاد دوعن وقداماها.
قال العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس: (إنّها مأخوذة من بضيض الماء، يقال: بضّ الماء، إذا نزل قليلا قليلا. وعلى مقربة من حصن المنصب بها عين ماء قليل، لعلّها سمّيت بذلك من أجله) اه
وهي مقرّ مناصب آل مطهّر آل العموديّ، وحال الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ أشهر من أن يعرّف به، وقد توفّي سنة (671 ه)، وخلفه على منصبه ولده محمّد بن سعيد. ثمّ لم يزل منصبه يتوارث بين أولاده حتّى تحوّل بسعة الجاه وكثرة الأتباع ونفوذ الدّعوة إلى سلطنة، ثمّ اختلفوا وانقسموا، فكان لآل محمد بن سعيد بن عبد الله العموديّ قيدون وما نزل منها إلى الهجرين، ولآل مطهّر بضه وما حاذاها وما ارتفع عنها.
وفيهم عدّة رؤساء، منهم: آل صالح بن عبد الله في بضه، وكانت رئاستهم للشّيخ الجليل عبد الله بن صالح بعد أبيه، وقد لاقيته مرارا، ورأيت له من محاسن الأخلاق ولطف الشّمائل ما تقرّ به العين.
«له خلق سهل ونفس طباعها *** ليان ولكن عزمه من صفا صلد »
توفّي سنة (1364 ه) عن عمر ينيف على الثّمانين، قضاه في إكرام الضّيوف، وغوث الملهوف، ورقع الخروق، ورتق الفتوق.
وخلفه ولده النّبيل حسين، فانتهج ذلك السّبيل، وتحمّل عبء والده الثّقيل، حتّى يصحّ أن نقول في التّمثيل:
«ففي الحسين لهم من بعده خلف *** ما مثله خلف في النّاس منتخب »
«باق به لبني الأشياخ أسرته *** حمد الفعال وفضل العزّ والحسب »
«يرعى المكارم منه وارث شرفا *** بتاج والده في النّاس معتصب »
وفي بضه مثرى آل العموديّ، ولمّا سألتهم عن عددهم بها.. أجابوا بأنّهم لا يقلّون عن خمس مئة رام، يحملون الموازر الألمانيّة، لم يفرّطوا فيها، بخلاف آل حضرموت؛ فقد باعوا في أيّام المجاعة ما اشتروه بالألف الرّوبيّة منها بأقلّ من المئة، أقرّ الله عيون العروبة باجتماعهم واتّحادهم.
ولقد أعجبني ما عليه أكثرهم من الوسام وبسطة الأجسام، حتّى قلت أصف الشّيخ عبد الله بن صالح وإيّاهم في رحلتي الّتي نظمتها في سنة (1360 ه) [من الطّويل]:
«وذكّرني في قومه العرب الألى *** وساما وأجساما وبوعا وأذرعا»
ومن مناصبهم أو سلاطينهم في القرن التّاسع: الشّيخ عبد الله بن عثمان بن سعيد العموديّ؛ فلقد استولى سنة (837 ه) على الوادي الأيمن كلّه.
ومنهم في القرن العاشر: الشّيخ عثمان بن أحمد العموديّ، ممدوح الشّيخ عمر بامخرمة، بمثل قوله:
«يا عوض قل لمن كفّه غياث المساكين *** قل لعثمان وافي الذّرع شمس البراهين »
«والّذي في جبينه سرّ طه ويس *** زادك الله على مرّ الجديدين تمكين »
اذكر العهد يا ابن احمد وحصّنه تحصين
والشّيخ عثمان هذا هو الّذي تلقّى الشّيخ معروف باجمال بالصّدر الرّحب لمّا هرب من شبام في سنة (949 ه)، وآواه على أحسن تأهيل إلى أن مات.
ولآل العموديّ أخبار طويلة مع بدر بوطويرق ونهد وغيرهم من قبائل حضرموت، يوجد منها ب «الأصل» ما يكفي للتّعريف.
وعن الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: (أنّه كان بدوعن جماعات من الأمراء، كلّ ينفرد بناحيته: فباقتادة بالقرين، وباعبد الله برحاب، وابن حمير بصيف، وباعويدين كان متولّيا على الأغلب من الوادي الأيسر، وكانت القويرة ونواحيها للكثيريّ، وليس للعموديّ إلّا الرّباط وبضه والجزع والعرسمة وقيدون) اه
وفي سنة (949 ه) نزل الشّيخ عبد الله بن أحمد العموديّ على فوّة ومعه سيبان وباهبري، وأقاموا ثلاثة أيّام، وأتلفوا أكثر من مئة عود من النّخل، ثمّ صالحهم أهل فوّة على مال دفعوه لهم، فانصرفوا إلى دوعن بعد أن ملؤوا قلوب أهل الشّحر والغيل خوفا، وهذا من الأدلّة على عدم وجود المكلّا شيئا يستحقّ الذّكر إذ ذاك.
ومنهم صاحب «المرعى الأخضر» وهو أجوبة من العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن بن محمّد البكريّ الصّدّيقيّ، ومن تلاميذه: العلّامة الشّهير أحمد بن حجر الهيتميّ.
وفي ذكر السّيّد الجليل عيسى بن محمّد بن أحمد الحبشيّ المتوفى في محرّم سنة (1125 ه) من «عقد شيخنا الأبرّ» يقول: (وانتفع به وأخذ عنه كثير من الأعيان؛ منهم: السّيّد الإمام أحمد بن زين الحبشيّ، والشّيخ الكبير عمر بن عبد القادر العموديّ، أشار على والده أن يتركه لله تعالى، وأن يعذره من كدّ الخلاء وتعب الحراثة.. فقبل الشّيخ عبد القادر رأيه، ثمّ إنّ ابنه عمر سلك وجاهد وصحب بعد ذلك سيّدنا قطب الإرشاد عبد الله الحدّاد، وكان من أمره ما كان) اه
ومنهم الشّيخ عبد الرّحمن بن عمر العموديّ أحد تلاميذ ابن حجر، وهو صاحب «حسن النّجوى فيما وقع لأهل اليمن من الفتوى».
ومنهم الشّيخ عبد الله بن محمّد العموديّ، قال في «المواهب والمنن»: إنّه كثيرا ما يقول: (الهمّة والعزم يأتيان برسل التّوفيق خير من كثير من العقل)، وهي حكمة عالية ما كنت أحسبها إلّا لبعض الفلاسفة أو لأحد رجال «الرّسالة القشيريّة».. حتّى رأيت هذا ولم آمن معه أن يكون العموديّ متمثّلا لا منشئا.
وفي (11) محرّم من سنة (965 ه) توفّي الشّيخ الكبير أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن عمر بن عثمان العموديّ، المترجم له أصلا ولأبيه ضمنا في «النّور السّافر» [352].
وفي ترجمته منه يقول: (وبنو العموديّ أهل صلاح وولاية، اشتهر منهم جماعة بالعلوم الظّاهرة ومقامات الولاية الفاخرة، ويقال: إنّ نسبهم يرجع إلى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه) اه
وقد أطلت القول عن ذلك ب «الأصل».
وترجم في «النّور السّافر» أيضا للشّيخ عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد بن محمّد باعثمان، المتوفّى سنة (967 ه).
ومن غرائب الصّدف: أنّ بدر بوطويرق جهّز على العموديّ بجيش يرأسه يوسف التّركيّ، فهزمهم العموديّ وأخذ مدفعا معهم كانوا يطلقونه على عسكره، وورد به إلى صيف في سنة (955 ه).
وفي حدود سنة (1286 ه) استولى النّقيب الكساديّ على أكثر بلاد دوعن، وهزم العموديّين، ولكنّهم أعادوا الكرّة عليه فهزموه وأخذوا مدفعه، وانحدروا به إلى بضه حيث يوجد بها إلى اليوم.
وفي سنة (970 ه) كانت غارة الجرادف من أصحاب العموديّ، ونهبوا بيت السّيّد محمّد بن عبد الله عيديد. وقد مرّ ذكر الجرادف في غياض الشّحر. وأخبار آل العموديّ كثيرة، وقد سقنا ما وجدنا ب «الأصل».
وفي بضه كريف كبير يجتمع فيه ماء السّيل فيكفيهم تسعة أشهر أو أكثر، أظنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب صاحب اليمن وعدن، ولكنّي لم أره في مآثره، لكنّ الشّائع بين آل العموديّ ـ من قديم الزّمان إلى الآن ـ أنّ أوّل عمارة له كانت على يد سيّد من تريم، فتعيّن أنّه باساكوته؛ لأنّه الّذي عمر جامع تريم، وضمير ثبي، وكريف قيدون، على نفقة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب صاحب اليمن وعدن، وإن لم يوجد ذكره بين مآثره في «النّور السّافر» وغيره من المظانّ الّتي بين يديّ.
ثمّ حصل فيه خلل فعمره الشّيخ عبد الله بن صالح العموديّ منصب بضه، ثمّ عمّره الشّيخ عبد القادر باياسين ساكن بضه، ثمّ أوصى له السّيّد عليّ بن جعفر بن محمّد العطّاس بما يعمره فعمره إخوانه، ثمّ عمره أولاد الشّيخين عبد الرّحمن وسعيد ابني عبد الله بن صالح.
وكان سريع التّغيّر؛ لأنّه قريب من النّخل، فكانت عروقه تنفذ إليه فتفسده.
وفي شرقيّ بضه مقبرة الشّيخ معروف باجمّال، المتوفّى بها في منفاه من بدر بوطويرق ـ حسبما تكرّر ذكره ـ سنة (969 ه).
وعند مقبرته حوض دون الأوّل جدّدوا عمارته في الوقت الأخير عمارة أكيدة، تصبّ فيه عيون ماء، فيكفي لضرورات آل بضه عند نفاد الأوّل.
ومن علماء بضه في القرن الحادي عشر: عمر بن محمّد خبيزان، له ذكر في «مجموع الأجداد» يأتي بعضه في سيئون.
وفي بضه كثير من السّادة آل العطّاس، منهم: الصّالح العظيم المقدار، جعفر بن محمّد بن عليّ بن حسين العطّاس، وقد اجتمعت به مرارا، آخرها بالشّحر سنة (1322 ه)، لمّا وردتها في طريقي إلى الحجاز لأداء حجّة الإسلام، وقد أحضرني عليه والدي بمكاننا علم بدر سنة (1306 ه)، فدعا لي وألبسني طاقيّته، وقال لوالدي: (هذا رأس العلم) فسرّ بذلك كثيرا، وعلّق كبريات الآمال على هذه الكلمة، نسأل الله قبول الدّعاء وتحقيق الرّجاء.
ومن فضلاء بضه اليوم: السّيّد حسين بن حامد بن عمر العطّاس، كان صحيح التّقوى، صادق الإخلاص، كثير العبادة، نقيّ الجيب، وقور الرّكن، جمّ التّواضع، نكب في حدود سنة (1337 ه) بقرّتي عين من أولاده، فاحتسبهم عند الله بجأش ثابت ورضا تامّ، وبال صابر.
ثافن الرّجال، وصحب أهل الكمال، وكان يتفتّح عن ثبج بحر إذا سئل عن بحر الجود المرحوم السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد؛ إذ كان معه في سفره إلى الهند وفي كثير من أحواله، مدّ الله في عمره ونفعنا به.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
5-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل الرباكي)
حصن آل الرّباكيّوهو أطلال حصن داثر، بقلّة قارة شاهقة، فيها بئر عميقة، وفي جانب تلك القارة غار يصل إلى البئر، كأنّ أحدا حاصر الحصن، ولمّا أعياه.. حفر بجانب القارّة حتّى انتهى إلى البئر فقطع على أهله الماء.
وقد انتصبت القرائن على أنّ هذه القارة هي قارة الأشباء، ومنها بيت نشوان بن سعيد الآنف الذّكر، وقد جاء في «تاريخ شنبل»: أنّ قارة الأشباء عند آل حسن، وهم من بني سعد كما سيأتي في الحوطة.
وفي أخبار سنة (808 ه): (أنّ آل جميل بنوا قارة الأشباء)، وكأنّها خربت سريعا؛ ففي «تاريخ شنبل»: (أنّ محمّد بن عليّ بنى قارة الأشباء في سنة 827 ه).
وفي أخبار سنة (840 ه) أنّ الكثيريّ أخرب باهزيل بجهة الغريب والأشباء، وكانتا تحت يده يومئذ.
فكلّ هذه الأخبار ترجّح أنّها هي هذه القارّة، ولا يغبّر عليه قول ابن الحائك الهمدانيّ: (ثمّ حوره، وهي مدينة عظيمة لبني حارثة من كندة، ثمّ قارة الأشباء، وهي لكندة) اه.
فإنّه قد يفهم من هذا أنّ قارة الأشباء قريبا من حوره، ولكن يجاب عنه بشيئين:
أحدهما: أنّ الهمدانيّ في «الصّفة» كثيرا ما يخطىء في مواضع قرى حضرموت وترتيبها؛ كما فعل في النّجير.
والثّاني: أنّ الأشباء منتشرون في وسط وادي حضرموت وأسفلها، وقد قال الهمدانيّ نفسه في العجز ـ وهو أسفل حضرموت ـ: (إنّه مقسوم بين الأشبا وحمير)
وأخرى وهي الظّاهر: أنّ قرية الأشباء في أيّامه كانت في أيدي أهلها الحضرميّين نسبا، لا في أيدي كندة.
ثمّ رحابة: وهي لآل عبيد بن مرعيّ. ثمّ: سحيل غانم. ثمّ: التّبيقول، وفيه حصن الشّيخ سالم بن محمّد بن يمانيّ المثري الشهير، وقد أخبرني بسبب سفره من حضرموت وبما كان يؤمّله يومئذ.
أمّا سبب سفره.. فقال: مرّ ذات يوم جابريّ في ردائه قيد بعير يقعقع، فظنّه والدي ريالات، وكان يهوى الشّرّ لقومه آل مرعيّ بن طالب الأقربين ديارا من آل جابر، فأطلق عليه الرّصاص، ثمّ خفّ هو وعمّي عبد الله، فلمّا أكبّ الثّاني عليه ليطعنه وفيه رمق.. استلّ خنجره ومكّنه من ثغرة عمي، وفاضت روحاهما معا، ولمّا عرف أبي أنّ الّذي طمع فيه إنّما هو قيد بعير لم يحصل عليه إلّا بثمن غال وهو أخوه.. ندم، فضاقت بي الدّنيا، وسافرت وأنا أتمنّى من الله أن أحصل في كلّ شهر على ثلاثين ريالا، فانثالت عليه الأموال ونمت كما ينمو الدّود حتّى لقد بلغ إيراده الشّهريّ من أجور عقاره بجاوة وسنغافورة ومصر ما يقارب ستّين ألف ريال.
وقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» [3 / 188]: (أن قلّ يوم إلّا كان عمر بن الخطّاب يتمثّل بهذا [من الطويل]:
«وبالغ أمر كان يأمل دونه *** ومختلج من دون ما كان يأمل) اه»
وهذا البيت منطبق برمّته على الشّيخ سالم، أمّا صدره.. فممّا تقدّم، وأمّا عجزه.. فقد عاش بحسرة؛ لقلّة الأمن بحضرموت، وعندما بدأ ينبسط فيها.. مات.
وحديثه معي عمّا ذكر كان أوائل سنة (1330 ه) ببتاوي.. فربّما يزيد أو ينقص؛ لأنّ الحفظ يخون ولكنّه لا يخرج عن ذلك المعنى.
وقال الشّيخ حسن بن ربيع: لم يكن المقتول جابريّا، وإنّما هو ابن جوفان والصّفوانيّ من الجوادة، أطلق الرّصاص عليهما محمّد بن سالم وأخوه عبد الله فخرّ الصّفوانيّ قتيلا، ثمّ إنّ ابن جوفان قتل عبد الله بن سالم، ثمّ إنّ محمّد بن سالم قتل ابن جوفان.
وكان للشّيخ سالم ولد شهم شجاع، هو: الشّيخ عليّ بن سالم بن محمّد بن يمانيّ، له همّة عالية، ورأي جزل، وعنده مشاركة في بعض الفنون العلميّة؛ لأنّه أطال الإقامة بالحجاز، وثافن العلماء بمكّة والمدينة، وقليل ما يحصل منه في تينك البلدتين.. خير من كثير ما يحصل في غيرهما، والنّصّ ثابت في مضاعفة الصّلاة، وغيرها لا يخرج عنها.
وكانت بيني وبين الشّيخ عليّ بن سالم هذا صداقة متينة، ولمّا مات سنة (1337 ه).. اشتدّ بي الحزن عليه، وكان من كتابي لوالده في التّعزية به:
إنّنا كنّا نؤمّل أن نموت ويعيش عليّ؛ ليبني قصور المجد بما تأثّلته من الأموال.
فأجاب بما معناه: إنّ الّذي تتمنّاه كان نفس ما أتمناه، ولكن.. لا خيرة لأحد مع الله.
ولمّا كانت ثروة الشّيخ سالم لا تريد الشّرّ، وكان هو لا يتمنّاه حتّى ولو أركب عليه ولم يكن لأقفال صناديقه مفتاح غير الحرب.. أحبّ أخوه عبد الله أن يوقعه في الشّبكة، وكان الشيخ عليّ بن سالم أراد أن يعود لمطلّقته بنت ريس بن سعيد، فأبوا أن يقبلوه، فحمله عمّه عبد الله أن يقتل الّذي تزوّجها في ليلة زفافه سنة (1320 ه)، فأخطأه وأصاب عبد الله بن عامر العاس، وكان في القوم جماعة من عبيد الدّولة والقبائل الكثيريّة، وجماعة من أصحاب عبيد صالح بن طالب وغيرهم من القبائل، نضخ رشاش دمه في ثيابهم، فظنّ عبد الله بن محمّد والنّاس معه أنّ القيامة ستقوم، وأنّ حربا ستنشب بين سالم بن محمّد والقبائل الّتي أخفر ولده ذمامهم، فلا تنغلق صناديقه أبدا ـ وكان سالم بن محمّد يومئذ في طريقه إلى حضرموت فما هو إلّا أن وصل الشّيخ سالم إلى حضرموت، واجتمع بالشّيخ عبيد صالح بن طالب في دار مشعبي بالحوطة، فسوّيت المسألة، ولم تنتطح شاتان، حسبما سبق طرف من ذلك في القارّة.
ولمّا خاب أمل عبد الله بن محمّد من هذه الناحية.. جاء ذات ليلة إلى بيت أخيه سالم، وقال له:
إنّني من جملة من لحقه العار بقتل العاس، فإمّا أن ترضيني، وإلّا.. كان ما لا تحمد عقباه.
فلاينه الشّيخ سالم، ثمّ ترك الأرض له من اليوم الثّاني، وكان آخر العهد به، إذ توفّي بعدن حوالي سنة (1358 ه)، بعد أن ذرف على التّسعين.
وللشّيخ عليّ بن سالم ذكر جميل ب «الأصل».
وبحاجة الشّيخ عبد الله بن سالم إلى طعن الجابريّ.. ذكرت أنّ ابن المستوفي انتقد قول الشّاعر [من الطّويل]:
«ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم *** ببيض المواضي حيث ليّ العمائم »
وقال: إنّه ممّا لا يحسن الافتخار بمثله؛ لأنّهم إذا لم يموتا بالضّرب حيث ليّ العمائم، واحتاجوا إلى الضّرب حيث الكلى، أو حيث الحبا.. دلّ ذلك على الضّعف والخوف وعدم التّمكّن، وإنّما الجيّد قول بلعاء بن قيس من بني ليث بن كنانة [في «ديوان الحماسة» 1 / 13 من البسيط]:
«وفارس في غمار الموت منغمس *** إذا تألّى على مكروهة صدقا»
«غشّيته وهو في جأواء باسلة *** عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا»
«بضربة لم تكن منّي مخالسة *** ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا»
وما أشبه ضربة بلعاء بقول قيس بن الخطيم الأوسيّ [في «ديوانه» 46 من الطّويل]:
«طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر *** لها نفذ لو لا الشّعاع أضاءها »
«ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها »
وتدبّر أيّها النّاظر هل ينحطّ شيء من نقد ابن المستوفي على قول الفرزدق [في «ديوانه» 2 / 79 من الطويل]:
«قريناهم المأثورة البيض قبلها *** يثجّ العروق الأزأنيّ المثقّف »
أم لا؟ والفرق أقرب.
ومن وراء البريكة الواقعة بين المسيلين إلى جهة الشّمال: الحدبه. ثمّ: القوز.
ثمّ: العقده، وهي مسكن الشّيخ جعفر بن سالم بن مرعيّ بن طالب، وله أشعار وأخبار في «الأصل»، وقد مات عن جماعة من الأولاد، وهم: عمر، وطالب، ومرعيّ، وسالم، وصالح.
أسنّهم: عمر، وكان مع السّلطان عبود بن سالم لمّا قتل في صيق العجز، وهو مكان في غربيّ يبعث، ينهر إلى حجر ابن دغّار، وله محاسن.
ومن النّوادر: أنّني وصلت وادي بن علي مرّة في شراء أخشاب، فأبردت عنده، فقال لي: لقد رأيت البارحة جدّك محسنا جاء إلى بيتي، وجلس في مكانك، وسألته عن عدّة مسائل تتعلّق بالطّهارة والصّلاة ـ وأنا ذاكرها لك ـ فأجابني عنها، ولمّا أراد الانصراف.. دفعت له خمسة وعشرين ريالا.
ثمّ إنّه ذكر لي الأسئلة فأجبته عنها، فقال لي: هكذا ـ والله ـ كان جواب جدّك. وعلى الجملة فقد كان معي في اليقظة ـ حسبما يقول ـ كلّ ما كان مع جدّي في النّوم، ما عدا الخمسة والعشرين الرّيال.. فإنّه لم يكن لها أثر في اليقظة.
أمّا الشّيخ طالب: فقد كان أصدقهم لسانا، وأبسطهم بنانا، وأبيضهم جنانا، وأملأهم جفانا.
«عشق المكارم فهو معتمد لها *** والمكرمات قليلة العشّاق »
كلم غالية، وهمم عالية، ووجه أبيض، وبنان مبسوط.
«مجد رعى تلعات الدّهر وهو فتى *** حتّى غدا الدّهر يمشي مشية الهرم »
«بناه بأس وجود صادق ومتى *** تبنى العلا من سوى هذين تنهدم »
لم يزل معمور الفناء، مفتوح الباب، مهزول الفصيل، يقصد بالآمال، وتشدّ إليه الرّحال، وقور الرّكن، أصيل الرّأي.
«ما تملّيت مثل ذاك الحجا المع *** رق في الحلم والسّجايا العتاق »
«خالص الودّ والتّقى في زمان *** فرّخت فيه أمّهات النّفاق »
لقد كان لآل كثير ركنا ركينا، وحصنا حصينا، ولمّا مات في سنة (1341 ه).. افترق ملؤهم، واضطرب حبلهم، فجاء موضع قول عبدة بن الطّيّب [من الطّويل]
«وما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنّه بنيان قوم تهدّما»
وكان هو صاحب الضّلع الأقوى في حرب قسبل المفصّل خبرها ب «الأصل».
وفي العقده الآن ديار شاهقة، ومنازل ضخمة، كلّها لآل جعفر بن سالم. ولم يضنّ الشّيخ أحمد بن طالب بميراث أبيه، بل بقي يبذل حقوق العزّ والدّين فيه، فانطبق على كاسب ذلك ما قال ابن مطير [من الطّويل]:
«فتى عيش في معروفه بعد موته *** كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا»
وبما أنّ الكرام عرضة البلاء والامتحان.. فقد أصيب أحمد هذا بريح لا يزال منه أسير الفراش، ولكنّه ممتّع بالعقل والإحساس، وكلّ أمر أهون من غيره، والله مع الصّابرين.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
6-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل فلوقة)
حصن آل فلّوقةهو قرية واقعة في سفح الجبل المسمّى باعشميل، في جنوب تريم بإزاء الرّملة، إلى شرقيّها، فيصلح عدّها هنا في القرى الّتي بجنوب تريم، ويصلح عدّها في القرى الّتي في شرقيّها، ولكنّي آثرت الأوّل لأتمكّن من كلمات تليق بفضيلة شيخنا العلّامة أبي بكر بن شهاب بمناسبة وجوده فيها مع نشاط الخاطر؛ إذ لا يمكنني أن أبلغ فيه شيئا ممّا أريد في أخبار تريم المقصود مراجيحها بالحظّ الأوفى من قول العلّامة الجليل عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعيّ [من الطّويل]:
«مررت بوادي حضرموت مسلّما *** فألفيته بالبشر مبتسما رحبا»
«وألفيت فيه من جهابذة العلا *** أكابر لا يلفون شرقا ولا غربا»
وقد سمعت كثيرا من الشّيوخ وأهل العلم يقولون: (إنّ هذا كان جواب الشّيخ لمّا سأله أبوه عن أهل حضرموت)، وهو وهم ظاهر؛ لأنّ وفاة الشّيخ عبد الله بن أسعد كانت في سنة (768 ه)، ووفادة ولده إلى حضرموت إنّما كانت في سنة (794 ه) كما ذكره شنبل.
وسيأتي عن بامخرمة في تريم أنّ صاحب القصّة إنّما هو عليّ بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد، ولكنّ كلام شنبل أثبت؛ لأنّه أعرف بحضرموت وأخبارها.
ولد شيخنا ـ الّذي لا حاجة إلى ذكر اطّراد نسبه؛ لغناه عنه بشهرته، كما قال المتنبّي [في «العكبريّ» 1 / 176 من البسيط]:
«يا أيّها الملك الغاني بتسمية *** في الشّرق والغرب عن وصف وتلقيب »
في تلك القرية سنة (1262 ه)، ودرج بين أحضان العناية، وشبّ محفوفا بالرّعاية، وكان في صفاء الذّهن وحدّة الفهم آية، نعس مرّة بين أصحاب له ـ منهم السّيّد الشّهير عليّ بن محمّد الحبشيّ ـ يقرؤون في الفرائض فعاتبه أحدهم، فسرد لهم ما كانوا فيه! ثمّ صبّحهم من اليوم الثّاني بمنظومته الموسومة ب: «ذريعة النّاهض» وقد أخذ قوله في آخرها [من الرّجز]:
«وعذر من لم يبلغ العشرينا *** يقبل عند النّاس أجمعينا»
من قول صاحب «السّلّم» [في البيت 138 من الرّجز]:
«ولبني إحدى وعشرين سنه *** معذرة مقبولة مستحسنه »
وجرى الاختلاف بمحضر شيخنا المشهور فيما لو اختلف الماء وزنا ومساحة بماذا يكون الاعتبار في القلّتين؟ فنظم على البديهة سؤالا سيّره لمفتي زبيد السّيّد داود حجر فعاد الجواب على غرار ذلك النّظم مصرّحا باعتبار المساحة.
وقد ذكر شيخنا المسألة في «البغية»، ولكنّه لم يشر إلى ما كان واقعا من القصّة، وامتحنت شاعريّته في حضرة الشّريف عبد الله بمكّة المشرّفة، فخرج كما يخرج الذّهب التبر من كير الصّائغ؛ إذ أنشأ في المجلس من لسان القلم أكثر ممّا اقترحوه عليه.
وفي «ديوانه» عدّة قصائد بهيئة الأرتقيّات في مديح خديوي مصر الجليل توفيق باشا، وزعم جامعو «ديوانه» أنّه لم يقدّمها إليه، وأنا لا أصدّق ذلك؛ لخروجه عن الطّبيعة الغالبة؛ إذ قلّما ينجز الشّاعر قصيدته إلّا كانت في صدره ولولة لا تهدأ إلّا بإظهارها، فالظّاهر أنّه قدّمها ولكنّها لم تحظ بالقبول، وقد قيل لأرسطو: إنّ أهل أنطاكيّة لم يقبلوا كلامك.. قال: لا يهمّني قبولهم، وإنّما يهمّني أن يكون صوابا.
وللعلّامة ابن شهاب أسوة بسابقيه من الفحول، فقد اقشعرّ بطن مصر بأراكين القريض؛ كحبيب وأبي عبادة، ولم ينج المتنبّي إلّا بجريعة الذّقن حسبما قرّرته في «النّجم المضي».
وأخبار العلّامة ابن شهاب أكثر من أن يتّسع لها المجال، وهو الّذي مهّد له الصّواب، وأطلق الخطاب، وألين القول، وأطيل الجول.
«كأنّ كلام النّاس جمّع حوله *** فأطلق في إحسانه يتخيّر »
لقد أخذ قصب السّبق، ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.
أمّا في الفقه.. فكثير من يفوقه من السّابقين، بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي: علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، وشيخان بن محمّد الحبشيّ، ومحمّد بن عثمان بن عبد الله بن يحيى من اللّاحقين.
وأمّا في التّفسير والحديث.. فلا أدري.
وأمّا في الأصلين، وعلم المعقول، وعلوم الأدب والعربيّة، وقرض الشّعر ونقده.. فهو نقطة بيكارها، وله فيها الرّتبة الّتي لا سبيل إلى إنكارها.
وقد رأينا أشعار إمام الإباضيّة، والشّيخ سالم بافضل، وابن عقبة، وعبد المعطي، وعبد الصّمد، ومطالع القطب الحدّاد الرّائعة، ومنقّحات العلّامة ابن مصطفى الشّاعرة، فضلا عمّن دونهم.. فلم نر أحدا يفري فريه، ولا يمتح بغربه، ولا يسعى بقدمه، والآثار شاهدة والمؤلّفات والأشعار ناطقة.
«مجد تلوح حجوله وفضيلة *** لك سافر والحقّ لا يتلثّم »
أما إنّ كلامه ليسوق القلوب النّافرة أحسن مساق، ويستصرف الأبصار الجامحة كما تستصرف الألحاظ العشّاق.
«ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته *** ويصبح الحاسد الغضبان يرويها »
ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان، والإجماع على فضل ذلك الإنسان، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه، فلا يزال يكرّر إنشادها، ويطنب فيمن شادها، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف.. قال له: دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام، لن يفوتك ما أنت فيه.
ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب، واللّؤلؤ الرّطب، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 86 من الطّويل]:
«ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره *** وأحسن من يسر تلقّاه معدم »
وكلّ من القوم ضارب بذقنه، أو باسط ذراعيه بالوصيد، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.
وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال.. فلا أكذب الله: كلّ من بعده عليه عيال، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة.. إنّما هو بفضله؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.
«وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه *** نقفو ضياء الكوكب الوقّاد »
وكان يحسد حسدا شديدا، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» 1 / 14 من الكامل]:
«فنيت أحاديث النّفوس بذكرها *** وأفاق كلّ منافس وحسود»
ولكن من قوّة نفسه ومغالاته بها، وما يصحبه من التّوفيق في الإصلاح؛ فإنّه لا يهيب بمشكل إلّا انحلّ، ولا ينبري لمعضل إلّا اضمحلّ.
«فأرى الأمور المشكلات تمزّقت *** ظلماتها عن رأيه المستوقد »
ومع تألّب الأعداء عليه من كلّ صوب.. تخلّص منهم قائبة من قوب، ووقي شرّهم وقيّا، وما زادوه إلّا رقيّا، فانطبق عليهم قول حبيب [في «ديوانه» 2 / 103 من الكامل]:
«ولقد أردتم أن تزيلوا عزّه *** فإذا (أبان) قد رسى و (يلملم) »
وهو محبوب بعد لدى فحول الرّجال وأئمة أهل الكمال، كسيّدي الجدّ، والأستاذ الأبرّ، والحبيب أحمد بن محمّد المحضار، والحبيب عليّ بن حسن الحدّاد، والحبيب عمر بن حسن الحدّاد، والحبيب محمّد بن إبراهيم، وأمثالهم. وقد قال الأوّل [من الطّويل]:
«إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا عليّ لئامها»
وله رحلات كثيرة، أولاها سنة (1286 ه) إلى الحجاز، ثمّ عاد إلى تريم، وفي سنة (1288 ه) ركب إلى عدن واتّصل بأمراء لحج ومدحهم، وزعم بعض النّاس أنّه كان يعنيهم بقصيدته المستهلّة بقوله [في «ديوانه» (93 ـ 95) من الوافر]:
«ذهبت من الغريب بكلّ مذهب *** وملت إلى النّسيب وكان أنسب »
وأنا في شكّ من ذلك؛ لأنّ له فيهم بعدها غرر القصائد، ومنها قوله [من الطّويل]
«هو الحيّ إن بلّغته فانزل الحانا *** وحيّ الألى تلقاهم فيه سكّانا»
على أنّ للإنسان لسانا في الغضب غير لسانه في الرّضا، وقد قال الأوّل [من الطّويل]
«هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته *** وما زالت الأشراف تهجى وتمدح »
ثمّ إنّ المترجم ركب من عدن إلى جاوة وأقام بها نحوا من أربع سنين، ثمّ عاد إلى الغنّاء في سنة (1292 ه)، وثمّ نجمت فتنة النّويدرة وكان له أفضل السّعي في إخمادها ونجح، ثمّ اشتدّ عليه الأذى فهجر حضرموت سنة (1302 ه)، وهي الرّحلة الّتي يقول عند رجوعه منها [من الطّويل]:
«ثلاثون عاما بالبعاد طويتها *** وكم أمل في طيّ أيّامها انطوى »
«وها عودتي لمّا أتيحت نويتها *** عسى وعسى أن ليس من بعدها نوى »
ولمّا قدم إلى تريم في سنة (1331 ه).. هنّأته بقصيدة نكر منها بعض أهل العلم بتريم أبياتا، فقال لي السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله الكاف: أتحبّ أن يبحث معك إخوانك في أبيات أنكروها من قصيدتك؟ فقلت له: نعم، بكلّ مسرّة وفرح.
فأقبل العلّامة السّيّد حسن بن علويّ بن شهاب ـ لأنّهم نصّبوه إذ ذاك للرّياسة العلميّة بتريم لينافس الوالد أبا بكر ابن شهاب في عشرين من علية طلّاب العلم، فيهم العلّامة عليّ بن زين الهادي، ولم أكره حضور أحد سواه؛ لما اشتهر به من الحدّة، فخشيت أن يخرج بنا الجدال عن اللّياقة، وما فرغنا من المناقشة.. إلّا وقد رجعوا إلى كلامي، وأوّل من انحاز إلى جانبي هو السّيّد عليّ بن زين الهادي مصداق أنّ الحدّة تعتري الأخيار.. فكان من خيار المنصفين، فهابه من رام المغالطة.
وما أنا في هذا بمجازف ولا كاذب، ولا أستشهد على طول الزّمان بميت ولا غائب؛ فقد بقي السّيّد يوسف بن عبد الله المشهور ممّن حضر ذلك البحث فليسأله من أحبّ.
وموضوع المناقشة أنّني عرّضت ـ في تلك القصيدة ـ ببعض من يعزّ عليهم ممّن غيّر منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. لم يسعهم إلّا الإذعان، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».
وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب.. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» 45 من الطّويل]:
«فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب »
«وليت الّذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب »
فجمعت يدي منه على دين ثابت، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.
ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين، واستجهرني جمالهما، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر، وأفقت من دهشة الإعجاب به.. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية»؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.
وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك، وقد ذكرت في «العود» [2 / 259] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط]:
«شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر *** ليت المؤمّل لم يخلق له بصر»
وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» 226 من الطّويل]:
«قضاها لغيري وابتلاني بحبّها *** فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا»
وقال عمر بن أبي ربيعة لكثيّر: أخبرني عن قولك لنفسك ولحبيبتك [في «ديوان كثير» 47 ـ 48 من الطّويل]:
«ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة *** بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب »
«كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي وأجرب »
«إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب »
«وددت وبيت الله أنّك بكرة *** هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب »
«نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا *** فلا هوّ يرعانا ولا نحن نطلب »
ويلك! تمنّيت لها الزّفّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ! ! فأيّ مكروه لم تتمنّه لكما؟ أما والله لقد أصابها منك قول الأوّل: (مودّة الأحمق.. شرّ من معاداة العاقل).
وعاتبته عزّة على ذلك، ومعاذ الله أن يسلموا من سوء العاقبة.
وما وقع فيه أبو فراس لا ينقص ـ إن لم يزد ـ على ما تمنّاه كثيّر، وسبق في ذي أصبح أنّ جدّي المحسن كان يقول: ما نعني بالأسماع والأبصار عند ما ندعو بحفظها إلّا حسن بن صالح وأحمد بن عمر وعبد الله بن حسين، ولكنّه أضرّ بالآخرة، ومثله المترجم.. فلا بعد أن يكون من تلك البابة.
كما تبت عن الدّعاء بقول سيّدنا عمر بن الخطّاب: (بل أغناني الله عنهم)، لما قيل له: (نفعك بنوك)، وكنت أستحسنه وأدعو بمقتضاه، حتّى تفطّنت لما فيه، ورأيت أنّ أبناء ابن الخطّاب لم يكونوا هناك، وليس هو بأفضل من العبد الصّالح إذ عوقب على قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) كما جاء في الحديث.
بعد هذا كلّه ذهبت النّشوة، وانجابت الغفوة، وظهر ما تحته من الهفوة.
وفي رواية عن الشّافعيّ: أنّه لا يحبّ أن يقال في التّعزية: أعظم الله أجرك؛ لما في طيّه من الاستكثار من المصائب، فسحبت عندئذ ما كان منّي من استحسان ذلك، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها.
وما أشدّ ما يسيء هؤلاء الشّعراء الأدب ويقلّون الحياء؛ فمثل كلام أبي فراس لا يليق بخطاب المخلوق، ومن ثمّ صرفه المفتونون بجماله إلى خطاب الخالق غفلة عمّا فيه من التّعرّض للبلاء المنهيّ عن مثله، وكمثله قول البحتريّ للفتح بن خاقان [من الطّويل]:
«ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لو لا محبّتك الفقر»
وقد صرفته إلى الباري عزّ وجلّ في قصيدة إلهيّة جرى لي فيها حديث لا أملّ به، فأرجو أن لا يلحقني بأس بعد؛ إذ لا يحسن غير المأثور، وقد فتن الرّضيّ بهذا البيت، وأغار عليه فلم يحسن الاتّباع حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 541 من الطّويل]:
«فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى *** ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر»
ومن الغلوّ الممقوت قول ابن هانىء الأندلسّي [من البسيط]:
«أتبعته فكرتي حتّى إذا بلغت *** غاياتها بين تصويب وتصعيد»
«أبصرت موضع برهان يلوح وما *** أبصرت موضع تكييف وتحديد»
ولقد احترست حين تمثّلت في ذي أصبح ببيت من شعر المتنبّي لا يخلو عن الغلوّ، على أنّ الرّوح لا تنفد فلا ينفد وصفها.
ومن التّرّهات الممقوتة أيضا: قول أبي عبد الله الخليع، يخاطب أحمد بن طولون المتوفّى سنة (270 ه) [من الكامل]:
«أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر *** أنا جائع أنا راجل أنا عاري »
«هي ستّة وأنا الضّمين لنصفها *** فكن الضّمين لنصفها بعيار»
ولذا نقلهما كسابقيهما أهل الحقّ إلى خطاب الباري عزّ وجلّ، وأبدلوا قافية الثّاني ب «ياباري» فكانت أعذب وأطيب.
وكنت معجبا بمختارات حافظ، ومع ذلك.. فإنّي أفضّل عليه الأستاذ، حتّى قلت
له مرّة: ألست أشعر منه؟ قال: أينك عن قوله [في «ديوانه» 2 / 161 من البسيط]:
«إنّي أرى وفؤادي ليس يكذبني *** روحا يحفّ بها الإجلال والعظم »
«أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا *** أرى محيّا يحيّيني ويبتسم »
«الله أكبر هذا الوجه نعرفه *** هذا فتى النّيل هذا المفرد العلم »
وقوله [في «ديوانه» 1 / 289 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
ولهذا حديث مبسوط في «العود الهنديّ» [2 / 40].
أمّا شوقي: فلم أقرأ شعره إلّا بعد ذلك، فلم يكن عندي شيئا في جانب جيّد حافظ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلّا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق، بدون حقّ، حسبما فصّلته بدلائله في «العود الهنديّ».
وبقي عليّ أن أشير إلى ما اجتمع للأستاذ من الشّدّة واللّين، والشّمم والإباء، ودماثة الأخلاق، وطوع الجانب، وحلاوة الغريزة.
«قسا فالأسد تهرب من قواه *** ورقّ فنحن نخشى أن يذوبا »
وما أظنّ العلّامة ابن شهاب إلّا على رأيي فيه، وإلّا.. لذكره لي وأثنى عليه، ولا أنكر أنّ له محاسن، لكنّهم رفعوه عن مستواها إلى مالا يستحقّ، وكان ابن شهاب يتشيّع، لكن بدون غلوّ، بل لقد اعتدل اعتدالا حسنا جميلا بعقب زيارته لحضرموت واطّلاعه على «الرّوض الباسم»، ورسائل الإمام يحيى بن حمزة، وكان قلمه أقوى من لسانه، أمّا لسانه مع فرط تواضعه ولطف ديدنه.. فإنّك لا تكاد تعرف أنّه هو الّذي ملأ سمع الأرض وبصرها إلّا إذا سئل فتفتّح عن ثبج بحر جيّاش الغوارب.
«إذا قال.. لم يترك مقالا لقائل *** بمبتدعات لا ترى بينها فصلا »
«كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع *** لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا»
والأدلّة حاضرة، وما بين العينين لا يوصف، ولهو الأحقّ من القزّاز القيروانيّ بقول يعلى بن إبراهيم فيه [من الكامل]:
«أبدا على طرف اللّسان جوابه *** فكأنّما هو دفعة من صيّب »
وقد عرفت من قوله في حافظ.. أنّه من سادات المنصفين، ولي معه من ذلك ما يؤكّده، وقد ذكرت بعضه في خطبة الجزء الثّاني من «الديوان».
وفي سنة (1334 ه) توجّه من حضرموت إلى الهند ليقطع علائقه منها ويبيع دارا له بها، وبينا هو يجمع متاعه للسّفر النّهائيّ إلى مسقط رأسه، ومربع أناسه الّذي لا يزال يحنّ إليه بما يذيب الجماد، ويفتّت الأكباد؛ كقوله [في «ديوانه» 187 من البسيط]:
«بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى *** أوطانه وسهام البين ترشقه »
«إلى العرانين من أقرانه وإلى *** حديثهم عبرات الشّوق تخنقه »
.. إذ وافانا نعيه في جمادى الآخرة من سنة (1341 ه).
«فضاقت بنا الأرض الفضاء كأنّما *** تصعّدنا أركانها وتجول »
فاشتدّ الأسى، ولم تنفع عسى، وكادت الأرض تميد، لموت ذلك العميد، وطفق النّاس زمانا.
«يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا *** ويبكي عليه الجود والعلم والشّعر »
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
7-المعجم المفصّل في الإعراب (أما)
أمّا ـتأتي حرف شرط وإخبار، ولذلك احتاج الجواب إلى الفاء كما في الشرط، نحو: «أمّا خالد فمسافر» أي: مهما يكن من شيء فخالد مسافر ولذلك فقد نابت «أمّا» مكان أداة الشرط «مهما» وفعل الشرط المجزوم «يكن»، ولذلك ظهر جواب الشرط دون أن يظهر الشرط. وتعرب كالآتي:
(«أمّا»: حرف شرط وإخبار وتوكيد مبنيّ على السكون لا محل له من الإعراب.
«خالد»: مبتدأ مرفوع بالضمّة الظاهرة.
«فمسافر»: الفاء: حرف واقع في جواب الشرط، مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب.
«مسافر»: خبر المبتدأ مرفوع بالضمّة الظاهرة. والجملة الاسمية من المبتدأ والخبر في محلّ جزم جواب الشرط.
المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م
8-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (التيجانية-الطرق الصوفية)
التيجانيةالتعريف:
التيجانية: فرقة صوفية يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية ويزيدون عليها الاعتقاد بإمكانية مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، مقابلة مادية واللقاء به لقاءً حسيًّا في هذه الدنيا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصهم بصلاة (الفاتح لما أُغلق) التي تحتل لديهم مكانة عظيمة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
·المؤسس هو: أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار ابن أحمد بن محمد سالم التيجاني، وقد عاش مابين (1150-1230هـ) (1737 ـ 1815م) وكان مولده في قرية عين ماضي من قرى الصحراء بالجزائر حاليًّا.
ـ حفظ القرآن الكريم ودرس شيئًا من الخليل.
ـ درس العلوم الشرعية، وارتحل متنقلًا بين فاس وتلمسان وتونس والقاهرة ومكة والمدينة ووهران.
ـ أنشأ طريقته عام (1196هـ) في قرية أبي سمغون وصارت فاس المركز الأول لهذه الطريقة، ومنها تخرج الدعوة لتنتشر في أفريقيا بعامة.
ـ أبرز آثاره التي خلَّفها لمن بعده زاويته التيجانية في فاس، وكتابه جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني الذي قام بجمعه تلميذه علي حرازم.
من مشاهيرهم بعد المؤسس:
ـ علي حرازم أبو الحسن بن العربي برادة المغربي الفاسي وقد توفي في المدينة النبوية.
ـ محمد بن المشري الحسني السابحي السباعي (ت1224هـ) صاحب كتاب الجامع لما افترق من العلوم وكتاب نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.
ـ أحمد سكيرج العياشي 1295 ـ 1363هـ ولد بفاس، ودرس في مسجد القرويين، وعين مدرسًا فيه، تولى القضاء، وزار عددًا من مدن المغرب، وله كتاب الكوكب الوهاج وكتاب كشف الحجاب عمن تلاقى مع سيدي أحمد التيجاني من الأصحاب.
ـ عمر بن سعيد بن عثمان الفوتي السنغالي: ولد سنة 1797م في قرية الفار من بلاد ديمار بالسنغال حاليًّا، تلقى علومه في الأزهر بمصر، ولما رجع إلى بلاده أخذ ينشر علومه بين الوثنيين، وكانت له جهود طيبة في مقاومة الفرنسيين. وقد كانت وفاته سنة 1283هـ، وخلفه من بعده اثنان من أتباعه، وأهم مؤلفاته رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم الذي كتبه سنة 1261 ـ 1845م.
ـ محمد عبد الحافظ بن عبد اللطيف بن سالم الشريف الحسني التيجاني المصري 1315 ـ 1398هـ وهو رائد التيجانية في مصر، وقد خلف مكتبة موجودة الآن في الزاوية التيجانية بالقاهرة وله كتاب الحق والخلق، وله الحد الأوسط بين من أفرط ومن فرط، وشروط الطريقة التيجانية كما أسس مجلة طريق الحق سنة 1370 ـ 1950م.
الأفكار والمعتقدات:
· من حيث الأصل هم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى إيمانًا يداخله كثير من الشركيات.
ينطبق عليهم ما ينطبق على الصوفية بعامة من حيث التمسك بمعتقدات المتصوفة وفكرهم وفلسفتهم ومن ذلك إيمانهم بوحدة الوجود، انظر جواهر المعاني1/259، وإيمانهم بالفناء الذي يطلقون عليه اسم (وحدة الشهود) انظر كذلك جواهر المعاني 1/191.
يقسمون الغيب إلى قسمين: غيب مطلق استأثر الله بعلمه، وغيب مقيد وهو ما غاب عن بعض المخلوقين دون بعض. ورغم أن هذا في عمومه قد يشاركهم فيه غيرهم من المسلمين إلا أنهم يتوسعون في نسبة علم الغيب إلى مشايخهم.
ـ يزعمون بأن مشايخهم يكشفون عن بصائرهم، فهم يقولون عن شيخهم أحمد التيجاني: (ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهر بمقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها إظهار المضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات وما يترتب عليها من المصالح والآفات وغير ذلك من الأمور الواقعات" (انظر الجواهر 1/63).
يدعي زعيمهم أحمد التيجاني بأنه قد التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لقاءً حسيًّا ماديًّا وأنه قد كلمه مشافهة، وأنه تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم صلاة (الفتح لما أغلق). ـ صيغة هذه الصلاة: "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم" ولهم في هذه الصلاة اعتقادات نسوق منها ما يلي:
ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المرة الواحدة منها تعدل قراءة القرآن ست مرات.
ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبره مرة ثانية بأن المرة الواحدة منها تعدل من كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن قراءة القرآن ستة آلاف مرة؛ لأنه كان من الأذكار. (انظر الجواهر 1/136).
ـ أن الفضل لا يحصل بها إلا بشرط أن يكون صاحبها مأذونًا بتلاوتها، وهذا يعني تسلسل نسب الإذن حتى يصل إلى أحمد التيجاني الذي تلقاه عن رسول الله ـ كما يزعم.
ـ أن هذه الصلاة هي من كلام الله تعالى بمنزلة الأحاديث القدسية، (انظر الدرة الفريدة 4/128).
ـ أن من تلا صلاة الفاتح عشر مرات كان أكثر ثوابًا من العارف الذي لم يذكرها، ولو عاش ألف ألف سنة.
ـ من قرأها مرة كُفِّرت بها ذنوبه، ووزنت له ستة آلاف من كل تسبيح ودعاء وذكر وقع في الكون.. إلخ (انظر كتاب مشتهى الخارف الجاني 299 ـ 300).
يلاحظ عليهم شدة تهويلهم للأمور الصغيرة، وتصغيرهم للأمور العظيمة، على حسب هواهم، مما أدى إلى أن يفشو التكاسل بينهم والتقاعس في أداء العبادات والتهاون فيها وذلك لما يشاع بينهم من الأجر والثواب العظيمين على أقل عمل يقوم به الواحد منهم.
يقولون بأن لهم خصوصيات ترفعهم عن مقام الناس الآخرين يوم القيامة ومن ذلك:
ـ أن تخفف عنهم سكرات الموت.
ـ أن يظلهم الله في ظل عرشه.
ـ أن لهم برزخًا يستظلون به وحدهم.
ـ أنهم يكونون مع الآمنين عند باب الجنة حتى يدخلوها في الزمرة الأولى مع المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين.
· يقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أحمد التيجاني عن التوجه بالأسماء الحسنى، وأمره بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق وهذا مخالف لصريح الآية الكريمة: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [سورة الأعراف، الآية: 180].
ـ يقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أحمد التيجاني بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق، وأنه لم يأمر بها أحدًا قبله، وفي ذلك افتراء بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم عن الأمة المسلمة شيئًا مما أوحي إليه من ربه، وقد ادخره حتى حان وقت إظهاره حيث باح به لشيخهم أحمد التيجاني.
هم كباقي الطرق الصوفية يجيزون التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله الصالحين، ويستمدون منه ومنهم ومن الشيخ عبد القادر الجيلاني ومن أحمد التيجاني ذاته، وهذا مما نهى عنه شرع الله الحكيم.
تتردد في كتبهم كثير من ألقاب الصوفية كالنجباء والنقباء والأبدال والأوتاد، وتترادف لديهم كلمتا الغوث والقطب (الذي يقولون عنه بأنه ذلك الإنسان الكامل الذي يحفظ الله به نظام الوجود! !
يقولون بأن أحمد التيجاني هو خاتم الأولياء مثلما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
يقول أحمد التيجاني (من رآني دخل الجنة). ويزعم أن من حصل له النظر إليه يومي الجمعة والاثنين دخل الجنة. ويؤكد على أتباعه بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته قد ضمن له ولهم الجنة يدخلونها بغير حساب ولا عقاب.
ينقلون عن أحمد التيجاني قوله: "إن كل ما أعطيه كل عارف بالله أعطي لي".
وكذلك قوله: إن طائفة من أصحابه لو وزنت أقطاب أمة محمد ما وزنوا شعرة فرد من أفرادهم، فكيف به هو! !.
وقوله: "إن قَدَميَّ هاتين على رقبة كل ولي من لدن خلق الله آدم إلى النفخ في الصور".
لهم ورد يقرؤونه صباحًا ومساءً، ووظيفته تقرأ في اليوم مرة صباحًا أو مساءً، وذكر ينعقد بعد العصر من يوم الجمعة على أن يكون متصلًا بالغروب، والأخيران الوظيفة والذكر يحتاجان إلى طهارة مائية، وهناك العديد من الأوراد الأخرى لمناسبات مختلفة.
من أخذ وردًا فقد ألم نفسه به ولا يجوز له أن يتخلى عنه وإلا هلك وحلت به العقوبة العظمى! !.
نصَّب أحمد التيجاني نفسه في مقام النبوة يوم القيامة إذ قال: "يوضع لي منبر من نور يوم القيامة، وينادي مناد حتى يسمعه كل من في الموقف: يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه من غير شعوركم" (انظر الإفادة الأحمدية ص 74).
الجذور الفكرية والعقائدية:
مما لا شك فيه بأنه قد استمد معظم آرائه من الفكر الصوفي وزاد عليها شيئًا من أفكاره.
وقد نهل من كتب عبد القادر الجيلاني وابن عربي والحلاج وغيرهم من أعلام المتصوفة.
وخلال فترة تشكله قبل تأسيس الطريقة قابل عددًا من مشايخ الصوفية وأخذ إذنًا وأورادًا عنهم وأبرز تلك الطرق القادرية والخلوتية.
واستفاد من كتاب المقصد الأحمد في التعريف بسيدي أبي عبد الله أحمد تأليف أبي محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسيني والمطبوع بفارس سنة 1351هـ.
كان لانتشار الجهل أثر كبير في ذيوع طريقته بين الناس.
الانتشار ومواقع النفوذ:
بدأت هذه الحركة من فاس وما زالت تنتشر حتى صار لها أتباع كثيرون في بلاد المغرب والسودان الغربي (السنغال) ونيجيريا وشمالي أفريقيا ومصر والسودان وغيرها من أفريقيا.
صاحب كتاب التيجانية علي بن محمد الدخيل الله يقدر في عام 1401هـ ـ 1981م عدد التيجانيين في نيجيريا وحدها بما يزيد على عشرة ملايين نسمة.
ويتضح مما سبق:
أن التيجانيين مبتدعون في عباداتهم وكل بدعة ضلالة؛ لأنهم ذهبوا إلى تخصيص أدعية بذاتها غير واردة في الشرع، وألزموا الناس بعبادات معينة في أوقات مخصوصة لا تستند إلى أساس، فضلًا عن أن لهم معتقدات تخرج بمن يعتنقها عن الملة كالقول بالحلول والاتحاد.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
9-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الإسماعيلية-الحركات الباطنية)
الإسماعيليةالتعريف:
الإسماعيلية فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلوِّ الشديد لدرجة أن الشيعة الاثني عشرية يكفِّرون أعضاءَهَا.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
أولًا: الإسماعيلية القرامطية: (انظر بحث القرامطة من هذا الموقع).
كان ظهورهم في البحرين والشام بعد أن شقُّوا عصا الطاعة على الإمام الإسماعيلي نفسه ونهبوا أمواله ومتاعه فهرب من سلمية في سوريا إلى بلاد ما وراء النهر خوفًا من بطشهم. ومن شخصياتهم:
ـ عبد الله بن ميمون القداح: ظهر في جنوبي فارس سنة 260ه.
ـ الفرج بن عثمان القاشاني (ذكرويه): ظهر في العراق وأخذ يدعو للإمام المستور.
ـ حمدان قرمط بن الأشعث (278ه (: جهر بالدعوة قرب الكوفة.
ـ أحمد بن القاسم: الذي بطش بقوافل التجار والحجاج.
ـ الحسن بن بهرام (أبو سعيد الجنابي): ظهر في البحرين ويعتبر مؤسس دولة القرامطة.
ـ ابنه سليمان بن الحسن بن بهرام (أبو طاهر): حكم ثلاثين سنة، وفي عهده حدث التوسع والسيطرة وقد هاجم الكعبة المشرفة سنة 319ه وسرق الحجر الأسود وأبقاه عنده لأكثر من عشرين سنة.
ـ الحسن الأعصم بن سليمان: استولى على دمشق سنة 360ه.
ثانيًا: الإسماعيلية الفاطمية:
وهي الحركة الإسماعيلية الأصلية وقد مرت بعدة أدوار:
ـ دور الستر: من موت إسماعيل سنة 143ه إلى ظهور عبيد الله المهدي. وقد اختلف في أسماء أئمة هذه الفترة بسبب السرية التي انتهجوها.
ـ بداية الظهور: بدأ الظهور بالحسن بن حوشب الذي أسس دولة الإسماعيلية في اليمن سنة 266ه وامتد نشاطه إلى شمال أفريقيا واكتسب شيوخ كتامة. يلي ذلك ظهور رفيقه علي بن فضل الذي ادعى النبوة وأعفى أنصاره من الصوم والصلاة.
ـ دور الظهور: يبدأ بظهور عبيد الله المهدي الذي كان مقيمًا في سلمية بسوريا ثم هرب إلى شمال أفريقيا واعتمد على أنصاره هناك من الكتاميين.
قتل عبيد الله داعيته أبا عبد الله الشيعي الصنعاني وأخاه أبا العباس لشكهما في شخصيته وأنه غير الذي رأياه في سلمية.
أسس عبيد الله أول دولة إسماعيلية فاطمية في المهدية بإفريقية (تونس) واستولى على رقادة سنة 297ه وتتابع بعده الفاطميون وهم:
ـ المنصور بالله (أبو طاهر إسماعيل) 334 ـ 341هـ.
ـ المعز لدين الله (أبو تميم معد): وفي عهده فتحت مصر سنة 361ه وانتقل إليها المعز في رمضان سنة 362ه.
ـ العزيز بالله (أبو منصور نزار) ـ 365ـ 386هـ.
ـ الحاكم بأمر الله (أبو علي المنصور) ـ 386 ـ 411هـ.
ـ الظاهر (أبو الحسن علي) ـ 411 ـ 427هـ.
ـ المستنصر بالله (أبو تميم) وتوفي سنة 487هـ.
وبوفاته انقسمت الإسماعيلية الفاطمية إلى نزارية شرقية ومستعلية غربية والسبب في هذا الانقسام أن الإمام المستنصر قد نص على أن يليه ابنه نزار لأنه الابن الأكبر. لكن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي نحَّى نزارًا وأعلن إمامة المستعلي وهو الابن الأصغر كما أنه في نفس الوقت ابن أخت الوزير. وقام بإلقاء القبض على نزار ووضعه في سجن وسدَّ عليه الجدران حتى مات.
استمرت الإسماعيلية الفاطميَّة المستعلية تحكم مصر والحجاز واليمن بمساعدة الصليحيين والأئمة هم:
ـ المستعلي (أبو القاسم أحمد) ـ 487 ـ 495هـ.
ـ الآمر (أبو علي المنصور) ـ 495 ـ 525هـ.
ـ الظافر (أبو المنصور إسماعيل) ـ 544 ـ 549هـ.
ـ الفائز (أبو القاسم عيسى) ـ 549 ـ 555هـ.
ـ العاضد (أبو محمد عبد الله) ـ من 555ه حتى زوال دولتهم على يدي صلاح الدين الأيوبي.
ثالثًا: الإسماعيلية الحشاشون:
وهم إسماعيلية نزارية انتشروا بالشام، وبلاد فارس والشرق، ومن أبرز شخصياتهم:
الحسن بن الصباح: وهو فارسي الأصل وكان يدين بالولاء للإمام المستنصر قام بالدعوة في بلاد فارس للإمام المستور ثم استولى على قلعة آلموت وأسس الدولة الإسماعيلية النـزارية الشرقية ـ وهم الذين عرفوا بالحشاشين لإفراطهم في تدخين الحشيش، وقد أرسل بعض رجاله إلى مصر لقتل الإمام الآمر بن المستعلي فقتلوه مع ولديه عام 525ه. توفي الحسن بن الصباح عام 1124م.
كيابزرك آميد توفي سنة 1135م.
محمد بن كيابزرك آميد توفي سنة 1162م.
الحسن الثاني بن محمد توفي سنة 1166م.
محمد الثاني بن الحسن توفي سنة 1210م.
الحسن الثالث بن محمد الثاني توفي سنة 1221م.
محمد الثالث بن الحسن الثالث توفي سنة 1255م.
ركن الدين خورشاه: من سنة 1255ه إلى أن انتهت دولتهم وسقطت قلاعهم أمام جيش هولاكو المغولي الذي قتل ركن الدين فتفرقوا في البلاد وما يزال لهم اتباع إلى الآن.
رابعًا: إسماعيلية الشام:
وهم إسماعيلية نزارية، لقد أبقوا خلال هذه الفترات الطويلة على عقيدتهم يجاهرون بها في قلاعهم وحصونهم غير أنهم ظلوا طائفة دينية ليست لهم دولة بالرغم من الدور الخطير الذي قاموا به ولا يزالون إلى الآن في منطقة سلمية بالذات وفي مناطق القدموس ومصياف وبانياس والخوابي والكهف.
ـ ومن شخصياتهم (راشد الدين سنان) الملقب بشيخ الجبل، وهو يشبه في تصرفاته الحسن بن الصباح، ولقد كون مذهب السنانية الذي يعتقد أتباعه بالتناسخ فضلًاً عن عقائد الإسماعيلية الأخرى.
خامسًا: الإسماعيلية البهرة:
وهم إسماعيلية مستعلية، يعترفون بالإمام المستعلي ومن بعده الآمر ثم ابنه الطيب ولذا يسمون بالطيبية، وهم إسماعيلية الهند واليمن، تركوا السياسة وعملوا بالتجارة فوصلوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة، والبهرة لفظ هندي قديم بمعنى التاجر.
ـ الإمام الطيب دخل الستر سنة 525ه والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يعرف عنهم شيئًا، حتى إن أسماءهم غير معروفة، وعلماء البهرة أنفسهم لا يعرفونهم.
انقسمت البهرة إلى فرقتين:
ـ البهرة الداوودية: نسبة إلى قطب شاه داوود: وينتشرون في الهند وباكستان منذ القرن العاشر الهجري وداعيتهم يقيم في بومباي.
ـ البهرة السليمانية: نسبة إلى سليمان بن حسن وهؤلاء مركزهم في اليمن حتى اليوم.
سادسًا: الإسماعيلية الأغاخانية:
ظهرت هذه الفرقة في إيران في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وترجع عقيدتهم إلى الإسماعيلية النـزارية، ومن شخصياتهم:
ـ حسن علي شاه: وهو الأغاخان الأول: الذي استعمله الإنجليز لقيادة ثورة تكون ذريعة لتدخلهم فدعا إلى الإسماعيلية النـزارية، ونفي إلى أفغانستان منها إلى بومباي وقد خلع عليه الإنجليز لقب آغاخان، مات سنة1881م.
ـ أغا علي شاه وهو الأغاخان الثاني: 1881م ـ 1885م
ـ يليه ابنه محمد الحسيني: وهو الآغاخان الثالث: 1885م ـ 1957م، وكان يفضل الإقامة في أوروبا وقد رتع في ملاذ الدنيا وحينما مات أوصى بالخلافة من بعده لحفيده كريم مخالفًا بذلك القاعدة الإسماعيلية في تولية الابن الأكبر.
ـ كريم: وهو الآغاخان الرابع: من 1957م، وقد درس في إحدى الجامعات الأمريكية.
سابعًا: الإسماعيلية الواقفة:
وهي فرقة إسماعيلية وقفت عند إمامة محمد بن إسماعيل وهو أول الأئمة المستورين وقالت برجعته بعد غيبته.
الأفكار والمعتقدات:
ضرورة وجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل على أن يكون الابن الأكبر وقد حدث خروج على هذه القاعدة عدة مرات.
العصمة لديهم ليست في عدم ارتكاب المعاصي والأخطاء بل إنهم يؤولون المعاصي والأخطاء بما يناسب معتقداتهم.
من مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يكن في عنقه بيعة له مات ميتة جاهلية.
يضفون على الإمام صفات ترفعه إلى ما يشبه الإله، ويخصونه بعلم الباطن ويدفعون له خُمس ما يكسبون.
يؤمنون بالتقية والسرية ويطبقونها في الفترات التي تشتد عليهم فيها الأحداث.
الإمام هو محور الدعوة الإسماعيلية، ومحور العقيدة يدور حول شخصيته.
الأرض لا تخلو من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور فإن كان الإمام ظاهرًا جاز أن يكون حجته مستورًا، وإن كان الإمام مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
يقولون بالتناسخ، والإمام عندهم وارث الأنبياء جميعًا ووارث كل من سبقه من الأئمة.
ينكرون صفات الله أو يكادون لأن الله ـ في نظرهم ـ فوق متناول العقل، فهو لا موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا يقولون بالإثبات المطلق ولا بالنفي المطلق فهو إله المتقابلين وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ليس بالقديم وليس بالمحدث فالقديم أمره وكلمته والحديث خلقه وفطرته.
من عقائد البهرة:
لا يقيمون الصلاة في مساجد المسلمين.
ظاهرهم في العقيدة يشبه عقائد سائر الفرق الإسلامية المعتدلة.
باطنهم شيء آخر فهم يصلون ولكن صلاتهم للإمام الإسماعيلي المستور من نسل الطيب بن الآمر.
يذهبون إلى مكة للحج كبقية المسلمين لكنهم يقولون: إن الكعبة هي رمز على الإمام.
كان شعار الحشاشين (لا حقيقة في الوجود وكل أمر مباح) ووسيلتهم الاغتيال المنظم والامتناع بسلسلة من القلاع الحصينة.
يقول أبو حامد الغزالي عنهم: (المنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها، وإنكار الشرائع، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم).
يعتقدون أن الله لم يخلق العالم خلقًا مباشرًا بل كان ذلك عن طريق العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجاب، وقد حل العقل الكلي في إنسان هو النبي وفي الأئمة المستورين الذين يخلفونه فمحمد هو الناطق وعلي هو الأساس الذي يفسر.
الجذور الفكرية والعقائدية:
لقد نشأ مذهبهم في العراق، ثم فروا إلى فارس وخراسان وما وراء النهر كالهند والتركستان فخالط مذهبهم آراء من عقائد الفرس القديمة والأفكار الهندية، وقام فيهم ذوو أهواء في انحرافهم بما انتحلوا من نحل.
اتصلوا ببراهمة الهند والفلاسفة الإشراقيين والبوذيين وبقايا ما كان عند الكلدانيين والفرس من عقائد وأفكار حول الروحانيات والكواكب والنجوم واختلفوا في مقدار الأخذ من هذه الخرافات وقد ساعدتهم سريتهم على مزيد من الانحراف.
بعضهم اعتنق مذهب مزدك وزرادشت في الإباحية والشيوعية (القرامطة مثلًا).
ليست عقائدهم مستمدة من الكتاب والسنة فقد داخلتهم فلسفات وعقائد كثيرة أثرت فيهم وجعلتهم خارجين عن الإسلام.
الانتشار ومواقع النفوذ:
لقد اختلفت الأرض التي سيطر عليها الإسماعيليون مدًّا وجزرًا بحسب تقلبات الظروف والأحوال خلال فترة طويلة من الزمن، وقد غطى نفوذهم العالم الإسلامي ولكن بتشكيلات متنوعة تختلف باختلاف الأزمان والأوقات:
ـ فالقرامطة سيطروا على الجزيرة وبلاد الشام والعراق وما وراء النهر.
ـ والعبيديون أسسوا دولة امتدت من المحيط الأطلسي وشمالي أفريقيا، وامتلكوا مصر والشام، وقد اعتنق مذهبهم أهل العراق وخُطب لهم على منابر بغداد سنة 540ه ولكن دولتهم زالت على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ـ والآغاخانية يسكنون نيروبي ودار السلام وزنجبار ومدغشقر والكنغو البلجيكي والهند وباكستان وسوريا ومركز القيادة لهم في مدينة كراتشي بباكستان.
ـ والبهرة استوطنوا اليمن والهند والسواحل القريبة المجاورة لهذين البلدين.
ـ وإسماعيلية الشام: امتلكوا قلاعًا وحصونًا في طول البلاد وعرضها وما تزال لهم بقايا في مناطق سلمية والخوابي والقدموس ومصياف وبانياس والكهف.
ـ والحشاشون: انتشروا في إيران واستولوا على قلعة آلموت جنوب بحر قزوين واتسع سلطانهم واستقلوا بإقليم كبير وسط الدولة العباسية السُنية، كما امتلكوا القلاع والحصون ووصلوا بانياس وحلب والموصل، وولي أحدهم قضاء دمشق أيام الصليبين وقد اندحروا أمام هولاكو المغولي.
ـ المكارمة: وقد استقروا في نجران.
ويتضح مما سبق:
أن الإسماعيلية في بدايتها كانت إحدى الفرق الشيعية ولكنها غلت في أئمتها أشد من غلو الرافضة، وتأثرت بمؤثرات كثيرة حتى وصل الأمر إلى أن اعتبرتها معظم الفرق الإسلامية كافرة وخارجة من الإسلام، لما أسبغوه على إمامهم من صفات تصل به إلى ما يشبه مقام الألوهية، ولقولهم بالتناسخ وإنكارهم صفات الله سبحانه وتعالى، ولعدم استمدادهم عقيدتهم من خالص الكتاب والسُّنة.
مراجع للتوسع:
ـ تاريخ المذاهب الإسلامية ـ الجزء الأول، محمد أبو زهرة.
ـ إسلام بلا مذاهب ـ د. مصطفى الشكعة.
ـ طائفة الإسماعيلية، تاريخها، نظمها، عقائدها ـ د. محمد كامل حسين ـ مكتبة النهضة المصرية 1959م.
ـ دائرة المعارف الإسلامية ـ مادة الإسماعيلية.
ـ الملل والنحل، محمد عبد الكريم الشهرستاني ـ الطبعة الثانية ـ دار المعرفة.
ـ المؤامرة على الإسلام ـ أنور الجندي.
ـ تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة ـ محمد عبد الله عنان.
ـ أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية ـ لبرنارد لويس.
ـ كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ـ محمد بن مالك اليماني الحمادي.
ـ فضائح الباطنية ـ لأبي حامد الغزالي.
ـ الإسماعيلية ـ إحسان إلهي ظهير.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
10-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الجزويت-النصرانية وما تفرع عنها من مذاهب)
الجزويتالتعريف:
الجزويت فرقة كاثوليكية يسوعية تنتشر في أوروبا بصفة عامة، وفي البرتغال وأسبانيا وفرنسا بصفة خاصة، وهي جمعية دينية متعصبة تهدف حاليًا إلى القضاء على الدين الإسلامي.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
أنشأها قسيس فرنسي يدعى أنياس لايولا في القرون الوسطى، وقد ساهمت في القضاء على المسلمين في الأندلس من خلال محاكم التفتيش، ويقوم عليها الآن مجموعة كبيرة من القسس والرهبان.
الأفكار والمعتقدات:
يلتزم الرهبان الذين ينتمون إليها بالمحافظة على أسرارها وعدم إفشائها ولو لأعضائها.
يلتزم أعضائها كذلك بالمحافظة على سرية تعليماتها والحيلولة دون وصولها إلى أيدي الأجانب بشكل عام والأعداء بشكل خاص.
بعد طرد هذه الجمعية من كثير من الدول الأوروبية، بدأت تستقطب عطف الساسة والمسئولين من خلال إظهار العداء للدين الإسلامي والتغلغل في الدول الإسلامية لبث الأفكار الهدامة بين المسلمين من خلال المدارس وتحت غطاء دور الخير والبر.
تتستر هذه الجمعية خلف أعمال البر كإنشاء المدارس والمستشفيات في شتى بقاع العالم، وتظهر العطف على المرضى، وتلزم أعضاءها باصطناع التواضع لاستقطاب الناس إليها وإلى الدين النصراني.
تقبل التبرعات وتتفنن في أساليب جمع الأموال، ولكي تنفي عن نفسها مظنة الاكتناز، فإنها تتبرع ببعض الأموال في نفس المكان للإيهام بأن هدفها هو خدمة الفقراء.
يلتزم أعضاء الجمعية بالمحافظة على هيبتها، فلا يختلفون أمام الغير، بل يظهرون تماسكهم ورغبتهم في خدمة الآخرين.
عندما يذهب أعضاء الجمعية إلى إحدى المدن لأول مرة، فإنهم يجتنبون المبادرة إلى شراء الأرض، مدة معينة، حتى إذا ما ثبت أن شراء الأرض يعتبر ضروريًا، قاموا بالشراء، وغالبًا ما يتم شراء الأرض باسم مستعار حتى لا تهتز ثقة الناس في الجمعية.
تعتبر واردات الجمعية سرًا مقدسًا، فلا يطلع عليها إلا رئيس الرهبان، وتعتبر خزانة الجمعية في روما، بكافة محتوياتها، سرًا مقدسًا كذلك، فلا يجوز إفشاؤه.
الهدف الأساسي لهذه الجمعية الآن هو القضاء على أتباع الديانات الأخرى، لاسيما الدين الإسلامي، لذلك فإن أعضاءها لا يستنكفون عن استخدام كافة أساليب الاستمالة ووسائل جذب الناس من أجل تنصيرهم.
ولتحقيق هذا الهدف، فإن هذه الجمعية تعمل على كسب ثقة رجال الدولة، وإرضائهم، والإشادة بهم، وغض الطرف عن ممارساتهم غير السوية وأعمالهم غير المستقيمة، وإفهامهم عند الاقتضاء أن الرب قد غفر لهم.
كما تعمل هذه الجمعية على كسب ثقة حكام البلدان التي يمارسون التبشير فيها، فيرسلون إليهم مندوبين على درجة عالية من الذكاء والدهاء والثقافة، ويحرص هؤلاء المندوبون على إيهام أولئك الحكام، أنهم موفدون من قبل بابا روما، وأنهم يحملون إليهم تحياته.
يتجنب أعضاء الجمعية التكلف في اللباس ولا يقبلون الهدايا لأنفسهم، بل يحيلونها إلى دير الجمعية القريب من مكان وجودهم حتى يدخلوا في روع الناس أنهم مخلصون فيزداد العطف على الجمعية.
يحاول أعضاء الجمعية بكافة الطرق الحيلولة دون إنشاء أو تأسيس أية مدارس بالقرب من مدارس الجمعية، التي تهتم بالرياضة البدنية، وتتفانى في القيام بالعملية التربوية خير قيام، مع معاملة الدارسين معاملة حسنة، حتى يثقوا في هيئة التدريس وما تبثه من أفكار تبشيرية.
تعمل الجمعية بكافة الطرق الممكنة على كسب ود النساء الأرامل، وإذا كان لإحداهن راهب من غير الجمعية فإنه يتم إبعاده ويستبدل به راهب من الجمعية لإدارة أعمالها بالتدريج.
ولكي تتم السيطرة التامة على الأرامل: فإن الجمعية ترغبهن في التصدق على الفقراء باسم المسيح ومريم، ويستمر هذا الوضع حتى تنفد جميع أموالهن، وفي سبيل ذلك فإن هذه الجمعية لا تستنكف عن مساعدة هؤلاء الأرامل في إشباع رغباتهن وقضاء وطرهن عند الاقتضاء.
وإذا كان للأرامل بنات فإنه يتم إقناعهن بالرهبنة أو التربية النصرانية، أما البنون فإنه يتم حثهم على أن يغشوا الأديرة والكنائس، مع إغراقهم في الملذات، والتلميح لهم بأنه لا إثم في العلاقات الجنسية الحرة، كما تيسر لهم سبل الانخراط في معسكرات صيفية يتم فيها إقناعهم بأهمية التربية النصرانية.
يكرر أعضاء الجمعية زياراتهم للمرضى الميئوس من حالتهم، ويتم تخويفهم من النار وحثهم على التصدق بكل أموالهم للجمعية.
كل من يخرج على المبادئ الهدامة لهذه الجمعية، يطرد ويتم اجتنابه ويحرم من كافة الامتيازات التي يتمتع بها الأعضاء، ويتم الطرد بوجه خاص، عند تشويه سمعة الجمعية أو إفشاء أسرارها، أو الإضرار بأعضائها، أو الكسل وعدم القيام بالمهام المنوطة به.
تحاول الجمعية الحصول على الأسرار السياسية والأخبار الموثوقة والخطيرة، وإخبار الحكام بها للفوز بمكانة مرموقة لديهم، تساعدهم على اجتذاب أصحاب الثروات والنفوذ والأسر الكبيرة للجمعية.
تحافظ الجمعية على هيبتها في نفوس الآخرين، من خلال إفهامهم أنها تأسست على يد الراهب شوواكيم بإلهام إلهي، للحد من انحراف الكنيسة وإعادتها إلى وضعها الطبيعي ونشر دين عيسى في جميع أنحاء العالم، وبذا تبرر مسلكها القديم الذي كانت تبيع فيه صكوك الغفران، وترسم معالم طريقها الجديد الذي تقضي فيه على الإسلام والمسلمين.
ويتضح مما سبق:
أن الجزويت فرقة كاثوليكية يسوعية، تتستر خلف أعمال البر كإنشاء المدارس والمستشفيات وغيرهما لتستقطب الناس للنصرانية، لاسيما المسلمين منهم، وتحاول هذه الفرقة الغوص في أعماق الأسرار السياسية ومد بعض الحكام بها للفوز بمكانة مرموقة لديهم، تمنحهم نفوذًا كبيرًا لمباشرة عمليات التبشير، وهو تبشير يعتمد على هدم القيم الدينية ونشر الرذائل والقول بطبيعية العلاقات الجنسية الحرة وإشاعة الأفكار الهدامة بين المسلمين، ومن ثم جعلهم لبنة هشة تقبل التشكيل الذي يلائم أهداف هذه الفرقة.
أماكن الانتشار:
تتخذ هذه الفرقة من أوروبا ككل مركز انطلاق لها، وهي تتركز في البرتغال وأسبانيا حيث الرغبة في القضاء على كل أثر للإسلام هناك وفي فرنسا حيث نشأت مقولة الحرية المطلقة في مجال العقيدة وإيطاليا حيث بابا الفاتيكان، ومن هذه المرتكزات تمد هذه الفرقة أذرعتها صوب التجمعات الإسلامية في دول حوض البحر الأبيض المتوسط وجنوب شرق آسيا وبخاصة في اندونيسيا.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
11-معجم البلدان (إخنا)
إِخْنَا:بالكسر، ثم السكون، والنون، مقصور، وبعض يقول: إخنو، ووجدته في غير نسخة من كتاب فتوح مصر، بالجيم، وأحفيت في السؤال عنه بمصر، فلم أجد من يعرفه إلا بالخاء. وقال القضاعي وهو يعدد كور الحوف الغربي: وكورتا إخنا ورشيد، والبحيرة، وجميع ذلك قرب الاسكندرية.
وأخبار الفتوح تدلّ على أنها مدينة قديمة ذات عمل منفرد، وملك مستبدّ، وكان صاحبها يقال له في أيام الفتوح طلما، وكان عنده كتاب من عمرو ابن العاص بالصلح على بلده ومصر جميعها، فيما رواه بعضهم. وروى الآخرون عن هشام بن أبي رقيّة اللخمي: أن صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص فقال له: أخبرنا بما على أحدنا من الجزية فنصبر لها. فقال عمرو، وهو مشير إلى ركن كنيسة:
لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك بما عليك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثّر علينا كثّرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم. وهذا يدل على أن مصر فتحت عنوة لا بصلح معين على شيء معلوم، قال: فغضب صاحب إخنا وخرج إلى الروم فقدم بهم فهزمهم الله وأسر صاحب إخنا، فأتي به عمرو بن العاص، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل أطلقه لينطلق فيجيئنا بجيش آخر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
12-معجم البلدان (أربك)
أَرْبُكُ:بالفتح ثم السكون، وباء موحدة، تضم وتفتح، وآخره كاف، وهو الذي قبله بعينه، يقال بالكاف والقاف من نواحي الأهواز: بلد وناحية ذات قرى ومزارع، وعنده قنطرة مشهورة، لها ذكر في كتب السير، وأخبار الخوارج وغيرهم. فتحها المسلمون عام سبعة عشر في خلافة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، قبل نهاوند، وكان أمير جيش المسلمين النعمان بن مقرّن المزني، وقد قال في ذلك:
«عوت فارس، واليوم حام أواره *** بمحتفل بين الدكاك وأربك»
«فلا غرو إلّا حين ولّوا وأدركت *** جموعهم خيل الرئيس ابن أرمك»
«وأفلتهن الهرمزان موابلا، *** به ندب من ظاهر اللون أعتك»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
13-معجم البلدان (البصرة)
البَصْرَةُ:وهما بصرتان: العظمى بالعراق وأخرى بالمغرب، وأنا أبدأ أولا بالعظمى التي بالعراق، وأما البصرتان: فالكوفة والبصرة، قال المنجمون:
البصرة طولها أربع وسبعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الثالث، قال ابن الأنباري: البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال قطرب: البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدوابّ، قال:
ويقال بصرة للأرض الغليظة، وقال غيره: البصرة حجارة رخوة فيها بياض، وقال ابن الأعرابي:
البصرة حجارة صلاب، قال: وإنما سميت بصرة لغلظها وشدّتها، كما تقول: ثوب ذو بصر وسقاء ذو بصر إذا كان شديدا جيّدا، قال: ورأيت في تلك الحجارة في أعلى المربد بيضا صلابا، وذكر الشرقي بن القطامي أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة أن البصرة الطين العلك، وقيل: الأرض الطيبة الحمراء، وذكر أحمد بن محمد الهمداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حسنة أنه قال: إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة، وهي البصرة، وأنشد لخفاف بن ندبة:
«إن تك جلمود بصر لا أؤبّسه *** أوقد عليه فأحميه فينصدع»
وقال الطّرمّاح بن حكيم:
«مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى، *** من النّيق فوق البصرة، المتطحطح»
وهذان البيتان يدلان على الصلابة لا الرخاوة، وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني: سمعت موبذ بن اسوهشت يقول: البصرة تعريب بس راه، لأنها كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة، وقال قوم: البصر والبصر الكذّان، وهي الحجارة التي ليست بصلبة، سمّيت بها البصرة، كانت ببقعتها عند اختطاطها، واحده بصرة وبصرة، وقال الأزهري: البصر الحجارة إلى البياض، بالكسر، فإذا جاءوا بالهاء قالوا: بصرة، وأنشد بيت خفاف:
«إن كنت جلمود بصر»، وأما النسب إليها فقال بعض أهل اللغة: إنما قيل في النسب إليها بصريّ، بكسر الباء لإسقاط الهاء، فوجوب كسر الباء في البصري مما غيّر في النسب، كما قيل في النسب إلى اليمن يمان وإلى تهامة تهام وإلى الرّيّ رازيّ وما أشبه ذلك من المغيّر، وأما فتحها وتمصيرها فقد روى أهل الأثر عن نافع بن الحارث بن كلدة الثّقفي وغيره أن عمر بن الخطاب أراد أن يتخذ للمسلمين مصرا، وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين توّج ونوبندجان وطاسان، فلما فتحوها كتبوا إليه:
إنا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به. فكتب إليهم:
إن بيني وبينكم دجلة، لا حاجة في شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. ثم قدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت، فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه مسالح للعجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة، بينه وبين دجلة أربعة فراسخ، له خليج بحريّ فيه الماء إلى أجمة قصب، فأعجب ذلك عمر، وكانت قد جاءته أخبار الفتوح من ناحية الحيرة، وكان سويد ابن قطبة الذّهلي، وبعضهم يقول قطبة بن قتادة، يغير في ناحية الخريبة من البصرة على العجم، كما كان
المثنّى بن حارثة يغير بناحية الحيرة، فلما قدم خالد ابن الوليد البصرة من اليمامة والبحرين مجتازا إلى الكوفة بالحيرة، سنة اثنتي عشرة، أعانه على حرب من هنالك وخلّف سويدا، ويقال: إن خالدا لم يرحل من البصرة حتى فتح الخريبة، وكانت مسلحة للأعاجم، وقتل وسبى، و
فأتاها عتبة وانضمّ إليه سويد بن قطبة فيمن معه من بكر بن وائل وتميم.
قال نافع بن الحارث: فلما أبصرتنا الديادبة خرجوا هرّابا وجئنا القصر فنزلناه، فقال عتبة: ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال: فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرزّ بقشره، فجذبناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما، فقال عتبة: هذا سمّ أعدّه لكم العدوّ، يعني الأرز، فلا تقربنّه، فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه، فإننا لكذلك إذا بفرس قد قطع قياده وأتى ذلك الأرز يأكل منه، فلقد رأينا أن نسعى بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت، فقال صاحبه: أمسكوا عنه، أحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه، فقالت أختي: يا أخي إني سمعت أبي يقول: إن السمّ لا يضرّ إذا نضج، فأخذت من الأرز توقد تحته ثم نادت: الا انه يتفصّى من حبيبة حمراء، ثم قالت: قد جعلت تكون بيضاء، فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة، فقال عتبة: اذكروا اسم الله عليه وكلوه، فأكلوا منه فإذا هو طيب، قال: فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه، فلقد رأيتني بعد ذلك وأنا أعدّه لولدي، ثم قال: إنا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهنّ أختي. وأمدّ عمر عتبة بهرثمة بن عرفجة، وكان بالبحرين فشهد بعض هذه الحروب ثم سار إلى الموصل، قال: وبنى المسلمون بالبصرة سبع دساكر: اثنتان بالخريبة واثنتان بالزابوقة وثلاث في موضع دار الأزد اليوم، وفي غير هذه الرواية أنهم بنوها بلبن: في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، ففرّق أصحابه فيها ونزل هو الخريبة. قال نافع: ولما بلغنا ستمائة قلنا: ألا نسير إلى الأبلّة فإنها مدينة حصينة، فسرنا إليها ومعنا العنز، وهي جمع عنزة وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي رأسها زجّ، وسيوفنا، وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهن أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنا قد دنونا من المدينة، فلما دنونا منها صففنا أصحابنا، قال:
وفيها ديادبتهم وقد أعدّوا السّفن في دجلة، فخرجوا إلينا في الحديد مسوّمين لا نرى منهم إلا الحدق، قال: فو الله ما خرج أحدهم حتى رجع بعضهم إلى
بعض قتلا، وكان الأكثر قد قتل بعضهم بعضا، ونزلوا السّفن وعبروا إلى الجانب الآخر وانتهى إلينا النساء، وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم: ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا: عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه، ير
ما نرى سمنا، وقال عوانة بن الحكم: كانت مع عتبة بن غزوان لما قدم البصرة زوجته أزدة بنت الحارث بن كلدة ونافع وأبو بكرة وزياد، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرّض المؤمنين على القتال، وهي تقول: إن يهزموكم يولجوا فينا الغلف، ففتح الله على المسلمين تلك المدينة وأصابوا غنائم كثيرة ولم يكن فيهم أحد يحسب ويكتب إلا زياد فولّاه قسم ذلك الغنم وجعل له في كل يوم درهمين، وهو غلام في رأسه ذؤابة، ثم إن عتبة كتب إلى عمر يستأذنه في تمصير البصرة وقال:
إنه لا بدّ للمسلمين من منزل إذا أشتى شتوا فيه وإذا رجعوا من غزوهم لجأوا إليه، فكتب إليه عمر أن ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته، فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. والقضّة من المضاعف: الحجارة المجتمعة المتشقّقة، وقيل: ارض قضّة ذات حصّى، وأما القضة، بالكسر والتخفيف: ففي كتاب العين أنها أرض منخفضة ترابها رمل، وقال الأزهري:
الأرض التي ترابها رمل يقال لها قضّة، بكسر القاف وتشديد الضاد، وأما القضة، بالتخفيف:، فهو شجر من شجر الحمض، ويجمع على قضين، وليس من المضاعف، وقد يجمع على القضى مثل البرى، وقال أبو نصر الجوهري: القضّة، بكسر القاف والتشديد، الحصى الصغار، والقضة أيضا أرض ذات حصّى، قال: ولما وصلت الرسالة إلى عمر قال: هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب، فكتب إليه أن أنزلها، فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم، وكانت تسمّى الدهناء، وفيها السّجن والديوان وحمّام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان. وقال الأصمعي: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود ولد بالبصرة، فنحر أبوه جزورا أشبع منها أهل البصرة، وكان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة قبل الكوفة بستّة أشهر، وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال: هذه أرض نخل، ثم غرس الناس بعده، وقال أبو المنذر:
أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني، وقد روي من غير هذا الوجه أنّ الله عزّ وجل، لما أظفر سعد بن أبي وقّاص بأرض الحيرة وما قاربها كتب إليه عمر بن الخطاب أن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا وقد شهد بدرا، وكانت الأبلّة يومئذ تسمّى أرض الهند، فلينزلها ويجعلها قيروانا للمسلمين ولا يجعل بيني وبينهم بحرا، فخرج عتبة من الحيرة في ثمانمائة رجل حتى نزل موضع البصرة، فلما افتتح الأبلّة ضرب قيروانه وضرب للمسلمين أخبيتهم، وكانت خيمة عتبة من أكسية، ورماه عمر بالرجال
فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن، منها في الخريبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، وكان سعد بن أبي وقاص يكاتب عتبة بأمره ونهيه، فأنف عتبة من ذلك واستأذن عمر في الشخوص إليه، فأذن له، فاستخلف مجاشع بن مسعود السّلمي على جنده، وك
فلقد جرّبناهم فوجدنا له الفضل عليهم، قال: وشكا عتبة إلى عمر تسلّط سعد عليه، فقال له: وما عليك إذا أقررت بالإمارة لرجل من قريش له صحبة وشرف؟ فامتنع من الرجوع فأبى عمر إلّا ردّه، فسقط عن راحلته في الطريق فمات، وذلك في سنة ست عشرة، قال: ولما سار عتبة عن البصرة بلغ المغيرة أنّ دهقان ميسان كفر ورجع عن الإسلام وأقبل نحو البصرة، وكان عتبة قد غزاها وفتحها، فسار إليه المغيرة فلقيه بالمنعرج فهزمه وقتله، وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح منه، فدعا عمر عتبة وقال له: ألم تعلمني أنك استخلفت مجاشعا؟ قال.
نعم، قال: فإنّ المغيرة كتب إليّ بكذا، فقال:
إن مجاشعا كان غائبا فأمرت المغيرة بالصلاة إلى أن يرجع مجاشع، فقال عمر: لعمري إن أهل المدر لأولى أن يستعملوا من أهل الوبر، يعني بأهل المدر المغيرة لأنه من أهل الطائف، وهي مدينة، وبأهل الوبر مجاشعا لأنه من أهل البادية، وأقرّ المغيرة على البصرة، فلما كان مع أمّ جميلة وشهد القوم عليه بالزنا كما ذكرناه في كتاب المبدأ والمآل من جمعنا، استعمل عمر على البصرة أبا موسى الأشعري، أرسله إليها وأمره بإنفاذ المغيرة إليه، وقيل: كان أبو موسى بالبصرة فكاتبه عمر بولايتها، وذلك في سنة ست عشرة وقيل في سنة سبع عشرة، وولي أبو موسى والجامع بحاله وحيطانه قصب فبناه أبو موسى باللبن، وكذلك دار الإمارة، وكان المنبر في وسطه، وكان الإمام إذا جاء للصلاة بالناس تخطّى رقابهم إلى القبلة، فخرج عبد الله بن عامر بن كريز، وهو أمير لعثمان على البصرة، ذات يوم من دار الإمارة يريد القبلة وعليه جبّة خزّ دكناء، فجعل الأعراب يقولون: على الأمير جلد دبّ، فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة قال زياد: لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس، فحوّل دار الإمارة من الدهناء إلى قبل المسجد وحوّل المنبر إلى صدره، فكان الإمام يخرج من الدار من الباب الذي في حائط القبلة إلى القبلة ولا يتخطى أحدا، وزاد في حائط المسجد زيادات كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص وسقفه بالساج، فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه البصرة فلم يعب فيه إلّا دقة الأساطين، قال: ولم يؤت منها قط صدع ولا ميل ولا عيب، وفيه يقول حارثة ابن بدر الغداني:
«بنى زياد، لذكر الله، مصنعه *** بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين»
«لولا تعاون أيدي الرافعين له، *** إذا ظنناه أعمال الشياطين»
وجاء بسواريه من الأهواز، وكان قد ولى بناءه الحجاج بن عتيك الثّقفي فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل، ففيه قيل:
«يا حبّذا الإماره *** ولو على الحجاره»
وقيل: إن أرض المسجد كانت تربة فكانوا إذا فرغوا من الصلاة نفضوا أيديهم من التراب، فلما رأى زياد ذلك قال: لا آمن أن يظنّ الناس على طول الأيام أن نفض اليد في الصلاة سنّة، فأمر بجمع الحصى وإلقائه في المسجد الجامع، ووظّف ذلك على الناس، فاشتد الموكّلون بذلك
«يا حبذا الإماره *** ولو على الحجاره»
فذهبت مثلا، وكان جانب الجامع الشمالي منزويا لأنه كان دارا لنافع بن الحارث أخي زياد فأبى أن يبيعها، فلم يزل على تلك الحال حتى ولّى معاوية عبيد الله بن زياد على البصرة، فقال عبيد الله بن زياد:
إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة فاعلمني.
فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضجّ، فقال له: إني أثمن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك، فرضي فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد فدخلت الدار كلّها في المسجد، ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد، وقد أمر بذلك الرشيد، ولما قدم الحجّاج خبّر أن زيادا بنى دار الإمارة فأراد أن يذهب ذكر زياد منها فقال: أريد أن أبنيها بالآجرّ، فهدمها، فقيل له: إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد منها، فما حاجتك أن تعظم النفقة وليس يزول ذكره عنها، فتركها مهدومة، فلم يكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين، فقال له صالح إنه ليس بالبصرة دار إمارة وخبّره خبر الحجاج، فقال له سليمان: أعدها، فأعادها بالجصّ والآجرّ على أساسها الذي كان ورفع سمكها، فلما أعاد أبوابها عليها قصرت، فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة، فبنى فوقها غرفا فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه:
هبلتك أمك يا ابن عمّ عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابنه؟ فأمسك عدي عن بنائها، فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفّاح أنشأ فوق البناء الذي كان لعديّ بناء بالطين ثمّ تحوّل إلى المربد، فلما ولي الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة مسجد الجامع فلم يبق للأمراء بالبصرة دار إمارة، وقال يزيد الرّشك: قست البصرة في ولاية خالد بن عبد الله القسري فوجدت طولها فرسخين وعرضها فرسخين إلّا دانقا، وعن الوليد بن هشام أخبرني أبي عن أبيه وكان يوسف بن عمر قد ولاه ديوان جند البصرة قال:
نظرت في جماعة مقاتلة العرب بالبصرة أيام زياد فوجدتهم ثمانين ألفا ووجدت عيالاتهم مائة ألف وعشرين ألف عيّل ووجدت مقاتلة الكوفة ستين ألفا وعيالاتهم ثمانين ألفا.
ذكر خطط البصرة وقراها
وقد ذكرت بعض ذلك في أبوابه وذكرت بعضه هاهنا، قال أحمد بن يحيى بن جابر: كان حمران ابن أبان للمسيّب بن نجبة الفزاري أصابه بعين التمر فابتاعه منه عثمان بن عفّان وعلمه الكتابة واتخذه كاتبا، ثم وجد عليه لأنه كان وجّهه للمسألة عما رفع على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فارتشى منه وكذّب ما قيل فيه، ثم تيقّن عثمان صحة ذلك فوجد عليه
وقال: لا تساكنّي أبدا، وخيّره بلدا يسكنه غير المدينة، فاختار البصرة وسأله أن يقطعه بها دارا وذكر ذرعا كثيرا استكثره عثمان وقال لابن عامر:
أعطه دارا مثل بعض دورك، فأقطعه دار حمران التي بالبصرة في سكة بني سمرة بالبصرة، كان صاحبها عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، قال المدايني: قال أبو بكرة لابنه: يا بنيّ والله ما تلي عملا قط وما أراك تقصر عن إخوتك في النفقة، فقال: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: فإني أغتلّ من حمّامي هذا في كلّ يوم ألف درهم وطعاما كثيرا. ثم إنّ مسلما مرض فأوصى إلى أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأخبره بغلة حمّامه، فأفشى ذلك واستأذن السلطان في بناء حمّام، وكانت الحمامات لا تبنى بالبصرة إلّا بإذن الولاة، فأذن له واستأذن غيره فأذن له وكثرت الحمامات، فأفاق مسلم بن أبي بكرة من مرضه وقد فسد عليه حمّامه فجعل يلعن عبد الرحمن ويقول: ما له قطع الله رحمه! وكان لزياد مولى يقال له فيل، وكان حاجبه، فكان يضرب المثل بحمّامه بالبصرة، وقد ذكرته في حمام فيل. نهر عمرو: ينسب إلى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان. نهر ابن عمير: منسوب إلى عبد الله بن عمير بن عمرو بن مالك اللّيثي، كان عبد الله بن عامر بن كريز أقطعه ثمانية آلاف جريب فحفر عليها هذا النهر، ومن اصطلاح أهل البصرة أن يزيدوا في اسم الرجل الذي تنسب إليه القرية ألفا ونونا، نحو قولهم طلحتان:
نهر ينسب إلى طلحة بن أبي رافع مولى طلحة بن عبيد الله. خيرتان: منسوب إلى خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلّب بن أبي صفرة. مهلّبان:
منسوب إلى المهلّب بن أبي صفرة، ويقال بل كان لزوجته خيرة فغلب عليه اسم المهلب، وهي أمّ أبي عيينة ابنه. وجبيران: قرية لجبير بن حيّة.
وخلفان: قطيعة لعبد الله بن خلف الخزاعي والد طلحة الطلحات. طليقان: لولد خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي، وكان خالد ولي قضاء البصرة. روّادان: لروّاد بن ابي بكرة.
شط عثمان: ينسب إلى عثمان بن أبي العاصي الثقفي، وقد ذكرته، فأقطع عثمان أخاه حفصا حفصان وأخاه أميّة أميّان وأخاه الحكم حكمان وأخاه المغيرة مغيرتان. أزرقان: ينسب إلى الأزرق بن مسلم مولى بني حنيفة. محمّدان: منسوب إلى محمد ابن علي بن عثمان الحنفي. زيادان: منسوب إلى زياد مولى بني الهجيم جدّ مونس بن عمران بن جميع بن يسار بن زياد وجد عيسى بن عمر النحوي لأمّهما.
عميران: منسوب إلى عبد الله بن عمير الليثي. نهر مقاتل بن حارثة بن قدامة السعدي. وحصينان:
لحصين بن أبي الحرّ العنبري. عبد الليان: لعبد الله بن أبي بكرة. عبيدان: لعبيد بن كعب النّميري. منقذان: لمنقذ بن علاج السّلمي. عبد الرحمانان: لعبد الرحمن بن زياد. نافعان: لنافع ابن الحارث الثقفي. أسلمان: لأسلم بن زرعة الكلابي. حمرانان: لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان. قتيبتان: لقتيبة بن مسلم. خشخشان:
لآل الخشخاش العنبري. نهر البنات: لبنات زياد، أقطع كلّ بنت ستين جريبا، وكذلك كان يقطع العامة. سعيدان: لآل سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. سليمانان: قطيعة لعبيد بن نشيط صاحب الطرف أيام الحجاج، فرابط به رجل من الزهاد يقال له سليمان بن جابر فنسب إليه. عمران:
لعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. فيلان: لفيل
مولى زياد. خالدان: لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. المسماريّة: قطيعة مسمار مولى زياد بن أبيه، وله بالكوفة ضيعة.
سويدان: كانت لعبيد الله بن أبي بكرة قطيعة مبلغها أربعمائة جريب فوهبها لسويد بن منجوف السّدوسي، وذلك أن سويدا مرض فعاده عبيد الله بن أبي بكرة فقال له: كيف تجدك؟ فقال: صالحا إن شئت، فقال: قد شئت، وما ذلك؟ قال: إن أعطيتني مثل الذي أعطيت ابن معمر فليس عليّ بأس، فأعطاه سويدان فنسب إليه. جبيران: لآل كلثوم بن جبير. نهر أبي برذعة بن عبيد الله بن أبي بكرة.
كثيران: لكثير بن سيّار. بلالان: لبلال بن أبي بردة، كانت قطيعة لعبّاد بن زياد فاشتراه. شبلان:
لشبل بن عميرة بن تيري الضّبيّ.
ذكر ما جاءَ في ذم البصرة
لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة يا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة يا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، أما إني ما أقول ما أقول رغبة ولا رهبة منكم غير أني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة، أقوم أرض الله قبلة، قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس وعالمها أعلم الناس ومتصدقها أعظم الناس صدقة، منها إلى قرية يقال لها الأبلّة أربعة فراسخ يستشهد عند مسجد جامعها وموضع عشورها ثمانون ألف شهيد، الشهيد يومئذ كالشهيد يوم بدر معي، وهذا الخبر بالمدح أشبه، وفي رواية أخرى أنه رقي المنبر فقال:
يا أهل البصرة ويا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، دينكم نفاق وأحلامكم دقاق وماؤكم زعاق، يا أهل البصرة والبصيرة والسّبخة والخريبة أرضكم أبعد أرض الله من السماء وأقربها من الماء وأسرعها خرابا وغرقا، ألا إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أما علمت أن جبريل حمل جميع الأرض على منكبه الأيمن فأتاني بها؟ ألا إني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثها ترابا وأسرعها خرابا، ليأتينّ عليها يوم لا يرى منها إلا شرفات جامعها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر، ثم قال: ويحك يا بصرة ويلك من جيش لا غبار له! فقيل: يا أمير المؤمنين ما الويح وما الويل؟ فقال: الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب، وفي رواية أن عليّا، رضي الله عنه، لما فرغ من وقعة الجمل دخل البصرة فأتى مسجدها الجامع فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، فان الله ذو رحمة واسعة فما ظنكم يا أهل البصرة يا أهل السبخة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثا وعلى الله الرابعة يا جند المرأة، ثم ذكر الذي قبله ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم وأطيعوا الله وسلطانكم، وخرج حتى صار إلى المربد والتفت وقال: الحمد لله الذي أخرجني من شرّ البقاع ترابا وأسرعها خرابا. ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس، أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناءة فلا ينفق في شهر إلّا درهمين، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم، وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له استه يخرأ ويبيع، وقال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد لأنهم يلبسون القمص مرة والمبطّنات مرة لاختلاف جواهر
الساعات، ولذلك سمّيت الرّعناء، قال الفرزدق:
«لولا أبو مالك المرجوّ نائله *** ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا»
وقد وصف هذه الحال ابن لنكك فقال:
«نحن بالبصرة في لو *** ن من العيش ظريف»
«نحن، ما هبّت شمال، *** بين جنّات وريف»
«فإذا هبّت جنوب، *** فكأنّا في كنيف»
وللحشوش بالبصرة أثمان وافرة، ولها فيما زعموا تجار يجمعونها فإذا كثرت جمع عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل إليهم نتنها فإنه كلما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد الناس فيها، وقد قصّ هذه القصة صريع الدّلاء البصري في شعر له ولم يحضرني الآن، وقد ذمّتها الشعراء، فقال محمد بن حازم الباهلي:
«ترى البصريّ ليس به خفاء، *** لمنخره من البثر انتشار»
«ربا بين الحشوش وشبّ فيها، *** فمن ريح الحشوش به اصفرار»
«يعتّق سلحة، كيما يغالي *** به عند المبايعة التجار»
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي:
«لهف نفسي على المقام ببغدا *** د، وشربي من ماء كوز بثلج»
«نحن بالبصرة الذميمة نسقي، *** شرّ سقيا، من مائها الأترنجي»
«أصفر منكر ثقيل غليظ *** خاثر مثل حقنة القولنج»
«كيف نرضى بمائها، وبخير *** منه في كنف أرضنا نستنجي»
وقال أيضا:
«ليس يغنيك في الطهارة بال *** بصرة، إن حانت الصلاة، اجتهاد»
«إن تطهّرت فالمياه سلاح، *** أو تيمّمت فالصعيد سماد»
وقال شاعر آخر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم:
«أبغضت بالبصرة أهل الغنى، *** إني لأمثالهم باغض»
«قد دثّروا في الشمس أعذاقها، *** كأنّ حمّى بخلهم نافض»
ذكر ما جاء في مدح البصرة
كان ابن أبي ليلى يقول: ما رأيت بلدا أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة، وقال شعيب بن صخر:
تذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها، وقال ابن سيرين: كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه إذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب على المغيرة وعزله عن البصرة وولاه الكوفة، وقال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
«يا جنّة فاقت الجنان، فما *** يعدلها قيمة ولا ثمن»
«ألفتها فاتخذتها وطنا، *** إنّ فؤادي لمثلها وطن»
«زوّج حيتانها الضّباب بها، *** فهذه كنّة وذا ختن»
«فانظر وفكّر لما نطقت به، *** إنّ الأديب المفكّر الفطن»
«من سفن كالنّعام مقبلة، *** ومن نعام كأنها سفن»
وقال المدائني: وفد خالد بن صفوان على عبد الملك ابن مروان فوافق عنده وفود جميع الأمصار وقد اتخذ مسلمة مصانع له، فسأل عبد الملك أن يأذن للوفود في الخروج معه إلى تلك المصانع، فأذن لهم، فلما نظر إليها مسلمة أعجب بها فأقبل على وفد أهل مكة فقال: يا أهل مكة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فقالوا: لا الا أن فينا بيت الله المستقبل، ثم أقبل على وفد أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة هل فيكم مثل هذه؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا قبر نبي الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة هل فيكم مثل هذه المصانع؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا تلاوة كتاب الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل البصرة فقال: يا أهل البصرة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فتكلم خالد بن صفوان وقال: أصلح الله الأمير! إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم ولو أن عندك من له ببلادهم خبرة لأجاب عنهم، قال: أفعندك في بلادك غير ما قالوا في بلادهم؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! أصف لك بلادنا؟ فقال: هات، قال: يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشّبوط والشّيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا، بيوتنا الذهب ونهرنا العجب أوله الرّطب وأوسطه العنب وآخره القصب، فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه كالزّيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه كذاك على أغصانه، هذا في زمانه كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل يخرجن أسفاطا عظاما وأقساطا ضخاما، وفي رواية: يخرجن أسفاطا وأقساطا كأنما ملئت رياطا، ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض ثم تتبدّل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر ثم تصير عسلا في شنّة من سحاء ليست بقربة ولا إناء حولها المذابّ ودونها الجراب لا يقربها الذباب مرفوعة عن التراب ثم تصير ذهبا في كيسة الرجال يستعان به على العيال، وأما نهرنا العجب فإنّ الماء يقبل عنقا فيفيض مندفقا فيغسل غثّها ويبدي مبثّها، يأتينا في أوان عطشنا ويذهب في زمان ريّنا فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا فيقبل الماء وله ازدياد وعباب ولا يحجبنا عنه حجاب ولا تغلق دونه الأبواب ولا يتنافس فيه من قلّة ولا يحبس عنّا من علّة، وأما بيوتنا الذهب فإنّ لنا عليهم خرجا في السنين والشهور نأخذه في أوقاته ويسلمه الله تعالى من آفاته وننفقه في مرضاته، فقال له مسلمة: أنّى لكم هذه يا ابن صفوان ولم تغلبوا عليها ولم تسبقوا إليها؟ فقال: ورثناها عن الآباء ونعمّرها للأبناء ويدفع لنا عنها ربّ السماء ومثلنا فيها كما قال معن بن أوس:
«إذا ما بحر خندف جاش يوما *** يغطمط موجه المتعرّضينا»
«فمهما كان من خير، فإنّا *** ورثناها أوائل أوّلينا»
«وإنّا مورثون، كما ورثنا *** عن الآباء إن متنا، بنينا»
وقال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كلّ ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقال أبو حاتم: ومن العجائب، وهو مما أكرم الله به الإسلام، أنّ النخل لا يوجد إلّا في بلاد الإسلام البتة مع أن بلاد الهند والحبش والنوبة بلاد حارة خليقة بوجود النخل فيها، وقال ابن أبي عيينة يتشوّق البصرة:
«فإن أشك من ليلي بجرجان طوله، *** فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر»
«فيا نفس قد بدّلت بؤسا بنعمة، *** ويا عين قد بدّلت من قرّة عبر»
«ويا حبذاك السائلي فيم فكرتي *** وهمّي، ألا في البصرة الهمّ والفكر»
«فيا حبّذا ظهر الحزيز وبطنه، *** ويا حسن واديه، إذا ماؤه زخر»
«ويا حبذا نهر الأبلّة منظرا، *** إذا مدّ في إبّانه الماء أو جزر»
«ويا حسن تلك الجاريات، إذا غدت *** مع الماء تجري مصعدات وتنحدر»
«فيا ندمي إذ ليس تغني ندامتي! *** ويا حذري إذ ليس ينفعني الحذر! »
«وقائلة: ماذا نبا بك عنهم؟ *** فقلت لها: لا علم لي، فاسألي القدر»
وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أنّ عدد المدّ والجزر في جميع الدهر شيء واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتدّ عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلّا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبّها ظمأ ولا عطشا، يجيء على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلّات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة، قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلّا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدّا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرّتين، فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بيّنا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمدّ كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمدّ في كل يوم أكثر من مدّه في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مدّه في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار، قال الجاحظ: والأعجوبة الثانية ادّعاء أهل أنطاكية وأهل حمص وجميع بلاد الفراعنة
الطلسمات، وهي بدون ما لأهل البصرة، وذاك أن لو التمست في جميع بيادرها وربطها المعوّذة وغيرها على نخلها في جميع معاصر دبسها أن تصيب ذبابة واحدة لما وجدتها إلا في الفرط، ولو أن معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسنّاة لما استبقيتها من كثرة الذّبّان، والأعجوبة الثالثة أن الغربان القواطع في الخريف يجيء منها ما يسوّد جميع نخل البصرة وأشجارها حتى لا يرى غصن واحد إلا وقد تأطّر بكثرة ما عليه منها ولا كربة غليظة إلا وقد كادت أن تندقّ لكثرة ما ركبها منها، ثم لم يوجد في جميع الدهر غراب واحد ساقط إلا على نخلة مصرومة ولم يبق منها عذق واحد، ومناقير الغربان معاول وتمر الأعذاق في ذلك الإبّان غير متماسكة، فلو خلاها الله تعالى ولم يمسكها بلطفه لاكتفى كل عذق منها بنقرة واحدة حتى لم يبق عليها إلا اليسير، ثم هي في ذلك تنتظر أن تصرم فإذا أتى الصرام على آخرها عذقا رأيتها سوداء ثم تخللت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلا استخرجتها، فسبحان من قدّر لهم ذلك وأراهم هذه الأعجوبة، وبين البصرة والمدينة نحو عشرين مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة قرب معدن النّقرة، وأخبار البصرة كثيرة والمنسوبون إليها من أهل العلم لا يحصون، وقد صنف عمر بن شبّة وأبو يحيى زكرياء الساجي وغيرهما في فضائلها كتابا في مجلدات، والذي ذكرناه كاف.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
14-معجم البلدان (توماثا)
تُومَاثا:بالضم ثم السكون، وثاء مثلثة: قرية قرب برقعيد من بقعاء الموصل قال أبو سعد: ينسب إليها صاحبنا ورفيقنا أبو العباس الخضر بن ثروان بن أحمد أبي عبد الله التغلبي التّومائي، ويقال له الفارقي والجزري، لأنه ولد بالجزيرة ونشأ بميّافارقين، وأصله من توماثا، مقرئ فاضل، أديب بارع، حسن الشعر، كثير المحفوظ، عالم بالنحو، ضرير
البصر، قرأ اللغة على ابن الجواليقي والنحو على أبي السعادات بن الشجري والفقه على أبي الحسن الأبنوسي، وكان ببغداد يسكن المسجد المعلق المقابل لباب النوبي من دار الخلافة، وكان يحفظ شعر الهذليين والمجهلين وأخبار الأصمعي وشعر رؤبة وشعر ذي الرّمة وغيرهم، لقيت
«وذي سكر نبّهت للشرب، بعد ما *** جرى النوم في أعطافه وعظامه»
«فهبّ وفي أجفانه سنة الكرى، *** وقد لبست عيناه نوم مرامه»
ومن شعره أيضا:
«كتبت وقد أودى بمقلتي البكا، *** وقد ذاب من شوق إليكم سوادها»
«وما وردت لي نحوكم من رسالة، *** وحقكم إلّا وذاك سوادها»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
15-معجم البلدان (جرجرايا)
جَرْجَرَايا:بفتح الجيم، وسكون الراء الأولى:
بلد من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي، كانت مدينة وخربت مع ما خرب من النهروانات وقد خرج منها جماعة من العلماء والشعراء والكتّاب والوزراء، ولها ذكر في الشعر كثير قال ابزون العمّاني:
«ألا يا حبّذا يوما جررنا *** ذيول اللهو فيه بجرجرايا»
وممن ينسب إليها محمد بن الفضل الجرجراي وزير المتوكل على الله بعد ابن الزيّات، ثم وزر للمستعين بالله، ثم مات سنة 251، وكان من أهل الفضل والأدب والشعر ومنها أيضا جعفر بن محمد بن الصباح بن سفيان الجرجراي مولى عمر بن عبد العزيز، نزل بغداد وروى عن الدّراوردي وهشيم، روى عنه عبد الله بن قحطبة الصلحي وغيره وعصابة الجرجراي واسمه إبراهيم بن باذام، له حكايات وأخبار وديوان شعر، روى عنه عون بن محمد الكندي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
16-معجم البلدان (حسمى)
حِسْمَى:بالكسر ثم السكون، مقصور، يجوز أن يكون أصله من الحسم وهو المنع: وهو أرض ببادية الشام، بينها وبين وادي القرى ليلتان، وأهل تبوك يرون جبل حسمى في غربيّهم وفي شرقيهم شرورى، وبين وادي القرى والمدينة ست ليال، قال الراجز:
«جاوزن رمل أيلة الدّهّاسا، *** وبطن حسمى بلدا هرماسا»
أي واسعا، وأيلة قريبة من وادي القرى، وحسمى أرض غليظة وماؤها كذلك لا خير فيها، تنزلها
جذام، وقال ابن السكيت: حسمى لجذام جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة وبين أرض بني عذرة من ظهر حرّة نهيا، فذلك كلّه حسمى، قال كثيّر:
«سيأتي أمير المؤمنين، ودونه *** جماهير حسمى: قورها وحزونها»
«تجاوب أصدائي بكلّ قصيدة، *** من الشعر، مهداة لمن لا يهينها»
ويقال: آخر ماء نضب من ماء الطوفان حسمى فبقيت منه هذه البقية إلى اليوم، فلذلك هو أخبث ماء، وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق قال: حسمى أرض طيبة تؤدّى لين النخلة من لينها وتنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء متناوحة ملس الجوانب، إذا أراد الناظر النظر إلى قلة أحدها فتل عنقه حتى يراها بشدّة، ومنها ما لا يقدر أحد أن يراه ولا يصعده، ولا يكاد القتام يفارقها، ولهذا قال النابغة:
«فأصبح عاقلا بجبال حسمى *** دقاق التّرب محتزم القتام»
واختلف الناس في تفسيره ولم يعلموه، ويكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها من رآها من حيث يراها لأنها لا مثل لها في الدنيا، ومن جبال حسمى جبل يعرف بإرم، عظيم العلوّ تزعم أهل البادية أن فيه كروما وصنوبرا، وفي حديث أبي هريرة: تخرجكم الروم منها كفرا كفرا إلى سنبك من الأرض، قيل له: وما ذلك السنبك؟ قال:
حسمى جذام، وقرأت في بعض الكتب أن بعض العرب قال: إن الله اجتبى ماء إرم والبديعة ونعمان وعللان بعباده المؤمنين، وهذه المياه كلّها بحسمى، في كتب السير وأخبار نوح أن حسمى جبل مشرف على حرّان قرب الجودي وأن نوحا نزل منه فبنى حرّان، وهذا بعيد من جهتين: إحداهما أن الجودي بعيد من حرّان بينهما أكثر من عشرة أيام، والثانية أنه لا يعرف بالجزيرة جبل اسمه حسمى.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
17-معجم البلدان (سمنطار)
سَمَنْطار:قيل: هي قرية في جزيرة صقلية، وقيل سمنطاري الذهبي بلسان أهل المغرب، قرأت بخط الحافظ محب الدين بن النجار ما نقله عن أبي الحسن المقدسي: منها أبو بكر عتيق السمنطاري الرجل الصالح العابد، له كتاب كبير في الرقائق وكتاب دليل القاصدين يزيد على عشرة مجلدات، ذكره ابن القطاع فقال: العابد أبو بكر عتيق بن علي بن داود المعروف بالسمنطاري أحد عبّاد الجزيرة المجتهدين وزهّادها العالمين وممّن رفض الأولى ولم يتعلق منها بسبب وطلب الأخرى وبالغ في الطلب، وسافر إلى الحجاز فحجّ وساح في البلدان من أرض اليمن والشام إلى أرض فارس وخراسان ولقي من بها من العبّاد وأصحاب الحديث والزهّاد فكتب عنهم جميع ما
سمع وصنّف كلّ ما جمع، وله في دخول البلدان ولقياه العلماء كتاب بناه على حروف المعجم في غاية الفصاحة، وله في الرقائق وأخبار الصالحين كتاب كبير لم يسبق إلى مثله في نهاية الملاحة وفي الفقه والحديث تآليف حسان في غاية الترتيب والبيان، وله شعر في الزهد ومكابد
«فتن أقبلت وقوم غفول، *** وزمان على الأنام يصول»
«ركدت فيه لا تريد زوالا، *** عمّ فيها الفساد والتضليل»
«أيّها الخائن الذي شأنه الإث *** م وكسب الحرام ماذا تقول؟»
«بعت دار الخلود بالثمن البخ *** س بدنيا عمّا قريب تزول»
وقال الحافظ أبو القاسم: بلغني أن عتيقا السمنطاري توفي لثمان بقين من ربيع الآخر سنة 464.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
18-معجم البلدان (العتيكية)
العَتِيكِيّةُ:اشتقاقه كالذي قبله لأنه مثله، وزيادة ياء النسبة وتاء التأنيث، ربض العتيكية: ببغداد من الجانب الغربي بين الحربيّة وباب البصرة، وقد خرب الآن، ينسب إلى عتيك بن هلال الفارسي، وله في دولة بني العباس آثار وأخبار، وله في المدينة أيضا درب ينسب إليه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
19-معجم البلدان (لنبان)
لُنْبَانُ:بالضم ثم السكون، وباء موحدة، وآخره نون: قرية كبيرة بأصبهان ولها باب يعرف بها، ينسب إليها أبو الحسن اللّنباني راوية كتب ابن أبي الدنيا، وأبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن أبان العبدي اللنباني الأصبهاني محدث مشهور، سمع أبا بكر بن أبي الدنيا وإسماعيل بن أبي كثير وغيرهما، روى عنه الحافظ إبراهيم بن محمد بن حمزة وعبد الله ابن أحمد بن إسحاق والد أبي نعيم الحافظ، توفي سنة 332، وأبو منصور معمر بن أحمد بن محمد بن عمر ابن أبان اللنباني العدوي الصوفي، كان له علم بأيام الناس وأخبار الصوفية، وسمع الحديث ورواه، ومات سنة 489.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
20-معجم البلدان (مناذر)
مَنَاذِرُ:بالفتح، والذال معجمة مكسورة، وإن كان عربيّا فهو جمع منذر، وهو من أنذرته بالأمر أي أعلمته به، وقد روي بالضم فيكون من المفاعلة كأن كلّ واحد ينذر الآخر، والأصح أنه أعجميّ، قال الأزهري: مناذر، بالفتح، اسم قرية واسم رجل، وهو محمد بن مناذر الشاعر، وذكر الغوري في اسم الرجل الفتح والضم وفي اسم البلد الفتح لا غير، وهما بلدتان بنواحي خوزستان: مناذر الكبرى ومناذر الصّغرى، أول من كوّره وحفر نهره أردشير بن بهمن الأكبر بن إسفنديار بن كشتاسب، ومما يؤكد الفتح ما ذكره المبرّد أن محمد بن مناذر الشاعر كان إذا قيل ابن مناذر، بفتح الميم، يغضب ويقول:
أمناذر الكبرى أم مناذر الصغرى؟ وهي كورتان من كور الأهواز، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر يناذر فهو مناذر مثل ضارب فهو مضارب، والمناذر ذكر في الفتوح وأخبار الخوارج، قال أهل السير: ووجّه عتبة بن غزوان حين مصّر البصرة في سنة 18 سلمى بن القين وحرملة بن مريطة كانا من المهاجرين مع النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهما من بلعدوية من بني حنظلة ونزلا على حدود ميسان ودستميسان حتى فتحا مناذر وتيرى في قصة طويلة، وقال الحصين بن نيار الحنظلي:
«ألا هل أتاها أن أهل مناذر *** شفوا غللا لو كان للناس زاجر؟»
«أصابوا لنا فوق الدّلوث بفيلق *** له زجل ترتدّ منه البصائر»
«قتلناهم ما بين نخل مخطّط *** وشاطي دجيل حيث تخفى السرائر»
«وكانت لهم فيما هناك مقامة *** إلى صيحة سوّت عليها الحوافر»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
21-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (العنوان)
العنوان:عنت الكتاب وأعننته لكذا أي عرضته له وصرفته اليه، وعنّ الكتاب يعنّه عنّا كعنونه بمعنى واحد مشتق من المعنى. قال اللحياني: عنّنت الكتاب تعنينا وعنيته تعنينا اذا عنونته ابدلوا من إحدى النونات ياء وسمّي عنوانا لانه يعنّ الكتاب من ناحيته وأصله عنّان فلما كثرت النونات قلبت احداها واوا، ومن قال علوان الكتاب جعل النون لاما؛ لأنّه أخفّ وأظهر من النون، ويقال للرجل الذي يعرّض ولا يصرّح: قد جعل كذا وكذا عنوانا لحاجته. قال ابن بري:
والعنوان: الأثر، وقال الليث: العلوان لغة في العنوان غير جيدة والعنوان ـ بالضم هي اللغة الفصيحة.
والعنوان من مبتدعات المصري قال: «هو أن يأخذ المتكلّم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو عتاب أو غير ذلك ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لاخبار متقدمة وقصص سالفة».
ومنه قول ابي نواس:
«يا هاشم بن خديج ليس فخركم ***بقتل صهر رسول الله بالسّدد»
«أدرجتم في إهاب العير جثّته ***لبس ما قدّمت أيديكم لغد»
«إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت ***حجرا بدارة ملحوب بنو أسد»
«ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ***قتل الكلاب لقد أبرحت بالولد»
«وربّ كندّية قالت لجارتها***والدّمع ينهلّ من مثنى ومن وحد»
«ألهى أمرأ القيس تشبيب بفانية***عن ثأره وصفات النؤي والوتد »
فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبي بكر وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند كندة في ضمن هجاء قبيلته وملوكهم.
ومثل ذلك قول أبي تمام في استعطافه مالك بن طوق على قومه:
«رفدوك في يوم الكلاب وشقّقوا***فيه المزاد بجحفل كلّاب »
«وهم بعين أباغ راشوا للعدى ***سهميك عند الحارث الحرّاب »
«وليالي الثرثار والحشّاك قد***جلبوا الجياد لواحق الأقراب »
«فمضت كهولهم ودبّر أمرهم ***أحداثهم تدبير غير صواب »
«ورأوا بلاد الله قد لفظتهم ***أكنافها رجعوا الى جوّاب »
«فأتوا كريم الخيم مثلك صافحا***عن ذكر أحقاد وذكر ضباب »
فقد أتى أبو تمّام في هذه الأيّام من السيرة النبوية وأيام العرب كيوم الكلاب وأخبار بني جعفر بن كلاب مع ابن عمهم جوّاب.
وفي القرآن الكثير من عنوانات العلوم، من ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} فانّ فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية. ومن ذلك قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ}. فهذا عنوان العلم المنسوب الى اقليدس. لأنّ المثلث الشكل أول أشكاله وهو أصل الأشكال، وهو شكل إذا نصب في الشمس لا يوجد له ظل لتحديد رؤوس زواياه. وأخذ البلاغيون هذا النوع من المصري كالحلبي والنويري وابن الاثير الحلبي والحموي والسيوطي والمدني. وهذا الفن قريب من التلميح الذي تقدّم ولكنّه أوسع من التلميح وأبعد مدى، وقد تحدث العلوي عن الإشارة الى القصص والأخبار في فن «التلميح».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
22-موسوعة الفقه الكويتية (أمن)
أَمْنٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَانِ الْآتِي، وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- أَمَانٌ:
2- الْأَمَانُ: ضِدُّ الْخَوْفِ، يُقَالُ: أَمَّنْتُ الْأَسِيرَ: أَعْطَيْتُهُ الْأَمَانَ فَأَمِنَ، فَهُوَ كَالْأَمْنِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَلِفُ عَنِ الْأَمْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ، عَقْدٌ يُفِيدُ تَرْكَ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ فَرْدًا أَوْ جَمَاعَةً مُؤَقَّتًا أَوْ مُؤَبَّدًا.
ب- خَوْفٌ:
3- الْخَوْفُ: الْفَزَعُ، وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ
ج- إِحْصَارٌ:
4- الْإِحْصَارُ: الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ الْحَاجِّ بِعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ بَعْضِ أَعْمَالٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ.
حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الْأَمْنِ وَوَاجِبُ الْإِمَامِ تُجَاهَ ذَلِكَ:
5- الْأَمْنُ لِلْفَرْدِ وَلِلْمُجْتَمَعِ وَلِلدَّوْلَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ، إِذْ بِهِ يَطْمَئِنُّ النَّاسُ عَلَى دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيَتَّجِهُ تَفْكِيرُهُمْ إِلَى مَا يَرْفَعُ شَأْنَ مُجْتَمَعِهِمْ وَيَنْهَضُ بِأُمَّتِهِمْ.
وَمِنْ طَبَائِعِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ خَلْدُونٍ- حُدُوثُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَوُقُوعُ التَّنَازُعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْمُشَاحَنَاتِ وَالْحُرُوبِ، وَإِلَى الْهَرَجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَوْضَى، بَلْ إِلَى الْهَلَاكِ إِذَا خُلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِهِمْ بِدُونِ وَازِعٍ.
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ وُجُودَ الْإِمَامِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ الْفَوْضَى، فَيَقُولُ: الْإِمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَلَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانَ النَّاسُ فَوْضَى مُهْمَلِينَ وَهَمَجًا مُضَيَّعِينَ.
ثُمَّ يُوَضِّحُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: الَّذِي يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالْأُمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ.
الثَّانِي: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ الْخِصَامِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، حَتَّى تَعُمَّ النَّصَفَةُ، فَلَا يَتَعَدَّى ظَالِمٌ، وَلَا يَضْعُفُ مَظْلُومٌ.
الثَّالِثُ: حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَرِيمِ لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ وَيَنْتَشِرُوا فِي الْأَسْفَارِ، آمِنِينَ مِنْ تَغْرِيرٍ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ.
الرَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الِانْتِهَاكِ وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إِتْلَافٍ وَاسْتِهْلَاكٍ.
الْخَامِسُ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لَا تَظْفَرَ الْأَعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ فِيهَا مَحْرَمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ دَمًا.
السَّادِسُ: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ، أَوْ يَدْخُلَ فِي الذِّمَّةِ، لِيُقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
السَّابِعُ: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نَصًّا وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا عَسْفٍ.
الثَّامِنُ: تَقْدِيرُ الْعَطَايَا وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ.
التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيُوَكَّلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، لِتَكُونَ الْأَعْمَالُ بِالْكَفَاءَةِ مَضْبُوطَةً، وَالْأَمْوَالُ بِالْأُمَنَاءِ مَحْفُوظَةً.
الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحَ الْأَحْوَالِ، لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَلَا يُعَوِّلَ عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلًا بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَخُونُ الْأَمِينُ، وَيَغِشُّ النَّاصِحُ.
اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
6- الْأَمْنُ مَقْصُودٌ بِهِ سَلَامَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ وَالدَّيْنِ وَالْعَقْلِ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ بِالْعِبَادَاتِ.لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلضَّرَرِ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ.
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ:
أَوَّلًا: فِي الطَّهَارَةِ:
7- الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ، وَكَذَا مَنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ مَرَضٌ وَيَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ «رَجُلًا أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَصَابَهُ احْتِلَامٌ فَأُمِرَ بِالِاغْتِسَالِ، فَاغْتَسَلَ فَكُزَّ فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» (ر: طَهَارَة- وُضُوء- غُسْل- تَيَمُّم).
ثَانِيًا: فِي الصَّلَاةِ:
8- أ- مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ مَعَ الْأَمْنِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْأَمْنُ بِأَنْ خَافَ مِنْ نَحْوِ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ سَقَطَ الِاسْتِقْبَالُ وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (ر: اسْتِقْبَال).
ب- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى خَائِفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِجْمَاعًا.
ج- صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ- قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ- لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى».
ثَالِثًا: فِي الْحَجِّ:
9- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَمْنُ الطَّرِيقِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَمَنْ خَافَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ مَثَلًا طَرِيقٌ إِلاَّ بِالْبَحْرِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ سَلَامَةِ الْوُصُولِ لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ.لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (ر حَجّ).
رَابِعًا: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
10- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَشَرْطُ وُجُوبِهِ أَنْ يَأْمَنَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَإِنْ قَلَّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»
(ر: أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ)
اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلِامْتِنَاعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ:
11- الْحِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْقِيَامِ بِعِبَادَةٍ مَا تَلَفٌ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.فَلَوْ كَانَ فِيمَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ لَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ امْتِثَالًا لِلنَّهْيِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهُ مَا حَرُمَ فِي الْأَصْلِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ: الضَّرَرُ يُزَالُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمِنْهَا:
أ- يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهَا لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.ب- يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخَمْرِ لِإِزَالَةِ الْغُصَّةِ.
ج- يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ
د- يَجُوزُ إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنَ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْغَرَقِ.
هـ- يَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِلِ وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي بَحْثِ (ضَرُورَة) (وَإِكْرَاه).
اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ فِي سَكَنِ الزَّوْجَةِ:
12- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وُجُوبُ تَوْفِيرِ الْمَسْكَنِ الْمُلَائِمِ، لقوله تعالى فِي شَأْنِ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الطَّلَاقِ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}.فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِسْكَانِ الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَإِذَا كَانَ إِسْكَانُ الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ وَاجِبًا، كَانَ إِسْكَانُ الزَّوْجَةِ حَالَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَاجِبًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَمِنْ شُرُوطِ الْمَسْكَنِ أَنْ تَأْمَنَ فِيهِ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ مُفْرَدًا وَلَهُ غَلَقٌ كَفَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَسْكَنٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ قَدْ زَالَ.وَإِنْ أَسَاءَ الزَّوْجُ عِشْرَتَهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ أَسْكَنَهَا الْقَاضِي إِلَى جَانِبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
(ر: سُكْنَى- نَفَقَة- نِكَاح)
اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَعِنْدَ إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ:
13- الْقِصَاصُ فِي الْجُرُوحِ وَالْأَطْرَافِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ السِّرَايَةِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَلِأَنَّ دَمَ الْجَانِي مَعْصُومٌ إِلاَّ فِي قَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَبْقَى عَلَى الْعِصْمَةِ، فَيَحْرُمُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمَنْعِ مِنَ الزِّيَادَةِ الْمَنْعُ مِنَ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ.وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُتْلَفًا، فَلَا قَوَدَ فِيهِ.كَمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِآلَةٍ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ، كَأَنْ تَكُونَ سَامَّةً أَوْ كَالَّةً، لِمَا رَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».
وَلِخَوْفِ التَّلَفِ يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِلْحَرِّ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطِ، وَمَرَضِ الْجَانِي، وَحَتَّى تَضَعَ الْحَامِلُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قِصَاص).
وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِإِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ، إِذْ يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَلَا عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ، وَلَا عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ.
(ر: حَدّ وَجَلْد) اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ لِمَرِيدِ السَّفَرِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ أَوِ الْمُضَارَبَةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ:
أ- فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ:
14- لَا يَجُوزُ لِأَيٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ بِمَالِ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْرِيضِهِ لِلْأَخْطَارِ، وَتَعْرِيضُ مَالِ الْغَيْرِ لِلْخَطَرِ لَا يَجُوزُ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ السَّفَرُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ.
ب- فِي الْوَدِيعَةِ:
15- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ السَّفَرُ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَإِلاَّ ضَمِنَ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، وَأَرَادَ السَّفَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا لِصَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ أَمِينٍ، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ يَقْتَضِي الْحِفْظَ فِي الْحِرْزِ، وَلَيْسَ السَّفَرُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا أَوْ آمِنًا لَا يُوثَقُ بِأَمْنِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. (ر: وَدِيعَة).
اسْتِفَادَةُ أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي الْقَرْضِ:
16- الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً»
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ.وَهِيَ: اشْتِرَاطُ الْقَضَاءِ بِبَلَدٍ آخَرَ، لِانْتِفَاعِ الْمُقْرِضِ بِدَفْعِ خَطَرِ الطَّرِيقِ.
وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- لِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ، فَإِذَا شُرِطَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، إِلاَّ إِذَا عَمَّ الْخَوْفُ بَرًّا وَبَحْرًا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِلْأَمْوَالِ.
وَإِنْ كَانَ بِدُونِ شَرْطٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ «كَانَ يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ وَيَرُدُّ بِالْكُوفَةِ» وَذَلِكَ بِدُونِ شَرْطٍ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَوْ بِشَرْطٍ، لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا مَضَرَّةَ فِيهَا بَلْ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَوَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَحَ خَطَرَ الطَّرِيقِ.وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهما- يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إِلَى أَخِيهِ مُصْعَبٍ بِالْعِرَاقِ، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا.
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ
17- كَانَ الْحَرَمُ مَوْضِعَ أَمْنٍ لِأَهْلِهِ وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِسْلَامِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ:
«إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ يُحَرِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقِينِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: إِلاَّ الْإِذْخِرَ»
وَلِاسْتِيفَاءِ بَاقِي أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَتَفَاصِيلِهِ (ر: حَرَم).
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
18- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ عِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»
وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ الْأَمْنُ لِلْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ لَهُ الْأَمْنُ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَإِعْطَائِهِ الْأَمَانَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَامِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ.وَالْأَصْلُ فِي إِعْطَاءِ الْأَمَانِ لِلْكُفَّارِ قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.
19- وَالْأَمَانُ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ: أَمَانٌ يَعْقِدُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُؤَقَّتٌ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْهُدْنَةِ وَبِالْمُعَاهَدَةِ وَبِالْمُوَادَعَةِ- وَهُوَ عَقْدُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مَعْلُومَةً- مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ».
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَهُوَ إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، هَلْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى حَالِهِمْ أَمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلاَّ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَمَانِ:
هُوَ الْأَمَانُ الَّذِي يُصْدَرُ مِنْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ».وَأَخْبَارٌ أُخْرَى، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (أَمَان، وَذِمَّة، وَمُعَاهَدَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (بدعة 1)
بِدْعَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْبِدْعَةُ لُغَةً: مِنْ بَدَعَ الشَّيْءَ يَبْدَعُهُ بَدْعًا، وَابْتَدَعَهُ: إِذَا أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ.
وَالْبِدْعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي.
وَالْبِدْعَةُ: الْحَدَثُ، وَمَا ابْتُدِعَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِكْمَالِ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَأْتِي أَمْرًا عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَكُنْ، بَلِ ابْتَدَأَهُ هُوَ.وَأَبْدَعَ وَابْتَدَعَ وَتَبَدَّعَ: أَتَى بِبِدْعَةٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} وَبَدَّعَهُ: نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَالْبَدِيعُ: الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: الْمُبْدِعُ، لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْبِدْعَةِ وَتَنَوَّعَتْ؛ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِ الْعُلَمَاءِ فِي مَفْهُومِهَا وَمَدْلُولِهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ وَسَّعَ مَدْلُولَهَا، حَتَّى أَطْلَقَهَا عَلَى كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّقَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَتَقَلَّصَ بِذَلِكَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَسَنُوجِزُ هَذَا فِي اتِّجَاهَيْنِ.
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:
2- أَطْلَقَ أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ الْبِدْعَةَ عَلَى كُلِّ حَادِثٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمِ الْعَادَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَذْمُومًا أَمْ غَيْرَ مَذْمُومٍ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَمِنْ أَتْبَاعِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو شَامَةَ.وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْقَرَافِيُّ، وَالزَّرْقَانِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ابْنُ عَابِدِينَ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ: ابْنُ حَزْمٍ.
وَيَتَمَثَّلُ هَذَا الِاتِّجَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْبِدْعَةِ وَهُوَ: أَنَّهَا فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ وَاجِبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَنْدُوبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَكْرُوهَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُبَاحَةٍ.
وَضَرَبُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً:
فَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ: كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ أَمْثِلَتِهَا: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ.وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ: مِثْلُ إِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ: مِثْلُ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ.
وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ: مِثْلُ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.وَاسْتَدَلُّوا لِرَأْيِهِمْ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(أ) قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ.فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ.فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ.يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ.وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
(ب) تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةَ الضُّحَى جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً، وَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ.رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ- فَقَالَ: بِدْعَةٌ.
(ج) الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُفِيدُ انْقِسَامَ الْبِدْعَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
3- اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ، وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلَالَةٌ، سَوَاءٌ فِي الْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِمَامُ الشُّمُنِّيُّ، وَالْعَيْنِيُّ.وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ رَجَبٍ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ.
وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ يُمَثِّلُ هَذَا الِاتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّاطِبِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ بِتَعْرِيفَيْنِ:
الْأَوَّلُ أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُدْخِلِ الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ، بَلْ خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ، بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
الثَّانِي أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُلُ الْعَادَاتُ فِي الْبِدَعِ إِذَا ضَاهَتِ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(أ) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ إِنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَتُوحِي بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
(ب) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(ج) كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا.فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ.فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»
(د) أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: «اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ» وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُحْدَثَاتُ:
4- الْحَدِيثُ نَقِيضُ الْقَدِيمِ، وَالْحُدُوثُ: كَوْنُ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ: مَا ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى غَيْرِهَا.وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» وَالْمُحْدَثَاتُ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ: مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ.وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَلْتَقِي الْمُحْدَثَاتُ مَعَ الْبِدْعَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.
ب- الْفِطْرَةُ:
5- الْفِطْرَةِ: الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ.وَفَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُمْ، وَيُقَالُ: أَنَا فَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ: أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَأَهُ.وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْتَقِي مَعَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ.
ج- السُّنَّةُ:
6- السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ صَحْبِهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا تَمَامًا.
وَلِلسُّنَّةِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ بِهَا، مِنْهَا:
أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِمْ: الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ.وَمِنْهَا: مَا هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- غَيْرَ الْقُرْآنِ- مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.وَمِنْهَا: مَا يَعُمُّ النَّفَلَ، وَهُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ.
د- الْمَعْصِيَةُ:
7- الْعِصْيَانُ: خِلَافُ الطَّاعَةِ يُقَالُ: عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلَانٌ أَمِيرَهُ: إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ.
وَشَرْعًا: عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَهِيَ إِمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، أَوْ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا.
وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِذَا اجْتُنِبَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ تَشْمَلُ الْمَعْصِيَةَ، كَالْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَغَيْرَ الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ.
هـ- الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:
8- الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلَاحًا هِيَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ.الْخَمْسِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ- رحمه الله-، أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الشَّاطِبِيِّ، أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ.أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الْأَمْرُ بِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا إِلْغَائِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ).
حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
9- ذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَبُو شَامَةَ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنِيفَةِ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إِلَى: وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ.
وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً:
فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ: الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ، الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَتَدْوِينُ الْكَلَامِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ: إِحْدَاثُ الْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ.
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.
هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إِلَى بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الْبِدْعَةُ فِي الْعَقِيدَةِ:
10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعَقِيدَةِ مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى الْكُفْرِ.فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ أَنْ تُخَالِفَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيِّينَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وَحَدَّدُوا كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ: أَنْ يَتَّفِقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كُفْرٌ صُرَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ حَرَامًا وَمَعْصِيَةً، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا.
أ- الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ:
11- وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْجِمَاعِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ.لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الرَّهْطِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ.لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
ب- الْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ:
12- قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِيهَا وَذِكْرِ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِلتَّعْظِيمِ، أَمَّا لِلدُّعَاءِ فَسَائِغٌ، وَكَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ.جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كُبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَجَاءَ- وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا- فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- عِلْمًا.فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّنَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.
الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ:
13- الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ مِنْهَا الْمَكْرُوهُ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا.وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، مِثْلُ التَّوَسُّعِ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا اخْتِيَالٍ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الْعَادَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعِبَادَاتِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَتِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ لَوَجَبَ أَنْ تُعَدَّ كُلُّ الْعَادَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ- مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ- بِدَعًا مَكْرُوهَاتٍ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَادَاتِ الَّتِي بَرَزَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مُخَالِفَةٌ لَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَاتِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ مَعَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا:
14- دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا وَبَوَاعِثُهَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَأَحْكَامُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا وَاتِّبَاعُ سُبُلِ الشَّيْطَانِ فِي كُلِّ حُكْمٍ مُتَعَدِّدُ الْوُجُوهِ.وَكُلُّ خُرُوجٍ إِلَى وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْبَاطِلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ.وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْمُمْكِنِ إِرْجَاعُ الدَّوَاعِي وَالْأَسْبَابِ إِلَى مَا يَأْتِي:
أ- الْجَهْلِ بِوَسَائِلِ الْمَقَاصِدِ:
15- أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَارٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُفْهَمُ إِلاَّ إِذَا فَهِمَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَالْإِخْلَالُ فِي ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْبِدْعَةِ.
ب- الْجَهْلِ بِالْمَقَاصِدِ:
16- مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَجْهَلَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَمْرَانِ:
(1) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً تَامَّةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ بِهَا ارْتِبَاطَ ثِقَةٍ وَإِذْعَانٍ، فِي عَادَاتِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا، وَأَلاَّ يَخْرُجَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ.وَهَذَا الْأَمْرُ أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعَةُ فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الشَّرْعِ، وَكَذَبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ.وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَعْرُوفِ بِالْأُرْدُنِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ فِيهِ بَأْسًا، أَجْعَلُ لَهُ إِسْنَادًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
(2) أَنْ يُوقِنَ إِيقَانًا جَازِمًا أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ النَّبْعَ وَاحِدٌ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وَإِنَّ قَوْمًا اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ لِجَهْلِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»
فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا قَدَّمْنَا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ التَّضَادِّ بَيْنَ نُصُوصِهَا.
أَمَّا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
وَأَمَّا عَدَمُ التَّضَادِّ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُنَافٍ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
ج- الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ:
17- مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ.
وَالْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ يَعْنِي أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ، جَهْلُ النَّاسِ بِأَصْلِ السُّنَّةِ.
وَالثَّانِي: جَهْلُهُمْ بِالصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ.
أَمَّا جَهْلُهُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجْعَلُهُمْ يَأْخُذُونَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ وَرَدَتِ الْآثَارُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».. وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ، جَهْلُهُمْ بِدَوْرِهَا فِي التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَكَانَةَ السُّنَّةِ فِي التَّشْرِيعِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
د- تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ:
18- عَدَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ دَوَاعِي الْبِدْعَةِ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَيَتَأَتَّى هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَحْيِ وَإِخْبَارِ الْمَعْصُومِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَجُرُّهُ عَقْلُهُ الْقَاصِرُ إِلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَالِابْتِدَاعِ، وَيَظُنُّ أَنَّ عَقْلَهُ مُوَصِّلُهُ، فَإِذَا هُوَ مُهْلِكُهُ.
وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، مِنْ نَاحِيَةِ الْكَمِّ وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَيْفِ.أَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَتَنَاهَى، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.
وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ:
(1) أَنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُجْعَلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤَخِّرَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ.
(2) إِذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا خَرْقَ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ- الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَآهَا أَوْ عَلِمَ بِهَا عِلْمًا صَحِيحًا- لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ أَمَامَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيَكِلَ الْعِلْمَ فِيهِ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَخَصِّصِينَ فِيهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
الثَّانِي: يَتَأَوَّلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ.وَيَحْكُمُ هَذَا كُلَّهُ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
هـ- اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ:
19- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ.وَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» وَقَدْ ذَكَرَهُمُ الْقُرْآنُ فِي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.فَلَيْسَ نَظَرُهُمْ فِي الدَّلِيلِ نَظَرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى.ثُمَّ أَتَى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ.
و- اتِّبَاعُ الْهَوَى:
20- يُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى مَيْلِ النَّفْسِ وَانْحِرَافِهَا نَحْوَ الشَّيْءِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَيْلِ الْمَذْمُومِ وَالِانْحِرَافِ السَّيِّئِ.
وَنُسِبَتِ الْبِدَعُ إِلَى الْأَهْوَاءِ، وَسُمِّيَ أَصْحَابُهَا بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.
21- مَدَاخِلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ:
أ- اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالْآبَاءِ وَجَعْلُهَا دِينًا.قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
فَقَالَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}
ب- رَأْيُ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ وَالتَّعَصُّبُ لَهُمْ، فَقَدْ يُؤَدِّي هَذَا التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى إِنْكَارِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ أَوْ تَأْوِيلِهَا، وَعَدِّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ.
ج- التَّصَوُّفُ الْفَاسِدُ وَأَخْذُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ دِينًا وَشَرِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
د- التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ.فَإِنَّ مَحْصُولَ هَذَا الْمَذْهَبِ تَحْكِيمُ عُقُولِ الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهْلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلاَّ رُدَّ.
هـ- الْعَمَلُ بِالْأَحْلَامِ.فَإِنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُهْتَاجَةٍ.فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ النَّقِيَّةُ حَتَّى يُحْكَمَ بِهَا؟،. أَنْوَاعُ الْبِدْعَةِ:
تَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ مِنْ حَيْثُ قُرْبُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ بُعْدُهَا عَنْهَا إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ.
الْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
22- هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّهَا شَيْءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ؛ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ وَلَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَفَقْدِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى الْمَذْكُورَةِ فِي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فَهَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نُسِخَتْ فِي شَرِيعَتِنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وَمِنْهَا: أَنْ يَفْعَلَ الْمُسْلِمُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، مِثْلِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا وَالْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي زَعْمِهِمْ.
الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ:
23- وَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلاَّ مِثْلَ مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ شَائِبَتَانِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِأَحَدٍ الطَّرَفَيْنِ، وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى بِدْعَةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبِدَعِ هُوَ مَثَارُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ.وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، وَهِيَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْأُولَى مِنْ رَجَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ.وَكَذَا صَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَهِيَ: مِائَةُ رَكْعَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ.وَصَلَاةُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَوَجْهُ كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً: أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ» وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ.فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا، مُبْتَدَعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا.
الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ وَغَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ:
24- الْبِدَعُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ.فَقَدْ وُجِدَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَحْكَامِهَا، فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.
وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فَهَذَا وَأَضْرَابُهُ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ، لِابْتِدَاعِهِ أَشْيَاءَ أَنْكَرَتْهَا النُّصُوصُ وَتَوَعَّدَتْ عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ كَبِدَعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ اتِّفَاقًا، كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ، لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضٌ مِنْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (تعارض 2)
تَعَارُضٌ -2تَعَارُضُ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ:
21- الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ: بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالظَّاهِرُ: مَا يَتَرَجَّحُ وُقُوعُهُ.
فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلِذَا لَمْ يُقْبَلْ فِي شَغْلِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَصْلَ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لِدَعْوَاهُ مَا خَالَفَ الْأَصْلَ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَارِمِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ عَمَّا زَادَ عَنْ قَوْلِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ قَبْلَ تَفْسِيرِهِ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ.وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الظَّاهِرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْأَصْلَ يُرَجَّحُ جَزْمًا.وَضَابِطُهُ: أَنْ يُعَارِضَهُ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ.وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ جَزْمًا، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى سَبَبٍ مَنْصُوبٍ شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ تُعَارِضُ الْأَصْلَ، وَالرِّوَايَةَ، وَالْيَدَ فِي الدَّعْوَى.وَإِخْبَارُ الثِّقَةِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الْأَصْلُ عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْأَصَحِّ، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ الِاحْتِمَالُ إِلَى سَبَبٍ ضَعِيفٍ، وَمِثْلُهُ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَالْقَصَّابِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَوَانِيهِمْ.وَمَا يُتَرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ عَلَى الْأَصْلِ، بِأَنْ كَانَ سَبَبًا قَوِيًّا مُنْضَبِطًا، كَمَنْ شَكَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ غَيْرِ النِّيَّةِ فَالْمَشْهُورُ لَا يُؤَثِّرُ.
وَالْحَنَابِلَةُ يُقَدِّمُونَ كَغَيْرِهِمُ الظَّاهِرَ، الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْأَصْلِ، وَتَارَةً يَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
(1) مَا تُرِكَ فِيهِ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ لِلْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُ مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، كَشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِشَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(2) مَا عُمِلَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَتْ زَوْجَةٌ بَعْدَ طُولِ مُقَامِهَا مَعَ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَمْ تَصِلْهَا مِنْهُ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تُبْعِدُ ذَلِكَ جِدًّا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرُّجُوعَ إِلَى الْعَادَةِ، وَخَرَّجَهُ وَجْهًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
(3) مَا عُمِلَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِهِ وَعَدَمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ لِلْعِبَادَاتِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَيُرَجَّحُ هَذَا الظَّاهِرُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
(4) مَا خَرَجَ فِيهِ خِلَافٌ فِي تَرْجِيحِ الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ تَقَادُمِ الظَّاهِرِ وَالْأَصْلِ وَتَسَاوِيهِمَا، وَمِنْ صُوَرِهِ: طَهَارَةُ طِينِ الشَّوَارِعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي الْأَعْيَانِ كُلِّهَا.وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثَانِيَةٍ: أَنَّهُ نَجِسٌ تَرْجِيحًا لِلظَّاهِرِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ الْمَذْهَبَ.
تَعَارُضُ الْعِبَارَةِ (اللَّفْظِ) وَالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:
22- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ...» إِلَخْ.وَأَحَالَ شَرْحَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا وَاحِدٌ» فَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ الْأَصْلُ، وَالسُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ تَبَعٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ لَكَانَتِ الْأَعْضَاءُ ثَمَانِيَةً.قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ.قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَذَاكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ، لَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ لَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ لِأَجْلِ الْعِبَارَةِ، فَإِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجَبْهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُعَيَّنَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ تَعْيِينًا.وَأَمَّا الْعِبَارَةُ: فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِمَا وُصِفَتْ لَهُ، فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى.وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ.وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ- فَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِثْلُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ.وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ.فَمَنِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ، فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ.وَلَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ، انْعَقَدَ الْعَقْدُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ.
وَقَالَ الشَّارِحُونَ: إِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ جِنْسًا، فَتَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فِيمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَلِّ، وَأَشَارَ إِلَى خَمْرٍ.وَلَوْ سَمَّى حَرَامًا، وَأَشَارَ إِلَى حَلَالٍ فَلَهَا الْحَلَالُ فِي الْأَصَحِّ.
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَقَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ: فَقَالَ الْأَبُ وَقْتَ الْعَقْدِ: زَوَّجْتُ مِنْكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ، لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً فَقَالَ الْأَبُ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى عَائِشَةَ وَغَلِطَ فِي اسْمِهَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ، جَازَ.
23- وَمِمَّا سَبَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِإِجْزَاءِ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ، تَقْدِيمًا لِلْإِشَارَةِ عَلَى الْعِبَارَةِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ عِنْدَهُمْ تُقَدَّمُ عَلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَالْإِشَارَةُ قَدْ لَا تُعَيِّنُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا، غُلِّبَتِ الْإِشَارَةُ.فَلَوْ قَالَ: أُصَلِّي خَلْفَ زَيْدٍ هَذَا، أَوْ قَالَ: أُصَلِّي عَلَى زَيْدٍ هَذَا، فَبَانَ عَمْرًا فَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ.وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ.وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكِ هَذَا الْغُلَامَ، وَأَشَارَ إِلَى بِنْتِهِ، نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ صِحَّةَ النِّكَاحِ.تَعْوِيلًا عَلَى الْإِشَارَةِ.وَهَذَا يَتَّفِقُ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً.أَوْ: هَذِهِ الْعَجُوزَ، فَكَانَتْ شَابَّةً.أَوْ: هَذِهِ الْبَيْضَاءَ، فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسُهُ- وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ- فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ فِي حُدُودِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ.بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيلَ هُنَاكَ عَلَى الْإِشَارَةِ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلًا أَوْ عَكْسُهُ، فَوَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ هُنَا الْبُطْلَانُ.وَإِنَّمَا صُحِّحَ الْبُطْلَانُ هُنَا تَغْلِيبًا لِاخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَالِيَّةِ.وَصَحَّحَ الصِّحَّةَ فِي الْبَاقِي تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ.وَحِينَئِذٍ يُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ.
وَيُضَمُّ إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ صُوَرٌ، مِنْهَا: مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ تَمْرًا، أَوْ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا عَرْصَةً، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ.وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْكَتَّانِ فَبَانَ قُطْنًا، أَوْ عَكْسُهُ، فَالْأَصَحُّ فَسَادُ الْخُلْعِ، وَيُرْجَعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
هَذِهِ جُمْلَةُ قَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ فِي التَّعَارُضِ، ذُكِرَتْ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (جواب)
جَوَابٌالتَّعْرِيف:
1- الْجَوَاب: رَدِيدُ الْكَلَامِ، وَالْفِعْلُ: أَجَابَ يُجِيبُ.
وَالْإِجَابَةُ رَجْعُ الْكَلَامِ، تَقُولُ: أَجَابَهُ عَنْ سُؤَالِهِ، وَقَدْ أَجَابَهُ إِجَابَةً وَإِجَابًا وَجَوَابًا.
وَالْإِجَابَةُ وَالِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنًى، يُقَالُ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَالِاسْمُ الْجَوَابُ.
وَالْجَوَابُ مَا يَكُونُ رَدًّا عَلَى سُؤَالٍ، أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ دَعْوَى، أَوْ رِسَالَةٍ، أَوِ اعْتِرَاضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ أَجْوِبَةٌ وَجَوَابَاتٌ.
وَجَوَابُ الْقَوْلِ قَدْ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَهُ، نَحْوُ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: هَلْ كَانَ كَذَا، وَنَحْوِهِ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَهُ، وَلَا يُسَمَّى جَوَابًا إِلاَّ بَعْدَ طَلَبٍ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْإِقْرَار:
2- الْإِقْرَار: الِاعْتِرَافُ بِالشَّيْءِ، وَالْإِخْبَارُ بِحَقٍّ لآِخَرَ، وَإِخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ.فَالْإِقْرَارُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا إِذَا كَانَ بَعْدَ طَلَبٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
الرَّدّ:
3- الرَّدّ: صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ، يُقَالُ: رَدَّهُ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَيُقَالُ: سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ.فَالرَّدُّ يَكُونُ جَوَابًا إِذَا كَانَ بَعْدَ طَلَبٍ فَالرَّدُّ أَعَمُّ مِنَ الْجَوَابِ.
الْقَبُول:
4- قَبُولُ الشَّيْءِ: أَخْذُهُ، وَيُقَالُ: قَبِلْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَضِيتَهُ، وَقَبِلْتُ الْخَبَرَ إِذَا صَدَّقْتَهُ.وَيَأْتِي الْقَبُولُ فِي الْعُقُودِ جَوَابًا عَلَى الْإِيجَابِ؛ كَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، جَوَابًا لِقَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:
5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَوَابِ بِاخْتِلَافِ مَوْضِعِهِ.فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا كَجَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ.أَوْ وَاجِبًا كِفَائِيًّا كَجَوَابِ السَّلَامِ عَلَى جَمَاعَةٍ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَجَوَابِ الْمُفْتِي إِذَا أَفْتَى بِمَا لَا يَعْرِفُ.وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا كَجَوَابِ قَاضِي الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ.وَيَجُوزُ التَّوَقُّفُ عَنِ الْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ فِي الْجَوَابِ حَرَجٌ كَفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ: أَكُلَّ عَامٍ؟.
أَنْوَاعُ الْجَوَابِ:
6- الْجَوَابُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَ (نَعَمْ) أَوْ (لَا) أَوْ بِجُمْلَةٍ تُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، وَبِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
دَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ:
7- الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ إِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، أَوْ لَا يَسْتَقِلَّ.
فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ الِابْتِدَاءُ بِهِ كَ (نَعَمْ) فَهُوَ تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَ مُبْتَدَأً كَانَ كَلَامًا تَامًّا فَفِي إِفَادَتِهِ لِلْعُمُومِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُذْكَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْجَوَابِ:
8- قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَوَابِ الْتِزَامٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ (أَيِ السُّؤَالُ) إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْجَوَابُ وَوَقَعَ تَصْدِيقًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا وَاعْتِرَافًا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ (السُّؤَالُ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ) يَعْنِي أَنَّ مَا قِيلَ فِي السُّؤَالِ الْمُصَدَّقِ كَأَنَّ الْمُجِيبَ الْمُصَدِّقَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ.وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ (نَعَمْ- أَجَلْ- بَلَى..) تَتَعَيَّنُ جَوَابًا وَتَصْدِيقًا لِمَا تَضَمَّنَهُ السُّؤَالُ، وَتَكُونُ الْإِجَابَةُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِقْرَارًا وَاعْتِرَافًا بِمَا جَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ صِيَغِ الْإِقْرَارِ الصَّرِيحَةِ، وَلِأَنَّ الْجَوَابَ بِهَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَفِيهِ احْتِمَالَاتُ الْإِخْبَارِ أَوِ الْإِنْشَاءِ، وَيَرْجِعُ غَالِبًا إِلَى النِّيَّةِ أَوْ إِلَى الْقَرَائِنِ.وَمِنْ هُنَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِهِ جَوَابًا مُلْزِمًا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ أَوْ غَيْرَ مُلْزِمٍ.
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1- فِي الْإِقْرَارِ:
9- أ- إِذَا قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ، فَقَالَ: نَعَمْ يَكُونُ الْجَوَابُ بِنَعَمْ تَصْدِيقًا لِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِجَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ مِنْ صِيَغِ الْإِقْرَارِ الصَّرِيحَةِ، وَقَدْ خَرَجَتْ جَوَابًا، وَجَوَابُ الْكَلَامِ إِعَادَةٌ لَهُ لُغَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ.
ب- وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ: أَلَيْسَ لِي عِنْدَكَ أَلْفٌ؟ فَقَالَ: بَلَى؛ لِأَنَّ بَلَى جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ بِأَدَاةِ النَّفْيِ.
ج- وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَابَّةٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اسْتَأْجِرْهَا مِنِّي، أَوِ ادْفَعْ إِلَيَّ غَلَّتَهَا، فَقَالَ: نَعَمْ.
وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُسْتَقِلًّا، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: اتَّزِنْ، أَوْ خُذْ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ خُذِ الْجَوَابَ مِنِّي، أَوِ اتَّزِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِي، وَهُوَ إِقْرَارٌ عِنْدَ سُحْنُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: هِيَ صِحَاحٌ أَوْ قَالَ: خُذْهَا، أَوِ اتَّزِنْهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُدَّعَى وَلَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ بِأَخْذِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُجُوبُ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ).
2- فِي الطَّلَاقِ:
10- أ- جَاءَ فِي أَشْبَاهِ ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ قَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ، فَقَالَ زَيْدٌ: نَعَمْ، كَانَ زَيْدٌ حَالِفًا بِكُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ إِعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ.
وَمَنْ قِيلَ لَهُ: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ نَعَمْ صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ الصَّرِيحُ لِلَّفْظِ الصَّرِيحِ صَرِيحٌ.
ب- وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُسْتَقِلًّا كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ انْصَرَفَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِخْبَارِ، فَالْكَلَامُ السَّابِقُ مُعَادٌ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الْإِخْبَارَ يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ اتِّفَاقًا (أَيْ فِي الْمَذْهَبِ) وَإِنْ نَوَى إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِخْبَارًا وَلَا إِنْشَاءً فَقَوْلَانِ فِي لُزُومِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ.
ج- وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ إِنْشَاءً غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، كَانَ الْأَوَّلُ مُعَادًا فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَنَوَى الثَّلَاثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، أَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، أَوِ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَلَمْ تَذْكُرِ الثَّلَاثَ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُرْجَعُ إِلَى نِيَّتِهَا فِي بَيَانِ عَدَدِ الطَّلَقَاتِ إِذَا لَمْ تُبَيِّنِ الْعَدَدَ فِي قَوْلِهَا: طَلَّقْتُ نَفْسِي.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَكُونُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلَاثِ، فَيَكُونُ ثَلَاثًا.
د- وَقَدْ لَا يُعْتَبَرُ الْكَلَامُ الثَّانِي جَوَابًا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً.وَمِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا جَوَابٌ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثِ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى بِمَا سَأَلَتْهُ وَزِيَادَةً، فَيَلْزَمُهَا الْأَلْفُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَقَعُ الثَّلَاثُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّلَاثَ لَا تَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ، فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا فَقَدْ عَدَلَ عَمَّا سَأَلَتْهُ، فَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ، فَتَقَعُ الثَّلَاثُ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ فَأَجَابَهَا، وَأَعَادَ ذِكْرَ الْمَالِ لَزِمَ الْمَالُ.وَكَذَا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ فِي الْأَصَحِّ، كَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى السُّؤَالِ.وَقِيلَ: يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ.وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى أَبْوَابِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (طَلَاقٌ وَإِقْرَارٌ).
الِامْتِنَاعُ عَنِ الْجَوَابِ:
11- الْجَوَابُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ بِشُرُوطِهَا عِنْدَ طَلَبِ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ.
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ طُولِبَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الْجَوَابِ، فَقَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، أَوْ سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ حُكِمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ عَنِ الْجَوَابِ يُعَدُّ إِقْرَارًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدِ أَقْوَالِ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: إِنْ أَجَبْتَ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَاكِلٌ عَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِيهِ.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إِنْكَارٌ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ الْإِثْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْجَوَابِ الْوَاجِبِ كَجَوَابِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ، فَمَنْ كَتَمَ ذَلِكَ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ انْظُرْ: (فَتْوَى، شَهَادَةٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (دليل)
دَلِيلٌالتَّعْرِيفُ:
1- الدَّلِيلُ لُغَةً: هُوَ الْمُرْشِدُ وَالْكَاشِفُ، مِنْ دَلَلْتُ عَلَى الشَّيْءِ وَدَلَلْتُ إِلَيْهِ.
وَالْمَصْدَرُ دُلُولَةٌ وَدَلَالَةٌ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا.وَالدَّالُّ وَصْفٌ لِلْفَاعِلِ.
وَالدَّلِيلُ مَا يُتَوَصَّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ وَلَوْ ظَنًّا، وَقَدْ يَخُصُّهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَطْعِيِّ.
وَلِذَلِكَ كَانَ تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ «أَدِلَّةُ الْفِقْهِ» جَارِيًا عَلَى الرَّأْيِ الْأَوَّلِ الْقَائِلِ بِالتَّعْمِيمِ فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيلِ بِمَا يَشْمَلُ الظَّنِّيَّ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الْإِجْمَالِيَّةِ تَشْمَلُ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَا هُوَ ظَنِّيٌّ كَالْعُمُومَاتِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ.وَمِنْ هُنَا عَرَّفَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَفِي الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ: «طُرُقُ الْفِقْهِ»؛ لِيَشْمَلَ الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَمَارَةُ:
2- الْأَمَارَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلَامَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى- كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ- وَهِيَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: مَا أَوْصَلَ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ظَنِّيٍّ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْأَمَارَةِ وَالدَّلِيلِ.وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْأَمَارَةُ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ إِلَى الظَّنِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْلِيًّا أَمْ شَرْعِيًّا.أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالْأَمَارَاتُ الْعَقْلِيَّةُ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ.
ب- الْبُرْهَانُ:
3- الْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ وَالدَّلَالَةُ، وَيُطْلَقُ خَاصَّةً عَلَى مَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ لَا مَحَالَةَ.وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَا فَصَلَ الْحَقَّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمَيَّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْفَاسِدِ بِالْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ.
ج- الْحُجَّةُ:
4- الْحُجَّةُ: الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ، وَهُوَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ.
وَالْحُجَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ، هِيَ الَّتِي تُفِيدُ الْقَانِعِينَ الْقَاصِرِينَ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الْيَقِينِ بِالِاسْتِكْثَارِ.
الْأَدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْأَحْكَامِ:
5- الْأَدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْأَحْكَامِ نَوْعَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الْإِجْمَالِيَّةُ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَثِيرٌ جَمَعَهَا الْقَرَافِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الذَّخِيرَةِ، مِنْهَا: الِاسْتِحْسَانُ، وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَالْعُرْفُ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالِاسْتِصْحَابُ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا.وَيُقْصَدُ بِالْأَحْكَامِ: الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ.وَالْأَحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ: كَالشَّرْطِ، وَالْمَانِعِ، وَالسَّبَبِ وَنَحْوِهَا.
الدَّلِيلُ الْإِجْمَالِيُّ وَالدَّلِيلُ التَّفْصِيلِيُّ:
6- عَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ أُصُولَ الْفِقْهِ لَقَبًا بِأَنَّهُ «أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الْإِجْمَالِيَّةُ» مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْضُوعَهُ الْأَدِلَّةُ الْإِجْمَالِيَّةُ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ أَدِلَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ الِاسْتِحْسَانُ، وَالِاسْتِصْحَابُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَالِاسْتِصْلَاحُ.وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ يَبْحَثُ فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ.
وَالدَّلِيلُ إِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ دَلِيلًا إِجْمَالِيًّا، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا.وَمِثَالُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، كَانَ دَلِيلًا إِجْمَالِيًّا.
وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ كَانَ دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا.
الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ وَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ:
7- تَنْقَسِمُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ وَالدَّلَالَةُ:
1- قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
2- وَقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِي تَأْوِيلِهَا.
3- وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ ذَاتِ الْمَفْهُومِ الْقَطْعِيِّ.
4- وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا ظَنِّيٌّ.
وَرَتَّبَ أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ:
فَبِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَثْبُتُ الْفَرْضُ، وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ، وَبِالْقِسْمِ الرَّابِعِ يَثْبُتُ الِاسْتِحْبَابُ وَالسُّنِّيَّةُ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ جَارٍ عَلَى اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ: الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ فِي مَوَاضِعِهِ.وَكَذَلِكَ مُصْطَلَحُ: «اسْتِدْلَال» «وَتَرْجِيح».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (ليلة القدر)
لَيْلَةُ الْقَدْرِالتَّعْرِيفُ:
1- لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَتَرَكَّبُ مِنْ لَفْظَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: لَيْلَةٌ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُقَابِلُهَا النَّهَارُ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَثَانِيهِمَا: الْقَدْرُ، وَمِنْ مَعَانِي الْقَدْرِ فِي اللُّغَةِ: الشَّرَفُ وَالْوَقَارُ، وَمَنْ مَعَانِيهِ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّضْيِيقُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ اللَّيْلَةُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَيْلَةٌ ذَاتُ قَدْرٍ وَشَرَفٍ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَلِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِمَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يُحْيِيهَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْقَدْرِ هُنَا التَّضْيِيقُ كَمِثْلِ قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ فِيهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ- بِفَتْحِ الدَّالِ- وَهُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ: أَيْ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ وَالْقَضَاءِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِمَا تَكْتُبُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ الْوَارِدَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَيْسَتْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ وَمُصِيبَةٍ، وَرِزْقٍ وَبَرَكَةٍ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ
فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
2- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفَضْلُ اللَّيَالِي، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وَأَنَّهَا اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَالَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَيْضًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ تَهْبِطُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ وَمِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَيَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالرَّحْمَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِكُلِّ أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ
.وَفِي فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.أَيْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَلَامَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لَا شَرَّ فِيهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ،
قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلاَّ السِّلَامَةَ وَفِي سَائِرِ اللَّيَالِيِ يَقْضِي بِالْبَلَايَا وَالسَّلَامَةِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ لَيْلَةٌ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا وَلَا أَذًى.
إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاوَرَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»،، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»،، وَالْقَصْدُ مِنْهُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَيَكُونُ إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»،، قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ انْفِكَاكُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَبَعَاتِ الذُّنُوبِ وَطَهَارَتُهُ مِنْ دَنَسِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّ بِالطَّهَارَةِ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَهَّلُ لِلِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِالْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، » وَبِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ».
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَانَتْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- وَفِيهِ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي كُلِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ.قُلْتُ: أَفَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا رَفَعُوا رُفِعَتْ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
بَقَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
5- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَقَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ الْمُسْلِمَ عَلَى طَلَبِهَا وَالِاجْتِهَادِ فِي إِدْرَاكِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»،، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ أَصْلًا وَرَأْسًا،
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ عَنِ الرَّوَافِضِ وَالْفَاكَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَأَنَّهُ خَطَأٌ، وَالَّذِي حَكَاهُ السُّرُوجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ الشِّيعَةِ.وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُحَنَّسَ قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ، قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: ذَكَرَ الْحَجَّاجُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَهَا فَأَرَادَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَنْ يَحْصِبَهُ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ.
مَحَلُّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ دَائِرَةٌ مَعَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
وَأَخْبَرْنَا كَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} الْآيَةَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ لَيَالِي السَّنَةِ الْأُخْرَى.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِي سَبَقَ نَقْلُهَا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَدُورُ فِيهَا، قَدْ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ تَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مِنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا، وَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ هَذَا إِلَى ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَلاَّ يَتَّكِلَ النَّاسُ.
7- وَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الشَّهْرِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ آكَدُ، وَلَيَالِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ آكَدُ، لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَفِيمَا يَلِي أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلِّهَا:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ لَدَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْتِمَاسِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَتُؤَكِّدُ أَنَّهَا فِي الْأَوْتَارِ وَمُنْحَصِرَةٌ فِيهَا.
وَالْأَشْهَرُ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ.
وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ بِأَنَّ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَصًّا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ دَائِرَةٌ مَعَ رَمَضَانَ، بِمَعْنَى أَنَّهَا تُوجَدُ كُلَّمَا وُجِدَ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ، لَكِنَّهَا عِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ لَا تَتَعَيَّنُ.
وَقَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، وَنَسَبَهُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ إِلَى الصَّاحِبَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا وَلَا تَزَالُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مُحْتَمِلَةٌ لَهَا، لَكِنْ لَيَالِي الْوِتْرِ أَرْجَاهَا، وَأَرْجَى الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَرَجَاهَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَهُمَا أَرْجَى لَيَالِيهَا عِنْدَهُ، وَبَعْدَهُمَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ- رضي الله عنهم-: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ الصَّحَابِيِّ لِقَوْلِ أَنِسٍ- رضي الله عنه-: لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، نَقَلَهَا عَنْهُمَا ابْنُ حَجَرٍ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- بِحُجَّةِ أَنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ وَنَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وَهُوَ مَا يَتَوَافَقُ تَمَامًا مَعَ قوله تعالى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ- رضي الله عنه- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما- وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ تَنْتَقِلُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إِلَى لَيْلَةٍ وَفِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي تَحْدِيدِهَا فِي لَيَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامَّةً وَمَنِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إِلاَّ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُتَنَقِّلَةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي «رَأَى أَبُو سَعِيدٍ- رضي الله عنه- النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»،، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ بِأَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْبَادِيَةِ لِيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَفِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ- رضي الله عنه- عَلَامَتَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقَدْ تُرَى عَلَامَتُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيَالِي، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي قُلَابَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إِلاَّ بِانْتِقَالِهَا،
وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُتَنَقِّلَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهَا، وَيَجِدُّوا فِي الْعِبَادَةِ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِهَا كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ لِيَجْتَهِدُوا فِي جَمِيعِهَا، وَأَخْفَى الْأَجَلَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجِدَّ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ حَذَرًا مِنْهُمَا.
مَا يُشْتَرَطُ لِنَيْلِ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
8- نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِنَيْلِ فَضْلِهَا أَوْ عَدِمِ اشْتِرَاطِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنَالُ فَضْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلاَّ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَامَ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَنَلْ فَضْلَهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ: إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِنَيْلِ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعِلْمُ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ التَّعَبُّدُ فِي كُلِّ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى يَحُوزَ الْفَضِيلَةَ عَلَى الْيَقِينِ.
وَرَجَّحَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبَيْنِ الرَّأْيَ الثَّانِي وَقَالُوا: وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ حَالَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ فِي الْفَضْلِ إِذَا قَامَ بِوَظَائِفِهَا.
عَلَامَاتُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
9- قَالَ الْعُلَمَاءُ:
لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَامَاتٌ يَرَاهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَأَخْبَارَ الصَّالِحِينَ وَرِوَايَاتِهِمْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهَا فَمِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ وَأَنَّ مِنْ أَمَارَتِهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ».
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا».
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- (أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ إِلاَّ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
كِتْمَانُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا.
وَالْحِكْمَةُ فِي كِتْمَانِهَا كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ الْحَاوِي أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كِتْمَانُهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ، فَلَا يَأْمَنُ السَّلْبَ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنْ لَا يَأْمَنَ الرِّيَاءَ، وَمَنْ جِهَةِ الْأَدَبِ فَلَا
(
يَتَشَاغَلُ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ، وَمَنْ جِهَةٍ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعُ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ
وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ ( ( ( (لِابْنِهِ يُوسُفَ- عليه السلام- {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح منهي عنه 3)
نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -3الْعَاشِرُ: نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ:
19- نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ يَتَأَتَّى فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ- أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ.
ب- أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ زَوَاجًا صَحِيحًا.
ج- أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْجَدِيدُ دُخُولًا حَقِيقِيًّا بِأَنَّ تَغِيبَ حَشَفَتُهُ أَوْ قَدْرُهَا فِي فَرْجِهَا.
د- أَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ الْآخَرُ.
هـ- أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهَا:
الْأُولَى: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أُوتَى بِمُحِلٍّ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إِلاَّ رَجَمْتُهُمَا وَلِأَنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ أَوْ فِيهِ شَرْطٌ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، بَلْ أَغْلَظُ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ.
وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بِكُلِّ صُوَرِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمًا إِذَا كَانَ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ كَأَنْ يَقُولَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنْ أُحِلَّكِ لِلْأَوَّلِ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.
وَخَالَفَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى فَسَادَ النِّكَاحِ فِيهَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ دَوَامَ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ التَّأْقِيتَ.وَلِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَلِأَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا شُرِطَ فِيهِ الْإِحْلَالُ أَوْ لَا، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَيَدْخُلُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَحْتَ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَ النِّكَاحَ بِهَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ السَّكَنُ وَالتَّوَالُدُ وَالتَّعَفُّفُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَعْنَى إِلْحَاقِ اللَّعْنِ بِالْمُحَلِّلِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالْمُحَلَّلِ لَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي هَذَا النِّكَاحَ، لِقَصْدِ الْفِرَاقِ وَالطَّلَاقِ دُونَ الْإِبْقَاءِ وَتَحْقِيقِ وَمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الْإِثْمِ وَالثَّوَابِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُفْضِي إِلَى الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَكْرَهُهُ مِنْ عَوْدِهَا إِلَيْهِ- أَيِ الْمَرْأَةِ- مِنْ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إِيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ، إِذْ لَوْلَاهَا لَمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لِأَجْلِ الطَّلَقَاتِ
وَقَدْ أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ اللَّعْنَ الْوَارِدَ فِي شَأْنِ الْمُحَلِّلِ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا: أَنَّ اللَّعْنَ عَلَى مَنْ شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى التَّحْلِيلِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاللَّعْنُ عَلَى هَذَا الْحَمْلِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ كَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى عَسْبِ التَّيْسِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَيُقَرِّبُهُ أَنَّه- عليه الصلاة والسلام- سَمَّى الْمُحَلِّلَ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَزَّازِيِّ: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ نَفْسَهَا مِنَ الثَّانِي بِشَرْطِ أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُطْلِقَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ قَالَ الْإِمَامُ: النِّكَاحُ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ حَتَّى إِذَا أَبَى الثَّانِي طَلَاقَهَا أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَوَاطَأَ الْعَاقِدَانِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا ثُمَّ عَقَدَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لِخُلُوِّهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى طَلَاقَهَا لِغَيْرِ الْإِحْلَالِ أَوْ مَا لَوْ نَوَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا شُرِطَ لَا بِمَا قُصِدَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَكَانَ مِسْكِينٌ أَعْرَابِيٌّ يَقْعُدُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي امْرَأَةٍ تَنْكِحُهَا فَتَبِيتَ مَعَهَا اللَّيْلَةَ، فَتُصْبِحَ فَتُفَارِقَهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ لَكَ فَارِقْهَا، فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى، وَاذْهَبْ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَتَوْهُ وَأَتَوْهَا، فَقَالَتْ: كَلِّمُوهُ أَنْتُمْ جِئْتُمْ بِهِ، فَكَلَّمُوهُ، فَأَبَى وَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: الْزَمِ امْرَأَتَكَ فَإِنْ رَابُوكَ بِرَيْبٍ فَائْتِنِي، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَشَتْ فَنَكَّلَ بِهَا، ثُمَّ كَانَ يَغْدُو إِلَى عُمَرَ وَيَرُوحُ فِي حُلَّةٍ فَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ فَقَدْ أَمْضَى عُمَرُ- رضي الله عنه- هَذَا النِّكَاحَ وَلَمْ يَرَ فِيهِ بَأْسًا حَيْثُ تَقَدَّمَ فِيهِ الشَّرْطُ عَلَى الْعَقْدِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- نَكَّلَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي سَفَّرَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّ الرَّجُلَ الْمُحَلِّلَ مَأْجُورٌ فِيهِ إِذَا فَعَلَهُ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، لَا مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا إِلاَّ أَنَّ السُّرُوجِيَّ أَوْرَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، لِأَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، أَيْ فَيَصِيرُ شَرْطُ التَّحْلِيلِ كَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُفْسَخُ أَبَدًا بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمَحَلُّ فَسَادِ النِّكَاحِ إِذَا قَصَدَ الْمُحَلِّلُ تَحْلِيلَهَا مَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ كَشَافِعِيٍّ وَإِلاَّ كَانَ صَحِيحًا، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيُصَيِّرُ الْمَسْأَلَةَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ فَنَوَى الْمُحَلِّلُ فِي الْعَقْدِ غَيْرَ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ كَأَنْ يَقْصِدَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، أَوْ نَوَى إِمْسَاكَهَا وَعَدَمَ فِرَاقِهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ شَرْطِ التَّحْلِيلِ وَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَلَا أَنَّهُ نَوَاهُ.وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُحَلِّلَ إِنْ نَوَى التَّحْلِيلَ مَعَ نِيَّةِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَ الْإِعْجَابِ بِأَنْ نَوَى مُفَارَقَتَهَا إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ وَإِمْسَاكَهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا وَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدٌ: لِانْتِفَاءِ نِيَّةِ الْإِمْسَاكِ عَلَى الدَّوَامِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ النِّكَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ.
الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ:
أَوَّلًا: حِلُّ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ:
20- يَرَى مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ حَسَبَ الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالنَّسَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَاسِدًا فِي الصُّوَرِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فَيَثْبُتُ فِيهِ عِنْدَهُمْ سَائِرُ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَلَا الْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ الْفَاسِدِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَةَ الْمُحَلِّلِ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا.
ثَانِيًا: هَدْمُ الطَّلَقَاتِ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ يَهْدِمُ طَلَقَاتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الثَّلَاثَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَحْلِيلِ ف 12).
حَادِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمُحْرِمِ
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ.فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً أَوْ وَلِيًّا عَقَدَ النِّكَاحَ لِمَنْ يَلِيهِ أَوْ وَكِيلًا عَقَدَ النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِهِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ».وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوَّجُ» وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْعَقْدِ لَا بِحَالَةِ الْوَكَالَةِ، فَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا فَعَقَدَ النِّكَاحَ بَعْدَ حِلِّهِ مِنَ الْإِحْرَامِ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ لِوُقُوعِهِ حَالَ حِلِّ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ، وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا فَعَقَدَ الْوَكِيلُ النِّكَاحَ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ هُوَ أَوْ مُوَكِّلُهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْعَقْدِ.وَقِيلَ: يَصِحُّ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَنْعَزِلْ وَكِيلُهُ بِإِحْرَامِهِ، فَإِذَا حَلَّ الْمُوَكِّلُ كَانَ لِوَكِيلِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ لَهُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَقِيلَ يَنْعَزِلُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ غَيْرَهُ صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِدَوَاعِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ لِلْحَجِّ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ.
وَنِكَاحُ الْمُحْرِمِ بِصُوَرِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا عِنْدُ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَيُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ بِطَلْقَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُحْرِمَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ».وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شُغُلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ عَنْ إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِطْبَةٍ وَمُرَاوَدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ.
ثَانِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَنْكِحَ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَرْبَعًا وَمَا دُونَهُنَّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالِي: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَلِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ ابْنَةُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ، فَحَدَثَ أَنَّهَا عَاقِرٌ لَا تَلِدُ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَمَكَثَتْ حَيَاةَ عُمَرَ وَبَعْضَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنهما-، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ لِتُشْرِكَ نِسَاءَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ.
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ شَرْعًا، وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إِلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ.
وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ فَيَصِحُّ كَحَالِ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ أَصْدَقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَلْفًا لِيُضَيِّقَ بِهِنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيُشْرِكْنَهَا فِي مِيرَاثِهَا فَأُجِيزَ ذَلِكَ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ ثَبَتَ كَذَلِكَ صِحَّةُ الصَّدَاقِ وَاسْتِحْقَاقُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِرْثَ الْآخَرِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ مُضَارَّةً لِيُنْقِصَ إِرْثَ غَيْرِهَا وَأَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تَرِثْهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَالصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمَرِيضَ أَمِ الْمَرْأَةُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَا مَرِيضَيْنِ مَرَضًا مُخَوِّفًا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْمَوْتُ عَادَةً.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا هَذَا الْمَرَضَ وَالْآخَرُ صَحِيحًا.
فَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ أَذِنَ الْوَرَثَةُ أَوِ احْتَاجَ الْمَرِيضُ إِلَيْهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِهِ وَارِثًا.
وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ النِّكَاحُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ أَوْ أَذِنَ الْوَارِثُ وَهَذَا الَّذِي شَهَرَهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ- لَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَعًا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ مَا لَمْ يَصِحَّ الْمَرِيضُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى.وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا.
إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ الْمُتَزَوِّجُ فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ قَبْلَ فَسْخِ النِّكَاحِ- سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ- عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ: الْأَقَلُّ مِنَ الْمُسَمَّى مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ...وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ صَحَّ كَانَ لَهَا الْمُسَمَّى تَأْخُذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ مَبْدَءًا إِنْ مَاتَ، وَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِنْ صَحَّ.
أَمَّا إِذَا صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْهُمَا أَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ الصَّدَاقُ الَّذِي سَمَّى.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَيُّ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا مُخَوِّفًا حَالَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إِلاَّ أَنْ يُصِيبَهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى فِي ثُلُثِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَصَبَةِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ: إِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَإِلاَّ فَهُوَ صَحِيحٌ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَرَضِ الْمَوْتِ ف 21).
ثَالِثَ عَشَرَ: نِكَاحُ السِّرِّ:
أ- حَقِيقَةُ نِكَاحِ السِّرِّ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ هُوَ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ، أَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا نِكَاحَ السِّرِّ، إِذِ السِّرُّ إِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» مَفْهُومُهُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْإِظْهَارُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يُشْتَرَطْ إِظْهَارُهُ كَالْبَيْعِ.
وَأَخْبَارُ الْإِعْلَانِ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِثْلَ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» يُرَادُ بِهَا الِاسْتِحْبَابُ، بِدَلِيلِ أَمْرِهِ فِيهَا بِالضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالصَّوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِعْلَانُ.أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالْإِعْلَانِ فِي النِّكَاحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِعْلَانُهُ بِالشَّهَادَةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَكْتُومًا مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودٌ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلَا مِنْ بَيِّنَةٍ وَشُهُودٍ؟ وَلِأَنَّ إِعْلَانَ النِّكَاحِ وَالضَّرْبَ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَاعْتُبِرَ حَالَةَ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَالْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْهُ الشُّهُودُ بِدَلِيلِ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ، وَلَا أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ طَرِيقَتَانِ:
الْأُولَى: طَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ وَهِيَ اسْتِكْتَامُ غَيْرِ الشُّهُودِ كَمَا لَوْ تَوَاصَى الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى الشُّهُودَ بِذَلِكَ أَمْ لَا.
الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ ابْنِ عَرَفَةَ وَهِيَ مَا أَوْصَى الشُّهُودَ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى غَيْرَهُمْ عَلَى كَتْمِهِ أَمْ لَا.
وَلَا بُدَّ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي هُوَ الزَّوْجَ سَوَاءٌ انْضَمَّ لَهُ غَيْرُهُ كَالزَّوْجَةِ أَمْ لَا.
وَهَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْكِتْمَانُ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ كَأَنْ يَأْخُذَ الظَّالِمُ مَثَلًا مَالًا أَوْ غَيْرَهُ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى كَتْمِهِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ نِكَاحَ سِرٍّ أَيْضًا إِذَا كَانَ الْإِيصَاءُ بِكَتْمِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ.
ب- حُكْمُ نِكَاحِ السِّرِّ:
25- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَاءً عَلَى حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحِ ف 16).
وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ حَسَبَ حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُهُ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا يُفْسَخُ أَيْضًا إِذَا دَخَلَ وَلَمْ يُطِلْ، فَإِنْ دَخَلَ وَطَالَ لَمْ يُفْسَخْ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: يُفْسَخُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالطُّولِ، وَالطُّولُ فِي وَقْتِ نِكَاحِ السِّرِّ يَعُودُ إِلَى الْعُرْفِ، لَا بِوِلَادَةِ الْأَوْلَادِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ الظُّهُورُ وَالِاشْتِهَارُ عَادَةً.
وَالْفَسْخُ فِيهِ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَنْكِحَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَيُعَاقَبُ الزَّوْجَانِ فِي نِكَاحِ السِّرِّ إِنْ دَخَلَا وَلَمْ يُعْذَرَا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونَا مَجْبُورَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلَا أَوْ دَخَلَا وَلَكِنْ عُذِرَا بِالْجَهْلِ فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمَا، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ إِذَا كَانَا مَجْبُورَيْنِ وَحِينَئِذٍ الْعِقَابُ عَلَى وَلِيِّهِمَا.
وَيُعَاقَبُ كَذَلِكَ الشُّهُودُ إِنْ حَصَلَ دُخُولٌ وَلَمْ يُعْذَرُوا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْكِتْمَانِ.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ نَكَحَ سِرًّا وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: إِنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَاعْتَدَّتْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَعُوقِبَ الشَّاهِدَانِ بِمَا كَتَمَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا حِينَ تَنْقَضِي عَدَّتُهَا نَكَحَهَا عَلَانِيَةً...وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا صَدَاقَ لَهَا وَنَرَى أَنْ يُنَكِّلَهُمَا الْإِمَامُ بِعُقُوبَةٍ وَالشَّاهِدَيْنِ بِعُقُوبَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ نِكَاحُ السِّرِّ وَنِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَعَ صِحَّتِهِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَسَرُّوهُ أَوْ تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَّ النِّكَاحُ.وَمِمَّنْ كَرِهَ نِكَاحَ السِّرِّ الْمُوصَى فِيهِ بِالْكِتْمَانِ عُمَرُ- رضي الله عنه- وَعُرْوَةُ- رضي الله عنهما- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.وَبِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.وَإِلَى عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ السِّرِّ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ الشُّهُودَ بِكِتْمَانِهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
رَابِعَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ:
26- مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ).
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (وزارة 2)
وِزَارَةٌ-2شُرُوطُ وِزَارَةِ التَّنْفِيذِ:
17- يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالرُّشْدُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكِفَايَةُ فِيمَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ مُبَلِّغٍ وَمُنَفِّذٍ لِأَوَامِرِ الْإِمَامِ أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ، تَتَعَلَّقُ بِعَمَلِهِ، وَهِيَ:
أ- الثِّقَةُ: يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا، بِحَيْثُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ مِلَاكَ أَمْرِهِ إِخْبَارُ الْجُنْدِ وَالرَّعَايَا بِمَا يُنَفِّذُهُ الْإِمَامُ، وَهَذَا يَسْتَدْعِي الْوَرَعَ وَالْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ.
ب- الْأَمَانَةُ: وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَخُونَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَغُشَّ فِيمَا اسْتُنْصِحَ فِيهِ.
ج- صِدْقُ اللَّهْجَةِ: حَتَّى يُوثَقَ بِخَبَرِهِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ، وَيُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا يُنْهِيهِ.
د- قِلَّةُ الطَّمَعِ: حَتَّى لَا يَرْتَشِيَ فِيمَا يَلِي، وَلَا يَنْخَدِعَ فَيَتَسَاهَلَ فِي عَمَلِهِ.
هـ- الْمُسَالَمَةُ وَعَدَمُ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ، فَيَسْلَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ عَدَاوَةٍ وَشَحْنَاءَ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَصُدُّ عَنِ التَّنَاصُفِ، وَتَمْنَعُ مِنَ التَّعَاطُفِ.
و- الذِّكْرُ وَعَدَمُ النِّسْيَانِ، لِيَكُونَ ذَكُورًا لِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَمَا يُؤَدِّيهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ وَعَلَيْهِ.
ز- الذَّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ وَالْكِيَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ الْأَخْبَارَ وَالْأَعْبَاءَ وَالْأَعْمَالَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْرَاكِ مَعَانِيهَا لِيَنْقُلَهَا، فَلَا يُؤْتَى عَنْ غَفْلَةٍ وَذُهُولٍ، وَلَا تُدَلَّسُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَتَشْتَبِهُ، وَلَا تُمَوَّهُ عَلَيْهِ فَتَلْتَبِسُ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ اشْتِبَاهِهَا عَزْمٌ، وَلَا يَصْلُحُ مَعَ الْتِبَاسِهَا حَزْمٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَطِنًا لَمْ يُوثَقْ بِفَهْمِهِ لِمَا يُؤَدِّيهِ، وَلَا يُؤْمَنُ خَطَؤُهُ فِيمَا يُبَلِّغُهُ وَيُؤَدِّيهِ.
ح- أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَيُخْرِجَهُ الْهَوَى عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَيَتَدَلَّسَ عَلَيْهِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ؛ لِأَنَّ الْهَوَى خَادِعُ الْأَلْبَابِ، وَصَارِفٌ لَهُ عَنِ الصَّوَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي، وَيُصِمُّ».
ط- الْحُنْكَةُ وَالتَّجْرِبَةُ وَالْخِبْرَةُ: وَهَذَا الشَّرْطُ إِذَا كَانَ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ مُشَاوِرًا فِي الرَّأْيِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْحُنْكَةِ وَالتَّجْرِبَةِ الَّتِي تُوصِلُ إِلَى صِحَّةِ الرَّأْيِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ فِي التَّجَارِبِ خِبْرَةً بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، فَإِنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الرَّأْيِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَإِنْ كَانَ يَكْتَسِبُهُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ.
ي- الذُّكُورَةُ: يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُومَ بِوِزَارَةِ التَّنْفِيذِ امْرَأَةٌ- وَإِنْ كَانَ خَبَرُهَا مَقْبُولًا- لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْوِزَارَةُ مَعْنَى الْوِلَايَاتِ الْمَصْرُوفَةِ عَنِ النِّسَاءِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» وَلِأَنَّ فِيهَا مِنْ طَلَبِ الرَّأْيِ وَثَبَاتِ الْعَزْمِ مَا تَضْعُفُ عَنْهُ النِّسَاءُ، وَمِنَ الظُّهُورِ فِي مُبَاشَرَةِ الْأُمُورِ مَا هُوَ عَلَيْهِنَّ مَحْظُورٌ.
ك- الْإِسْلَامُ: وَهَذَا شَرْطٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَجَازَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى تَعْيِينَ الذِّمِّيِّ فِي وِزَارَةِ التَّنْفِيذِ دُونَ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، فَقَالَا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَزِيرُ التَّفْوِيضِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ يَتَصَرَّفُ فِي حُدُودِ مَا أُمِرَ بِتَنْفِيذِهِ مِنَ الْإِمَامِ، عَلَى عَكْسِ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ الَّذِي يُفَوَّضُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَفْقَ اجْتِهَادِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَنَقَلَ أَبُو يَعْلَى عَنِ الْخِرَقِيِّ فَقَالَ: وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ إِعْطَاءَهُمْ جُزْءًا مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانُوا مِنَ الْعَامِلِينَ فِيهَا، فَيُعْطَوْا بِحَقِّ مَا عَمِلُوا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وِلَايَتِهِمْ وَعِمَالَتِهِمْ.
وَخَالَفَهُمُ الْجُوَيْنِيُّ وَقَالَ: فَإِنَّ الثِّقَةَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ مَوْثُوقًا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَتَصَارِيفِ أَحْوَالِهِ، وَرِوَايَتُهُ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُسْنِدُهُ وَيَعْزُوهُ إِلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ؟
وَاسْتَدَلَّ الْجُوَيْنِيُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} وقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} وقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- اشْتَدَّ نَكِيرُهُ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا.
قَالَ أَبُو يَعْلَى: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سُئِلَ: نَسْتَعْمِلُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ الْخَرَاجِ؟ فَقَالَ: لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ افْتِتَاحُ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّفِيرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالرَّعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِ فِيمَا يَقَعُ، فَهُوَ مُجَرَّدُ مُسْتَشَارٍ مُبَلِّغٍ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْوِلَايَةِ
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَفْصِلَ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ نَظَرُهُ عَلَى الْأَدَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْأَدَاءِ عَنْهُ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّنْفِيذِ الْحُرِّيَّةُ، فَتَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالْوِلَايَةِ، وَلَا بِتَقْلِيدِ الْوَظَائِفِ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْصِبِ عَبْدًا مَمْلُوكًا، فَإِنَّ الَّذِي يُلَابِسُهُ لَيْسَ وِلَايَةً، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْبَاءٌ وَإِخْبَارٌ، وَالْمَمْلُوكُ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ الْإِخْبَارِ.
انْتِهَاءُ الْوِزَارَةِ بِالْعَزْلِ، وَالتَّغْيِيرِ:
18- إِنَّ تَعْيِينَ الْوَزِيرِ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَنْ يَفْسَخَهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ، وَوَزِيرَ التَّنْفِيذِ، وَأَنْ يُغَيِّرَهُمَا بِآخَرَ، لِسَبَبٍ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، مَا دَامَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْأُمَّةِ، وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَعْزِلَ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ الَّذِي عَيَّنَهُ.
كَمَا يَحِقُّ لِكُلٍّ مِنْ وَزِيرَيِ التَّفْوِيضِ وَالتَّنْفِيذِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، سَوَاءٌ كَانَ لِسَبَبٍ أَمْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ.
كَمَا يَحِقُّ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَزِيرَ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ، أَوْ فَقَدَ مُقَوِّمَاتِ تَعْيِينِهِ، أَوْ قَصَّرَ فِي وَاجِبَاتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْإِمَامِ، فَقَدْ نَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ حَقَّانِ: الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، وَالَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُهُ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْإِمَامَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا جَرْحٌ فِي عَدَالَتِهِ وَالثَّانِي نَقْصٌ فِي بَدَنِهِ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَزِيرِ.
كَمَا يَحِقُّ لِلْخَلِيفَةِ عَزْلُ الْوَزِيرِ وَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْأُمَّةِ يُقَدِّرُهَا الْإِمَامُ، أَوْ وَجَدَ الْأَكْفَأَ وَالْأَحْسَنَ لِإِدَارَةِ الدَّوْلَةِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا جُزْءٌ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِمَامِ فِي مُرَاقَبَةِ الْوَزِيرِ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَمُؤَاخَذَتِهِ إِنْ أَسَاءَ أَوْ ظَلَمَ أَوْ قَصَّرَ، وَعَزْلِهِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَيَجِبُ عَزْلُ الْوَزِيرِ لِخِيَانَةٍ ظَهَرَتْ، فَيُعْزَلُ وَيُعَاقَبُ، كَمَا يُعْزَلُ لِتَقْصِيرٍ، أَوْ لِعَجْزٍ، وَيُقَلَّدُ عَمَلًا أَسْهَلَ، كَمَا يُعْزَلُ لِظُلْمٍ أَوْ تَجَاوُزٍ لِحَقٍّ أَوْ لِينٍ وَقِلَّةِ هَيْبَةٍ، أَوْ يُضَمُّ لَهُ مَنْ يُعَاوِنُهُ وَتَتَكَامَلُ بِهِ الْقُوَّةُ وَالْهَيْبَةُ، أَوْ يُعْزَلُ لِقُصُورِ الْعَمَلِ عَنْ كَفَاءَتِهِ، وَيُرَقَّى إِلَى عَمَلٍ أَعْلَى.
* * *
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (وطء 3)
وَطْءٌ -3د- حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ:
42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ كَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَتَق ف4- 6، قَرَن ف3، طَلَاق ف93).
هـ- حُكْمُ امْتِنَاعِ الرَّجُلِ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ إِيلَاءً أَوْ مُظَاهَرَةً:
أَوَّلاً: الْإِيلَاءُ:
43- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُؤْلِي يُمْهَلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُطَالَبُ بِالْوَطْءِ فِيهِنَّ، قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجَاهِلِيِّينَ كَانُوا يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمُ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
44- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُولِي إِمَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ، حَتَّى مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ.
فَإِنْ أَصَرَّ الْمُولِي عَلَى عَدَمِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ الْإِيلَاءِ، كَانَ إِصْرَارُهُ هَذَا دَاعِيًا إِلَى الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ إِضْرَارًا بِهَا، وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَأْمُرَ الرَّجُلَ بِالْفَيْءِ- أَيْ بِالرُّجُوعِ عَنْ مُوجَبِ يَمِينِهِ- فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي.وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي وَلَا حُكْمِهِ بِتَطْلِيقِهَا، وَذَلِكَ جَزَاءٌ لِلزَّوْجِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِزَوْجَتِهِ وَإِيذَائِهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا الْمَشْرُوعِ.
أَمَّا إِذَا وَطِئَهَا قَبْلِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ، وَيَنْحَلُّ الْإِيلَاءُ.
(ر: إِيلَاء ف16- 19).
ثَانِيًا: الظِّهَارُ:
45- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إِذَا كَانَ التَّكْفِيرُ بِالْإِطْعَامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي (ظِهَار ف22- 23).كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إِذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ.(ر: كَفَّارَة ف64).
46- وَلِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ
امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ سيُطَلِّقَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بَتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا.فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ حَالَةِ عَجْزِ الْمُظَاهِرِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَحَالَةِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، فَقَالُوا: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلَاقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْحَالِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلَاقِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا فِي الْإِيلَاءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُولِي مُظَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ شَرْعًا، أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ، وَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُكَفِّرَ وَتَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ، فَإِنْ طَلَبَ الْإِمْهَالَ لِيَطْلُبَ رَقَبَةً يُعْتِقُهَا أَوْ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ وَيُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ، إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ- أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُظَاهِرَ قَادِرٌ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْمُدَافَعَةُ لَمْ يُمْهَلْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْهَلُ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا.
وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْمُظَاهِرِ الصِّيَامَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْعِتْقِ، وَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ لِيَصُومَ- لَمْ يُمْهَلْ حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ، بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يُطَلِّقَ.
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنَ الصِّيَامِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ عُرْفًا أُمْهِلَ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَعَاذِيرِ.
و- عَدَمُ تَمْكِينِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا:
47- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَلَّمَ زَوْجَتَهُ مَهْرَهَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلاً- لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طَلَبَهُ- وَقَبَضَتِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا رِضًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فِي الْبَيْعِ، فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا، لِانْعِدَامِ الْإِسْقَاطِ مِنْ جِهَتِهِ، وَرِضَاهَا بِالسُّقُوطِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا قَوْلَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً بِأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا الدُّخُولَ بِهَا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَوْلَانِ.
48- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُعَجَّلاً أَوْ بَعْضُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهَا الزَّوْجُ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ، فَهَلْ يَحِقُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؟
ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا الْمُعَجَّلَ، أَوِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَلًّا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا، كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، فِلِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْمُعَجَّلِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَتْلَفُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَهْرِ عَلَيْهَا، لَمْ يُمْكِنْهَا اسْتِرْجَاعُ عِوَضِهَا، فَلِذَلِكَ مَلَكَتِ الِامْتِنَاعَ مِنَ التَّسْلِيمِ حَتَّى تَقْبِضَهُ.وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
أَثَرُ الْوَطْءِ فِي سِقُوُطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّلَ صَدَاقِهَا:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي مَنْعِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّلَ مَهْرِهَا بَعْدَمَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا بِرِضَاهَا فَوَطِئَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، لَا بِالْمُسْتَوْفَى فِي الْوَطْأَةِ الْأُولَى خَاصَّةً، فَكَانَتْ كُلُّ وَطْأَةٍ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَتَسْلِيمُ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْبَاقِي، كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْبَاقِي لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّلَ، كَذَا هَذَا.وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالثَّانِي: لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّسْلِيمِ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنْ حَبْسِ نَفْسِهَا، ذَلِكَ أَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا فِي الِابْتِدَاءِ رِضًا مِنْهَا بِبَقَاءِ الْمَهْرِ فِي ذِمَّتِهِ، وَامْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ فِيمَا تَرَكَتْهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ الْبَائِعُ فَسَلَّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ وَحَبْسُهُ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَسْلِيمُ رِضًا اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حَقُّ الْإِمْسَاكِ، قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ اخْتَصَّتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ مَا بَعْدَهُ تَبَعًا، وَقَدْ رَفَعَ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَهُ فِي حَقِّ تَبَعِهِ كَالْإِحْلَالِ.
حُلُولُ أَجَلِ الْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ:
50- إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّلُ فِي حُكْمِ الْمُعَجَّلِ، وَيَكُونُ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَمْكِينَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، أَمْ يُعْتَبَرُ حَقُّهَا فِي الِامْتِنَاعِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِتَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ الْحُلُولِ، فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْحُلُولِ، لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ.
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِلِ، وَالْعَاجِلُ تَمْنَعُهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا إِيَّاهُ.إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ الدُّخُولَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلَوْ شَرَطَهُ وَرَضِيَتْ لَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ.
تَنَازُعُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْبَدْءِ بِالتَّسْلِيمِ:
51- إِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَدَاءَةِ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلاً؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَلِ بِالْعَقْدِ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ الْبَدَلُ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا.وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلزَّوْجَةِ تَمْكِينَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا مِنْهُ رُبْعَ دِينَارٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، بِأَنَّهُ يُجْبَرُ الزَّوْجُ أَوَّلاً عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلاً خَطَرَ إِتْلَافِ الْبُضْعِ، وَالِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ مَعًا، بَأَنْ يُؤْمَرَ الزَّوْجُ بِوَضْعِ الصَّدَاقِ عِنْدَ عَدْلٍ، وَهَذَا الْعَدْلُ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الزَّوْجِ وَلَا عَنِ الزَّوْجَةِ، بَلْ هُوَ نَائِبُ الشَّرْعِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، وَتُؤْمَرُ الزَّوْجَةُ بِالتَّمْكِينِ، فَإِذَا مَكَّنَتْ سَلَّمَ الْعَدْلُ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، وَبِذَلِكَ تُفْصَلُ الْخُصُومَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَفِعْلِ الْأَحْوَطِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا أَحْوَطُ الْأُمُورِ فِيهَا، وَأَقْطَعُ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ بَادَرَ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا أُجْبِرَ صَاحِبُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ.
ز- اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ عَدَمِ حِلِّهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ، حَالَةِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ حِلِّ الْوَطْءِ، وَحَالَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ فِعْلِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
52- إِذَا اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ نَفْيَ حِلِّ الْوَطْءِ بَأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ مَعًا، وَذَلِكَ لِإِخْلَالِ ذَلِكَ الشَّرْطِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ وَلِلتَّنَاقُضِ، إِذْ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلزَّوَاجِ مَعْنًى، بَلْ يَكُونُ كَالْعَقْدِ الصُّورِيِّ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ صَحِيحٌ.إِذِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ دُونَهُ. 53- أَمَّا إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَدَمُ الْوَطْءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحْنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ، فَلِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَيَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بِالْعَقْدِ لَوْلَا اشْتِرَاطُهُ، وَأَمَّا بَقَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُبْطِلُهُ؛ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ دُونَهُ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَقِيلَ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.وَقِيلَ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، أَوْ لَا يَطَأَهَا إِلاَّ نَهَارًا أَوْ إِلاَّ مَرَّةً مَثَلاً، بَطَلَ النِّكَاحُ إِنْ كَانَ الِاشْتِرَاطُ مِنْ جِهَتِهَا، لِمُنَافَاتِهِ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ تَرْكُهُ، وَالتَّمْكِينُ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَرْكُهُ.
ح- الْعَزْلُ:
54- الْمُرَادُ بِالْعَزْلِ: أَنْ يُنَحِّيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنِ الرَّحِمِ، فَيُلْقِيَهُ خَارِجَ الْفَرْجِ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ عَزْلِ السَّيِّدِ عَنْ أَمَتِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَذِنَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ؛ لِأَنَّ إِنْجَابَ الْوَلَدِ حَقُّهُ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهَا.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ عَنِ السُّرِّيَّةِ، أَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَزَل ف33- 35) ط- الْغِيلَةُ:
55- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُرْضِعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ».
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ: الْغِيلَةُ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ: وَطْءُ الْمُرْضِعِ، كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَمْ لَا، وَقِيلَ بِقَيْدِ الْإِنْزَالِ.
(ر: غِيلَة ف7)
ي- وَطْءُ الْحَامِلِ:
56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَطْءِ الْحَامِلِ:
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ إِذَا كَانَتْ حُبْلَى، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرًّا، فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ».
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حِلِّ وَطْءِ الْحَامِلِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَنِ امْرَأَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- : لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- : إِنْ كَانَ لِذَلِكَ فَلَا، مَا ضَارَّ ذَلِكَ فَارِسَ وَلَا الرُّومَ».
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ وَطْءِ الْحَبَالَى، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَارِسَ وَالرُّومَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ».
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ، أَوْ حَتَّى ذَكَرَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَهُ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ.
وَفِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ مَا قَدْ حَظَرَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْحَامِلِ.
آثَارُ الْوَطْءِ:
أ- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَأْكِيدِ لُزُومِ كُلِّ الْمَهْرِ:
57- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ كَمَالِ الْمَهْرِ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَتَقَرَّرُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى كَامِلاً؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَقْصُودَ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عِوَضُهُ.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ هَاهُنَا الْأَمْنُ مِنْ سُقُوطِ كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضِهِ بِالتَّشْطِيرِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّهُ بِالدُّخُولِ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ وَهُوَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، يَتَأَكَّدُ بِهِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا، لِكَوْنِهِ عَلَى عُرْضَةِ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ، وَبِتَسْلِيمِهِ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ عُرْضَةً أَنْ يَسْقُطَ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ أَوِ الِارْتِدَادِ، وَأَنْ يَتَنَصَّفَ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِالْوَطْءِ تَأَكَّدَ لُزُومُ تَمَامِهِ.
ب- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ:
58- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.إِذِ الْمَسِيسُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِدَّة ف6) ج- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي الْفَيْءِ مِنَ الْإِيلَاءِ:
59- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَطْءَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَكُونُ فَيْئًا، وَيَنْحَلُّ بِهِ الْإِيلَاءُ.
(ر: إِيلَاء ف20- 21)
د- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فِي الزِّنَا:
60- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ- إِلَى جَانِبِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ- الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُلِ، عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.
(ر: إِحْصَان ف6- 11) هـ- ثُبُوتُ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا بِالْوَطْءِ:
61- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَصِحُّ فِي الْعِدَّةِ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ مُطَلَّقَتِهِ: «رَاجَعْتُكِ» أَوْ «رَاجَعْتُ زَوْجَتِي» إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَاطَبَةٍ، وَكَذَا بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى.
أَمَّا الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ فَتَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَذَا الْمَالِكِيَّةُ، بِشَرْطِ قَصْدِ الزَّوْجِ إِلَى الِارْتِجَاعِ؛ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَجْعَة ف12- 18) ز- أَثَرُ الْوَطْءِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ:
62- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ.
فَأَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ لِإِيقَاعِهِ، وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَنَعَ الشَّرْعُ إِيقَاعَهُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ.فَالْحَلَالَانِ: أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلاً مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا، وَالْحَرَامَانِ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهَذَا فِي طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا.أَمَّا مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا، فَيَجُوزُ طَلَاقُهَا حَائِلاً وَطَاهِرًا.
وَعَلَى ذَلِكَ كَانَتْ صِفَةُ طَلَاقِ السُّنَّةِ: مَا وَقَعَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِيهِ.أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُحْدِثًا لِطَلَاقٍ بِدْعِيٍّ مُوجِبٍ لِإِثْمِ فَاعِلِهِ فِي قَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أَمَّا عَنْ وُقُوعِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ الَّذِي صَدَرَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَكَانَ الْمُطَلِّقُ عَاصِيًا.لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُرَاجِعَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً».وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ سَالِمٌ: «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ! وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ، كَطَلَاقِ الْحَامِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ، بَلْ هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ، وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ، أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ، فَلَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِهِ مَحِلَّهُ.
الثَّانِي: يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ حَزْمٍ وَالشَّوْكَانِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا بَاطِلاً.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي قُبُلِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا بَطَلَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ، كَالْوَكِيلِ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ أَمَرَهُ مُوَكِّلُهُ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِهِ.
ح- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا:
63- الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِحَدِّ الزِّنَا- كَمَا قَالَ التَّمْرَتَاشِيُّ- هُوَ إِدْخَالُ قَدْرِ حَشَفَةٍ مِنْ ذَكَرِ مُكَلَّفٍ نَاطِقٍ طَائِعٍ فِي قُبُلِ مُشْتَهَاةٍ، خَالٍ عَنْ مِلْكِ الْوَاطِئِ وَشُبْهَتِهِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (زِنى ف1، ف7، 11، 28)
ط- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ:
64- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ.
(ر: غُسْل ف9- 10، إِكْسَال ف4)
ي- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِزَوْجِهَا:
65- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
.وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَطْئًا يُوجَدُ فِيهِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ؛ لِلْآيَةِ.
وَيَرَى سَعِيدُ بْنُ الْمَسَيَّبِ أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِحْلَالَهَا لِلْأَوَّلِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ.
التَّفْصِيلُ فِي (تَحْلِيل ف6- 9، عُسَيْلَة ف2).
ك- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ:
66- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ- عَلَى التَّأْبِيدِ- أُمُّ زَوْجَتِهِ (وَإِنْ عَلَتْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ) بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا أَمْ لَمْ يَطَأْهَا، وَكَذَلِكَ زَوْجَاتُ الْأَبْنَاءِ (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ابْنُ صُلْبِهِ وَابْنُهُ مِنَ الرِّضَاعِ وَابْنُ ابْنِهِ وَابْنُ ابْنَتِهِ) وَزَوْجَاتُ الْآبَاءِ (وَيَتَنَاوَلُ آبَاءَ الْآبَاءِ وَآبَاءَ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا) سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
أَمَّا الرَّبَائِبُ- جُمْعُ رَبِيبَةٍ- وَهِيَ: بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا فِي حِجْرِهِ غَالِبًا، فَحُرْمَتُهُنَّ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْأُمِّ، وَالدُّخُولِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يُثْبُتِ التَّحْرِيمُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَبِيبَةٍ ف2، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ف9)
ل- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ:
(1) وَطْءُ الْحَائِضِ:
67- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ، وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ فِي وَسَطِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ».
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ الْحَائِضَ، وَهُوَ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، أَيُّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفٍ دِينَارٍ».
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَتَرْكُ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَالرَّابِعُ: لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ: إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
(2) الْوَطْءُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ:
68- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ عَلَى مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ الْآخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَهُوَ الزَّبِيلُ، قَالَ: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ.قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ قَضَائِهَا، فَلَا تَجِبُ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ يَتَعَيَّنُ بِهِ، وَالْقَضَاءُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، وَالصَّلَاةُ لَا يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
(ر: صَوْم ف68، كَفَّارَة ف20 وَمَا بَعْدَهَا) (3) الْوَطْءُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ:
69- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ.وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَاةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَدَنَةٌ.
أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَلَوْ جَامَعَهَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجَزَاءِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ.
(ر: إِحْرَام ف 170- 175)
م- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِبْطَالِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ:
(1) أَثَرُهُ فِي إِبْطَالِ الصَّوْمِ:
70- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ عَامِدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ، فَأَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ.وَقَدْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَرَّمَهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ يُفْسِدْهُ كَالْأَكْلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَطَاءٌ: يَفْسُدُ صَوْمُهُ كَالْعَامِدِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَاسْتَوَى فِيهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ.
(2) أَثَرُهُ فِي إِبْطَالِ الْحَجِّ:
71- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِذَا وَقَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ الِاسْتِمْرَارُ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ إِلَى نِهَايَتِهِ، ثُمَّ قَضَاؤُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.
أَمَّا إِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَفْسُدُ.
التَّفْصِيلُ فِي (إِحْرَام ف170- 175).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-المعجم الغني (جَرِيدٌ)
جَرِيدٌ(جَرِيدَةٌ )- الجمع: جَرَائِدُ. [جرد]:1- "جَرِيدُ النَّخْلَةِ": قُضْبَانُهُا الطَّوِيلَةُ الْمُجَرَّدَةُ مِنْ أَوْرَاقِهَا.
2- "يَقْرَأُ الجَرِيدَةَ فِي كُلِّ صَبَاحٍ": صَحِيفَةٌ إِخْبَارِيَّةٌ تُطْبَعُ مِنْهَا عَشَرَاتُ النُّسَخِ، بِهَا مَعْلُومَاتٌ وَأَخْبَارٌ وَتَحَالِيلُ سِيَاسِيَّةٌ وَاقْتِصَادِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ. "تُبَاعُ بِالكِشْكِ جَرَائِدُ يَوْمِيَّةٌ وَأُسْبُوعِيَّةٌ وَطَنِيَّةٌ وَأَجْنَبِيَّةٌ".
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
32-المعجم الغني (شَيْطَنَةٌ)
شَيْطَنَةٌ- [شيطن]، (مصدر: شَيْطَنَ)، "قَامَ بِأَعْمَالِ الشَّيْطَنَةِ": بِأَعْمَالِ الشَّغَبِ. "يَدُورُ الْحَديثُ فِي أَخْبَارِ الصِّحَّةِ وَأَخْبَارِ الأَقَارِبِ وَمَصَائِبِ الوَقْتِ وَشَيْطَنَةِ الأَوْلَادِ وَالبَنَاتِ". (محمد برادة)الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
33-المعجم الغني (مَعْلُومٌ)
مَعْلُومٌ(مَعْلُومَةٌ )- الجمع: (مَعْلُومَاتٌ ). [علم]، (اسم مفعول مِن: عَلِمَ):1- "أَمْرٌ مَعْلُومٌ": مَعْرُوفٌ. "مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ... " "الْمَعْلُومُ والْمَجْهُولُ".
2- "فِعْلٌ مَعْلُومٌ". (في النحو): مَا كَانَ فَاعِلُهُ مَعْرُوفًا.
3- "زَوَّدَهُ بِمَعْلُومَاتٍ قَيِّمَةٍ": بِحَقَائِقَ وأَخْبَارٍ ومَعَارِفَ تُسَاعِدُ عَلَى تَوْضِيحِ الأَشْيَاءِ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
34-تاج العروس (نبأ)
[نبأ]: النَّبَأُ مُحَرَّكَةً الخَبَرُ وهما مترادفانِ، وفرَّق بينهما بعضٌ، وقال الراغبُ: النَّبأُ: خَبَرٌ ذُو فائدةٍ عظيمةٍ، يَحْصُل بهِ عِلْمٌ أَو غَلَبَةُ ظَنُّ، ولا يُقال للخَبَر في الأَصْلِ نَبَأٌ حتى يَتَضَمَّنَ هذه الأَشياءَ الثلاثةَ [ويَكونَ صادِقًا]، وحقُّه أَنْ يَتَعرَّى عن الكَذِب، كالمُتَواتِر وخَبَرِ اللهِ وخَبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولتَضَمُّنِه معنى الخَبَرِ يقال: أَنْبَأتُه بِكذا، ولتَضَمنُّه معنى العِلْمِ يقال: أَنْبَأْتُه كذا. قال: وقوله تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآية، فيه تَنْبِيه على أَنّ الخَبرَ إِذا كان شَيئًا عَظيمًا فحقُّه أَن يُتَوَقَّفَ فيه، وإِن عُلِمَ وغَلَبَ على صِحَّته الظنُّ حتى يُعادَ النَّظَرُ فيه ويَتَبَيَّن الجمع: أَنباءٌ كخَبَرٍ وأَخبارٍ، وقد أَنْبَأه إِيَّاه إِذا تضمَّن مَعْنَى العِلْم، وأَنبأَ بِه إِذا تَضَمَّن معنى الخَبَر؛ أَي أَخْبَره، كنَبَّأَهُ مشدَّدًا، وحَكى سيبويهِ: أَنا أَنْبُؤُك، على الإِتباع. ونقل شيخُنا عن السَّمِين في إِعرابه قال: أَنْبَأَ ونَبَّأَ وأَخْبَرَ، متى ضُمِّنَتْ معنى العِلْم عُدِّيَت لِثَلاثةٍ وهي نِهايَةُ التَّعَدِّي، وأَعلمته بكذا مُضَمَّنٌ معنى الإِحاطة، قيل: نَبَّأْتُه أَبلَغُ من أَنْبَأْتُه، قال تعالى: {مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} لم يقل أَنْبَأَني، بل عَدَل إِلى نَبَّأَ الذي هو أَبلغُ، تَنْبِيهًا على تَحْقيقِه وكَوْنِه مِن قِبَلِ الله تعالى. قاله الراغب. واسْتَنْبَأَ النَّبأَ: بَحَثَ عنه، ونَابَأَه ونَابَأْتُه أَنبؤة وأَنْبَأَته أَي أَنْبَأَ كُلٌّ منهما صاحِبَه قال ذو الرّمَّة يهجو قومًا:زُرْقُ العُيُونِ إِذَا جَاوَرْتَهُمْ سَرَقُوا *** مَا يَسْرِقُ العَبْدُ أَوْ نَابَأْتَهُمْ كَذَبُوا
والنَّبِيءُ بالهمز مكِّيَّة، فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِل، كذا قاله ابنُ بَرِّيّ، هو المُخْبِرُ عن اللهِ تعالى فإِن الله تعالى أَخبره بتوحيده، وأَطْلَعَه على غَيْبه وأَعلمه أَنه نبيُّه. وقال الشيخ السنوسي في شَرْحِ كُبْرَاه: النَّبِيءُ، بالهمز، من النَّبَإِ؛ أَي الخبر لأَنه أَنبأَ عَن الله أَي أَخبر، قال: ويجوز فيه تحقيق الهمز وتَخْفيفه، يقال نَبَأَ ونَبَّأَ وأَنْبَأَ. قال سيبويه: ليس أَحدٌ من العرب إِلا ويقول تَنَبَّأَ مُسَيْلمَةُ، بالهمز، غير أَنهم ترَكُوا في الهمز النَّبِيّ كما تَرَكوه في الذُّرِّيَّة واليَرِية والخَابِيَة، إِلا أَهل مَكَّة فإِنهم يهمزون هذه الأَحرف، ولا يَهْمزون في غيرها، ويُخالفون العَربَ في ذلك، قال: والهمز في النبيّ لغةٌ رَديئة؛ أَي لقلَّة استعمالها، لا لِكَوْنِ القياسِ يَمنع ذلك وتَرْكُ الهَمْزِ هو المُخْتارُ عند العرب سوى أَهلِ مكة، ومن ذلك حديثُ البَرَاء: قلتُ: ورسُولِك الذي أَرسَلْتَ، فردَّ عليّ وقال «وَنبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ، قال ابنُ الأَثير: وإِنما رَدَّ عليه ليختلفَ اللفظانِ، وَيَجْمَع له الثَّناءَ بين معنى النُّبُوَّة والرِّسالة، ويكون تَعْدِيدًا للنِّعْمَة في الحالَيْنِ، وتعظيمًا للمِنَّة على الوَجْهَيْنِ. والرسولُ أَخصُّ من النَّبِيّ، لأَن كلَّ رسولٍ نَبِيٌّ وليس كُلُّ نَبِيٍّ رسولًا الجمع: أَنْبِيَاءُ قال الجوهري: لأَن الهمز لما أَبْدِل وأُلْزِم الإِبدالَ جُمِعَ جَمْعَ ما أَصْلُ لامِه حَرْفُ العِلّة، كَعِيدٍ وأَعْيادٍ، كما يأْتي في المعتلّ ونُبَآءُ ككُرَماءَ، وأَنشد الجوهريُّ للعَبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه:
يا خَاتَم النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ *** بِالْخَيْرِ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إنَّ الإِلهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً *** فِي خَلْقِه ومُحَمَّدًا سَمَّاكَا
وأَنْبَاء كَشهِيدٍ وأَشْهَادٍ، قال شيخنا وخُرِّجتْ عليه آياتٌ مَبْحُوثٌ فيها، والنَّبِيئونَ جمعُ سَلامةٍ، قال الزجَّاجُ القِراءَةُ المُجْمَع عليها في النَّبِيِّينَ والأَنْبِياءِ طَرْحُ الهَمْزِ، وقد همز جَماعةٌ من أَهل المدينة جميعَ ما في القرآن من هذا، واشتقاقُه من نَبأَ وأَنبأَ؛ أَي أَخبر، قال: والأُجودُ تَرْكُ الهمز، انتهى. والاسمُ النُّبُوءَةُ بالهمز، وقد يُسَهَّل، وقد يُبْدَل وَاوًا ويُدْغم فيها، قال الراغب: النُّبُوَّةُ: سِفارَةٌ بين اللهِ عزّ وجلّ وبين ذَوِي العُقولِ الزَّكِيَّة [من عباده] لإِزَاحَةِ عِلَلِهَا.
وَتَنَبَّأَ بالهمز على الاتفاق، ويقال تَبَنَّى، إِذا ادَّعَاها أَي النُّبُوَّةَ، كما تَنَبَّى مُسَيْلِمَةُ الكَذَّاب وغيرُه من الدجَّالين، قال الراغب: وكان من حَقّ لفظه في وضْع اللغةِ أَن يَصِحّ استعمالُه في النَّبِيءِ إِذا هو مُطَاوع نَبَّأَ كقوله زَيَّنَه فتَزَيَّنَ وحَلَّاه فَتَحلَّى لكن لمَّا تُعُورفَ فيمن يَدَّعي النُبوَّة كَذِبًا جُنِّبَ استعْمَالُه في المُحِقّ ولم يُسْتَعْمَل إِلَّا في المُتَقَوِّل في دَعْوَاهُ. ومنه المُتَنَبِّئُ أَبو الطَّيِّبِ الشاعرُ أَحمدُ بنُ الحُسين بن عبد الصمد الجُعْفِيّ الكِنْدِيّ، وقيل مَوْلَاهم، أَصلُه من الكُوفة خَرَج إِلى بَني كَلْب ابن وَبرَة من قُضَاعة بأَرض السَّمَاوَة، وتَبِعه خلْقٌ كثيرٌ، ووضع لهم أَكاذيبَ وادَّعَى أَوَّلًا أَنَّه حَسَنِيّ النسب ثم ادَّعَى النُّبُوَّةَ فشُهِدَ بالضم عليه بالشأْم يعني دِمَشْقَ وحُبِسَ دَهْرًا بِحِمْصَ حين أَسرَه الأَميرُ لُؤْلُؤٌ نائب الإِخشيد بها، وفَرَّق أَصحابَه، وادَّعى عليه بما زَعمه فأَنكر ثُمَّ اسْتُتِيبَ وكَذَّب نَفْسه وأُطْلِقَ من الحَبْس وطَلَب الشِّعْرَ فقاله وأجاد، وفاقَ أَهلَ عَصْرِه، واتصلَ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بنِ حَمْدَانَ، فمدَحه، وسار إِلى عَضُد الدَّوْلَة بفارِس، فمدحه، ثم عاد إِلى بغدادَ فقُتِل في الطّريق بقُرْبِ النَّعْمَانية سنة 354 في قِصّةٍ طويلةٍ مَذكورة في مَحلّها، وقيل: إِنما لُقِّب بهِ لِقُوَّة فَصاحَته، وشِدَّةِ بلاغته، وكَمَالِ مَعرفته، ولذا قيل:
لَمْ يَرَ النَّاسُ ثَانِيَ المُتَنَبِّي *** أَيُّ ثَانٍ يُرَى لِبِكْر الزَّمَانِ
هُوَ فِي شِعْرِه نَبِيٌّ ولكِنْ *** ظَهَرَتْ مُعْجِزَاتُه فِي المَعَانِي
وكانوا يُسمُّونه حَكيمَ الشعراءِ، والذي قَرَأْتُ في شَرْحِ الواحدي نقلًا عن ابنِ جِنّي أَنه إِنما لُقِّب بقوله:
أَنا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَها اللهُ *** غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودِ
ونَبَأَ كمنَع نَبْأً ونُبُوءًا: ارتفع قال الفَرَّاء: النَّبِيُّ هو من أَنْبأَ عن الله، فتُرِك همزُه، قال: وإِن أُخِذَت من النُّبُوَّة والنَّبَاوَة وهي الارتفاع أَي أَنه أَشرف على سائر الخَلْق فأَصله غير الهمز.
ونَبَأَ عليهم يَنْبَأُ نَبْأً ونُبُوءًا: هَجَم وطَلَعَ وكذلك نَبَهَ ونَبَعَ، كلاهما على البدل، ونَبَأْتُ على القوم نَبْأً إِذا اطَّلَعْت عليهم، ويقال: نَبَأَ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْض أُخْرَى أَي خرَج مِنْها إِليها. والنَّابِئُ: الثورُ الذي يَنْبَأُ من أَرضٍ إِلى أَرْض؛ أَي يَخْرُج، قال عَدِيُّ بنُ زيْدٍ يَصِفُ فَرَسًا:
وَلَهُ النَّعْجَةُ المرِيُّ تُجَاهَ الرّ *** كْبِ عِدْلًا بِالنَّابِئ المِحْرَاقِ
أَراد بالنابئ ثَوْرًا خَرَج من بَلدٍ إِلى بلد، يقال: نَبَأَ وطَرَأَ ونَشِطَ، إِذا خرَج من بَلدٍ إِلى بلدٍ، وسَيْلٌ نَابِئ: جاءَ من بلدٍ آخَرَ، ورجلٌ نابِئ؛ أَي طارئ من حيث لا يُدْرَى، كذا في الأَساس، قال الأَخطل:
أَلَا فَاسْقِيَانِي وَانْفِيَا عَنِّيَ القَذَى *** فَلَيْسَ القَذَى بِالعُودِ يَسْقُطُ في الخَمْرِ
وَلَيْسَ قَذَاهَا بِالَّذِي قَدْ يَرِيبُهَا *** وَلَا بذِبَابٍ نَزْعُهُ أَيْسَرُ الأَمْرِ
وَلكِنْ قَذَاهَا كُلُّ أَشْعَثَ نَابِئ *** أَتَتْنَا بِهِ الأَقْدَارُ مِنْ حَيْثُ لا نَدْرِي
ومِن هنا ما جاءَ في حَدِيثٍ أَخرَجه الحاكمُ في المُستَدرك، عن أَبي الأَسود، عن أَبي ذَرٍّ وقال إِنه صحيح على شَرْط الشيخين قولُ الأَعرابيّ له صلى الله عليه وسلم يا نَبِيءَ الله، بالهمز؛ أَي الخارِجَ من مَكَّة إِلى المدينة فحينئذ أَنكَره أَي الهمز عليه على الأعرابيّ، لأَنه ليس من لُغة قُرَيْش، وقيل: إِن في رُوَاته حسينًا الجُعْفيّ وليس من شرطهما، ولذا ضَعَّفه جماعَةٌ من القُرَّاءِ والمُحَدِّثين، وله طَرِيق آخرُ مُنقطِع، رواه أَبو عُبَيد: حَدَّثنا مُحمدُ بن سَعْدٍ عن حَمْزَة الزَّياتِ عن حُمْران بن أَعْيَنَ أَن رجلًا فذكره، وبه استدَلَّ الزركشيُّ أَن المختارَ في النَّبِيّ تَرْكُ الهمزِ مُطلقًا، والذي صرَّح به الجوهريُّ والصاغاني، بأَن النبي صلى الله عليه وسلم إِنما أَنكره لأَنه أَراد يا مَنْ خَرَج من مكة إِلى المدينة، لا لكونه لم يكن من لُغته، كما توهَّموا، ويؤيده قوله تعالى: {لا تَقُولُوا راعِنا} فإِنهم إِنما نُهُوا عن ذلك لأَن اليهودَ كانوا يَقْصِدون استعمالَه مِن الرُّعونة، لا من الرِّعاية، قاله شيخُنا، وقال سيبويه: الهمزُ في النبيِّ لغةٌ رديئة، يعني لِقِلّة استعمالها، لا لأَنّ القِياس يمنع من ذلك، أَلَا تَرَى إِلى قول سيِّدنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا نَبِيءَ اللهَ فقالَ له: «إِنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لا نَنْبِرُ، ويروى: لا تَنْبزْ باسمي كذا في النُّسخ الموجودة، من النَّبَزِ وهو اللَّقَب؛ أَي لا تَجْعَل لاسمي لَقَبًا تَقْصِدُ به غيرَ الظاهر. والصواب: لا تَنْبِرْ، بالراءِ أَي لا تَهْمِزْ، كما سيأْتي فإِنّما أَنَا نبيُّ اللهِ؛ أَي بغير همزٍ وفي رواية فقال: «لَسْتُ بِنَبِيءِ الله ولكن نبِيُّ الله، وذلك أَنه عليه الصلاة والسلام أَنكر الهمز في اسمه، فرَدَّه على قائله، لأَنه لم يَدْرِ بما سمَّاه، فأَشفق أَن يُمْسكَ على ذلك، وفيه شيء يتعلَّق بالشرْع، فيكون بالإِمساك عنه مُبِيحَ مَحْظورٍ أَو حاظِرَ مُباحٍ. كذا في اللسان، قال أَبو عليّ الفارسيّ: وينبغي أَن تكون روايةُ إِنكارِه غيرَ صحيحةِ عنه عليهالسلام، لأَن بعض شُعرائه وهو العبَّاسُ بنُ مِرْداسٍ السُّلَمِيُّ قال: «يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ» ولم يَرِدْ عنه إِنكارُه لذلك، فتأَمَّل.
والنَّبِيءُ على فَعِيل: الطريقُ الواضِحُ يُهمز ولا يُهمز، وقد ذكره المصنف أَيضًا في المعتلّ، كما سيأْتي، قال شيخنا: قيل: ومنه أُخذ الرَّسُول، لأَنه الطريقُ المُوَضِّحُ المُوَصِّلُ إِلى الله تعالى، كما قالوا في: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الشِّفَا وشُرُوحه. قلت: وهو مفهومُ كلامِ الكِسائيّ» فإِنه قال: النَّبِيءُ: الطريقُ، والأَنْبِياءُ: طُرُق الهُدى. والنبيءُ: المكانُ المرتفِعُ الناشِزُ المُحْدَوْدِبُ يُهمَزُ ولا يُهْمَز كالنَّابئ وذكره ابنُ الأَثير في المُعتلّ، وفي لسان العرب نَبَأَ نَبْأً ونُبُوءًا إِذا ارتفع ومنه ما وَردَ في بعض الأَخبار وهي من الأَحاديث التي لا طُرُقَ لها لا تُصَلُّوا عَلَى النَّبِيءِ بالهمز؛ أَي المكانِ المُرْتَفع المُحْدَوْدِب، ومما يُحَاجَى به: صَلُّوا على النَّبِي، ولا تُصَلُّوا على النَّبِيء، وغلط المُلَّا عليّ في ناموسه، إِذ وَهَّم المَجْدَ في ذِكْرِه في المهموز، اغترَارًا بابنِ الأَثير، وظَنًّا أَنه من النَّبْوة بمعنى الارتفاع، وقد نبَّه على ذلك شيخُنا في شرحه والنَّبْأَةُ: النَّشْزُ في الأَرض، و: الصَّوْتُ الخَفِيُّ أَو الخَفِيف، قال ذو الرُّمَّة:
وقدْ تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ *** بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ
الرِّكْزُ: الصَّوْتُ، والمُقْفِرُ: أَخو القَفْرَةِ، يريد الصائد. والنَّدُسُ: الفَطِنُ وفي التهذيب: النَّبْأَةُ: الصوت ليس بالشديد، قال الشاعر:
آنَسَتْ نَبَأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ *** اصُ قَصْرًا وَقَدْ دَنَا الإِمْسَاءُ
أَرادَ صَاحِبَ نَبْأَةٍ أَو النَّبْأَة صَوْتُ الكِلابِ قال الحَرِيرِيّ في مقاماته: فسمِعنا نَبْأَة مُسْتَنْبِح، ثم تَلَتْهَا صَكَّةُ مُسْتَفْتِح، وقيل: هي الجَرْسُ أَيًّا كان، وقد نَبَأَ الكلب كمَنَعَ نَبْأً.
ونُبَيْئَةُ بالضم كجُهَيْنَةَ بنُ الأَسْوَدِ العُذْرِيّ وضبطه الحافظ هكذا، وقال: هو زَوْج بُثَيْنَة العُذْرِيَّة صاحِبةِ جَمِيلِ بن مَعْمَرٍ، وابنُه سَعِيدُ بنُ نُبَيْئَةَ، جاءَت عنه حِكاياتٌ، وتَصغير النَّبِيءِ نُبَيِّئ مِثال نُبَيِّع ويقولون في التصغير كانت نُبَيِّئَةُ مُسَيْلِمَةَ مِثال نُبَيْعَة، نُبَيِّئَةَ سَوْءٍ تصغيرُ النُّبُوءَةِ وكان نُبَيِّئَ سَوْءٍ بالفتح، وهو تَصْغِير نَبِئٍ بالهمز، قال ابن بَرِّيّ: الذي ذكره سيبويهِ: كان مُسَيْلِمَة نُبُوَّتُه نُبَيِّئَةَ سَوْءٍ، فذكر الأَوَّل غيرَ مُصَغَّرٍ ولا مهموز، لِيُبَيِّن أَنهم قد همزوه في التصغير وإِن لم يكن مهموزًا في التكبير، قال ابنُ بَرّيّ: ذكر الجَوْهرِيُّ في تصغير النَّبِيءِ نُبَيِّئ، بالهمز على القطع بذلك، قال: وليس الأَمر كما ذَكر، لأَن سيبويهِ قال هذا فيمن يَجْمَعُهُ أَي نَبِيئًا على نُبَآءَ كَكُرماء؛ أَي فيصغره بالهمز وأَمَّا مَنْ يَجمعُه على أَنْبِياءَ فَيُصَغِّرُه على نُبَيٍّ بغير همزٍ، يريد: مَنْ لَزِم الهَمْزَ في الجمع لَزِمه في التصغير، ومن ترك الهَمْز في الجمع تركه في التصغير، كذا في لسان العرب وأَخطأَ الجَوهرِيُّ في الإِطلاق حَسْبَمَا ذكرنا، وهو إِيرادُ ابنِ بَرِّيّ، ولكن ما أَحلَى تَعبيره بقوله: وليس الأَمْرُ كذلك، فانظر أَين هذا من قوله أَخْطأَ، على أَنه لا خطأَ، فإِنه إِنما تَعرَّض لتصغير المهموز فقط، وهو كما قال، وهناك جوابٌ آخرُ قَرَّره شيخنا.
ويقال: رَمَى فلانٌ فَأَنْبَأَ؛ أَي لم يَشْرِمْ ولم يَخْدِشْ، أَو أَنه لم يُنْفِذْ نقله الصاغاني، وسيأْتي في المعتل أَيضًا.
ونَابَأَهُمْ مُنَابَأَةً: تَرَكَ جِوَارَهم وتَبَاعَدَ عنهم قال ذُو الرُّمَّة يهجو قومًا:
زُرْقُ العُيُونِ إِذَا جَاوَرْتَهُمْ سَرَقُوا *** مَا يَسْرِقُ العَبْدُ أَوْ نَابَأْتَهُمْ كَذَبُوا
ويُرْوَى نَاوَأْتَهُم، كما سيأْتي.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
نَبَأَتْ به الأَرضُ: جاءَتْ به، قال حَنَشُ بنُ مالك:
فَنَفْسَكَ أَحْرِزْ فَإِنَّ الحُتُو *** فَ يَنْبَأْنَ بالمَرْءِ في كُلِّ وَادِ
ونُبَاءٌ كَغُرَاب: موضِعٌ بالطائف.
ويقال: هل عندكم مِن نَابِئَة خَبَر.
والنُّبَاءَةَ كَثُمَامَة: موضع بالطائف وقَعَ في الحَديث هكذا بالشكّ: خَطَبنا بالنُّبَاءَة، أَو بالنُّبَاوَة وأَبو نُبَيْئَة الهُذَلِيُّ شاعرٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
35-تاج العروس (نجد)
[نجد]: النَّجْدُ: ما أَشْرَفَ من الأَرضِ وارتَفَعَ واسْتَوَى وصَلُب وغَلُظَ، الجمع: أَنْجُدٌ جمع قِلّة كفَلْسٍ وأَفْلُسٍ، وأَنْجَادٌ، قال شيخنا: وقد أَسْلَفْنا غيرَ مَرَّةٍ أَن فَعْلًا بالفتح لا يُجْمَع على أَفْعَالٍ إِلَّا في ثلاثةِ أَفْعَالٍ مَرَّت ليس هذا منها، ونِجَادٌ بالكسر، ونُجُود ونُجُدٌ بضمهما، الأَخيرة عن ابن الأَعرابيّ وأَنشد:لَمَّا رَأَيْتُ فِجَاجَ البِيدِ قَدْ وَضَحَتْ *** وَلَاحَ مِنْ نُجُدٍ عَادِيَّةٌ حُصُرُ
ولا يكون النِّجَادُ إِلَّا قُفًّا أَوْ صَلَابَةً من الأَرضِ في ارتِفاعٍ مثل الجَبلِ مُعْتَرِضًا بين يَدَيْكَ يَرُدُّ طَرْفَك عَمَّا وراءَه، ويقال: اعْلُ هاتِيكَ النِّجادَ وهاذاك النِّجادَ، يُوَحّد وأَنشد:
رَمَيْنَ بِالطَّرْفِ النِّجَادَ الأَبْعَدَا
قال: وليس بالشدِيدِ الارتفاع، وجَمْعُ النُّجُودِ، بالضم، أَنْجِدَةٌ أَي أَنه جَمْعُ الجَمْعِ، وهكذا قول الجوهريّ، وقال ابن بَرِّيّ: وهو وَهَمٌ، وصوابه أَن يقول: جَمْع نِجَادٍ، لأَن فِعَالًا يُجمع على أَفْعِلة، نحو حِمَار وأَحْمِرَة، قال: ولا يُجْمَع فُعُول على أَفْعِلَة، وقال: هو من الجموع الشاذَّة ومثله نَدًى وأَنْدِيَة ورَحًا وأَرْحِيَة، وقياسهما نِدَاءٌ ورِحَاءٌ، وكذلك أَنْجِدَة قياسُها نِجَادٌ.
والنَّجْدُ: الطَّرِيقُ الواضِحُ البَيِّنُ المُرْتَفِعُ من الأَرْض.
والنَّجْدُ: ما خَالَف الغَوْرَ؛ أَي تِهَامَةَ.
ونَجْدٌ من بِلاد العربِ ما كان فوق نَجْدٍ إِلى أَرض تِهَامَةَ إِلى ما وَرَاءَ مَكَّةَ فما دُونَ ذلك إِلى أَرْضِ العِرَاقِ فهو نَجْدٌ، وتُضَمُّ جِيمُه قال أَبو ذُؤَيْب:
فِي عَانَةٍ بِجُنُوبِ السِّيِّ مَشْرَبُهَا *** غَوْرٌ ومَصْدَرُهَا عَنْ مَائِهَا نُجُدُ
قال الأَخفش: نُجُدٌ، لغة هُذَيْل خاصَّة، يريد نَجْدًا، ويروى نُجُدٍ بضمّتين، جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْه نَجْدًا، قال: هذا إِذا عَنَى نَجْدًا العَلَمي، وإِن عَنَى نَجْدًا مِن الأَنْجَاد فَغَوْرُ نَجْدٍ أَيضًا، وهو مُذَكَّرٌ. أَنشد ثعلب:
ذَرَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ سِنِينَهُ *** لَعِبنَ بِنَا شِيبًا وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
وقيل: حَدُّ نَجْدٍ هو اسمٌ للأَرض الأَرِيضة التي أَعْلَاهُ تِهَامَةُ واليَمَنُ، وأَسفَلَهُ العِرَاقُ والشَّامُ، والغَوْرُ هو تِهَامَة، وما ارتَفَعَ عن تِهَامَةَ إِلى أَرْضِ العِرَاق فهو نَجْدٌ وتَشْرَبُ بِتِهامَة، وأَوَّلُه أَي النَّجْد مِنْ جِهَةِ الحِجَاز ذَاتُ عِرْقٍ.
وروى الأَزهريُّ بسنده عن الأَصمعيِّ قال: سمِعتُ الأَعراب يقولون: إِذا خَلَّفْتَ عَجْلزًا مُصْعِدًا ـ وعَجْلَزٌ فوق القَرْيَتَيْنِ ـ فقد أَنْجَدْتَ. فإِذا أَنْجَدْتَ عن ثَنَايا ذاتِ عِرْقٍ فقد أَتْهَمْتَ، فإِذا عَرَضَتْ لك الحِرَارُ بِنَجْدٍ قيل: ذلك الحِجَازُ. ورُويَ عن ابنِ السِّكّيت قال: ما ارتفَعَ مِن بَطْنِ الرُّمَّة ـ [والرُّمَّةُّ وادٍ معلوم] ـ فهو نَجْدٌ إِلى ثَنَايَا ذاتِ عِرْق، قال: وسمعتُ الباهِلِيّ يقول: كُلُّ ما وراءَ الخَنْدَقِ الذي خَنْدَقَه كِسْرَى على سَوَادِ العِرَاقِ فهو نَجْدٌ إِلى أَن تَمِيلَ إِلى الحَرَّةِ، فإِذا مِلْتَ إِليها فأَنْتَ بالحِجَازِ.
وعن ابن الأَعرابيّ نَجْدٌ ما بَيْنَ العُذَيْبِ إِلى ذاتِ عِرْقٍ، وإِلى اليَمَامَةِ وإِلى اليَمَنِ، وإِلى جَبَلَيْ طَيِّئٍ، ومن المِرْبَدِ إِلى وَجْرَةَ، وذاتُ عِرْقٍ أَوْلُ تِهَامَةَ إِلى البَحْرِ وجُدَّةَ.
والمدينةُ لا تِهَامِيَّةٌ ولا نَجْدِيَّة. وإِنها حِجَازٌ فوقَ الغَوْرِ ودُونَ نَجْد، وإِنها جَلْسٌ لارْتِفَاعِها عن الغَوْرِ. وقال الباهليُّ: كُلُّ ما وَرَاءَ الخَنْدَقِ عَلى سَوادِ العِرَاقِ فَهو نَجْدٌ، والغَوْرُ: كُلُّ ما انْحَدَرَ سَيْلُه مَغْرِبِيًّا، وما أَسْفَل منها مَشْرِقِيًّا فهو نَجْدٌ، وتِهَامَةُ: ما بَيْنَ ذاتِ عِرْقٍ إِلى مَرْحَلَتَيْنِ مِن وَرَاءِ مَكَّةَ، وما وَراءَ ذلك مِن المَغْرِب فهو غَوْرٌ، وما وراءَ ذلك من مَهَبِّ الجَنُوبِ فهو السَّرَاةُ إِلى تُخُومِ اليَمَنِ. وفي المَثَل «أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حَضَنًا» وذلك إِذا عَلَا مِن الغَوْرِ، وحَضَنٌ اسمُ جَبَلٍ.
والنَّجْدُ ما يُنَجَّدُ؛ أَي يُزَيَّن به البَيْتُ، وفي اللسان ما يُنَضَّدُ به البَيْتُ مِن بُسْطٍ وفُرُشٍ ووَسَائدَ، الجمع: نُجودٌ، بالضم، ونِجَادٌ، بالكسر، الأَوّل عن أَبي عُبَيْدٍ، وقال أَبو الهَيْثَم: النَّجَّادُ: الذي يُنَجِّدُ البُيُوتَ والفُرُشَ والبُسُطَ. وفي الصحاح: النُّجُود: هي الثِّيابُ التي يُنَجَّدُ بها البُيُوتُ فتُلْبَسُ حِيطَانُها وتُبْسَط، قال: ونَجَّدْت البيْتَ، بَسَطْتُه بِثيابٍ مَوْشِيَّةٍ، وفي الأَسَاس والمحكم: بَيْتٌ مُنَجَّدٌ، إِذا كان مُزَيَّنًا بالثّيابِ والفُرُشِ ونُجُودُه: سُتُورُه التي تَعْلُو على حِيطَانِه يُزَيَّنُ بها.
والنَّجْدُ: الدَّلِيلُ الماهِرُ يقال: دَلِيلٌ نَجْدٌ: هَادٍ ماهِرٌ.
والنَّجْدُ المَكَانُ لا شَجَرَ فيهِ، والنَّجْدُ: العُلْبَةُ.
والنَّجْدُ: شَجَرٌ كالشُّبْرُمِ في لَوْنِه ونَبْتِه وشَوْكِه. والنَّجْدُ أَرْضٌ بِبلادِ مَهْرَةَ في أَقْصَى اليَمَنِ، وهو صُقْعٌ واسِعٌ مِن وَراءِ عُمَانَ، عن أَبي مُوسَى، كذا في مُعْجَم ياقوت.
والنَّجْدُ: الشُّجَاعُ الماضِي فيما يَعْجَزُ عنه غَيْرُه وقيل: هو الشديدُ البأْسِ، وقيل: هو السَّرِيعُ الإِجابَةِ إِلى ما دُعِيَ إِليه، خَيْرًا كان أَو شَرًّا، كالنَّجِدِ، والنَّجُدِ، ككَتِفٍ ورَجُلٍ، والنَّجِيدِ، والجمع أَنْجَادٌ، قال ابنُ سِيدَه: ولا يُتَوَهَّمَنَّ أَنْجَادٌ جَمْعُ نَجِيدٍ، كنَصِيرٍ وأَنْصَارٍ قِياسًا على أَنّ فَعْلًا وفِعَالًا لا يُكَسَّرَانِ لِقلَّتهما في الصِّفة، وإِنما قِيَاسُهما الواو والنون، فلا تَحْسَبَنَّ ذلك، لأَن سيبويهِ قد نَصَّ على أَنّ أَنْجَادًا جَمْعُ نَجُدٍ ونَجِدٍ. وقد نَجُدَ، ككَرُمَ، نَجَادَةً ونَجْدَةً، بالفتح فيهما، وجَمْعُ نَجِيدٍ نُجُدٌ ونُجَدَاءُ.
والنَّجْدُ: الكَرْبُ والغَمُّ، وقد نُجِدَ، كعُنِيَ، نَجْدًا فهو مَنْجُودٌ ونَجِيدٌ: كُرِبَ، والمَنْجُود: المَكْرُوب، قال أَبو زُبَيْد يرثِي ابنَ أُخْتِه وكان ماتَ عَطَشًا في طريقِ مكَّةَ:
صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ *** وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
يُريد المَغْلُوب المُعْيَا، والمَنْجُود: الهالِك. وفي الأَساس: وتقول: عِنْده نُصْرَةُ المَجْهُودِ وعُصْرَةُ المَنْجُود.
ونُجِدَ البَدَنُ عَرَقًا إِذا سَالَ يَنْجَدُ ويَنْجُدُ الأَخيرةُ نادِرَةٌ، إِذا عَرِق من عَمَلٍ أَو كَرْبٍ فهو مَنجود ونَجِيد ونَجِدٌ، ككِتفٍ: عَرِقٌ، فأَمّا قوله:
إِذا نَضَخَتْ بِالماءِ وَازْدَادَ فَوْرُهَا *** نَجَا وهْوَ مَكْرُوبٌ مِنَ الغَمِّ نَاجِدُ
فإِنه أَشْبَعَ الفَتْحَةَ اضطرارًا، كقوله:
فَأَنْتَ مِنَ الغَوَائلِ حِينَ تَرْمِي *** ومنْ ذَمِّ الرِّجالِ بِمُنْتَزَاحِ
وقيل: هو على فَعِلٍ كعَمِلٍ فهو عامِلٌ، وفي شِعر حُميد بن ثَور:
ونَجِدَ المَاءُ الذي تَوَرَّدَا
أَي سَالَ العَرَقُ، وتَوَرُّدُه: تَلَوُّنُه.
والنَّجْدُ: الثَّدْيُ والبَطْنُ تَحْتَه كالغَوْرِ، وبه فُسِّر قولُه تعالى: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أَي الثَّدْيَيْنِ، وقيل: أَي طَرِيقَ الخَيْرِ وطَرِيقَ الشَّرِّ، وقيل: النَّجْدَيْنِ: الطَّرِيقَيْنِ الواضِحَينِ، والنَّجْدُ: المُرْتَفع من الأَرْضِ، والمعنَى أَلَمْ نُعَرِّفْه طَرِيقَيِ الخَيْرِ والشَّرِّ بَيِّنَيْنِ كبَيَانِ الطَّرِيقَيْنِ العَالِيَيْنِ.
وتقول: ذِفْرَاهُ تَنْضَخُ النَّجَدَ بالتَّحْرِيك: العَرَق من عَمَلٍ أَو كَرْبٍ أَو غيرِه، قال النابغةُ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ المَلَّاحُ مُعْتَصِمًا *** بِالخَيْزُرانةِ بَعْدَ الأَيْنِ والنَّجَدِ
وهو أَيضًا البَلَادَةُ والإِعياءُ وقد نَجِدَ، كفَرِحَ، يَنْجَد، إِذا بَلُد وأَعْيَا، فهو ناجِدٌ ومَنْجُود.
ومن المَجاز قولهم: هو طَلَّاعُ أَنْجُدٍ وطَلَّاعُ أَنْجِدَةٍ وطَلَّاعُ نِجَادٍ، وطَلَّاع النِّجادِ [أَي] ضابِطٌ للأُمورِ غالبٌ لها، وفي الأَساس: رَكَّابٌ لِصِعَابِ الأُمورِ. قال الجوهريُّ يقال: طَلَّاعُ أَنْجُدٍ: وطَلَّاعُ الثَّنَايَا، إِذا كان سامِيًا لمَعَالِي الأُمُورِ، وأَنْشَدَ بَيْتَ حُمَيْدِ بنِ أَبي شِحَاذٍ الضَّبِّيّ، وقيل هو لِخَالِدِ بن عَلْقَمَةَ الدّارِمِيّ:
فَقَدْ يَقْصُرُ الفَقْرُ الفَتَى دُونَ هَمِّهِ *** وقَدْ كَانَ لَوْلَا القُلُّ طَلَّاعَ أَنْجُدِ
يقول: قد يَقْصُر الفَقْرُ الفَتَى عن سَجِيَّتِه من السَّخَاءِ فلا يَجِدُ ما يَسْخُو به، ولو لا فَقْرُه لَسَمَا وارْتَفَعَ. وطَلَّاعُ أَنْجِدَةٍ، جَمْع نِجَادٍ، الذي هو جَمْعُ نَجْدٍ، قال زِيَادُ بن مُنْقِذٍ في معنَى أَنْجِدَةٍ [بمعنى أَنْجُدٍ] يَصِفُ أَصحابًا له كان يَصْحَبُهُم مَسْرُورًا:
كَمْ فِيهِمُ مِنْ فَتًى حُلْوٍ شَمَائِلُهُ *** جَمِّ الرَّمَادِ إِذا مَا أَخْمَدَ البَرِمُ
غَمْرِ النَّدَى لَا يَبِيتُ الحَقُّ يَثْمُدُهُ *** إِلَّا غَدَا وَهْوَ سَامِي الطَّرْفِ مُبْتَسِمُ
يَغْدُو أَمَامَهُمُ فِي كُلِّ مَرْبَأَةٍ *** طَلَّاعِ أَنْجِدَةٍ فِي كَشْحِةِ هَضَمُ
ومعنى يَثْمُدُه يُلِحُّ عليه فيُبْرِزُه، قال ابن بَرِّيّ: وأَنْجِدَة من الجُمُوع الشّاذَّة، كما تقدَّم.
وأَنْجَدَ الرَّجلُ: أَتَى نَجْدًا، أَو أَخَذَ في بلاد نَجْدٍ، وفي المثل «أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حَضَنًا» وقد تَقَدَّم.
وأَنْجَدَ القَوْمُ من تِهَامَةَ إِلى نَجْد: ذَهَبُوا، قال جَرِيرٌ:
يَا أُمَّ حَزْرَةَ مَا رَأَيْنَا مِثْلَكُمْ *** فِي المُنْجِدِينَ ولا بِغَوْرِ الغَائِرِ
أَو أَنجَدَ: خَرَجَ إِليه، رواها ابنُ سِيدَه عن اللِّحْيَانيّ.
وأَنجَدَ الرجلُ: عَرِقَ، كنَجِدَ، مثل فَرِحَ.
وأَنْجَدَ: أَعَانَ، يقال: استَنْجَدَه فأَنْجَدَه: استَعانه فأَعَانَه، وكذلك اسْتَغَاثه فأَغاثَه، وأَنْجَدَه عليه، كذلك.
وأَنْجَدَ الشيْءُ: ارْتَفَعَ، قال ابنُ سِيدَه: وعليه وَجَّهَ الفارِسِيُّ رِوايةَ مَنْ رَوَى قولَ الأَعشى:
نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ *** أَغَارَ لَعَمْرِي في البِلادِ وأَنْجَدَا
فقال: أَغَارَ: ذَهَبَ في الأَرْض، وأَنْجَدَ: ارْتَفَعَ. قال: ولا يكون أَنْجَدَ في هذه الرِّواية أَخَذَ في نَجْدٍ، لأَن الأَخْذ في نَجْدٍ إِنما يُعادَلُ بالأَخْذ في الغَوْرِ، وذلك لتقابُلهِمَا، وليستْ أَغَارَ من الغَوْرِ، لأَن ذلك إِنما يُقَال فيه غَارَ؛ أَي أَتَى الغَوْرَ، قال: وإِنما يكون التقابل في قَوْلِ جَرير:
في المُنْجِدِينَ وَلَا بِغَوْرِ الغَائِرِ
وأَنْجَدَت السماءُ: أَصْحَتْ، حكَاها الصاغانيُّ.
وأَنْجَدَ الرجُلُ: قَرُبَ من أَهْلِه، حَكَاهَا ابنُ سِيدَه عن اللِّحْيَانيِّ.
وأَنْجَدَ فُلانٌ الدَّعْوَةَ: أَجَابَها، كذا في المحكم.
والنَّجُودُ، كصبور، من الإِبل والأُتُنِ: الطَّويلةُ العُنُقِ، أَو هي من الأُتُن خاصَّةً: التي لا تَحْمِلُ قال شَمِرٌ: هذا مُنْكَر، والصواب ما رُوِيَ في الأجناس: النَّجُودُ: الطويلةُ من الحُمُرِ، ورُويَ عن الأَصمعيّ: أُخِذَت النَّجُودُ من النَّجْدِ؛ أَي هي مُرْتَفعة عظيمةٌ، ويقال: هي النَّاقَةُ الماضيَةُ، قال أَبو ذُؤَيْب:
فَرَمَى فَأَنْفَذَ مِنْ نَجُودٍ عَائِطٍ
قال شَمِرٌ: وهذا التفسيرُ في النَّجودِ صَحِيحٌ. والذي رُوِيَ في باب حُمُرِ الوَحْشِ وَهَمٌ، وقيل: النَّجُود: المُتَقَدِّمةُ، وفي الرَّوْض: النَّجُودُ من الإِبل: القَوِيَّةُ، نقلَه شيخُنَا، وقيل: هي الطَّويلة المُشْرِفَة، والجمع نُجُدٌ. والنَّجُود من الإِبل: المِغْزَارُ، وقيل: هي الشَّدِيدَة النَّفْسِ، وقيل: النَّجُود من الإِبل: التي لا تَبْرُكُ إِلَّا على المَكَانِ المُرْتَفِعِ، نقله الصاغانيُّ. والنَّجْدُ: الطريقُ المرتفِعُ، وقيل: النَّجُود: التي تُنَاجِدُ الإِبِلَ فتَغْزُرُ إِذا غَزُرْنَ، وقد نَاجَدَتْ، إِذا غَزُرَتْ وكَثُرَ لَبنُها، والإِبل حينئذٍ بِكَاءٌ غَوَارِزُ وعبَّر الفارسيُّ عنها فقال: هي نحو المُمَانِح. والنَّجُودُ: المرأَةُ العَاقِلَةُ النَّبِيلة، قال: شَمِرٌ: أَغربُ ما جاءَ في النَّجُود ما جاءَ في حَدِيث الشُّورَى «وكانَت امْرَأَةً نَجُودًا» يريد: ذَاتَ رَأْي كأَنَّهَا التي تَجْهَد رَأْيَها في الأُمورِ، يقال نَجَدَ نَجْدًا؛ أَي جَهَدَ جَهْدًا. وزاد السُّهيليّ في الرَّوض: وهي المَكْرُوبة، الجمع: نُجُدٌ، ككُتُب.
وأَبو بكر عاصِمُ بنُ أَبِي النَّجُودِ ابنُ بَهْدَلَةَ وهي أَي بَهدَلَة اسم أُمّه، وقيل: إِنه لَقَبُ أَبيه، وقد أَعادَه المُصنِّف في اللام قارِيءٌ صَدُوقٌ، له أَوْهَامٌ، حُجَّةٌ في القِرَاءَة، وحَديثه في الصَّحيحينِ، وهو من موالِي بني أَسَدٍ، مات سنة 128.
والنَّجْدَة، بالفتح: القِتَالُ والشَّجَاعَةُ، قال شيخُنَا: قَضِيَّتُه تَرَادُفُ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ، وأَنهما بمعنىً واحدٍ، وهو الذي صَرَّح به الجوهريُّ والفيُّوميُّ وغيرُهما من أَهْلِ الغَرِيبِ، ومَشَى عليه أَكثرُ شُرَّاحِ الشَّفاءِ، وجزمَ الشهابُ في شرْحه بالفَرْقِ بَيْنَهما وقال: الفَرْقُ مثلُ الصُّبْحِ ظاهِرٌ، فإِن الشجاعة جَرَاءَةٌ وإِقدَامٌ يَخوض به المَهَالِكَ، والنَّجْدَة: ثَبَاتُه على ذلك مُطْمَئِنًّا من غير خَوْفِ أَنْ يَقَع على مَوْتٍ أَو يَقَع المَوْتُ عليه حتى يُقْضَى له بِإِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: الظَّفْرِ أَو الشَّهادَةِ فيَحْيَا سَعِيدًا أَو يَموت شَهِيدًا، فتلكَ مُقَدِّمة وهذه نَتِيجَتُها. ثم قال شيخُنَا: ويبقى النَّظَرُ في تفسِيرِهَا بالقِتَال، وهل هو مُرَادِفٌ للشَّجَاعةِ ولها، فتأَمل. وفي بعض الكتب اللغوية: النِّجْدَة، بالكسر: البلاءُ في الحُرُوبِ، ونقله الشِّهاب في العِناية أَثناءَ النَّمْلِ، تقول منه: نَجُدَ الرجُلُ بالضمّ فهو نَجِدٌ ونَجُدٌ ونَجِيدٌ، وجمْع نَجُدٍ أَنْجَاد مثل يَقُظٍ وأَيْقَاظ، وجمع نَجِيد نُجُدٌ ونُجَدَاءُ.
والنَّجْدَة: الشِّدَّةُ والثِّقَلُ، لا يُعْنَى بهِ شِدَّة النَّفْسِ، إِنما يَعنى به شِدَّة الأَمْرِ عليه، قال طَرَفَةُ:
تَحْسَبُ الطَّرْفَ عَلَيْهَا نَجْدَةً
ويقال رَجُلٌ ذو نَجْدَةٍ؛ أَي ذو بَأْسٍ، ولاقى فُلَانٌ نَجْدَةً؛ أَي شِدَّة. وفي حديثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فأَنْجَادٌ أَمْجَادٌ» أَي أَشِدَّاءُ شُجْعَانٌ، وقيل أَنْجَادٌ جَمْعُ الجَمْعِ، كأَنَّه جَمعَ نَجُدًا على نِجَادٍ أَو نُجُودٍ ثم نُجُدٍ ثم أَنْجَادٍ. قاله أَبو موسى. وقال ابن الأَثير: ولا حاجةَ إِلى ذلك، لأَنّ أَفْعَالًا في فَعُلٍ وفَعِلٍ مُطَّرِدٌ نحو عَضُدٍ وأَعْضَاد وكَتِفٍ وأَكْتَافٍ، ومنهحديثُ خَيْفَان «وأَمَّا هذا الحَيُّ من هَمْدَانَ فأَنْجَادٌ بُسْلٌ»، وفي حديث عَلِيٍّ «مَحَاسِنُ الأُمور التي تَفَاضَلَ فيها المُجَدَاءُ والنُّجَدَاءُ»، جمع مَجِيدٍ، ونَجِيدٍ، والمَجِيدُ: الشَّرِيفُ. والنَّجِيد: الشُّجَاع. فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ.
والنَّجْدَةُ: الهَوْلُ والفَزَعُ، وقد نَجُدَ.
والنَّجِيدُ: الأَسَدُ، لشجاعته وَجَرَاءَتِه، فَعِيل بمعنى فاعلٍ.
والمَنْجُود: الهالِكُ والمَغْلُوب، وأَنشدوا قولَ أَبي زُبَيْدٍ المتقدِّم.
والنِّجَاد، ككِتَابٍ: ما وَقَعَ على العاتِق مِن حَمَائِل السَّيْفِ، وفي الصّحاح: حَمَائِلُ السَّيْفِ، ولم يُخَصِّصْ، وفي حديث أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي طَوِيلُ النِّجادِ» تُريد طُول قَامَتِه، فإِنها إِذا طَالَتْ طالَ نِجَادُه، وهو من أَحسن الكنايات.
والنَّجَّادُ ككَتَّانِ: مَنْ يُعَالِج الفُرُشَ والوَسائدَ ويَخيطُهما، وعبارَة الصّحاح: والوِسَاد ويَخِيطُهما، وقال أَبو الهيثم: النَّجَّاد: الذي يُنَجِّد البُيُوتَ والفُرُشَ والبُسُطَ، ومثلُه في شَرْحِ ابنِ أَبي الحَدِيد في نَهْجِ البَلاغة.
وقال الأَصمعيُّ: النَّاجُودُ: أَوَّلُ ما يَخْرُجُ من الخَمْر إِذا بُزِلَ عَنْها الدَّنُّ، واحتَجَّ بقول الأَخْطَل:
كَأَنَّمَا المِسْكُ نُهْبَى بَيْنَ أَرْحُلِنَا *** مِمَّا تَضَوَّعَ مِنْ نَاجُودِهَا الجَارِي
وقيل: الخَمْرُ الجَيِّد، وهو مُذَكَّر. والنَّاجُود أَيضًا: إِنَاؤُهَا وهي البَاطِيَةُ، وقيل: كُلُّ إِناءٍ يُجْعَل فيه الخَمْرُ من بَاطِيَة أَو جَفْنَة أَو غيرِها، وقيل: هي الكَأْسُ بِعَيْنِهَا، وعن أَبي عُبَيْد: النَّاجُود: كُلُّ إِناءٍ يُجْعَل فيه الشَّرابُ مِن جَفْنَةٍ أَو غيرِهَا، وعن الليثِ: النَّاجُود: هو الرَّاوُوقُ نَفْسُه، وفي حديث الشَّعْبِيِّ: «وبَيْنَ أَيْدِيهِم نَاجُودُ خَمْرٍ»، أَيْ رَاوُوقٌ، واحْتَجَّ على الأَصمعيِّ بقولِ عَلْقَمَةَ:
ظَلَّتْ تَرَقْرَقُ في النَّاجُودِ يُصْفِقُهَا *** وَلِيدُ أَعْجَمَ بِالكَتَّانِ مَلْثُومُ
يُصْفِقُها: يُحَوِّلُها من إِنَاءٍ إِلى إِناءٍ لتَصْفُوَ. قلت: والقولُ الأَخير هو الأَكثر، وفي بعض النُّسخ: أَو إِناؤُهَا، بلفظ «أَو» الدالَّة على تَنَوُّعِ الخِلافِ، وعن الأَصمعيّ: النَّاجُودُ: الزَّعْفَرَانُ، والنَّاجُود الدَّمُ.
والمِنْجَدَةُ كمِكْنَسَةٍ: عَصًا خَفِيفَةٌ تُساق وتُحَثُّ بها الدَّابَّةُ عَلَى السَّيْرِ، واسم عُود يُنْفَش به الصُّوفّ ويُحْشَى به حَقِيبَةُ الرَّحْلِ وبكُلٍّ منهما فُسِّرَ الحديث «أَذِنَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في قَطْعِ المَسَدِ والقائمتَيْنِ والمِنْجَدَةِ يعني مِن شَجَرِ الحَرَمِ لما فيها من الرِّفْق ولا تَضُرُّ بأُصولِ الشَّجر. والمِنْجَدُ، كمِنْبَرٍ: الجُبَيْلُ الصغيرُ المُشْرِف على الوادِي، هُذَلِيَّة، والمِنْجَدُ حَلْيٌ مُكَلَّلٌ بالفُصُوصِ، وأَصْلُه من تَنْجِيد البَيْتِ وهو قِلَادَةٌ من لُؤْلُؤٍ وذَهَبٍ أَو قَرَنْفُلٍ في عَرْضِ شِبْرٍ يأْخُذُ من العُنُقِ إِلى أَسْفَلِ الثَّدْيَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَوْضِع النِّجَادِ أي نِجَادِ السَّيْفِ من الرجُلِ وهي حَمَائِلُه، الجمع: مَنَاجِدُ، قاله أَبو سعيدٍ الضَّريرُ.
وفي الحديث: «أَنّه رَأَى امرَأَةً تَطُوف بالبيتِ عليها مَنَاجِدُ مِن ذَهَب فَنَهَاها عن ذلك». وفسَّرَه أَبو عُبَيْد بما ذكرْنا.
والمُنَجَّدُ، كمُعَظَّمٍ: المُجَرَّبُ؛ أَي الذي جَرَّبَ الأُمورَ وقاسَهَا فعَقَلَها، لُغَة في المُنَجَّذِ، ونَجَّدَه الدَّهْرُ: عَجَمَهُ وعَلَّمَه، قال أَبو منصور: والذالُ المُعجمة أَعْلَى. ورَجُلٌ مُنَجَّدٌ، بالدالِ والذالِ جَمِيعًا؛ أَي مُجَرَّبٌ، وقد نَجَّدَه الدهْرُ إِذا جَرَّبَ وعَرَفَ، وقد نَجَّدَتْه بَعدِي أُمورٌ.
واسْتَنْجَدَ الرجلُ: استَعَانَ واستَغَاثَ، فأَنْجَدَ: أَعَانَ وأَغَاثَ.
واستنجَدَ الرجلُ إِذا قَويَ بَعْدَ ضَعْفٍ أَو مَرَضٍ.
واستَنْجَدَ عَلَيْهِ: اجْتَرَأَ بعْدَ هَيْبَةٍ وضَرِيَ به، كاسْتَنْجَدَ به.
ونَجْدُ مَرِيعٍ، كأَمِيرٍ، ونَجْدُ خَالٍ، ونَجْدُ عَفْرٍ، بفتح فسكون، ونَجْدُ كَبْكَبٍ: مَواضِعُ، قال الأَصمعيُّ، هي نُجُودٌ عِدَّةٌ، وذكرَ منها الثلاثةَ ما عدا نَجْدَ عَفْرٍ، قال: ونَجْدُ كَبْكَبٍ: طَرِيقٌ بِكَبْكَبٍ، وهو الجَبَلُ الأَحْمَرُ الذي تَجْعَلُه في ظَهْرِك إِذا وَقَفْتَ بِعَرَفَةَ، قال: امرؤ القَيْسِ:
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ *** وآخَرُ مِنْهُمْ جَازِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ونقل شيخُنا عن التوشيحِ للجَلال: نَجْدٌ اسمُ عَشَرَةِ مَواضِعَ. وقال ابنُ مُقْبِل في نَجْدِ مَرِيعٍ:
أَمْ مَا تَذَكَّرُ مِنْ دَهْمَاءَ قَدْ طَلَعَتْ *** نَجْدَيْ مَرِيعٍ وقَدْ شَابَ المَقَادِيمُ
قلت: وسيأْتِي في المُسْتدرَكَات. وأَنشَدَ ابنُ دُرَيْدٍ في كِتاب المُجْتَنَى:
سَأَلْتُ فَقَالُوا قَدْ أَصَابَتْ ظَعَائِنِي *** مَرِيعًا وأَيْنَ النَّجْدُ نَجْدُ مَرِيعِ
ظَعَائِنُ أَمَّا مِنْ هِلَالٍ فَمَا دَرَى ال *** مُخَبِّرُ أَوْ مِنْ عامِرِ بن رَبِيعِ
وفي مُعْجَم ياقوت: قال الأَخطَل في نَجْد العُقَابِ وهو موضع بِدِمَشْقَ:
ويَامَنَّ عَن نَجْدِ العُقَابِ ويَاسَرَتْ *** بِنَا العِيسُ عن عَذْرَاءَ دَارِ بني الشَّجْبِ
قالوا: أَراد ثَنِيَّةَ العُقَابِ المُطِلَّة على دِمَشْق وعَذْرَاء للقَرْيَة التي تَحْت العَقَبَةِ. ونَجْدُ الوُدِّ ببلادِ هُذَيْلٍ في خبر أَبي جُنْدَب الهُذليّ.
ونَجْدُ بَرْقٍ، بفتح فسكون، وادٍ بِاليَمَامَةِ بين سَعْد ومَهَبِّ الجَنُوبِ.
ونَجْدُ أَجَأَ: جَبَلٌ أَسوَدُ لِطَيِّئٍ بأَجأَ أَحدِ جَبْلَيْ طَيِّئٍ.
ونَجْدُ الشَّرَى: موضع في شِعْرِ ساعِدَةَ بنِ جُؤَيَّةَ الهُذَلِيّ:
مُيَمِّمَةً نَجْدَ الشَّرَى لا تَرِيمُهُ *** وكَانَتْ طَرِيقًا لا تَزَالُ تَسِيرُهَا
وقال أَبو زيد: ونَجْدُ اليَمن غيرُ نَجْدِ الحِجَاز، غيرَ أَنَّ جَنُوبِيَّ نَجْدِ الحِجاز مُتَّصِلٌ بِشَمالِيِّ نَجْدِ اليَمَنِ، وبَيْن النَّجْدَيْنِ وعُمَانَ بَرِّيَّةٌ مُمْتَنِعَةَ، وإِياه أَرادَ عَمْرُو بن مَعْدِ يكَرِبَ بقولِه:
هُمُ قَتَلُوا عَزِيزًا يَوْمَ لَحْجٍ *** وعَلْقمَةَ بْنَ سَعْدٍ يَوْمَ نَجْدِ
ونَجَدَ الأَمْرُ يَنْجُد نُجُودًا وهو نَجْدٌ ونَاجِدٌ: وَضَحَ واسْتَبَانَ وقال أُمَيَّةُ:
تَرَى فيهِ أَنْبَاءَ القُرُونِ التي مَضَتْ *** وأَخْبَارَ غَيْبٍ بالقِيَامَةِ تَنْجُدُ
ونَجَدَ الطريقُ يَنْجُدُ نُجُودًا، كذلك.
وأَبو نَجْدٍ: عُرْوَةُ بنُ الوَرْدِ، شاعِرٌ معروف.
ونَجْدَةُ بنُ عامِرٍ الحَرُورِيّ الحَنَفِيُّ من بني حَنِيفَة خَارِجِيُّ من اليَمَامَة وأَصحابُه النَّجَدَاتُ، مُحَرَّكَةً، وهم قَوْمُ من الحَرُورِيَّة، ويقال لهم أَيضًا النَّجَدِيَّةُ.
والمُنَاجِدُ: المُقَاتِل، ويقال: ناجَدْتُ فُلانًا إِذا بارَزْتَه لِقتَالٍ. وفي الأَسَاسِ: رجل نَجُدٌ ونَجِدٌ ونَجِيدٌ ومُنَاجِدٌ.
والمُنَاجِدُ: المُعِينُ، وقد نَجَدَه وأَنْجَدَه ونَاجَدَه، إِذا أَعانَه، وفي حديث أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه في زكاة الإِبلِ: «ما مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي حَقَّها إِلا بُعِثَتْ له يَوْمَ القِيَامَةِ أَسْمَنَ ما كَانَتْ، على أَكْتَافِها أَمْثَالُ النَّوَاجِد شَحْمًا تَدْعُونَه أَنتم الرَّوَادِفَ»، هي طَرَائِق الشَّحْم، واحِدتها نَاجِدَةٌ، سُمِّيَتْ بذلك لارتفاعِهَا.
والتَّنْجِيد: العَدْوُ، وقد نَجَّدَ، نقلَه الصاغانيّ.
والتَّنْجِيدُ: التَّزْيِينُ، قال ذو الرُّمَّة:
حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ القُفِّ أَلْبَسَهَا *** مِنْ وَشْيِ عَبْقَرَ تَجْلِيلٌ وتَنْجِيدُ
وفي حديث قُسٍّ «زُخْرِفَ ونُجِّدَ» أَي زُيِّنِ.
والتَّنْجِيدُ: التَّحْنِيكُ والتَّجْرِيب في الأُمور، وقد نَجَّدَه الدهْرُ إِذا حَنَّكَه وجَرَّبَه.
والتَّنَجُّدُ: الارتفاعُ في مِثْلِ الجَبَلِ، كالإِنجاد.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
كَانَ جَبَانًا فاسْتَنْجَدَ: صار نَجِيدًا شُجَاعًا.
وغَارَ وأَنْجَدَ: سارَ ذِكْرُه في الأَغْوَارِ والأَنْجَادِ.
ونَجْدَانِ، مَوْضِعٌ في قول الشماخ:
أَقُولُ وأَهْلِي بِالجَنَابِ وأَهْلُها *** بِنَجْدَيْنِ لا تَبْعَدْ نَوَى أُمِّ حَشْرَجِ
ويقال له: نَجْدَا مَرِيعٍ.
وأَعْطاه الأَرْضَ بما نَجَدَ منها؛ أَي بما خَرَجَ، وفي حديث عبد الملك أَنّه بَعَثَ إِلى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ من عِنْده، وهو جَمْع نَجَدٍ، بالتحرِيك، لمتَاعِ البَيْت من فُرُشٍ ونَمارِقَ وسُتُورٍ.
وفي المحكم: النَّجُود؛ أَي كصَبور، الذي يعالج النُّجُود بالنَّفْضِ والبَسْطِ والتَّنْضِيد.
والنَّجْدَة، بالفتح السِّمَن، وبه فُسِّر حديثُ الزكاة حينَ ذكَر الإِبلَ: «إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي نَجْدَتِها ورِسْلِها» قال أَبو عبيد: نَجْدَتُها: أَن تَكْثُر شُحومُها حتى يَمْنَع ذلك صاحِبَها أَن يَنْحَرَهَا نَفَاسَةً [بها]، فذلك بمنزلِة السِّلاحِ لها مِن رَبِّها تَمْتَنع به، قال: ورِسْلُها: أَن لا يَكون لها سِمَنٌ فَيَهُونَ عليه إِعطاؤُها، فهو يُعْطِيها على رِسْلِه أَي مُسْتَهِينًا بها، وقال المَرَّار يَصِف الإِبل، وفَسَّرَه أَبو عَمْرو:
لَهُمْ إِبِلٌ لَا مِنْ دِيَاتٍ ولَمْ تَكُنْ *** مُهُورًا ولا مِنْ مَكْسَبٍ غيرِ طَائِل
مُخَيَّسَةٌ فِي كُلِّ رِسْلٍ ونَجْدَةٍ *** وقَدْ عُرِفَتْ أَلْوَانُها في المَعَاقِلِ
قال: الرِّسْل: الخِصْب. والنَّجْدَة: الشِّدَّة، وقال أَبو سعيد في قوله: «في نَجْدَتِهَا»: ما يَنُوبُ أَهْلَهَا مِمّا يَشُقُّ عليهم من المَغارِم والدِّياتِ، فَهذِه نَجْدَةٌ على صَاحِبها، والرِّسْل: مادُونَ ذلكَ من النَّجْدَةِ، وهو أَن يعْقِرَ هذا وَيَمْنَح هذا وما أَشْبَهَه [دُونَ النَّجْدَة] وأَنشدَ لِطَرَفَةَ يصف جارِيَةً:
تَحْسَبُ الطَّرْفَ عَلَيْهَا نَجْدَةً *** يَا لَقَوْمِي لِلشَّبَابِ المُسْبَكِرّ
يقول: شَقَّ عليها النَّظَرُ لِنَعْمَتِها فهي سَاجِيَةُ الطَّرْفِ، وقال صَخْرُ الغَيِّ:
لَوْ أَنَّ قَوْمِي مِنْ قُرَيْمٍ رَجْلَا *** لَمَنَعُونِي نَجْدةً أَوْ رِسْلَا
أَي بأَمْر شَديدٍ أَو بِأَمْرٍ هَيِّنٍ.
ورجُلٌ مِنْجَادٌ: نَصُورٌ، هذه عن اللّحيانيَّ.
والنَّجْدَة الثِّقَلُ، ونَجَدَ الرَّجُلَ يَنْجُده نَجْدًا: غَلَبَه.
وتَنَجَّدَ: حَلَفَ يَمِينًا غَلِيظةً، قال مُهَلْهِل:
تَنَجَّدَ حِلْفًا آمِنًا فأَمِنْتُهُ *** وإِنَّ جَدِيرًا أَنْ يَكُونَ ويَكْذِبَا
واستدرك شيخُنا: أَمَا ونَجْدَيْهَا ما فَعَلْتُ ذلك، من جُمْلَة أَيْمَانِ العَرَب وأَقْسَامِهَا، قالوا: النَّجْدُ: الثَّدْيُ، والبَطْنُ تَحْتَه كالغَوْرِ، قاله في العِنَايَة في سُورَة البَلَد.
وفي الأَساس: ومن المَجاز: هو مُحْتَبٍ بِنِجَادِ الحِلْم.
ويقال، هو ابنُ نَجْدَتِهَا؛ أَي الجَاهِلُ بها، بخلاف قولِهِم: هو ابنُ بَجْدَتِهَا، ذَهَابًا إِلى ابْنِ نَجْدَة الحَرُورِيّ.
وناجِدُ ونُجَيد ومُنَاجِدٌ ونَجْدَةُ أَسماءٌ.
والشَّيخ النَّجْدِيُّ يُكْنَي به عن الشَّيطانِ.
وأَبو بكر أَحمد بن سُلَيْمَان بن الحَسَن النَّجَّاد فَقِيه حَنْبَليٌّ مُكْثِرٌ، عن أَبي داوود وعبد الله بن أَحمد بن حنبل وغيرِهما، ونَجَّادٌ جَدُّ أَبي طالبٍ عُمَيْر بن إِبراهيم بن سَعد بن إِبراهيم بن نَجَّاد النَّجَّادِيّ الزُّهْرِيّ، فقيهٌ شافعيٌّ بَغداديٌّ، روَى عنه الخَطِيب. وبالتخفيف عَبَّاس بن نَجَادٍ الطَّرَسُوسِيّ، ويونس بن يزيد بن أَبي النَّجَادِ الأَيْلِيّ، ومحمد بن غَسَّان بن عَاقل بن نَجَادٍ الحِمْصِيّ، ونَجَاد بن السائبِ المَخْزوميُّ، يقال له صُحْبة، ودَاوود بن عبد الوهاب بن نَجَادٍ الفقيه، سَمِع من أَصحابِ أَبي البَطيّ ببغداد، وَرَبِيعَةُ بنُ ناجِدٍ، رَوَى أَبوه عن عَلِيٍّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
36-تاج العروس (ميش)
[ميش]: المَيْشُ: خَلْطُ الصُّوفِ بِالشَّعَرِ، قال الرّاجِزُ، وهو رُؤْبَةُ:عاذِلَ قد أُولِعْتِ بالتَّرْقِيشِ *** إِلَيَّ سِرًّا فاطْرُقِي ومِيشِي
قالَ أَبو نَصْر: أَي اخْلِطِي ما شِئْتِ من القَوْلِ، كَذَا في الصّحاحِ.
قُلْتُ: وكَذلِكَ فَسَّره الأَصْمَعِيُّ وابنُ الأَعْرَابِيّ وغيرُهما.
والمَيْشُ: خَلْطُ لَبَنِ الضَّأْنِ بلَبَنِ الماعِزِ، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقِيلَ: خَلْطُ اللَّبَنِ الحُلْوِ بالحَامِضِ، ومِنَ الغَرِيبِ أَنَّ الماعِزَ بالفَارِسِيَّةِ تُسَمَّى مِيش، بكَسْرِ المِيم المُمَال.
وعَنِ الكِسَائِيّ: المَيْشُ: كَتْمُ بعضِ الخَبَرِ وإِخْبَارُ بَعْضِهِ، وقَدْ مِشْتُ الخَبَرَ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والمَيْشُ: حَلْبُ بَعْضِ ما فِي الضَّرْعِ وتَرْكُ بَعْضِه، وفِي الصّحاح: حَلْبُ نِصْفِ ما فِي الضَّرْعِ، فإِذا جاوَزَ النّصْفَ فلَيْسَ بمَيْشٍ، وقد ماشَها مَيْشًا.
والمَيْشُ: خَلْطُ كلِّ شَيْءٍ سَوَاءٌ القَوْلُ والخُبْزُ واللَّبَنُ وغَيْرُها. وماشُوا الأَرْضَ مَيْشَةً: مَرُّوا بِهَا، عن أَبِي عَمْرو.
ومَاشَانُ: نَهْرٌ يَجْرِي وَسَطَ مَدِينَةِ مَرْو.
ومَاوَشانٌ: ناحِيَةٌ بهَمَذانَ، نَقَلَه الصاغانيُّ.
* ومِمّا يُسْتَدْرَك عليه:
ماشَ القُطْنَ يَمِيشُه مَيْشًا: زَبَّدَه بَعْدَ الحَلْجِ.
والمَيْشُ: خَلْطُ الكَذِبِ بالصّدقِ، والجِدِّ بالهَزْلِ.
وأَبو طالِب بنُ مِيشَا التَّمّارُ، بالكَسْر: مُحَدِّث رَوَى عَنْ يَحْيَى بنِ ثابِتِ بن بُنْدار.
وماشَ المَطَرُ الأَرْضَ مَيْشًا، إِذا سَحَاهَا، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ عن اللَّيْثِ، وفِي بَعْضِ نُسَخِ كتابِه مَأَشَ بالهَمْز، وقد ذُكِرَ في مَوْضعِه.
ومِيشَةُ، بالكَسْرِ: من قُرَى جُرْجَانَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
37-تاج العروس (حمض)
[حمض]: الحَمْضُ: ما مَلُحَ وأَمَرَّ مِنَ النَّبَاتِ، كالرِّمْثِ، والأَثْلِ، والطَّرْفَاءِ ونَحْوِهَا، كما في الصّحاح.وفي المُحْكَم: الْحَمْضُ من النَّبَاتِ، كُلُّ نَبْتٍ مَالِح أَو حَامِضٍ يَقُومُ على سُوقٍ ولا أَصْلَ له. وقال اللِّحْيَانِيّ: كُلُّ مِلْحٍ أَو حَامِضٍ من الشَّجَرِ كانَتْ وَرَقَتُه حَيَّةً إِذا غَمَزْتَهَا انفَقَأَتْ بمَاءٍ، وكان ذَفِرَ المَشَمِّ، يُنْقِي الثَّوْبَ إِذَا غُسِلَ بِهِ، أَو اليَدَ، فهو حَمْضٌ، نحو النَّجِيلِ، والخِذْرَافِ، والإِخْرِيطِ، والرِّمْثِ، والقِضَّةِ، والقُلاَّم، والهَرْمِ، والحُرُضِ، والدَّغَلِ، والطَّرْفَاءِ، وما أَشْبَهَهَا. وفي التَّهْذِيب عن اللَّيْثِ: الحَمْضُ: كُلُّ نَبَاتٍ لا يَهِيجُ في الرَّبِيع ويَبْقَى على القَيْظِ وفيه مُلُوحَةٌ، إِذا أَكَلَتْهُ الإِبِلُ شَرِبَتْ عَلَيْهُ، وإِذا لم تَجِدْهُ رَقَّتْ وضَعُفَت. وهِي كفَاكِهَةِ الإِبِلِ، والخُلَّةُ مَا حَلَا، وهي كخُبْزِهَا أَي أَنه العَرَب تَقُولُ: الخُلَّةُ خُبْزُ الإِبِلِ، والحَمْضُ فَاكِهَتُهَا. ويُقَال: لَحْمُهَا، كما في الصّحاح، ج: الحُمُوضُ، قال الرّاجِزُ:
يَرْعَى الغَضَى من جَانِبَيْ مُشَفَّقٍ *** غِبًّا ومَنْ يَرْعَ الحُمُوضَ يَغْفِقِ.
أَي يَرِد المَاءَ كُلَّ سَاعَةٍ، كما في الصّحاح.
وحَمَضَتِ الإِبِلُ، من حَدِّ نَصَرَ، حَمْضًا وحُمُوضًا:
أَكَلَتْه، وفي الصّحاح: رَعَتْهُ، ونَقَلَهُ عَنِ الأَصْمَعِيّ. واقْتَصَر في المَصَادِرِ على الأَخِيرِ، كأَحْمَضَت، نَقَلَه الصَّاغَانِيُّ في التَّكْمِلَةِ، والزَّمَخْشَرِيّ في الأَسَاس. وأَحْمَضْتُهَا أَنا: رَعَّيْتُهَا الْحَمْضَ.
وقال ابنُ السِّكِّيتِ: حَمَضَت الإِبِلُ فهِيَ حَامِضَةٌ، إِذا كَانَت تَرْعَى الخُلَّةَ ثمّ صَارَتْ إِلى الحَمْضِ تَرْعَاهُ، مِنْ حَوَامِضَ.
ويقال: إِبِلٌ حَمْضِيَّةٌ، «بالفَتْح»؛ أَي مُقِيمَةٌ فيه، نقله الجَوْهَرِيّ عن الأَصْمَعِيّ. وبَعِيرٌ حَمْضِيٌّ: يَأْكُلُ الْحَمْضَ.
والْمَحْمَضُ، كمَقْعَدٍ، ويُضَمّ أَوَّلُهُ، ذلِكَ المَوْضِعُ الَّذِي تَرْعَى فيه الإِبِلُ الحَمْضَ، الضَّمَّ عن أَبِي عَبَيْدَةَ، ويُنْشَدُ على اللّغَتَيْنِ قَوْلُ هِمْيَانَ بنِ قُحَافَةَ السَّعْدِيّ:
وقَرَّبُوَا كُلَّ جُمَالِيٍّ عَضِهْ *** قَرِيبَةٍ نُدْوَتُهُ مِنْ مُحْمَضِهْ
وحَمَضْتُ عنه، كَرِهْتُه، وحَمَضْتُ به: اشْتَهَيْتُه، نقلهما الصَّاغَانِيّ: وأَرْضُ حَمِيضَةٌ، كسَفِينَةٍ: كَثِيرَتُهُ، عن ابنِ شُمَيْلٍ، وأَرضُونَ حُمْضٌ، بالضَّمِّ.
والْحَمْضَةُ، بالفَتْح: الشَّهْوَةُ للشَّيْءِ.
وفي حَدِيثِ الزُّهْرِيّ: «الأذُنُ مَجَّاجَةٌ وللنَّفْسِ حَمْضَةٌ».
وإِنَّمَا أُخِذَت من شَهْوَةِ الإبِل للحَمْضِ، لأنَّهَا إِذَا مَلَّت الخُلَّةَ اشْتَهَت الحَمْضَ فَتَحَوَّلُ إِليه، كما في الصّحاح. وهكذا ذَكَرَه أَبُو عُبَيْدٍ في الغَرِيبِ، ولكِنْ عَزَاهُ لِبَعْض التَّابِعِينَ. وخَرَّجَه ابنُ الأَثِير من حَدِيثِ الزُّهْرِيّ، كما هُو في الصّحاح. وفي نَوَادِرِ الفَرّاءِ: لِلأذُنِ مَجَّةٌ ومَجَاجَةٌ. وفي كِتَابِ «يافِعٍ ويَفَعَة» تَقُول للرَّجُلِ الكَثِيرِ الكَلَامِ: اكْفُفْ عَنَّا كَلَامَك فإِنَّ للأُذُنِ مَجَّةً، وللنَّفْسِ حَمْضَةً؛ أَي تَمُجُّه وتَرْمِي بهِ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: المَجَّاجَة: الَّتِي تَمُجُّ ما سَمِعَتْه فلا تَعِيه إِذا وُعِظَتْ بِشَيءٍ، أَو نُهِيَت عَنْهُ، ومَعَ ذلِكَ فلَهَا شَهْوَةٌ في السَّمَاع. وقال الأَزْهَرِيّ: المَعْنَى أَنَّ الْآذَانَ لا تَعِي كُلَّ ما تَسْمَعُه، وهي مَع ذلِكَ ذَاتُ شَهْوَةٍ، لِمَا تَسْتَظْرِفُه من غَرَائِبِ الحَدِيثِ ونَوَادِرِ الْكَلَامِ.
وبَنُو حَمْضَةَ، بالفَتْح: بَطْنٌ من العَرَبِ من بَنِي كِنَانَةَ.
قُلْت: وهم بَنُو حَمْضَةَ بنِ قَيس اللَّيْثِيّ، وهو عَمُّ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ بنِ قَيْسٍ الصَّحَابِيّ المَشْهُورِ، قال الشَّاعر:
ضَمِنْتُ لِحَمْضَةَ جِيرَانَهُ *** وذِمَّةَ بَلْعَاءَ أَنْ يُؤْكَلَا
والمَعْنَى أَن لا يُؤْكل، وبَلْعَاءُ هذا هُوَ ابْنُ قَيْسٍ اللَّيْثِيّ.
وعَبْدُ الله بنُ حَمْضَة الخُزَاعِيُّ، تَابِعَيُّ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، وفي الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ. وأَبُو مَحْفُوظ مُعَاذ، كَذا في سَائِر النُّسَخ، وهو غَلَطٌ، صَوابَهُ مُعَان، بالنُّونِ، وكَذَا ضَبَطَه ابنُ مَاكُولَا، وهو ابنُ حَمْضَةَ البَصْرِيّ، رَوَى عَنْه ابن مَهْدِيّ، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَل، ويَحْيَى بنُ معينٍ.
وأَبو مَحْفُوظٍ رَيْحَانُ بنُ حَمْضَةَ البَصْرِيّ، روى عنه أَحمد بنُ حَنْبَل، هكذا هُوَ في كتاب الذَّهَبِيّ، وتَبِعَهُ المُصَنَّف، والصَّوَابُ أَنَّ مُعَانَ بنَ حَمْضَةَ هوَ أَبُو مَحْفُوظٍ.
وقد رَوَى عنه الجَمَاعَةُ المَذْكُورُون، وهما وَاحِدٌ، نَبَّه عَلَيْه الحَافِظُ، مُحَدِّثُونَ.
وفَاتَه: حَمْضَةُ بنُ قَيْسٍ اللَّيْثِيُّ، عَمُّ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ بنِ قَيْسٍ الصَّحَابِيِّ المَشْهُورِ.
والحَمْضِيُّون مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ نُسِبُوا إِلى جَدِّهم حَمْضَةَ.
وحَمْضٌ: ماءٌ لتَمِيمٍ، وقِيلَ: وَادٍ قُرْبَ اليَمَامَةِ.
وحَمَضٌ مُحَرَّكَةً: جَبَلٌ، وقيل: مَنْزِلٌ بَيْنَ البَصْرَةِ والبَحْرَيْن، وقِيلَ: بَيْنَ الدَّوِّ والسُّودَةِ. قال الشّاعِرُ:
يا رُبَّ بَيْضَاءَ لَهَا زَوْجٌ حَرَضْ *** حَلاَّلةٍ بَيْنَ عُرَيْقٍ وحَمَضْ
والحُمُوضَةُ، بالضَّمّ: طَعْمُ الحَامِض، كما في الصّحاح. وقال غَيْرُه: الحُمُوضَةُ ما حَذَا اللسَانَ كطَعْم الخَلِّ واللَّبَنِ الحازِرِ نادِر، لأَنَّ الفُعُولَة إِنَّمَا تَكُونُ للْمَصَادِرِ. وقد حَمضَ ككَرُمَ، وجَعَلَ، وفَرِحَ، الأولَى عن اللَّحْيَانِيّ وَنَقَلَ الجَوْهَرِيّ هذه وحَمَضَ من حَدِّ نَصَر، وحَمِضَ كَفَرِحَ في اللَّبَنِ خَاصَّةً حَمَضًا، مُحَرَّكَةً، وهو في الصّحاح بالفَتْح، وحُمُوضَةً، بالضَّمّ. قال: ويُقَالُ: جاءَنا بإِدْلَةٍ ما تُطَاقُ حَمْضًا؛ أَي حُمُوضَةً، وهي اللَّبِنُ الخَاثِرُ الشَّدِيدُ الحُمُوضَةِ ويُقَال: لَبَنٌ حامِضٌ، وإِنَّهُ لَشَدِيدُ الحَمْضِ والحُمُوضَةِ. وأَحْمَضَه.
ورجُلٌ حامِضُ الفُؤَادِ، في الغَضَب؛ أَي مُتَغَيِّرُهُ فَاسِدُه عَدَاوَةً، كما في العُبَابِ، وهو مَجَازٌ، والَّذِي في الصّحاح: فُلانٌ حَامِضُ الرِّئَتَيْنِ؛ أَي مُرُّ النَّفْسِ.
والحَوَامِضُ: مِياهُ مِلْحَةٌ لِبَنِي عُمَيْرَةَ، نَقَلَه ابنُ عَبّاد.
وحَمِضَةُ، كفَرِحَة: قرية، من «قُرَى» عَثَّرَ، من جِهَةِ القِبْلَةِ، كما في العُبَابِ على ساحِلِ بَحْرِ اليَمَنِ، كما في التَّكْمِلَة.
ويَوْمٌ حَمَضَى، مِثَالُ جَمَزَى: من أَيَّامِهِم، نَقَلَه الصَّاغَانِيّ.
وحميضَةُ، كسَفِينَة، وجُهَيْنَة: ابنُ رُقَيْمِ الخَطْمِيُّ، صَحابِيّ، شَهِدَ أُحُدًا، قاله الغَسّانِيّ. وحميضَةُ بِنْتُ ياسِرٍ، وحميضَةُ بِنْتُ الشَّمَرْدَلِ، أَو هو ابْنُه؛ أَي الشَّمَرْدَل، من الرُّوَاةِ، لَهُمْ ذِكْر.
والحُمّاضُ، كرُمّان: عُشْبَةٌ جَبَلِيَّةٌ من عُشْبِ الرَّبِيع، ووَرَقُهَا عِظَامٌ ضُخْمٌ فُطْحٌ كالهِنْدبَا، إِلاَّ أَنَّه حامِضٌ شَديدُ الحَمْض، وزَهْرُهُ أَحْمَرُ، ووَرَقُه أَخْضَرُ، ويَتَنَاوَسُ في ثَمَره مِثْل حَبِّ الرُّمَّان، طَيَّبٌ، يَأْكُلُه النَّاسُ شَيْئًا قَلِيلًا وقال أَبو حَنِيفَةَ، وأَبُو زِيَادٍ: الحُمَّاضُ يَطُولُ طُولًا شَدِيدًا، وله ورَقَةٌ عَرِيضَةٌ، وزَهْرَةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا دَنَا يُبْسُهُ ابْيَضَّتْ زَهْرَتُهُ. قال أَبو زِيَادٍ: والحُمَّاضُ بِبِلادِنَا، أَرْضِ الجَبَل، كَثِيرٌ، وهو ضَرْبَانِ: أَحَدُهما حامِضٌ عَذْبٌ، ومنه مُرَّ. وفي أُصُولِهِمَا جَمِيعًا إِذَا انْتَهَيَا حُمْرَة، وبذْرُ الحُمَّاضِ يُتَدَاوَى بِهِ وكَذلِكَ بوَرَقِهِ.
وقال الأزْهَرِيُّ: الحُمَّاضُ: بَقْلَةٌ بَرِّيَّةٌ، تَنْبُتُ أَيّامَ الرَّبِيعِ في مَسايِل الماءِ، ولَهَا ثَمَرَةٌ حَمْرَاءُ، وهي من ذُكُورِ البُقُولِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرَّيّ:
فَتَدَاعَى مَنْخِراهُ بذم *** مِثْل ما أَثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَل
قال: وَمَنَابِتُ الحُمَّاضِ الشُّعَيْبَاتُ ومَلاجِئُ الأَوْدِيَةِ، وفِيها حُمُوضَةٌ، ورُبّمَا نَبَّتَها الحَاضِرَةُ في بَسَاتِينهم وسَقَوْهَا ورَبَّوْهَا فلا تَهِيجُ وَقْتَ هَيْجِ البُقُولِ البَرَّيَّةِ.
وفي المِنْهَاج: الحُمّاضُ بَرَّيّ وبُسْتَانِيّ، والبَرَّيُّ يُقَال له السَّلقُ، وليس في البَرِّيّ كُلّه حُمُوضَة. والبُسْتَانيّ يُشْبَه الهِنْدَبَا، فيه حُمُوضَة ورُطُوبَة فضْليَّة لَزِجَةٌ، وأَجْوَدُه البُسْتَانِيّ الحَامضُ. انْتَهَى.
وكلَاهُمَا؛ أَي المُرُّ والعَذْبُ، أَو البُسْتَانِيّ والبَرِّيّ نافعٌ للعَطَشِ، والْتهَابِ الصَّفْرَاءِ، يُقَوِّي الأَحْشَاءَ، ويُسَكِّنُ الغَثَيَانَ والخَفَقَانَ الحارّ، والأَسْنَانَ الوَجِعَةَ، ويَنْفَعُ من اليَرَقَان الأَسْوَدِ، وَيَنْفَعُ ضمَادًا إِذا طُبخَ للْبَرَص والقُوبَاءِ، ويُضَمَّدُ به الخَنَازِيرُ، حَتَّى قيلَ إِنَّهُ إِذا عُلِّقَ في عُنُق صاحبِ الخَنَازير نَفَعَهُ، وهو مَعَ الخَلِّ نافعٌ للجَرَبِ، ويُمْسك الطَّبْعَ، ويَقْطَعُ شَهْوَةَ الطِّين. وبِزْرُهُ بَاردٌ في الأُولَى، وفيه قَبْضٌ يَعْقِلُ الطَّبْعَ خَاصَّةً إِذا قُلِيَ.
وقالُوا: إِنْ عُلِّق في صُرَّةٍ، لَمْ تَحْبَلْ ما دَامَتْ عليها، وهو نافِعٌ من لَسْعِ العَقارِبِ، وإِذَا شُرِبَ من البِزْرِ قَبْلَ لَسْعِ العَقْرَبِ لم يَضُرَّ لَسْعُهَا. ويُقَال: لِمَا في جَوْفِ الأَتْرُج حمّاضٌ، بارِدٌ يابِسٌ في الثّالِثَةِ، يَجْلُو الكَلَفَ واللَّوْنَ طِلَاءً، ويَقْمَعُ الصَّفْرَاءَ، ويُشَهِّي الطَّعَامَ، ويَنْفَعُ من الخَفَقانِ الحَارَّ. ويُطَيِّبُ النَّكْهَةَ مَشْرُوبًا، ويَنْفَعُ من الإِسْهَال الصَّفْرَاوِيّ، ويُوَافقُ المَحْمومينَ.
والتَّحْمِيضُ: الإِقْلالُ من الشَّيْءِ. يُقَالُ: حَمَّضَ لَنَا فُلانٌ في القرَى؛ أَي قَلَّلَ، وكَذلِكَ التَّحْبِيضُ.
والمُسْتَحْمِضُ: اللَّبَنُ البَطيءُ الرَّوْبِ، نَقَلَه ابنُ عَبَّاد.
ومَحْمُودُ بنُ عَلَّي الحُمُّضيُّ، بضَمَّتَين مُشَدَّدَةً: مُتَكَلِّمٌ، شَيْخٌ للفَخْرِ الرَّازِيّ. وقد تَقَدَّم للمُصَنِّفِ في الصَّاد أَيضًا.
وذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّه هو الصَّوابُ، وهكذا ضَبَطَهُ الحَافِظُ وغَيْرُه، فإِيرادُهُ هُنَا ثَانِيًا تَطْوِيلٌ مُخِلُّ لا يَخْفَى، فتأَمَّلْ.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
قَوْلُهُم: اللَّحْمُ حَمْضُ الرِّجَالِ، وقولُهُم للرَّجُل إِذا جاءَ مُتَهَدِّدًا: أَنْتَ مُخْتَلٌّ فَتَحَمَّضْ، نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، والصَّاغَانِيّ، والزَّمَخْشَرِيّ، وهو مَجَازُ، وقال ابنُ السِّكِّيت في «كِتَاب المَعَانِي»: حَمَّضْتُهَا، يَعْنِي الإِبِلَ، تَحْمِيضًا؛ أَي رَعَّيْتُهَا الحَمْضَ.
ومن المَجَازِ قولُهم:
جاؤوا مُخِلِّينَ فَلَاقَوْا حَمْضا
أَي جاؤوا يَشْتَهُونَ الشَّرَّ فَوَجَدْوا مَنْ شَفَاهُمْ مِمّا بِهِم.
ومثلُه قولُ رُؤْبة:
ونُورِدُ المُسْتَوْرِدِينَ الحَمْضَا
أَي مَنْ أَتانَا يَطْلُب شَرَّا شَفَيْناه مِنْ دَائه، وذلِكَ أَنَّ الإِبِلَ إِذا شَبِعَتْ من الخُلَّةِ اشْتَهَتِ الحَمْضَ.
وإِبلٌ حَمَضِيَّة، بالتَّحْرِيك، لُغَةٌ في حَمْضِيَّة، بالتَّسْكِين، على غَيْرِ قِيَاس.
وأَحْمَضَتِ الأَرْضُ، فهي مُحْمِضَةٌ: كَثِيرَةُ الحَمْضِ، وكَذلِكَ حَمْضِيَّةٌ. وقد أَحْمَض القَوْمُ؛ أَي أَصابُوا حَمْضًا.
ووَطِئْنَا حُمُوضًا من الأَرْضِ؛ أَي ذَوَاتِ حَمْضِ.
والمُحَمِّضُ من العِنَبِ، كمُحَدِّث: الحَامِضُ.
وحَمَّضَ تَحْمِيضًا: صار حَامِضًا.
وفُؤَادٌ حَمْضٌ، بالفَتح، ونَفْسٌ حَمْضَةٌ: تَنْفِرُ من الشَّيْءِ أَوّلَ ما تَسْمَعُه. قال دُرَيدُ بنُ الصِّمَّةِ:
إِذا عِرْسُ امْرئٍ شَتَمَتْ أَخَاهُ *** فلَيْسَ فُؤَادُ شانِيهِ بحَمْضِ
وتَحَمَّضَ الرَّجُلُ: تَحَوَّلَ من شَيْءٍ إِلى شَيْءٍ.
وحَمَّضَهُ عنه، وأَحْمَضَهُ: حَوَّلَهُ، وهو مَجاز.
وأَحْمَضَ القَوْمُ: أَفَاضُوا فِيما يُؤْنِسُهُمْ من حَدِيثٍ. ومنه حَدِيث ابنِ عَبّاس ـ رَضِيَ الله عنهما ـ أَنَّه كانَ يَقُول، إِذا أَفَاضَ مَنْ عِنْدَهُ في الحَدِيثِ بَعْدَ القُرْآنِ والتَّفْسِير: «أَحْمِضُوا»، ضَرَبَ ذلِكَ مَثَلًا لخَوْضِهِم في الأَحادِيثِ وأَخْبَارِ العَرَبِ، إِذَا مَلُّوا تَفْسِيرَ القُرْآن، وقال الطِّرِمَّاحُ:
لا يَنِي يُحْمِضُ العَدُوَّ وذُو الخُلَّ *** قريةِ يُشْفَى صَدَاهُ بالإِحْماضِ
وقال بَعْضُ النَّاس: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ المَرْأَةَ في دُبُرِهَا فقد حَمَّضَ تَحْمِيضًا، وهو مَجَاز، كأَنَّه تَحَوَّلَ من خَيْرِ المَكَانَيْنِ إِلى شَرِّهمَا شَهْوَةً مَعْكُوسَةً. ويُقَال للتَّفخِيذِ في الجِمَاع التَّحْمِيضُ أَيْضًا. ومنه قَوْلُ الأَغْلبِ العِجْلِيِّ يَصِفُ كَهْلًا:
يَضُمُّها ضَمَّ الفَنِيقِ البَدَّا *** لا يُحْسِنُ التَّحْمِيضَ إِلاَّ سَرْدَا
يَحْثُو المَلاقِيَّ نَضِيًّا عَرْدَا
والحُمَّيْضَى، كسُمَّيْهَى: نَبْتٌ، ولَيْسَ من الحُمُوضَة.
وبَنُو حُمَيْضَةَ: بَطْنٌ. قال الجَوْهَرِيّ: مِنْ كِنَانَةَ.
وحُمَيْضَةُ: اسمُ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مِنْ بَنِي عامِرِ بْن صَعْصَعَةَ.
وحُمَيْضَةُ بنُ مُحَمَّدِ بن أَبي سَعْدٍ الحَسَنِيّ، من أُمَرَاءِ مَكَّةَ، كَان بالعِرَاق.
وحَمِيضٌ، كأَمِيرٍ: مَاءٌ لعائِذَةَ بنِ مَالِكٍ، بقَاعَةِ بَنِي سَعْدٍ.
والحُمّاضِيَّةُ: مَعْجُونٌ يُرَكَّب من حُمَّاضِ الأُتْرُجِّ، وصِفَتُهَا، مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الطِبّ.
والحَامِضُ: لَقَبُ أَبِي مُوسَى سُلَيْمَانَ بنِ مُحمَّد بْن أَحْمَدَ النَّحْوِيِّ، أَخَذَ عن ثَعْلَبٍ، صَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وأَلَّفَ في اللُّغَة «غَرِيب الحَدِيثِ» و«خَلْقَ الإِنْسَانِ» و«الوُحُوشُ» و«النَّبَات»، رَوَى عنه أَبو عُمَرَ الزَّاهِدُ، وأَبُو جَعْفَرٍ الأَصْبَهَانِيّ. مات سنة 305 وحَامِضٌ رَأْسِهِ: لَقَبُ أَبي القَاسِمِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحاقَ المَرْوَزِيّ الحَامِضِيّ، رَوَى عنه الدَّارقُطْنِيّ. قاله السَّمْعَانِيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
38-تاج العروس (برمك)
[برمك]: بَرْمَكُ كجَعْفَرٍ أَهْمَلَه الجَمَاعَةُ، وهو جَدُّ يَحْيَى بنِ خالِدٍ البَرْمَكِيِّ وهو بَرْمَكُ الأَصْغَرِ وكانَ خَالِدُ يكُنَّى أبا العَوْنِ وأَبَا العَبَّاسِ، وقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ الكَاتِبِ، وعنه ابنه يَحْيَى، وخالِدِ أَحَد العِشْرِين الذين اخْتَارَهم الشِّيْعَةُ لإِقامةِ دَعْوةِ بَنِي العَبَّاس بَعْد النُّقَباءُ الاثْنَي عَشَرَ، قالَ ابنُ العَدِيمِ في تارِيخِ حَلَب: قالَ ابنُ الأَزْرَقِ: حدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِيمٌ قال: كانَ بَرْمَكُ واقِفًا ببابِ هِشَام فمرَّ به مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاس فأَعْجَبَه ما رَأَى مِنْ هَيْئَتِه فسَأَلَ عنه فأُخْبِرَ بقَرَابتِه مِنَ النبيِّ، صلى الله عليه وسلم، فقالَ لابنِهِ خالِد: يا بُنيَّ إنَّ هؤلاءَ أَهْل بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهُمْ وَرَثَته وأَحَقُّ بخلافَتِهِ، والأَمْرُ صائِرٌ إِليهم فإنْ قَدِرْتَ يا بُنيّ أنْ يكونَ لكَ في ذلكَ أَثَرٌ تَنَال به دُنْيا ودِينًا فافْعَل، قالَ: فحفِظَ خالِدٌ ذلكَ عَنْه وعَمِلَ عَلَيه عِنْدَ خُروجهِ في الدَّعْوةِ وهم أي أَوْلادهُ يُسَمَّونَ: البَرامِكَةُ وكانَ جَدُّهم بَرْمَك مَجُوسيًّا، وهو الذي قَدِمَ إلى الرَّصَافةِ ومعه ابنُه خَالِد، وكانَ قَدْ تَعَلَّمَ العِلْم في جبَالِ كُشْمِيْر. وأمَّا بَرْمَكُ الأَكْبَر فهو ابنُ بَشْتاسِف بن جَامَاس، وأَخْبَارُ جَعْفَر والفَضْل ابنَيْ يَحْيَى بن خَالِد مَشْهُورَةٌ مدَوَّنةٌ في الكتُبِ يُضْرَبُ بهم المَثَلُ في الجُودِ والكَرَمِ.* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه: البَرْمَكِيَّةُ مَحَلَّة ببَغْدَادَ، وقِيلَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَاها، ويُقالُ لها أَيْضًا البَرَامِكَةُ كأنَّه نِسْبَةٌ إلى آلِ بَرْمَك الوزَرَاء كالمَهَالبةِ والمَرَازِبةِ نُسِبَ إليها أبو حفصٍ عُمَرُ بنُ أَحْمَد بن إبْرَاهيم البَرْمَكِيُّ كانَ ثِقَةً صالِحًا ماتَ سَنَةَ ثلثمائةٍ وتِسْعٍ وثَمَانِيْن، وابنُه أبو إسْحق إبْرَاهِيم بن عُمَر بن أَحْمد البَرْمَكِيّ الحَنْبَليّ رَوَى عَنْه الخَطِيْبُ وقاضِي المَارسْتَان وماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وخَمْسٍ وأَرْبَعِين، وأَخُوهُ أبو الحَسَنِ عَلِيٍّ كانَ ثِقَةً دَرَسَ فِقْهَ الشافِعِيّ عَلَى أبي حامِدٍ الأَسْفَرَايني، رَوَى عَنْه الخَطِيْبُ وماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وخَمْسِين، وأَخُوهُما أبو العَبَّاس أَحْمدُ سَمِعَ ابنَ شاهِيْن وعَنْه الخَطِيْب كانَ صَدُوقًا ماتَ سَنَةَ أَرْبَعمائة وأحد وأَرْبَعِين، وأَحْمَدُ بن إبْرَاهِيم بن عُمَر البَرْمَكِيّ محدِّثٌ جَلِيلٌ رَوَى عَنْه القاضِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقي.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
39-تاج العروس (ربك)
[ربك]: رَبَكَهُ يَرْبكه رَبْكًا خَلَطَهُ فارْتَبَكَ اخْتَلَطَ ورَبَكَ الثَّريدَ يَرْبكُهُ رَبْكًا أَصْلَحَهُ وخَلَطَهُ بغيرِه وقال الليْثُ: رَبَكَ فلانًا رَبْكًا أَلْقاهُ في وَحَلٍ فارْتَبَكَ فيه أي نَشَبَ فيه. ورَبَكَ الرَّبيكَةَ يَرْبكُها رَبْكًا عَمِلَها وهي أَقِطٌ بِتَمْرٍ وسَمْنٍ يُعْمَلُ رخْوًا ليْسَ كالحَيْسِ فيُؤْكَلُ، وهو قَوْل غَنِيَّة أُمُّ الحَمَارِسِ الكِلَابِيَّةِ. قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: ورُبَّما صُبَّ عليه ماءٌ فَشُرِبَ شُرْبًا أو هو تَمْرٌ وأقِطٌ يُعْجَنانِ مِن غَيْرِ سَمْنٍ، أو رُبٌّ يُخْلَطُ بدَقيقٍ أو سَويقٍ أو طَبيخٌ من تَمْرٍ وبُرٍّ أو دَقيقٌ وأقِطٌ مَطْحونٌ يُلبَكُ بسَمْنٍ مختلطٍ بالرُّبِّ، وهذا قَوْل الدُّبَيْرِية وقَدْ اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ عَلَى قَوْلِها وقَوْل أُمِّ الحُمَارِس، أو هو رُبٌّ وأَقِطٌ بسَمنٍ وهذا مِثْل قَوْل الدُّبَيْرِيةِ سَوَاء، فصارَتِ الأَقْوَال سَبْعَة كالرَّبيكِ في الكُلِّ قالَ أبو الرهيم العَنْبَريُّ:فإنْ تَجْزَعْ فغيرُ مَلُومِ فِعْلٍ *** وإِنْ تَصْبِرْ فمن حُبُكِ الرَّبِيكِ
ويُضْرَبُ مثلًا للقومِ يَجْتَمِعُون مِن كلّ وتقدَّم عن الجَوْهَرِيِّ في ب ر ك: أَنَّ البَرِيكَةَ الخَبِيْص وليْسَ هو الرَّبِيْكَة وهي الحَيْسُ أو البَرِيْك الرَّطب يُؤْكَلُ بالزبدِ عن أبي عَمْرو وتَقَدَّمَ في ح ي س الكَلام فيه مُشْبعًا فرَاجِعْه.
ورَجُلٌ رُبَكٌ كصُرَدٍ ورَبِيْك مِثْل أميرٍ ورِبَكٌ مِثْل هِجَفٍّ الثاني على النَّسَبِ مُخْتَلِطُ في أمرِهِ وشاهِدُ الأخِيْر قَوْل رُؤْبَة:
أَغْبِطُ بالنَّوْمِ الخلِيَّ الرَّاقِدَا *** لاقَى الهُوَيْنَا والرَّبَك الرِّاغِدَا
قال ابنُ دُرَيْدٍ ورَجُلٌ رَبِكٌ ككَتِفٍ ضَعِيفُ الحيلَةِ على النَّسَبِ. وارْتَبَكَ الرجُلُ اخْتَلَطَ عليه أَمْرُهُ وهو مَجَازٌ كَرَبِكَ كفَرِحَ رَبْكًا ومنه حدِيثُ عليٍّ رضي الله عنه: «تحيّر في الظلمَاتِ وارْتَبَكَ في الهَلَكَاتِ» أي وَقَعَ فيها ولم يَكَدْ يخْلص منها. وفي حدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «وارْتَبَكَ والله الشيخُ».
وارْتَبَكَ في كلامِهِ إذا تَتَعْتَعَ وهو مَجَازٌ. وارْتَبَكَ الصَّيْدُ في الحِبالَةِ اضْطَرَبَ وهو مَجَازٌ، وقالَ ابنُ عَبَّادٍ ارْباكَّ فلانٌ عن الأَمْر اربِيكاكًا وَقَفَ عنه قالَ: وارْباكَّ رأيُهُ عَلَيه إذا اخْتَلَطَ وأَرْبُكُ بضمِ الباءِ ويقالُ أُرْبُقُ بالقافِ وتفتحُ الباءُ أَيْضًا كما قَالَهُ يَاقُوت قرية بخوزِسْتانَ مِن نَواحِي الأَهْوَاز، بل ناحِيَة مُسْتَقِلة ذات قُرىً ومَزَارِع وعِنْدها قَنْطَرَة مَشْهُورَة لها ذِكْر في كتُبِ السِّيَرِ وأَخْبَارِ الخَوَارِجِ فتحَها المُسْلِمون عامَ سَبْع عَشَرَة في خِلَافَةِ سَيِّدِنا عُمَرَ رضي الله عنه قَبْل نَهَاوَنْد، وأَمِيْر الجَيْشِ يَوْمَئِذٍ النّعْمَان بنُ مُقَرَّنٍ المزنيّ رضي الله عنه وقالَ في ذلِكَ:
عَوَتْ فارس واليومُ حامِ أوارُهُ *** بمُحتفَل بين الدكاك وأَرْبَك
فلا غرو إلَّا حين ولّوا وأدركتْ *** جموعَهم خيلُ الربيس بن أربك
وأفلتهنّ الهُرمُزان موائلا *** به نَدَبٌ من ظاهر اللون أعتك
منها أبو طاهِرٍ عليُّ بنُ أحمَدَ بنِ الفَضْلِ الرَّامهرمزيُّ الأَرْبُكِيُّ ويُقالُ الأَرْبَقِيُّ، قالَ يَاقُوت: وقَرَأْتُ في كتابِ المُفَاوَضَةِ لأبي الحَسَنِ محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ نَصْر الكاتِبِ: حدَّثني القاضِي أبو الحَسَنِ أَحْمَدُ بنُ الحَسَن الأَرْبَقِيّ بأَرْبَقَ وكانَ رَجُلًا فاضِلًا قاضِي البَلَدِ وخَطِيْبه وإِمَامه في شَهْرِ رَمَضَان، ومِن الفضل على منزلة قالَ: تقلَّدَ بَلَدَنا بَعْض جُفَاةِ العَجَمِ والتفَّ به جَمَاعَة ممَّن حَسَدَني وكَرِهَ تقدُّمِي فصَرَفنِي عن القَضاءِ ورَامَ صَرْفي عن الخَطَابةِ والإِمَامَةِ فثارَ الناسُ ولم يُساعِدْه المُسْلِمُون فكتَبْتُ إليه:
قل لِلَّذين تأَلَّبُوا وتحزَّبُوا: *** قَدْ طبت نفسًا عَنْ وِلَايةِ أَرْبق
هَبْنِي صُدِدْتُ عن القضاءِ تعدّيًا *** أَأُصدُّ عَنْ حِذْقِي به وتَحَقُّقِي
وعن الفَصَاحةِ والنَّزاهةِ والنُّهَى *** خلقًا خَصَصْت به وفَصْل المَنْطِق
والرَّبيْكَةُ: كسَفينَةٍ الماءُ المُخْتَلِطُ بالطينِ نَقَلَه الصَّاغَانيُّ.
والرَّبِيْكَةُ: الزُّبْدَةُ التي لا يُزايلُها اللَّبَنُ فهي مُرْتَبِكَةٌ نَقَلَه الصَّاغَانيُّ وفي المَثَلِ: غَرْثانُ فارْبُكوا له ورَوَى ابنُ دُرَيْدٍ: فابْكُلُوا له باللَّام يُقالُ: أتَى أَعْرابِيٌّ أَهْلَهُ، كما في الصِّحاحِ، أي مِن سَفَرٍ يُقالُ: هو ابن لسانِ الحُمْرَةِ كما في العُبَابِ، فَبُشِّرَ بغُلامٍ وُلِدَ له فقال ما أَصْنَعُ به أآكُلُهُ أم أشْرَبُهُ فقالَتْ امْرَأتُهُ ذلك القَوْلَ، فلمَّا شَبعَ قال كَيْفَ الطَّلَا وأُمُّهُ ومَعْنَى المَثَلِ أي هو جائِعٌ فسَوُّوا له طَعَامًا يَهْجَأْ غَرَثُه، ثم بَشِّرُوه بالمَوْلُودِ. قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: يُضْرَبُ لمَنْ ذَهَبَ هَمّه وتَفَرَّغ لغَيْرِه. والأَرْبَكُ من الإِبِلِ الأَسْوَدُ مُشْرَبًا كُدْرَةً أو الشَّديدُ سَوادِ الأُذُنَيْنِ والدُّفوفِ وما عَدا ذلك أي أذُنَيْهِ ودُفُوفه مُشْرَبٌ كُدْرَةً والجَمْعُ رُبْكٌ وهي الرُّمْكُ بالميمِ، قالَ شَمِرٌ: والميمُ أَعْرَفُ، وقالَ الصَّاغَانيُّ: أَقْوَى؛ وبِهمَا رُوِيَ حدِيثُ أبي أُمَامة رضي الله عنه في صِفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ «أَنَّهم يَرْكَبُون المَيَاثِر على النُّوقِ الرُّبْكِ عليها الحَشَايَا».
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:
رَمَاه بالرَّبِيْكَةِ أي بأَمْرٍ ارْتَبَكَ عَلَيه.
والرَّبُوكُ: كصَبُورٍ تَمْرٌ يُعْجَنُ بسَمنٍ وأَقِطٍ فيُؤْكَلُ نَقَلَه الصَّاغَانيُّ.
وجَبَلٌ أَرْبَكُ أَرْمَك.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
40-تاج العروس (دهل)
[دهل]: الدَّهْلُ أَهْمَلَه الجَوْهَرِيُّ: وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: السَّاعَةُ، يقالُ: مَضَى دَهْلٌ من اللَّيلِ أي ساعَةً. وقالَ ابنُ السِّكِّيت: أي صَدْرٌ منه، وأَنْشَدَ:مَضى من الليلِ دَهْلٌ وهي واحِدةٌ *** كأَنَّها طائِرٌ بالدَّوِّ مَذْعُور
كذا رَوَاه يَعْقوب، ورَوَاه اللّحْيانيّ بالذَّالِ وهي نادِرَةٌ.
وقالَ أَبُو عَمْرٍو: الدَّهْلُ: الشَّيءُ اليَسيرُ.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الدَّاهِلُ المُتَحَيِّرُ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: أَصْلُه دالةٌ.
ودِهْلَى بالكسرِ أَعْظَمُ مُدُنِ الهِنْدِ الإسْلامِيَّةِ لها عِدَّة تَوَارِيخ مُخْتَصَّة بأَحْوالِها ومُلُوكِها وما امْتَازَت به على غيرِها من البِلادِ، وقد ذَكَرَها ابنُ بَطُّوطة في رِحْلَتِه وأَوْسع فيها الكَلامَ، وهي على نَهْرٍ جارٍ كالنِّيلِ، قرية والنِّسْبَةُ إليها دِهْلَويٌّ ودِهْلِيٌّ، وقد انْتَسَبَ إليها أَكابِرُ العُلَماءِ في كلِّ فنٍّ قَدِيمًا وحدِيثًا، منهم سرَاجُ الدِّيْن عُمَرُ بنُ إسْحق الدهْلَويُّ أَحدُ أَئِمَّةِ الأُصُولِ، والسَّيِّد أَصِيْل الدِّيْن عبْدُ الرَّحمنِ بنُ قطبِ الدِّين حَيْدر بن عليِّ بنِ أَبي بَكْرٍ الشِّيرَازِي الدهْلَويُّ المُحدِّثُ المُتَوَفى بكنبابت سَنَة 817، ووالِدُه أَحَدُ الحفَّاظِ وُلِدَ بدِهْلَى سَنَة 714، والشيْخُ قُطْبُ الدِّيْن بخَتْيَارُ بنُ أَحْمدَ بنِ موسَى الفرْغانيُّ الدهْلَويُّ أَحَدُ مشايخِنا المَشْهُورِين المُتَوَفى سَنَة؛ والشيْخُ نظامُ الدِّيْن محمدُ بنُ أَحْمدَ بنِ دَانيال الخالِدِيُّ البلدارنيُّ الدهْلَويُّ المُتَوَفى سَنَة 725؛ والسَّيِّد نَصِيرَ الدِّيْن محمودُ المَعْروفُ بسرَاجِ دِهْلَى المُتَوَفى سَنَة 757، وسَعِيدُ بنُ عبدِ اللهِ الدِهْليُّ البَغْدادِيُّ الحافِظُ نَزِيل دِمَشْق سَمِعَ الكَثِيرَ وجَمَعَ وأَفَادَ واسْتَدْرَكَ على الذَّهَبيِّ وغيرِه من الشيوخِ، قالَ الحافِظَ قد لَقِيَه جماعَةٌ من شيوخِنا ورَأَيْت له وَقْعة بَغْدادَ قد حَرَّرَها، مَاتَ سَنَة 749.
قلْتُ: وهو نَجْم الدِّيْن أَبُو الخَيْرِ ويُعْرفُ بالجلالِ وكان حَنْبلِيًّا؛ ومن المُتأَخِّرين الإمامُ المُحدِّثُ أَبُو محمدٍ عبدُ الحَقِّ بنُ سَيْفِ الدِّيْن البُخَارِيُّ الدهْلَويُّ من كبارِ أَئِمَّةِ الحدِيثِ، شَرَحَ المشْكَاة، عَرَبيُّ وفارِسِيٌّ، ومَدَارجُ النبوَّةِ فارِسِيٌّ، تَرْجَمَ فيه المَوَاهبَ اللّدْنِيةِ وأَخْبَارَ الأَخْيارِ وغَيْرَها، ووَفَدَ إلى الحَرَمَيْن فأَخَذَ عن الشهابِ أَحْمدَ بنِ حجرِ المَكِّيّ وطَبَقَتِه كالشيخِ عبْدِ الوَهَابِ المتقيّ وملّا علي قاري وغيرِهما.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
قالَ اللَّيْثُ: لا دَهْل، بالنَّبَطِيّةِ، معْنَاهُ لا تَخَفْ، وأَنْشَدَ للطرِمَّاحِ:
فقلتُ له لا دَهْل مِلْقَمْل بَعْدَ ما *** مَلا نَيْفَقَ التُّبَّان منه بعاذِر
بعَاذِر: من العَذِرَةِ. وأَنْشَدَه الأَزْهَرِيُّ ونَسَبَه لبَشَّار وقالَ: دَهْل وقَمْل ليسَا من كَلامِ العَرَبِ، إنَّما هُما من كَلامِ النَّبَطِ، يُسَمّون الجَمَلَ قَمْل.
وكصُرَدٍ، دُهَلُ بنُ عليِّ بنِ أَحْمدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ دَهل العَدْنانيّ الحشْيبريّ الغَيْثيّ حَدَّثَ عن عليِّ بنِ محمدِ بنِ أَبي بَكْرِ بنِ مطيرِ الحكميِّ وعَبْد الواحِدِ بن محمدِ الحَبَّاك، ومحمد بن أَحْمَدَ صاحِبُ الحَالِ وأَلَّفَ حاشِيَةً على المنْهَاجِ سَمَّاها، إِفَادَة المُحْتاجِ، واجْتَمَعَ به شيْخُ مشايخِنا العَلَّامَة مُصْطَفى بنُ فَتْح الله الحمويُّ، وعبدُ العَزيزِ بنُ أَبي دُهَيْلٍ الخضريّ كزُبَيْرٍ شاعِرٌ ضَبَطَه الرشاطيُّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
41-تاج العروس (قذى)
[قذى]: ي القَذَى: ما يَقَعُ في العَيْنِ وما تَرْمي به.والقَذَى في الشَّرابِ: ما يَقَعُ فيه مِن ذُبابٍ أَو غيرِهِ.
وقالَ أَبو حنيفَةَ: القَذَى ما يَلْجأُ إلى نواحِي الإناءِ فيَتعَلَّقُ به، وقد قَذِيَ الشَّرابُ قَذًى، وقالَ الأخْطَل:
وليسَ القَذَى بالعُودِ يَسْقُطُ في الإنا *** ولا بذُبابٍ قَذْفُه أَيْسَرُ الأمْرِ
ولكنْ قَذَاها زائِرٌ لا نُحِبُّه *** تَرامَتْ به الغِيطانُ من حيثُ لا نَدْرِي
والقَذَى: ما هَراقَتِ النَّاقَةُ والشَّاةُ من ماءٍ ودَمٍ قَبْل الولَدِ وبعدَه، وقيلَ: هو شيءٌ يخرُجُ مِن رَحِمِها بعدَ الولادَةِ، وقد قَذَتْ.
وحكَى اللّحْياني: أنَّ الشَّاةَ تَقْذي عشرًا بعدَ الوِلادَةِ ثم تَطْهُر، فاسْتعملَ الطُّهْر في الشاةِ.
والقِذَى، كإلَى: التُّرابُ المُدَقَّقُ، عن ابنِ الأعْرابي، وهو الذي يَقَعُ في العَيْنِ، الجمع: أَقْذاءٌ، كحبْرٍ وأَخْبارٍ، وقُذِي، كصُلِيَ، قالَ أبو نُخَيْلة:
مِثْلُ القَذى يَتَّبعُ القُذِيَّا
وقد قَذِيَتْ عَيْنُه، كرَضِيَ، تَقْذَى قَذًى وقَذْيًا وقَذَيانًا، بالتَّحْرِيكِ: وَقَعَ فيها القَذَى، أَو صارَ فيها، وهي قَذِيَّةٌ، كغَنِيَّةٍ، وقَذِيَةٌ، كفَرِحَةٍ، وأَنْكَرَ بعضُهُم التّشْديدَ، ومَقْذِيَّةٌ: خالَطَها القَذَى.
وقالَ الأصْمعي: قَذَتْ عَيْنُه تَقْذِي قَذْيًا، زادَ غيرُهُ: وقَذَيانًا، بالتحريكِ، وقُذِيَّا، كعُتِيٍّ، وقَذًى، بالفَتْح مَقْصورٌ: قَذَفَتْ بالغَمَصِ والرَّمَصِ، ونَصّ الأصْمعي: رَمَتْ بالقَذَى.
وقَذَّى عَيْنَه تَقْذِيَةً، وأَقْذَاها: أَلْقَى فيها القَذَى أَو أَخْرَجَهُ منها.
والذي في الصِّحاح: أَقْذَاها جَعَلَ فيها القَذَى، وقَذَّاها: أَخْرَجَ منها القَذَى.
وفي المُحْكم: وقَذَّاها أَيْضًا: أَخْرَجَ ما فيها مِن قَذًى أَو كُحْلٍ، وهو ضِدٌّ.
وقَذَتْ قاذِيَةٌ من النَّاسِ؛ أَي قَدِمَتْ جماعَةٌ قَلِيلَةٌ، هكذا رَواهُ أَبو عَمْرٍو.
قالَ ابنُ بُرَي: وهذا الذي يَخْتارُه عليُّ بنُ حَمْزَةَ الأصْبهاني. ورَواهُ أَبو عبيدٍ بالدالِ المُهْملةِ وقد تقدَّمَ وهو الأشْهَرُ، نقَلَهُما الجَوْهرِي وقَذَتِ الشَّاةُ تَقْذِي قَذًى: أَلْقَتْ بياضًا من رَحِمِها حِينَ تُريدُ الفَحْلَ.
يقالَ: كلُّ ذَكَرٍ يَمْذِي وكلُّ أُنْثَى تَقْذِي؛ أَي تَرْمي بياضَها من شَهْوةِ الفَحْلِ، وهو مجازٌ.
وقَاذاهُ مُقاذَاةً: جَارَاهُ، كذا في النُّسخِ والصَّوابُ جَازاهُ، كما في الصِّحاح، وأَنْشَدَ:
فسَوفَ أُقاذِي القَوْمَ إن عِشْتُ سالِمًا *** مُقاذَاةَ حُرٍّ لا يَقِرُّ على الذُّلِّ
والاقْتِذاءُ: نَظَرُ الطَّيرِ ثم إغماضُه، عن ابنِ الأعْرابي، وبه فسَّر قولُ حُمَيدٍ يَصِفُ برقًا:
خَفَى كاقْتِذاءِ الطيرِ والليلُ واضِعٌ *** بأَرْواقِه والصُّبْحُ قد كاد يَلْمَعُ
وقالَ غيرُهُ: يُريدُ كما غَمَّضَ الطائِرُ عَيْنَه من قَذاةٍ وقَعَتْ فيها.
وقالَ الأصْمعي: لا أَدْرِي ما مَعْنى قوْلَه: كاقْتِذاءِ الطيرِ.
وقيلَ: اقْتِذاءُ الطَّيرِ فَتْحُها عُيونَها وتَغْمِيضُها كأَنَّها تُجَلِّي بذلك قَذَاها ليكونَ أَبَصْرَ لها.
وفي الأساسِ: وذلكَ حينَ يحكُّ الرأْسَ. وقد أَكْثَرُوا تَشبِيه لَمْع البَرْقِ به.
ومِن المجازِ: هو يُغْضِي على القَذاءِ، كذا في النُّسخِ والصَّوابُ على القَذَى؛ أَي يَسْكُتُ على الذُّلِّ والضَّيْمِ وفَسادِ القَلْبِ، نقلَهُ الأزْهرِي.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
القَذاةُ: كالقَذَى، أَو الطائِفَةُ منه.
ولا يصِيبُك منِّي ما يَقْذِي عَيْنَك، بفَتْح الياءِ.
والأَقْذَاءُ: السَّفِلَة مِن الناسِ.
وفلانٌ في عَيْنِه قَذاةٌ إذا ثَقُل عليه.
ورجُلٌ قَذِيُّ العين، ككَتِفٍ: إذا سَقَطَتْ في عَيْنِه قَذاةٌ. وفي الحديثِ: «هُدْنةٌ على دَخَنٍ وجماعةٌ على أَقْذاء» يُريدُ اجْتِماعَهم على فَسادٍ مِن القُلُوبِ، قالَهُ أَبو عبيدٍ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
في الواوِ مَرَّ يَقْذُو: إذا مَشَى سَيْرًا ضَعِيفًا، نقلَهُ الصَّاغاني.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
42-لسان العرب (نجد)
نجد: النَّجْدُ مِنَ الأَرض: قِفافُها وصَلَابَتُها وَمَا غَلُظَ مِنْهَا وأَشرَفَ وارتَفَعَ واستَوى، وَالْجَمْعُ أَنْجُدٌ وأَنجادٌ ونِجاد ونُجُودٌ ونُجُدٌ؛ الأَخيرة عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وأَنشد:لَمَّا رَأَيْتُ فِجاجَ البِيدِ قَدْ وَضَحَتْ، ***ولاحَ مِنْ نُجُدٍ عادِيةً [عادِيةٍ] حُصُرُ
وَلَا يَكُونُ النِّجادُ إِلا قُفًّا أَو صَلابة مِنَ الأَرض فِي ارْتِفاعٍ مِثْلَ الْجَبَلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ يَدَيْكَ يردُّ طَرَفَكَ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَيُقَالُ: اعْلُ هَاتَيْكَ النِّجاد وَهَذَاكَ النِّجاد، يُوَحَّدُ؛ وأَنشد:
رَمَيْنَ بالطَّرْفِ النِّجادَ الأَبْعَدا قَالَ: وَلَيْسَ بِالشَّدِيدِ الِارْتِفَاعِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ فِي زكاةِ الإِبل: «وَعَلَى أَكتافها أَمْثالُ النّواجِدِ شَحْمًا»؛ هِيَ طرائقُ الشحْمِ، واحِدتُها ناجِدةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهَا؛ وَقَوْلُ أَبي ذؤَيب:
في عانةٍ بِجَنُوبِ السِّيِّ مَشْرَبُها ***غَوْرٌ، ومَصْدَرُها عَنْ مائِها نُجُد
قَالَ الأَخفش: نُجُدٌ لُغَةُ هُذَيْلٍ خَاصَّةً يُرِيدُونَ نَجْدًا.
وَيُرْوَى النُّجُدُ، جَمَع نَجْدًا عَلَى نُجُدٍ، جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ نَجْدًا، قَالَ: هَذَا إِذا عَنَى نَجْدًا العَلَمي، وَإِنْ عَنَى نَجْدًا مِنَ الأَنجاد فغَوْرُ نَجْد أَيضًا، وَالْغَوْرُ هُوَ تِهامة، وَمَا ارْتَفَعَ عَنْ تِهامة إِلى أَرض الْعِرَاقِ، فَهُوَ نَجْدٌ، فَهِيَ تَرْعى بِنَجْدٍ وَتَشْرَبُ بِتِهامة، وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:
ذَرانيَ مِنْ نَجْدٍ، فإنَّ سِنِينَه ***لَعِبْنَ بِنا شِيبًا، وشَيَّبْنَنا مُرْدا
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَلَّاع أَنْجُد أَي ضابطٌ للأُمور غَالِبٌ لَهَا؛ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ أَبي شِحاذٍ الضَّبِّي وَقِيلَ هُوَ لخالدِ بْنِ عَلْقَمةَ الدَّارمي:
فَقَدْ يَقْصُرُ القُلُّ الفَتى دونَ هَمِّه، ***وَقَدْ كانَ، لَوْلا القُلُّ، طَلَّاعَ أَنجُدِ
يَقُولُ: قَدْ يَقْصُرُ الفَقْرُ عَنْ سَجِيَّتِه مِنَ السَّخَاءِ فَلَا يَجِدُ مَا يَسْخُو بِهِ، وَلَوْلَا فَقْرُهُ لسَما وَارْتَفَعَ؛ وَكَذَلِكَ طَلَّاعُ نِجَادٍ وطَلَّاع النَّجاد وطلَّاع أَنجِدةٍ، جَمْعُ نِجاد الَّذِي هُوَ جمعُ نَجْد؛ قَالَ زِيَادُ بْنُ مُنْقِذ فِي مَعْنَى أَنْجِدةٍ بِمَعْنَى أَنْجُدٍ يَصِفُ أَصحابًا لَهُ كَانَ يَصْحَبُهُمْ مَسْرُورًا:
كَمْ فِيهِمُ مِنْ فَتًى حُلْوٍ شَمائِلُه، ***جَمِّ الرَّمادِ إِذا مَا أَخْمَدَ البَرِمُ
غَمْرِ النَّدى، لَا يَبِيتُ الحَقُّ يَثْمُدُه ***إِلّا غَدا، وَهُوَ سَامِي الطّرْفِ مُبْتَسِمُ
يَغْدُو أَمامَهُمُ فِي كُلِّ مَرْبأَةٍ، ***طَلَّاعِ أَنْجِدةٍ، فِي كَشْحِه هَضَمُ
وَمَعْنَى يَثْمُدُه: يُلِحُّ عَلَيْهِ فَيُبْرِزُه.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وأَنجِدةٌ مِنَ الْجُمُوعِ الشَّاذَّةِ، وَمِثْلُهُ نَدًى وأَنْدِيةٌ ورَحًى وأَرْحِيةٌ، وَقِيَاسُهَا نِداء ورِحاء، وَكَذَلِكَ أَنجِدةٌ قِيَاسُهَا نِجادٌ.
والمَرْبَأَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ يَكُونُ فِيهِ الرَّبِيئة؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ جمعُ نُجُود جَمْعَ الجمْعِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْجَوْهَرِيِّ وَصَوَابُهُ أَن يَقُولَ جَمْعُ نِجادٍ لأَن فِعالًا يُجْمَعُ أَفْعِلة نَحْوَ حِمار وأَحْمِرة، قَالَ وَلَا يُجْمَعُ فُعُول عَلَى أَفْعِلة.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ فُلَانٌ طَلَّاعُ أَنْجُد وطلَّاع الثَّنايا إِذا كَانَ سامِيًا لِمَعالي الأُمور؛ وأَنشد بَيْتَ حُمَيْدِ بْنِ أَبي شِحاذٍ الضَّبِّيّ:
وَقَدْ كَانَ لَوْلا القُلُّ طَلَّاعَ أَنْجُد
والأَنْجُدُ: جمعُ النَّجْد، وَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ.
والنَّجْدُ: مَا خَالَفَ الغَوْر، وَالْجَمْعُ نُجُودٌ.
ونجدٌ: مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ مَا كَانَ فَوْقَ العاليةِ والعاليةُ مَا كَانَ فَوْقَ نَجْدٍ إِلى أَرض تِهامةَ إِلى مَا وَرَاءَ مَكَّةَ، فَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ إِلى أَرض الْعِرَاقِ، فَهُوَ نَجْدٌ.
وَيُقَالُ لَهُ أَيضًا النَّجْدُ والنُّجُدُ لأَنه فِي الأَصل صِفَةٌ؛ قَالَ المَرّارُ الفَقْعَسِيُّ:
إِذا تُرِكَتْ وَحْشِيّةُ النَّجْدِ، لَمْ يَكُنْ، ***لِعَيْنَيْكَ مِمَّا تَشْكُوانِ، طَبيبُ
وَرُوِيَ بَيْتُ أَبي ذؤَيب:
فِي عانة بَجَنُوبِ السِّيِّ مَشْرَبُها ***غَوْرٌ، ومَصْدَرُها عَنْ مائِها النُّجُد
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَن الرِّوَايَةَ ومصدرُها عَنْ مائِها نُجُدُ وأَنها هُذَلِيَّةٌ.
وأَنْجَدَ فُلَانٌ الدَّعْوة، وَرَوَى الأَزهري بِسَنَدِهِ عَنْ الأَصمعي قَالَ: سَمِعْتُ الأَعراب يَقُولُونَ: إِذا خَلَّفْتَ عَجْلَزًا مُصْعِدًا، وعَجْلَزٌ فَوْقَ القَرْيَتَيْنِ، فَقَدْ أَنْجَدْتَ، فإِذا أَنجدْتَ عَنْ ثَنايا ذاتِ عِرْق، فَقَدْ أَتْهَمْتَ، فإِذا عَرَضَتْ لَكَ الحِرارُ بنَجْد، قِيلَ: ذَلِكَ الْحِجَازُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ قَالَ: مَا ارْتَفَعَ مِنْ بَطْنِ الرُّمّةِ، والرُّمّةُ وَادٍ مَعْلُومٌ، فَهُوَ نَجْدٌ إِلى ثَنَايَا ذَاتِ عِرْق.
قَالَ: وَسَمِعْتُ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: كلُّ مَا وَرَاءَ الخنْدق الَّذِي خَنْدَقَه كِسْرَى عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُوَ نَجْدٌ إِلى أَن تَمِيلَ إِلى الحَرّةِ فإِذا مِلْت إِليها، فأَنت فِي الحِجاز؛ شَمِرٌ: إِذا جَاوَزْتَ عُذَيْبًا إِلى أَن تُجَاوِزَ فَيْدَ وَمَا يَلِيهَا.
ابْنُ الأَعرابي: نَجْدُ مَا بَيْنَ العُذَيْب إِلى ذَاتِ عِرق وإِلى الْيَمَامَةِ وإِلى اليمن وإِلى جبل طَيّء، وَمِنَ المِرْبَدِ إِلى وجْرَة، وَذَاتُ عِرْق أَوّلُ تِهامةَ إِلى البحرِ وجُدَّةَ.
والمدينةُ:
لَا تهاميةٌ وَلَا نجديةٌ، وإِنها حجازٌ فَوْقَ الغَوْر وَدُونَ نَجْدٍ، وإِنها جَلْسٌ لِارْتِفَاعِهَا عَنِ الغَوْر.
الْبَاهِلِيُّ: كلُّ مَا وراءَ الخندقِ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُوَ نَجْدٌ، والغَوْرُ كلُّ مَا انْحَدَرَ سَيْلُهُ مغرِبيًّا، وَمَا أَسفل مِنْهَا مَشْرِقِيًّا فَهُوَ نَجْدٌ، وتِهامةُ مَا بَيْنَ ذَاتِ عِرْق إِلى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ وَرَاءِ مَكَّةَ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَهُوَ غَوْرٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ مَهَبّ الجَنُوب، فَهُوَ السَّراةُ إِلى تُخُوم الْيَمَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه جَاءَهُ رَجُلٌ وبِكَفِّه وضَحٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انظُرْ بَطْنَ وَادٍ لَا مُنْجِد وَلَا مُتْهِم، فَتَمعَّكْ فِيهِ، فَفَعَلَ فَلَمْ يَزِدِ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ؛ قَوْلُهُ لَا مُنْجِد وَلَا مُتْهِم لَمْ يُرِدْ أَنه لَيْسَ مِنْ نَجْدٍ وَلَا مِنْ تِهامةَ وَلَكِنَّهُ أَراد حَدًّا بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الموضعُ مِنْ نَجْدٍ كلُّه وَلَا مِنْ تِهامة كلُّه، وَلَكِنَّهُ تَهامٍ مُنْجِدٌ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: أَراد مَوْضِعًا ذَا حَدٍّ مِنْ نَجْدٍ وَحَدٍّ مِنْ تِهَامَةَ فَلَيْسَ كُلُّهُ مِنْ هَذِهِ وَلَا مِنْ هَذِهِ.
ونجدٌ: اسْمٌ خاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ مِمَّا يَلي العِراق؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:
إِذا استَنْصَلَ الهَيْفُ السَّفى، بَرَّحَتْ بِهِ ***عِراقِيّةُ الأَقْياظِ، نَجْدُ المَراتِعِ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: إِنما أَراد جَمْعَ نَجْدِيٍّ فَحَذَفَ يَاءَ النسَب فِي الْجَمْعِ كَمَا قَالُوا زِنْجِيٌّ ثُمَّ قَالُوا فِي جَمْعِهِ زِنْج، وَكَذَلِكَ رُومِيٌّ ورُومٌ؛ حَكَاهَا الْفَارِسِيُّ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: فُلَانٌ مِنْ أَهل نَجْدٍ فإِذا أَدخلوا الأَلف وَاللَّامَ قَالُوا النُّجُد، قَالَ: وَنَرَى أَنه جَمْعُ نَجْدٍ؛ والإِنجادُ: الأَخْذُ فِي بِلَادِ نَجْدٍ.
وأَنجدَ القومُ: أَتوا نَجْدًا؛ وَأَنْجَدُوا مِنْ تِهَامَةَ إِلى نَجْدٍ: ذَهَبُوا؛ قَالَ جَرِيرٌ:
يَا أُمَّ حَزْرةَ، مَا رأَيْنا مِثْلَكُم ***فِي المُنْجِدينَ، وَلَا بِغَوْرِ الغائِر
وأنْجَدَ: خَرَجَ إِلى بِلَادِ نَجْدٍ؛ رَوَاهَا ابْنُ سِيدَهْ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
الصِّحَاحُ: وَتَقُولُ أَنْجَدْنا أَي أَخذنا فِي بِلَادِ نَجْدٍ.
وَفِي الْمَثَلِ: أَنْجَدَ مَنْ رأَى حَضَنًا وَذَلِكَ إِذا عَلَا مِنَ الغَوْر، وحَضَنٌ اسْمُ جَبَلٍ.
وأَنْجَد الشيءُ: ارْتَفَعَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعَلَيْهِ وَجْهُ الْفَارِسِيِّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى قَوْلَ الأَعشى:
نَبيٌّ يَرى مَا لَا تَروْنَ، وذِكْرُه ***أَغارَ لَعَمْري فِي البِلادِ، وأَنْجَدا
فَقَالَ: أَغار ذَهَبَ فِي الأَرض.
وأَنجد: ارْتَفَعَ؛ قَالَ: وَلَا يَكُونُ أَنجد فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخذ فِي نَجْدٍ لأَن الأَخذ فِي نَجْدٍ إِنما يُعادَلُ بالأَخذ فِي الْغَوْرِ، وَذَلِكَ لِتَقَابُلِهِمَا، وَلَيْسَتْ أَغارَ مِنَ الْغَوْرِ لأَن ذَلِكَ إِنما يُقَالُ فِيهِ غارَ أَي أَتى الغَوْر؛ قَالَ وإِنما يَكُونُ التَّقَابُلُ فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
فِي المُنْجدينَ وَلَا بغَوْر الْغَائِرِ
والنَّجُودُ مِنَ الإِبل: الَّتِي لَا تَبْرُك إِلا عَلَى مُرْتَفَعٍ مِنَ الأَرض.
والنَّجْدُ: الطَّرِيقُ الْمُرْتَفِعُ البَيّنُ الْوَاضِحُ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
غَداةَ غَدَوْا فَسالِكٌ بَطْنَ نَخْلةٍ، ***وآخَرُ مِنْهُمْ قاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
قَالَ الأَصمعي: هِيَ نُجُود عِدَّةٌ: فَمِنْهَا نَجْد كَبْكَبٍ، ونَجْد مَريع، ونَجْدُ خَالٍ؛ قَالَ: وَنَجْدُ كَبْكَبٍ طريقٌ بِكَبْكَبٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ الأَحمر الَّذِي تَجْعَلُهُ فِي ظَهْرِكَ إِذا وَقَفْتَ بِعَرَفَةَ؛ قَالَ وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ:
أَقُولُ، وأَهْلي بالجَنابِ وأَهْلُها ***بِنَجْدَيْنِ: لَا تَبْعَدْ نَوًى أُمّ حَشْرَجِ
قَالَ بنَجْدَيْنِ مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ نَجْدا مَرِيع، وَقَالَ: فُلَانٌ مِنْ أَهل نَجْدٍ.
قَالَ: وَفِي لُغَةِ هُذَيْلٍ وَالْحِجَازِ مِنْ أَهل النُّجُد.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ}؛ أَي طَرِيقَ الْخَيْرِ وطريقَ الشَّرِّ، وَقِيلَ: النَّجْدَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ.
والنَّجد: الْمُرْتَفِعُ مِنَ الأَرض، فَالْمَعْنَى أَلم نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بيِّنَين كَبَيَانِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَيْنِ؟ وقيل: النَّجْدَيْنِ الثَّدْيَيْنِ.
ونَجُدَ الأَمْرُ ينْجُد نُجُودًا، وَهُوَ نَجْدٌ وناجِدٌ: وضَحَ وَاسْتَبَانَ؛ وَقَالَ أُمية:
تَرَى فِيهِ أَنْباءَ القُرونِ الَّتِي مَضَتْ، ***وأَخْبارَ غَيْبٍ فِي القيامةِ تَنْجُد
ونجَدَ الطرِيق ينْجُد نُجُودًا: كَذَلِكَ.
ودليلٌ نَجْدٌ: هادٍ ماهِرٌ.
وأَعطاه الأَرض بِمَا نَجَدَ مِنْهَا أَي بِمَا خَرَجَ.
والنَّجْدُ: مَا يُنَضَّدُ بِهِ الْبَيْتُ مِنَ البُسُط والوسائِد والفُرُشِ، وَالْجَمْعُ نُجُود ونِجادٌ؛ وَقِيلَ: مَا يُنَجَّدُ بِهِ الْبَيْتُ مِنَ الْمَتَاعِ أَي يُزَيَّن؛ وَقَدْ نَجَّدَ الْبَيْتُ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
حَتَّى كأَنَّ رِياضَ القُفِّ أَلبَسَها، ***مِن وَشْيِ عَبْقر، تَجْلِيلٌ وتَنْجِيدُ
أَبو الْهَيْثَمِ: النَّجَّاد الَّذِي يُنَجِّدُ البيوتَ والفُرُشَ والبُسُط.
وَفِي الصِّحَاحِ: النجَّاد الَّذِي يُعَالِجُ الْفُرُشَ والوِسادَ ويَخِيطُها.
والنُّجُود: هِيَ الثِّيَابُ الَّتِي تُنَجَّدُ بِهَا الْبُيُوتُ فَتُلْبَسُ حِيطَانُهَا وتُبْسَطُ.
قَالَ: ونَجَّدْتُ البيتَ بَسَطْتُهُ بِثِيَابٍ مَوْشِيَّة.
والتَّنْجِيد: التَّزْيِينُ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ: «أَنه بَعَثَ إِلى أُمّ الدَّرْدَاءِ بأَنْجادٍ مِنْ عِنْدِهِ»؛ الأَنْجادُ جَمْعُ نَجَدٍ، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنْ فُرُش ونَمارِقَ وستُور؛ ابْنُ سِيدَهْ: والنَّجُود الَّذِي يُعَالِجُ النُّجُود بالنَّفْضِ والبَسْط والحشْوِ والتَّنْضِيدِ.
وَبَيْتٌ مُنَجَّد إِذا كَانَ مُزَيَّنًا بِالثِّيَابِ والفُرش، ونُجُوده سُتُورُهُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى حِيطانِه يُزَين بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ قُسّ: «زُخْرِف ونُجِّدَ»؛ أي زُيِّنَ.
وَقَالَ شَمِرٌ: أَغرب مَا جَاءَ فِي النَّجُود مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشُّورَى: «وَكَانَتِ امرأَةً نَجُودًا»، يُرِيدُ ذاتَ رَأْي كأَنها الَّتِي تَجْهَدُ رأْيها فِي الأُمور.
يُقَالُ: نَجِدَ نَجْدًا أَي جَهَدَ جَهْدًا.
والمَنَاجِدُ: حَلْيٌ مُكَلَّلٌ بجواهِرَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مُزَيَّن.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه رأَى امرأَة تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَيْهَا مَناجِدُ مِنْ ذَهَبٍ فَنَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَراد بِالْمَنَاجِدِ الحَلْيَ المُكَلَّلَ بِالْفُصُوصِ وأَصله مِنْ تَنْجِيدِ الْبَيْتِ، وَاحِدُهَا مِنْجَد وَهِيَ قَلائِدُ مِنْ لُؤْلُؤ وذهَب أَو قَرَنْفُلٍ، وَيَكُونُ عَرْضُهَا شِبْرًا تأْخذ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ إِلى أَسفل الثَّدْيَيْنِ، سُمِّيَتْ مَناجِدَ لأَنها تَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ نِجاد السَّيْفِ مِنَ الرَّجُلِ وَهِيَ حَمائِلُه.
والنَّجُود مِنَ الأُتُن والإِبِل: الطويلةُ العُنُقِ، وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الأُتن خَاصَّةً الَّتِي لَا تَحْمِل.
قَالَ شَمِرٌ: هَذَا مُنْكَرٌ وَالصَّوَابُ مَا رُوِيَ فِي الأَجناس عَنْهُ: النَّجُودُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الحُمُر.
وَرُوِيَ عَنِ الأَصمعي: أُخِذَتِ النَّجود مِنَ النَّجْد أَي هِيَ مُرْتَفِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقِيلَ: النَّجُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَيُقَالُ لِلنَّاقَةِ إِذا كَانَتْ مَاضِيَةً: نَجُود؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
فَرَمَى فأَنْفَذَ مِنْ نَجُودٍ عائِطِ قَالَ شَمِرٌ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي النَّجُود صَحِيحٌ وَالَّذِي رُوي فِي بَابِ حُمُرِ الوحْشِ وهَم.
والنَّجُود مِنَ الإِبل: المِغْزارُ، وَقِيلَ: هِيَ الشَّدِيدَةُ النَّفْس.
وَنَاقَةٌ نَجُود، وَهِيَ تُناجِدُ الإِبلَ فَتَغْزُرُهُنَّ.
الصِّحَاحُ: والنَّجُود مِنْ حُمُر الْوَحْشِ الَّتِي لَا تَحْمِلُ، وَيُقَالُ: هِيَ الطَّوِيلَةُ الْمُشْرِفَةُ، وَالْجَمْعُ نُجُد.
وناجَدَتِ الإِبِلُ: غَزُرَتْ وكَثُر لبنها، والإِبلُ حِينَئِذٍ بِكاءٌ غَوازِرُ، وَعَبَّرَ الْفَارِسِيُّ عَنْهَا فَقَالَ: هِيَ نَحْوَ المُمانِحِ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ حِينَ ذَكَرَ الإِبل وَوَطْأَها يومَ الْقِيَامَةِ صاحِبَها الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَقَالَ: «إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي نَجْدَتِها ورِسْلِها»؛ قَالَ: النَّجْدَةُ الشِّدَّةُ، وَقِيلَ: السِّمَنُ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: نَجْدَتُهَا أَن تَكْثُرَ شُحُومُهَا حَتَّى يمنعَ ذَلِكَ صاحِبَها أَن يَنْحَرَهَا نَفَاسَةً بِهَا، فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ لَهَا مِنْ رَبِّهَا تَمْتَنِعُ بِهِ، قَالَ: ورِسْلُها أَن لَا يَكُونَ لَهَا سِمَن فيَهُونَ عَلَيْهِ إِعطاؤُها فَهُوَ يُعْطِيهَا عَلَى رِسْلِه؛ أي مُسْتَهينًا بِهَا، وكأَنَّ مَعْنَاهُ أَن يُعْطِيَهَا عَلَى مَشَقَّةٍ مِنَ النَّفْسِ وَعَلَى طِيبٍ مِنْهَا؛ ابْنُ الأَعرابي: فِي رِسْلِها؛ أي بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ قَالَ الأَزهري: فكأَنّ قَوْلَهُ فِي نَجْدتِها مَعْنَاهُ أَن لَا تطِيبَ نفسُه بإِعطائها وَيَشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ وَقَالَ الْمَرَّارُ يَصِفُ الإِبل وَفَسَّرَهُ أَبو عَمْرٍو:
لهمْ إِبِلٌ لَا مِنْ دياتٍ، وَلَمْ تَكُنْ ***مُهُورًا، وَلَا مِن مَكْسَبٍ غيرِ طائِلِ
مُخَيَّسَةٌ فِي كلِّ رِسْلٍ ونَجْدةٍ، ***وَقَدْ عُرِفَتْ أَلوانُها فِي المَعاقِلِ
الرِّسْل: الخِصْب.
وَالنَّجْدَةُ: الشِّدَّةُ.
وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: فِي نَجْدتها مَا يَنُوبُ أَهلها مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَغَارِمِ وَالدِّيَاتِ فَهَذِهِ نَجْدَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا.
وَالرِّسْلُ: مَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ النَّجْدَةِ وَهُوَ أَن يَعْقِرَ هَذَا وَيَمْنَحَ هَذَا وَمَا أَشبهه دُونَ النَّجْدَةِ؛ وأَنشد لِطَرَفَةَ يَصِفُ جَارِيَةً:
تَحْسَبُ الطَّرْفَ عَلَيْهَا نَجْدَةً، ***يَا لَقَوْمي للشَّبابِ المُسْبَكِرْ
يَقُولُ: شَقَّ عَلَيْهَا النظرُ لنَعْمتها فَهِيَ ساجيةُ الطرْف.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: أَنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِل لَا يؤَدِّي حقَّها فِي نَجْدتها ورِسْلِها وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى الله عليه وسلم: نَجْدتُها ورِسْلُها عُسْرُها ويُسْرُها إِلا بَرَزَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤه بأَخْفافِها، كُلَّمَا جَازَتْ عَلَيْهِ أُخْراها أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولاها فِي يَوْمٍ كَانَ مقدارُه خَمْسِينَ أَلف سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَقِيلَ لأَبي هُرَيْرَةَ: فَمَا حَقُّ الإِبِل؟ فَقَالَ: تُعْطِي الكرِيمةَ وتَمْنَعُ الغَزيرةَ وتُفْقِرُ الظَّهْرَ وتُطْرِقُ الفَحْل.
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ هُنَا: وَقَدْ رَوَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ لِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْدَتَها ورِسْلَها، قَالَ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فَسَّرَهُ أَبو سَعِيدٍ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: انْظُرْ إِلى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِفَالِ بِالنُّطْقِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بإِطلاق اللَّفْظِ، وَهُوَ لَوْ قَالَ إِن تَفْسِيرَ أَبي سَعِيدٍ قَرِيبٌ مِمَّا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَلَا سِيَّمَا وَالْقَوْلُ بِالْعَكْسِ؛ وَقَوْلُ صَخْرِ الْغَيِّ:
لوْ أَنَّ قَوْمي مِن قُرَيْمٍ رَجْلا، ***لَمَنَعُوني نَجْدَةً أَو رِسْلا
أَي لَمَنَعُونِي بأَمر شَدِيدٍ أَو بأَمر هَيِّنٍ.
ورجلٌ نَجْد فِي الْحَاجَةِ إِذا كَانَ نَاجِيًا فِيهَا سَرِيعًا.
والنَّجْدة: الشَّجَاعَةُ، تَقُولُ مِنْهُ: نَجُد الرجلُ، بِالضَّمِّ، فَهُوَ نَجِدٌ ونَجُدٌ ونَجِيدٌ، وَجَمْعُ نَجِد [نَجُد] أَنجاد مِثْلَ يَقِظٍ [يَقُظٍ] وأَيْقاظٍ وَجَمْعُ نَجِيد نُجُد ونُجَداء.
ابْنُ سِيدَهْ: ورجُل نَجْدٌ ونَجِدٌ ونَجُد ونَجِيدٌ شُجَاعٌ مَاضٍ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ البأْس، وَقِيلَ: هُوَ السَّرِيعُ الإِجابة إِلى مَا دُعِيَ إِليه خَيْرًا كَانَ أَو شَرًّا، وَالْجَمْعُ أَنْجاد.
قَالَ: وَلَا يُتَوَهَّمَنَّ أَنْجاد جَمْعُ نَجِيدٍ كَنَصيرٍ وأَنْصار قِيَاسًا عَلَى أَن فعْلًا
وفِعَالًا لَا يُكَسَّران لِقِلَّتِهِمَا فِي الصِّفَةِ، وإِنما قِيَاسُهُمَا الْوَاوُ وَالنُّونُ فَلَا تحسَبَنّ ذَلِكَ لأَن سِيبَوَيْهِ قَدْ نَصَّ عَلَى أَن أَنْجادًا جَمْعُ نَجُد ونَجِد؛ وَقَدْ نَجُدَ نَجَادة، وَالِاسْمُ النَّجْدَة.
واسْتَنْجَد الرجلُ إِذا قَوِيَ بَعْدَ ضَعْفٍ أَو مَرَض.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا ضَرِيَ بِالرَّجُلِ واجترأَ عَلَيْهِ بَعْدَ هَيْبَتِه: قَدِ اسْتَنْجَدَ عَلَيْهِ.
والنَّجْدَةُ أَيضًا: القِتال والشِّدَّة.
والمُناجِدُ: الْمُقَاتِلُ.
وَيُقَالُ: ناجَدْت فُلَانًا إِذا بارزتَه لقِتال.
والمُنَجَّدُ: الَّذِي قَدْ جَرَّبَ الأُمور وقاسَها فَعَقَلَها، لُغَةٌ فِي المُنَجَّذِ.
ونَجَّده الدَّهْرُ: عجَمَه وعَلَّمَه، قَالَ: وَالذَّالُ الْمُعْجَمَةُ أَعلى.
وَرَجُلٌ مُنَجَّد، بِالدَّالِ وَالذَّالِ جَمِيعًا، أَي مُجَرَّب قَدْ نَجَّده الدَّهْرُ إِذا جَرَّبَ وعَرَفَ.
وَقَدْ نَجَّدتْه بَعْدِي أُمور.
وَرَجُلٌ نَجِدٌ: بَيِّنُ النَّجَد، وَهُوَ البأْس والنُّصْرة وَكَذَلِكَ النَّجْدة.
وَرَجُلٌ نَجْد فِي الْحَاجَةِ إِذا كَانَ نَاجِحًا فِيهَا ناجِيًا.
وَرَجُلٌ ذُو نَجْدة أَي ذُو بأْس.
ولاقَى فُلَانٌ نَجْدة أَي شِدَّة.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه ذَكَر قارئَ الْقُرْآنِ وصاحِبَ الصَّدَقة، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرأَيتَكَ النَّجْدة تَكُونُ فِي الرَّجُلِ فَقَالَ: لَيْسَتْ لَهُمَا بِعدْلٍ النَّجْدَةُ: الشَّجَاعَةُ».
وَرَجُلٌ نَجُدٌ ونَجِد أَي شَدِيدُ البأْس.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عليه: «أَما بَنُو هَاشِمٍ فأَنْجادٌ أَمْجَاد»أَي أَشِداء شُجْعان؛ وَقِيلَ: أَنْجاد جَمْعُ الْجَمْعِ كأَنه جَمَعَ نَجُدًا عَلَى نِجاد أَو نُجُود ثُمَّ نُجُدٍ ثُمَّ أَنجادٍ؛ قَالَهُ أَبو مُوسَى؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَا حَاجَةَ إِلى ذَلِكَ لأَن أَفعالًا فِي فَعُل وفَعِل مُطَّرِد نَحْوَ عَضُد وأَعْضاد وكَتِف وأَكْتاف؛ وَمِنْهُ حَدِيثِ خَيْفان: وأَما هَذَا الْحَيُّ مِنْ هَمْدان فأَنْجَاد بُسْل.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «مَحاسِنُ الأُمور الَّتِي تَفَاضلَتْ فِيهَا المُجَداء والنُّجَداء»، جَمْعُ مَجِيدٍ ونجِيد، فَالْمَجِيدُ الشَّرِيفُ، والنَّجِيد الشُّجَاعُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
واسَتَنْجَده فأَنْجَدَهُ: اسْتَغَاثَهُ فأَغاثه.
وَرَجُلٌ مِنْجادٌ: نَصُور؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والإِنجاد: الإِعانة.
واسْتَنْجَده: اسْتَعَانَهُ.
وأَنْجَدَه: أَعانه؛ وأَنْجَده عَلَيْهِ: كَذَلِكَ أَيضًا؛ وناجَدْتُه مُناجَدةً: مِثْلَهُ.
وَرَجُلٌ مُناجِد أَي مُقَاتِلٌ.
وَرَجُلٌ مِنْجادٌ: مِعْوانٌ.
وأَنْجَدَ فُلَانٌ الدَّعْوةَ: أَجابها.
الْمُحْكَمُ: وأَنْجَدَه الدَّعْوَةَ أَجابها.
واسْتَنْجَد فُلَانٌ بِفُلَانٍ: ضَرِيَ بِهِ واجترأَ عَلَيْهِ بَعْدَ هَيْبَتِه إِياه.
والنَّجَدُ: العَرَق مِنْ عَمَل أَو كَرْب أَو غَيْرِهِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِه المَلَّاحُ مُعْتَصِمًا ***بالخَيْزُرانةِ، بَعْدَ الأَيْن والنَّجَد
وَقَدْ نَجِدَ يَنْجَدُ ويَنْجُدُ نَجْدًا، الأَخيرة نَادِرَةٌ، إِذا عَرِقَ مِنْ عَمَل أَو كَرْب.
وَقَدْ نُجِدَ عَرَقًا، فَهُوَ منْجُود إِذا سَالَ.
والمنْجُود: الْمَكْرُوبُ.
وَقَدْ نُجِد نَجْدًا، فَهُوَ منْجُودٌ ونَجِيدٌ، وَرَجُلٌ نَجِدٌ: عَرِقٌ؛ فأَما قَوْلُهُ:
إِذا نَضَخَتْ بالماءِ وازْدادَ فَوْرُها ***نَجا، وَهُوَ مَكْرُوبٌ منَ الغَمِّ ناجِدُ
فإِنه أَشبع الْفَتْحَةَ اضْطِرَارًا كَقَوْلِهِ:
فأَنتَ منَ الغَوائِلِ حينَ تُرْمَى، ***ومِنْ ذَمِّ الرِّجالِ بِمُنْتزاحِ
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى فَعِلَ كَعَمِلَ، فَهُوَ عامِلٌ؛ وَفِي شِعْرُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
ونَجِدَ الماءُ الَّذِي تَوَرَّدا
أَي سالَ العَرَقُ.
وتَوَرُّدُه: تَلَوُّنه.
وَيُقَالُ: نَجِدَ يَنْجَدُ إِذا بَلُدَ وأَعْيَا، فَهُوَ نَاجِدٌ ومنْجُود.
والنَّجْدة: الفَزَعُ والهَوْلُ؛ وَقَدْ نَجُد.
والمنْجُود: المَكْرُوبُ؛ قَالَ أَبو زُبَيْدٍ يَرْثِي ابْنَ أُخته وَكَانَ مَاتَ عَطَشًا فِي طَرِيقِ مكة:
صادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيرَ مُغاثٍ، ***ولَقَدْ كانَ عُصْرَةَ المنْجُودِ
يُرِيدُ المَغْلُوب المُعْيا والمَنْجُود الْهَالِكُ.
والنَّجْدةُ: الثِّقَلُ والشِّدَّةُ لَا يُعْنَى بِهِ شدةُ النَّفْس إِنما يُعْنى بِهِ شِدَّةُ الأَمر عَلَيْهِ؛ وأَنشد بَيْتَ طَرَفَةَ:
تَحْسَبُ الطَّرْفَ عَلَيْها نَجْدَةً ونَجَدَ الرجُلَ يَنْجُدُه نَجْدًا: غَلَبَه.
والنِّجادُ: مَا وَقَعَ عَلَى الْعَاتِقِ مِنْ حَمائِلِ السيْفِ، وَفِي الصِّحَاحِ: حَمَائِلُ السَّيْفِ، وَلَمْ يُخَصَّصْ.
وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْعٍ: «زَوْجِي طَوِيلُ النِّجاد»؛ النِّجاد: حمائِلُ السَّيْفِ، تُرِيدُ طُولَ قَامَتِهِ فإِنها إِذا طالتْ طالَ نِجادُه، وَهُوَ مِنْ أَحسن الْكِنَايَاتِ؛ وَقَوْلُ مُهَلْهَلٍ:
تَنَجَّدَ حِلْفًا آمِنًا فأُمِنْتُه، ***وإِنَّ جَدِيرًا أَن يَكُونَ وَيَكْذِبَا
تَنَجَّدَ أَي حَلَفَ يَمِينًا غَلِيظَةً.
وأَنْجَدَ الرجلُ: قَرُبَ مِنْ أَهله؛ حَكَاهَا ابْنُ سِيدَهْ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والنَّاجُودُ: الْبَاطِيَةُ، وَقِيلَ: هِيَ كُلُّ إِناءٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْخَمْرُ مِنْ بَاطِيَةٍ أَو جَفْنةٍ أَو غَيْرِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الكَأْسُ بِعَيْنِهَا.
أَبو عُبَيْدٍ: النَّاجُودُ كُلُّ إِناءٍ يُجْعَلُ فِيهِ الشَّرَابُ مِنْ جَفْنة أَو غَيْرِهَا.
اللَّيْثُ: الناجُودُ هُوَ الرّاوُوقُ نَفْسُه.
وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ: «اجْتَمَعَ شَرْبٌ مِنْ أَهل الأَنبار وَبَيْنَ أَيديهم ناجُودُ خَمْرٍ» أَي راوُوقٌ، وَيُقَالُ لِلْخَمْرِ: نَاجُودٌ.
وَقَالَ الأَصمعي: النَّاجُودُ أَول مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَمْرِ إِذا بُزِلَ عَنْهَا الدنُّ، وَاحْتُجَّ بِقَوْلِ الأَخطل:
كأَنَّما المِسْكُ نُهْبَى بَيْنَ أَرْحُلِنا، ***مِمَّا تَضَوَّعَ مِنْ ناجُودِها الْجَارِي
فَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
ظَلَّتْ تَرَقْرَقُ فِي الناجُودِ، يُصْفِقُها ***وَلِيدُ أَعْجَمَ بالكَتَّانِ مَلْثُومُ
يُصْفِقُها: يُحَوِّلُها مِنْ إِناءٍ إِلى إِناء لِتَصْفُوَ.
الأَصمعي: الناجُودُ الدَّمُ.
والناجودُ: الزَّعْفَرَانُ.
والناجودُ: الخَمْرُ، وَقِيلَ: الْخَمْرُ الجَيِّدُ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ وأَنشد:
تَمَشَّى بَيْننا ناجُودُ خَمْر اللِّحْيَانِيُّ: لاقَى فُلانٌ نَجْدَةً أَي شِدّة، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ شِدَّةِ النَّفْسِ وَلَكِنَّهُ مِنَ الأَمر الشَّدِيدِ.
والنَّجْد: شَجَرٌ يُشْبِهُ الشُّبْرُمَ فِي لَوْنِه ونَبْتِه وَشَوْكِهِ.
والنَّجْدُ: مَكَانٌ لَا شَجَرَ فِيهِ.
والمِنجَدَةُ: عَصًا تُساقُ بِهَا الدَّوَابُّ وتُحَثُّ عَلَى السَّيْرِ ويُنْفَشُ بِهَا الصّوفُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أَذن فِي قَطْعِ المِنْجَدةِ، يَعْنِي مِنْ شَجَرِ الحَرَمِ، هُوَ مِنْ ذَلِكَ».
وناجِدٌ ونَجْدٌ ونُجَيْدٌ ومُناجِدٌ ونَجْدَةُ: أَسماء.
والنَّجَداتُ: قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ مِنَ الحَرُورِيَّة يُنْسَبُونَ إِلى نَجْدة بنِ عامِرٍ الحَرُوريّ الحَنَفِيّ، رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ النجَداتُ.
والنَّجَدِيَّة: قَوْمٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ.
وعاصِمُ بْنُ أَبي النَّجُودِ: مِنَ القُرّاء.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
43-تهذيب اللغة (نجد)
نجد: قال شمر قال ابن شميل: النجد: قفاف الأرض وصلابتها، وما غلُظ منها وأشرف، والجماعة: النِّجَادُ، ولا يكون إلا قُفًّا أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضًا بين يديك، يرُدُّ طرفك عمَّا وراءه.ويقال: أعْلُ هاتيك النِّجَادِ، وها ذاك النِّجاد يوحَّد.
وأنشد:
رمَيْنَ بالطرف النِّجاد الأبعدا
قال: وليس بالشديد الارتفاع والحزيز نجاد.
قال وقال أبو أسلم كما قال: النّجدُ والنِّجادُ: واحد.
وقال الأصمعي: هي النُّجُودُ عدة، فمنها نجد كَبْكَبٍ، ونجدُ مَرِيع، ونجدُ خَالٍ.
قال: ونجد كَبْكَبٍ: طريق كَبْكَبٍ وهو الجَبَل الأحمر الذي تجعله في ظهرك إذا وقفت بعرفة.
وقال: وقول الشماخ:
أقول وأهلي بالجَنَاب وأهلها *** بِنَجْدَين لا تَبْعَدْ نَوَى أمِّ حَشْرَجِ
قال: بِنَجْدِين: موضع: يقال له نَجْدَا مَرِيع.
وقال: فلان من أهل نجد قال: وفي لغة هذيل والحجاز: من أهل النُّجُدِ.
قال أبو ذؤيب:
في عانة بجنوب السِّيِّ مَشْرَبُهَا *** غُوْرٌ، ومصدرها عن مائها نُجُدُ
قال: وما ارتفع عن تِهَامَةَ فهو نَجْدٌ، فهي ترعى بنَجْدٍ، وتشرب بتهامة.
وأخبرني المنذري عن الصيداويِّ عن الرِّياشيِّ عن الأصمعي قال: سمعت الأعراب يقولون: إذا خلّفْتَ عَجْلَزًا مُصْعِدًا ـ وعَجْلَزٌ فوق القريتين ـ فقد أنجدْتَ.
قال: وأخبرني الحراني عن ابن السكيت عن الأصمعي قال: ما ارتفع عن بطن الرُّمَّة ـ والرُّمَّة: وادٍ معلوم ـ فهو نَجْدٌ إلى ثنايا ذات عِرْق.
قال وسمعت الباهليَّ يقول: كل ما وراء الخندق الذي خندقه كسرى على سواد العراق فهو نَجْدٌ إلى أن تميل إلى الحَرَّةِ، فإذا مِلْتَ إليها فأنتَ في الحجاز.
وقرأْتُ بخط شمر قال: يقال: النَّجْدُ إذا جاوزتَ عُذَيْبًا إلى أن تُجاوز فَيْدَ، وما يليها.
وقال الفرَّاء في قول الله: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} {10} [البلد: 10] قال: النجدان: سبيل الخير، وسبيل الشر.
قال وحدَّث قيس عن زياد بن علاقة؟ عن أبي عُمارة عن عليٍ في قوله: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)) قال: الخير والشر.
وقال الزجاج: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)) أي الطريقين الواضحين.
والنجد: المرتفع من الأرض، فالمعنى: ألم نُعَرِّفْهُ طريق الخير وطريق الشرِّ، بيِّنَين كبيان الطريقين العاليين؟.
وقال بعضهم: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)) قال: الثديين.
(أبو عبيدٍ عن الأصمعي): النَّجُودُ من الحُمُرِ: التي لا تحمل، والعَائُط: مثلها.
وقال شمر: تفسير الأصمعي في النَّجُودِ أنها لا تحمل: منكر، والصواب ما رواه أبو عبيد عنه في أبواب الأجناس: النَّجُودُ: الطويلة من الحُمُر.
وقال شمر: قال القزملي عن الأصمعي: أُخذَت النَّجُودُ من النَّجدِ أي هي مرتفعة عظيمة.
قال شمر والشيباني: النَّجُودُ: المتقدمة، ويقال للناقة إذا كانت ماضية: نَجُودٌ.
وقال أبو ذؤيب: فَرَمَى فأنفَذَ من نَجُودٍ عِائِطِ قال شمر: وهذا التفسير في النَّجُود صحيح، والذي رواه في باب حُمُر الوَحْش: وَهَمٌ.
(أبو عبيدٍ عن الأصمعي): رَجُلٌ نَجْدٌ، ونَجُدٌ من شِدَّةِ البأس، وقد نَجُدَ، والاسم النَّجْدَةُ، واستنجدني فلان فأنجدته أي أعَنْتُهُ.
وقد نَجِدَ الرجل يَنْجَدُ إذا عرِقَ من عملٍ أو كَرْبٍ، وقال الكسائي مثله.
(سلمة عن الفرَّاء): رجل نَجِدٌ، ونَجْدٌ.
قال: وقد نُجِدَ عَرَقًا إذا سال، فهو مَنْجُودٌ.
وقال أبو عبيدة: نَجَدْتُ الرجل أنجدُهُ أي غَلَبْته.
قال: وأنجَدتُهُ: أعنته.
قال: وقال غيره: النِّجَادُ: حمائل السيف.
والإنْجَادُ: الأخذ في بلاد نَجْدٍ.
والنُّجُودُ: ما يُنجَّدُ به البيت، واحدها: نَجْدٌ.
وبيت منجَّد إذا كان مزيَّنًا بالثياب والفرش.
وقال شمر: أغرَبُ ما جاء في النَّجُودِ: ما جاء في حديث الشورى: «وكانت امرأةً نَجُودًا» يريد: ذات رأي.
قال: ورجل نَجِدٌ بيِّن النَّجَدِ، وهو البأس والنُّصْرة، وكذلك: النَّجْدَةُ.
قال: ويقال: نَجِدَ يَنْجَدُ إذا بلَّد وأعيا، فهو ناجِدٌ وَمَنْجُودٌ.
وقال أبو زُبَيْدٍ:
صاديًا يستَغِيثُ غير مُغَاثٍ *** ولقد كان عُصرَةَ المَنْجُودِ
يريد: المغلوبَ المُعْيَا.
وقال أبو الهيثم: النَّجَّاد: الذي يُنَجّدُ البيوت والفُرُشَ والبُسُطَ.
والنُّجُودُ هي الثياب التي يُنجَّد بها البيوت فتُلبس حيطانها وتُبسط كما قال ذو الرمة:
حتى كأنَّ رياض القف ألبَسَهَا *** مِنْ وَشْي عبقر تَجْلِيلٌ وتنجيدُ
ونجَّدْتُ البيت: بسطته بثياب مَوْشيَّة.
وقال أبو نصر: استَنْجَدَ الرجل استنجادًا إذا قَوِيَ بعد ضعف أو مرض.
ورجل نَجُدٌ في الحاجة إذا كان ناجحًا فيها ناجيًا.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإبل، ووطأَها يوم البعث صاحبها الذي لم يُؤدّ زكاتها، فقال: «إلا: من أعطى في نَجْدَتِها ورِسْلِهَا».
قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: نَجْدَتُها: أن تَكْثُرَ شُحُومُهَا حتى يمنع ذلك صاحبها أن يَنْحَرَهَا نفاسة بها، صار ذلك بمنزلة السلاح لها تمتنع به من ربها.
قال: ورِسْلُهَا: أن لا يكون لها سِمَنٌ، فيَهُون عليه إعطاؤها، فهو يُعطيها على رِسْلِهِ أي مستهينًا بها، كأنَّ معناه أن
يعطيها على مشقة من النْفسِ، وعلى طِيْبٍ منها.
وأخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي في قوله: إلا مَنْ أعطى في رِسْلِهَا أي بطيب نفس منه.
(قلت): كأن قوله: في نَجْدَتِهَا معناه: ألَّا تطيب نفسُه بإعطائها، ويشتدَّ عليه.
وقول ابن الأعرابي يقرب من قول أبي عبيدة.
وقال المرَّار يصف الإبل:
لهم إبل لا من دِيَاتٍ ولم تكن *** مُهُورًا ولا من مَكْسَبٍ غير طائل
مُخَيَّسَةٌ في كل رِسْلٍ ونجدة *** وقد عُرِفَت ألوانها في المَعَاقِلِ
(أبو عمرٍو): الرِّسْلِ: الخِصْبُ، والنجدة: الشِّدة، والمخيَّسة هي المعقَّلة في معاقلها لتُنحَر وتُطعم.
وقال أبو سعيد الضرير في قوله: إلا مَن أعطى في نَجْدَتِها ورِسْلِها.
قال: نَجْدَتُها: ما ينوب أهلها مما يُشَقُّ عليه من المَغَارِمِ والدِّيَات، فهذه نَجْدَةٌ على صاحبها، والرِّسْلُ: ما دون ذلك من النجدَةِ، وهو أن يُفقِرَ هذا، ويَمْنَحَ هذا، وما أَشْبَهَهُ دون النَّجدة، وأنشد قول طرفة يصف جارية:
تَحْسِبُ الطَّرفَ عليها نَجْدَةً *** يا لقَوْمِيْ للشباب المُسْبَكِرّ
قال: الطرف: النظر، يقول: يَشُقُّ عليها النظر وهي ساجية الطرف.
حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجُرجَاني عن يزيد بن هارون عن شعبة عن قتادة عن أبي عمر الغُدَانيِّ عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من صَاحبِ إبل لا يؤدي حَقَّها في نَجْدَتِها ورِسْلِهَا» قال وقد قال رسول الله: «نَجْدَتُهَا ورِسْلُهَا»: عُسرها ويُسرها ـ «إلا بَرَزَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ تطؤه بأخفافها، كلما جازت عليه أخراها أُعيدت عليه أولاها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) حتى يُقضى بين الناس».
فقيل لأبي هريرة فما حق الإبل؟.
قال: تُعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتُفقِر الظهر، وتُطرِق الفحل».
(قلت): ورَوَيتُ هذا الحديث بإسناده لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم النَّجْدَةَ والرِّسْلَ، وهو قريب مما فسَّره أبو سعيد، والله أعلم.
وفي حديث آخر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تطوف بالبيت عليها مَنَاجِدُ من ذهب فقال: أَيَسُرُّكِ أن يحلِّيَكِ الله مَنَاجِدَ من نار؟ قالت: لا، قال فأدِّي زكاته».
قال أبو عبيد: أُراه أراد بالمناجد الحلي المكلَّل بالفصوص، وأصله من تنجيد البيت.
وقال أبو سعيد: المَنَاجِدُ: واحدها:
مِنْجَدٌ، وهي قلائد من لُؤلُؤٍ وذهب أو قرنفل، ويكون عرضها شبرًا، تأخذ ما بين العنق إلى أسفل الثديين، سمِّيَت، مَنَاجِدَ لأنها تقع على موضع نِجَادِ السيف من الرجل، وهو حمائله.
وقال الليث: نَجَدَ الأمر نَجُودًا، فهو نَاجِدٌ إذا وضح واستبان.
وقال أمية:
ترى فيه أنباء القرون التي مضت *** وأخبارَ غَيبٍ في القيامة تَنْجُدُ
أي: تظهر.
قال: وناقة نَجُودٌ، وهي التي تُناجد الإبل فَتَغْزُرُهُنَّ.
والنَّجَدَاتُ: قوم من الحَرُورّيَة يُنْسَبُونَ إلى نَجْدَةَ الحروريِّ.
يقال: هؤلاء النَّجَدَاتُ، والنَّجْدِيَّةُ.
ويقال: نَاجدْتُ فلانًا إذا بارَزْتَهُ القتال.
قال: والنَّاجود: هو الراوُوقُ نَفْسُه.
وقال أبو عبيد: النَّاجودُ: كل إناء يُجعل فيه الشراب من جَفْنَةٍ أو غيرها.
وقال شمر: قال أبو نصر: قال الأصمعي: النَّاجُودُ: الدم، والنَّاجُودُ: الخمر، والنَّاجُودُ: الزعفران.
وقال أبو عمرٍو: الناجود: الباطية.
وقال غيره: النَّاجُودُ: الخمر الجيِّد، وهو مذكر، وأنشد:
تمشَّى بيننا ناجُودُ خَمْرٍ
وقال الليث: النَّجُودُ من الإبل: التي تَبْرُكُ على المكان المرتفع.
وقال اللحياني: لاقى فلانٌ نَجْدَةً أي شدة، قال: وليس من شِدَّةِ النفس، ولكنه من الأمر الشديد.
قال: ويقال للرجل إذا ضرِيَ بالرجل واجترأ عليه بعد هيبة: قد استنجد عليه.
وَأنْجَدَ فلان الدعوة إذا أجاب.
ورجل مُنَجَّدٌ، ومنجَّذٌ بالدال والذال، وهو الذي قد جرَّب الأمور وقاساها، وقد نجَّدَته بعدي أمور، وقال صخر الغيِّ:
لو أن قومي من قُرَيمٍ رَجْلَا *** لمنعوني نَجَدَةً وَرِسْلَا
لمنعوني بأمر شديد، وأمر هيِّن.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م